مشاهدة النسخة كاملة : ثورة اليائسين ...مقال رائع لا يفووووووووتك..


أ / محمود هيكل
05-09-2012, 07:45 AM
ثورة اليائسين





http://al-mashhad.com/Media/Writer/2012-634742725107055602-705_main.jpg

عبد الرازق أحمد الشاعر
استطاع السياسي والقائد العسكري الأبرز في تاريخ أثينا أن يحقق انتصارًا هائلًا على الفرس في موقعة "سلاميس" عام 480 قبل الميلاد.
وتمكن الرجل الداهية من تكوين جملة من التحالفات الإقليمية مكنت اليونان من بسط سيطرتها على البلدان المجاورة وفرض إتاوات باهظة على الدويلات التي لم تدخل طواعية في عصمتها.
لكن إحدى الجزر المغلوبة على جزيتها أعلنت عصيانها ذات يوم ورفضت دفع الجزية التي أثقلت كواهل أهلها وألبستهم ثياب الفقر والفاقة.
ولم يكن ثيمستوكليز الذي شرب كأس الغرور حتى الثمالة ليترك المتمردين على سلطانه دون قمع، فجهز أسطولا ضخما وقف على أطراف الجزيرة وأحاط بقوارب صياديها وآفاق ساكنيها.
ومن فوق إحدى السفن المغيرة أرسل الرجل رسالة تهديد إلى أبنائها: "إن لم يجبركم إله الإقناع، سيسحقكم إله البطش".. فرد عليه أبناء الجزيرة البواسل بما لديهم من رباطة جأش: "أما نحن فيدعمنا إلاهان: إله الفقر وإله اليأس".. قد يدفعنا غرور القوة إلى تجاوز مياهنا الإقليمية والتقدم نحو حصون الآخرين دون مراعاة لخطوطهم الحمراء أو أسلاكهم الشائكة، فتطأ أقدامنا كل القيم وتركل أحجار الأعراف، وتجوس أبصارنا خلال حرماتهم وتعبث أيادينا بخصوصياتهم ودفاترهم المخبأة فى طيات ثيابهم.
ونحاول تبرير تقدمنا نحوهم وسلب حرياتهم والتلصص على عورات نسائهم والعبث بمستقبل أبنائهم بمعاذير شتى.
فنتحايل على العقل بجملة من الأكاذيب والادعاءات الرخيصة حتى يذعن العقل لبخور التغييب، فننال بغيتنا ونرث أرضهم وديارهم ونسفه آراءهم ومعتقداتهم ونمحو من الخرائط حدودهم وخطوطهم الناتئة وعلاماتهم الحمراء.
فإذا فشلنا وتنازعنا الرؤى وتبادلنا الحجج، ووقفنا معهم موقف الأنداد، فلا مفر من إخراج كل الأسلحة واستخدام كل الضغوط لنكشف عن ساق القوة.
ويومها لن يكون من استخدام التهديد والوعيد بد، ولن نتورع عن استخدام البطش والسحل والقهر والنفي. وساعتها ستسبق أقدامنا شفاهنا، وتسبق رياح الفعل شفاهة الحروف.
فلأننا الأقوى، نستطيع كسر الجماجم التي لا تستوعب الخضوع وترفض الإذعان لمنطقنا المغلوط وفكرنا المعوج.. وبالسواعد والعصي يمكننا تقويم ما استبد من رءوس وتسوية الأكتاف في بلاط القهر.
لكن آلهة الإقناع تفشل دوما في تسيير الأمعاء الخاوية، وتعجز عن توريط أصحابها فى سراديب المنطق ولجج الفلسفة.
يمكننا أن نقنع ذوي الكروش المنتفخة والأحلام النائمة والإرادات العاجزة بما نريد من باطل، لكن كيف بالله نسيطر على حركات الأمعاء في ماسورة البدن ونخمد قرقرة البطن في غرفتها البالونية الضامرة؟ يمكننا أن نستبد بالأيدي الراعشة والقلوب الواجفة ونراهن على شواربنا المفتولة وارتفاعات صدورنا حين يتعلق الأمر بالرواتب والحوافز وأسعار المواد البترولية والحديد والأسمنت.
لكن كيف بالله نراهن على رفع نبرات أصواتنا أمام جيوش من الجوعى الذين لا يجدون ما يسد رمقهم أو يملأ بطون أطفالهم الزاغبة؟ يمكننا بالمنطق والشعوذة أن نسيطر على العقول الطامحة والرءوس المشرئبة والأعين المتطلعة نحو غد أفضل، ويمكننا استمالة أصحاب الهوى والرأي والفكر ببعض الرشى وبعض الأساليب المخابراتية التي آتت حتى الأمس القريب أكلها.
لكن كيف نسيطر على جيوش من البائسين اليائسين الذين وصلوا بالفقر حتى محطته الأخيرة ولم يعد في حصالة صبرهم زيادة لمستزيد؟ إن الرهان على المنطق والبطش أمام جيوش الفقراء الذين استبد بهم اليأس وفقدوا نضارة الأمل في أي طريق يوصلهم إلى أى غاية ضرب من القمار المحرم والعبث غير المبرر بمقود التاريخ.
فليراجع مسشارو الرئيس جداولهم في حدود ما تبقى لدى شعوبهم من صبر وأمل وما تبقى على موائدهم من طعام حتى يجد المنطق إلى رءوسهم المشحونة دومًا بالترقب، وتنجو البلاد من مؤامرات التقسيم والترسيم.