mohammed ahmed25
20-02-2012, 06:51 PM
منقول ......
الحلقة الأولى
.قالت لي الوالدة وهي تُداري دُموعها..قبل أن تُسلمني..إلى قدري ..
"عزائي يا بُنيّ..أنك..ستكون بين إخوة لك في الدين واللغة..هناك في عربستان.."
ثمّ أضافت بعد أن تنهدت تنهدة عميقة :"هناك يا بُنيّ..لا أخشى عليك..من بلاوي
كثيرة..فليس هناك خمر يذهبُ بعقلك..ولا غانية تذهب بقلبك.."
كان مطار تونس قرطاج..يعج بالحالمين مثلي..بالجنة الأرضية..خليط غريب..
من بدو وحضر..أكملوا جميعا دراستهم الجامعية في مُختلف الإختصاصات..
ثم تبخرت أحلامهم النهارية والليلية..تحت شمس الحقيقة المُرة..حقيقة المرتبات..الهزيلة..
التي لا تكادُ تفي بالحاجة..ضرورية كانت أو غير ضرورية..وحين حانت فرصة..
العمل في إحدى دول النفط...الذهب الأسود كما يّسمونه..كُنت ُ ممن..انخدع..ببريق الأماني..
فتقدمت..بملفي إلى السلطات المسؤولة..لأحضى..بصك العبور إلى..الضفة الأخرى ..ضفة..
الثراء الواسع..والسعادة المطلقة..متغافلا عن نصائح..كل الذين حذروني..من الذهاب..
إلى بلاد العرب العاربة..لأنهم يفضلون أن أهاجر إلى بلاد الإفرنج....[أليس كل البلاء مُوكّل..بحسن النية ؟]
غيبتني الطائرة..في بطنها..وحلق معها خيالي بعيدا..
"كيف ستكون حياتي هناك..في عربستان..كيف سيكون طلبتي..وزملائي..كيف سأتعامل..
مع العربان ..من قيس وعدنان ؟"
لم يخرجني من..هواجسي..إلا صوت المضيفة..تدعونا إلى شدّ الأحزمة استعدادا..للهبوط..
بدا لي المطار فاجر الأبّهة..يشي بأن القوم..ينامون على كنوز سليمان..[هو من أكبر المطارات
في العالم ]..كان هناك..عمال ذووا سحنات آسيوية..ببدلات ..موحدة..يدفعون عربات..
وينظفون الأرضية..أو يُساعدون..على تسلم الحقائب..
سرعان ما اكتشفتُ أنه لا عمل لأبن البلد غير أن يأمر وينهى..ويقبض..
أو يقود سيارته الفارهة..وأن البلد يخدمه..الغرباء..
الهنود والباكستانيون..والبنغال..للأعمال المبتذلة..
وزرق العيون لما جلّ من أعمال..
والعرب بين هذا وذاك..
بمجرد..خروجي..من المطار ..في اتجاه ..الباص الذي كان في استقبالنا..لفحتني
حرارة نُحاسية..كأنها نار جهنم..حرارة تُشعرك أنك ستتبخر..بعد دقائق..
رحب بنا مندوب وزارة التربية..وأعلمنا أن السائق..سيقودنا إلى مدينتنا البعيدة..
وأن الجماعة هناك..سيتكفلون بأمرنا..
جلستُ بقرب..السائق الآسيوي..تبادلنا بعض الإشارات المُبهمة...ابتسم ابتسامة
باهتة بلا معنى..سألته بالإنجليزية.:"آر يو أندين"..فرد علي :"باكستان..باكستان "
سألته بكل غباء:"آريو هابي هير ؟".ردّ علي..بكلمات..غير مفهومة..وبإيماءة
من رأسه توحي..أنه لا يعرف بالضبط..إن كان هابي [سعيدا ] أو غير هابي..
..تذكرتُ وقتها..
كلمات امرىء القيس"كل غريب للغريب نسيب"..وكل ما أحفظه من شعر عن الغربة..
كانت الجبال في لون الحديد الصدأ..لا أشجار..ولا عصافير...ولا اكتظاظ.
ولا أبقار ترعى على جنبات الطريق..ولا رعاة..يترنمون..بأناشيدهم الحزينة...لا شيء غير..
سراب ممتد بلا نهاية..سراب..يذكرني..بحلم..كاذب..تركتُ من أجله الأهل والوطن..
الحلقة الثانية
.وأخيرا ..وبعد رحلة طويلة مرهقة..توقف بنا الباص..أمام..بناية..متواضعة..
قيل لنا إنها..الإستراحة التي سنُقضّي فيها ليلتنا..
أنزلنا أغراضنا..فتح لنا..أحد الآسياويين الباب..وأشار علينا بالدخول.كان هناك
مدرسون من ***يات مختلفة قد سبقونا هناك..
.وجدنا المكان..
قذرا تفوح منه روائح عطنة..والأسرة والحشايا..تملأ الغرف بدون نظام..بلور مهشم..
مخدات ملقاة على الأرض..
كنتُ متعبا..حدّ..الإنهيار..لذلك ألقيت ُنفسي..على أول سرير..دون ان أغير ثيابي..
واستفقت..بعد أكثر من ثلاث ساعات..على يد..تهزني بلطف..وصوت يُناديني"يا أستاذ..
يا أستاذ.."
فتحتُ عيني..بتثاقل..على عربستانيّ..في يده رزمة..من الأوراق المالية..ودفتر..
"هذه دفعة على الحساب من مرتبك.."ثم سلمني مجموعة من الأوراق..المالية..
وضعتها تحت المخدة وعدت للنوم..بعد أن أمضيتُ..أمام إسمي..
عندما نهضت من النوم بعد ذلك..لم أصدق..عيني..
كان المكان ..أشبه بمعتقل..في دولة إفريقية..أو ببيوت الفقراء..في المدن القصديرية..
الحشايا عارية..والمخدات..متسخة..والأرضية..لزجة..والمكيفات. .بدون واقيات..
والعنكبوت قد نسج مدنا بأكملها في كل الزوايا..
قال أحدهم بلهجته الصعيدية المحببة "دول حاسبينا بهايم "
وقال..تونسي بلهجته الصفاقسية المميزة "لوكان بوبارطلّة..راهم حطوه في أوتيل"
[لوكان إفرنجيا..لكانوا استقبلوه في نزل ]
وعقبتُ "هم يحسبون أننا في بلداننا ننام على الأرض ونأكل البرسيم.."لذلك..
استكثروا علينا مكانا لائقا..
قال لي سوداني من أم درمان لما رأى ملامح الغضب على وجهي:"يا زول..خليها على الله.."
وقد كان..أسلمتُ أمري لله..وانشغلت بمعدتي التي كانت تستغيث من الطوى..
كان الجوع قد برح بي...فأنا لم أذق طعاما..منذ ساعات طويلة..لكن ما العمل..؟
فأنا لا أعرف هذه المدينة الملقاة في قلب الصحراء..ولا أعرف..الطرق المؤدية إلى..
شوارعها الرئيسية ومطاعمها..فالجماعة..ألقوا بنا في هذه الإستراحة..وسلمونا..
أوراقا مالية..ثم تركونا لقدرنا..
تساءلتُ"معقولة..معقولة..يكون حاتم الطائي..قد وُلد هنا ؟""لماذا لم يُفكر أحفاده..
أن يأتونا..بسندويتشات على الأقل..سندويتشات..يا هووه ؟"
"شندويتشات..لحمة ولاّ فول" قالها الصعيدي..القادم رأسا من أسيوط..
وكان ما ليس منه بُدّ..اصطحبتُ..عمّنا الصعيدي [عمره يفوق الخامسة والأربعين
وقتها] وقررنا أن نحصل على الطعام أو نموت ُدونه..
الحلقة الثالثة
.وجدنا انفسنا..انا وصديقي الصعيدي..في متاهة..لا مخرج منها..
انهج..متعرجة تارة..مستقيمة أطوارا..وازقة..مظلمة..تُسلم إلى..أخرى..معتمة..
ولا اثر لعربستاني..واحد..فلم يٌصادفنا إلا..الاسياويون..بسحنهم..السمراء..ونظراتهم..التائه ة..
استنجدت بأحدهم ليدلني..على مركز المدينة فكان جوابه:
-سيده..سيده..روح منّي منّي..
كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار..فلم يزدني جوابه إلا حيرة..وخبالا..
فقد بدت لي كلماته أشبه بطلاسم يستحيل فكها..
في الأثناء..كان الجوع قد برح بنا..حتى ليكاد يخرج بنا عن طورنا..
"مالعمل "..قلت ُيائسا لصديقي الصعيدي..
"والله ماني عارف يا بيه..باين عليه يوم منيّل من أوله"رد علي وقد كست الحيرة وجهه
الأربعيني..
ولكن الله..فرجها..
صحنا بصوت واحد..لما راينا..عربستانيا قادما..من بعيد..صيحة لا أظن المرحوم ماجلان صاح مثلها
لما راى الأرض..
بادرته بالسلام قبل الكلام:"السلام عليكم..يا أخي..
-عليكم السلام..يا مرحب..تفضلوا..
-شكرا الله يخليك..احنا مدرسين جدد..نريد نروح لمركز المدينة عشان..نتعشى..بس ما عرفين منين نروح..
كانت لغة الخطاب مزيجا من المصرية [تعيش المسلسلات التي قربت بين العرب] وبين اللهجة التونسية..وبين
بعض الألفاظ الهجينة..التي لا ***ية لها..
وبلهجته الخليجية الجميلة رحب بنا..في بلدنا الثاني..وأخبرني أنه يحب تونس وأهل تونس..
ويعرف الحمامات والمرسى وسيدي بوسعيد..ثم عرض علينا أن نصطحبه في سيارته..الرابضة قريبا من هناك..
..[روح يا شيخ..الله يكتبلك بكل دورة محرك حسنة..]
توقف صاحبنا ..أمام أحد المحلات..وودعنا قائلا:
"تفضلوا هذا مطعم ..ممكن أن تجدوا فيه ما يُقيم أودكم "
ودعناه على عجل..وانطلقنا مسرعيْن..في اتجاه..الخلاص الموعود..
ومرّة أخرى نصطدم..بمشكلة..اللغة..فالتجأنا الى لغة الإنسان الأول..لغة الإشارات..
كان المحل يعرض مأكولات شرقية ..سريعة..شوارمة..وفلافل..وبلاوي أخرى..لا عهد لي بها ..
أما صديقي الصعيدي فقد..طلب لنفسه من الشوارمة..ومن الفلافل..وراح يلتهمها..كأن بينه وبينها ثأرا قديما..
وأما العبد الله..فقد احترتُ..في أمري..فالشوارمة متبّلة ببهارات...لم أستطع استصاغتها..وكذا..كل المأكولات السريعة
المعروضة في المحل..
ولكن كان لا بدّ لي أن أسكت..آلاف الأجراس التي كانت..تقرع بشدة داخل..معدتي..مُعلنة..عن نفاد الصبر....
لما أنهينا..طعامنا..وخرجنا الى الشارع من جديد..
اكتشفنا ..ان المدينة بدأت..تتهيأ للنوم..فقد خفت الحركة..وأغلقت أكثر المحلات أبوابها..
وخلت الشواعر أو كادت من المارة..
"يا الاهي..هذه مدينة لا تسهر ...مدينة..نهارية..مدينة..لا تحلم..مدينة بدون خيال..مدينة..بدون شعراء.."
وكما هي عادتي الحميمة..أصررتُ على صاحبي الصعيدي..الا نستعجل العودة الى..استراحتنا..لنتسكع لبعض
الوقت..في شوارع المدينة المعتمة..
فانا أعشق..المدن عندما تكون نائمة..اعشق جسدها المتراخي المستسلم بدون حركة..أعشق التطواف..
في أزقتها وحواريها وأنهجها الصامتة..أهيم بعطرها الغامض..وشبقها السري..ونداءاتها المكتومة..
ولكن...هذه الشاعرية..كلفتني أن أعود الى اللإستراحة..في سيارة الشرطة..
فقد توقفت بجانبنا سيارة البوليس..وطلب منا أحدهم هويتينا..وسألنا عن سبب..وجودنا ..في الشارع المقفر..
فأخبرهم..صاحبي الصعيدي..بصوت متهدج من الخوف:
"ما فيش حاجة يا بيه..أصلا أحنا.............."وسرد على مسامعهم كل الحكاية..وختمها..بأننا..تائهان..
ولا نعرف كيف نعود من حيث جئنا..
وعادت بنا سيارة الشرطة ..
الجزء الرابع
وكانت..ليلتي الأولى..بعيدا عن..تلك المراة..التي لم أُفارقها أبدا..أمي..
وبعيدا..عن حبيبتي ..فاطمة..[ أختي الوحيدة]
لم يزرني النومُ إلا لماما..ضللت ٌ أفكر..في كل ما فقدته..وكل الذين افتقدتهم:
ماء..وهواء..ودفء..الوطن...مذاق الخبز..رطوبة الهواء..عطر..الأرض الغامض..
..دواوين الشعر المكدسة في كل مكان..والتي لا أنام دون أن ألقي عليها نظرة..طقوس
النوم..التي تخص كل واحد منا..شكل المخدة..نوعية الإضاءة..شكل النافذة..راحة البال..
الصور الجدارية..المذياع..دهان الحيطان..وجود..أحبتك قريبا منك..في الغرف الأخرى..السجاد
على الأرضية..الوالد وهو..يقرأ أوراده الليلية..فاطمة..وهي تُشاهد مسلسلها المسائي قبل أن تنام..
امتلأ كياني بمشاعر حادة..متضاربة ..قاسية..لم استطع..ان أتحمل..وضعي الجديد..بدوتُ كمن خرج..
من جنته..الأليفة..إلى المجهول..لم أرتح إلى فراشي الجديد..وغرفتي الموحشة..ولم ينفتح الباب..
على شبح امي..لتترجاني أن أنام..وأُريح عيني..من القراءة..
لن انس..تلك..الليلة..الطويلة..ولن أنس..تلك الجدران الكالحة..جدران زنزانتي..في تلك الإستراحة..
غفوتُ..لساعة..قبيل صلاة الفجر..
كان صباحي الأول بدون قهوة..من يد فاطمة..ولا يعرف..قسوة..ذلك الصباح الكئيب..إلا من يعرف.
..ماذا تعني لي..قهوتي الصباحية من يد فاطمة..
لا أحد غيرها يعرف..تفاصيل..صنع ذلك المزيج السحري..الذي اتشربه بكل خلاياي وحواسي..كل صباح..
لا أحد يُتقن صنع القهوة..مثل حبيبتي فاطمة..فهي تعرف..كم يجب ان تبقى القهوة على النار..
وتعرف بدقة غريبة..مقدار البنّ الضروري..وكمية السكر..ونوع الفنجان الذي أفضله..
كل صباح تهييء..لي قهوتي..وتضعها-مع ماء الزهر- على صينية النحاس..التي اقتنيتها من السوق الجزائرية..
..بعد أن تتأكد..انني في غرفتي جاهز لشرب القهوة..اسمع نقراتها..الخفيفة على الباب..
-تفضلي يا فاطمة..
-صباح الخير..يا بابا [تناديني بابا..لأن الوالد عمل طويلا في الغُربة..وهي فتحت عينيها عليّ.. ]..
وتفتح فاطمة الباب وتدخل ..وقد سبقها..عطر القهوة الغامض..المحبب..
تضع صينية القهوة على الفراش..وتفتح النافذة..ثم تجلس بجانبي..لتشرب قهوتها معي..
ورغم أنها تعرف أنني لا أحب أن يُضاف "ماء الزهر" إلى قهوتي..فإنها..لا تنسى أبدا أن تسألني..
-"هل اضع قطرات من ماء الزهر في قهوتك..؟"..وسرعان ما تمتد يدها إلى مجلة تقلب أوراقها..
أو كتاب..تقرأ بعض السطور منه..وبعد أن نترشف قهوتينا..على مهل..ننضم إلى العائلة لمشاركتها ..
وليمة الإفطار..وتكون أُمي قد سلقت البيض..وأحضرت "فطائرها الشهية "..
قال لي صديقي الصعيدي..لما حدثته عن حاجتي لفنجان من القهوة:
-"ممكن نجيب نسكافيه يا بيه.."
ياااااه صرختُ في أعماقي.."نسكافيه "..ما أبعد مذاق الناسكافيه..عن مذاق فنجان قهوة من يد فاطمة..
ما أبعد..كل صباحات العمر..عن هذا الصباح..
ما أبعد زهرة برّية..عن زهرة البلاستيك..التي لا تذبل..ولكنها..بدون شذى..بدون روح..
ما أبعد المتوسط..عن هذه الصحراء الموحشة..التي تتكدس فيها..مدن الإسمنت الخرساء..
ما أبعد المُواطن الذي كان..عن الوافد الذي ..وُلد اليوم.. من رحم الأحلام المُجهضة..
وكان أول صباح لي بدون قهوة..من يد فاطمة..
وبدون..صباح الخير من أمي..وبدون..جلستنا العائلية الصباحية الحميمة..حول مائدة الإفطار...
مع الساعة الثامنة..سمعنا صوت منبه الباص.. الذي جاء ليحملنا إلى مديرية التعليم..
حملنا أغراضنا وانحشرنا..داخله..وسار بنا في طرقات متعرجة حينا..ومستقيمة أحيانا..
بدت المدينة مزيجا هجينا..من الهندسة الأوروبية والعربية الأصيلة.. ..شوارع واسعة..ومغازات..فخمة..
وبيوت طينية..داخل واحات النخيل..تحيط بها أسوار عالية تُحاول إخفاءها على الزائرين..كمن يُواري..
عورة أو خطيئة..قُلت لصديقي السوداني الجالس بجانبي:لماذا نخجل نحن العرب..من مدننا العتيقة..
فنزيلها بالبلدزورات..أو نخفيها وراء الأسوار..متناسين أننا بذلك..كمن..يتبرأ من ذاكرته..أو دورته الدموية..مع أن تلك المدن العتيقة..أكثر تكيفا..مع..ظروفنا المناخية..وعاداتنا الخاصة..
وخلافا للكثيرين..لم أنبهر أبدا..بمدن البلور والإسمنت..والأضواء..التي غزت بلدان الخليج العربي..وكم دخلت على أصدقاء لي أو مسؤولين..فوجدتهم "يتقهوون "وقد افترشوا الأرض..في تناقض..
ميلودرامي..مع أُبّهة المكان ونوعية الأثاث..وهيبة البناية..[وزارة....]..
فالخليجي..إلا قلة قليلة..ضل وفيا..للتاريخ..ولعاداته الأصيلة..ولم يتخل عن عادات آبائه واجداده..
وخاصة في المدن البعيدة عن العواصم..
نعم هناك..طبقة من الأثرياء..الين..حاولوا التشبه بالغرب..في مناح عديدة من مناحي السلوك ..والعمران..و..ولكن الأكثرية ماتزال صامدة ..في وجه أعاصير التحديث.....
وتوقف بنا الباص..أمام مُديرية التعليم..
الجزء 5
في المديرية تركونا ننتظر أكثر من ثلاث ساعات،،قبل أن يطلب منا أحدهم أن نلتحق فورا
بالباصات التي ستنقلنا إلى مراكز عملنا،،وكانت لحظة قاسية ..لحظة وداعي لصديقي
الصعيدي وصديقي السوداني،وابن بلدي الصفاقسي ،،فقد بدأت تتوثق بيننا أواصر صداقة
سرية حميمة دافئة..وشعرتُ انني أتغرب للمرة الثانية..ولكن لم يكن باليد حيلة..ودعنا بعضنا بحرارة..
وأسلمنا أنفسنا للسائق الهندي ..يحملناإلى أقدارنا..
في الباص سألتُ السائق الهندي:
-أريو هابي هير ؟
نظر إلي بدون اكتراث وزم شفتيه ..قبل أن يجيبني ببرود:
-شوي شوي..ثم أضاف بعد أن أشعل لنفسه سيجارة..
-أنت إيجيبسين ؟
أجبته :-أيام تينيزين..تينيزين..يو ناو تينيزيا ؟i am tunisian,,you know tunisia
ولدهشتي اكتشفت أنه لم يسمع بتونس ولا بشمال إفريقيا كلها ..
سألني:-أريو تيتشر ؟أجبته بإشارة من رأسي أن نعم..
ساد صمت ثقيل،،أصابني منظر الجبال الموحشة الجرداء والصحراء المترامية المخيفة بالإحباط..
كان الحر لا يُطاق والصمت يلف كل شيء،،ولولا بعض السيارات القليلة التي تعترضنا أو تتجاوزنا،،
لحسبتُ أنني في كوكب مجهول مرمي في ركن قصي من هذا الكون،،
حلق بي الخيال بعيدا بعيدا إلى حيث تركتُ كل شيء ورائي،،ها أنذا مجرد ريشة في مهب الريح،،
مجرد وافد غريب يقودني سائق هندي إلى المجهول،،بعيدا عن أصدقائي،،بعيدا عن فاطمة،،بعيدا
عن مقهى ابي عبدة ،،حتى الجواز صادروه ولم يعد ممكنا لي ان اتراجع،،
توقف بي الباص أمام سكن متواضع،،طرق السائق الباب ،،فأطل علينا أحدهم بجلباب مصري،،
سرعان ما عرفتُ انه مدير المدرسة والمشرف على السكن،، رحّب بي،،وساعدني على إدخال أغراضي،،
قادني إلى إحدى الغرف ،،وقدمني إلى متساكنيه الأربعة:مغربيين وسوداني مسيحي من الجنوب،ومصري،،
جلستُ على طرف فراش أحدهم:-سنحمل لك فراشا خاصا بك،،قال لي المدير،،ضع أغراضك مع الأخ "جون السوداني،،وشاركْ الجماعة ثلاجتهم،،
ألقيت نظرة سريعة إلى الغرفة،،لأتبين بسرعة حجم الكارثة،،الأرضية إسمنتية،،والفُرش متهالكة كئيبة،،
ومكيف بدون واق يهدر مثل قطار الصعيد،،والوجوه عابسة كئيبة،،قال لي أحدهم :يا تونسي،،مرحبا بك بيننا،،أرجو ألا تغضب مني،،هذه الغرفة لا تتسع لأكثر من ثلاثة،،وهانحن أصبحنا الآن خمسة،،يجب
أن تُجبرهم أن يبحثوا لك عن حل،،لأنه من غير المعقول ولا الآئق بنا أن نقبل بهذه الوضعية..
حين أعلمتُ المدير بأنه لا يمكن لي أن أقبل بهذه الوضعية وجدته ملكيا أكثر من الملك :
-يا بيه مشي حالك،،إن شاء الله ربك يفرجها،،والحمد الله عندك سرير،،وثلاجة،،
سرير وثلاجة،،ياااااه،،صرختُ في أعماقي،،عشتُ إلى زمن أصبح فيه وجود سرير للنوم وثلاجة نعمة وأي نعمة،،
-لكن يا أستاذ افهمني أرجوك،،هذه الغرفة الضيقة لا يمكن ان تتسع لخمسة أنفار،،سبحان الله،،
لكل عاداته وأسلوب حياته،،واحد يريد ينام بدري واحد يريد أن يسهر،،الآخر يريد أن يصرخ..
قاطعني:-خلاص خلاص يا بيه الحين ارتاح،،وبكرة حنشوف،،
ولكن بكرة هذه لم تأتي أبدا،،رغم كل الإجتجاجات السرية والعلنية،،
-لو تتكلم وتحتج حيفنشوك،،قالها لي همسا المغربي عبد العزيز..
ممنوع تتكلم في السياسة ،،ممنوع تحتج ،،ممنوع تتغزل ،،ممنوع تغضب،،ممنوع تبكي بصوت مرتفع
ممنوع فيلم الرسالة ،،ممنوع نزار قباني،،ممنوع أشرطة كاسات تصلك من اهلك ،،ممنوع تتحدث عن السلطان أو الأوضاع الداخلية أو امريكا حتى بينك وبين نفسك،،وإلا ،،وإلا سيفنشوك ،،كما فنشوا جمال المصري والصادق التونسي،،وأبو علي الفلسطيني،،
ووو..القائمة طويلة،،
التفنيش هو السيف المسلط على الرقاب،،وعلى الجميع أن يقبل بكل شيء،،وإلا فإن المصير معروف،،
أضاف صديقي المغربي :هنا شعار الجميع لا أسمع لا ارى لا أتكلم،،تنفذ الأوامر،،وتسمع الكلام ،،وخلاص..
الجزء6
السابعة صباحا،،كنا جميعا في اتجاه المدرسة..
راح عبد العزيز المغربي يزودني بآخر تعليمات مدونة السلوك التي يجب أن ألتزم بها في المدرسة والشارع..ولكن..ولكن ربّ مستمع والقلب في صمم !!كانت روحي ترفرف بعيدا بعيدا جدا..
وجدت المدرسة نظيفة واسعة،،وإن كانت تخلو من الأشجار،،ولا ترى من نوافذ الفصول إلا صحراء جرداء موحشة،،
رحب بي الجميع وافدين ومواطنين وعملة ..
همس لي المدير:بعد حصة الإذاعة تعال إلى مكتبي،،
وانطلقت حصة الإذاعة:النشيد الوطني،،القرآن الكريم،،أحاديث شريفة،،أناشيد،،كلمة مدير المدرسة،،
كان الجميع وقوفا وقفة عسكرية صارمة يتابعون الحصة بكل جوارحهم،،
بعد انتهاء الحصة تبعتُ المدير إلى مكتبه،،بادرني بعد أن أحكم إغلاق الباب:
-شوف يا أستاذ،،هنا غير اللي عندكم،،كل شيء مختلف،،عاوزك تفتح اوذانك وتفهمني كويس،،
أنا لا اريد أن تحصل لك أو لي مشاكل،،وأنا بصراحة من خلال تجربتي مع التواسنة عرفت أنهم شديدو العناد وغاوين مشاكل،،لذلك أرجو أن تكون طيبا مثل إسمك وأن نكون أصدقاء..وأنا دايما في الخدمة والله..
رددتُ علية بدون اكتراث:
-إن شاء الله يحصل خير
مد لي يده وشد علي بحرارة وكأنه يأخذ مني عهدا أن أكون في المستوى!!
أخرج جدول أوقاتي من درج مكتبه:
-أنا اثق جدا في الإخوة التوانسة ولذلك سأكلفك بتدريس الثانية ثانوي،،أنت بالطبع درّست العروض قبل كده،،أجبته بالإيجاب بإشارة من رأسي..
-طيب ،،ممتاز،،تفضل معاي على فصلك..
تبعته إلى الفصل،،وقف جميع الطلبة عند دخولي،،طلبتُ منهم الجلوس ورحت أتجول بين المقاعد..
هذه المرة الأولى التي أدرس فيها فصلا يتألف من الذكور وحدهم،،كانوا يلبسون لباسهم الخليجي المعروف،،بعضهم بلحى وبعضهم بدون لحية،،ساد صمت ثقيل قبل أن اقطعه بتقديم نفسي لهم:
-فلان الفلاني من تونس سأكون مدرسكم في اللغة العربية،،
صاح أحدهم عاليا:تشرفنا ،،فأثار ضحك بعض زملائه،،ابتسمتُ بدوري قبل أن أواصل:
- شكرا،،أرجو أن نقضي معا سنة طيبة ،،
ثم وكما هو دأبي في أول كل سنة دراسية ،،سألت الطلبة بعض الأسئلة في الأدب العربي،والجغرافيا،وغيرها من ميادين المعرفةلأتبين مستواهم الثقافي ومدى إلمامهم بما يدور حولهم
وكم كان إحباطي رهيبا حين اكتشفتُ أن أحدا من طلبتي لم يطالع أبدا اي أثر من الأدب العربي القديم أو الحديث دعك من الأدب الأجنبي..وأنه لا يوجد منهم طالب واحد قادر أن يميز بين العصور الأدبية ،،
وأدهى من ذلك وامرّ أن طالبا واحدا أو طالبين فقط عرف عدد القارات في العالم،،بل إن أحدهم اعتبر مصر قارة ،،والآخر الهند ،،والآخر الصين،،
وقد اكتشفتُ بعد ذلك أن الطالب الخليجي لا يقرأ إلا الكتب الدينية،،بل إن زميلا خليجيا تساءل باستغراب مرة عندما رأى بين يدي كتابا في الفلسفة :أنت أستاذ لغة عربية ماذا تفعل بهذا الكتاب ،،وعندما حاولتُ أن اوضح له ماهية المثقف ،،ودور مختلف العلوم الإنسانية في تأسيس شخصيتنا ومعارفنا،،زم شفتيه وانصرف بعيدا دون أن يقتنع !!
وحين ناقشتُ الأمر مع أستاذ العلوم التونسي قال لي بالحرف الواحد:
-أنت لم تر شيئا بعد ،،انتظر بعض الوقت وستتذكرني..
من الحصة الأولى ،،اكتشفتُ أن هناك خللا ما ..خللا فظيعا،،إذ لا يعقل أن يكون مستوى طالب في
الثانية ثانوي هو بالضبط مستوى طالب في الإبتدائي في أي بلد آخر [أكتب هذا وأقسم أنني أقول الحقيقة
بكل تجرد وموضوعية ]..
كان ذلك اليوم هو يوم "السنوات الخمسة" وهو يوم لا يُنسى..
الطيب الجوادي
الحلقة الأولى
.قالت لي الوالدة وهي تُداري دُموعها..قبل أن تُسلمني..إلى قدري ..
"عزائي يا بُنيّ..أنك..ستكون بين إخوة لك في الدين واللغة..هناك في عربستان.."
ثمّ أضافت بعد أن تنهدت تنهدة عميقة :"هناك يا بُنيّ..لا أخشى عليك..من بلاوي
كثيرة..فليس هناك خمر يذهبُ بعقلك..ولا غانية تذهب بقلبك.."
كان مطار تونس قرطاج..يعج بالحالمين مثلي..بالجنة الأرضية..خليط غريب..
من بدو وحضر..أكملوا جميعا دراستهم الجامعية في مُختلف الإختصاصات..
ثم تبخرت أحلامهم النهارية والليلية..تحت شمس الحقيقة المُرة..حقيقة المرتبات..الهزيلة..
التي لا تكادُ تفي بالحاجة..ضرورية كانت أو غير ضرورية..وحين حانت فرصة..
العمل في إحدى دول النفط...الذهب الأسود كما يّسمونه..كُنت ُ ممن..انخدع..ببريق الأماني..
فتقدمت..بملفي إلى السلطات المسؤولة..لأحضى..بصك العبور إلى..الضفة الأخرى ..ضفة..
الثراء الواسع..والسعادة المطلقة..متغافلا عن نصائح..كل الذين حذروني..من الذهاب..
إلى بلاد العرب العاربة..لأنهم يفضلون أن أهاجر إلى بلاد الإفرنج....[أليس كل البلاء مُوكّل..بحسن النية ؟]
غيبتني الطائرة..في بطنها..وحلق معها خيالي بعيدا..
"كيف ستكون حياتي هناك..في عربستان..كيف سيكون طلبتي..وزملائي..كيف سأتعامل..
مع العربان ..من قيس وعدنان ؟"
لم يخرجني من..هواجسي..إلا صوت المضيفة..تدعونا إلى شدّ الأحزمة استعدادا..للهبوط..
بدا لي المطار فاجر الأبّهة..يشي بأن القوم..ينامون على كنوز سليمان..[هو من أكبر المطارات
في العالم ]..كان هناك..عمال ذووا سحنات آسيوية..ببدلات ..موحدة..يدفعون عربات..
وينظفون الأرضية..أو يُساعدون..على تسلم الحقائب..
سرعان ما اكتشفتُ أنه لا عمل لأبن البلد غير أن يأمر وينهى..ويقبض..
أو يقود سيارته الفارهة..وأن البلد يخدمه..الغرباء..
الهنود والباكستانيون..والبنغال..للأعمال المبتذلة..
وزرق العيون لما جلّ من أعمال..
والعرب بين هذا وذاك..
بمجرد..خروجي..من المطار ..في اتجاه ..الباص الذي كان في استقبالنا..لفحتني
حرارة نُحاسية..كأنها نار جهنم..حرارة تُشعرك أنك ستتبخر..بعد دقائق..
رحب بنا مندوب وزارة التربية..وأعلمنا أن السائق..سيقودنا إلى مدينتنا البعيدة..
وأن الجماعة هناك..سيتكفلون بأمرنا..
جلستُ بقرب..السائق الآسيوي..تبادلنا بعض الإشارات المُبهمة...ابتسم ابتسامة
باهتة بلا معنى..سألته بالإنجليزية.:"آر يو أندين"..فرد علي :"باكستان..باكستان "
سألته بكل غباء:"آريو هابي هير ؟".ردّ علي..بكلمات..غير مفهومة..وبإيماءة
من رأسه توحي..أنه لا يعرف بالضبط..إن كان هابي [سعيدا ] أو غير هابي..
..تذكرتُ وقتها..
كلمات امرىء القيس"كل غريب للغريب نسيب"..وكل ما أحفظه من شعر عن الغربة..
كانت الجبال في لون الحديد الصدأ..لا أشجار..ولا عصافير...ولا اكتظاظ.
ولا أبقار ترعى على جنبات الطريق..ولا رعاة..يترنمون..بأناشيدهم الحزينة...لا شيء غير..
سراب ممتد بلا نهاية..سراب..يذكرني..بحلم..كاذب..تركتُ من أجله الأهل والوطن..
الحلقة الثانية
.وأخيرا ..وبعد رحلة طويلة مرهقة..توقف بنا الباص..أمام..بناية..متواضعة..
قيل لنا إنها..الإستراحة التي سنُقضّي فيها ليلتنا..
أنزلنا أغراضنا..فتح لنا..أحد الآسياويين الباب..وأشار علينا بالدخول.كان هناك
مدرسون من ***يات مختلفة قد سبقونا هناك..
.وجدنا المكان..
قذرا تفوح منه روائح عطنة..والأسرة والحشايا..تملأ الغرف بدون نظام..بلور مهشم..
مخدات ملقاة على الأرض..
كنتُ متعبا..حدّ..الإنهيار..لذلك ألقيت ُنفسي..على أول سرير..دون ان أغير ثيابي..
واستفقت..بعد أكثر من ثلاث ساعات..على يد..تهزني بلطف..وصوت يُناديني"يا أستاذ..
يا أستاذ.."
فتحتُ عيني..بتثاقل..على عربستانيّ..في يده رزمة..من الأوراق المالية..ودفتر..
"هذه دفعة على الحساب من مرتبك.."ثم سلمني مجموعة من الأوراق..المالية..
وضعتها تحت المخدة وعدت للنوم..بعد أن أمضيتُ..أمام إسمي..
عندما نهضت من النوم بعد ذلك..لم أصدق..عيني..
كان المكان ..أشبه بمعتقل..في دولة إفريقية..أو ببيوت الفقراء..في المدن القصديرية..
الحشايا عارية..والمخدات..متسخة..والأرضية..لزجة..والمكيفات. .بدون واقيات..
والعنكبوت قد نسج مدنا بأكملها في كل الزوايا..
قال أحدهم بلهجته الصعيدية المحببة "دول حاسبينا بهايم "
وقال..تونسي بلهجته الصفاقسية المميزة "لوكان بوبارطلّة..راهم حطوه في أوتيل"
[لوكان إفرنجيا..لكانوا استقبلوه في نزل ]
وعقبتُ "هم يحسبون أننا في بلداننا ننام على الأرض ونأكل البرسيم.."لذلك..
استكثروا علينا مكانا لائقا..
قال لي سوداني من أم درمان لما رأى ملامح الغضب على وجهي:"يا زول..خليها على الله.."
وقد كان..أسلمتُ أمري لله..وانشغلت بمعدتي التي كانت تستغيث من الطوى..
كان الجوع قد برح بي...فأنا لم أذق طعاما..منذ ساعات طويلة..لكن ما العمل..؟
فأنا لا أعرف هذه المدينة الملقاة في قلب الصحراء..ولا أعرف..الطرق المؤدية إلى..
شوارعها الرئيسية ومطاعمها..فالجماعة..ألقوا بنا في هذه الإستراحة..وسلمونا..
أوراقا مالية..ثم تركونا لقدرنا..
تساءلتُ"معقولة..معقولة..يكون حاتم الطائي..قد وُلد هنا ؟""لماذا لم يُفكر أحفاده..
أن يأتونا..بسندويتشات على الأقل..سندويتشات..يا هووه ؟"
"شندويتشات..لحمة ولاّ فول" قالها الصعيدي..القادم رأسا من أسيوط..
وكان ما ليس منه بُدّ..اصطحبتُ..عمّنا الصعيدي [عمره يفوق الخامسة والأربعين
وقتها] وقررنا أن نحصل على الطعام أو نموت ُدونه..
الحلقة الثالثة
.وجدنا انفسنا..انا وصديقي الصعيدي..في متاهة..لا مخرج منها..
انهج..متعرجة تارة..مستقيمة أطوارا..وازقة..مظلمة..تُسلم إلى..أخرى..معتمة..
ولا اثر لعربستاني..واحد..فلم يٌصادفنا إلا..الاسياويون..بسحنهم..السمراء..ونظراتهم..التائه ة..
استنجدت بأحدهم ليدلني..على مركز المدينة فكان جوابه:
-سيده..سيده..روح منّي منّي..
كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار..فلم يزدني جوابه إلا حيرة..وخبالا..
فقد بدت لي كلماته أشبه بطلاسم يستحيل فكها..
في الأثناء..كان الجوع قد برح بنا..حتى ليكاد يخرج بنا عن طورنا..
"مالعمل "..قلت ُيائسا لصديقي الصعيدي..
"والله ماني عارف يا بيه..باين عليه يوم منيّل من أوله"رد علي وقد كست الحيرة وجهه
الأربعيني..
ولكن الله..فرجها..
صحنا بصوت واحد..لما راينا..عربستانيا قادما..من بعيد..صيحة لا أظن المرحوم ماجلان صاح مثلها
لما راى الأرض..
بادرته بالسلام قبل الكلام:"السلام عليكم..يا أخي..
-عليكم السلام..يا مرحب..تفضلوا..
-شكرا الله يخليك..احنا مدرسين جدد..نريد نروح لمركز المدينة عشان..نتعشى..بس ما عرفين منين نروح..
كانت لغة الخطاب مزيجا من المصرية [تعيش المسلسلات التي قربت بين العرب] وبين اللهجة التونسية..وبين
بعض الألفاظ الهجينة..التي لا ***ية لها..
وبلهجته الخليجية الجميلة رحب بنا..في بلدنا الثاني..وأخبرني أنه يحب تونس وأهل تونس..
ويعرف الحمامات والمرسى وسيدي بوسعيد..ثم عرض علينا أن نصطحبه في سيارته..الرابضة قريبا من هناك..
..[روح يا شيخ..الله يكتبلك بكل دورة محرك حسنة..]
توقف صاحبنا ..أمام أحد المحلات..وودعنا قائلا:
"تفضلوا هذا مطعم ..ممكن أن تجدوا فيه ما يُقيم أودكم "
ودعناه على عجل..وانطلقنا مسرعيْن..في اتجاه..الخلاص الموعود..
ومرّة أخرى نصطدم..بمشكلة..اللغة..فالتجأنا الى لغة الإنسان الأول..لغة الإشارات..
كان المحل يعرض مأكولات شرقية ..سريعة..شوارمة..وفلافل..وبلاوي أخرى..لا عهد لي بها ..
أما صديقي الصعيدي فقد..طلب لنفسه من الشوارمة..ومن الفلافل..وراح يلتهمها..كأن بينه وبينها ثأرا قديما..
وأما العبد الله..فقد احترتُ..في أمري..فالشوارمة متبّلة ببهارات...لم أستطع استصاغتها..وكذا..كل المأكولات السريعة
المعروضة في المحل..
ولكن كان لا بدّ لي أن أسكت..آلاف الأجراس التي كانت..تقرع بشدة داخل..معدتي..مُعلنة..عن نفاد الصبر....
لما أنهينا..طعامنا..وخرجنا الى الشارع من جديد..
اكتشفنا ..ان المدينة بدأت..تتهيأ للنوم..فقد خفت الحركة..وأغلقت أكثر المحلات أبوابها..
وخلت الشواعر أو كادت من المارة..
"يا الاهي..هذه مدينة لا تسهر ...مدينة..نهارية..مدينة..لا تحلم..مدينة بدون خيال..مدينة..بدون شعراء.."
وكما هي عادتي الحميمة..أصررتُ على صاحبي الصعيدي..الا نستعجل العودة الى..استراحتنا..لنتسكع لبعض
الوقت..في شوارع المدينة المعتمة..
فانا أعشق..المدن عندما تكون نائمة..اعشق جسدها المتراخي المستسلم بدون حركة..أعشق التطواف..
في أزقتها وحواريها وأنهجها الصامتة..أهيم بعطرها الغامض..وشبقها السري..ونداءاتها المكتومة..
ولكن...هذه الشاعرية..كلفتني أن أعود الى اللإستراحة..في سيارة الشرطة..
فقد توقفت بجانبنا سيارة البوليس..وطلب منا أحدهم هويتينا..وسألنا عن سبب..وجودنا ..في الشارع المقفر..
فأخبرهم..صاحبي الصعيدي..بصوت متهدج من الخوف:
"ما فيش حاجة يا بيه..أصلا أحنا.............."وسرد على مسامعهم كل الحكاية..وختمها..بأننا..تائهان..
ولا نعرف كيف نعود من حيث جئنا..
وعادت بنا سيارة الشرطة ..
الجزء الرابع
وكانت..ليلتي الأولى..بعيدا عن..تلك المراة..التي لم أُفارقها أبدا..أمي..
وبعيدا..عن حبيبتي ..فاطمة..[ أختي الوحيدة]
لم يزرني النومُ إلا لماما..ضللت ٌ أفكر..في كل ما فقدته..وكل الذين افتقدتهم:
ماء..وهواء..ودفء..الوطن...مذاق الخبز..رطوبة الهواء..عطر..الأرض الغامض..
..دواوين الشعر المكدسة في كل مكان..والتي لا أنام دون أن ألقي عليها نظرة..طقوس
النوم..التي تخص كل واحد منا..شكل المخدة..نوعية الإضاءة..شكل النافذة..راحة البال..
الصور الجدارية..المذياع..دهان الحيطان..وجود..أحبتك قريبا منك..في الغرف الأخرى..السجاد
على الأرضية..الوالد وهو..يقرأ أوراده الليلية..فاطمة..وهي تُشاهد مسلسلها المسائي قبل أن تنام..
امتلأ كياني بمشاعر حادة..متضاربة ..قاسية..لم استطع..ان أتحمل..وضعي الجديد..بدوتُ كمن خرج..
من جنته..الأليفة..إلى المجهول..لم أرتح إلى فراشي الجديد..وغرفتي الموحشة..ولم ينفتح الباب..
على شبح امي..لتترجاني أن أنام..وأُريح عيني..من القراءة..
لن انس..تلك..الليلة..الطويلة..ولن أنس..تلك الجدران الكالحة..جدران زنزانتي..في تلك الإستراحة..
غفوتُ..لساعة..قبيل صلاة الفجر..
كان صباحي الأول بدون قهوة..من يد فاطمة..ولا يعرف..قسوة..ذلك الصباح الكئيب..إلا من يعرف.
..ماذا تعني لي..قهوتي الصباحية من يد فاطمة..
لا أحد غيرها يعرف..تفاصيل..صنع ذلك المزيج السحري..الذي اتشربه بكل خلاياي وحواسي..كل صباح..
لا أحد يُتقن صنع القهوة..مثل حبيبتي فاطمة..فهي تعرف..كم يجب ان تبقى القهوة على النار..
وتعرف بدقة غريبة..مقدار البنّ الضروري..وكمية السكر..ونوع الفنجان الذي أفضله..
كل صباح تهييء..لي قهوتي..وتضعها-مع ماء الزهر- على صينية النحاس..التي اقتنيتها من السوق الجزائرية..
..بعد أن تتأكد..انني في غرفتي جاهز لشرب القهوة..اسمع نقراتها..الخفيفة على الباب..
-تفضلي يا فاطمة..
-صباح الخير..يا بابا [تناديني بابا..لأن الوالد عمل طويلا في الغُربة..وهي فتحت عينيها عليّ.. ]..
وتفتح فاطمة الباب وتدخل ..وقد سبقها..عطر القهوة الغامض..المحبب..
تضع صينية القهوة على الفراش..وتفتح النافذة..ثم تجلس بجانبي..لتشرب قهوتها معي..
ورغم أنها تعرف أنني لا أحب أن يُضاف "ماء الزهر" إلى قهوتي..فإنها..لا تنسى أبدا أن تسألني..
-"هل اضع قطرات من ماء الزهر في قهوتك..؟"..وسرعان ما تمتد يدها إلى مجلة تقلب أوراقها..
أو كتاب..تقرأ بعض السطور منه..وبعد أن نترشف قهوتينا..على مهل..ننضم إلى العائلة لمشاركتها ..
وليمة الإفطار..وتكون أُمي قد سلقت البيض..وأحضرت "فطائرها الشهية "..
قال لي صديقي الصعيدي..لما حدثته عن حاجتي لفنجان من القهوة:
-"ممكن نجيب نسكافيه يا بيه.."
ياااااه صرختُ في أعماقي.."نسكافيه "..ما أبعد مذاق الناسكافيه..عن مذاق فنجان قهوة من يد فاطمة..
ما أبعد..كل صباحات العمر..عن هذا الصباح..
ما أبعد زهرة برّية..عن زهرة البلاستيك..التي لا تذبل..ولكنها..بدون شذى..بدون روح..
ما أبعد المتوسط..عن هذه الصحراء الموحشة..التي تتكدس فيها..مدن الإسمنت الخرساء..
ما أبعد المُواطن الذي كان..عن الوافد الذي ..وُلد اليوم.. من رحم الأحلام المُجهضة..
وكان أول صباح لي بدون قهوة..من يد فاطمة..
وبدون..صباح الخير من أمي..وبدون..جلستنا العائلية الصباحية الحميمة..حول مائدة الإفطار...
مع الساعة الثامنة..سمعنا صوت منبه الباص.. الذي جاء ليحملنا إلى مديرية التعليم..
حملنا أغراضنا وانحشرنا..داخله..وسار بنا في طرقات متعرجة حينا..ومستقيمة أحيانا..
بدت المدينة مزيجا هجينا..من الهندسة الأوروبية والعربية الأصيلة.. ..شوارع واسعة..ومغازات..فخمة..
وبيوت طينية..داخل واحات النخيل..تحيط بها أسوار عالية تُحاول إخفاءها على الزائرين..كمن يُواري..
عورة أو خطيئة..قُلت لصديقي السوداني الجالس بجانبي:لماذا نخجل نحن العرب..من مدننا العتيقة..
فنزيلها بالبلدزورات..أو نخفيها وراء الأسوار..متناسين أننا بذلك..كمن..يتبرأ من ذاكرته..أو دورته الدموية..مع أن تلك المدن العتيقة..أكثر تكيفا..مع..ظروفنا المناخية..وعاداتنا الخاصة..
وخلافا للكثيرين..لم أنبهر أبدا..بمدن البلور والإسمنت..والأضواء..التي غزت بلدان الخليج العربي..وكم دخلت على أصدقاء لي أو مسؤولين..فوجدتهم "يتقهوون "وقد افترشوا الأرض..في تناقض..
ميلودرامي..مع أُبّهة المكان ونوعية الأثاث..وهيبة البناية..[وزارة....]..
فالخليجي..إلا قلة قليلة..ضل وفيا..للتاريخ..ولعاداته الأصيلة..ولم يتخل عن عادات آبائه واجداده..
وخاصة في المدن البعيدة عن العواصم..
نعم هناك..طبقة من الأثرياء..الين..حاولوا التشبه بالغرب..في مناح عديدة من مناحي السلوك ..والعمران..و..ولكن الأكثرية ماتزال صامدة ..في وجه أعاصير التحديث.....
وتوقف بنا الباص..أمام مُديرية التعليم..
الجزء 5
في المديرية تركونا ننتظر أكثر من ثلاث ساعات،،قبل أن يطلب منا أحدهم أن نلتحق فورا
بالباصات التي ستنقلنا إلى مراكز عملنا،،وكانت لحظة قاسية ..لحظة وداعي لصديقي
الصعيدي وصديقي السوداني،وابن بلدي الصفاقسي ،،فقد بدأت تتوثق بيننا أواصر صداقة
سرية حميمة دافئة..وشعرتُ انني أتغرب للمرة الثانية..ولكن لم يكن باليد حيلة..ودعنا بعضنا بحرارة..
وأسلمنا أنفسنا للسائق الهندي ..يحملناإلى أقدارنا..
في الباص سألتُ السائق الهندي:
-أريو هابي هير ؟
نظر إلي بدون اكتراث وزم شفتيه ..قبل أن يجيبني ببرود:
-شوي شوي..ثم أضاف بعد أن أشعل لنفسه سيجارة..
-أنت إيجيبسين ؟
أجبته :-أيام تينيزين..تينيزين..يو ناو تينيزيا ؟i am tunisian,,you know tunisia
ولدهشتي اكتشفت أنه لم يسمع بتونس ولا بشمال إفريقيا كلها ..
سألني:-أريو تيتشر ؟أجبته بإشارة من رأسي أن نعم..
ساد صمت ثقيل،،أصابني منظر الجبال الموحشة الجرداء والصحراء المترامية المخيفة بالإحباط..
كان الحر لا يُطاق والصمت يلف كل شيء،،ولولا بعض السيارات القليلة التي تعترضنا أو تتجاوزنا،،
لحسبتُ أنني في كوكب مجهول مرمي في ركن قصي من هذا الكون،،
حلق بي الخيال بعيدا بعيدا إلى حيث تركتُ كل شيء ورائي،،ها أنذا مجرد ريشة في مهب الريح،،
مجرد وافد غريب يقودني سائق هندي إلى المجهول،،بعيدا عن أصدقائي،،بعيدا عن فاطمة،،بعيدا
عن مقهى ابي عبدة ،،حتى الجواز صادروه ولم يعد ممكنا لي ان اتراجع،،
توقف بي الباص أمام سكن متواضع،،طرق السائق الباب ،،فأطل علينا أحدهم بجلباب مصري،،
سرعان ما عرفتُ انه مدير المدرسة والمشرف على السكن،، رحّب بي،،وساعدني على إدخال أغراضي،،
قادني إلى إحدى الغرف ،،وقدمني إلى متساكنيه الأربعة:مغربيين وسوداني مسيحي من الجنوب،ومصري،،
جلستُ على طرف فراش أحدهم:-سنحمل لك فراشا خاصا بك،،قال لي المدير،،ضع أغراضك مع الأخ "جون السوداني،،وشاركْ الجماعة ثلاجتهم،،
ألقيت نظرة سريعة إلى الغرفة،،لأتبين بسرعة حجم الكارثة،،الأرضية إسمنتية،،والفُرش متهالكة كئيبة،،
ومكيف بدون واق يهدر مثل قطار الصعيد،،والوجوه عابسة كئيبة،،قال لي أحدهم :يا تونسي،،مرحبا بك بيننا،،أرجو ألا تغضب مني،،هذه الغرفة لا تتسع لأكثر من ثلاثة،،وهانحن أصبحنا الآن خمسة،،يجب
أن تُجبرهم أن يبحثوا لك عن حل،،لأنه من غير المعقول ولا الآئق بنا أن نقبل بهذه الوضعية..
حين أعلمتُ المدير بأنه لا يمكن لي أن أقبل بهذه الوضعية وجدته ملكيا أكثر من الملك :
-يا بيه مشي حالك،،إن شاء الله ربك يفرجها،،والحمد الله عندك سرير،،وثلاجة،،
سرير وثلاجة،،ياااااه،،صرختُ في أعماقي،،عشتُ إلى زمن أصبح فيه وجود سرير للنوم وثلاجة نعمة وأي نعمة،،
-لكن يا أستاذ افهمني أرجوك،،هذه الغرفة الضيقة لا يمكن ان تتسع لخمسة أنفار،،سبحان الله،،
لكل عاداته وأسلوب حياته،،واحد يريد ينام بدري واحد يريد أن يسهر،،الآخر يريد أن يصرخ..
قاطعني:-خلاص خلاص يا بيه الحين ارتاح،،وبكرة حنشوف،،
ولكن بكرة هذه لم تأتي أبدا،،رغم كل الإجتجاجات السرية والعلنية،،
-لو تتكلم وتحتج حيفنشوك،،قالها لي همسا المغربي عبد العزيز..
ممنوع تتكلم في السياسة ،،ممنوع تحتج ،،ممنوع تتغزل ،،ممنوع تغضب،،ممنوع تبكي بصوت مرتفع
ممنوع فيلم الرسالة ،،ممنوع نزار قباني،،ممنوع أشرطة كاسات تصلك من اهلك ،،ممنوع تتحدث عن السلطان أو الأوضاع الداخلية أو امريكا حتى بينك وبين نفسك،،وإلا ،،وإلا سيفنشوك ،،كما فنشوا جمال المصري والصادق التونسي،،وأبو علي الفلسطيني،،
ووو..القائمة طويلة،،
التفنيش هو السيف المسلط على الرقاب،،وعلى الجميع أن يقبل بكل شيء،،وإلا فإن المصير معروف،،
أضاف صديقي المغربي :هنا شعار الجميع لا أسمع لا ارى لا أتكلم،،تنفذ الأوامر،،وتسمع الكلام ،،وخلاص..
الجزء6
السابعة صباحا،،كنا جميعا في اتجاه المدرسة..
راح عبد العزيز المغربي يزودني بآخر تعليمات مدونة السلوك التي يجب أن ألتزم بها في المدرسة والشارع..ولكن..ولكن ربّ مستمع والقلب في صمم !!كانت روحي ترفرف بعيدا بعيدا جدا..
وجدت المدرسة نظيفة واسعة،،وإن كانت تخلو من الأشجار،،ولا ترى من نوافذ الفصول إلا صحراء جرداء موحشة،،
رحب بي الجميع وافدين ومواطنين وعملة ..
همس لي المدير:بعد حصة الإذاعة تعال إلى مكتبي،،
وانطلقت حصة الإذاعة:النشيد الوطني،،القرآن الكريم،،أحاديث شريفة،،أناشيد،،كلمة مدير المدرسة،،
كان الجميع وقوفا وقفة عسكرية صارمة يتابعون الحصة بكل جوارحهم،،
بعد انتهاء الحصة تبعتُ المدير إلى مكتبه،،بادرني بعد أن أحكم إغلاق الباب:
-شوف يا أستاذ،،هنا غير اللي عندكم،،كل شيء مختلف،،عاوزك تفتح اوذانك وتفهمني كويس،،
أنا لا اريد أن تحصل لك أو لي مشاكل،،وأنا بصراحة من خلال تجربتي مع التواسنة عرفت أنهم شديدو العناد وغاوين مشاكل،،لذلك أرجو أن تكون طيبا مثل إسمك وأن نكون أصدقاء..وأنا دايما في الخدمة والله..
رددتُ علية بدون اكتراث:
-إن شاء الله يحصل خير
مد لي يده وشد علي بحرارة وكأنه يأخذ مني عهدا أن أكون في المستوى!!
أخرج جدول أوقاتي من درج مكتبه:
-أنا اثق جدا في الإخوة التوانسة ولذلك سأكلفك بتدريس الثانية ثانوي،،أنت بالطبع درّست العروض قبل كده،،أجبته بالإيجاب بإشارة من رأسي..
-طيب ،،ممتاز،،تفضل معاي على فصلك..
تبعته إلى الفصل،،وقف جميع الطلبة عند دخولي،،طلبتُ منهم الجلوس ورحت أتجول بين المقاعد..
هذه المرة الأولى التي أدرس فيها فصلا يتألف من الذكور وحدهم،،كانوا يلبسون لباسهم الخليجي المعروف،،بعضهم بلحى وبعضهم بدون لحية،،ساد صمت ثقيل قبل أن اقطعه بتقديم نفسي لهم:
-فلان الفلاني من تونس سأكون مدرسكم في اللغة العربية،،
صاح أحدهم عاليا:تشرفنا ،،فأثار ضحك بعض زملائه،،ابتسمتُ بدوري قبل أن أواصل:
- شكرا،،أرجو أن نقضي معا سنة طيبة ،،
ثم وكما هو دأبي في أول كل سنة دراسية ،،سألت الطلبة بعض الأسئلة في الأدب العربي،والجغرافيا،وغيرها من ميادين المعرفةلأتبين مستواهم الثقافي ومدى إلمامهم بما يدور حولهم
وكم كان إحباطي رهيبا حين اكتشفتُ أن أحدا من طلبتي لم يطالع أبدا اي أثر من الأدب العربي القديم أو الحديث دعك من الأدب الأجنبي..وأنه لا يوجد منهم طالب واحد قادر أن يميز بين العصور الأدبية ،،
وأدهى من ذلك وامرّ أن طالبا واحدا أو طالبين فقط عرف عدد القارات في العالم،،بل إن أحدهم اعتبر مصر قارة ،،والآخر الهند ،،والآخر الصين،،
وقد اكتشفتُ بعد ذلك أن الطالب الخليجي لا يقرأ إلا الكتب الدينية،،بل إن زميلا خليجيا تساءل باستغراب مرة عندما رأى بين يدي كتابا في الفلسفة :أنت أستاذ لغة عربية ماذا تفعل بهذا الكتاب ،،وعندما حاولتُ أن اوضح له ماهية المثقف ،،ودور مختلف العلوم الإنسانية في تأسيس شخصيتنا ومعارفنا،،زم شفتيه وانصرف بعيدا دون أن يقتنع !!
وحين ناقشتُ الأمر مع أستاذ العلوم التونسي قال لي بالحرف الواحد:
-أنت لم تر شيئا بعد ،،انتظر بعض الوقت وستتذكرني..
من الحصة الأولى ،،اكتشفتُ أن هناك خللا ما ..خللا فظيعا،،إذ لا يعقل أن يكون مستوى طالب في
الثانية ثانوي هو بالضبط مستوى طالب في الإبتدائي في أي بلد آخر [أكتب هذا وأقسم أنني أقول الحقيقة
بكل تجرد وموضوعية ]..
كان ذلك اليوم هو يوم "السنوات الخمسة" وهو يوم لا يُنسى..
الطيب الجوادي