مشاهدة النسخة كاملة : سنوات الخداع - الدكتور محمد البرادعى
aymaan noor 22-09-2012, 11:18 PM سنوات الخداع - الحلقة الأولى
http://www.bqfp.com.qa/app/media/900
قرار أمريكا بالحرب ضد العراق اتُّخذ قبل أن تبدأ عمليات التفتيـــــــــــــش عن الأسلحة النووية بكثير
فى تقريرى إلى مجلس الأمن فى 27 يناير 2003 قلت «لم نجد حتى اليوم أى دليل على أن العراق قام بإحياء برنامج الأسلحة النووية الخاص به»
«ساعدونا على أن نساعدكم».
ابتسم الرجل الجالس على الجانب الآخر من المائدة، لكنى لم أقرأ فى تعبيرات وجهه أى سعادة. لقد انبسطت عيناه، وتهدل طرفا فمه. هل كان ذلك حزنا أم إرهاقا؟ لم أتبين ذلك تمامًا.
كنا فى التاسع من فبراير عام 2003. كان قد مضى أكثر من اثنى عشر عامًا منذ أصدر مجلس الأمن أول قراراته بفرض عقوبات على العراق. وبعد شهر أو نحوه سيكون هناك غزو جديد للعراق بقيادة الولايات المتحدة. وكان صدام حسين قد وافق مؤخرًا على عودة مفتشى الأمم المتحدة المختصين بالتفتيش على الأسلحة إلى العراق، بينما كنا («هانز بليكس» وأنا)، نقوم بصفتنا رئيسَى الفريقين الدوليَّيْن، بزيارتنا الثالثة إلى بغداد. وكانت تلك ليلتَنا الأخيرة فيها، حيث دعانا وزير الخارجية العراقى ناجى صبرى، إلى العشاء مع أهم مستشارينا ومجموعة من نظرائهم العراقيين.
كان المطعم الذى دُعينا إليه هو أرقى المطاعم التى لا تزال باقية فى المدينة، فقد تآكلت البنية الأساسية لبغداد حتى النخاع، على نحو أظهر ما أدت إليه العقوبات من آثار. ومع ذلك كان العَشاء أنيقا، والقائمون بالخدمة يتسمون باللياقة، ومفرش المائدة الأحمر غاية فى النظافة. وكان العَشاء حافلا بالأسماك المشوية التى يزخر بها نهر دجلة. وكانت أسياخ الكباب متبلة كأحسن ما يكون، وحفلت المائدة بما هو أكثر: النبيذ، وكانت تلك مفاجأة، ذلك أن قرارًا صدر فى سنة 1994 بمنع تناول الكحوليات فى الأماكن العامة فى العراق. لكن العراقيين رأوا استثناء هذه الليلة إكرامًا لضيوفهم القادمين من الخارج.
كان الرجل الجالس على الجانب الآخر من المائدة هو اللواء (الجنرال) عامر حمودى حسن السعدى كبير المستشارين العلميين لصدام حسين، وكانت رتبة «اللواء» هذه فخرية بالأساس. فهو مفاوض مهذب ذو كاريزما واضحة، يحمل درجة الدكتوراه فى الكيمياء الطبيعية ويتحدث الإنجليزية والعربية بنفس الطلاقة، كما أنه يفضّل الملابس المدنية عن الزى العسكرى. ورغم أنه لم يكن عضوًا فى حزب البعث فإنه كان الرجل العلمى الأول فى الحكومة العراقية.
اتجهنا («بليكس» وأنا)، بالحديث فى أثناء العشاء نحو موضوع حَرِج: الحاجة إلى مزيد من التعاون، ومزيد من الوثائق. قلنا لهم إنكم تُصرّون على أنه ليست لديكم أسلحة دمار شامل، وتقولون إنكم لم تعيدوا إحياء برامجكم السابقة فى هذا الصدد، ولكننا لا نستطيع أن نغلق هذا الملف هكذا ببساطة رغم أن سجلاتكم لم تكتمل. يلزمنا مزيد من الأدلة، وكلما أبديتم مزيدًا من الشفافية وقدمتم مزيدًا من الوثائق والأدلة المادية، كلما كان ذلك أفضل للعراق على الساحة الدولية. فما الذى تستطيعون تقديمه غير ما قدمتموه فعلا لسد الفجوة فى المعلومات المقدمة من جانبكم؟ «ساعدونا على أن نساعدكم».
كان الجالس إلى جانب السعدى هو حسام أمين رئيس مجموعة الاتصال العراقية مع الأمم المتحدة. وقد انحنى إلى الأمام مجيبا «دعونا نتحدث بصراحة. فبداية لا نستطيع أن نعطيكم المزيد، لأنه ليس هناك المزيد الذى يمكن أن نعطيه». واتجه بنظره إلى «بليكس» ثم عاد إلىّ. «وثانيا أنتم لا تستطيعون مساعدتنا لأن هذه الحرب ستقع لا محالة، وما من شىء يمكنكم أو يمكننا القيام به سيحول دون وقوعها. وكلانا يعرف ذلك. أيًّا ما كان ما نقوم به، فهذا أمر تم حسمه».
اعتدل فى مقعده، وأومأ السعدى برأسه ولم يقل شيئًا. ظل الحزن باديا فى ابتسامته. وبالرغم من وجهة نظر أمين هذه، فقد رفضتُ الاعتقاد بأن الحرب حتمية، فالوكالة الدولية للطاقة الذرية التى أرأسها، وهى الجهة المسؤولة فى الأمم المتحدة عن التفتيش على الأسلحة النووية، كانت تحرز تقدمًا ملموسًا. كان ذلك يشمل متابعة كل المعلومات التى توافينا بها جهات الاستخبارات، ولكننا لم نتوصل إلى شىء. وفى تقريرى إلى مجلس الأمن، الذى قدمته فى 27 يناير 2003، ذكرت ما يلى «إننا لم نجد حتى اليوم أى دليل على أن العراق قام بإحياء برنامج الأسلحة النووية الخاص به». وقد أثار هذا التصريح نقدًا شديدًا من جانب المسؤولين الغربيين وكبار الإعلاميين الذين أقنعوا أنفسهم بغير ذلك. لكن هؤلاء المنتقدين كانوا يُشيرون إلى ظروف احتمالية مثل: ماذا لو حدث هذا أو ذاك؟ ويعتبرونها أدلة. أما ما قلته أنا فكان هو الحقيقة.
ولم تكن الوكالة بعد فى وضع يسمح لها بإبراء ذمة العراق تمامًا. لكننى ألححت على المجلس أن يسمح لعمليات التفتيش أن تأخذ مسارها حتى النهاية. وقلت «إن بضعة أشهر أخرى ستمثل استثمارًا قيمًا فى سبيل السلام». فإذا كانت مبررات الحرب الاستباقية ضد العراق تعتمد على أن صدام حسين أعاد إحياء برامج أسلحة الدمار الشامل، فأين هو الدليل على ذلك؟ وأين هو التهديد المباشر؟ وإذا كان أمين يقول الحقيقة، وأنه لم يعد لدى العراق المزيد الذى يمكن أن تقدمه، فإن ما يعنيه ذلك بوضوح أنه لم يكن هناك أى تهديد.
وكان من المؤكد أن حربًا لا مبرر لها سوف تؤدى إلى انقسام خطير فى العلاقة المتعثرة أصلا بين أولئك الذين يملكون الأسلحة النووية وأولئك الذين لا يملكونها. فكلٌّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يملكان أسلحة نووية، ولم يبدِ منهما أى استعداد للتخلى عنها، ومع ذلك فإنهما يهددان العراق بحجة أنه يسعى للحصول على مثل هذه الأسلحة. وبالنسبة إلى كثيرين فى العالم النامى، وفى المجتمعات العربية والإسلامية بوجه خاص، كان ذلك مدعاة للسخرية ونوعًا من عدم الإنصاف الصارخ. كان صدام حسين يتمتع بشعبية نسبية بين الجمهور العربى لمواقفه تجاه معاملة إسرائيل للفلسطينيين، ولموقفه المتحدى للغرب. لم يكن محبوبًا بين الحكام العرب الذين يميل أكثرهم إلى الغرب، ولا سيما بعد غزو الكويت فى سنة 1990، ولكنهم شعروا مع ذلك بالغضب لمعاملة العراق بهذا القدر من الاستهانة بسيادته. ولو أن حربا وقعت فعلا، ولا سيما إذا كانت بسبب تضخيم الاتهامات بشأن أسلحة الدمار الشامل، فإن الشعور بالغضب عبر العالمَيْن العربى والإسلامى سيتصاعد بشدة.
ومع مرور الأسابيع واحدًا تلو الآخر، ورغم إيمانى الشديد بقيمة ودور عمليات التفتيش، كان شعورى بعدم الارتياح يتزايد. وكانت نبرة خطاب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تتزايد حدة. فقبل أربعة أيام فقط من عَشاء بغداد كان وزير الخارجية الأمريكى كولين باول، قد عرض الأمر على مجلس الأمن، وكان قد أذاع أشرطة لمحادثات هاتفية تم التنصت عليها، وعرض صورًا لمنشآت عراقية صورتْها الأقمار الاصطناعية، وأعلن أن هذه السجلات تدل على «أنماط غريبة من السلوك» من جانب صدام حسين ونظامه، وأنها «سياسة تهرب وخداع». وبالنسبة إلى جماعة المفتشين، كان العرض الذى قدمه باول تجميعا لافتراضات، ووصْفًا لبيانات لم يتم التحقق منها، وتم تفسيرها على أسوأ نحو. لم يكن هناك ما يثبت شيئًا مما يقال. ومع ذلك فإن كثيرًا من المستمعين، ولا سيما غير المتخصصين منهم، رأوا فى حجج «باول» ما يقنعهم.
خلال الأسابيع الستة التالية لم يكن بوسع أى تقدم فى عمليات التفتيش، أو فى الجهود الدبلوماسية، أن يسمح بتجنب الأزمة المحدقة. وأعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن الوثائق الأساسية للاستخبارات التى تدّعى الربط بين صدام حسين ومحاولة شراء اليورانيوم من النيجر مزيّفة. لكن هذا الكشف لم يكن له سوى أثر محدود. وبدلا من إيجاد حل أو مجرد موقف موحد، انتهى مؤتمر قمة عربى طارئ عُقد فى شرم الشيخ بغير نتيجة. كذلك أخفق اقتراح بريطانى قُدّم فى اللحظة الأخيرة فى تجنب العمليات العسكرية.
وفى وقت مبكر من صباح يوم 17 مارس تلقيتُ مكالمة من بعثة الولايات المتحدة فى فيينا تشير علينا بإخراج مفتشينا من بغداد.. كان الغزو على وشك أن يبدأ.
«إذا كان هناك خطر يخيّم على العالم فإنه خطر يتشاطر فيه الجميع، وبالمثل إذا كان هناك أمل يراود أمة واحدة فإن هذا الأمل يجب أن يتشاطر فيه الجميع». كانت تلك كلمات الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور، فى سنة 1953 فى خطابه عن «الذَّرّة من أجل السلام» الذى أسفر، بعد أربع سنوات، عن إنشاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كانت الرسالة التى تضمنها ذلك الخطاب رسالة غير عادية، جاءت فى خضم سباق متزايد للتسلح النووى، ووجهت إلى مجتمع دولى لم يكن قد نسى بعد ويلات الحرب العالمية.
ومفهوم أيزنهاور عن الذرة من أجل السلام ذلك المفهوم الذى يدعو إلى التعامل مع ما تحققه العلوم النووية من منافع ومن مخاطر على نحو يتعاون فيه جميع أعضاء المجتمع الدولى هو المبدأ الأساسى الذى ترتكز عليه الدبلوماسية النووية. وهو يكاد يعتبر التزاما عالميًّا بتعزيز التعاون التكنولوجى فى الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، وبالحيلولة دون انتشار الأسلحة النووية، وهو التزام مزدوج ينص عليه النظام الأساسى للوكالة الدولية للطاقة الذرية ومعاهدة 1970 الشهيرة بشأن حظر انتشار الأسلحة النووية.
وباعتبارى محاميًا مصريًّا شابًّا، وأستاذًا للقانون الدولى فى نيويورك فى أوائل الثمانينيات، شعرتُ بتجاوب مع مفهوم الذرة من أجل السلام. وقد التحقتُ بالوكالة الدولية للطاقة الذرية فى سنة 1984 وأصبحت مستشارًا قانونيًّا لها بعد ذلك بثلاث سنوات. وعندما وقعتْ حرب العراق فى 2003 كان قد مضى علىّ فى منصب المدير العام للوكالة خمس سنوات وعقدان تقريبا منذ التحاقى بها. وقد انخرطتُ فى مهام الوكالة فى مجال الدبلوماسية النووية، لذا فإن قيام حرب بسبب اتهامات لم تثبت بشأن أسلحة دمار شامل، وإبعاد الوكالة عن دورها فى مجال الدبلوماسية النووية، وجعْلها مجرد واجهة لإسباغ الشرعية، كان بالنسبة إلىّ تشويهًا فظيعًا لكل ما كنا ندافع عنه. كان ذلك يتعارض مع الجهود التى بذلها لمدة نصف قرن تقريبا علماء وقانونيون ومفتشون وموظفون عموميون مخلصون من جميع قارات العالم.. كنت مذهولا بما أشهد. والفكرة التى لم تترك رأسى هى تأكدى من أنه ما من شىء يكون «بليكس» أو أنا قد شاهدناه يمكن أن يبرر شنَّ مثل هذه الحرب.
وقد سلّم اللواء عامر السعدى شريكى الحزين فى حفل العشاء، نفسه إلى قوات الائتلاف فى 12 أبريل 2003، بعد أن علم أنه كان ترتيبه الثانى والثلاثين فى قائمة العراقيين المطلوبين، والورقة الرابحة فى أوراق الكوتشينة. وقد طلب إلى قناة «zdf» الألمانية أن تصور استسلامه. وفى حديثه من خلال الكاميرا قال إنه «ليس لدينا أسلحة دمار شامل والزمن كفيل بإثبات صحة ما أقول». كان واضحًا بالنسبة إلىّ عندئذ أن استنتاجنا الأولىّ بشأن الأسلحة النووية كان صحيحا لأنه لم يكن لدى السعدى فى هذا الوقت أى سبب للكذب.
وخلال السنوات التى انقضت أكدت مصادر عديدة أن المبرر الذى ذُكر للغزو الذى حدث فى مارس 2003، وهو ادعاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن برامج صدام لأسلحة الدمار الشامل تمثل خطرًا محدقًا لم يكن له أساس. بل إن المجموعة التى شكّلتها الولايات المتحدة لإجراء مسح فى العراق، وأنفقت عليها فى ما بعد مليارات الدولارات للتحقق من أن المفتشين الدوليين كانوا على حق، أكدت أن العراق لم يُعد العمل ببرامجه لأسلحة الدمار الشامل. كما أن التهديد المزعوم الذى تمثله هذه الأسلحة لم يكن هو الدافع الحقيقى للعدوان الذى قامت به الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وكانت مذكرة «داوننج ستريت» الشهيرة المؤرخة فى يوليو 2002، التى تم تسريبها فى ما بعد، مصدرًا من المصادر التى أفادت أن قرار المضى فى الحرب كان قد اتُخذ حتى من قبل أن تبدأ عمليات التفتيش بكثير.
وليس بمقدورى، حتى يومنا هذا أن أقرأ مثل هذا الكلام دون أن ينصرف ذهنى للتفكير فى الآلاف من الجنود الذين لقوا حتفهم، ومئات الآلاف من العراقيين المدنيين الذين قُتلوا، وملايين المصابين أو النازحين، والأسر التى تفككت والأرواح التى أزهقت، كما أدهش لأنه لم يحدث المزيد من نقد الذات والمزيد من محاسبة النفس من جانب اللاعبين الرئيسيين. والعار الذى جلبته هذه الحرب التى لم يكن لها أى داعٍ يفرض علينا جميعا البحث فى ما جرى من خطأ فى شأن العراق، وكيف يمكن الانتفاع من دروس هذه المأساة فى الأزمات التى قد تقع مستقبلا.
إن التوترات التى يشهدها العالم اليوم حول التطورات النووية، ولا سيما فى ما يتعلق بإيران، تدل على أننا يمكن رغم كل شىء أن نكرر كارثة العراق بما ينطوى عليه ذلك من تداعيات أشد خطورة على أمن العالم، فعندما أنظر إلى التحديات التى لا تزال تواجهنا، فإننى كثيرًا ما أعود إلى مشهد عشائنا فى بغداد فى فبراير 2003، لأنه يجسد الجوانب الأساسية للمأزق الذى نواجهه كمجتمع دولى يبحث عن الأمن الجماعى والدائم: انعدام الثقة بين الثقافات المختلفة، والآثار الضارة لنظام طال أمده يضم مَن يملكون السلاح النووى ومَن لا يملكون، وجنون سياسة شفا الهاوية النووية، وحتمية الفناء إذا لم نستطع أن نتعلم من أخطائنا الماضية. ولمشهد هذا العشاء أهمية كذلك بسبب غياب اللاعبين الأساسيين عنه، أى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللذين كانت قراراتهما ستحدد النتائج. وقد أصبح غيابهم متكررًا فى السنوات التالية وبوجه خاص بالنسبة إلى إيران، فالولايات المتحدة تلقى بظلالها على المفاوضات عن بُعد، وتبلور نتيجتها، بينما هى ترفض المشاركة المباشرة، برغم أن الدبلوماسية النووية عملية تتطلب الانخراط المباشر فيها، وتتطلب ضبط النفس والتزامًا طويل المدى. إنها لا يمكن أن تتم عن بُعد بواسطة الـ«ريموت كنترول». وإذا كان للحوار أن يقوم بدوره كأداة لتسوية التوترات التى يثيرها الانتشار النووى فإنه لا يمكن أن يقتصر على محادثة بين المفتشين والدولة المتهمة، بل يجب أن تنخرط الولايات المتحدة وحلفاؤها فى المناقشة بصورة صادقة، وأن تتحدث إلى مَن تتصور أنهم خصومها، وأن تبرهن بأكثر من مجرد الكلام على التزامها بحل سلمى للتوترات الكامنة. فجميع الأطراف يجب أن تأتى إلى مائدة المفاوضات.
لم يكن عشاء بغداد الذى أطلق عليه بعض زملائى ساخرين «العشاء الأخير» إلا واحدًا من الأزمات المتعددة التى أخذت فى الظهور فى أوائل عام 2003. كانت كوريا الشمالية قد طردت لتوها مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذين يراقبون «تجميد» منشآتها النووية، وأعلنت عزمها على الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما أننا كنا قد بدأنا اختبار المدى الذى وصل إليه البرنامج النووى الإيرانى، وكنت على وشك القيام، مع عدد من زملائى، بزيارتى الأولى لمنشأة للتخصيب النووى التى يجرى بناؤها بالقرب من «ناتانز» فى إيران. وكانت ليبيا تتهيأ لمفاتحة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة فى شأن تفكيك برنامجها لأسلحة الدمار الشامل. وكان أول الملامح العامة لشبكة مبهمة للإمدادات النووية قد أخذ فى الظهور، وهو الذى وجَدْنا من بعد آثارا لنشاطها فى أكثر من ثلاثين دولة.
ولدينا الآن معلومات أكثر، بل أكثر كثيرًا، عن كل هذه الحالات للانتشار الفعلى أو المحتمل للأسلحة النووية. ولا تزال الظروف فى إيران وكوريا الشمالية بوجه خاص غامضة وغير قابلة للتوقع. إننا ما زلنا نفتقر إلى منهج عملى تفاعلى للتعامل مع هذه الحالات أو ما يطرأ من مثلها فى المستقبل. إن ما نحتاج إليه هو الالتزام بالدبلوماسية النووية.
تمثل العصر النووى الأول فى سباق نحو امتلاك القنبلة الذرية. كان ذلك سباقًا بين عدد قليل نسبيًّا من البلدان التى إما أنها كانت تمتلك التقدم التكنولوجى اللازم لذلك، وإما أنها كانت قادرة على أن تحصل سرًّا على العلوم التى تسمح لها بصنع سلاح نووى. وكانت ذروة هذا السباق، أى تدمير هيروشيما ونجازاكى، هى التى جعلت من الولايات المتحدة الفائزة فى هذا السباق. لكن المتسابقين الآخرين لم يتخلوا عن مساعيهم، فخلال بضع سنوات تمكنت أربع دول أخرى من الحصول على القنبلة الذرية.
إن ما نسميه الحرب الباردة كان بمثابة العصر النووى الثانى. فبينما امتلكت عدة دول أسلحة نووية، وواصلت غيرها السعى للحصول على التكنولوجيا النووية، فإن هذا العصر تميز بوجود عملاقين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، اللذين كانا يجمعان عشرات الألوف من الرؤوس النووية، فى ظل فلسفة عُرفت بـ«mad»، أى التدمير المتبادل المؤكد، كما عُرفت باسم مُقنّع هو «الردع النووى».
وبزغ فجر العصر النووى الثالث، العصر الحالى، عقب تفتت الاتحاد السوفييتى. وقد أخفقت الجماعة السياسية، فى ظل فراغ القوى الذى أعقب ذلك، فى الاستفادة من الفرص المتاحة من أجل نزع السلاح النووى. ونتيجة لذلك تزايد عدد الدول التى بدأت تبحث عن برنامج سرى.. إن لم يكن للحصول على السلاح النووى، فعلى الأقل على دورة كاملة للوقود النووى التى تجعلها قادرة على إنتاج سلاح نووى بسرعة إذا تطلب وضعها الأمنى ذلك.
والخطر الأول فى الوقت الراهن ليس سيناريو «mad» (التدمير المتبادل المؤكد)، أى الإفراغ المتبادل للترسانات النووية الذى يمكن أن يؤدى إلى تدمير المراكز الكبرى للرأسمالية والشيوعية معًا، بل التهديد الناجم عن أعمال حربية ذرية غير متماثلة، أى حصول جماعات متطرفة أو دولة مارقة يرأسها ديكتاتور عدوانى النزعة على أسلحة نووية واستخدامها، أو استخدام سلاح نووى من جانب دولة كبرى ضد دولة غير نووية.
هذا وضع غير مستقر بطبيعته، كما أن التطورات التى شهدتها الأعوام الأخيرة ضاعفت من حالة عدم الاستقرار تلك. فقد شهدنا عدوانا، حيث لم يكن هناك تهديد محدق (فى العراق)، وتكاسلا وترددًا، حيث ظهر خطر حقيقى (فى كوريا الشمالية)، وجمودًا طال أمده مقرونا بالشتائم والمواقف العلنية بدلا من الحوار الحقيقى (فى حالة إيران). وفى هذا السياق اكتشفنا شبكة نووية غير مشروعة ومزدهرة على استعداد لتزويد الغير ببرامج نووية خفية. وفى الوقت نفسه استمرت بعض الدول فى الاعتماد على الأسلحة النووية مما يشكل حافزا مستمرًّا لغيرها على اكتسابها.
وتعنى حالة عدم الاستقرار هذه أننا فى نهايات العصر النووى الثالث، وأننا بطريقة أو بأخرى أمام مطلع تغيير كبير. فإذا لم نفعل شيئًا، إبقاء على الوضع الراهن لمن يملكون ومَن لا يملكون الإمكانيات النووية، فإنه من المرجح أن يتخذ التغيير شكل تدافع حقيقى نحو الانتشار، وربما -وهو الأسوأ بكثير- يتخذ شكل سلسلة من الاستخدامات المتبادلة للأسلحة النووية. والمؤشرات قد ظهرت فعلا فى شكل ردود فعل الدول المجاورة كلما ظهر أن هناك تهديدًا نوويًّا سواء كان حقيقيًّا أم محتملا. إن تزايد عدد دول الشرق الأوسط التى أصبحت تتحدث عن التكنولوجيا والخبرة النووية أو بدأت فى الحصول عليها إنما هو مجرد مثال على ذلك. كما أن ما يقوله عدد من كبار المسؤولين اليابانيين حول بدء المناقشات بشأن برنامج للتسلح النووى ردًّا على التجربة الأولى لكوريا الشمالية لسلاحها النووى، إنما هو مثال آخر.
ومع ذلك فهناك بديل آخر، وهو أن نغير المسار وأن نتبع نهجًا مغايرًا: حل مسألة عدم التماثل من خلال تقدم حقيقى نحو نزع السلاح النووى فى العالم، فالمسارات التى يمكن أن تؤدى بنا إلى مستقبل أكثر أمنًا تتمثل فى إبرام معاهدة جديدة بين عمالقة السلاح النووى لتخفيضه، يتبعها إنشاء منتدى تبدأ فيه الدول التى تملك الأسلحة النووية فى الاضطلاع بمسؤولياتها بشأن ضرورة نزع سلاحها النووى. وإذا كنا نستطيع أن نتعلم من دروس الماضى القريب، وأن نواجه الخطر الحقيقى الذى ينتظرنا، فقد نتمكن من تفادى الفناء المتبادل، وأن نضمن أن يتسم فجر العصر النووى الرابع بحلٍّ للتوترات النووية، وبالتخلص من السلاح النووى، وبسلام دائم.
aymaan noor 22-09-2012, 11:28 PM سنوات الخداع - الحلقة الثانية
http://1.bp.blogspot.com/-eZjA1hz5nK4/UFbqbxX5yRI/AAAAAAAAAJ4/k6ohTjGUZQs/s1600/581412_389827974423764_21830161_n.jpg
يتطلب تقدير المشهد النووى فى 2003 العودة إلى أوائل التسعينيات عندما تم الكشف عن برنامجين نوويين سريين، أولًا: برنامج صدام حسين السرى لتطوير أسلحة نووية، الذى اكتُشف فى أعقاب حرب الخليج سنة 1991، وثانيًا: برنامج كوريا الشمالية لتحويل البلوتونيوم وإخفاء المنشآت النووية، والذى كشفت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى العام التالى.
وبالنسبة إلى العراق كان ما تعرفه الوكالة عن برنامجها النووى عند بداية حرب الخليج الأولى مقصورًا على مركز البحوث النووية فى «التويثة» الذى يقع على مسافة قريبة جنوب شرق بغداد. وكان العراق قد أعلن للوكالة عن مفاعلين بحثيين يقعان فى «التويثة»، وكذلك معمل صغير لصنع الوقود ومنشأة للتخزين. وكانت الوكالة تقوم بالتفتيش على هذه المنشآت مرتين كل عام للتحقق من أن أيًّا من المواد النووية المعلنة لم يتحول من الاستخدام السلمى إلى صنع الأسلحة.
وفى أعقاب الحرب وجد مفتشو الوكالة دلائل على أنشطة نووية أخرى فى «التويثة» وسلسلة من المواقع الخفية الأخرى فى أنحاء البلاد لم يتم الإبلاغ عنها. وقد وُجِّه اللوم حينئذ إلى الوكالة لعدم اكتشافها هذه الجوانب الخفية من برنامج العراق النووى قبل ذلك. لكن هذا اللوم كان يرجع فى معظمه إلى الصلاحيات المحددة للتفتيش المقررة للوكالة، والتى كانت مقصورة على التحقق مما أعلنت الدولة عنه. باستثناء سلطة محدودة وآليات قليلة للبحث عن المواد والمنشآت التى قد تكون غير معلنة.
وإذا كانت صلاحيات التحقق فى هذا الوقت تبدو ساذجة للغاية، فإنها كانت كذلك فعلًا، فبالنسبة إلى الأنظمة التى اختارت أن تُخفى أنشطتها غير المشروعة، كانت الوكالة فى نظرها بمثابة الشرطى الذى يمكن خداعه، ومع ذلك تكاثرت الأسئلة: لماذا لم تواجه الوكالة العراقيين لعدم اكتمال إقرارهم؟ لماذا لم تطلب الوكالة إجراء عمليات تفتيش خاصة؟ كيف أن الوكالة لم تنتبه إلى طموحات العراق النووية الأوسع نطاقًا؟
ولهذه الأسئلة إجابات جيدة، فبالإضافة إلى مسألة سلطات الوكالة المحدودة، لم تكن هناك معلومات مخابراتية كافية فى ذلك الوقت حول البرامج النووية الخفية للعراق أو إذا كانت موجودة، فإنه لم يتم إبلاغ الوكالة بها. على أن الفهم الصحيح للوضع يتطلب معرفة أمور أخرى كذلك: 1- بضع نقاط تتعلق بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، التى تستمد منها الوكالة الكثير من صلاحيات التحقق الموكولة إليها. 2- عرض مبسط لدورة الوقود النووى، وذلك لتصحيح مفهوم أو مفهومين خاطئين شائعين.
دخلت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية حيز النفاذ فى سنة 1970. وعلى الرغم من عيوبها الكثيرة، فإنها من أكثر المعاهدات التى انضمت الدول إليها فى التاريخ. فبنهاية سنة 2010 بلغ عدد الدول الأطراف فيها 198 دولة، بينما لم ينضم إليها ثلاث دول فقط، هى الهند وباكستان وإسرائيل، وانسحبت منها كوريا الشمالية بعد انضمامها.
وترتكز معاهدة حظر الانتشار على ثلاثة مبادئ اتفقت عليها الدول الأطراف، وتمثل هذه المبادئ الثلاثة معًا حالة دقيقة من التوازن.
فأولًا: تتعهد الدول الأعضاء التى لا تمتلك أسلحة نووية، والمعروفة بالدول غير النووية، بأن لا تسعى للحصول على مثل هذه الأسلحة أو تطويرها. وتلتزم كل من هذه الدول بإبرام اتفاق ثنائى ملزم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يطلق عليه اتفاق الضمانات الشاملة. وبموجب هذا الاتفاق تَعِد الدولة بوضع كل المواد النووية التى تمتلكها فى إطار نظام ضمانات الوكالة، وذلك للتأكد من خلال التفتيش الفعلى وإجراءات دقيقة للمحاسبة من أن المواد لن تُحوّل للاستخدام فى الأسلحة النووية. ويعطى اتفاق الضمانات للوكالة سلطة التحقق من «امتثال» الدولة لذلك.
وثانيًا: فإن جميع الدول الأطراف فى المعاهدة تتعهد بإجراء مفاوضات بـ«حُسن نية» من شأنها أن تؤدى إلى نزع السلاح النووى. ويشمل ذلك تحديدًا الدول الخمس التى تقر المعاهدة بأنها تمتلك أسلحة نووية، وهى: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، التى يطلق عليها الدول المالكة للسلاح النووى. وتتعهد هذه الدول كذلك بأن لا تساعد الدول غير النووية على الحصول على أسلحة نووية.
وثالثًا: يوافق جميع أطراف المعاهدة على تسهيل استخدام الطاقة النووية فى الأغراض السلمية فى جميع الدول الأعضاء، مع الاهتمام بوجه خاص باحتياجات الدول النامية. ويشمل ذلك تبادل المعدات والمواد والمعلومات العلمية والتكنولوجية ذات الصلة.
هناك مثالب كثيرة فى المعاهدة، فهى، كما سبق أن أوضحت، ضعيفة من حيث التطبيق: فلم يكن ينتظر من الوكالة، طوال عدة عقود سوى التفتيش أو التحقق مما تعلن عنه الدول الأطراف فى المعاهدة. بل إن الجوانب المتعلقة بنزع السلاح فيها أكثر ضعفًا: فليست هناك آلية للتحقق من التقدم الذى تعهدت الأطراف بتحقيقه فى شأن مفاوضات نزع السلاح، وليس هناك جهاز محدد للإشراف، ولا جزاء على عدم الامتثال. وأخيرًا فإن المعاهدة تنطوى على تناقض ظاهر: فامتثال الدول الأطراف للشق الثالث من الصفقة تسهيل تبادل المعدات والمواد والمعلومات النووية للأغراض السلمية يعنى قيامها فى الوقت نفسه بزيادة قدرات الدول غير النووية على السعى للحصول على أسلحة نووية إذا ما أرادوا، وبصفة خاصة إذا دخل فى ذلك بعض تكنولوجيات دورة الوقود النووى.
ويرجع هذا المأزق إلى الإمكانية المزدوجة التى تنطوى عليها العلوم والتكنولوجيا النووية، والتى هى من صميم الدبلوماسية النووية. فالعلوم النووية مثال واضح للحيرة التقليدية. فالمجتمعات البشرية تستطيع أن تستخدم تقدمها التكنولوجى إما للخير وإما للشر. وسواء أسفر الاستخدام النهائى عن السحابة التى تنتج عن التفجير النووى أم عن نظير مشع لعلاج السرطان، فإن جانبًا كبيرًا من العلوم والتكنولوجيات التى تؤدى إلى أى من الأمرين متماثلة. فالقصد فقط هو الذى يختلف: هل ستستخدم المعرفة النووية المكتسبة من أجل العدوان العسكرى والتدمير واسع النطاق؟ أم من أجل تحقيق المنافع النووية التى أصبح أبناء البلدان المتقدمة يعتبرونها أمرًا مفروغًا منه مثل الطاقة والطب أو زيادة الإنتاجية الزراعية ومكافحة الآفات، واستخدام المياه الجوفية أو الاختبارات الصناعية؟ فإذا كان حصول المزيد من الدول على الأسلحة النووية أمرًا غير مقبول فإن إنكار حقها فى استخدام العلوم النووية للأغراض السلمية أمر لا مبرر له على الإطلاق، وكان يمكن أن يؤدى إلى عدم إبرام معاهدة حظر انتشار الأسلحة أصلًا.
نتناول الآن دورة الوقود النووى. فمصطلحات مثل التخصيب، وتحويل اليورانيوم، وفصل البلوتونيوم، أصبحت عبارات شائعة من خلال ظهورها فى مقالات صحفية ووثائق متعلقة بالسياسات. ومع ذلك فإننى كثيرًا ما أجد أن هناك سوء فهم لطبيعة هذه العمليات النووية والغرض منها ومدى مشروعيتها. وحتى نفهم المصالح التى ترتبط بالدبلوماسية النووية، لا بد لغير المتخصص أن يكون لديه فهم أولىُّ لدورة الوقود الشاملة وأجزائها التى تساعد على انتشار الأسلحة النووية.
ومع ذلك فإن من الخطر، حتى بالنسبة إلى أكثر القانونيين إلمامًا بالموضوع، الإسهاب فى الحديث عن التكنولوجيات النووية، ومن ثم فإننى سأقتصر فى شرحى لدورة الوقود النووى على سلسلة بسيطة من الخطوات.
1- التعدين: يستخرج اليورانيوم من باطن الأرض. ونظرًا لأنه موجود فى الطبيعة فإنه يتكون أساسًا من نظير اليورانيوم 238 الذى يحتوى على حوالى 0.7% من يورانيوم 235، وهو مادة انشطارية، أى أنه يستطيع تحمل سلسلة التفاعلات النووية:
2- الطحن: تتم معالجة الخام بطحنه وتبييضه كيميائيًّا لإنتاج «الكعكة الصفراء» التى تحتوى على مركزات اليورانيوم.
3- التحويل: يتم تحويل «الكعكة الصفراء» بواسطة سلسلة من العمليات الكيميائية، إلى غاز هيكسا فلورايد اليورانيوم «uf6»، وهو مادة التلقيم التى تغذى بها أجهزة الطرد المركزى لإجراء التخصيب. ويظل هذا الغاز فى تلك المرحلة يعتبر «يورانيوم طبيعى» لأن نسب تركيز اليورانيوم 238 واليورانيوم 235 لم تتغير.
4- التخصيب: مع تلقيم أجهزة الطرد المركزى بغاز «uf6» يتزايد تركيز اليورانيوم 235 وينخفض بذلك تركيز اليورانيوم 238 بالقدر نفسه، ويؤدى التخصيب إلى جعل اليورانيوم أكثر قدرة على توليد الطاقة النووية.
5- تصنيع الوقود: يحوّل اليورانيوم المخصب إلى مسحوق ثم يحوّل إلى كريات فخارية توضع فى قضبان الوقود التى تنظم بعد ذلك فى مجمعات وقود يزود بها قلب المفاعل بالطاقة.
6- التخزين: بعد استخدامه فى المفاعل، فإن الوقود النووى المستنفد الذى أصبح فى معظمه الآن يورانيوم 238 ولا يكفى ما تبقى به من يورانيوم 235 لتحمل التفاعلات فإنه يتم تخزينه عادة فى ما يعرف بـ«حوض الوقود الناضب». ويحتوى الوقود المستنفد كذلك على حوالى 1% من البلوتونيوم الانشطارى الذى ينشأ كمنتج ثانوى فى المفاعل.
7- إعادة المعالجة: نظرًا لأن نسبة قليلة من الطاقة النووية هى التى تستخدم فى دورة مفاعل عادى، فإن بعض الدول تعيد تجهيز الوقود المستنفد بأن تستخلص منه (أو تفصل) اليورانيوم والبلوتونيوم لإعادة استخدامه.
وتشبه أجهزة الطرد المركزى الغازية المستخدمة فى تخصيب اليورانيوم أسطوانة معدنية طويلة ونحيفة تتصل بها مداخل ومخارج الأنابيب، وهى تدور بسرعات عالية للغاية، بأكثر من 20 ألف لفة فى الدقيقة، أى بسرعة تكفى لفصل ذرات اليورانيوم 238، التى يزيد وزنها بثلاث نويدات على اليورانيوم 235، بحيث تنتقل إلى خارج الأنبوب، وتنفصل عنه مع خروجها. وعندما توضع أجهزة الطرد المركزى متجاورة فى صف أو فى شكل متتابع، ينتقل غاز الـ«uf6» من جهاز إلى آخر ويتم تخصيبه تدريجيًّا بحيث تزيد فيه نسبة اليورانيوم 235. ونظرًا لأن اليورانيوم 235 لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من اليورانيوم الطبيعى، فإن إنتاج كمية قليلة جدًّا منه يتطلب كمية كبيرة للغاية من مادة التلقيم. ويقتضى ذلك أن تدور أجهزة الطرد المركزى معها أسابيع وشهورًا، مما يعنى أنه ليس من السهل تصميمها أو بناؤها، وأنها تصنع من مواد خاصة يمكنها أن تتحمل هذا الإجهاد.
وتحتاج معظم مفاعلات الماء الخفيف، التى تستخدم الوقود النووى لتوليد الكهرباء، يورانيوم مخصب بنسبة 3.5% باليورانيوم 235. ويقصد بـ«اليورانيوم عالى التخصيب» أى مستوى من التخصيب يتجاوز 20%. واليورانيوم المخصب بنسبة 90% أو أكثر يعتبر عادة خاصًّا بالسلاح. ومع ذلك فإن كثيرًا من المفاعلات البحثية فى العالم تستخدم وقود يورانيوم مخصبًا بنسبة 90% للأغراض السلمية مثل إنتاج النظائر الطبية.
وعلى خلاف المفهوم الخاطئ الشائع فإن الخطوات من 1 إلى 7 كلها عناصر فى دورة سلمية للوقود النووى. وعلى الرغم مما يفهم أحيانًا من الصحف فإن تخصيب اليورانيوم (أو فى هذه الحالة فصل البلوتونيوم) لا يدل بالضرورة على العزم على صنع أسلحة نووية. وما دام البلوتونيوم واليورانيوم عالى التخصيب هما المادتان النوويتان اللتان يمكن استخدامهما بشكل مباشر فى الأسلحة النووية، فإن الجانبين اللذَيْن يتسمان بأكبر قدر من الحساسية، من منظور الانتشار، فى دورة الوقود هما بالتالى إعادة المعالجة، التى يفصل فيها البلوتونيوم، والتخصيب الذى يمكن فيه الوصول إلى يورانيوم عالى التخصيب. لكن المادتين يمكن استخدامهما فى وقود المفاعل لتوليد الكهرباء. ومن ثَم فإن أيًّا من عمليات الوقود النووى هذه لا يعتبر غير قانونى، وتندرج كلها ضمن حقوق أى طرف فى معاهدة حظر الانتشار. هناك بطبيعة الحال بعض النقاط التى يجب أخذها فى الحسبان: فالمنشآت والأنشطة ذات الصلة يجب أن تكون «مُعلنة» أو تم إبلاغ الوكالة بها، كما أن الضمانات يجب أن تطبق للتحقق من أن المادة النووية المستخدمة تم حسابها، ومن أنها لم تحول إلى الاستخدام فى الأسلحة.
هناك اثنتا عشرة دولة تقريبًا لديها عمليات يعتد بها لدورة الوقود النووى، لذا فإن عددًا معقولًا من الدول غير النووية لديها مخزونات من البلوتونيوم (الذى تم فصله من إعادة معالجة الوقود النووى المستنفد)، أو اليورانيوم عالى التخصيب والذى يكون جاهزًا للاستخدام فى برنامج للأسلحة النووية. ومع تزايد عدد البلدان الصناعية وانتشار المعرفة النووية فإن من المرجح أن مزيدًا من الحكومات ستنظر فى المزايا الاقتصادية والاستراتيجية وغيرها من المزايا التى يتيحها امتلاك دورة الوقود النووى.
وهنا مربط الفرس، ذلك أن اتساع نطاق التكنولوجيا النووية يكون مصحوبًا بخطر انتشار متزايد، ومن هنا فإن الدول التى تمتلك بالفعل دورة وقود نووى لا تكون راغبة فى التخلى عنها، كما أنها تفضل عدم حصول دول أخرى عليها. والذين لا يملكونها يستاؤون من هذا الوضع. على أنه وفقًا للتوازن الذى تمثله صفقة معاهدة حظر الانتشار فإن الذين يملكون معرفة وتكنولوجيا نووية سلمية ملزمون بتقاسمها معهم. وأكثر ما يستاء منه الذين لا يملكون هو أن الدول المالكة للأسلحة النووية لم تقم بدورها فى هذه الصفقة، أى أن تتفاوض بـ«حسن نية» و«فى وقت مبكر» من أجل نزع السلاح النووى. فالمالكون يتمتعون بوضع قد تتوق إليه دول أخرى ما دامت الأسلحة النووية أصبحت مرادفًا للقوة والنفوذ السياسيين وضمانًا ضد عدم التعرض للهجوم.
وأخيرًا فإن ظهور أول برنامج نووى سرى فى العراق وكوريا الشمالية فى أوائل التسعينيات ربما لم يكن ينبغى أن يكون مفاجأة، فبانتهاء الحرب الباردة لم يعد من الممكن الاعتماد على توازن القوى بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة للحفاظ على سلام نسبى. من المفهوم إذن أن تشعر بعض البلدان التى لا تتمتع صراحة بحماية «مظلة نووية»، كتلك التى يتمتع بها أعضاء الناتو وغيرهم من حلفاء الولايات المتحدة، بشعور متزايد بعدم الأمن. وفى ضوء هذا فأية وسيلة أفضل لها من تطوير الأسلحة النووية سرًّا؟
كان ذلك هو السياق الذى اكتشف فيه البرنامج النووى للعراق فى نهاية حرب الخليج فى سنة 1991. وبينما أشارت الولايات المتحدة إلى تطلعات العراق النووية كأحد أسباب التدخل العسكرى. فالواقع أن ما كان معروفًا عن قدرات العراق النووية الفعلية قبل الحرب كان ضئيلًا. ويبدو أن بعض رجال المخابرات الأمريكية كانوا يفترضون أن لدى العراق تطلعات للحصول على أسلحة نووية بناء على مؤشرات من بينها محاولات العراق الحصول على المكونات اللازمة للتخصيب النووى وتكنولوجيات نووية أخرى من عدد من الدول الأوروبية. على أن أيًّا من هذه المعلومات لم يقدم للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وخلال الشهر أو الشهرين السابقين للحرب بدأ عدد من المنافذ الإعلامية نشر تقارير صريحة دون أن يكون هناك دليل عليها عن قدرات نووية عراقية محددة. ولعل أفضل مؤشر على محدودية الاستخبارات الغربية قبل الحرب هو ما قيل من أن الولايات المتحدة قد وضعت على قائمة المواقع المستهدفة بالقصف موقعين نويين فقط، بينما أسفر التفتيش بواسطة الوكالة بعد الحرب عن التعرف على ثمانية عشر موقعًا نوويًّا. والواقع أن غزو صدام حسين واحتلاله الكويت كان هو المبرر الأساسى للغزو الذى قام به الائتلاف، والذى قادته الولايات المتحدة.
وفى 3 أبريل 1991، أى بعد أقل من شهرين من انتهاء الحرب، وضع مجلس الأمن مجموعة من الشروط القاسية التى كان على العراق الامتثال لها. وكان ذلك يشمل بطبيعة الحال التزامات مثل احترام الحدود بين العراق والكويت، وإعادة الممتلكات الكويتية، وتعويض الكويت عن الإصابات والأضرار والخسائر التى أصابتها. لكن جانبًا كبيرًا من القرار خُصص لطلب المجلس أن يتخلص العراق من أسلحة الدمار الشامل.
وفى المجال النووى دعا القرار (687) العراق إلى أن يعلن صراحة عن كل منشآته النووية وما يوجد لديه من مواد تستخدم فى صنع الأسلحة النووية. وطلب القرار إلى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية القيام بعمليات تفتيش فورية بناء على الإقرارات التى يقدمها العراق، وأن يضع خطة لتدمير أى قدرات نووية ذات صلة بالأسلحة وإخلاء العراق منها خلال خمسة وأربعين يومًا. وأنشأ القرار كذلك اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة «unscom» التى كُلفت بمهمة مماثلة تتعلق ببرنامج العراق للأسلحة البيولوجية والكيماوية ونظم صواريخ الإطلاق بعيدة المدى.
وأعطيت الوكالة واللجنة الخاصة سلطة مطلقة للقيام بمهمتهما «فى أى وقت وأى مكان» للبحث عن برامج العراق لأسلحة الدمار الشامل والقضاء عليها. وكان ذلك يبدو، فى نظر المفتش حلمًا. لكنه تحقق فقط لأن العراق كان قد تعرض لهزيمة عسكرية قاسية، وما من دولة كانت لتقبل مثل هذه الشروط فى ظل ظروف أخرى.
وصل أول فريق تفتيش تابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، برئاسة كبير المفتشين «ديمتريوس بيريكوس»، إلى بغداد فى 14 مايو 1991 وتوجه مباشرة إلى الموقع النووى فى «التويثة». وكانت الصور التى تم التقاطها من الجو تدعو الفريق إلى توقع مشهد دمار فى أعقاب حرب الخليج. وبالفعل كانت كل المبانى الكبيرة فى «التويثة» قد أصيبت إصابة مباشرة من جراء القصف.
وكان الهدف الأول للمفتشين تحديد موقع وقود اليورانيوم عالى التخصيب المخصص للمفاعلين البحثيين وتأمينه. وكان الخبراء الفنيون العراقيون حريصين على المساعدة. ووسط دهشة المفتشين اتضح أن الوقود المشع قد نقل فى ذروة القصف، حسبما ذكر العراقيون، وكانوا قد أعادوا دفنه فى حفر أسمنتية تم بناؤها على عجل، وبغير أى ملامح فى أرض زراعية فى منطقة جرف النداف المجاورة، وذلك تفاديًا لتدمير الوقود وتناثر الإشعاع. وتمكن المفتشون، بمساعدة من العراقيين، من تحديد الموقع مباشرة وبدء التحقق من كل المواد النووية الجارى البحث عنها تقريبًا، وذلك بناء على الجرد الذى كان قد أُعد قبل الحرب.
على أن تحقيق الهدف الأساسى الثانى الكشف عن أية أنشطة نووية لم يسبق الإعلان عنها اكتنفه تعقيدات أكثر بكثير. فقد اتضح، بالإضافة إلى الدمار الذى أحدثه القصف، أن العراقيين أنفسهم قاموا بتفكيك الأبنية، حيث بدا بعضها وكأن المعدات قد انتُزعت منه. وكانت هناك مؤشرات على أن سجلات التشغيل وغيرها من الوثائق قد أُحرقت. كان من الصعب إذن التحقق من أغراض منشآت «التويثة» التى لم يسبق التفتيش عليها بمعرفة الوكالة من قبل.
وقد أُبديت نفس الملاحظات بالنسبة إلى موقع آخر شمال بغداد فى «طارمية» الذى تردد أنه تجرى به أنشطة نووية. ذكر العراقيون أن منشآت «طارمية» تستخدم لصنع محولات كهربائية. لكن فريق الوكالة رأى أن هذا التفسير لا يتفق مع بعض الوقائع مثل الأحمال الكهربائية الهائلة التى كانت «طارمية» تستهلكها، وكذلك حجم وترتيب معدات توزيع الكهرباء فيها، وعندما تم توضيح هذا التباين لم يتمكن العراقيون، أو لم يرغبوا، فى تقديم تفسيرات مقبولة.
وحتى فى هذه المرة الأولى التى يجرى فيها التفتيش بدأ التحدى الذى يواجه مفتشى الوكالة المعنيين بالضمانات فى الظهور.
ومن المناسب هنا أيضًا تصحيح مفهوم خاطئ ولكنه شائع، أن مفتشى الوكالة ليسوا مخبرين وليسوا ضباط أمن أو شرطة. إنهم تعوّدوا على البحث عن أوجه التباين الكمية والنوعية وإبرازها بما فى ذلك التمويه المتعمد كما أنهم لا يتقاعسون عن مواجهة الطرف الخاضع للتفتيش بالدليل على ما يجدون. لكن أسلوبهم فى ذلك يتسم بالاحترام سواء كانت الدولة المعنية هى كندا أم جنوب إفريقيا أم اليابان أم هولندا أم، كما هو الحال هنا، العراق. وأعتقد من جانبى أن هذا الاحترام، وهو سمة بارزة فى أعمال التفتيش التى تجريها الوكالة، قد ثبت مرارًا أنه من الأمور الأساسية التى تضاف إلى رصيد الوكالة.
والوكالة، فضلًا عن ذلك، ليست وكالة للتجسس، ومفتشونا لا يقومون بالتجسس أو يلجؤون إلى الخديعة للوصول إلى الحقيقة. ونحن ليست لدينا إمكانية الوصول إلى قواعد البيانات الخاصة بالشرطة أو الإنتربول أو وكالات الاستخبارات الوطنية ما لم تقرر هذه الهيئات تمكيننا من الحصول على هذه البيانات. كذلك فإننا لا نبلغ هذه الهيئات بالنتائج السرية التى تسفر عنها أعمال التفتيش. وبالإضافة إلى ذلك فالمعلومات توزع فى نطاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على من يكون من الضرورى أن يعرفها فقط.
Ayman M.Ebrahim 22-09-2012, 11:31 PM الخداع المعروف سابقا من أمريكا و حلفائها
شكرا لك مستر أيمن
aymaan noor 22-09-2012, 11:32 PM سنوات الخداع - الحلقة الثالثة
فى أوائل التسعينيات اتخذت العلاقات بين أجهزة المخابرات ومنظمات التفتيش الدولية، سواء فى العراق أم كوريا الشمالية أم غيرها، شكل المساومات. فمقابل مشاطرة الوكالة واللجنة الخاصة فى معلوماتها كانت أجهزة المخابرات ترغب فى الحصول بصفة تفصيلية على نتائج التفتيش. وبالإضافة إلى ذلك وكان السبب فى رغبتها تلك واضحة تماما. فمفتشو الوكالة واللجنة الخاصة كانت أمامهم فرصة أكبر كثيرا للوصول إلى ما يريدون عن طريق حقهم فى التفتيش على مختلف المواقع والمنشآت، وكانوا لذلك قادرين على حُسن استخدام معلومات المخابرات والتحقق من صحتها، وهو الأمر الذى لم تكن أجهزة المخابرات تستطيع القيام به. وبالطبع لم تكن الوكالة لتقبل بمثل هذا الترتيب. فتدفق المعلومات كان لا بد أن يكون فى اتجاه واحد. ذلك أنه من أجل الحفاظ على نزاهتها ومشروعيتها لم يكن بوسع الوكالة أن تقدم معلوماتها الخاصة إلى جهاز مخابرات وطنى.
كانت الوكالة مصممة على الاحتفاظ باستقلالها، الأمر الذى وضعها أحيانا فى مجابهة مع بعض الدول. كان ذلك واضحا على سبيل المثال أثناء التفاوض على قرار مجلس الأمن رقم 687 عندما حاولت الولايات المتحدة إسناد قيادة عمليات التفتيش إلى اللجنة الخاصة مفضلة إياها على الوكالة. وكانت الدوافع لذلك واضحة بالنسبة لى، فاللجنة الخاصة كانت هيئة جديدة منشأة بصفة مؤقتة كجهاز فرعى تابع لمجلس الأمن، ومن هذا المنطلق كان من الأسهل أن يستطيع أعضاء مجلس الأمن الرئيسيون ممارسة قدر كبير من التأثير على عملياتها. وقد استُدعى مفتشو اللجنة الخاصة على عجل من الهيئات والمختبرات الحكومية الوطنية التى تتوافر فيها المهارات اللازمة (المعرفة بالمواد السامة البيولوجية والكيماوية وبتكنولوجيا الصواريخ بعيدة المدى)، ومن ثَمَّ كان الاعتقاد أنه يكون من الأيسر اختراق اللجنة الخاصة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تلك المنظمة المستقرة ذات الخبرة النووية المستقلة.
وبصفتى المستشار القانونى للوكالة فى ذلك الوقت كنت فى نيويورك أثناء التفاوض على هذا القرار. عقدت عدة اجتماعات مع «روبرت جالوتشى»، وهو دبلوماسى وأكاديمى أمريكى ثاقب النظر يتسم بالمرونة، وأصبح فى ما بعد نائبا للمدير التنفيذى للجنة الخاصة للأمم المتحدة. وقد بذلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية جهودا حثيثة للاحتفاظ باستقلالها فى التعامل مع الملف النووى. وفى معظم الأحيان نجحنا فى ذلك. على أن «جالوتشى» أقر فى ما بعد بأنه كان هناك قدر من الاختلاف الداخلى فى بعض الدوائر الأمريكية التى أعربت عن قلق شديد حول ما إذا كانت الوكالة على مستوى هذه المهمة. وعلى العكس، كان غيرهم قلقين من أن إعطاء اللجنة الخاصة السلطة الأولى من شأنه أن يضر بمصداقية الوكالة. وكانت الصياغة التوافقية للقرار تبدو مخففة للغاية: تقوم الوكالة بمهمتها «بمساعدة اللجنة الخاصة وبالتعاون معها». وفى رأى «جالوتشى» فإن هذه الصيغة كانت تضمن أن تكون اللجنة الخاصة على معرفة بما تقوم به الوكالة.
كان من المهم بطبيعة الحال أن تتعاون الجهتان، ولا سيما من الناحية اللوجيستية، ونظرا لأن كثيرا من المنشآت التى كان يتعين علينا التفتيش عليها كانت قد قُصفت فقد كانت هناك مخاطر تهدد السلامة بسبب المواد المتبقية القابلة للانفجار، وكانت اللجنة الخاصة قد استعانت بخبراء فى المواد القابلة للانفجار لمرافقة فرق كل من الجهتين. على أن هناك الكثير الذى كان على اللجنة أن تتعلمه من حيث التنظيم والانضباط الذى تميزت به فرق الوكالة التى كانت تعمل معا لسنوات طويلة، وكان أعضاؤها فى بعض الأحيان يعرفون نظراءهم العراقيين وأساليب عملهم.
ومما لا شك فيه أن الشخصيات المشاركة أثرت على العلاقة بين الهيئتين. فـ«هانز بليكس» الذى كان يومئذ مديرا عامّا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان من قبل وزيرا لخارجية السويد. وكان «رالف إيكيوس»، الذى عُين مديرا للجنة الخاصة (أنسكوم) كان كذلك دبلوماسيًّا سويديًّا. ووفقا لما هو متعارف عليه فى وظائف الخارجية كان «بليكس» أعلى مرتبة من «إيكيوس»، ومن الواضح أنه لم يكن راضيا عن تلقى تعليمات من «إيكيوس» فى المجالات التى كلفت اللجنة الخاصة فيها بالقيادة. كما أن وجود مقر اللجنة فى نيويورك، حيث كانت تستحوذ على الجانب الأكبر من الاهتمام الإعلامى، لم يسهل الأمور، ولا سيما أن صورة الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى ذلك الوقت كانت غائمة. لكن العلاقات أصبحت أيسر إلى حد ما بفضل «ماوريسيو زيفيريرو»، وهو عالم إيطالى حسن المعشر عمل رئيسا لفريق الوكالة فى العراق، وكان يسارع إلى تسوية الخلافات التى تنشأ بين المنظمتين.
وبحلول موعد عملية التفتيش الثانية فى العراق، من 22 يونيه إلى 4 يوليه 1991، كان المسرح مهيأ لمأساة، فقد قدمت إحدى جهات المخابرات صورا استطلاعية للوكالة تدل على تصاعد أنشطة العراق بمجرد مغادرة فريق التفتيش الأول فى منطقة تقع خارج موقع «التويثة». فقد استخرج عدد من الأسطوانات المعدنية الكبيرة من باطن الأرض من المكان الذى يبدو أنها كانت قد دفنت فيه ونقلت إلى مكان آخر.
كذلك وردت معلومات عن برنامج مزعوم للتخصيب، كان العراقيون يقومون به سرّا من خلال تقنية يطلق عيها فصل النظائر بطريقة كهرومغناطيسية (emis)، وتستخدم هذه التقنية آلة تسمى «كالوترون»، وهى نوع من أجهزة قياس الطيف الضخمة توضع بين أجهزة كهرومغناطيسية كبيرة اخترعتها جامعة كاليفورنيا. هذه الطريقة ليست ذات كفاءة عالية وتستهلك كميات هائلة من الكهرباء. وقام متخصصون فى برنامج «كالوترون» التابع لمشروع مانهاتن بتقييم الصور التى تلقاها مفتشو الوكالة والتقارير الواردة من موقع «طارمية» ورأوا أنها تفيد بوجود عمليات التخصيب من خلال فصل النظائر بطريقة كهرومغناطيسية (emis).
استمر العراقيون على إنكارهم وجود برنامج لتخصيب اليورانيوم لم يتم الإعلان عنه، لذا كان من الضرورى تعقب المعدات كدليل على ذلك. ومن هنا فإن عملية التفتيش الثانية تحولت إلى ملاحقة، وقد قيل إن الموقع الجديد للأسطوانات المستخرجة من باطن الأرض، والتى كان يشتبه فى أن تكون ممغنطة لاستخدامها فى عملية «emis»، هو معسكر حربى. وعندما وصل فريق الوكالة إلى هذا المكان مُنع من الدخول. وقدمت الاحتجاجات إلى المستويات الأعلى فى الحكومة العراقية فسمح له بالدخول بعد ثلاثة أيام. ولكن المعدات عندئذ كانت قد اختفت.
وبعد ذلك بثلاثة أيام أخرى تلقى الفريق معلومات عن الموقع الجديد: معسكر حربى آخر. وفى هذه المرة حضر فريق من مفتشى الوكالة دون سابق إنذار. ورُفض دخولهم مرة أخرى. لكن اثنين من أعضاء الفريق تسلقا السلم الخارجى لخزان مياه مجاور وشاهدا من أعلى قافلة من الحافلات تتجه نحو الباب الخلفى للمعسكر. وقام عضوان آخران فى الفريق فى سيارة للأمم المتحدة بمطاردة الحافلات مشيرين بأيديهم كيفما اتفق أثناء مرورهم بالأسواق المحلية إلى أن تمكنوا من الوصول إلى الطريق السريع الصحيح. وقد حقق إصرارهم نتيجته، فعندما وجدوا القافلة وجدوا أنها تضم ما يقرب من مئة حافلة محمّلة بما يبدو أنه معدات نووية، حتى إن الكثير منها لم يكن قد تم تغطيته بسبب تعجل الهروب. وكان الإمساك بالعراقيين متلبسين على هذا النحو اختراقا كبيرا.
فى أوائل يوليه قمنا؛ «بليكس» وأنا، برحلة إلى بغداد. كنا أعضاء فى وفد رفيع المستوى شكَّله الأمين العام للأمم المتحدة «خافيير بيريز دى كويار»، وكان «إيكيوس» هو رئيس الوفد؛ مما لم يُرض «بليكس» إطلاقا. وكان هدفنا هو الضغط على الحكومة العراقية لتتوقف عن عرقلة عملية التفتيش، وأن تفصح بشكل صريح عن كامل برنامجها النووى.
فى البداية استمر العراقيون فى الإنكار وألحَّ رئيس لجنة الطاقة الذرية العراقية الدكتور همام عبد الخالق غفور على «بليكس» وعلىَّ بضرورة القبول بما يقوله العراقيون. وقد أقسم لنا، ونحن معه فى السيارة، إن العراق لم يقم بأية أنشطة تخصيب غير معلنة على الرغم من الدلائل المتزايدة على عكس ذلك. وأكد أن برنامج العراق النووى كان سلميّا تماما.
لكن الضغط الدولى كان يتزايد، وحدد مجلس الأمن موعدا نهائيّا، موضحا أنه على استعداد لاتخاذ مزيد من التدابير. ومع ذلك كان فريق تفتيش جديد قد وصل وكان مستعدّا لتتبع مؤشرات جديدة.
وفى 7 يوليه امتثلت السلطات العراقية وقدمت للوكالة قائمة مطولة جديدة بالمعدات ومواقعها. ولم يشمل هذا الإقرار الجديد عمليات تخصيب «emis» فقط، ولكنه تضمن كذلك أعمال التخصيب بالطرد المركزى والكيماوى وإعادة المعالجة التى قاموا بها لفصل بضعة جرامات من البلوتونيوم. وتضمن الإقرار كذلك قائمة بمنشآت التصنيع والمساندة. كما كشف عن وجود حوالى أربعمئة طن من اليورانيوم غير المخصب الذى تم استيراد جانب منه من البرازيل والنيجر والبرتغال لكن لم يسبق الإعلان عنه للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وما زلت أذكر أحد مشاهد هذه الزيارة بشكل واضح. كنا، «بليكس» وأنا، قد صحبنا أعضاء فريق التفتيش الذى يضم أفرادا من «الأنسكوم» ومن الوكالة، إلى موقع فى قلب الصحراء. وذكر العراقيون أنهم سيطلعوننا على معدات لفصل النظائر كانوا قد دمروها ودفنوها حتى لا تُكتشف. وكنا فى فصل الصيف حيث بلغت درجة الحرارة أقصاها. وكان من الواضح أن مفتشينا القائمين بقياس هذه الكتل المعنية الضخمة وتوصيفها تنتظرهم مهمة شاقة.
وفجأة قرر «ديفيد كاى» وهو مدير سابق من المستوى المتوسط فى برنامج التعاون الفنى التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، قليل الخبرة فى التفتيش على الضمانات استجواب أحد كبار العلماء العراقيين فورا. ورفع ذراعه بصورة مسرحية وصاح: «ليبدأ الاستجواب الآن». وقد أدى ذلك إلى إحراج «بليكس» وإحراجى فدعونا «كاى» جانبا لإبلاغه بأن هذه ليست الطريقة التى نُجرى بها أعمال التفتيش. وكان هدفنا فى هذه الحالة هو السعى للحصول على تعاون كامل من جانب العراقيين، ولم يكن التهديد والإهانة بالطبع هما الأسلوب لتحقيق هذه الغاية.
وكان تعيين «كاى» كمفتش للضمانات فى ذلك الوقت أمرا غريبا. فحسب معلوماتى، لم تكن لديه الخبرة العلمية أو التكنولوجية، وكانت دراسته فى مجال الشؤون الدولية. وقد عرفته شخصا لماحا يتسم باللياقة وحسن التعبير. ولكنه بمجرد تعيينه فى فريق العمل المعنى بالعراق يبدو أنه حدث تحول فى شخصيته. كنا قد سافرنا معا إلى نيويورك أثناء مناقشة تطبيق القرار (687). وبغير تشاور معى أو إبلاغى قام «كاى» بتحديد مواعيد للقاءاته مع المسؤولين الأمريكيين مما يعد مخالفة وخروجا على الأعراف المعمول بها فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وربما تدعو النظرة إلى الوراء إلى الاعتقاد بأن جهاز المخابرات الأمريكية أراد نقل معلومات من خلال «كاى» ليتصرف فريق عمل الوكالة بالعراق بناء عليها، وكان تعيينه فى هذا الفريق أساسا لأغراض تنظيمية وإدارية، ومع ذلك طلب إليه لسبب ما رئاسة عمليتين من عمليات التفتيش الحاسمة. هل كان «بليكس» أو «زيفيريرو» يعرفان بوجود أى علاقة لـ«كاى» بالمخابرات الأمريكية؟ هذا ما لا أعرفه.
ولحُسن الحظ فإن أسلوب التفتيش الذى اتبعه «كاى» الذى وصفه «جالوتشى» نفسه بأنه أسلوب «رعاة البقر» لم يكن شائعا بين مفتشى الوكالة، لكن الأمر كان مختلفا فى «الأنسكوم». ففى تلك الرحلة نفسها إلى الصحراء رأيت عالِما عراقيّا كبيرا يبكى من الإحباط إزاء المعاملة التى تعرض لها من جانب أحد مفتشى «أنسكوم» الذى اتهمه علنا بالكذب.
وفى الحافلة التى أقلّتنا فى طريق العودة نظرت حولى فوجدتها تغص بالأمريكيين. وقد جاء الكثير منهم من المختبرات الوطنية الأمريكية. كان مستواهم رفيعا من الناحية الفنية، ولكنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن كيفية إجراء عمليات تفتيش دولية أو عن كيفية التصرف فى سياقات ثقافية مغايرة. وكان من الواضح، من محادثاتهم العابرة، أنهم كانوا يعتقدون أن مجرد حضورهم إلى بلد تعرض لهزيمة عسكرية يسمح لهم بالقيام بما يحلو لهم.
تحدثت إلى بعض الجالسين إلى جوارى فى الحافلة وشرحت أساسيات النهج الذى تتبعه الوكالة الدولية للطاقة الذرية: المهنية التى تتسم بالمثابرة والاحترام، وذكرت أن المهنية هى السمة التى يتميز بها مفتشونا، وأنها توافرت لهم عبر سنوات من الخبرة، وانتقدت كذلك السلوك الهجومى «للأنسكوم».
وكانت النتيجة مذهلة. حيث قام بعضهم بنقل صورة مختلفة تماما عن هذا الحوار، وفى النهاية ظهرت هذه الرواية المشوهة لما قلت والتى زُعم أنها واقعية، فى مقال نشره «جارى ميلهولين»؛ مدير مشروع «ويسكونسن» للحد من التسلح النووى، فى مجلة النيويوركر قال فيه إن: «البرادعى، ذلك القادم توّا لمشهد التفتيش فى العراق، عبر عن تقاليد الوكالة الدولية حيث قال أمام حشد من المفتشين، كما يذكر «كاى»: «إن العراقيين ليس لديهم برنامج لليورانيوم المخصب، وأنا أعلم ذلك لأنهم أصدقاء لى، ولأنهم أخبرونى أن ليس لديهم مثل هذا البرنامج، وبالطبع فإن البرادعى مخطئ ولكنه كان يعبر عن التوجه الذى حدده رؤساؤه فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية».
وبالطبع لم يكن قد بدر عنى أىٌّ من هذه الأقوال، بل إن العراقيين كانوا قد بدؤوا بالفعل فى الاعتراف بقيامهم بعملية فصل النظائر الكهرومغناطيسية، بل إننا كنا فى هذه الرحلة بصدد العودة من تفقد ما وصفه العراقيون بأنه أجزاء مفككة من أجهزة فصل النظائر. لقد كانت الدلائل على عمليات التخصيب التى قام بها العراق والوسائل والمنشآت المستخدمة لهذا الغرض قد بدأت فى الظهور من أكثر من زاوية. وبالتالى كنت سأكون قليل الذكاء إذا قلت بأن هذه البرامج لا وجود لها. ولكن كل هذه البدهيات لم تكن لتؤثر على ما نُشر فى النيويوركر، أو على ما أعقب ذلك من قصص صحفية تزعم أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تتمتع بالكفاءة.
واستمر بعض مفتشى «الأنسكوم» فى استخدام سلطتهم بصورة مفرطة تفتقر للحساسية الثقافية والدينية اللازمة. اقتحم بعضهم المساجد والكنائس للبحث عن أسلحة الدمار الشامل دون أن تكون هناك أى دلائل تفيد بوجودها فيها. وكان منهم من يقوم بعمليات التفتيش خلال الأعياد والإجازات الدينية دون داعٍ مُلحٍّ لذلك. وفى مرحلة تالية أصروا على تفتيش قصور صدام حسين ليس لأن لديهم معلومات جدية على وجود ما يستوجب أو يستدعى التفتيش فى هذه القصور ولكن لمجرد إظهار قدرتهم على تفتيش القصور الرئاسية ولم أتمالك نفسى أحيانا من التساؤل حول ما سيكون عليه شعورهم لو أنهم كانوا هم فى مكان العراقيين فى ذلك الوقت.
وعلى الرغم من أن غالبية العراقيين كانوا يبغضون صدام حسين بسبب أسلوبه الوحشى فى القيادة، غير أنهم، وكثيرين من العرب، شعروا بأن ما يقوم به مفتشو «الأنسكوم» فيه إهانة واستخفاف بالكرامة العراقية، وبدلا من تشجيع العراقيين على المزيد من التعاون لم يؤدِّ أسلوب «رعاة البقر» الاستفزازى هذا إلا إلى تراكم أسباب الحنق والبغضاء إزاء هذه الفرق، خاصة أن هذه العمليات التحكمية لم تُفضِ إلى أية نتائج.
وبينما كان صيف 1991 يقترب من نهايته لم يكن لدينا بعد أى دلائل ترجح وجود نوايا حقيقية لدى العراق لتطوير الأسلحة النووية. كان واضحا أن العراق قد قام بإخفاء نشاطات تتعلق بتخصيب اليورانيوم وبفصل البلوتونيوم، ولكن العراقيين كانوا يصرون على أن هذه النشاطات كانت تتم لأغراض سلمية.
وجاءت نقطة التحول فى نهاية شهر سبتمبر مع الزيارة السادسة لفرق تفتيش الوكالة الدولية، حيث وصلت الوكالة معلومات أشارت إلى مبنيين فى وسط بغداد، وهما عبارة عن مكاتب لوزارتَى الصناعة والتصنيع الحربى. وقد أدى خطأ فى الإجراءات الأمنية ارتكبه العراقيون إلى ترك كم كبير من الوثائق الهامة فى هذين المبنيين وعندما توجه المفتشون إليهما دون سابق إنذار تمكنوا بالفعل من رؤية هذه الوثائق والتحفظ على بعض منها. غير أن العراقيين رفضوا السماح للمفتشين بالمغادرة وبحوزتهم تلك الوثائق. وبدورهم رفض المفتشون، تحت رئاسة «كاى» من الوكالة و«جالوتشى» من «الأنسكوم»، ترك الوثائق، وقرروا البقاء فى الفناء المخصص لانتظار السيارات. واستمر هذا الاعتصام لمدة ثلاثة أيام بلياليها، ونقلته قنوات التليفزيون، فى ما اشتهر من بعد بأنه «مواجهة ساحة انتظار السيارات» بين المفتشين والعراقيين.
وفى النهاية استسلم العراقيون، وكان من بين الوثائق التى تم التحفظ عليها تقارير تحدد مدى التطور فى تصنيع أسلحة نووية. وبينما أوضحت هذه الوثائق أن الوصول إلى مرحلة تصنيع السلاح النووى كان سيستغرق من العراق عاما إضافيّا أو عامين، إلا أنها أظهرت بوضوح نية الجانب العراقى، وأن هذا الجانب من البرنامج كان كبيرا وكان يتم تنفيذه وتوفير التمويل اللازم له بدون أدنى تردد أو تقتير.
وفى نهاية العام نفسه تلقى «كاى» جائزة من الوكالة، وهو ما حدا بمبعوث العراق لدى الوكالة، الدكتور رحيم الكتل، للاعتراض رسميّا أمام «بليكس». وقد تضمنت شكوى المندوب العراقى الادعاء بقيام مفتشين بتصرفات كان من بينها إلقاء الوثائق الرسمية على الأرض والسير عليها، وأيضا التهديد بجلب طائرات حربية أمريكية للتدخل أثناء عمليات التفتيش، بل إن مذكرات الاحتجاج العراقية تضمنت إشارات لقيام أعضاء من فرق التفتيش بتحطيم أسوار وقطع أسلاك التليفونات بل «والظهور عرايا فى فناء بعض البنايات المحاطة بعمارات سكنية».
وعلى الرغم من أنه لم يتم أبدا التحقق من صدق الدعاوى الواردة فى مذكرة الاحتجاج هذه، فقد كان من الواضح أن «كاى» وغيره كان لديهم تصور بأن اتباع النهج العدوانى من شأنه إجبار العراقيين على التعاون فى تقديم المعلومات والأدلة. وعلى الرغم من أنه من الممكن القول بأن بعض ما تم من ضغط فى إطار ما وصف بـ«المواجهة فى ساحة انتظار السيارات» كان ربما مطلوبا بدرجة ما، وأنه كان فى المحصلة النهائية مجديا، إلا أننى وبصفة عامة أجد أن مثل هذا النمط من السلوك يضر أكثر مما يفيد. إن اللجوء إلى نهج عدوانى يدمر فرص التعاون على المدى الطويل. وبغض النظر عن الدوافع وراء السلوك الذى انتهجه أفراد فريق التفتيش فإن الأكيد أن ما قام به المفتشون فى حينه لن يمحى بسهولة من ذاكرة العراقيين، بل ومن ذاكرة العالم الإسلامى عموما. ولكن العراقيين الذين كانوا قد خرجوا لتوِّهم خاسرين من الحرب لم يكن بوسعهم سوى الرضوخ أمام هذا النوع من السلوك.
لكن أسوأ ما قام به «كاى» و«جالوتشى» كان قرارهما بإرسال الأوراق الحساسة للخارجية الأمريكية قبل أن تتاح الفرصة للوكالة الدولية أو «الأنسكوم» أن يتلقيا نُسخا من هذه الأوراق. وأصر «جالوتشى» على أن السبب وراء هذا التصرف هو أن وسيلة الاتصال مع الإدارة الأمريكية «كانت مؤَمَّنة أكثر». ولكن نتيجة هذا العمل أضرت بصورة الوكالة و«الأنسكوم»، ليس فقط فى نظر العراقيين ولكن أيضا أمام المجتمع الدولى بكامله. فعلى الرغم من أن الإجماع الدولى كان داعما لعمليات التفتيش فى العراق، غير أن الدول كانت تتابع بكثير من الاهتمام الطريقة التى يتم بها التفتيش؛ حيث كانت هناك حساسية كبرى من أن يبدو فى سلوك المفتشين الدوليين ما يوحى بتواطئهم مع جهاز المخابرات الأمريكية أو غيره من أجهزة المخابرات. ولم تتمكن «الأنسكوم» أبدا من التخلص من هذه الصورة، وهو ما أدى فى النهاية إلى حلها.
ولقد تمت عمليات التفتيش فى العراق على ثلاثة مسارات متوازية، الأول كان يهدف لتوضيح المعلومات المتاحة حول برنامج التسلح النووى العراقى بما فى ذلك التوصل إلى الأماكن المتوقعة للاختبارات شديدة الانفجار. المسار الثانى كان التمهيد لإخلاء العراق من اليورانيوم عالى التخصيب. أما المسار الثالث فقد تركَّز على تفكيك معدات التخصيب، حيث تم تدمير أجهزة الطرد وتحطيم أجهزة فصل النظائر مغناطيسيّا باستخدام آلات من البلازما مخصصة لذلك، كما تم كذلك إتلاف الأدوات الخاصة بالتعامل مع المواد النووية مثل الخلايا الساخنة وصناديق القفازات الخاصة، حيث كان يتم قطع أسلاك التحكم وملء الحاويات بالأسمنت.
راغب السيد رويه 23-09-2012, 01:24 AM جزاك الله خيرا وبارك فيك
aymaan noor 23-09-2012, 01:21 PM سنوات الخداع - الحلقة الرابعة
وبعد قُرابة عام من العمل الميدانى فى العراق كان يمكن القول إن تنفيذ القرار (687) كان يسير بصورة جيدة. وأصبح من الواضح أمام فرق التفتيش كيف بدأ برنامج صدام حسين النووى ودوافعه. وكان باديا أن الجزء السرى من هذا البرنامج بدأ فى عام 1982 بعد فترة قصيرة من قيام إسرائيل بتدمير المفاعل البحثى النووى فى «أوزيراك»، والذى كان يخضع لنظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، من قبل أن يبدأ تشغيله. وبغض النظر عن أى نوايا كانت لدى صدام حسين ومعاونيه فى الحصول على أسلحة الدمار الشامل، فإن تلك النوايا تزايدت بعد هذه التجربة المهينة.
أدى هذا الحادث إلى إلقاء الضوء على حالة الاختلال الأمنى فى المنطقة لصالح إسرائيل بوصفها الدولة الوحيدة التى تمتلك السلاح النووى فيها. ورغم قيام مجلس الأمن بإدانة التصرف الإسرائيلى بوصفه خرقا صارخا للقانون الدولى فإنه لم يتبع ذلك بأى إجراءات من أى نوع. بل إن إسرائيل تجاهلت مطلب مجلس الأمن بتقديم التعويض للعراق، وبأن تقوم بوضع منشآتها النووية تحت مظلة ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبالتالى قرر صدام حسين أن يتعامل مع هذه المشكلة بنفسه وكانت النتائج ما رأيناه بعد ذلك.
وفى أعقاب الكشف عن البرنامج السرى للتسلح النووى فى العراق، قمت بزيارتين لواشنطن حيث التقيت شخصيات عديدة من الكونجرس والشخصيات الحكومية. وكان السؤال الذى يدور بخَلَد كل من التقيت بهم يرتبط بأسباب عجز الوكالة عبر السنوات عن الكشف عن البرنامج السرى للتسلح النووى فى العراق. ولقد تحدثت بصراحة عن الأخطاء التى تشوب طريقة عمل الوكالة، وأكدت أن الوكالة فى حاجة إلى مزيد من الصلاحيات القانونية. وكانت اللحظة مواتية لطرح هذا الأمر حيث لم يكن بوسع أحد أن يقول إن نظام الضمانات المنصوص عليه فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية يعمل بالكفاءة المطلوبة، خصوصا أن البرنامج العراقى لم يكشف الستار عنه إلا فى أعقاب ما تعرض له من هزيمة عسكرية.
وعندما عدت إلى فيينا بدأنا فى الأمانة العامة للوكالة العمل لصياغة نموذج البروتوكول الإضافى الذى من شأنه أن يجعل عمليات التحقق التى تقوم بها الوكالة فى الدول أكثر قوة وأكثر تفصيلا. وحسب التصور الذى تم وضعه كان مفترضا أن يكون البروتوكول الإضافى مُكملا لاتفاق الضمانات الذى كانت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية تتطلب إبرامه بين الدول وبين الوكالة الدولية.
ولم يكن ذلك بالأمر السهل، حيث كان يتطلب الجمع بين اعتبارات فنية وقانونية وسياسية. وكانت إحدى القضايا التى تناقَشنا حولها باستفاضة هى المدى الذى يمكن لأى بلد أن يذهب إليه فى القبول بالتفتيش من قِبل الوكالة والحقيقة أن ذلك لم يكن بالأمر الجديد، حيث إن واحدة من أكثر النقاط تعقيدا أثناء التفاوض حول معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كانت تتعلق بمدى قبول الدول بصلاحيات المراقبة من قِبل الوكالة.
والأمر المؤكد أن عملية الخداع المتعمدة التى قام بها العراق أكدت أن الاستمرار فى اعتماد التفتيش على «ميثاق شرف» لم يعد كافيا، وأن الاقتصار فى التفتيش على ما تعلنه الدول من منشآت وأنشطة لم يعد كافيا كذلك، وأن الوكالة الدولية لا تتمتع بالسلطات والصلاحيات الكافية للقيام بمهمتها المتعلقة بمراقبة حظر الانتشار. ولكن مع أخذ كل تلك الحقائق فى الاعتبار لم يكن لدينا ما يجعلنا نثق أن الدول الأعضاء ستقبل الخضوع لمزيد من المراقبة من قِبل الوكالة.
وللأسف فإن خلافا نشأ بين «هانز بليكس» وبينى بينما كنا نعكف على صياغة مسودة لنموذج البروتوكول الإضافى، حيث اقترحت إشراك الدول الأعضاء فى الوكالة فى صياغة هذا البروتوكول، بينما كان «بليكس» على قناعة بأنه سيكون من الأفضل أن تتولى الأمانة العامة الأمر وحدها، حيث إننا كان لدينا، حسب رأيه، الخبرات الكافية للقيام بهذه المهمة. ومن ثَمَّ كان على فريق الأمانة العامة للوكالة أن يقوم بصياغة مسودة للبروتوكول الإضافى وأن يطرحها على مجلس المحافظين، والذى يضم ممثلين عن 35 دولة من الدول الأعضاء لمناقشتها، على أن تستمر عملية مراجعة وتنقيح المسودة حتى تتم الموافقة عليها. وكان «بليكس» مقتنعا بأن وضع المسودة فى أيدى الدول كفيل بإنهاء المشروع قبل أن يبدأ.
ولكن سرعان ما تبين أن نهج «بليكس» لن يُفضى إلى النتائج المرجوة وأنه من الضرورى إشراك الدول فى صياغة البروتوكول الإضافى لضمان موافقتها عليه. وعليه فقد اقترحت على «بليكس» أن نقوم بإنشاء فريق عمل يضم الدول الأعضاء فى مجلس المحافظين، ولكنه عارض هذه الفكرة تماما.
وقد رأى عدد من الدول الأعضاء فى إبعادها نوعا من عدم الانفتاح من جانب الوكالة فى أمر يتعلق بوضع وثيقة ستكون بمثابة آلية سياسية مهمة ومؤثرة. لذا قام بزيارتى فى ذلك الوقت ممثلون عن مجموعة من عشر دول غربية وهى الدول التى نصِفُها بالملائكة البيضاء بسبب دعمها غير المحدود لحظر الانتشار مقترحين أن أطالب «بليكس» بالتخلى عن فكرة سيطرة الأمانة العامة للوكالة على مشروع البروتوكول الإضافى والسماح لمجلس المحافظين بالانخراط فى النقاش حول البروتوكول وصياغته. وقد تحدثت إلى «بليكس» فى ذلك ولكنه كان مستاء من عدم ذهابهم إليه مباشرة.
على أن هذه الحادثة التافهة نسبيّا كانت بداية لتوتر ملموس فى ما بيننا. ربما اعتقد أننى كنت أعمل دون علمه، وعلى أية حال كان ذلك أمرا مؤسفا لا سيما وأن «بليكس» هو الذى عيننى فى البداية للعمل فى الوكالة والذى تقدمت تحت رئاسته من منصب المستشار القانونى إلى منصب المدير العام المساعد للعلاقات الخارجية. واستمر الخلاف بعد ذلك حول آلية صياغة البروتوكول فى الغرف المغلقة. وأخيرا أخبر رئيس مجلس المحافظين فى ذلك الوقت، السفير الكندى «بيتر ووكر»، «بليكس» أنه سيتولى الأمر وطلب أن تقدم له الأمانة الدعم اللازم. وعُين «ريتشارد هووبر»، وهو مدير فى إدارة الضمانات يعرف جيدا مفاهيم الضمانات، مسؤولا فنيّا أساسيّا فى الموضوع، وكنت أنا المسؤول عن الموضوعات القانونية المتعلقة بالسياسات، وتولى رئيس المجلس كذلك رئاسة فريق العمل، ولم يحضر «بليكس» أيّا من الجلسات. كانت المهمة طويلة ومعقدة دافعتْ فيها كثير من الحكومات عن مواقفها. وكانت أشرس المعارك هى المعارك السياسية. ويرجع الفضل فى النجاح بدرجة كبيرة إلى الدبلوماسية الماهرة التى مارسها عدد من الأطراف الرئيسيين.
وفى النهاية اعتمد مجلس المحافظين نموذج البروتوكول الإضافى فى 13 مايو 1997، وكان وثيقة قانونية فارقة فى الصلاحيات القانونية المتاحة لتنفيذ معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وجعل نظام الضمانات فيها أكثر فاعلية. ماذا تغير إذن بعد اعتماد هذا البروتوكول الإضافى؟ يمكن القول إن الدول التى وافقت عليه منحت المفتشين قدرا أكبر من الحرية والمرونة فى أداء عملهم ميدانيّا، وسمحت لهم بالحصول على معلومات أكثر ودخول المنشآت المطلوب تفتيشها بصورة أسهل بما يسَّر كثيرا من سُبل التحقق من أنه ليست هناك أية مواد أو منشآت نووية لم يعلن عنها. وقبل اعتماد البروتوكول الإضافى كان يحق للوكالة نظريّا أن تعمل على تفتيش أماكن ومنشآت لم يعلن عنها من قِبل الدول تحت مظلة آلية إجراء «تفتيش خاص»، ولكن استخدام مثل هذه الآلية لم يكن أبدا بالأمر اليسير من الناحية العملية، وبالتالى فإن البروتوكول الإضافى وفر سهولة ونمطية أكبر فى الحصول على المعلومات والتفتيش على المنشآت.
كان من شأن اعتماد نموذج البروتوكول الإضافى، وهو علامة رئيسية كبرى فى تاريخ الضمانات النووية، أن يحدث تغيير كبير. فبالنسبة إلى البلدان التى لم يكن لديها سوى اتفاق ضمانات فقد اقتصرت تأكيدات الوكالة على أن المواد والمنشآت النووية المعلن عنها لم تحوَّل إلى أغراض غير سلمية. غير أنه بالنسبة إلى أولئك الذين أدخلوا البروتوكول الإضافى إلى حيز النفاذ فقد أصبح بمقدور الوكالة أن تقدم، بالإضافة إلى ذلك، تأكيدا بنفس القدر من الأهمية، وهو عدم وجود مواد أو منشآت نووية غير معلن عنها.
وكانت هناك إشكالية واحدة، فبينما كان نظام الضمانات إلزاميّا بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فإن البروتوكول الإضافى كان اختياريّا ولا يمكن فرضه على الدول وما زال هذا هو الحال حتى اليوم. فالدول ليست مُجبرة على القبول بالبروتوكول الإضافى، بغض النظر عن مدى محاولات الإقناع الذى تمارسه الوكالة أو الدول الأخرى الأعضاء.
وتوجد هنا كذلك ثغرة فى الفهم العام لدور الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فالوكالة لا تستطيع أن تمارس من السلطات غير ما يُعطَى لها. عندما بدأتُ بزيارة الدول العربية بوصفى مديرا عامّا للوكالة كنت كثيرا ما أستمع إلى انتقادات موجهة للوكالة لعجزها عن «القيام بشىء ما» إزاء برنامج إسرائيل النووى. ولم يكن فى وسعى سوى أن أكرر مرارا أن الوكالة ليس لها الحق فى تفتيش منشآت إسرائيل النووية لأن إسرائيل، وإن كانت عضوا فى الوكالة، فهى لم تقم بالانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ولم تبرم اتفاق ضمانات، وبالتالى فإنها ليست خاضعة لنظام ضمانات الوكالة. غير أن هذا الحديث لم يكن ليريح الرأى العام فى العالم العربى، والذى كان يُصر على أن الوكالة منحازة إلى صالح إسرائيل ولا تقوم بمهماتها على الوجه الأكمل.
والحقيقة أنه إذا ما تفهَّم الرأى العام طبيعة الصلاحيات غير المتساوية للوكالة، لربما ازدادت حدة القلق، وعلى هذا فإن التحدى الذى يواجهنا هو كيفية رفع مستوى الوعى العام بدور الوكالة وبعملها.
فإذا نظرنا إلى الظروف الحاضرة، سنجد أنه فى أواخر سنة 2010، أى بعد ثلاثة عشر عاما من اعتماد البروتوكول الإضافى، فإن كثيرا من الأطراف فى معاهدة حظر الانتشار لم يُدخلوا حيز النفاذ حتى اتفاقات الضمانات الشاملة التى أبرموها مع الوكالة. وكذلك فمن بين 189 دولة طرفا فى المعاهدة لم يدخل البروتوكول الإضافى حيز النفاذ سوى فى 103 دول فقط. وبالنسبة إلى العدد الكبير من الدول المتبقية فإنه عندما يتعلق الأمر بتقديم التأكيدات التى يريدها المجتمع الدولى تقف الوكالة مكتوفة الأيدى.
هل يمكن أن يكون هناك صدام حسين آخر فى مكان ما لم يُكتشف بعد، ويعمل بهمّة فى الخفاء؟ الإجابة: بالنسبة إلى الدول التى لم تقبل البروتوكول الإضافى، إننا حقّا لا نعرف.
لقد استمرت الوكالة مع «الأنسكوم» فى القيام بمهماتها فى العراق حتى منتصف التسعينيات، فقد تم شحن جميع المواد التى يمكن استخدامها للتسليح إلى خارج البلاد، وتم التحقق من أن كل المواد النووية الأخرى: خمسمائة طن تقريبا من اليورانيوم الطبيعى بمختلف أشكاله، وطنين من ثانى أكسيد اليورانيوم منخفض التخصيب تندرج تحت رقابة الوكالة. واتخذت خطوات مماثلة بالنسبة لمخزونات الأسلحة البيولوجية والكيماوية.
وبحلول شهر أكتوبر 1997، كانت الوكالة قد قامت بسلسلة من حملات التفتيش الرئيسية فى العراق بلغت ثلاثين حملة. كان قد تم التفتيش على خمسمائة موقع تقريبا استغرقت أكثر من خمسة آلاف يوم عمل من المفتشين. وأشرف المفتشون على تدمير ما يزيد على خمسين ألف متر مربع من المنشآت النووية، وألفَى قطعة تقريبا تتعلق بدورة الوقود أو الأسلحة، وأكثر من ستمائة طن مترى من المعادن ذات التشكيل الخاص. وعلى سبيل المثال فإن المنشآت الواقعة فى منطقة الأثير، التى صممت لتطوير أسلحة نووية واختبارها وإنتاجها، تم تدميرها بطريق التفجير تحت إشراف الوكالة و«الأنسكوم»، وتم تفكيك جميع منشآت ومعدات تخصيب اليورانيوم. وبصورة تدريجية تم الانتهاء من المهمة الموكلة إلى هذه الفرق بموجب القرار (687)، وبالتالى بدأت الوكالة و«الأنسكوم» فى التركيز على أعمال المراقبة والتحقق بدلا من التركيز على أعمال تفكيك المنشآت والمعدات والتخلص منها، وقد ذكرت الوكالة ذلك فى تقاريرها إلى مجلس الأمن. ولم يعد هناك الكثير الذى يمكن قوله عما لم يتم إنجازه من المهمة الموكلة للوكالة الدولية، غير أن الخارجية الأمريكية وغيرها من قطاعات الإدارة الأمريكية كانت ترغب فى أن لا نرفع تقريرا إلى مجلس الأمن يفيد بانتهاء الجزء الأعظم من تلك المهمة حيث كانت هناك رغبة لدى الأمريكيين فى إبقاء الضغط الشديد على صدام حسين.
واقترحت الولايات المتحدة الأمريكية أن ترجئ الوكالة تقديم تقرير الانتهاء من أعمالها إلى مجلس الأمن حتى تنتهى «الأنسكوم» بدورها من عملها. ولم يكن هناك منطق فى هذا الطلب، ولقد شرح «بليكس» هذا الأمر للأمريكيين خلال مناقشات أجراها معهم، حيث قال لهم إن عليهم أن ينظروا إلى الوكالة وإلى «الأنسكوم» بوصفهما اثنين من الخيل يركضان فى سباق، ولا بأس من أن يصل أحدهما قبل الآخر إلى نقطة النهاية.
وقدم «بليكس» تقريره لمجلس الأمن فى أكتوبر 1997 بوصفه مقبلا على الانتهاء من مهمته على رأس الوكالة. كان يشعر أنه بسبب قرب تركه منصبه فإنه كان من الأيسر له أن يقاوم ضغوط الولايات المتحدة، حيث أبلغ المجلس أن الوكالة قد انتهت إلى حد كبير جدّا من عملية تفكيك برنامج التسلح النووى للعراق، وأنها بدأت بالفعل فى الانتقال إلى المرحلة التالية، مشيرا إلى أن الوكالة تقوم الآن بتكريس جل إمكاناتها فى العراق لعمليات الرصد والتحقق، وأنه لم يعد يتبقى من عمليات نزع السلاح شىء يُذكر.
وفى ذلك الوقت كان موقف «الأنسكوم» أكثر تعقيدا، والحقيقة أنه منذ بدء عمليات التفتيش كان هناك فرق كبير بين الوكالة و«الأنسكوم» من حيث تكوين فِرق التفتيش أو طريقة العمل. لكن الفروق المقلقة بين عمل وأداء كل من الوكالة و«الأنسكوم» بدأت تتضح بصورة جلية فى مرحلة لاحقة من التسعينيات. لقد زعم العراقيون أن «الأنسكوم» ما هى إلا جهاز تجسس تابع للأمريكيين والإسرائيليين، وأن «الأنسكوم» تتخذ عمليات نزع أسلحة الدمار الشامل التى تقوم بها فى العراق ذريعة لجمع معلومات وتمريرها إلى الأمريكيين والإسرائيليين، مشيرين فى ذلك إلى أن المعلومات التى اتهموا «الأنسكوم» بمحاولة جمعها تشمل التسليح التقليدى والقدرات العسكرية الإجمالية للعراق، وهى المعلومات التى كان العراق يرى أنه سيتم استخدامها من قِبل الحكومات الغربية لتحديد الأهداف التى يُجرى قصفها خلال عمليات عسكرية.
ولقد ازدادت حدة هذه الاتهامات بعد انتهاء رئاسة «إيكيوس» «للأنسكوم» ليحل محله «ريتشارد بتلر»، الدبلوماسى الأسترالى صاحب الخبرة الواسعة فى مجال نزع السلاح. فقد اتهم العراقيون «بتلر» و«سكوت ريتر» وغيرهما من مفتشى «الأنسكوم» بالقيام بعمليات تجسس على الآلة العسكرية لصدام حسين لحساب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وبعد بعض الوقت بدأ «بتلر» و«ريتر» فى تبادل الاتهامات أيضا فى ذات الاتجاه.
وفى عام 1999 نشرت الصحيفتان الأمريكيتان، «الواشنطن بوست» و«البوسطن جلوب»، تقارير تفيد بقيام بعض مفتشى «الأنسكوم» بالتعاون فى عمليات تنصت لصالح أجهزة مخابرات، وأن هؤلاء المفتشين مكَّنوا عملاء هذه الأجهزة من تتبع اتصالات عسكرية خاصة بالعراق. بل إن «سكوت ريتر» نفسه قد أقر بمدى استغلال «الأنسكوم» فى هذا الصدد حيث قال فى مقابلة تليفزيونية أجراها فى عام 2002 مع قناة فوكس نيوز:
«لقد سمح (ريتشارد بتلر) للولايات المتحدة الأمريكية بأن تستخدم أعمال التفتيش على الأسلحة، التى تجريها الأمم المتحدة، بمثابة حصان طروادة، لزرع قدرات استخباراتية أمريكية فى العراق دون موافقة من قِبل الأمم المتحدة، وبما لم يسهم فى تسهيل عملية نزع السلاح، حيث إن الغرض منها كان يتعلق بالأساس بالإجراءات الخاصة بتأمين صدام حسين وبأهداف عسكرية».
«لقد سهل (ريتشارد باتلر) عملية تجسس أمريكى فى العراق من خلال استخدام الولايات المتحدة لأعمال التفتيش فى العراق. ففى أربع مناسبات بدءا من مارس 1998 وحتى استقالتى فى أغسطس من العام نفسه، كتبت مذكرة إلى (ريتشارد باتلر) وقلت له فيها: سيدى، إن استمرارنا فى المضى فى الطريق الذى ننتهجه الآن يعنى ببساطة أننا نُسهِّل عمليات التجسس، وهذا ليس بالأمر المفترض فينا أن نضطلع به ولا يجوز أن نسمح بذلك، ولقد تلقى (باتلر) هذه المذكرة ولم يعبأ بها إطلاقا، ولم يُعْنَ بالتحذير الوارد فيها، وها نحن الآن فى النهاية فى وضع علينا أن نسأل أنفسنا فيه: لماذا لا يتمكن المفتشون من التواجد فى العراق للقيام بعملهم؟».
ولقد نفى «باتلر» وبشدة هذه الاتهامات وقال إن «ريتر» يزعم «أننى كنت أعمل لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وهو أمر عار تماما عن الصحة». بل إن «باتلر» قال إنه قلَّص درجة لجوء «الأنسكوم» لاستخدام المعلومات التى تتيحها أجهزة المخابرات حرصا على سمعة «الأنسكوم» وحفاظا على «استقلالية نشاطات نزع السلاح التى تتم فى الإطار متعدد الأطراف».
وأقر «باتلر» بأنه كانت هناك أوقات قام فيها أعضاء فريق «الأنسكوم» بإرسال معلومات عن مهمتهم فى العراق إلى حكومات بلادهم، ولكنه أنكر وبصفة قطعية سيطرة جهاز المخابرات المركزية الأمريكية على عمل مفتشى «الأنسكوم»، واصفا اتهامات «ريتر» بأنها «تدعو للسخرية». والواضح فى ما يبدو أن «باتلر» كان لديه رأيه الخاص عن نوايا حكومة صدام حسين.
وكان «رولف إيكيوس»، قبل أن ينهى مهمته فى رئاسة «الأنسكوم» فى عام 1997، قد رفع تقريرا يفيد بأن المهمة الموكلة «للأنسكوم» لنزع أسلحة العراق الكيميائية والبيولوجية قد اقتربت من الانتهاء. ولقد اختلف «باتلر» مع هذا التقييم وأصر دوما على أن العراق لديه برامج لأسلحة الدمار الشامل لم يتم الكشف عنها بعد. وفى 15 ديسمبر 1998 رفع «باتلر» تقريرا إلى مجلس الأمن قدم فيه صورة متشائمة حول ما وصفه بعدم تعاون العراق مع فريق التفتيش العامل تحت رئاسته، وكان كثيرون يرون أنه تقرير غير متوازن وغير منصف.
كان تقرير «باتلر» هو الذريعة التى استخدمتها الولايات المتحدة لشن عمليات القصف التى تعرضت لها العراق فى ما يعرف بعملية «ثعلب الصحراء» فى 1998. ومن الجدير بالملاحظة أنه فى اليوم الذى رفع فيه «باتلر» تقريره هذا إلى مجلس الأمن طلبت الولايات المتحدة الأمريكية إجلاء المفتشين التابعين «للأنسكوم» والوكالة عن العراق لدواعى التأمين مما يوحى بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على علم بما جاء فى التقرير. وفى منتصف ليل 15 ديسمبر بتوقيت نيويورك (فجر 16 ديسمبر فى الشرق الأوسط وأوربا) أصدر «باتلر» تعليمات بسحب مفتشى «الأنسكوم» من العراق. وعندما استيقط الدبلوماسيون فى صباح 16 ديسمبر كانت عملية سحب المفتشين قد أصبحت أمرا واقعا.
وفى هذا الوقت كنت قد توليت منصب المدير العام للوكالة خلفا لـ«هانز بليكس». وفى ساعة مبكرة من صباح 16 ديسمبر استيقظت على اتصال هاتفى من «جون ريتش»، سفير أمريكا لدى الوكالة فى ذلك الوقت، حيث أخبرنى بالنصيحة الأمريكية بسحب المفتشين التابعين «للأنسكوم» والوكالة الدولية، مشيرا إلى أن «باتلر» بالفعل قد بدأ بسحب مفتشيه. وبالنظر إلى أن الوكالة كانت تعتمد على التسهيلات اللوجستية التى توفرها «الأنسكوم» لتسهيل مهمة المفتشين فلم يكن هناك من خيار أمامنا سوى سحب المفتشين أيضا.
وبعد هذه المحادثة مع «ريتش» أجريت اتصالا مع سكرتير عام الأمم المتحدة «كوفى أنان» الذى كان فى ذلك الوقت فى المغرب، حيث أيقظته من نومه لأتشاور معه حول قرار «باتلر»، ولقد هالنى يومها أن أعلم أن «أنان» لم يكن على علم بقرار سحب المفتشين الذى بدأ «باتلر» بتنفيذه.
وبالفعل فلقد ترك المفتشون العراق فى ذات اليوم 16 ديسمبر لتبدأ مباشرة عملية قصف جوى لأهداف عراقية استغرقت أربعة أيام مستهدِفة العديد من المواقع العسكرية العراقية بما فى ذلك مواقع مخصصة لعمليات بحوث وتطوير الأسلحة. وكان المبرر الرسمى الذى تم طرحه أن العملية العسكرية جاءت ردّا على إمعان العراق فى عدم الانصياع لقرارات مجلس الأمن وتدخل العراق فى عمليات التفتيش الدولية.
ولقد تسبب ذلك فى فقدان «الأنسكوم» لأية مصداقية كانت تتمتع بها. ولم يتردد كثيرون فى انتقاد تقرير «باتلر» ووصفه بأنه مغالٍ فى مجافاة العدالة. كما أن الغضب اعترى الصين وفرنسا وروسيا جراء التأثير الذى تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية على «الأنسكوم»، وهو فريق تفتيش دولى. وفقدت «الأنسكوم» الثقة فى أن تمثل المجتمع الدولى بوصفها مُعبِّرا أمينا عن الأمم المتحدة.
وفى يناير 1999، قمت بتقديم ورقة غير رسمية لأعضاء مجلس الأمن بها بعض الأفكار المقترحة من قِبلى تحت عنوان «عملية التفتيش عن الأسلحة فى العراق». وكان الهدف من هذه الورقة غير الرسمية هو طرح الأسس وأطر العمل التى يمكن من خلالها استعادة الثقة والحياد فى منظومة البحث عن أسلحة الدمار الشامل فى العراق. واقترحت فصل مهمة التفتيش عن مجلس الأمن لإبعادها عن الوقوع تحت تأثيرات سياسية. كما نصحت بأن يكون قوام الفِرق القائمة على التفتيش من الموظفين الدوليين عوضا عن الاعتماد على «الخبراء» الذين توفدهم الحكومات والذين قد تكون لديهم أسبقية الالتزام بالولاءات الوطنية لدولهم. كما نصحت بأن يتم اتباع قواعد أكثر وضوحا فى عمليات التفتيش تركز بالأساس على الأهداف الفنية، كما طالبت بكل وضوح أن تلتزم فرق التفتيش مراعاة الحساسيات الدينية والثقافية أثناء القيام بمهماتها وهى الحساسية التى كانت «الأنسكوم» كثيرا ما تتجاوزها فى العراق.
ولقد أُعجب «أنان» بهذه الأفكار وأعرب عن تقديره لمجهودى، وكذلك الروس وغيرهم. غير أن الخارجية الأمريكية كانت غاضبة وبشدة أننى لم أقم بالتشاور معهم قبل طرح هذه الأفكار على أعضاء مجلس الأمن والسكرتير العام. وحذرنى السفير الأمريكى فى فيينا من أن بعض المسؤولين الأمريكيين كانوا يهددون باللجوء إلى عدد من كُتاب الرأى فى الصحف الأمريكية، المعروفين بتشددهم فى دعم السياسات الأمريكية، مثل «ويليام سفاير» و«تشارلز كروتهامر» وغيرهما لشن حملة تُشكك فى مصداقيتى.
فى الوقت نفسه لم يعد هناك الكثير مما يمكن فعله فى ما يتعلق بموقف «الأنسكوم» إزاء العراق، حيث إن الضرر كان قد وقع فعلا، ولم يكن هناك من وسيلة لدرئه، وفى خلال العام كانت «الأنسكوم» قد تم تفكيكها من قِبل مجلس الأمن وتم استبدالها بلجنة جديدة هى «الأنموفيك» التى اتبعت معايير وقواعد مختلفة لعملها، لكن فى أعقاب عملية «ثعلب الصحراء» لم يوافق صدام حسين لمدة أربع سنوات على السماح لمفتشى الوكالة الدولية ومفتشى الأمم المتحدة بالدخول للعراق. وكان من شأن هذا الغياب أن يُسهم فى إيجاد شكوك بأن صدام حسين بصدد إعادة بناء برامج لأسلحة الدمار الشامل، وهو ما يوفر الذريعة لحرب أخرى.
وعلى الرغم من أن نجاح الوكالة فى تفكيك البرنامج النووى للعراق تسبب فى إسكات الأصوات التى تنتقدها، والتى كانت تقلل من شأن العمل الذى تقوم به، الأمر الذى مثَّل شهادة لكفاءة عمل الوكالة، إلا أنه من المنظور العراقى فإن عملية التفتيش من قِبل الوكالة والأنسكوم قد تم اختتامها بعملية «ثعلب الصحراء» وكان فى ذلك رسالة قاسية. وأصبح باديا للعراقيين أن الأمريكيين غير معنيين فقط بتفكيك البرنامج النووى العراقى، وأنه أيّا ما كان ما سيقوم به العراقيون فلم يكن أمامهم أمل فى تغيير موقف أمريكا تجاههم مهما فعلوا ومهما قدموا من تنازلات وتعاون. إن عملية «ثعلب الصحراء» أقنعت البعض بأن الهدف لم يكن تفكيك برامج أسلحة الدمار الشامل، ولكن تغيير النظام الحاكم فى العراق. وفى كل الأحوال فإن عدم ثقتهم وتشككهم فى عملية التفتيش قد تصاعد كثيرا.
وبعد أربع سنوات عندما تم استئناف عمليات التفتيش كان واضحا من أقوال ونظرات المسؤولين العراقيين الذين نعمل معهم أنها لا تزال تحمل الكثير من التشاؤم والتشكك.
M..osama 23-09-2012, 01:25 PM جزاك الله خيرا وبارك فيك
aymaan noor 23-09-2012, 01:26 PM سنوات الخداع - الحلقة الخامسة
عندما وصلت إلى بيونج يانج، عاصمة كوريا الشمالية، كان أولَ خاطر طرأ على ذهنى شعور بالامتنان لأن الطائرة التى نقلتنى هبطت بسلام، حيث كنت قد ركبت وزملائى من بكين إلى بيونج يانج واحدة من طائرات الخطوط الجوية لكوريا الشمالية، وهى واحدة من الطائرات السوفييتية قديمة الطراز، وقبل أن تقلع الرحلة رأيت قائد الطائرة يفحص ضغط الإطارات بركلة من قدمه!
ولدى وصولنا، عصر الجمعة، ركبنا سيارات فولفو قديمة وتوجهنا من المطار نحو قلب بيونج يانج. وحسبما أخبرونا فإن وسيلة التنقل حول المدينة للشخص العادى كانت السير على الأقدام لأن مترو الأنفاق لا يغطى المدينة بأكملها، ولأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون مجرد شراء دراجات للتنقل بها. وقد سمح لنا أن نتحرك سيرا فى بيونج يانج، ولكننا خلال جولتنا تلك لم نقابل الكثير من المشاة، وبدت المدينة كما لو كانت مدينة أشباح. لم يكن السير فى بيونج يانج أمرا ممتعا، بل على العكس، وكانت العلامة الرئيسية لمعظم الطرقات فى المدينة هى تلك التماثيل الكبيرة «للقائد العظيم» «كيم إيل سونج»، والد «القائد العزيز» «كيم يونج إيل».
وفى صباح اليوم التالى لوصولنا، السبت، وهو بداية العطلة الأسبوعية هناك، تم إخبارنا أن كل مسؤولى كوريا الشمالية يشار كون كل سبت فى ندوة «تثقيفية» للحزب الحاكم. وكنت قد نزلت مع زملائى فى أفضل فنادق بيونج يانج، «كوريو» وكانت أسعار الإقامة فى هذا الفندق مرتفعة للغاية خصوصا إذا ما قورنت بمحدودية الخدمات التى يقدمها لنزلائه بما فى ذلك ضَعْف الإضاءة وغياب التدفئة فى وسط الشتاء القارس إلى الدرجة التى كنا نضطر معها إلى استخدام الكثير من الأغطية للوقاية من البرد عند النوم وتواضع حال الطعام لدرجة أنه لا يحصل النزيل على أى صنف من أصناف الفاكهة وإذا ما أراد أحدهم شراء برتقالة فليس أمامه سوى اللجوء للسوق الحرة وأن يدفع ثمن هذه البرتقالة بالعملة الأجنبية.
وعندما أدرت التليفزيون فى غرفتى وجدت أنه أبيض وأسود، ولم يكن يبث سوى أفلام عن الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية خصوصا ما يصور ويلات وعذابات وقتل الكوريين على يد الأمريكيين وحلفائهم.
وفى مساء ذلك اليوم دعانا مضيفونا الكوريون إلى حضور سهرة ترفيهية فى الأوبرا كانت عبارة عن سلسلة متتالية من الأغانى والاستعراضات الوطنية، تنتهى كل واحدة منها بقيام الجنود الكوريين بطعن وقتل الجنود الأمريكيين. ولقد ذكرنى هذا العرض بعرض مماثل كنت قد شاهدته فى بكين عام 1977 عقب انتهاء الثورة الثقافية هناك.
ولقد جاءت هذه الزيارة إلى بيونج يانج فى 1992 فى ضوء الكثير من القلق حول برنامج كوريا الشمالية النووى. وكانت كوريا الشمالية قد انضمت لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فى 1985 ولكنها لم توقع على اتفاقية الضمانات الشاملة الملزمة والتى تسمح للوكالة بالتحقق من البرنامج النووى للبلاد إلا بعد ذلك بسبعة أعوام. ودخل الاتفاق حيز النفاذ فى أبريل 1992، وفى الرابع من مايو قدمت كوريا الشمالية إقرارا مبدئيّا بالمواد النووية الموجودة لديها، وكان لدى كوريا الشمالية، حسب هذا الإقرار، سبعة مواقع نووية و90 جراما من البلوتونيوم، وكانت مهمة الوكالة هى التأكد من أن هذه المنشآت والمواد تستخدم فى الأغراض السلمية فقط.
بدأت التساؤلات فى الظهور فى منتصف الصيف. فوفقا لما ذكرته كوريا الشمالية فإن البلوتونيوم نتج عن عملية واحدة لإعادة معالجة قضبان الوقود التالفة تمت فى سنة 1989. وتحققت الوكالة، فى عملية التفتيش الأولى، من وجود 60 جراما من الـ90 المعلن عنها. وادعى الكوريون الشماليون أن الـ30 جراما الباقية لم تستخرج بشكل صحيح، وأنها موجودة فى النفايات. لكن تحليل العينات البيئية التى أخذها مفتشو الوكالة أوضح غير ذلك.
وكان السبب الأساسى لهذا التباين راجعا إلى أن تكوين البلوتونيوم الظاهر فى عينات النفايات لم يكن متوافقا من البلوتونيوم الذى قدم للتحقق منه. وشبهه «بليكس»، بمهارته التقليدية فى التشبيهات، بحالة العثور على زوجين من القفازات التى يختلف مقاس أحدهما عن الآخر. ومن الناحية الفنية فإن ذلك يعنى أمرين: أنه لا بد أن هناك مجموعة أخرى من النفايات موجودة فى مكان ما وأنها متوافقة مع المنتج الذى تم التحقق منه. وثانيا أنه لا بد أن هناك مخبأ للبلوتونيوم الإضافى فى مكان ما لم نطلع عليه. وتمثلت إحدى المشكلات الأساسية فى أننا لم نكن نعلم ما إذا كانت الكمية «الإضافية» من البلوتونيوم التى نبحث عنها تقدر بالجرام أو بالكيلوجرام.
وكانت دهشة الكوريين الشماليين واضحة إزاء تقدم وسائل التحليل التى تتبعها الوكالة. فقد أصبحت تقنياتنا البيئية فى أخذ العينات تساعدنا على التأكد، ليس فقط من مدى صحة إقرار الكوريين الشماليين، ولكن أيضا من مدى اكتماله.
وبدأ كلامهم يتغير. أقرت كوريا الشمالية بأنها قامت بتجربة صغيرة واحدة، والتى يعزون إليها عدم التوافق الذى أظهرته تحاليل الوكالة. لكن هذا التفسير لم يكن سليما فنيّا. فالمفاعل المقصود، وهو من طراز «ماجنوكس» السوفييتى التصميم، كان قد بُدئ تشغيله فى عام 1985. واستطاع خبراء الوكالة، من خلال تحليلهم للعينات، أن يقرروا أن عملية إعادة معالجة الوقود لفصل البلوتونيوم قد تمت عبر فترة زمنية أطول وبطريقة أكثر تعقيدا مما أقر به الكوريون الشماليون. وانتهى المفتشون إلى أنه خلال السنوات السبع التى تم فيها تشغيل المفاعل فإن عمليات إعادة معالجة الوقود المستنفد تمت ثلاث أو أربع مرات، وبالتأكيد، فى أكثر من مجرد «تجربة صغيرة واحدة» كما كانوا يقولون.
مجال آخر من مجالات التباين كان يتعلق بإخفاء المنشآت النووية. كان المفاعل من طراز «ماجنوكس» يقع فى «يونج بيون» الواقعة على بُعد مئة كيلومتر شمال العاصمة، والتى يستغرق الوصول إليها ساعتين ونصفا أو ثلاث ساعات ونصفا حسب حالة الطقس. وكانت الوكالة على علم بوجود منشأة لتخزين النفايات النووية فيها يطلق عليها اسم المبنى 500. ولكن اتضح من صور التقطتها الولايات المتحدة الأمريكية بالأقمار الاصطناعية وأمدت الوكالة بها أن بيونج يانج لم تُخطر الوكالة بكل تفاصيل الموقع وأبعاده وأن هناك مبنى من طابقين يتم تدريجيا إخفاؤه تحت الأرض، يعتقد أنه مخصص أيضا للنفايات النووية، وفى النهاية تم إخفاء المنشأة بأكملها تحت الأرض، والتمويه على مكانها بأشجار كثيفة، وقد تم كذلك التعرف على موقعين للاختبارات شديدة الانفجار أحدهما بالقرب من المفاعل والآخر على بُعد حوالى عشرين كيلومترا.
وفى أواخر أغسطس 1992، ومع تصاعد القلق تجاه الإجابات التى كان يقدمها الكوريون الشماليون تمت عملية تفتيش أخرى. وجاءت النتيجة مرة أخرى خليطا من التعاون والتعطيل. وتم تنسيق هذه الزيارة من جانب كوريا الشمالية بواسطة العسكريين وتولى قائد يونج بيون شخصيّا جانبا كبيرا من المهمة. وكان الأمر يبدو كما لو كان الكوريون الشماليون يختبرون المفتشين للاطلاع على مدى معلوماتهم. وقوبل طلبنا التفتيش على موقعَى النفايات ومواقع الاختبارات شديدة الانفجار بالرفض القاطع، ثم تراجع الكوريون الشماليون ووافقوا على السماح للمفتشين بزيارة المبنى رقم 500 المخصص للنفايات، وكذلك مواقع الاختبارات شديدة الانفجار. لكن التعاون الكامل ظل مع ذلك أمرا غير وارد، ففى إحدى المرات توجه المرشدون بالمفتشين إلى موقع خطأ وبدا عليهم الاضطراب عندما واجههم المفتشون بخطئهم. وفى النهاية أنكر الكوريون الشماليون تماما وجود موقع آخر للنفايات وأن ما أشرنا إليه ليس إلا مخابئ عسكرية رفضوا دخول المفتشين إليها.
وخلال شهر سبتمبر حتى أواخر أكتوبر، ومع تصاعد التوتر، عقدنا فى مقر الوكالة بفيينا عدة اجتماعات مع وزير الطاقة النووية الكورى الشمالى، «شو هاك جن»، والوفد المرافق له. وكلما قدمت الوكالة أرقاما تعبر عن تحليلاتها، كان الكوريون الشماليون يضبطون إقرارهم وفقا لها. ولكنهم مع ذلك لم يقدموا ما نعتبره نحن إقرارا كاملا وصادقا.
وأخيرا قرر «هانز بليكس»، مدير عام الوكالة فى ذلك الحين، أن يوفدنى فى رحلة إلى بيونج يانج لمواجهة المسؤولين هناك والوصول إلى إجابات واضحة، وحثهم على تقديم إقرار جديد ودقيق حول برنامجهم النووى يبين المواد والمنشآت النووية التى نعتقد أنهم لم يكشفوا عنها. كنا، باختصار، نطالبهم بالوفاء بالتزاماتهم طبقا لاتفاق الضمانات وإلا فإننا سنضطر إلى طلب إجراء «تفتيش خاص»، وهى آخر أداة يمكن أن تلجأ إليها الوكالة للوصول إلى المواقع المشتبه فيها. كنت أشغل فى ذلك الوقت منصب مدير العلاقات الخارجية فى الوكالة. ومن هنا جاءت رحلة ديسمبر 1992 التى رافقنى فيها اثنان من كبار موظفى الوكالة هما النرويجى «سفن ثوريستون»، المدير المسؤول فى إدارة الضمانات، ومساعده الفنلندى «أوللى هاينونين» الذى كانت له مشاركة كبيرة فى عمليات التفتيش الأولى.
كانت المناقشات شاقة، أثبت الكوريون الشماليون خلالها كفاءتهم التفاوضية. كان هناك تقسيم واضح للعمل فى ما بين أعضاء الوفد. اتهمنا البعض بأننا عملاء للأمريكيين. وعندما أجبت بحدة على ذلك هموا بالاعتذار. واتبع غيرهم نهجا أكثر نعومة، ولما لم ينجحوا فى ذلك عادوا إلى زملائهم الأكثر شدة. وتكرر هذا الأسلوب فى شأن موضوعات عديدة. وفى الوقت نفسه بدأت وسائل إعلامهم فى مهاجمة «بليكس» ومهاجمتى ومهاجمة الوكالة بشكل عام واتهمتنا بأننا أذناب للأمريكيين.
استمر الحال على ذلك لمدة ثلاثة أيام، وكنت فى نهاية كل يوم منها أجرى اتصالا بـ«بليكس»، عبر هاتف الفندق، لأخبره بأننا لم نحقق تقدما. وبالطبع فقد كنا نعلم أن هناك من يتنصت على هذه المكالمات، وبالتالى فقد تمت صياغة الحديث فى هذه المكالمات على نحو يفهم منه أننا سنطلب إجراء «تفتيش خاص» وذلك للضغط على بيونج يانج لكى تفصح عن المعلومات المطلوبة.
ومع حلول مساء اليوم الثالث كان واضحا لنا أن هذه الزيارة لن تحقق إنجازا كبيرا. وفى هذه الأمسية دعانا نائب وزير الخارجية «كانج سوك جو» إلى العشاء وكان العشاء عبارة عن وجبة مكونة من قطعة من الهامبورجر وفوقها بيضة مقلية.
وفى بداية العشاء طرحتُ على مضيفنا سؤالا لم يكن الغرض منه إلا بدء الحديث وليس إثارته، ولكن يبدو أنه كان كذلك، حيث قلت له: «لماذا تكنّ بلادكم كل هذا الحنق إزاء الولايات المتحدة الأمريكية؟».
كانت الإجابة أبعد ما تكون عن حديث ودى، وتحولت إلى محاضرة مفصلة لمدة خمس وأربعين دقيقة حول تاريخ علاقات كوريا الشمالية بالولايات المتحدة الذى يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما وصلت السفينة الأمريكية «جنيرال شيرمان» إلى شبه الجزيرة الكورية عبر نهر «تايدونج» وألقت مراسيها على مشارف بيونج يانج. وأحرق أبناء المنطقة السفينة وقتلوا طاقمها فى ما اعتبر نصرا بطوليا ضد الغزاة الأجانب. وقيل إن الجد الأكبر لقائد كوريا الشمالية العظيم، «كيم أيل سونج»، كان قد شارك فى هذا الهجوم.
استمر الأمر على ذلك بينما ظل الطعام أمامنا دون أن تمتد إليه يد. حيث حكى نائب وزير الخارجية كل وقائع العلاقة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية منذ ذلك التاريخ. وعندما توقف وجهت إليه، من باب اللياقة، سؤالا آخر استغرقت الإجابة عليه ربع ساعة أخرى. وكان من الواضح أن كوريا الشمالية منخرطة فى صراع طويل الأجل مع الولايات المتحدة لاقتناعها بأن الأمريكيين مصممون على محاولة تغيير نظام الحكم.
وبعد ذلك كله اضطررت من باب اللياقة، للمرة الثانية، أن أتناول الطعام الذى أصبح بالطبع غير شهىّ بعد مرور ما يزيد على ساعة من وضعه على مائدة الطعام. لكن الدبلوماسية كانت تقتضى أن نبدأ فى تناول الطعام.
عدنا إلى فيينا، وبعد نقاشات مطولة، قرر «بليكس» أن يطلب من كوريا الشمالية الموافقة على إجراء «تفتيش خاص»، وكان ذلك قرارا استثنائيّا نادرا ما تلجأ إليه الوكالة وكانت المرة الوحيدة التى لجأت فيه الوكالة إلى ذلك الإجراء هى عقب سقوط «نيكولاى تشاوشيسكو» فى رومانيا، وجاء طلب التفتيش الخاص من قِبل النظام الجديد فى رغبة منه للتأكيد على القطيعة التامة مع كل ما كان نظام «تشاوشيسكو» الشيوعى يفعله. وفى حالة كوريا الشمالية كان اللجوء إلى تلك الخطوة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤشرا على التوجه نحو التصعيد.
وحسبما كان متوقعا فقد رفضت كوريا الشمالية هذا الطلب وأكدت أنها لن تسمح لمفتشى الوكالة بدخول المنشأة التى تم إخفاؤها تحت الأرض والتى تعتقد الوكالة أن بها مخزونا من النفايات النووية.
فما كان من الوكالة إلا أن قررت عقد جلسة خاصة لمجلس المحافظين، وكان الحضور فيها مقصورا على عدد محدود من الدبلوماسيين من كل دولة عضو فى المجلس. وفى هذا الاجتماع ذكرت أمانة الوكالة أن هناك ثلاثة أنواع من الأسباب للقلق إزاء موقف كوريا الشمالية، الأول فنى يتعلق بالتباين فى المعلومات المقدمة من بيونج يانج حول برنامجها النووى، والثانى يتعلق بعدم تعاون كوريا الشمالية مع التفتيش، والثالث يتعلق بإخفاء المعلومات.
وفى ما يتعلق بإخفاء المعلومات تم إطلاع المجلس على صور الأقمار الصناعية التى قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية حول المنشآت النووية فى كوريا الشمالية، ورغم التغيير الذى أحدثته الولايات المتحدة على الصور لعدم كشف مدى قدراتها الاستطلاعية كان من الممكن مشاهدة نوافذ الأبنية بوضوح.
كانت تلك هى المرة الأولى فى تاريخ الوكالة التى تقدم فيها الأمانة معلومات استخبارية زودتها بها دولة عضو إلى جلسة مجلس المحافظين. ولم تكن الدول الأعضاء من قبل مستريحة إلى استخدام الوكالة لأية معلومات تحصل عليها بواسطة وكالات الاستخبارات الوطنية. كانت حالة العراق استثناء من ذلك، لأن أعمال التفتيش فى العراق كانت تتم بناء على صلاحيات استثنائية تضمَّنها قرار مجلس الأمن رقم «687»، لذا كان اجتماع مجلس المحافظين هذا حول كوريا الشمالية بمثابة علامة فارقة. وفى السنوات التالية أصبحت الإشارة إلى استخدام المعلومات الاستخبارية أمرا اعتياديّا.
وبعد ذلك بخمسة أسابيع قرر مجلس المحافظين طبقا لأحكام اتفاق الضمانات مع كوريا الشمالية إحالة ملف الأخيرة إلى مجلس الأمن بسبب مخالفتها لالتزاماتها بمقتضى هذا الاتفاق، فما كان من بيونج يانج إلا أن زادت من العراقيل التى تضعها أمام مفتشى الوكالة الدولية دون أن تنسحب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بما يعنى أن مفتشى الوكالة على الأقل احتفظوا بقدراتهم فى التأكد من التفتيش على المنشآت والمواد المعلنة من قِبل بيونج يانج.
مع تركيزها على الحوار وضبط النفس حالت الصين دون تبنى مجلس الأمن قرارا يوقع عقوبات على كوريا الشمالية أو يطالبها بعدم الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وانتهى الأمر بـ«دعوة» بيونج يانج إلى السماح للمفتشين الدوليين بالقيام بالمزيد من التفتيش للتيقن من حقيقة المنشآت والمواد غير المعلن عنها عوضا عن «مطالبتها» بالقيام بذلك وهذا الفرق اللغوى الذى يبدو بسيطا وهو الفرق بين الإلزام وعدمه، قد يكون هو السبب فى استمرار كوريا الشمالية فى التعاون المحدود مع الوكالة. واعتمد مجلس الأمن قراره رقم «825» فى مايو 1993، وامتنعت كل من الصين وباكستان عن التصويت.
وخلال عام 1993 لم يحدث الكثير من التقدم وظل مفتشو الوكالة يواجهون عراقيل كثيرة من مسؤولى كوريا الشمالية، ولكن فى ربيع عام 1994 حدث تطور مرتبط بقرار حكومة كوريا الشمالية تغيير قلب المفاعل النووى فى يونج بيون، وهو ما يمثل فى مجموعه ثمانية آلاف من قضبان الوقود المستنفد لتخزينها أو إعادة معالجتها، وكان ذلك فرصة للمفتشين للتأكد من نوع وكمية البلوتونيوم المستخدم فى ذلك المفاعل لمضاهاة نتيجة هذه التحليلات بتحليلات سابقة وبمعلومات قدمتها كوريا الشمالية، وبالتالى إيجاد مؤشرات للأغراض التى يمكن أن تكون بيونج يانج قد استخدمت فيها البلوتونيوم المفقود ومؤشرات لمجمل أنواع البلوتونيوم المتاح لدى كوريا الشمالية الذى يمكن استخدامه فى صنع الأسلحة.
لكن السؤال الأساسى هنا كان يدور حول ما إذا كان ذلك هو القلب الأصلى للمفاعل أم أنه استُبدل فى وقت سابق دون إبلاغ الوكالة عن ذلك. فما دام تشغيل المفاعل ينتج البلوتونيوم فمن الممكن أن يكون الوقود المستنفد قد أعيدت معالجته سرّا أيضا وفصل عنه البلوتونيوم. ولكن كوريا الشمالية لم تتعاون بأسلوب يمكن للوكالة معه أخذ العينات اللازمة للإجابة عن هذا السؤال. وعُرض الأمر على مجلس المحافظين الذى قرر إحالة الملف مجددا إلى مجلس الأمن. وتبنى مجلس المحافظين هذه المرة قرارا أكثر حسما تم بمقتضاه تعليق التعاون الفنى بين الوكالة الدولية وكوريا الشمالية فى مجالات الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية بما فى ذلك الطب والزراعة وغيرهما من التطبيقات الإنسانية للتكنولوجيا النووية.
وكان رد فعل بيونج يانج هو إنهاء عضويتها فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما كانت بصدد الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لولا أنها تراجعت عن ذلك قبل نحو يوم من تنفيذ هذا القرار، بعد إلحاح من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن التعاون بين الوكالة وبيونج يانج تقلص بشدة.
وفى صيف 1994 بدأت الولايات المتحدة الأمريكية فى الدخول فى مفاوضات مباشرة مع كوريا الشمالية، عُقدت فى جنيف، بغرض تحسين الوضع. وقد ساهم فى تسيير هذه المفاوضات التدخل الكبير الذى قام به الرئيس الأمريكى السابق «جيمى كارتر» بصفة شخصية مع زعيم كوريا الشمالية «كيم إيل سونج». وكانت نتيجة هذه المفاوضات هى التوصل إلى اتفاق إطارى فريد من نوعه يمكن أن يظل قائما لسنوات طويلة قادمة.
ويقوم الاتفاق الإطارى على أساس «عمل مقابل عمل» يتم فى إطار زمنى محدد. وكانت نقطة البداية فى هذا الاتفاق هى قيام كوريا الشمالية بتجميد أنشطتها النووية، بما فى ذلك مفاعل الأبحاث ومنشأة إعادة معالجة الوقود النووى فى يونج بيون ومنشأتان أخريان جارٍ بناؤهما، ومفاعل طاقة بقدرة خمسين ميجاوات والآخر بقدرة مئتى ميجاوات. وفى مقابل تجميد أنشطتها النووية تحصل كوريا الشمالية مجانا على مفاعلَى طاقة مقاومين للانتشار بقدرة ألف ميجاوات لكل منهما، مع تزويدها بالنفط الخام اللازم لتلبية احتياجاتها من الطاقة خلال الفترة التى يستغرقها بناء هذين المفاعلين. أما نقطة الختام المفترضة فكانت استئناف كوريا الشمالية لكامل التزامها بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية مقابل تطبيع العلاقات بين بيونج يانج وواشنطن.
ولكن حسبما قال «روبرت جالوتشى» المسؤول الأمريكى عن التوصل لهذا الاتفاق، فإن الغرض منه هو كسب المزيد من الوقت الذى كانت واشنطن تأمل خلاله أن يتداعى نظام بيونج يانج من داخله.
ولم يكن رد فعلى الأوّلِىّ لهذا الاتفاق إيجابيّا لأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تكن طرفا فى المفاوضات حول هذا الاتفاق خاصة فى ما يتعلق بمسألة التحقق من النشاطات والمنشآت النووية فى كوريا الشمالية. فمن الناحية القانونية فإنه ما دامت كوريا الشمالية قد «علقت» قرارها بالانسحاب من المعاهدة كان من المفترض أن تستأنف الوكالة التفتيش بمقتضى اتفاق الضمانات الشاملة. لكن الاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة لم يكن يسمح لها بذلك فى المراحل الأولى من تنفيذ الاتفاق، حيث كان تطبيق اتفاق الضمانات الشاملة مرهون بأن تعود كوريا الشمالية أولا إلى العضوية الكاملة فى المعاهدة، وهو الأمر الذى لم يكن ليتم إلا بعد تنفيذ كل من طرفَى الاتفاق الإطارى لالتزاماتهما بموجبه. وكان فى قبول الوكالة الدولية لذلك الاتفاق غضاضة سياسية وقانونية. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الاتفاق لم يكن فيه ما يحل لغز البلوتونيوم المختفى والمنشآت غير المعلنة، ومن الناحية الفنية فإن تأجيل التفتيش الشامل من قِبل الوكالة فى كوريا الشمالية كان معناه أنه سيكون شبه مستحيل فى المستقبل من تتبع تطورات البرنامج النووى لكوريا الشمالية وبالتالى التحقق من أن كافة المواد النووية فى كوريا الشمالية تستخدم فقط فى الأغراض السلمية طبقا لاتفاقية منع الانتشار. وبالتالى فإن دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصبح بعد الاتفاق الإطارى، الذى طلب مجلس الأمن من الوكالة تنفيذه، مقصورا على التأكد من التزام كوريا الشمالية بتجميد أنشطتها النووية، وبصفة خاصة عدم معالجتها للوقود النووى المخزون لديها لاستخلاص البلوتونيوم التى يمكنها استخدامه فى تطوير سلاح نووى.
ومع أنه من الناحية الفنية لم تكن هناك حاجة لإبقاء مفتشى الوكالة فى بيونج يانج لفترات طويلة إلا أن بعض الدول أفادت بأن ذلك سيكون مطلوبا من الناحية السياسية. وبالفعل تم الاتفاق على أن يتم إبقاء ثلاثة مفتشين فى كوريا الشمالية، وبالنظر لصعوبة الظروف المعيشية والتقييدات الكبيرة المفروضة على حركتهم، فقد كنا نقوم بتغيير المفتشين الموجودين بكوريا الشمالية مرة كل ستة أسابيع أو نحو ذلك خوفا على حالتهم النفسية.
لقد مثل اكتشاف التباين بين أنواع البلوتونيوم الموجودة فى كوريا الشمالية إنجازا مهمّا يُنسب لمفتشى الوكالة، ولكننى لست متأكدا مما إذا كان الموقف الذى اتخذته الوكالة فى 1993 بطلب عمليات تفتيش خاصة كان هو النهج الصحيح، خاصة أننا كنا نعلم مقدما أن هذا الطلب سيتم رفضه من قِبل بيونج يانج مما كان سيفضى على الأرجح إلى المواجهة. وقد دلت تجاربنا السابقة على أن مجلس الأمن، وهو المكلف بمقتضى النظام الأساسى للوكالة بضمان امتثال الدول لالتزاماتها، لن يتخذ إجراءات قوية، لذا ربما كان من الأفضل أن يستمر التفاوض مع نظام كوريا الشمالية الذى كان يعلم كما كان الجميع يعلم أن الورقة الرابحة بالنسبة له هى قدراته النووية، وهى الورقة التى كان سيستخدمها بغض النظر عن رخاء شعبه أو معاناته، لأن ذلك هو الشىء الوحيد الذى يمكن، فى نظره، من خلاله مواجهة ما تعتقد بأنه رغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى إزاحة النظام. ولم يكن هناك الكثير الذى يمكن أن يتحقق من وراء فرض عقوبات على كوريا الشمالية أو بالطبع التهديد باستخدام القوة، لأن سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، كانت على بعد لا يزيد على ثلاثين كيلومترا من الحدود والتى بالطبع ستكون معرضة للهجوم إذا ما تم استخدام القوة ضد كوريا الشمالية. على أية حال فإن هذه كانت المرة الأخيرة التى لجأت فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية للمطالبة بعمليات تفتيش خاصة للتحقيق مع أى منشآت أو مواد نووية قد تكون غير معلنة إلى أن أُتيحت للوكالة فرص أفضل للتفتيش بعد اعتماد البروتوكول الإضافى لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
وعلى كل حال، فبعد فشل هذه الخطوة من قِبل الوكالة الدولية لم يكن أمام المجتمع الدولى من حلٍّ للتعامل مع كوريا الشمالية سوى محاولة استعادة الثقة وتقليل التوتر، واستخدام الوقت لمقايضة كوريا الشمالية على برنامجها النووى. ويبدو أن هذا ما كان الاتفاق الإطارى الذى تم توقيعه بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية يسعى إليه. ولكن الاتفاق الإطارى فشل فى تحقيق أهدافه جراء عدم التزام أمريكا بمد كوريا الشمالية بالمفاعلات التى وعدت بها لتوليد الطاقة، وهو ما دعا بيونج يانج للاعتقاد بأن واشنطن لا تتعامل معها بحُسن نية.
وفى كل الأحوال يمكن النظر لهذه التجربة على أنها نموذج واضح لما يمكن أن ينجم عن التعامل مع أعراض مشكلة الخلل الأمنى دون التعامل طويل المدى مع أصول المشكلة ونزع فتيل التوتر. وفى رأيى أن تقديم ضمانات أمنية ومساعدات للتنمية هو دائما الطريق الأكثر فاعلية للتعامل مع هذا النوع من المشاكل، وليس تطبيق العقوبات التى عادة ما تؤدى إلى تصعيد التوتر وليس التقليل منه.
ذهبنا لحضور سهرة ترفيهية فى الأوبرا كانت عبارة عن سلسلة متتالية من الاستعراضات الوطنية ينتهى كلٌّ منها بقيام الجنود الكوريين بطعن وقتل الجنود الأمريكيين
aymaan noor 23-09-2012, 01:30 PM سنوات الخداع - الحلقة السادسة
مع حلول عام 2002 كان المشهد الأمنى فى العالم قد تغير بشكل ملحوظ، فبعد هجمات 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة أصبح واضحا لدى الجميع أن الجماعات المتطرفة لديها قدرة كبيرة على القيام بعمليات انتحارية معقدة، بل إنه اتضح بعد ذلك أن هذه الجماعات المتطرفة ترغب أيضا فى الحصول على أسلحة الدمار الشامل. وردّا على ذلك كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تبذل جهدا كبيرا لمساعدة الدول على تأمين المواد النووية التى بحوزتها للحيلولة دون استخدامها على نحو غير مشروع.
وفى هذا الوقت كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد حققت تطورا مهمّا فى أدائها بالنظر إلى التجارب التى اكتسبتها من خلال التعامل مع ملفات مثل الملف العراقى وملف كوريا الشمالية، إضافة إلى ذلك أن الوكالة كانت قد طورت قدراتها القانونية والتكنولوجية الخاصة بالتحقق.
كان المشهد قد تغير كذلك بسبب النهج الذى تبنته إدارة جورج دبليو بوش بشأن التسلح النووى حيث اتخذ الرئيس الأمريكى فى ديسمبر من عام 2001 قرارا أحاديّا بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية بينها وبين روسيا، وكانت تلك المعاهدة واحدة من أهم الأسس التى تم بناء عليها التهادن الأمريكى السوفييتى منذ عام 1972.
وحتى عندما قام بوش ونظيره الروسى بوتين بتوقيع اتفاقية جديدة فى مايو 2002 المعروفة باسم معاهدة الحد من القدرات الهجومية الاستراتيجية، فإن هذه الاتفاقية كانت محل تهكم كبير فى الأروقة الدبلوماسية بالنظر إلى أنها لم تكن تتضمن: 1- وسيلة للتحقق من التخفيض الذى تم التعهد به فى الترسانات النووية. 2- أنها كانت ذات طبيعة مؤقتة حيث كان ينتهى العمل بها فى ديسمبر 2012، وبالتالى لم تكن تُلزم أيّا من الطرفين باستمرار العمل بها بصفة دائمة. 3- أن الانسحاب من هذه الاتفاقية لم يكن يتطلب إلا أن يقوم الطرف الراغب فى الانسحاب بتقديم إخطار مسبق لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر. وبالنسبة إلى خبراء السياسات النووية كان من الواضح أن هذه المؤشرات لا تعبر عن أى جدية من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ التزاماتها المتعلقة بخفض الأسلحة النووية، وهى الالتزامات المقررة حسب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بل على العكس من ذلك، حيث كان باديا أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتزم الاحتفاظ بترسانتها النووية أو تعزيزها، وفى ذات الوقت كانت تريد أن ترى فيه شدة أكبر فى التعامل مع أى احتمالات لانتشار أسلحة الدمار الشامل بين الدول الأخرى.
كان هذا هو السياق القائم فى أواخر 2002 عندما بدأ التركيز على العراق.
وإضافة إلى ذلك بدأ البعض يتحدث فى الصحافة والتليفزيون عن صلات ما تربط صدام حسين بتنظيم القاعدة، بل عن يد خفية للرئيس العراقى فى هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، مع استمرار الاتهامات لبغداد بالاحتفاظ ببرامج لأسلحة الدمار الشامل. وكان يعنينا بوجه خاص ما تذكره الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أن لديهما أدلة قاطعة على أن الزعيم العراقى لم يفكك أسلحته للدمار الشامل. وكانت الوكالة متغيبة عن العراق منذ مغادرتنا له على عجل فى 1998 قبيل عملية ثعلب الصحراء، مما حدّ كثيرا من قدرتنا على الاطلاع على مجريات الأمور هناك خلال هذه السنوات الأربع.
وكان الرئيس بوش قاطعا فى تأكيداته فى هذا الشأن. فقد ألقى خطابا فى مدينة سينسيناتى بولاية أوهايو فى 2 أكتوبر 2002 يمثل ذلك خير تمثيل:
منذ أحد عشر عاما كان مطلوبا من النظام العراقى، كشرط لإنهاء حرب الخليج الفارسى، أن يدمر أسلحته للدمار الشامل، والتوقف عن كل تطوير لمثل هذه الأسلحة، والتوقف تماما عن دعم الجماعات الإرهابية. وقد انتهك النظام العراقى كل هذه الالتزامات؛ فهو يمتلك وينتج أسلحة كيماوية وبيولوجية ويسعى للحصول على أسلحة نووية. لقد قدم للإرهاب المأوى والمساندة، بل يمارس الإرهاب ضد شعب العراق نفسه. لقد شهد العالم كله خلال أحد عشر عاما تاريخا من التحدى والخداع وسوء النيات».
ثم يقول فى الخطاب نفسه:
«إن الأدلة تفيد أن العراق يُعيد تشكيل برنامجه للتسلح النووى. لقد عقد صدام حسين اجتماعات عديدة مع العلماء النوويين العراقيين الذين يطلق عليهم اسم (المجاهدين النوويين)؛ أى المحاربين النوويين فى الحرب المقدسة. وتدل صور الأقمار الاصطناعية على أن العراق يعيد بناء المنشآت فى المواقع التى كانت جزءا من برنامجه النووى فى الماضى. لقد حاول العراق شراء أنابيب الألمنيوم شديد الصلابة وغيرها من المعدات اللازمة لأجهزة الطرد الغازية التى تستخدم فى تخصيب اليورانيوم لصنع الأسلحة النووية».
وقد أصبح واضحا من هذا النوع من التصريحات التى كان بها كثير من المعلومات المغلوطة والمضللة أو التى تحتاج إلى التحقق؛ أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت فى التحرك باتجاه الضغط من أجل تغيير النظام فى العراق، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن تحقيق مثل هذا الأمر سواء من خلال الاستمرار فى فرض العقوبات العسكرية على العراق أم من خلال استخدام العمليات العسكرية، كما كانت الحال بالنسبة إلى أفغانستان. وبدا أن الضغط على العراق يؤتى ثماره، فبينما كان صدام حسين ينفى ما تقوله واشنطن إلا أنه أرسل خطابا للأمم المتحدة يدعو فيه إلى عودة المفتشين. وبعد كثير من النقاش تبنى مجلس الأمن قراره رقم (1441) فى 8 نوفمبر 2002 حيث صرح بعودة المفتشين للقيام بجولة جديدة من جولات التفتيش فى العراق.
كان العمل الذى يجرى وراء الكواليس أقل تناسقا وأكثر إفصاحا عن الوضع. والمثال على ذلك كان عملية صياغة القرار (1441) الذى لم تنشر مسودته الأولى التى صاغتها الولايات المتحدة، والتى كانت تريد أن تضع الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن فى موضع القيادة لعمليات التفتيش. وكانت تسعى من خلاله لأن يكون عمل المفتشين مصحوبا بوجود مرافقين مسلحين، وأن يقوم المفتشون بتقديم إفادات عن نتائج عملهم إلى الدول التى تطلب تفتيش موقع معين؛ وهو ما مثل رغبة فى استعادة منهج وأسلوب عمل الأنسكوم الذى تسبب فى فقدانها مصداقيتها.
وقبل اعتماد القرار (1441) بأسابيع، وفى مطلع أكتوبر 2002 توجهت مع هانز بليكس، رئيس لجنة «الأنهوفيك» التى خلفت «أنسكوم»، والتى كانت بالتالى مكلفة بالتفتيش عن الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وكذلك الصواريخ، لمقابلة كولين باول وزير الخارجية الأمريكى بناء على دعوته، وقد حضرت اللقاء كوندوليزا رايس؛ مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى، وبول وولفوتز نائب وزير الدفاع، ولويس ليبى رئيس مكتب نائب الرئيس الأمريكى ديك تشينى. وكان جو اللقاء متوترا، وبدا واضحا أن الأمريكيين فى خلاف داخلى حول أفضل السبل للتعامل مع العراق، فبينما كان باول يريد أن تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على الأمم المتحدة للقيام بعملية التفتيش كان وولفوتز وغيره من المتشددين يرغبون فى أن تعتمد أمريكا على نفسها وتتجاوز بالكامل الأمم المتحدة، أما رايس فكانت تقترح اعتماد آلية تكون فيها الأمم المتحدة فى الواجهة بينما تكون الولايات المتحدة الأمريكية هى الطرف الفاعل الرئيسى. وفى هذا فقد اقترحت رايس أن تتولى شخصية أمريكية مسألة متابعة المعلومات الاستخبارية التى يقوم عليها عمل «الأنموفيك»، لأن الأمريكيين كما قالت «يثقون فى رجالهم». ولقد استاء بليكس من هذا الطرح وأصر على أنه تم ترشيح شخصية كندية لتولى هذه المهمة بالفعل. كان هدفهم من الاجتماع محاولة إقناعنا بقبول بعض بنود مشروع القرار، التى كنا قد رفضناها. وكان بليكس صريحا للغاية، وقد أخبر رايس بأنه لن يقبل أن تكون مهمته مجرد واجهة لعملية تديرها الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كان الأمر كذلك فعليهم أن يفعلوا مثل ما فعلوا فى الحرب الكورية فى الخمسينيات، وأكد أن كل أفراد الفريق العامل معه سيخضعون لإشراف وتعليمات الأمم المتحدة دون غيرها، ودون أى تنازل فى هذا الشأن، وذلك بالرغم من الآراء التى قدمتها رايس حول أحقية الولايات المتحدة الأمريكية والأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن بالتدخل بوصفها عضوا دائما فى مجلس الأمن، وكادت تصل فى حديثها إلى حد المساواة بين دور وحقوق مجلس الأمن ودور وحقوق الولايات المتحدة الأمريكية.
أما نائب وزير الدفاع الأمريكى فقد تعامل مع اللقاء بأكمله، وربما مع فكرة إشراك الأمم المتحدة، على أنه مضيعة لوقته. وفى الكلمات القليلة التى نطق بها نظر إلى بليكس بصورة تفتقر إلى اللياقة وقال له: «سيد بليكس، أنت تعلم أن العراقيين لديهم أسلحة للدمار الشامل، أليس كذلك؟».
تعثرت المناقشة ولم تصل إلى شىء. بل إنَّ باول أخبرنا بصراحة تفتقر إلى الكياسة -حتى إن كانت النية منها إزاحة المسؤولية عن كاهلنا- بأنه فى حال ما تقرر استخدام القوة ضد العراق فإن ذلك سيكون قرارا يتخذه رؤساء الدول لا بليكس وأنا.
ورغم أننا تمكنا فى النهاية من إقناع واشنطن بالتنازل، فى مشروع قرار مجلس الأمن، عن بعض الأفكار المستفزة، فإنهم أصروا على بعض تلك الأمور منها أن يتم استجواب العلماء العراقيين خارج العراق، وأن يغادروا إلى البلاد مقر الاستجواب مع أُسرهم حتى لا يكونوا تحت وطأة صدام حسين ونظامه، وذلك بالرغم من الشروح الكثيرة التى قدمتها حول أن مفهوم العائلة فى الشرق الأوسط أوسع بكثير منه فى السياق الغربى، وأنه فى ضوء ذلك سيكون من الصعب منع الأذى الذى قد ينال أقارب العلماء العراقيين، إضافة إلى ما أكدناه من أنه ليس هناك أى دليل على رغبة العلماء أنفسهم فى مغادرة العراق للمثول أمام الاستجواب. ولكن كان باديا أن مثل هذه الأمور المتعلقة بحقوق الإنسان ليست لها الاعتبار الكبير بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية فى ما يتعلق بالتعامل مع ملف العراق.
وبعد ذلك بأسابيع وبينما التفاوض لا يزال مستمرّا فى مجلس الأمن حول تفاصيل عمل فِرق التفتيش تمت دعوتنا -بليكس وأنا- للتوجه لزيارة بروتوكولية إلى البيت الأبيض. وقبيل لقائنا مع الرئيس الأمريكى استقبلنا نائبه تشينى، وكان ذلك أول لقاء يجمعنا به. ومن خلف مكتبه تحدث تشينى بصورة مباشرة ودون أى مقدمات أو مجاملات، ليؤكد لنا أن «واشنطن لا مانع لديها من التعاون مع المفتشين الدوليين، ولكنها فى الوقت نفسه لن تتردد فى تقويض مصداقية عمليات التفتيش بهدف ضمان نزع أسلحة العراق».
وبعد ذلك التحذير جاء اللقاء مع بوش الذى كان فى الحقيقة أشبه ما يكون بمجرد جلسة استماع لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الذى كرر أكثر من مرة أنه متشرف بلقائنا دون أن تكون لديه النية للاستماع لأى شىء من قِبلنا فى حضرة مستشارة الأمن القومى رايس، ورئيس مكتب بوش. وتحدث بوش بصورة مباشرة قائلا إنه يحبذ أن يكون هناك حل سلمى للملف العراقى، وإنه ليس راعى بقر من تكساس مدججا بالأسلحة التى يخرجها الواحد تلو الآخر للتصويب على خصومه، ولكنه أشار فى الوقت نفسه أنه لو لم يتمكن من نزع أسلحة العراق بالسبل السلمية فإنه سيقود «تحالفا من الدول الراغبة» لاستخدام القوى العسكرية لنزع أسلحة صدام حسين.
وقد خرجنا من اللقاءين بانطباع أن الولايات المتحدة الأمريكية راغبة فى تسيير الأمور حسب إرادتها، وهو ما كان واضحا من مواقف أخرى كانت واشنطن تتخذها فى ذلك الوقت، بما فى ذلك محاولة صياغة القرار (1441) بلغة تسمح باستخدام القوة مباشرة ضد العراق إذا ما خرق مقتضيات هذا القرار وهو ما لم يكن مقبولا لكثير من الدول الأعضاء فى مجلس الأمن. وتم التوصل إلى صيغة توافقية تفيد بأن مجلس الأمن سيجتمع لينظر فى الخطوات التالية فى حال ما ثبت أن العراق يخرق مقتضيات القرار (1441).
بعد غياب أربع سنوات عن العراق أصبحت الأبواب مفتوحة ثانية أمام المفتشين الدوليين للعودة إليه. وكانت نقطة البداية بالنسبة إلينا هى مخزون معلوماتنا عن العراق والخاصة بقدراته ومنشآته النووية السابقة. كانت كل المنشآت المتبقية من التسعينيات والخاصة بدورة الوقود النووى أو بالأسلحة النووية قد تم تفكيكها، كما أن جميع المواد التى يمكن استخدامها فى التسلح كانت قد نقلت خارج العراق منذ فبراير 1994، ولم يعد فى حوزة العراق سوى القليل من اليورانيوم منخفض التخصيب الذى لا يمكن أن يستخدم فى تطوير سلاح نووى، ولكن بالطبع فإن أى برنامج للتفتيش لا يمكن أن يزيل الخبرة العلمية والفنية التى يتمتع بها العلماء؛ ففى فترة حرب الخليج الأولى كان هؤلاء العلماء لا يزالون بعيدين عن صنع سلاح نووى، ولكنهم قد توصلوا، على المستوى المختبرى، لمعرفة بعض أساليب التخصيب وتقنيات صنع الأسلحة، وبالتالى فلقد كانت مهمة المفتشين لدى عودتهم إلى العراق هى الاطلاع على ما حدث من تغيير، والتأكد من أن هذه الخبرة لم تستخدم، مع ما كان قد تبقى أو ما يمكن أن يكون العراق قد حصل عليه خلال السنوات الأربع التالية لعام 1998، فى تطوير منشآت أو مواد نووية يمكن أن تستخدم فى تصنيع أسلحة نووية. وكان ذلك يتم من خلال زيارة المواقع المعروفة والجديدة ونُظم الاستطلاع والرصد البيئى، ومن خلال برنامج موسع للمقابلات مع العلماء العراقيين وغيرهم من المعنيين بالأمر.
كانت خبرة وكفاءة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية عبر هذه السنوات قد تنامت، كما أنهم لم يكونوا يعملون فى العراق لأول مرة، وبالتالى كان لديهم من الفهم بثقافة العراق والمعرفة بمدى منشآته النووية ما يؤهلهم للعمل بكفاءة. وبالطبع فإن أحدا لا ينكر أن عمل المفتشين فى كل الأحوال يتأثر بصورة غير مباشرة وإلى حد ما بما يمكن أن يُكنه أحد المفتشين من مشاعر تعاطف أو عداء تجاه البلد الذى يعمل فيه، ومن جانبى فقد كنت دوما أحث كل الفريق على توخى الحيادية والدقة من الناحيتين الفنية والقانونية، والعمل على الاستماع لمجموعة واسعة من التوجهات والآراء المختلفة لخبراء الوكالة.
ولقد عهدت إلى عالِم الفيزياء الفرنسى المتميز جاك بوت، الذى كان يتولى إدارة مكتب التحقق النووى فى العراق، والذى كان يعمل من قبل فى البرنامج النووى الفرنسى، وبفضل قدراته الإدارية الممتازة عهدت إليه بإعداد خطة للعمل فى العراق تضمن سلامة التفتيش ومراعاة الحساسيات الثقافية، مع الأخذ فى الاعتبار حُسن التنسيق بين المفتشين، وهو ما قام به جاك بكفاءة وبراعة تتسق مع سمعته الطيبة وحسن علاقته بالجميع وحساسيته الثقافية.
وقد كان من المفيد جدّا أن يجد المرء من بين زملائه من يعهد إليه بمهام بالغة الحساسية والدقة فى تلك الأوقات المشحونة التى صاحبت بدء مهام التفتيش رسميّا فى 13 نوفمبر 2002، والتى كان ينبغى أن تتم فى سرعة وحسم بالنظر إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية الذى كان يحيط بالملف العراقى فى حال عدم التيقن من خلو العراق من أى برامج أو إمكانات لتطوير أسلحة دمار شامل. وهذا الأمر بدا واضحا بشدة فى تصريحات عدد من المسؤولين الغربيين، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والذين بدَوْا غير راضين عن أى شىء يقوم به العراق فى إطار التعاون مع عمليات التفتيش. فى الوقت نفسه كانت الصحافة الغربية تقدم تغطية بالغة الإثارة لادعاءات امتلاك العراق معدات أو مواد يمكن أن تستخدم فى تطوير أسلحة نووية، ولكن ما إن يكشف مفتشو الوكالة عن عدم صحة هذه المعلومات فإن التغطية الصحفية كانت تتراجع ولا تعطى أى اهتمام حقيقى بما كشف عنه المفتشون.
فى الوقت نفسه، فإن التعامل مع الجانب العراقى لم يكن دوما سهلا، بل إنه كثيرا ما كان يتعرض لكثير من الصعوبات سواء تمت هذه اللقاءات فى بغداد أم نيويورك أم فيينا. من هذه الصعوبات ما يتعلق بالصفات الشخصية لبعض العلماء والمسؤولين الذى كان علينا استجوابهم، مثل ما قام به كبير المسؤولين السابق عن البرنامج النووى العراقى الدكتور جعفر ضياء جعفر. كان قد تحدث مع جاك بوت بصورة غير لائقة، إلى حد أن قال له فى إحدى المحادثات إن لغته الإنجليزية لم تتحسن إلا عند زواجه من سيدة بريطانية، وهو ما اضطررت معه إلى أن أُذكّره بأن العراقيين ليس لديهم كثير من المصداقية بالنظر إلى الخداع الذى مارسوه بحق المفتشين لسنوات طويلة. واستدعى الأمر تدخل عامر السعدى للتهدئة، وقال إن ما قام به العراقيون لم يكن خداعا وإنما حيطة فى تقديم المعلومات!
والحقيقة أن جعفر كان يومها مستاء للغاية لأن تلك المقابلة، التى جرت فى نيويورك، جاءت وسط غضبه من عدم تمكنه من تسلم حقائب سفره القادم بها من العراق، وهو ما حال دون تبديل ملابسه بعد رحلة طويلة مرهقة. وقد كانت قناعة جعفر أن هذه عملية مدبرة من جانب الاستخبارات الأمريكية، وقد أعاد ذلك إلى خاطرى ما كان جعفر والسعدى وغيرهما من المسؤولين العراقيين يُكثرون من الشكوى منه لى حول تتبع عملاء المخابرات الغربية لهم ومحاولة استدراجهم وتجنيدهم خلال سفراتهم للخارج.
وفى المجمل فإن عمليات التفتيش كانت معقدة وحذرة بالنظر إلى سابق التجربة مع العراقيين وخداعهم للمفتشين فى الماضى، وكثيرا ما طالبت أنا وبليكس العراقيين بتقديم مزيد من الأدلة والمعلومات؛ وهو ما كان يجعل السعدى يبدو متوترا فى مرات لأنه كان يُصر أن هذه المطالب تضع العراق أمام تحدى توفير وثائق أو معلومات ليست بحوزته، وبالتالى فكان العراقيون يُصرون ويلحون أن علينا أن نصدقهم وأن نثق بأن العراق لم يعد لديه برامج لأسلحة الدمار الشامل أو إمكاناته، لكننا لم نكن بالطبع قادرين على الاعتماد فقط على ما يقولونه بالنظر إلى سابق خبرتنا معهم قبل حرب الخليج الأولى عام 1991.
بالإضافة إلى ذلك فإن التعامل مع المسؤولين العراقيين، خصوصا السعدى واللواء حسام أمين، لم يكن دوما أمرا يسيرا بالنظر إلى أن عمليات اتخاذ القرار فى العراق كانت شديدة المركزية وكان عليهما دوما أن يحصلا على إذن من جهة أعلى، فى الوقت نفسه فإن وزير خارجية العراق؛ ناجى صبرى الحديثى، لم يكن يتدخل بشكل مباشر فى عمليات التفتيش، ولم يكن يقدم أى إجابات عن أى من الأسئلة التى نطرحها عليه، وبقى فى حالة من الابتعاد عن تفاصيل العمل الذى كنا نقوم به.
وبالمقابل كان طه ياسين رمضان؛ نائب الرئيس العراقى، يتابع عن كثب تفاصيل عملية التفتيش. وتبنى رمضان منذ أول لقاء لنا معه فى مقر عمله، فى 20 يناير 2003، موقفا عدائيّا من عمليات التفتيش، واتهم المفتشين بالإساءة إلى صورة العراق، وبإثارة مشكلات غير مسببة، وبالافتقار إلى الحيادية.
وردّا على ما قاله تحدثت بالعربية، بالرغم من وجود مترجم فى اللقاء، وأخبرته بلغة لا تحتمل التأويل: «إننا هنا لمساعدتكم، ولكننا لا نستطيع مساعدتكم إذا لم تتعاونوا معنا»، مضيفا أن إلقاء الاتهامات جزافا فى وجه المفتشين الدوليين واتهامهم بالتجسس على العراق لن يفيد العراق فى شىء. وأنه بدلا من ذلك لا بد أن تظهروا مزيدا من التعاون والشفافية لحل المسائل المعلقة. وبدا لى أن الرسالة وصلت إلى رمضان، خصوصا أن درجة التوتر التى كانت تسيطر على حديثه قد تراجعت، وفُهم أننا فى العراق لتنفيذ مهمة عهد إلينا بها مجلس الأمن، وأن التعاون من جانبهم هو السبيل الوحيد للمأزق الذى وضعوا أنفسهم فيه لتنفيذ تلك المهمة بنجاح. وقد كان رمضان ودودا للغاية معى عندما صافحته فى نهاية الاجتماع قائلا لى: «بارك الله فيك».
وفى ذلك اللقاء، كما فى كل تفاصيل الملف العراقى، كنت دوما أتصرف من مقتضى واجباتى كموظف دولى عليه مسؤوليات محددة فى ما يتعلق بالحياد والنزاهة والمهنية مع كل الدول دون استثناء، وذلك بالرغم من الادعاءات التى حاول أن يروج لها البعض عن أن هويتى؛ كونى عربيّا ومصريّا ومسلما، يمكن أن تؤثر على مواقفى وقراراتى لصالح العراق، وما حاول أن يروج له البعض الآخر من أننى فى سعيى لعدم الاتهام بمحاباة العراق أبالغ فى التشدد فى التعامل مع الملف العراقى. ولم يكن لأى من الفريقين نصيب من الصحة فى ما قالوا به، وأظن أنه مع مُضى الوقت أصبح جليّا للعراقيين أننى لن أحابيهم فى شىء، وأصبح جليّا لغيرهم أننى لا أفعل ذلك، كما أننى لا أفعل عكس ذلك.
وفى كثير من المرات حاولت الحكومة العراقية، حسب ظنى، أن تكتشف مدى التزامى بالحياد، ومن ذلك أنه لدى وصولى أول مرة إلى العراق فى نوفمبر 2002 تلقيت اتصالا هاتفيّا على غرفتى فى الفندق من شخص يدّعى أنه محامٍ يريد مغادرة البلاد، فما كان منى إلا أن أخبرته بأننى لا أستطيع معاونته فى ذلك، وأننى وبليكس نقصر عملنا على المهمة الموكولة إلينا وهى التفتيش.
وفى زيارة أخرى اتصلت بى سيدة لتخبرنى بأنها مواطنة عراقية كردية، وأنها تعمل مع بعثة الأمم المتحدة فى العراق، وأن لديها مشكلة ما تخص عقدها، وقد أخبرتها بأننى لا أستطيع مقابلتها، ولكنها تستطيع أن تكتب طلبا وأتولى نقله إلى المسؤولين المعنيين؛ وهو ما لم تفعله بالرغم من ادعائها الاتصال من داخل الفندق، بل إنها لم تعاود الاتصال بى ثانية، وبالطبع فإن الأمر لا يتطلب ذكاء خارقا ليعرف المرء أن مثل هؤلاء ما كانوا ليتجاسروا على الاتصال بى هاتفيّا، خصوصا من بهو الفندق، إلا لو كانوا تابعين للحكومة العراقية؛ لأن أى مواطن عادى سيفترض أن هواتف الفندق مُراقبة.
وتطور الأمر لأكثر من ذلك عندما خاطبنى وزير الخارجية العراقى؛ ناجى صبرى، فى إحدى المرات على هامش أحد اللقاءات ليخبرنى أنه يستطيع مساعدتى أو أى من أقربائى للقيام بعمليات تجارية بالتعاون مع شركات البترول العراقية، وبالطبع فقد تجاهلت العرض!
وفى خلال أول شهرين من التفتيش حققت الوكالة تقدما كبيرا فى إعادة فهم قدرات العراق النووية. وكانت أغلب أعمالنا تتم فى المنشآت الصناعية الحكومية أو الخاصة، ومراكز البحوث والجامعات مع تفقد المنشآت القديمة وما يشتبه فى استحداثه من منشآت، كذلك قام مفتشو الوكالة بتمشيط البلاد طولا وعرضا بأساليب مختلفة، فتعقبوا «البصمة» البيئية للمواد المشعة، وقاموا برصد مجارى الأنهار والترع والبحيرات للكشف عن النظائر المشعة الأساسية. أجرينا كذلك مسوحات موسعة للإشعاع باستخدام أجهزة دقيقة محمولة يدويّا أو فى السيارات، كما فحصنا المواقع الصناعية وغيرها من المواقع بحثا عن المواد النووية وغيرها من المواد المشعة. استجوبنا عديدا من العلماء والفنيين، فى أماكن عملهم ودون إخطار مسبق، للحصول على كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات عن البرامج السابقة والحالية.
وبالتوازى مع ذلك كان المحللون فى مقر الوكالة فى فيينا يقومون بفحص المعلومات الجديدة التى قدمها العراق ومقارنتها بما كنا جمعناه فى الفترة من 1991 حتى 1998، وكذلك المعلومات التى جمعناها عن طريق الرصد عن بُعد خلال سنوات الغياب الأربع عن البلاد. وكانت البيانات المقدمة من العراق متماشية مع ما كنا نعلمه عن البرنامج النووى العراقى قبل 1991. ولكن كان هناك أمور تتطلب استكمال الاستيضاح، وهذا ما كانت الوكالة تسعى إليه.
وفى خلال الـ60 يوما الأولى تم تفقد 106 مواقع وإجراء 139 عملية تفتيش، ولم يتم العثور على ما يفيد بسعى العلماء العراقيين بأى صورة لاستئناف نشاط برامج الأسلحة النووية. ولكن فى الوقت نفسه كان هناك أمران يسيطران على النقاش النووى فى ذلك الوقت بغية التعجيل بالحرب: الأول هو استيراد العراق أنابيب من الألمنيوم شديد الصلابة يفترض أنها تستخدم فى تصنيع أجهزة تخصيب اليورانيوم، وهو ما قالت به رايس بصورة قاطعة فى مقابلة مع قناة «سى إن إن»، والأمر الثانى هو الادعاء باستيراد العراق كميات من اليورانيوم من النيجر.
وقد أشار كثير من المسؤولين الغربيين مرارا إلى أن أنابيب الألمنيوم دليل قاطع على عودة العراق إلى تطلعاته النووية. وأشاروا تأكيدا على ذلك إلى شحنة الأنابيب التى تم ضبطها فى الأردن فى يونيه 2001، والتى كانت متجهة إلى العراق. وقبيل عودة المفتشين إلى العراق ظهرت كوندوليزا رايس على شبكة «سى. إن. إن» لتقول إن هذه الأنابيب لا تصلح إلا لبرامج الأسلحة النووية، وكان تصريح رايس هذا مضللا؛ لأن خبراء وزارة الطاقة الأمريكية نفسها قد أعلنوا أن هذه الأنابيب تستخدم كذلك وبصورة أفضل فى صنع صواريخ دفاعية.
ولم يكشف عمل المفتشين الدؤوب عن أى محاولة من أى نوع من قِبل العراق لاستخدام هذه الأنابيب فى تصنيع أجهزة للطرد لتخصيب اليورانيوم، وهو ما أخبرت به مجلس الأمن فى 27 يناير 2003 لدى تقديم تقرير مبدئى حول مهمة التفتيش فى العراق، بل وأضفت: «إن هذه الأنابيب، تتفق مع الغرض الذى أوضحه العراق من استخدامها، وأنه ما لم يتم إدخال تعديلات عليها فإنها لا تصلح لتصنيع أجهزة الطرد الخاصة بتخصيب اليورانيوم».
كان رد الفعل الأمريكى أو بالأحرى انعدامه ملفتا للنظر. ففى اليوم التالى وفى خطاب حالة الاتحاد الذى يلقيه سنويا الرئيس الأمريكى، والذى حظى فى ذلك العام بأعلى درجات المشاهدة، عاد الرئيس بوش ليكرر مرة ثانية أن العراق يستورد أنابيب من الألمنيوم تصلح لتصنيع الأسلحة النووية، دونما أى إشارة إلى الرأى المخالف الذى أعربت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو إلى الرأى الذى كثيرا ما أعرب عنه خبراء وزارة الطاقة الأمريكية أنفسهم.
وبعد أسبوع من ذلك ألقى كولين باول خطابه الدرامى أمام جلسة مجلس الأمن فى 5 فبراير 2003، حيث توقع المتابعون لتلك الجلسة أن يقدم وزير الخارجية الأمريكى معلومات لا تقبل الدحض حول برامج العراق لأسلحة الدمار الشامل، خصوصا أن باول بدأ حديثه بكل ما يتمتع به من قوة حضور وكاريزما، بالتأكيد أن كل ما يدلى به تم التيقن منه عبر عمل جاد ومحقق لخبراء أمريكيين. ولكن عندما تطرق الأمر إلى مسألة أنابيب الألمنيوم قال باول إن الأمر به «آراء مختلفة»، مشيرا فى الوقت نفسه إلى ما وصفه باتفاق معظم الخبراء الأمريكيين على أن هذه الأنابيب تم استيرادها لتصنيع أجهزة طرد تستخدم فى تخصيب اليورانيوم.
وفى لقاء لاحق أخبرنى باول بأنه أمضى أسبوعا فى مقر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يطرح أسئلة مفصلة للتحقق من صحة المعلومات بغرض الإعداد لمداخلته أمام مجلس الأمن فى ذلك اليوم، وأنه لو كان استخدم كل ما قدم له فى ذلك اليوم لاستمرت مداخلته أمام المجلس لساعات طويلة.
أ/رضا عطيه 23-09-2012, 01:33 PM جزاكم الله خيرا على مجهودكم الطيب
aymaan noor 23-09-2012, 01:35 PM سنوات الخداع - الحلقة السابعة
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/09/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D9%8A-111.jpg
فى الغداء الخاص، الذى استضافه الأمين العام للأمم المتحدة عقب جلسة مجلس الأمن تحدث وزير الخارجية الفرنسى «دومنيك دوفليبان» وهو دبلوماسى من الطراز الرفيع وقارئ متميز للتاريخ إلى «باول»، بينما بدا أنه نبوءة تحققت فى ما بعد حيث أخبره بأن الأمريكيين لا يفهمون العراق «أرض هارون الرشيد التى يمكن للأمريكيين أن يهدموها فى شهر، لكن إعادة بنائها وإحلال السلام فيها هى مهمة ستتطلب سنوات طويلة». ولقد أثار تعليق الوزير الفرنسى حفيظة «باول» الذى أجاب: «ومن الذى يتحدث عن استخدام القوة؟!»، وكان ذلك تعليقًا غريبًا بالنظر إلى أن كل ما قاله فى الجلسة التى انتهت لتوها لمجلس الأمن كان يفضى فى هذا الاتجاه.
وبعد الحرب على العراق بعام أو نحو ذلك نشرت صحيفة «النيويورك تايمز» تحقيقًا صحفيًّا أفاد بأن «باول» وقبل يومين من خطابه، تلقى معلومات من المخابرات الأمريكية تفيد بأن الأنابيب المستوردة من قِبل العراق تتطابق مواصفاتها مع الأنابيب المستخدمة فى تصنيع الصواريخ من قِبل مصانع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما لم يقله «باول»، الذى أصر على أن مواصفات هذه الأنابيب تتجاوز مواصفات الأنابيب التى تستخدمها المصانع الأمريكية لتصنيع الصواريخ.
أما فى ما يتعلق بالخمسمئة طن من اليورانيوم، التى تحدث «بوش» فى خطاب حالة الاتحاد عن تمكن بريطانيا من الحصول على معلومات تفيد بشراء صدام حسين لها فى نهاية التسعينيات وحتى 2001 من النيجر، فقد سعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية للحصول على الوثائق ذات الصلة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولم تتم الاستجابة إلى المطالب المتكررة للوكالة فى هذا الصدد إلا صبيحة الخامس من فبراير يوم انعقاد جلسة مجلس الأمن. ولم تكن تلك الوثائق سوى مجموعة من الخطابات المتبادلة بين مسؤولين عراقيين ونظراء لهم من النيجر، وبعد ساعات قليلة من العمل من قبل «جاك بوت» وفريقه اتضح أن هذه الوثائق مزيفة وليست حقيقية. ومن ذلك أن خطابًا يفترض أنه موجه من رئيس النيجر «مامادو تنديا» كان مليئًا بالأخطاء وممهورًا بتوقيع واضح التزوير. كما أن خطابًا آخر كان يفترض أنه موجه من وزير خارجية النيجر فى أكتوبر 2000 حمل توقيع «اليلى حبيبو»، الذى كان قد ترك منصبه كوزير لخارجية النيجر منذ 1989.
وفى الحقيقة فإن فكرة الصفقة نفسها كانت عبثية لأن النيجر بوصفها واحدة من أكبر منتجى اليورانيوم فى العالم، كانت تبيع اليورانيوم إلى اليابان وفرنسا وإسبانيا، حيث تعتمد المفاعلات النووية لهذه البلدان بدرجة كبيرة، على ما تستورده من النيجر وهو ما كانت تخضع معه النيجر لمراقبة دقيقة لعمليات تصدير اليورانيوم سواء على المستوى المحلى أم على المستوى الدولى. وبالتالى فإن مجرد الحديث عن قيام النيجر بتصدير كميات من اليورانيوم الطبيعى (الكعكة الصفراء) بما يكفى لتصنيع مئة قنبلة نووية دون أن يدرى أحد بذلك كان محض عبث.
ولعل الأغرب من ذلك هو أن هذه الأمور لم تفطن لها المخابرات البريطانية أو الأمريكية، بينما اكتشفها أحد علماء الوكالة باستخدام محرك البحث «جوجل» والمنطق. وبمواجهة المسؤولين فى هذه الأجهزة من قبل «جاك بوت»، لم يقم أى واحد منهم بمعارضة ما خلص إليه خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفى الطائرة إلى نيويورك تشاورت مع «جاك بوت» و«لورا روكوود»، مساعدتى للشؤون القانونية، حول كيفية نقل ما خلصت إليه الوكالة إلى مجلس الأمن دون أن يكون فى ذلك إحراج قاسٍ لواشنطن ولندن. وفى النهاية توصلت إلى قرار بالقول إن الخطابات التى تم الاعتماد عليها لادعاء أن هناك صفقة يورانيوم بين النيجر والعراق «ليست حقيقية»، وكانت رسالتى واضحة: أن هذه الصفقة المزعومة والتى كانت أحد الأسباب الرئيسية لادعاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن العراق قد أعاد مرة أخرى بناء برنامجه للتسلح النووى كانت افتراءً مبنيًّا على عملية تزوير.
وبالفعل أبلغت مجلس الأمن بذلك، مشيرًا فى الوقت نفسه إلى المعلومات حول ملف أنابيب الألمنيوم، وهو ما أثار غضب الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدرجة التى دفعت «باول»، وهو المعروف عنه احتفاظه دائمًا بالهدوء وحسن المعشر، إلى الرد على ما ذكرته قائلًا بنوع من الضيق فى صوته: «إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت غائبة بينما كان العراق فى سنة 1991 يقوم بتطوير أسلحة نووية».
وكان رد فعل وسائل الإعلام مؤسفًا حيث تجاهلت الصحف الأمريكية الرئيسية، بما فى ذلك «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال»، أهمية المعلومات المتعلقة بالخطابات المزورة التى بنى على أساسها القول بسعى العراق لشراء يورانيوم عالى التخصيب من النيجر، بل وإن هذه الصحف وصفت أمر هذه الصفقة بأنه غير أساسى بين دلائل تورط صدام حسين فى السعى لامتلاك أسلحة نووية، واتهمتنى «وول ستريت جورنال» «بإثارة ضجة غير مبررة حول أمر عديم الأهمية» فى ما يتعلق بدلائل سعى صدام حسين لتطوير أسلحة نووية. ولم تُعن أى من الصحيفتين بالإشارة إلى أنه قبل ذلك بشهرين كانت صفقة بيع النيجر لليورانيوم من الأهمية بالنسبة إلى رئيس الولايات المتحدة إلى حد إبرازها فى خطابه عن حالة الاتحاد. وقامت «النيويورك تايمز» بتغطية الموضوع على نحو مماثل. رغم أنها أوضحت التزوير بشكل أكثر تفصيلًا فى عددها التالى، لكنها نشرته فى صفحاتها الداخلية.
ولاقت الجهود الدبلوماسية أيضًا مصيرًا مشؤومًا كذلك. فعلى الجانب العربى فإن التحركات لم تكن أكثر إيجابية، حيث عُقدت قمة عربية قبيل الحرب على العراق فى شرم الشيخ فى 2 مارس 2003، لكنها تمخضت عن خلافات رخيصة وتلاسن بالأسماء، على الرغم من أن هذه القمة كان أمامها عدد من المقترحات الجادة للخروج من المأزق الخاص بالعراق، كإرسال وفد إلى العراق لإيجاد حل لتفادى الحرب. البعض كان يريد حث صدام حسين على الاستقالة. واقترح الشيخ زايد آل نهيان تقديم ملاذ آمن لصدام حسين لمساعدته فى الحصول على مخرج كريم، إلا أن هذا الطرح وغيره تم تجاهله. ولم يكن هذا غريبًا بالنظر إلى أن عددًا من القادة العرب كانوا يبغضون صدام حسين ويودون لو أن عملية غزو تقع لتخلصهم منه. ولم يتم وضع مقترح الشيخ زايد على جدول أعمال القمة. وفى النهاية تم إغفال أى فكرة حول إرسال وفد للعراق، ووقعت الحرب بتسهيلات عربية من عواصم كانت تمقت صدام حسين. بمثل هذه المشاعر، وبغير موقف موحد، لم يكن للقادة العرب أى دور أو تأثير فى حرب تشن فى قلب منطقتهم، اللهم إلا تقديم القواعد والتسهيلات فى بعض الحالات للقوات الأمريكية.
وفى بداية عمليات التفتيش التقيت الرئيس المصرى حسنى مبارك الذى كان باديًا أنه يبغض صدام حسين بصورة شخصية، حيث أخبرنى أن الرئيس العراقى خدعه أثناء حرب الخليج الأولى بعد أن قام بغزو الكويت على الرغم من التعهد الذى أبداه للرئيس المصرى بعدم القيام بذلك. وفى ذلك اللقاء أخبرت الرئيس المصرى عن نشاطات التفتيش الذى كنا نقوم به فى العراق، ثم وجهت دفة الحديث إلى جهة أخرى، حيث حثثته على أن يقود حملة للتحديث والاعتدال فى العالم العربى من خلال البدء بمصر، وقلت له: «لو أن مصر قامت بهذا فإنها ستلقى دعمًا كبيرًا سواء كان سياسيًا أم اقتصاديًا من كل جهة فى العالم».
وفى حديث لاحق طلبت من مبارك مرة أخرى أن يحث صدام حسين على بذل المزيد من التعاون مع فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة لتجنب احتمال حرب ضد العراق، وقد رد مبارك متهكمًا أنه تلقى رسالة من صدام حسين فى هذا الصدد يخبره فيها أنه ليست هناك مدعاة للقلق، وأن كل شىء سيكون على ما يرام، وكان واضحًا من لهجة مبارك أنه لا يصدق أى شىء يقوله له صدام بعد أن خدعه قبل غزو الكويت. وفى ذات الحديث أخبرنى مبارك أنه على علم أن «صدام حسين لديه أسلحة بيولوجية، وأنه يقوم بإخفائها فى المقابر». وكانت تلك أول وآخر مرة أسمع فيها هذه الشائعة.
لكن ينبغى القول أيضًا إن بعضًا من أهم وأقدر الساسة فى العالم مثل الرئيس الفرنسى «جاك شيراك» لم يتمكن من إثناء الرئيس الأمريكى «بوش» عن التعامل مع القضايا الدولية من منطلق عقيدة أن «مَن ليس معى فهو ضدى» التى كان الرئيس الأمريكى يعتنقها.
وفى أحد اللقاءات التى جرت بين «شيراك» و«بليكس» وبينى فى قصر الإليزيه الرئاسى بباريس أخبرناه بأننا لا نحصل على معلومات كافية من أجهزة المخابرات الغربية حول برامج أسلحة الدمار الشامل فى العراق، فما كان من «شيراك» إلا أن قال بكل صراحة: «هل تعلمون لماذا لا تحصلون على المعلومات منهم؟ السبب هو أنه ليس لديهم أية معلومات فى الأصل».
ولم يتردد «شيراك» أن يضيف فى ذات الجلسة، التى عقدت بحضور رئيس جهاز المخابرات الفرنسى الذى سبق أن أفضى إلى «بليكس» بأن جهازه لديه معلومات تفيد باحتفاظ العراق بكميات صغيرة من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية أن أجهزة المخابرات كثيرًا ما تصل إلى قرارات دون وجود أدلة كافية ثم تسعى بعد ذلك للحصول على الأدلة. كان رئيس جهاز المخابرات الفرنسى فى أثناء ذلك ينظر إلى الأرض.
وأضاف «شيراك» أن إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تهديد مجلس الأمن لاستصدار قرار بالحرب على العراق وأن لا تفقد الأمم المتحدة دورها وأهميتها هو أمر عبثى لأنه لو قامت الولايات المتحدة الأمريكية بشن حرب على العراق دون تفويض من الأمم المتحدة فإنها هى وليست الأمم التى سينظر إليها كدولة خارجة على القانون.
وكان أمرا يدعو إلى السعادة أن أسمع «شيراك» يتحدث بمثل هذه الصراحة وبنفس تفكيرنا فى الوكالة. ومع الأسف فإن الموقف الفرنسى إزاء مسألة الحرب على العراق كان محل تهميش بل وازدراء فى أمريكا.
وبعد هذه المقابلة بفترة وجيزة، وفى مطلع فبراير، توجهت مع «بليكس» إلى لندن للقاء «تونى بلير» فى المكتب المتواضع لرئيس الوزراء البريطانى، وفى سابقة غير معتادة بالنسبة إلى بليكس ولى قرر «بلير» أن يعقد لقاءاته معنا كل على حدة.
وبعد لقائه مع «بليكس» خرج «بلير» من مكتبه وقد تخلى عن سترة بذلته، ثم دعانى للدخول ممازحًا بقوله: «الزائر التالى»، فى استدعاء لمشهد يقع فى عيادات أطباء الأسنان.
وفى خلال اللقاء أكدت على «بلير» أن شن حرب على العراق سيخلق توترًا شديدًا فى المنطقة بأكملها، وأن الرؤية فى المنطقة أن التركيز على العراق ليس بسبب أسلحة الدمار الشامل، وإنما بسبب كونها دولة عربية مسلمة، وبالتالى لا تستطيع مثل إسرائيل تملّك هذه الأسلحة، وأضفت شيئًا مما كان «شيراك» قد قاله وهو أن تلك الرغبة العارمة فى شن حرب على العراق ستتم مقارنته فى المنطقة بعدم وجود أى حراك سياسى إزاء تسوية النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، كما أشرت إلى النقد الذى أسمعه فى كثير من أنحاء العالم عن الفارق فى التعامل مع ملف العراق وملف كوريا الشمالية. وأبدى «بلير» تفهمًا لما قلت خاصة ما يتعلق بالشأن الفلسطينى، وأكد لى أن «بوش» وعده أنه سيتحرك نحو تسوية هذا الأمر فور الانتهاء من «تسوية أمر العراق».
وفى لقاء مع «جاك سترو» وزير الخارجية البريطانى شرح لى منطق لندن والقائم على أن بريطانيا تقدم كل الدعم العلنى للولايات المتحدة الأمريكية بغية أن يكون لها القدرة على ممارسة التأثير على القرار الأمريكى فى الإطار غير المعلن. والحقيقة أننى لم أجد أى أثر لتأثير بريطانيا على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة حكم «بلير»، واقتصر الأمر حسبما رأيته على أن بريطانيا تقوم بالترويج للسياسات الأمريكية وتفسيرها وأحيانًا إبداء الاعتذار عنها.
وبينما لم يكن لدى أمريكا ولا بريطانيا ما يفيد بوجود سلاح نووى عراقى غير الادعاءات الخاصة بأنابيب الألمنيوم وفشل قصة شراء اليورانيوم من النيجر كان هناك إصرار من جانب عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين على أن العراق لديه فى مكان ما كميات من الأسلحة البيولوجية والكيميائية. فى الوقت نفسه كان البعض فى واشنطن يتقدم باقتراحات، لم أكن أتصورها جادة، حول سبل حصول مفتشى الوكالة الدولية على معلومات عن البرنامج النووى العراقى، ومن ذلك ما اقترحه «جون وولف» مساعد وزير الخارجية الأمريكى من التحفظ على كل أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالعلماء العراقيين واستخراج أى معلومات قد تكون مخزنة عليها حول البرنامج النووى العراقى، أو ما اقترحه «توم لانتوس»، السياسى الديمقراطى البارز فى مجلس النواب الأمريكى، من أن نصحب العلماء العراقيين فى رحلة بحرية لمدة أسبوعين نحصل من خلالها على معلومات قيمة حول برنامج العراق النووى.
وفى كل مرة ازددت اقتناعا بصواب وجهة نظر «شيراك» بأن أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية لم يكن لديها معلومات دقيقة يمكن أن تثبت أن العراق لديه أسلحة دمار شامل حسب الاقتناع البريطانى والأمريكى. وفى واقع الأمر فإن المعلومات المقدمة من الولايات المتحدة وغيرها من أجهزة المخابرات إلى الوكالة الدولية والأنموفيك خلال تلك الفترة كانت قليلة جدًّا بالمقارنة بسيل المعلومات المقدم إلى الوكالة وإلى «الأنسكوم» فى التسعينيات.
وفى ضوء غياب المعلومات، فإن الآمال الأمريكية انعقدت على ما يمكن أن يدلى به العلماء العراقيون فى حال خروجهم عن رقابة الحكومة العراقية، وعلى هذا كان الإصرار الأمريكى على استجواب العلماء العراقيين خارج العراق، ولكن العلماء العراقيين بالطبع لم يفعلوا ذلك، بل أصروا على أن يكون استجوابهم فى العراق وبحضور مسؤول عراقى وبتسجيل يدون كل ما يقولون ليتفادوا أى سوء فهم لما يقوله أحدهم. لم يكن بوسعنا أن نجبرهم على مغادرة البلاد، ولم نكن حتى نرغب فى استجوابهم فى الخارج، على الرغم من السلطة المخولة لنا بمقتضى قرار مجلس الأمن «1444»، لما قد يكون لذلك من آثار عليهم وعلى أُسرهم من قِبل النظام.
وبالنسبة لنا كنا نثق فى قدرات وعمل مفتشينا على الأرض، وأن تلك القدرات فى ذاتها كافية للإفصاح عن حقيقة أسلحة الدمار الشامل العراقية إذا ما أتيحت لها المهلة الزمنية الكافية. كان مفتشو الوكالة يعرفون جيدًا قدرات العراق العلمية والتكنولوجية وتضاريسها المختلفة. وحتى بعد غياب السنوات الأربع لم يستغرق الأمر كثيرًا من الوقت ليسترجع مفتشو الوكالة معرفتهم بقدرات العراق النووية.
ومع ذلك تم تجاهل هذه القدرة ذات المصداقية. فقد قررت «القوى المؤتلفة»، التى أعلنت نفسها كذلك، أن تتجاهل خبراتنا. ورغم علم مفتشينا بالواقع على الأرض فإننا كنا نخسر المعركة الإعلامية فى الصحافة الغربية وإلى حد ما فى نظر الجمهور. فقد كانت البيانات الصادرة عن الوكالة وعن «أنموفيك» يتم تجاهلها، أو يشار إليها بصورة انتقائية، رغم أننا كنا أكثر من يعرف الحقيقة باعتبارنا عيون وآذان المجتمع الدولى.
وكانت الحرب تبدو حتمية بصرف النظر عن الحقائق، وكانت قوافل الجنود تتوافد على الخليج، وكان الوقت ينفد.
وفى 12 مارس تقدم «تونى بلير» و«جاك سترو» بمسودة قرار إلى مجلس الأمن فى محاولة يبدو أنها تهدف إلى منع الحرب. وقد تطلب المشروع أن يقوم صدام حسين بتسليم ما يعتقد الأمريكيون والبريطانيون أنه فى حوزته من المواد المستخدمة فى تطوير الأسلحة النووية والبيولوجية والكيمائية، وكذلك الصواريخ المحظورة، حتى يتفادى الحرب ويتمكن من البقاء فى منصبه رئيسًا للعراق، إضافة إلى السماح للعلماء العراقيين بالخضوع لاستجواب خارج العراق.
وقد منحت مسودة القرار العراق خمسة أيام للإذعان لمطالب ستة صاغتها أمريكا وبريطانيا، شملت، إضافة إلى ما سبق، اعترافًا علنيًّا من صدام حسين على الهواء بأنه يمتلك أسلحة للدمار الشامل، وأنه يلتزم بالتخلص من هذه الأسلحة.
ولم يتم تبنى هذا القرار من قِبل مجلس الأمن، وحتى لو تم ذلك فسيكون من المستحيل على صدام حسين الالتزام بما جاء فيه لأنه لم يكن بوسعه الاعتراف بملكية أسلحة دمار شامل لم تكن فى حوزته، كما لم يكن فى وسعه أن يسلم موادّ لم تكن فى حوزته لتصنيع أسلحة دمار شامل، بما فى ذلك الآنثراكس الذى كانت بريطانيا تعتقد أنه موجود لديه.
ويتعارض بشدة ما جاء فى هذا المشرع من إمكانية بقاء صدام حسين فى السلطة مع ما قال به تونى بلير فيما بعد من أن الإطاحة بنظام صدام حسين كان سببًا كافيًا لشن الحرب على العراق.
ومع حلول عطلة نهاية الأسبوع من 14 – 16 مارس كان البريطانيون يسعون حثيثًا لإيجاد مخرج دبلوماسى، ويتمثل فى جملة من الأنشطة التى يكون قيام صدام حسين بها دليلًا أو «موقفًا فارقًا» على أن العراق عازم على التعاون، واقترحت بدورى أن نقوم، «بليكس» وأنا، بزيارة لبغداد للحديث مع المسؤولين العراقيين حول هذا الأمر، وهو ما رحب به البريطانيون بشدة. وفى الوقت ذاته طالبت السعدى، بأن يتم ترتيب لزيارة تجمعنى أنا و«بليكس» مع صدام حسين، وبالفعل جاء خطاب الدعوة فى يوم السبت الخامس عشر من مارس، وعندما أُجريت اتصالات بالمسؤولين الفرنسيين والبريطانيين للحصول على تأييد لهذه الزيارة كقناة دبلوماسية للتعامل مع الأمر، قال البريطانيون إنه من الأفضل أن يأخذ الفرنسيون المبادرة فى هذا الأمر.
ولكن فرنسا وألمانيا لم تكونا متحمستين، بل كان لديهما الانطباع بأن قرار الحرب قد اتخذ بالفعل فى واشنطن، وبالتالى فقد كانتا تظنان أن فشل المهمة الدبلوماسية المطلوب منهما دعمها سيساعد فى توفير الأعذار لعمل عسكرى سيقع حتمًا. وكذلك ذكر لى «بليكس» أنه غير راغب فى القيام بهذه المهمة لأنه كان يشعر أنه قد فات أوانها.
كنا «بليكس» وأنا فريقًا جيدًا، وكنا نعمل بصورة طيبة معًا، وعلى الرغم من خلافاتنا التى كانت حادة فى بعض الأحيان، فإنها لم تكن تطفو على السطح.
ومن أكثر النقاط التى اختلفت مع «بليكس» حولها عدم توافقه مع رغبتى فى طلب مدة إضافية لمزيد من التفتيش للتأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، ولعل السبب فى ذلك هو التباين بين مستوى المفتشين عن الأسلحة النووية الذين كنت أعمل معهم، والذين كانت لديهم قدرات عالية وأيضًا خبرة جيدة بملف العراق، وبين المفتشين عن الأسلحة الكيمائية والبيولوجية الذين كان «بليكس» يرأسهم فى «الأنموفيك» والذين كانوا يتمتعون بكفاءة فنية عالية، ولكن لم تكن لديهم الخبرات المتراكمة التى يتمتع بها مفتشو الوكالة، بل إن كبير معاونى «بليكس» الفنيين كان «ديمتريوس بريكوس»، الذى عمل طويلًا فى الوكالة وكان يتمتع بثقة «بليكس»، ولكن مجال تخصصه وخبرته الطويلة كان الأسلحة النووية لا الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية. أما مفتشو الوكالة، ولأنهم كانوا ذاهبين إلى بلد يعرفونه وأشخاص يألفونهم، فإنهم كانوا أكثر ثقة بأنفسهم وبتقديراتهم.
كما كان لدى «بليكس» الكثير من الهواجس إزاء التعامل مع العراق جراء تجربته معهم فى التسعينيات وخداعهم له عندما كان يرأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبالتالى فعندما طلب العراقيون عقد جلسات عمل فنية مع «الأنموفيك» والوكالة قبيل استئناف التفتيش فى 2002 رفض «بليكس» ذلك بشدة على أساس أنه كان يعتقد أن هذه الجلسات وراءها أسباب مراوغة فى ما يتعلق بالقضايا والملفات التى ستكون محل عمل فرق التفتيش، وأصر أنه لا نقاش قبل أن يصل مفتشوه فعليًّا إلى العراق.
وبينما امتنع «بليكس» عن عقد تلك اللقاءات عقدت الوكالة لقاءاتها مع العراقيين، وكانت هذه الجلسات مفيدة للغاية فى تيسير العمل فى ما بعد. ولكن «بليكس» لم يستمع إلى ما قلته من أنه يمكن أن يذهب إلى هذه اللقاءات ويقيم فائدتها دون أن يخشى أى مراوغة من الجانب العراقى، لأنه فى النهاية القرار هو قراره كرئيس للأنموفيك.
وقد اتهمنى بليكس إحدى المرات بمحاباة الجانب العراقى، وذلك خلال لقاء جمعنى وإياه و«كوفى أنان» الأمين العام للأمم المتحدة فى أحد فنادق فيينا قبيل البدء فى عمليات التفتيش، عندما كررت وجهة نظرى بفائدة عقد لقاءات فنية مع العراقيين حتى قبل بدء التفتيش. وقد استوجب اتهام بليكس لى تدخل «أنان» الذى قال لـ«بليكس» إن اتهاماته لى هى اتهامات «غير عادلة»، وقال له: «لماذا نعقد إذن هذه الاجتماعات مع العراقيين إذا لم تكن تريد أن تناقش معهم ما تبقى من قضايا نزع السلاح؟»، ولكن «بليكس» بقى على رفضه.
والحقيقة أن مهمة «بليكس» و«الأنموفيك» لم تكن سهلة لأن العراقيين، وعكس ما كانت تدعيه بعض أجهزة المخابرات، لم يحتفظوا بالسجلات الخاصة بما تم تدميره من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية فى التسعينيات بعد حرب الخليج الأولى.
وقد تعرض «بليكس» لانتقادات شديدة من العراق جراء ما قاله فى أحد تقاريره لمجلس الأمن من أن العراق «لم يتخذ حتى الآن قرارًا استراتيجيًّا حول نزع التسلح»، وهو الأمر الذى أساءت استغلاله الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتدفع فى اتجاه الحرب. ولم أكن قد رأيت مسودة هذا التقرير لأننا فى هذه المرة لم نلتزم بما اعتدنا عليه من تبادل مسودات التقارير التى نعرضها على مجلس الأمن. وأعتقد أننى كنت أفهم سبب عبارة «بليكس»، ذلك أن إحدى المكاتبات العراقية وصفت عمليات التفتيش بأنها «ما يسمى بقضايا نزع السلاح». ولقد قرأ «بليكس» هذه العبارة على أنها دليل على العجرفة وعدم الجدية من قِبل العراق، ولم يلتفت أحد إلى ما قاله «بليكس» فى نفس التقرير من أنه ليس لديه دليل على أن العراق لا يزال يمتلك أسلحة الدمار الشامل، ومن سخرية القدر أنه ثبت بعد ذلك أنه لم تكن هناك حينئذ قضايا نزع سلاح فى العراق.
ولقد برر «بليكس» رفضه للمشاركة فى طلبى من مجلس الأمن إعطائى مزيدًا من الوقت بأن هذا الطلب يمكن أن يفسر على أنه التزام بالتوصل إلى نتائج محددة فى توقيت محدد، وهو الأمر الذى لم يكن واثقًا من إمكان قيام «الأنموفيك» بتحقيقه، ولكنه قال لى إنه لو سُئل إذا ما كان يحتاج إلى المزيد من الوقت فإنه سيجيب بنعم.
وفى السادس عشر من مارس، قبل أربعة أيام من وقوع الحرب، استضاف رئيس الوزراء البرتغالى «خوزيه مانويل باروسو»، الرئيس الأمريكى «بوش» ورئيس الوزراء البريطانى «بلير» ونظيره الإسبانى «خوزيه ماريا آزنار» فى لقاء جمعهم فى جزر الآزوروس. وبحسب ما علمت عن هذا الاجتماع فإنه شهد مطالبة بريطانيا وإسبانيا إتاحة المزيد من الوقت للعمل الدبلوماسى، ولكن بوش لم يكن يود أن ينتظر وأصر على أن أسلوب التعامل والذى سيتقرر بمقتضاه مصير العراق لا بد أن يتحدد فى اليوم ذاته.
وفى اليوم ذاته، كان «تشينى» قد اتهمنى على الهواء فى برنامج «واجه الصحافة» بأننى «مخطئ» فى تقديرى أن العراق لم يُعِدْ بناء برامج التسلح النووى، مضيفًا أن الولايات المتحدة الأمريكية مقتنعة بأن صدام حسين لديه برنامج للتسلح النووى. وأضاف نائب الرئيس الأمريكى فى نفس البرنامج الادعاء بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لديها تاريخ من الإخفاق فى تقدير القدرات النووية، خصوصا ما يتعلق بالعراق. وعندئذ تذكرت تحذير تشينى لبليكس ولى قبل بدء عمليات التفتيش بأن واشنطن قد تلجأ إلى النيل من مصداقية عمليات التفتيش.
ولم يكن بوسعى فى ذلك الوقت، كما أنه ليس بوسعى الآن، أن أتصور طبيعة المعلومات التى كانت متاحة لدى «تشينى» عن التسلح العراقى، ولكن «تشينى» كان يعلم على وجه اليقين الأسباب التى تقتضى إضفاء المزيد من المصداقية على نتائج عمل الوكالة بشأن العراق فى 2003 بالمقارنة بما كانت قد توصلت إليه فى 1991. كان يعلم، كما كان الجميع يعلمون، أنه فى التسعينيات لم يسمح لنا بالتفتيش إلا على ما أبلغتنا به حكومة صدام حسين. ولم يكن لدينا صلاحية السفر إلى أى مكان آخر داخل العراق أو البحث عن منشآت سرية أو تتبع أى معاملات غير قانونية فى المواد النووية. ومن المؤكد أنه كان يدرك تمامًا أن الزمن قد دار دورته. فمنذ ذلك الحين كانت الوكالة قد تنقلت فى البلاد طولًا وعرضًا، وتوفر لها من الصلاحيات ما يسمح لها بالذهاب إلى أى مكان فى أى وقت وباستجواب كل العلماء النوويين فيها. لقد أتلفنا المعدات وصادرنا السجلات، ووضعنا أختام الوكالة على ما تبقى من المواد النووية، وهدمنا منشآت إنتاج السلاح النووى فى منطقة الأثير. لذا فإن مقارنة نتائج 2003 بنتائج 1991 كان تشويهًا متعمدًا للحقائق، ولكن الأمر كان فى ما يبدو قد تقرر فى اتجاه غزو العراق.
وفى الواحدة من صباح السابع عشر من مارس بتوقيت فيينا تلقيت اتصالًا من «كين بريل» سفير واشنطن لدى الوكالة، يخبرنى بأن حكومته تنصح بسحب المفتشين من بغداد، وأنها رأت أن تخبرنا مبكرًا بذلك حتى نتمكن من حمايتهم. وعلى الفور اتصلت بـ«بليكس» الذى كان قد تلقى مكالمة مماثلة. واتصلت أيضًا بـ«كوفى أنان» الذى كان قد حاول كثيرًا أن يجعل المنطق الدبلوماسى يسود وأن يحول دون استخدام بعض الدول لمجلس الأمن بأى صورة لتحقيق أغراضها الخاصة، وهو ما دفعه قبل ذلك بشهر ليعلن أن القرار فى ما يخص العراق «ليس قرار أية دولة بعينها ولكنه قرار المجتمع الدولى بأكمله». كما قال إنه عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة من أجل ما يفترض أنه حماية للأمن والسلم الدوليين فإن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك بصورة قانونية هى أن يتم عبر مجلس الأمن.
وكان «أنان» قد تعرض لنقد شديد فى 1998، حيث وصفه البعض حينئذ بأنه ساذج، عندما قال بعد إقناع صدام حسين فتح عدد من القصور الرئاسية أمام المفتشين إنه عندما يسأل إذا كان يمكنه الوثوق فى صدام حسين فإن إجابته هى: «أظن أننى أستطيع أن أصل إلى اتفاقات محددة من خلال التفاهم معه، وأنا لا أشعر بنفس التشاؤم الذى يشعر به البعض فى هذا الشأن».
كنت أتمنى أن يتكلم «أنان» بأسلوب أكثر قوة وصراحة فى موضوع العراق فى ذلك الوقت، لا سيما بعد الاتهامات التى وجهها «بوش» فى نوفمبر بأن الأمم المتحدة ليس لديها العزيمة اللازمة، وأنها ستصبح غير ذات جدوى.
كان لدىّ تقدير كبير لما يقوم به «أنان» من محاولة تفعيل دور الأمم المتحدة، لمعالجة الكثير من القضايا الهامة مثل الفقر والأمراض الوبائية وغيرها، ومحاولة دفع المجتمع المدنى للمشاركة فى التصدى لهذه التحديات، وعلى الرغم من أنه لم تكن لـ«أنان» صلاحيات مباشرة بشأن عمليات التفتيش إلا أنه كان سيعبر عن رأى الغالبية العظمى من الناس لو كان صوته أعلى فى الدفاع عن المبادئ التى يقوم عليها ميثاق الأمم المتحدة، غير أنه كان منشغلًا فى ذلك الوقت بمسألة توحيد قبرص
aymaan noor 23-09-2012, 01:37 PM سنوات الخداع - الحلقة الثامنة
فى هذه الساعات المبكرة من يوم الإثنين 17 مارس كان هناك خلاف فى الرأى حول ما إذا كان علينا سحب المفتشين فورًا أم لا، فبينما كان «بليكس» يريد سرعة سحب المفتشين التابعين له لضمان أمنهم، كنت أرى أنه لا ينبغى لنا أن نسارع بذلك لمجرد أن الولايات المتحدة أخبرتنا بذلك. وكان «أنان» يريد أيضًا التأجيل حتى الصباح بما يسمح بإجراء نقاش مع رئيس مجلس الأمن فى ذلك الوقت ومع وزير الخارجية الأمريكى «باول».
وفى هذه الليلة وبعد أن أنهيت مكالمتى وجافانى النوم تحدثت طويلًا مع زوجتى عايدة التى كانت دومًا مصدر نصح ومؤازرة لى. وتطرق حديثنا لما هو قادم وكيف ستتطور الأمور مع وقوع الغزو والمدة التى قد تستغرقها الحرب وما يمكن أن يقع من ضحايا. ورغم أننى كنت أعلم أنه لم يكن هناك فى وسعى المزيد الذى أستطيع القيام به لمنع هذه الحرب إلا أننى كنت أشعر بأسى بالغ للدمار والقتل الذى كنت أراه قادمًا باتجاه العراق وبدون مبرر.
والحقيقة أنه خلال عملية التفتيش كثيرًا ما تساءلت عن السبب الذى لا يجعل العراق أكثر شفافية وسرعة فى التعاون مع المفتشين، ولم أكن واثقًا من الإجابة وما إذا كان الأمر يتعلق بشعور العراق أن تقديم المزيد قد ينال من كرامة العراق فى مجتمع ينظر باهتمام كبير للاعتداد بالنفس، بما كان يمكن أن يجعل المزيد من التعاون يبدو وكأنه إهانة للعراقيين على يد المفتشين، أم أن العراقيين كانوا لا يزالون يتشككون فى أن عمليات التفتيش ما هى إلا ستار لجمع المعلومات تمهيدًا للحرب، أم أنهم كانوا يعتقدون أن الحقيقة ستكون واضحة بالضرورة للمفتشين لأنه ليس لدى العراق أسلحة دمار شامل بالفعل.
وفى كل الأحوال كان واضحًا أن هناك كثيرًا من العراقيين ممن لديهم إدراك أن الولايات المتحدة مُصرّة على النَّيل من صدام حسين وأن الحرب كانت حتمية فى كل حال.
وفى صباح الإثنين، أى عقب ساعات من تلك المكالمات، عدت أنا و«بليكس» و«أنان» للتواصل عبر الهاتف معًا، واتفق ثلاثتنا على أن يقوم «أنان» بإخطار مجلس الأمن بأنه سيتم سحب المفتشين حرصًا على سلامتهم، وكانت إجابة المجلس أنه «أخذ علمًا» بهذا القرار. وبالطبع فإن بعض أعضاء المجلس مثل روسيا وسوريا، فى ذلك الوقت، لم يشعروا بالرضا عن هذا القرار، ولكنهم رأوا أنه من غير المجدى أن يتم تعريض حياة المفتشين للخطر بلا طائل، وبدورى فقد قررت سحب مفتشى الوكالة، لأن سحب مفتشى «الأنموفيك»، الذين كانت الوكالة تعتمد على التسهيلات اللوجيستية التى يقدمونها لمفتشيها كان سيجعل بقاء مفتشى الوكالة فى العراق غير ذى جدوى.
وبالمصادفة فإن هذا اليوم شهد واحدًا من خمسة اجتماعات اعتيادية يعقدها مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية سنويًّا، وقد أشاد العديد من الدول أعضاء مجلس المحافظين، بما فى ذلك جنوب إفريقيا واليابان وفرنسا وألمانيا والبرازيل، خلال تلك الجلسة بالعمل الذى قامت به الوكالة فى العراق.
وكان من أهم ما قيل فى ذلك اليوم كلمة سفير جنوب إفريقيا «عبدول منتى» الذى أعرب عن الأسى لحرب قادمة لا يعرف أحد مدى تداعياتها، ولكن أيضًا لما تعنيه هذه الحرب من تجاهل لدور الأمم المتحدة وأثر ذلك على إدارة العلاقات الدولية فى المستقبل.
وبالمقابل، وفى مفارقة صارخة، فإن سفير الولايات المتحدة الأمريكية لم يأت فى بيانه على الإطلاق على ذكر العراق. وكذلك فعل نظيره البريطانى. وكان معظم الحاضرين مشغولين بمتابعة الاستعدادات الجارية للحرب.
وعندما حان دورى لإلقاء كلمتى أمام المجلس اختتمتها بعبارة مقتبسة عن «آدلاى ستيفنسن» الذى قال فى 1952: «إن الشر لا يكمن فى الذرة ولكن فى نفوس بعض البشر».
ومن الناحية الفعلية، فإن مسؤولية الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تنتهِ مع بدء الحرب، وبالتالى فقد كنا نشعر بالقلق على سلامة المواد النووية التى كانت لا تزال فى العراق تحت أختام الوكالة. وكان من أسباب قلقنا ما يصل إلينا من معلومات عبر مصادر عراقية عن عمليات سلب لمناطق تقع فيها مواقع تخزين هذه المواد النووية. فعلى سبيل المثال كانت هناك تقارير من موقع «التويثة» تفيد أن بعض الحاويات المعدنية التى كان بها مواد مشعة كان يتم تفريغها واستخدامها لنقل مياه الشرب وغسيل الملابس وغير ذلك من الاستخدامات الإنسانية، وهو ما كان يعنى أخطارًا بالغة على صحة هؤلاء الذين يستخدمون هذه الحاويات الفارغة، وقيل لنا كذلك إنه تم إطلاق حشرة الدودة الحلزونية غير المشعة من المختبرات، الأمر الذى يشكل خطورة صحية بالغة للبشر والماشية. ولم يكن الأمر يقتصر على ذلك لأن موقع «التويثة» شأنه شأن غيره من المواقع النووية، كان به كثير من المواد الخطرة التى يمكن أن يتسبب وصولها إلى أيدى مدنيين غير مدربين، أو أيدى مسلحين متطرفين قد تكون لديهم الرغبة فى الحصول على «قنبلة قذرة» أو فى بيع تلك المواد فى السوق السوداء، فى إحداث حالة من الفزع. لم نكن نعرف بالضبط حقيقة ما يحدث وكان ذلك من أكبر دواعى قلقنا.
وعلى هذا بدأت فى التأكيد، من خلال مقابلات ومقالات صحفية، على ضرورة عودة مفتشى الوكالة للعراق، وقد أصدرت فى 11 إبريل بيانًا صحفيًّا ذكرت فيه أننى كتبت إلى الأمريكيين بشأن أمن وحماية موقع «التويثة» ماديًّا وأننى تلقيت منهم تطمينات شفوية فى هذا الشأن.
كما أكدت كثيرًا ضرورة الاعتماد فى هذا الشأن على خبرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خاصة بعد أن أفادت وكالة «أسوشييتد برس» بأن مجموعة من جنود المارينز الأمريكيين قد دخلوا موقع «التويثة» وعثروا على مواد نووية ظنوا أنها دليل على امتلاك العراق لبرنامج تسلح نووى، بينما كان ما قاموا به فى الواقع هو كسر عبوات من المواد النووية كانت الوكالة قد قامت بتحريزها فى ذلك الموقع، ولكن الحقيقة أن هؤلاء الجنود لم يكن لديهم علم بما كانوا يقومون به أو بحقيقة ما وجدوه بين أيديهم.
وأكدت كذلك فى مقابلة مع «سى إن إن» فى 27 إبريل أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية هى وحدها المخولة قانونًا والتى لديها الخبرة الميدانية للتعامل مع الوضع على الأرض فى العراق من حيث القيام بالتفتيش على نحو سليم، وقلت فى تلك المقابلة: «لقد أمضينا فى العراق عشر سنوات، ونحن نعرف الناس ونعرف المنشآت والبنية التحتية والوثائق، ونعلم أين يجب أن نذهب وما الذى علينا أن نفعله، ولا أدرى لماذا يجب علينا أن نعيد اختراع العجلة». كما أشرت أيضًا إلى أن المصداقية التى يتمتع بها الموظفون الدوليون أعلى بكثير من تلك المتاحة لغيرهم.
وفى ذلك اليوم اتصل «كِن بريل»، السفير الأمريكى بـ«ديفيد وولر»، وهو أكبر الموظفين الأمريكيين درجة فى الوكالة، ليخبره بغضب واشنطن من حديثى الذى وجده مخالفًا لحدود مسؤولياتى الفنية. وبعد فترة التقيت «بريل» وأخبرته بأسفى من تلك الملاحظة، التى أبداها فقال إنه ينبغى علىّ أن لا أقدم النصح لأمريكا والائتلاف فرددت عليه قائلًا إن ما أصرح به هو أمر واقع فى صميم اختصاصى وعملى، وسأمضى قدمًا فى إبلاغهم برأيى.
وفى نهاية شهر إبريل تناولت إفطارًا مع مساعد وزير الخارجية الأمريكى «جون وولف» ومع «بريل»، وأخبرنى كلاهما بأن الخارجية الأمريكية لم تعد متابعة لتفاصيل ما يدور فى العراق، وأن الأمر الآن يدار من قِبل وزارة الدفاع الأمريكية، ونصحانى بأن لا أصر على المطالبة بعودة مفتشى الوكالة للعراق تفاديًا لإجابة لن ترضينى، حسبما قالا.
فما كان منى إلا أن أخبرتهما بأنه، على العكس منهما، فإننى ليس لدىّ أى أجندة سياسية، وإننى أتصرف من موقعى كمدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفى ضوء ذلك فإن مسؤوليتى تحتم علىّ إطلاع العالم على الحقيقة وتقييمها فنيًّا بناء على معلومات موثقة دون اتجاه سياسى. كما أكدت لهما أنه فى حال السماح لمفتشى الوكالة بالعودة للعمل فى العراق فإنها ستقوم بعملها بكل حيادية وشفافية كما هو الحال دائمًا.
وبعد هذا الحديث بفترة وجيزة وجهت رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مطالبًا بعودة المفتشين إلى العراق، ولكننى لم أحصل على رد. وبعد ذلك، وفى 12 مايو، التقيت «جاك سترو» فى لندن وأعدت التأكيد على ضرورة عودة المفتشين إلى العراق. وفى ذلك الوقت كان هناك الكثير من التغطية الصحفية للأخطار التى يتعرض لها البشر والبيئة فى العراق جراء عدم تأمين مواقع نووية، وهو ما دفعنى لأن أخبر «سترو» بأن ترك الأمر على ما هو عليه يعد بمثابة رسالة من أمريكا وحلفائها أنهم لا يأبهون لحياة العراقيين.
واتفق معى «سترو» فى الرأى بضرورة عودة مفتشى الوكالة للعراق خاصة لموقع «التويثة»، ولكنه أخبرنى بأن هناك انقسامًا فى الرأى فى واشنطن على هذا الأمر. ووعد «سترو» بالحديث مع «باول» فى ذات اليوم لإثارة هذا الأمر، كما قال إنه سيطلب من أحد مساعديه رفع الأمر إلى «بلير» حتى يثيره فى حديث كان من المقرر أن يجرى فى وقت لاحق من اليوم مع «بوش». وفى ذلك الوقت كان يتم التفاوض حول قرار جديد لمجلس الأمن يهدف لرفع بعض العقوبات عن العراق، وإنهاء العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء، ومنح التحالف صفة قانونية تتعلق بحفظ السلم فى العراق. ولكننى علمت فى ما بعد أنه لم يتم تضمين القرار النص على عودة مفتشى الوكالة إلى العراق، لأن بريطانيا لم تتمكن من الحصول على موافقة أمريكية فى هذا الشأن.
وبعد الكثير من الشد والجذب، تمكنا من الحصول على موافقة قوات التحالف على عودة المفتشين للتيقن من تأمين قائمة المواد والمعدات الموجودة فى «التويثة» على أن يتم ذلك بدعم لوجيستى من التحالف، ولكن مهمتنا تلك كانت محددة بشدة ولم تشمل تفقُّد الأضرار التى كانت قد لحقت بصحة البشر والبيئة، كما أنها لم تشمل أيضًا استئناف العمل للانتهاء من مهمة التفتيش فى العراق بما يسمح بغلق هذا الملف نهائيًّا. وفى كل الأحوال فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية ودول التحالف فى ذلك الوقت بإنشاء آلية أطلقوا عليها اسم «مجموعة المسح فى العراق».
وكانت مهمة هذه المجموعة حسب التوصيف المقدم هى البحث عن أسلحة الدمار الشامل «المفقودة» فى العراق. كانت واشنطن ولندن تريدان التأكيد على أن العراق كان لديه أسلحة للدمار الشامل بالرغم من قول الوكالة الدولية للطاقة الذرية و«الأنموفيك» بغير ذلك، لأن هذه الأسلحة كانت المبرر الذى استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لتبرير الغزو.
وكانت مهمة هذه المجموعة المكونة من أكثر من ألف خبير من أمريكا وبريطانيا وأستراليا تقديم تقارير مباشرة إلى «دونالد رامسفيلد» وزير الدفاع الأمريكى. وكان «ديفيد كاى» قد عاد ثانية، بعد أن كان قد ترك الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى مطلع التسعينيات، ليكون فى هذه المرة رئيسًا لهذه المجموعة. وكان «كاى» قد عمل فى السنوات الفاصلة فى معهد اليورانيوم، أحد المعاهد الدولية المعنية بالطاقة النووية. ولكن عمله هذا لم يستمر لفترة طويلة فى ضوء عدم ارتياح المعهد لتصريحاته المضادة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتى كانت تنال من مصداقية المعهد وقدرته على التعاون مع المعاهد والجهات الدولية الأخرى المعنية بالطاقة النووية.
وكان أول ظهور لـ«كاى» قبل الحرب على العراق من خلال وسائل الإعلام الأمريكية، حيث تمت استضافته بوصفه خبيرًا فى ما بتعلق ببرامج أسلحة الدمار الشامل العراقية، وحيث كان يؤكد بثقة أن العراق يخرق التزاماته الدولية بشأن التخلص من هذه الأسلحة.
ولكن فى 2004، وبعد أن تعثر الوصول إلى أى دليل، استقال «كاى» من مهمته الجديدة وتصرف بأمانة عندما أخبر مجلس النواب الأمريكى أنه «يبدو أننا كنا جميعًا على خطأ». وقد خلف «كاى» فى هذه المهمة أحد الأعضاء السابقين «للأنسكوم»، وهو «تشارلز دلفر»، الذى استمر فى العمل مع مجموعة المسح حتى مطلع 2005 عندما تم حل هذه المجموعة نهائيًّا دون الوصول إلى أى دليل يخالف ما كانت الوكالة و«الأنموفيك» قد توصلتا إليه من قبل، ولكن بعد أن أنفقت مجموعة المسح فى العراق عامين ونصف العام من العمل بكلفة 3 مليارات من الدولارات. ويمثل هذا المبلغ ما يقارب إجمالى ميزانية إنفاق الوكالة على عمليات التفتيش والتحقق من أحوال المنشآت والمواد النووية فى العالم لمدة 25 عامًا.
ومع مرور الزمن تفاقمت المآسى التى أسفرت عنها الحرب، ومن تلك الكوارث تلك التى لحقت بموظفى الأمم المتحدة فى مقر إقامتهم بفندق القنال ببغداد وهو ذاته الفندق الذى كان المفتشون يقيمون فيه قبل ذلك، ففى 14 أغسطس من عام 2003، اقتحم انتحارى الفندق بشاحنة مفخخة مما أودى بحياة أكثر من 20 شخصًا، بمن فيهم «سيرجيو فييرا ديميلو» الذى كان يشغل منصب مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والذى كان يتمتع بقدرات دبلوماسية رفيعة وشخصية كاريزمية وقدرة على الإنجاز مما جعل الكثيرين ينظرون إليه على أنه الخليفة المحتمل لـ«كوفى أنان» كأمين عام للأمم المتحدة.
ولقد تألمت جدًّا لهذا الحادث الذى كنت أعرف الكثيرين ممن راحوا ضحية له بما فى ذلك «ديميلو» نفسه، ولكننى أيضًا تألمت للأذى الذى لحق بصورة الأمم المتحدة والتى طالما ارتبطت بالحياد، ذلك الحياد الذى جعل موظفى الأمم المتحدة عادة فى مأمن من التعرض للأذى، ولكن تلك الصورة يبدو أنها قد ذهبت عن الأمم المتحدة فى العراق ما بعد الحرب، حيث كان يُنظر إليها على أنها جزء من قوة للاحتلال أو رهينة لإرادة دول الاحتلال فى العراق.
ولم تكن الحادثة وحيدة، ولكن تلتها حادثة أخرى كانت لها أيضًا ضحايا من العراقيين ومن الموظفين الدوليين، وهو ما حدا بالأمم المتحدة وبمنظمات دولية لسحب موظفيها من العراق. وحذت حذوها منظمات أخرى معنية بالمساعدات الإنسانية. وفى ذلك الوقت أكدت كثيرًا على ضرورة العمل على استعادة الصور المحايدة للأمم المتحدة ووكالاتها.
وفى أواخر أكتوبر 2004، وتقريبًا مع عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ثارت ضجة جديدة عندما خاطبت وزارة العلوم والتكنولوجيا العراقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتبلغنا بأن موادَّ كيميائية شديدة التفجير، يمكن استخدامها فى تطوير سلاح نووى، قد تم الاستيلاء عليها من موقع «القعقاعة» الذى كان تحت إشراف الوكالة فى السابق.
وعندئذ قررت أن أخبر الولايات المتحدة الأمريكية وبعدها مجلس الأمن، وفى الوقت نفسه كانت الأنباء قد تسربت من العراق وأصبحت محل اهتمام من الإعلام الأمريكى، وهو ما تسبب فى ضجة فى واشنطن تم اتهامى خلالها بأننى أحاول التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة الأمريكية، كما لو أننى من قرر اكتشاف اختفاء هذه المواد فى ذلك التوقيت.
وفى ذلك الوقت كتب «ويليام سافيير»، أحد المعلقين الأمريكيين المتشددين، ليشير إلى أن إطلاعى مجلس الأمن على الأمر كان بمثابة محاولة للتأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية مثلى فى ذلك مثل المحاولة التى قام بها «بن لادن» من خلال تسجيل صوتى.
كنت حينئذ فى نيويورك للمشاركة فى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتلقيت مكالمة من «باول» الذى قال إنه يحدثنى كصديق وإنه بهذه الصفة ينصحنى بتوخى الحذر فى التعامل الإعلامى مع هذا الأمر بالنظر لحساسية موسم الانتخابات الرئاسية، وكان «سافيير» قد قال إننى أدفع بالتصويت لصالح السيناتور الديمقراطى «جون كيرى» مقابل «جورج دبليو بوش» الذى كان يسعى لإعادة انتخابه.
وبالفعل أخبرت «باول» بتطورات الأمر، وبأننى أدرك حساسية هذا التوقيت بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وأننى سعيت لإخبار الولايات المتحدة الأمريكية بالأمر أولًا على أمل أن تتمكن قوات التحالف من استعادة المواد المسروقة، ولكنه بما أن الأمر قد أثير من قِبل العراق وأن السفير البريطانى فى الأمم المتحدة اتصل بمكتب الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى نيويورك ليطّلع على ما جرى وبوصف أن المواد المسروقة من «القعقاعة» تقع ضمن مسؤولية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد وجب إطلاع مجلس الأمن على الأمر. ثم لفت نظر «باول» إلى أن السؤال هنا يتعلق بقرار العراقيين الإفصاح عن هذه المشكلة فى هذا التوقيت، مشيرًا فى الوقت نفسه إلى أن العراق به الكثير من المنشآت والمواد النووية غير المؤمَّنة من جانب قوات التحالف.
وفى حديث لاحق مع القائم بالأعمال العراقى فى فيينا أخبرنى بأن قرار إطلاع الوكالة على سرقة المواد المتفجرة من «القعقاعة» تم التداول بشأنه فى العراق، وأن القرار اتخذ بإطلاع الوكالة من قِبل وزير العلوم والتكنولوجيا العراقى الدكتور رشاد عمر بالرغم من أن المستشار السياسى للسفارة الأمريكية فى بغداد أخبر العراقيين بأن ذلك ليس ضروريًّا لأن مسؤولية الوكالة قد انتهت فى العراق. وسيظل التوقيت الذى اختار فيه العراق قرار الإعلان عن هذا الأمر عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومدى ارتباط هذا التوقيت بالانتخابات من الأسئلة المثيرة للاهتمام.
وأخبرنى «ديفيد سنجر»، أحد كبار المحررين فى «النيويورك تايمز»، بأن «كارل روف» كبير مستشارى «بوش» مقتنع بأننى مَن يقف وراء الإعلان عن اختفاء المواد المتفجرة من «القعقاعة» فى ذلك التوقيت. وكان «روف» قد شعر باستياء أيضًا إزاء محاضرة ألقيتها، بعد أيام من الانتخابات الأمريكية، أمام جامعة ستانفورد الأمريكية. وكان الغرض من هذه الكلمة استخلاص الدروس المستفادة من تداعيات الوضع فى العراق وإبراز أهمية العمل الجماعى من خلال المؤسسات متعددة الأطراف. وأكدت فى هذه المحاضرة أن عمليات التفتيش كانت تحقق نتائج فى العراق، وأنه لا يمكن تبرير الحرب الاستباقية فى ضوء ميثاق الأمم المتحدة خاصة أن انقسام المجتمع الدولى حول قضايا الأمن والسلم لا يخدم أحدًا على الإطلاق. كما أشرت إلى أن دول التحالف قد خسرت الكثير من المصداقية بسبب تلك الحرب التى شُنت دون تفويض من مجلس الأمن، بل إن الأمم المتحدة قد فقدت جانبًا من مصداقيتها باعتبارها الجهة التى تمثل الشرعية الدولية فى العمل فى العراق، وأنه أصبح ينظر إليها، ولا سيما بين العراقيين، باعتبارها تابعة لقوات التحالف وليس كهيئة مستقلة ومحايدة، وإن كان الخاسر الأكبر فى نظرى يبقى هو الشعب العراقى الذى عانى لسنوات طويلة من ديكتاتورية قاسية وعقوبات طاحنة، والذى ما زال عليه أن يعانى جراء الحرب التى جلبت الكثير من المآسى والتى أطلقت العنان للعنف ولاضطرابات أهلية.
ولم يكن فى ما قلته ما جاوز الحقيقة أو ما يخالف ما كان يتردد فى الدوائر الدبلوماسية ولكنه مثّل مع ذلك طرحًا علنيًّا غير مسبوق من مسؤول دولى حول سلامة موقف الحكومة الأمريكية إزاء الحرب على العراق، وهو ما أبرزته صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» فى اليوم التالى للمحاضرة عندما عنونت تغطيتها للمحاضرة بالقول بأن «مفتش الأمم المتحدة على الأسلحة يوجه ضربة لإدارة بوش».
aymaan noor 24-09-2012, 01:47 PM سنوات الخداع - الحلقة التاسعة
https://fbcdn-sphotos-h-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash3/s480x480/148814_307365269371193_618439218_n.jpg
رغم أن التقديرات لعدد الوفيات من العراقيين جراء تلك الحرب أشارت إلى أن ما يقرب من 800 ألف عراقى قد قضوا فى الأعوام الثلاثة الأولى للغزو مباشرة، فإن هؤلاء لم يحظوا إلا بقليل من الاهتمام من الإعلام الغربى، واستمروا غير معروفة أسمائهم أو وجوههم، ناهيك عن الملايين ممن تعرضوا للتشويه وعاهات دائمة ومن فقدوا منازلهم وأسباب استقرار حياتهم. ويمكن القول إن الأمر نفسه ينطبق على الحال فى أفغانستان، وإن كان بدرجة أقل. فى الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بصفة عامة كان لديهم حصر دقيق بعدد جنودهم الذين يلقون حتفهم فى العراق.
وكيف لا يمكن لقادة الدول الغربية أن يفهموا الشعور بالغضب والظلم والمهانة والمرارة الذى سببته هذه الحرب، إلى جانب الجراح الثقافية التى نجمت عنها والتى يُرجّح أن تظل قائمة لجيل كامل على الأقل.
فى يناير 2005 التقيت موفق الربيعى على هامش أعمال منتدى دافوس، وكان الربيعى مستشارا للأمن القومى فى العراق، ورغم أنه كان يعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية فإنه أبلغنى أن الطريقة التى تدير بها أمريكا الأمور فى العراق هى طريقة «إجرامية». ومن ذلك أخبرنى الربيعى أنه عندما دخلت القوات الأمريكية الفلوجة وقامت بقتل المئات من العراقيين هناك، اتصل بالجنرال «جورج كيسى» قائد القوات العسكرية الأمريكية فى العراق ليخبره أن هذه الطريقة لا تتسم بأى قدر من الإنسانية، فما كان من الأخير إلا أن أجاب عليه بكل برود: «أنا من المارينز، وهذه هى الطريقة التى يتصرف بها المارينز».
ولقد رأى كثيرون فى الطريقة التى تتصرف بها الولايات المتحدة فى العراق، أو على نطاق أوسع فى ما سمته الحرب على الإرهاب، إرهاصات لصِدام بين الحضارات وتبريرا ممتازا يستعمله المتطرفون لتجنيد أتباع لهم. والأمثلة الصارخة على ذلك تبدو فى عمليات ترحيل المسجونين بواسطة الـ«CIA» ليتم تعذيبهم، والتى يطلق عليها «Rendition». وفى عمليات الاعتقال المهينة التى قامت بها فى سجون مثل جوانتانامو وأبو غريب، وكانت مشاهد الذل والإهانة اليومية التى تتناقلها قنوات التليفزيون عما يجرى فى العراق وفى أفغانستان، سببا فى تنامى الشعور بالمهانة عربيا وإسلاميا والقناعة بأن سياسات الولايات المتحدة تقوم على الاحتقار لحقوق الإنسان، والتفرقة الثقافية الصارخة، وتجاهل القواعد الدولية المعمول بها فى الحروب (مثل حماية المدنيين واستخدام القوة بغير تمييز).
فى الوقت نفسه، فإن ما كانت تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية فى العراق وأفغانستان نال من قيم الديمقراطية والحرية الأمريكية، وهى القيم التى تعرفت عليها بنفسى ولمستها وقدرتها خلال سنوات دراستى فى نيويورك، وبالتالى نالت من تقدير الشعوب العربية والإسلامية للدعوة الأمريكية لنشر الديمقراطية ونالت من مصداقية مواقف الولايات المتحدة الأمريكية فى احترام الكرامة الإنسانية. لقد روجت الولايات المتحدة وحلفاؤها للعنف وللفرقة الثقافية التى أعادت العالم إلى مراحل مبكرة من التاريخ الإنسانى.
لكننى بوصفى مديرا عامّا للوكالة الدولية للطاقة الذرية كنت أشعر بالقلق الشديد من تشويه صورة المنظمات الدولية بما فى ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتبعية. كنت أخشى أن ينظر إلى هذه المنظمات على أنها أصبحت أداة طيعة فى يد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، لكن أكثر ما كان يصعب علىّ قبوله هو تيقنى من أن الولايات المتحدة وحلفاءها القريبين لم يكن فى نيتهم أبدا أن يأخذوا نتائج التفتيش بجدية إلا إذا كان من شأنها أن تدعم الدعوة إلى تغيير النظام بالقوة المسلحة.
ومنذ مطلع التسعينيات كنت أدرك أن نظام حظر انتشار الأسلحة النووية قد دخل مرحلة جديدة تقوم على رغبة بعض الدول فى تطوير برامج تسلح نووى سرية لتحقيق مكتسبات سياسية وأمنية، وإمكان استخدام أساليب الخداع فى تحقيق ذلك، وما تعلمته من الحرب على العراق أن هذا الخداع المتعمد لم يكن بالضرورة مقصورا على دول صغيرة تحكم بصورة ديكتاتورية. وفى ظل هذه المتغيرات الجديدة فإن حيادية الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقدرتها على التزام المهنية والاستقلالية والتحقق من المعلومات وتوثيقها لأقصى درجة ممكنة أصبحت أكثر أهمية من أى وقت مضى.
تطرح علينا الحرب على العراق عددا من الأسئلة الصعبة، فإذا كان المجتمع الدولى يريد أن يعيش فى ظل حكم القانون فلا بد له من تحديد ما ينبغى عليه القيام به إذا ما قام البعض بخرق القانون الدولى بصورة تتسبب فى خسائر كبيرة فى الأرواح بين المدنيين وحول مَن ينبغى أن يتحمل مسؤولية شن حروب بالمخالفة لميثاق الأمم المتحدة خاصة عندما يثبت أن هذه الحرب شُنت على أساس معلومات خاطئة وانتقائية، بل وعلى أساس من تضخيم لهذه المعلومات غير الصحيحة.
وحسب ميثاق الأمم المتحدة فلا يحق لأى دولة أن تستخدم القوة ضد دولة أخرى إلا فى حال الدفاع عن النفس إذا ما تعرضت للهجوم، كما زعم البعض أنه يمكن القيام بالشىء نفسه وقائيا فى حال ما كان هناك خطر داهم محدق على دولة ما، خاصة فى عصر الأسلحة النووية. أما الرغبة فى تغيير الأنظمة فلا يمكن أن يعد سببا مشروعا لشن حرب من دولة ضد أخرى. وفى كل الأحوال فإنه عندما تُشَن الحروب فإن اتفاقية جنيف الرابعة واضحة فى تأكيدها على ضرورة حماية المدنيين، كما أن القانون الدولى الإنسانى يؤكد عدم جواز الاستخدام العشوائى للقوة.
وفى مقال نشره فى مجلة «نيوزويك» تحت عنوان «إشكالية الانشقاق» ثم قام بتطويره بعد ذلك فى كتاب تحت عنوان «حرب ضرورة وحرب اختيار»، يقول «ريتشارد هاس» إنه تناقش مع «رايس» فى يولية 2002 فى مسألة الاستعدادات الأمريكية للحرب على العراق، وإنه فى ذلك الحين قالت له «رايس» إنه لا داعى للنقاش مطولا لأن الرئيس «بوش» قد عقد العزم فى ما يخص العراق، وكان واضحا من إجابتها أنه قرر شن الحرب.
ولم يكن «هاس» الوحيد الذى أدلى بشهادة كتلك، فقد قام بذلك العديد من المصادر القريبة من دائرة صنع القرار بمن فيهم سفير بريطانيا لدى الولايات المتحدة الأمريكية «كريستوفر ماير» الذى قال إن قرار الحرب اتخذه «بوش» و«بلير» فى قمة جمعتهما فى كامب ديفيد فى عام 2002. كما أشارت تقارير أخرى إلى أن المحافظين الجدد كانوا ينادون بحسم بعد هجمات الحادى عشر من سبتمبر بإنزال العقاب على دولة عربية ومسلمة، وأن كثيرين اقترحوا أن تكون العراق الهدف لذلك وطبقا لتلك التقارير فإن حرب العراق كانت حربا مبنية على إيديولوجية خيالية تهدف إلى تحويل العراق إلى واحة للديمقراطية كنموذج يحتذى ويُغيّر من شكل الخريطة الجيو سياسية فى الشرق الأوسط.
ولم يُخفِ «بلير» و«بوش» أن تغيير النظام فى العراق كان من أهدافهما الرئيسية، بغض النظر عما ساقاه من مبررات لشن الحرب على العراق. وهناك الكثير من الشهادات التى تشير إلى تعاون بينهما فى التجهيز لذلك من خلال تضخيم ادعاءات حول برامج لأسلحة الدمار الشامل لم يكن لها وجود فى الواقع. وكان من اللافت أنه بعد الحرب وفى شهر سبتمبر 2003 اضطر نائب الرئيس الأمريكى (تشينى) إلى الاعتراف بأنه أساء الحديث قبل الحرب، وبأن أمريكا لم يكن لديها أبدا دليل على امتلاك صدام حسين لأسلحة نووية.
لقد أدلى «بوش» و«بلير» بتصريحات لم يكن لها أساس من الصحة بما فى ذلك المعلومات المضللة حول استيراد العراق لشحنات من اليورانيوم عالى التخصيب من النيجر، وحديث «بلير» على أن العراق بحوزته أسلحة كيميائية يمكن تفعيلها للهجوم فى خلال 45 دقيقة، وفى ذلك لم يعبأ أى من الاثنين كثيرا بالأرواح التى أُزهقت جراء هذه الحرب والتى كانا يشيران إليها بأنها عمليات قتل غير مقصود مما يقع فى أثناء العمليات العسكرية.
ويبقى السؤال حول ما يجب فعله، هل يجب على الأمم المتحدة أن تطلب الرأى القانونى من محكمة العدل الدولية حول مدى قانونية الحرب على العراق، وإذا ما جاءت الفتوى بأن الحرب غير قانونية، وكذلك إذا ما أخذ فى الاعتبار مئات الآلاف الذين أزهقت أرواحهم فى تلك الحرب، فى هذه الحالة ألا يجب على المحكمة الجنائية الدولية أن تحقق فى ما إذا كان ما حدث يمثل جريمة حرب وأن المتسبب فيها يجب توقيفه ومحاكمته؟ وهل يمكن للعراق أن تطالب بالتعويض عن الأضرار التى لحقت بها بالمخالفة للقانون الدولى ومن جراء حرب شُنت على أساس معلومات غير صحيحة؟
إننا إذا ما أردنا أن نعيش فى عالم يحكمه القانون فلا يمكن أن نقصر المقاضاة على جرائم الحرب على الخاسرين أمثال «سلوبودان ميلوسوفيتش» أو عمر البشير اللذَيْن عاشا فى مناطق تعرضت للقمع لفترات طويلة، لأننا إذا ما أردنا أن تكون لقواعد القانون شرعية فيجب أن تطبق بالمساواة على الجميع، وإلا فإننا كمجتمع دولى سنكون مدانين بتطبيق معايير مزدوجة.
ويبقى سؤال أخير: هل لدينا كمجتمع دولى القدرة والشجاعة على اتخاذ التدابير اللازمة التى تحول أن لا تتكرر مأساة حرب العراق مرة أخرى أبدا؟
الفصل الرابع
كوريا الشمالية: 2003 وما بعدها
عضو جديد فى النادى النووى
كان عام 2002 يقترب من نهايته، وبعد أقل من شهر من عودة مفتشى الأمم المتحدة إلى العراق، وجد العالَم نفسه مرة أخرى فى مواجهة الملف النووى لكوريا الشمالية.
ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا تبقى كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية فى مواجهات لا تنتهى. أحيانا تقترب هذه المواجهة من حافة الهاوية، وأحيانا أخرى تبتعد عنها ليعود الصراع عند الحافة مرة ثانية.. وهكذا. وملف التفاوض حول البرنامج النووى الكورى يتأرجح بين الحركة والسكون بناء على مواقف تتخذها كوريا الشمالية أو الولايات المتحدة، بينما العالم يتابع دون أن يستطيع أن يؤثر كثيرا أو قليلا على تفاعلات هذه القضية النووية.
كانت الشعلة النووية قد انتقلت منذ فترة طويلة إلى «كيم جونج إيل»، ابن «كيم إيل سونج»، دون تغيير يُذكر. وكان الاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة يحدد خطوات معينة كمحاولة للتوصل إلى حل للتوترات القائمة، منها أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم مفاعلَيْن نوويَّيْن يعملان بالماء الخفيف مقابل تجميد كوريا الشمالية لعملياتها النووية المعروفة. غير أن شعورا بالإحباط كان يسود فى كوريا الشمالية بسبب تأخر الولايات المتحدة فى تسليم هذين المفاعلين. وكان الأمريكيون يشعرون كذلك بالإحباط لأن النظام لم يَنْهَر ولا هم عرفوا أكثر مما كانوا يعرفون عن الأنشطة النووية السابقة لكوريا الشمالية.
وبين هذا وذاك حاولت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قدر استطاعة مفتشيها الموجودين على الأرض فى «يونج بيون» التأكد من تجميد نشاط المنشآت النووية لكوريا الشمالية المحددة فى الاتفاق الإطارى، لكن دون أن يكون لدى الوكالة ومفتشيها القدرة على التحقق من أى أنشطة نووية أخرى قد تكون موجودة فى أماكن أخرى فى كوريا الشمالية.
وفى وقت من الأوقات لاحت فى الأفق احتمالات لتحسن العلاقة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية، حيث استَقبلت وزيرة الخارجية الأمريكية «مادلين أولبرايت» بحفاوة، قرب نهاية ولايتها، مبعوثا عن الزعيم الكورى الذى كان بدوره قد تقدم بالدعوة للرئيس الأمريكى لزيارة بلاده، بل إن «كيم جونج إيل» نفسه استقبل «أولبرايت» بحرارة بالغة خلال زيارتها لكوريا الشمالية. وبعد ذلك أبدى وزير الخارجية الجديد «كولين باول» نيته فى استمرار الحوار مع كوريا الشمالية، وأعلن عن ذلك بقوله إن إدارة الرئيس «جورج بوش» (الابن) «تنوى الاستمرار فى الحوار الذى بدأته إدارة الرئيس كلينتون مع بيونج يانج».
غير أن الرئيس «بوش» (الابن) كانت له رؤية أخرى، فأعلن لدى استقباله زعيم كوريا الجنوبية «كيم داى جونج» فى أعقاب حصول الأخير على جائزة نوبل للسلام لاتباعه سياسة الشمس المشرقة للحوار والتقارب مع كوريا الشمالية أن واشنطن غير راغبة فى الحوار مع النظام الكورى الشمالى. وبعد أشهر قليلة كان «بوش» (الابن) قد وضع كوريا الشمالية مع العراق وإيران فى ما وصفه بـ«محور الشر»، بل إنه وصف زعيم كوريا الشمالية بالطفل المدلل وبأنه قزم.
وبعد أشهر من ذلك الحديث، ظهرت علامات، ولو محدودة، لحدوث تحسن ما مع البدء فى بناء أحد المفاعلَيْن اللذَيْن كانت واشنطن وعدت بتقديمهما لـ«بيونج يانج» لإنشاء برنامج نووى سلمى، رغم تأخرها فى ذلك عدة سنوات. وفى أعقاب تلك الخطوة استقبلت «بيونج يانج» رئيس وزراء اليابان «يونيشيرو كيوزومى» فى ما وصف وقتها بأنه اختراق دبلوماسى. وفى خلال تلك الزيارة أعلن الزعيمان الكورى واليابانى عن اعتزام بلديهما تطبيع العلاقات فى ما بينهما.
ولكن حدث تحول مفاجئ جراء معلومات أدلى بها مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون شرق آسيا «جيم كيلى» فى تقرير أعده لواشنطن بناء على لقاءات أجراها مع كبار المسؤولين فى كوريا الشمالية. وحتى يومنا هذا لم يتكشف الكثير مما جاء فى هذه اللقاءات، ولكن يبدو أن «كيلى» قد وجه خلالها اتهاما لكوريا الشمالية بإدارة برنامج سرى لتخصيب اليورانيوم. وحسب ما نقله «كيلى» إلى واشنطن فإن ما أثاره حول البرنامج السرى الكورى لتخصيب اليورانيوم قد قوبل بإقرار من الجانب الكورى، غير أن ذلك تم دون أن تظهر تفاصيل فى ذلك الوقت حول طبيعة هذا البرنامج أو مداه.
وطالبت الولايات المتحدة الأمريكية بالتفتيش على البرنامج المذكور، وهو الأمر الذى تسرب للصحافة مصحوبا باتهامات لكوريا الشمالية بخرق الاتفاق الإطارى القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية لإيقاف برنامجها النووى مقابل حصولها على مفاعلَيْن نوويين للأغراض السلمية. وبدلا من أن تسعى للحصول على المزيد من المعلومات حول برنامج التخصيب السرى ومعالجتها فى نطاق الاتفاق الإطارى، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية تأثيرها على «كيدو» وهى منظمة كان قد تم إنشاؤها من قِبل واشنطن وسيول وطوكيو لتنفيذ الاتفاق الإطارى لوقف عمليات شحن الوقود النفطى الثقيل إلى كوريا الشمالية. وبالفعل تم وقف مفاجئ لهذه الشحنات التى كانت بيونج يانج تعتمد عليها كثيرا فى توليد الطاقة.
وجاء الرد عنيفا من كوريا الشمالية التى أعلنت انتهاء العمل بالاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة الأمريكية، لوقفها شحنات الوقود. كما أعلنت بيونج يانج اعتزامها إعادة العمل بمفاعل يونج بيون، بل إنها هددت بطرد مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية واستئناف نشاط نووى متقدم وصولا إلى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ولم يكن الأمر مجرد تهديد، بل شرعت بالفعل كوريا الشمالية فى مطالبة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية برفع الأختام وأجهزة الاستطلاع عن منشآت يونج بيون.
وقد أجرينا اتصالات عديدة مع المسؤولين فى كوريا الشمالية لمحاولة إقناعهم بمراجعة موقفهم. كان ذلك فى عطلة أعياد الميلاد، وكنت أتابع الأمر من فندق كنت أقضى فيه عطلة نهاية العام مع أفراد أسرتى فى أحد منتجعات ****انكا. وأتذكر أننى أدليت بحديث لقناة «سى إن إن» الإخبارية الأمريكية حول هذا الشأن من غرفتى بالفندق، معتمدا على ترتيبات قام بها ابنى مصطفى. فى الوقت نفسه كنت على اتصال دائم بأعضاء مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى فيينا. وقد حاولت مع زملائى فى فيينا إبداء كل ما يمكن من حجج لإثناء بيونج يانج عن القيام بأى تصرف متسرع.
فى السادس والعشرين من ديسمبر أدليت ببيان أدنت فيه الخطوات التى اتبعتها كوريا الشمالية، معتبرا هذه الخطوات مدعاة للقلق من انتشار التسلح النووى، بل إننى ذهبت إلى أبعد من ذلك واتهمت كوريا الشمالية باتباع سياسة حافة الهاوية فى ما يتعلق بالانتشار النووى. لكن كل ذلك لم يؤثر فى قرار كوريا الشمالية التى أصر المدير العام لإدارتها للطاقة النووية على أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بسحب مفتشيها فورا، وهو ما اضطرنا للامتثال له.
وفى اجتماع عاجل لمجلس المحافظين تمت إدانة قرارات ومواقف كوريا الشمالية، ومطالبتها بإعادة العمل بالتدابير المقررة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبعد هذا الاجتماع بأربعة أيام أعلنت كوريا الشمالية انسحابها من معاهدة حظر انتشار السلاح النووى، وقام فنيون كوريون بإيقاف عمل كل أجهزة المراقبة التى كانت الوكالة قد قامت بوضعها ثم تبع ذلك إصلاحات أجراها الفنيون من قِبل كوريا الشمالية لإعادة تشغيل المفاعل، حيث بدؤوا بنقل قضبان الوقود إلى المفاعل، واتخذوا عدة خطوات للبدء فى إعادة معالجة الوقود المستنفد.
وقمت بمطالبة بيونج يانج بصورة علنية بالعودة عن هذا القرار، معربا عن اعتقادى بأن الخطوات التى تتخذها لا تسهم فى تحقيق السلام والاستقرار فى شبه الجزيرة الكورية. وعُقدت بعد ذلك لقاءات على المستوى الوزارى بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية للبحث عن مخرج دبلوماسى من هذه الأزمة. على أنه كان من الواضح أن الضرر قد وقع فعلا، على الأقل فى المدى القصير.
وكان الفريق المتشدد من المحافظين الجدد فى واشنطن يشعر بالارتياح لما حدث لأنهم كانوا يرون أن مجرد الحوار مع النظام الحاكم فى كوريا الشمالية هو أمر لا يمكن القبول به، بل إنهم كانوا يرون فى الاتفاق الإطارى الخاص بوقف النشاط النووى لكوريا الشمالية مقابل حصول بيونج يانج على مفاعلَيْن للأغراض السلمية هو بمثابة مكافأة لكوريا الشمالية عما قامت به من خرق لتعهداتها المقررة فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ومع أنه يمكن القول بالفعل إن هذا الاتفاق كان يتضمن الكثير من النقائص، إلا أن البديل عنه كان أسوأ بكثير من الاتفاق نفسه.
وبطبيعة الأمور قام مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإحالة الأمر إلى مجلس الأمن، ولكن المجلس لم يتخذ أى إجراء، حيث كان المجلس مشغولا حينئذ، كبقية العالم، بالكارثة التى كانت فصولها تتداعى فى العراق. لكن السبب الحقيقى فى ذلك كان موقف الصين، التى لها حق الفيتو والتى كانت تصر على أن حل ملف كوريا الشمالية وغيره من الملفات المماثلة يتطلب الحوار والتفاوض وليس المواجهة. وفى إبريل من عام 2003 استضافت الصين مباحثات مباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية، فى محاولة للجوء إلى الدبلوماسية وراء الأبواب المغلقة، لكن هذه المباحثات لم تُحرز سوى تقدم محدود، أعقبها إبداء المطالب والاتهامات العلنية ورفض العروض.
وبعد تلك المباحثات بفترة قصيرة أعلنت كوريا الشمالية تخليها عن آخر تعهداتها فى ما يخص منع انتشار الأسلحة النووية، وهو اتفاق بينها وبين جارتها الجنوبية لإبقاء شبه الجزيرة الكورية خالية من الأسلحة النووية وهو الاتفاق الذى كان قد تم توقيعه بين الكوريتين فى 1992. ولكن ذلك لم يَحُل دون استمرار الصين فى جهودها الهادفة للتوصل إلى حل تفاوضى للأزمة فى كوريا الشمالية، فدعت للمفاوضات السداسية، وهى سلسلة ممتدة من المفاوضات تجمع كوريا الشمالية والصين وكلا من الولايات المتحدة واليابان وروسيا وكوريا الجنوبية.
ولم يكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية أى دور فى المحادثات السداسية. والواقع أن السنوات التى أعقبت خروج كوريا الشمالية من معاهدة حظر الانتشار فى 2003، كانت، من الناحية العملية، معتمة تماما من وجهة نظر الوكالة، حيث لم تصلنا أى معلومات عما يجرى ولم يكن لدينا أى وجود فى كوريا الشمالية
aymaan noor 24-09-2012, 02:30 PM الخداع المعروف سابقا من أمريكا و حلفائها
شكرا لك مستر أيمن
جزاك الله خيرا وبارك فيك
جزاك الله خيرا وبارك فيك
جزاكم الله خيرا على مجهودكم الطيب
جزاكم الله خيرا و بارك الله فيكم
aymaan noor 28-09-2012, 05:17 PM سنوات الخداع - الحلقة العاشرة
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/09/51387804_10.jpg
على الرغم من دعمى المستمر لانخراط كوريا الشمالية فى المباحثات السداسية، فإن عدم وجود رد فعل دولى موحد ومتفق عليه تجاه التصعيد من جانب كوريا الشمالية كان من وجهة نظرى يشكل سابقة بالغة الخطورة. ففى حالة العراق، كانت الحكومة العراقية قد دعت المفتشين الدوليين الذين لم يجدوا أى أثر لاستمرارها فى برامج تتعلق بأسلحة الدمار الشامل. لكن تم تجاهل نتائج التفتيش ووضعها جانبًا لصالح فكرة غزو العراق (التى زعم أنها بسبب التهديد الذى يشكله العراق «للأمن والسلام الدوليين»)، وعلى الصعيد الآخر فإن حكومة كوريا الشمالية فشلت فى الإجابة عن أسئلة حول البلوتونيوم المختفى، والمنشآت السرية، وبرنامجها المزعوم غير المعلن لتخصيب اليورانيوم. وتم إبعاد مفتشى الوكالة إلى خارج البلاد، وانسحبت بيونج يانج من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية مما أرسل إشارة قوية تدل على نوايا كوريا الشمالية، لكن مع ذلك كله، لم تكن هناك إدانة جماعية فى مجلس الأمن تجاهها، ولم تكن الوكالة الدولية (وهى الجهة المسؤولة عن حظر انتشار الأسلحة النووية) طرفًا فى المحادثات بين مختلف أطراف القضية.
وفى كل اجتماع لمجلس محافظى الوكالة كنت أعرب عن القلق وعن استعداد الوكالة العمل مع كوريا الشمالية للتوصل إلى تفاهمات تأخذ فى الاعتبار كلًّا من مصالح بيونج يانج الأمنية، وحرص المجتمع الدولى على عدم انتشار الأسلحة النووية. وفى الكواليس كنت أسأل أعضاء المحادثات السداسية عن معلوماتهم، لكن لم يكن هناك الكثير الذى يستطيعون قوله لأنه لم يكن هناك على ما يبدو تقدم يذكر.
كما قمت من خلال عدد من المنتديات العامة بالإعلان عن عدم ارتياحى للطريقة التى تدار بها قضايا انتشار السلاح النووى، ومن ذلك ما قلته فى مناقشة عامة أمام مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، حيث قلت: «إن ما يقلقنى إزاء التعامل مع كوريا الشمالية أننا نرسل أسوأ رسالة ممكنة للدول التى يمكن أن تفكر فى حيازة الأسلحة النووية، والرسالة مفادها أنه إذا أرادت دولة أن تحمى نفسها فالحل يكمن فى تطوير كبير وسريع لقدراتها النووية، وأن الدولة التى لا تتحرك بسرعة كافية فى هذا الصدد قد تكون عرضة لأعمال استباقية فى إشارة بالطبع إلى العمل العسكرى ضد العراق.
فى يونية من العام 2004 التقيت بـ«كولين باول» بينما كانت الجولة الثالثة من المحادثات السداسية على وشك الانتهاء دون أن يلوح فى الأفق أى شىء يدل على إمكانية تحقيق اختراق. وأخبرنى «باول» أنه مستعد لإبداء مزيد من المرونة إزاء كوريا الشمالية، غير أنه كان يخشى فى الوقت نفسه أن تحاول بيونج يانج المماطلة حتى شهر نوفمبر، وقال لى: «إننى لو كنت مكان كوريا الشمالية لانتظرت حتى نهاية العام عندما تتضح نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لأنه لو فاز الديمقراطيون فإنهم على الأرجح سيتبنون سياسة أقل تشددًا».
وفى ما استطعت قراءته بين السطور حول المحادثات السداسية فإن مطالب كوريا الشمالية مقابل وقف برنامجها النووى كانت بالفعل قد تجاوزت الحصول على مفاعلَيْن نوويَّيْن لأغراض سلمية من الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها أصبحت تشمل الحصول على المزيد من المعونة والتوصل إلى اتفاق حول حزمة ضمانات أمنية إلى جانب تطبيع العلاقات مع واشنطن.
كما كان باديًا لى أن واشنطن، وبدرجة ما طوكيو، كانت تريد على الجانب الآخر أن تتحرك بيونج يانج نحو تفكيك برنامجها النووى بدرجة تحول دون استعادة تفعيل دورة الوقود النووى. بل إن الولايات المتحدة كانت تسعى لوقف المساعدات الدولية إلى أن تقوم بيونج يانج باتخاذ خطوات جادة فى سبيل تفكيك برنامجها النووى على نحو يمكن التحقق منه وتقديم ضمانات كافية فى هذا الشأن.
أما الصين وروسيا وكوريا الجنوبية فبدت أكثر ميلًا لاتخاذ موقف أقل تشددًا يقوم على التبادلية، بمعنى أنه كلما اتخذت كوريا الشمالية خطوة حصلت على خطوة مقابلة من الجانب الآخر.
وبدت كل الأطراف متمسكة بمواقفها. وبدت ساحة العمل الدبلوماسى للتعامل مع أزمة كوريا الشمالية النووية ملبدة بالغيوم. وعندما حل موعد الجولة الرابعة للمباحثات السداسية رفضت كوريا الشمالية المشاركة، وبررت هذا الرفض بالمواقف «المعادية» التى تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية. وفى وقت لاحق من ذلك الخريف قمت بزيارة اليابان وكوريا الجنوبية، وفى طوكيو وسيول أيضًا استشعرت أن هناك عدم ارتياح إزاء المواقف المتشددة التى تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية.
وقد أرجع نائب وزير خارجية كوريا الجنوبية الإشكال القائم إلى ما وصفه بخلافات فى وجهات النظر، حيث قال إنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فإن كوريا الشمالية هى مجرد ملف آخر من ملفات أسلحة الدمار الشامل، أما «بالنسبة إلينا فى كوريا الجنوبية فإن الوضع يختلف، لأن كوريا الشمالية بالنسبة إلينا هى العدو وهى أيضًا الشقيق»، أما فى ما يتعلق باليابان فقد قيل لى إنها كانت تفضل التركيز على وقف كوريا الشمالية لعمليات فصل البلوتونيوم التى كانت اليابان تراها الأكثر خطورة، ثم التعامل لاحقًا مع مسألة التخصيب المزعوم لليورانيوم. ومع غياب مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يعد «التجميد» الذى يحول دون قيام كوريا الشمالية بإعادة معالجة الوقود المستنفد، أو فصل البلوتونيوم، أو تطوير أسلحة نووية قائمًا.
وقرب نهاية العام نفسه تلقيت مكالمة غير معلنة من «بيل ريتشاردسون» حاكم ولاية نيو مكسيكو، الذى اتصل بى بصفة شخصية. كنت أعرف «ريتشاردسون» منذ توليه منصب مندوب الولايات المتحدة الأمريكية فى الأمم المتحدة، فى العامين 1997 و1998. وبعد ذلك خلال فترة توليه منصب وزير الطاقة الأمريكى. لقد أراد «ريتشاردسون» أن يعرف ما إذا كان يمكنه القيام بوساطة فى هذا الشأن عن طريق موافقتى على إرساله لكوريا الشمالية كمبعوث عن مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذكر أنه يريد أن يبقى على صلة بقضايا السياسة الخارجية التى كان يفتقدها فى منصبه كحاكم ولاية.
وكان لـ«ريتشاردسون» خبرة فى التعامل مع كوريا الشمالية، حيث تمكن فى عام 1996، بينما كان عضوًا فى الكونجرس، من ضمان موافقة كوريا الشمالية الإفراج عن المواطن الأمريكى «إيفان هانزيكر»، الذى كان قد تم احتجازه من قِبل سلطات بيونج يانج. بالإضافة إلى ذلك فلقد كانت كوريا الشمالية قد لجأت إلى استخدام مساعى «ريتشاردسون» عبر إرسال مبعوثين له فى يناير عام 2003 مع تدهور الوضع إزاء أزمة برنامجها النووى. وكان «ريتشاردسون» قد تولى مهامَّ دبلوماسية أخرى فى أثناء إدارة «بيل كلينتون» فى العراق وفى بنجلاديش تعلقت بالإفراج عن مواطنين أمريكيين معتقلين من قِبل سلطات البلدين، مما يعنى أنه كان لديه خبرة فى إجراء وساطات ناجحة كانت فى كثير من الأحيان تحظى بتغطية إعلامية واسعة.
ووافقتُ على أن أدعم مهمة «ريتشاردسون» المقترحة بينما تولى هو السعى للحصول على موافقة الخارجية الأمريكية على قيامه بهذه الوساطة. وقد أبدت الإدارة الأمريكية استعدادها لتسهيل ذهاب «ريتشاردسون» إلى كوريا الشمالية بطائرة عسكرية أمريكية مشترطة أن لا يكون حديثه فى بيونج يانج باسم واشنطن. وبعد ذلك بفترة وجيزة، بعث لى «ريتشاردسون» برسالة عبر الفاكس ليخبرنى أن موقف كوريا الشمالية التى كانت مرحبة بزيارته من قبل قد تغير.
وفى مناسبة أخرى تلقيت اقتراحًا من بعض الأصدقاء من كوريا الجنوبية، كنت قد التقيت معهم فى مؤتمر باجواش، أن ألتقى رجلا من رجال البنوك السويديين، الذى قال لى الناصحون إن له علاقة مباشرة بأحد كبار المسؤولين فى كوريا الشمالية. ورغم تشككى فى الأمر فإننى وافقت، وتم اللقاء بالفعل مع «بيتر كاستنفيلت» فى مقر الوكالة بفيينا. ولم يكن فى مظهره ما يُطمئن.
وخلال اللقاء قال لى ضيفى السويدى إن الزعيم الكورى الشمالى لديه مشكلة، حيث إنه يريد أن تنفتح بلاده على العالم، وأن تتخلص من حالة العزلة التى تعيشها. وأشار أيضًا إلى أن الزعيم الكورى يلقى دعمًا من أجيال شابة فى بلاده، لكنه فى الوقت نفسه يقابل معارضة من قِبل معاونى والده، الزعيم السابق لكوريا الشمالية، والذين لم يكونوا أبدًا مرحبين بانفتاح «كيم يونج إيل» على المجتمع الدولى. وأضاف «كاستنفيلت» أن كوريا الشمالية تدرك أهمية استعادة علاقتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأنهم كانوا بصدد دعوتى لزيارة بيونج يانج، لكن خطاب الدعوة لم يتم إرساله بسبب غضب المسؤولين هناك من تصريح أدليت به. وعد «كاستنفيلت» بترتيب لقاء لى مع مندوب كوريا الشمالية فى الأمم المتحدة خلال زيارتى القادمة لنيويورك، وهو اللقاء الذى لم يتم أيضًا.
لقد كان «بيتر كاستنفيلت» شخصًا غامضًا وغريبًا، وكان بمثابة رجل يقوم بمهام سياسية متعددة نيابة عن العديد من الحكومات. وقد فهمت أنه كان يقوم ببعض المهام نيابة عن روسيا، فى وقت حكم «بوريس يلتسين»، بغرض تسهيل حصول موسكو على قروض من صندوق النقد الدولى. كما أنه قام بمهمة فى مرحلة لاحقة نيابة عن ألمانيا وروسيا، حيث تم إرساله إلى الرئيس الصربى «سلوبودان ميلوسوفيتش» لإقناعه بوقف عمليات القصف العسكرى لكوسوفو. وبدا لى أن «كاستنفيلت» له اتصالات عالية المستوى فى كثير من بلدان العالم بما فى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. والحقيقة أننى لم أتبين أبدًا الهدف الذى كان «كاستنفيلت» يسعى إليه من وساطاته.
فجأة وبدون مقدمات بدأت السحب تنقشع حيث إن الجولة الرابعة للمفاوضات التى كانت قد توقفت دون نتائج فى أغسطس من عام 2005 قد استؤنفت فى شهر سبتمبر. وتوصلت الأطراف الستة إلى اتفاق حول بيان مشترك يحدد المبادئ التى سيتم التعامل على أساسها مع الوضع بالنسبة إلى كوريا الشمالية. وتضمن الإعلان إشارة إلى موافقة كوريا الشمالية على التخلى عن برنامجها للتسلح النووى والعودة إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ونظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ما الذى تسبب فى هذا التغيير؟ أظن أن أحد أهم الأسباب هو تولى «كوندوليزا رايس» منصب وزيرة الخارجية الأمريكية، فهى التى استطاعت أن تقنع «بوش» بعكس ما كان يقول به نائب الرئيس الأمريكى (ديك تشينى) ومجموعته بأن هناك حاجة لتبنى نهج مختلف إزاء كوريا الشمالية. ولقد بدا تأثير «رايس» واضحًا أيضًا فى اختيار «كريستوفر هيل» رئيسًا لوفد التفاوض الأمريكى المشارك فى المباحثات السداسية، ثم ترقى «هيل» بعد ذلك بعدة أشهر ليكون مساعدًا لوزير الخارجية الأمريكية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ.
لقد كان «هيل» دبلوماسيًّا يؤمن بالبراجماتية، وكذلك بالبناء المتدرج للثقة واستطاع بالفعل أن يتفاعل مع المسؤولين فى كوريا الشمالية. وبالنسبة إلىّ فإن «هيل» كان شخصًا استثنائيًّا فى إطار العاملين تحت إدارة الرئيس بوش حيث كان دبلوماسيًّا متميزًا لا تحركه التزامات إيديولوجية وسياسية بعينها، كما أنه يتمتع بإدراك فطرى منطقى لكيفية التعاطى مع المشكلات الجيو سياسية. ولقد تمكن «هيل» من تحقيق إحراز تقدم واضح فى الحوار مع المسؤولين فى كوريا الشمالية للدرجة التى سرت معها شائعات من أن بعض اليابانيين يلقبونه مزاحًا بـ«كريس يونج هيل».
وكان من الواضح أن «هيل» لا يرحب بتأثير مجموعات المتشددين فى واشنطن، وقد أخبرنى ذات مرة فى حديث خاص بيننا أنه على الرغم من خروج «جون بولتون»، وهو أحد المتشددين، عن الساحة بصورة مباشرة، فإن تأثيره ما زال واضحًا فى بعض القرارات السياسية الأمريكية من خلال أعوان له.
وفى المجمل فلقد كان هناك تفاهم جيد بينى وبين «هيل»، حيث كنا نتفق على أهمية الحوار فى التعامل مع الأزمة النووية لكوريا الشمالية، وكذلك عدم جدوى المواقف المتعنتة خصوصا على المدى الطويل، وأيضًا ضرورة اتباع نهج عملى متدرج مع كوريا الشمالية. غير أن «هيل» لم يُخف أن عمله مع كوريا الشمالية كان يواجَه بالكثير من العقبات فى واشنطن، بل إنه قال لى مرة بامتعاض إنه يجد صعوبة فى الحصول على آراء استشارية جيدة، وذلك فى تعليق على ما قلته من أن مستوى العاملين على ملفات مكافحة التسلح فى الخارجية الأمريكية ليس على المستوى المطلوب.
ولم يتضمن البيان المشترك أية إشارة إلى إطار زمنى معين أو إلى خريطة طريق لتنفيذ ما جاء فيه، وهو ما استدعى تعليقات ساخرة من قِبل البعض فى واشنطن الذين رأوا أنه بعد ثلاث سنوات من استبعاد الاتفاق الإطارى فإن الدبلوماسية الأمريكية قد استبدلته ببديل أسوأ. غير أن البيان المشترك يعتبر خطوة مهمة إلى الأمام حيث إنه يؤكد تقديم كوريا الشمالية لضمانات بالتخلى عن برنامجها للسلاح النووى مقابل حصولها على الطاقة، كما أن واشنطن أعلنت أنه ليس لديها النية لغزو كوريا الشمالية، وأنها ستقدم لها ضمانات أمنية، بل وتعهدت باحترام سيادتها.
وعلى الرغم من كل ذلك عادت المباحثات للتوقف ثانية، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتجميد 25 مليون دولار تخص كوريا الشمالية فى أحد البنوك فى ماكاو بدعوى أن هذه الأموال محولة فى إطار عمليات غير قانونية لغسل الأموال وتزوير العملات النقدية. وأبدت كوريا الشمالية، رغم غضبها الشديد، استعدادها لاستئناف المفاوضات السداسية إذا ما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالإفراج عن هذه الأموال، وهو الأمر الذى رفضته واشنطن، مشيرة إلى أنه لا توجد صلة بين القضايا المالية والقضايا النووية.
ومع دخول المفاوضات مأزقًا جديدًا أعلنت كوريا الشمالية أنها ستقوم بأولى تجاربها النووية، وهو ما حدث بالفعل فى التاسع من أكتوبر عام 2006 أى بعد ستة أيام فقط من التهديد الصادر عن بيونج يانج. وكان الاختبار الذى أجرته بيونج يانج صغيرًا، وهو ما أثار العديد من التساؤلات فى الأوساط المعنية حول مدى كفاءة التكنولوجيا النووية المتاحة لدى كوريا الشمالية. غير أنه بغض النظر عن ذلك فالحقيقة الواضحة أمامنا أن كوريا الشمالية على الرغم مما تعانيه من فقر وعزلة تمكنت من تحدى العالم، وتمكنت أيضًا من أن تلتحق بالنادى النووى.
ولو أن الهدف من وراء الاختبار النووى الذى قامت به كوريا الشمالية كان جذب الأنظار إليها، فهى بالتأكيد قد نجحت فى ذلك. وجاءت ردود الأفعال بسرعة حيث أصدر مجلس الأمن قرارًا يدين الاختبار النووى، كما تبنى القرار حزمة جديدة من العقوبات لم تكن لتؤثر كثيرًا على الوضع فى كوريا الشمالية. وفى مقال له فى صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية قال «ويليام بيرى»، وزير الدفاع الأمريكى السابق: «إن الاختبار الذى أجرته كوريا الشمالية يجسد فشل إدارة الرئيس الأمريكى (بوش) إزاء كوريا الشمالية».
أما الرئيس الأمريكى السابق «جيمى كارتر» فقد اتخذ موقفًا أقل تشددًا، وأشار إلى إمكانية العودة إلى نقطة التفاهم التى كانت قائمة لدى الاتفاق على البيان المشترك للمحادثات السداسية فى عام 2005. وفى مقال له حول هذه الأزمة قال «كارتر» إن ما يجب بالقطع تجنبه هو أن تصل دولة نووية إلى قناعة أنه لن يكون لها أبدًا مكانة فى المجتمع الدولى، وأن بقاءها سيكون دومًا مهددًا، وأن أبناءها سيتحملون الكثير من المعاناة والحرمان، وأن سياساتها وقراراتها العسكرية ستكون دومًا فى يد المتشددين.
أما موقف الصقور الأمريكيين فقد عبَّر عنه «ديفيد فرام» وهو مواطن كندى كان قد عمل مستشارًا لكتابة الخطابات الرسمية للرئيس «بوش» (الابن)، وذكر أنه هو صاحب تعبير «محور الشر». وفى مقال له فى صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية دعا «فرام» إلى إجراءات أكثر حدة، وطالب بنشر سريع لأنظمة الصواريخ الدفاعية الأمريكية وإيقاف المعونات الإنسانية لكوريا الشمالية والسماح لبعض الدول الآسيوية بالانضمام إلى عضوية الناتو. بل إن «فرام» دعا أيضًا لمطالبة اليابان بالخروج عن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والبدء فى إنشاء رادع نووى خاص بها. وقد تنفست الصعداء لأن هذه الآراء صدرت عن «فرام» بعد أن غادر مجموع المستشارين السياسيين للإدارة الأمريكية.
ومع ظهور إحساس واضح بضرورة التعامل بسرعة مع ملف الأزمة الكورية تم استئناف المباحثات السداسية. وفى هذا السياق سألتنى «رايس» فى مقابلة فى نهاية شهر أكتوبر إذا ما كنت أرى دورًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية فى التعامل مع الأزمة النووية لكوريا الشمالية، مشيرة إلى اعتقادها بأنه لا يكفى أن تبدى كوريا الشمالية استعدادها لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وأن الأمر فى رأيها يتطلب قيام كوريا الشمالية بخطوات ملموسة فى هذا الصدد. وبالتأكيد، فقد كان لدى الوكالة الاستعداد لتقديم أى عون من شأنه أن يسهم فى إنهاء الأزمة، وقلت لـ«رايس»: «إننا نستطيع أن نبدأ بالقيام ببعض مهام التفتيش التى تكون محل اتفاق مع حكومة كوريا الشمالية، على أن تتوالى هذه العمليات وتتصاعد فى مراحل لاحقة». وبدت «رايس» متفقة مع مقترحى هذا.
ولم يسعنى إلا أن أرى أننا وبعد كل هذا الوقت نعود ثانية للتعامل مع ملف أزمة كوريا الشمالية من منظور الخطوات المتبادلة الذى كان يمثل السياق الأساسى للاتفاق الإطارى الذى تم التوصل إليه مع كوريا الشمالية. والأمر الذى كان أكثر غرابة، خلافًا للسلوك الأمريكى السابق فى العراق والحالى وتجاه برنامج إيران النووى، هو أن الولايات المتحدة استأنفت المحادثات المباشرة مع كوريا الشمالية على الرغم مما كان باديًا من أن كوريا الشمالية تفعل ما تريد عقب قيامها بتجربتها النووية مباشرة.
وفى محاولة منها لتهدئة التوتر قامت واشنطن بمطالبة محاسبين وقانونيين بالنظر فى وسائل لإنهاء التجميد المفروض على حساب لكوريا الشمالية فى أحد البنوك فى ماكاو، وفى المقابل قامت كوريا الشمالية بإعلان استعدادها لوقف مفاعلها النووى فى يونج بيون والسماح لمفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعودة للبلاد. وكانت تلك هى الخطوة الأولى فى صفقة جديدة لنزع السلاح.
وفى الثالث والعشرين من الشهر ذاته تلقيت دعوة من كوريا الشمالية للقيام بزيارة لها، وقد تضمن خطاب الدعوة إشارة إلى ما كنت قد قلته من أن الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى حل لمشكلة كوريا الشمالية هى الحوار السلمى فى التعامل مع بيونج يانج، وليس ممارسة الضغوط. ولقد رحبت بهذه الخطوة وذكرت عند إعلانى عن دعوة بيونج يانج، بأنها خطوة فى الاتجاه الصحيح.
وفى اليوم التالى دار حديث ودى بينى وبين «رايس» حول هذه الزيارة التى تأتى فى الشتاء القارس، والتى لم تكن لتتم لولا التغير فى المواقف الأمريكية، وذكرت لوزيرة الخارجية الأمريكية ضاحكًا زيارتى لبيونج يانج فى شتاء 1992 حيث أمضيت ليلتى فى غرفة الفندق أرتجف من شدة البرد لعدم وجود تدفئة كافية.
قبيل رحلتى لبيونج يانج أعلنتْ واشنطن، بصورة تدعو للدهشة أن المعلومات المخابراتية التى كانت لديها حول سعى بيونج يانج للقيام بتخصيب سرى لليورانيوم وهى التى أودت بالاتفاق الإطارى فى 2002 لم تكن «بالمعلومات المؤكدة»، فى إشارة إلى عدم التيقن الكامل من دقة المعلومات المشار إليها أو إلى وجود معلومات أخرى مناقضة لها.
ولقد ذُهلت جراء هذا الإعلان، حيث إن البرنامج السرى المفترض لتخصيب اليورانيوم فى كوريا الشمالية كان السبب الذى قررت الولايات المتحدة الأمريكية من أجله وقف تقديم معونات الطاقة لكوريا الشمالية قبل أربع سنوات، وهو الموقف الذى كان من ضمن تبعاته انسحاب كوريا الشمالية من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وطلبها سحب مفتشى الوكالة، والتعجيل ببرنامجها للتسلح، وبدء رحلات المفاوضات التى كانت كثيرًا ما تتعثر، والتهديدات والعقوبات وصولًا إلى قيام كوريا الشمالية بتفجير نووى. لم أكن أصدق أن كل هذا يمكن أن يحدث نتيجة لادعاء غير مؤكد. وكان هذا الإعلان بمثابة ضربة جديدة لمدى الثقة التى يمكن أن تحظى بها معلومات الاستخبارات الأمريكية والتعامل معها.
وفى حديث لاحق لتلك التطورات مع «كريستوفر هيل» أبدى «هيل» شيئًا من التشكك فى دقة ما نقله سلفه «جيمس كيلى» من «اعتراف» كوريا الشمالية بالبرنامج السرى لتخصيب اليورانيوم، مشيرًا إلى أنه اطلع على التقرير الذى بعث به «كيلى» إلى واشنطن بناء على مباحثاته فى بيونج يانج. ولكنه من تعبيرات وجهه ظهر لى أنه لم يكن مقتنعًا بطبيعة هذا الاعتراف.
aymaan noor 28-09-2012, 05:21 PM سنوات الخداع - الحلقة الحادية عشر
لم أستطع بحكم منصبى أن أعرب صراحة عن اعتراضى على الطريقة التى تمت بها معالجة أزمة كوريا الشمالية. والحقيقة أننى لم أكن لأحتاج إلى ذلك لأن الأمر جلب كثيرا من الانتقادات حتى من جانب كثيرين الذين التزموا الصمت وقت غزو العراق.
إن ردة الفعل المبالغ فيها لمعلومات استخباراتية غير مؤكدة قد تسببت فى دفع كوريا الشمالية إلى وضع تكون فيه أكثر عزلة؛ وهى العزلة التى أعطت رجال الجيش والعلماء فى بيونج يانج الوقت والدافع لتطوير أسلحة نووية وتجربتها.
وخلاصة الأمر أن كوريا الشمالية صارت فى وضع تفاوضى أفضل بكثير عن ذى قبل، ونموذجا لما يمكن أن ينتج عن اتباع سياسات مستوحاة من مواقف سياسية أيديولوجية بحتة تفرض نفسها على نهج التفاوض البراجماتى والعملى.
فى مارس 2007، بدأت زيارتى لكوريا الشمالية، وهى الأولى بعد خمسة عشر عاما، إلا أن هذه الزيارة بدأت بتعثر. كنت قد تقدمت بطلب عبر الصين إلى السلطات فى كوريا الشمالية لتشمل ترتيبات الزيارة لقاء لى مع الزعيم الكورى. وعندما توقفت فى بكين متوجها إلى بيونج يانج قال لى المسؤولون الصينيون إن نظراءهم من كوريا الشمالية ممتعضون لأننى لم أتوجه إليهم مباشرة بطلب لقاء الزعيم الكورى خصوصا وأن الدعوة لزيارتى كانت قد جاءت بمبادرة من بيونج يانج. وفى ردى على هذا الأمر أشرت إلى أنه ليس لكوريا الشمالية سفير معتمد لدى الوكالة، وبالتالى فلم يكن أمامى قناة اتصال مباشرة مع بيونج يانج. غير أن الرسالة كانت واضحة بالنسبة إلىّ وهى أن كوريا الشمالية لم تكن تريد لأحد أن يعاملها على أنها تابعة للمدار السياسى الصينى.
ولم تكن هناك طائرة من بكين إلى بيونج يانج سوى طائرة خطوط الطيران الكورية الشمالية، وبناء على خبرة سابقة مع هذه الشركة فى سنة 1992 فضلت أن أنتقل بطائرة خاصة صغيرة قامت الصين بتوفيرها. بدا مطار بيونج يانج لدى وصولنا مهجورا تماما، ولم نر أى طائرة بصدد الهبوط أو الإقلاع من ممراته. وعندما استفسرت أخبرنى بعضهم بأن حركة الطيران فى مطار بيونج يانج تقتصر على رحلة تذهب إلى بكين وتعود منها كل يومين.
وبدا لى أن كوريا الشمالية لم تبتعد عن الأجواء الصعبة التى سيطرت عليها لدى زيارتى السابقة قبل خمسة عشر عاما، فى 1992، فلم يكن هناك بعد سيارات أو موتوسيكلات خاصة، بل إن الدراجات الخاصة لم تكن موجودة بكثرة فى الطرق العامة التى لم يكن بها سوى بعض السيارات التابعة للحكومة. وكان معظم أهالى المدينة الذين رأيتهم يقطعون الطريق سيرا على الأقدام، وكانت الأغانى والموسيقى الوطنية تبث فى مناطق مختلفة من المدينة بما فى ذلك المنطقة التى أقمنا فيها.
وبدا الفندق «كوريو» مهجورا، فلم يكن هناك به من النزلاء سوانا عدا وفد أسترالى جاء إلى بيونج يانج للتشاور مع المسؤولين حول تقديم معونة إنسانية، إلى جانب بالطبع فريق العمل فى الفندق.
خُصصت لى غرفة وُصفت بأنها غرفة ممتازة؛ وهى عبارة عن غرفة نوم فى حالة متداعية، وملحق بها صالون صغير، مؤثث بقطع متواضعة من الأثاث لا بد أنها تعود إلى الخمسينيات من القرن السابق. ولم يكن حال الحمام الملحق بالغرفة أفضل حالا. غير أن سعر الغرفة كان نحو 200 دولار فى الليلة!
لقد كان واضحا أن الوضع الاقتصادى لكوريا الشمالية فى حالة سيئة للغاية، حيث إن الحكومة طلبت منا، رغم أننا ضيوف عليها، أن نقوم بتغطية كل النفقات بما فى ذلك مصاريف تنقلنا من مكان إلى مكان. ولم يكن الطعام المقدم لنا فى الفندق سيئا، غير أن رئيس الوفد الأسترالى لفت نظرنا إلى أن سوء التغذية منتشر فى كوريا الشمالية، وأنه يؤثر سلبا على نحو 60 بالمائة من أطفال البلد.
وحسبما قال لى القائم بالأعمال المصرى فى بيونج يانج فإن الخدمة متواضعة لدرجة أن ساكنى الحى الدبلوماسى فى المدينة لم يكونوا يحصلون على المياه والكهرباء سوى لساعات محدودة فى اليوم.
كان أملى من وراء هذه الزيارة القصيرة أن أُمهد الأجواء لإعادة العلاقات بين كوريا الشمالية والوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكنت قد اصطحبت معى فريقا صغيرا من فنيى الوكالة للخوض فى التفاصيل اللازمة لتحقيق هذا الهدف فى حال ما أبدت كوريا الشمالية استعدادها لذلك. وقد كنت متفائلا بالنظر إلى أن جدول اللقاءات المقررة لنا فى بيونج يانج كان حافلا بلقاءات مع مسؤولين على مستويات مختلفة.
غير أنه بعد الترحيب الفاتر الذى قوبلنا به تعرضنا لسلسلة من الإشارات السياسية غير المفهومة ولم يكن ذلك مستغربا بالنسبة إلى ما هو معتاد من كوريا الشمالية، فعلى سبيل المثال تم إلغاء موعد كان مقررا لنا مع نائب الوزير الكورى الذى يترأس وفد بلاده فى المباحثات السداسية، ورغم أن الاعتذار جاء بسبب مرض المسؤول الكورى، غير أن التفسير الإعلامى لذلك كان معبرا عن الاعتقاد بعدم استعداد كوريا الشمالية للتعاون مع الوكالة الدولية فى تلك المرحلة.
وقبل لقاء لنا مع نائب رئيس البرلمان قمنا بجولة فى مبنى البرلمان نفسه، حيث كان هناك تمثال ضخم لـ«كيم إيل سونج»، الزعيم «الأبدى» لكوريا الشمالية فى وسط قاعة البرلمان، وذكرنى ذلك بما شهدته يوما فى شمال نيجيريا حيث كان ضيوف أمير قبيلة «زاريا» يَجْثون أمام الأمير تعبيرا عن الاحترام. وقد أثار هذا التمثال الضخم؛ الذى كان بمثابة تأليه لشخص ميت، حنقى، وطلبت بصورة تفتقر ربما إلى الود الذهاب مباشرة إلى لقاء نائب رئيس البرلمان.
وفى اللقاء تم تقديم شاى الـ«جين سنج» التقليدى، ثم أخذ نائب رئيس البرلمان فى الحديث عن أن القوات المسلحة هى محور سياسات بلاده. من جانبى قلت إن ما يهم فى النهاية هو قدرة أى بلد على أن توفر لأبنائها الحياة الكريمة والعيش فى حرية، مشيرا فى الوقت نفسه إلى أنه لا يمكن لأى بلد أن يعيش فى عزلة دولية دائمة. ولم أفهم من الضحكة العصبية البادية على المترجم حول التعليقات التى قلتها ما إذا كانت الرسالة قد وصلت بالضبط إلى نائب رئيس البرلمان.
ثم جاء اللقاء التالى مع نائب وزير الخارجية ليردد معانى متقاربة مما سبق أن استمعت إليه، ذاكرا أن لبلاده «تاريخا سيئا» مع انحيازات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومضيفا بعدها رغبة كوريا الشمالية فى النظر إلى المستقبل. وقد كان ردى أن الوكالة تسعى دوما للقيام بعملها بصورة حيادية، وأشرت إلى إمكانية نظر بيونج يانج فى استعادة عضويتها فى الوكالة، وهو ما أجاب عليه نائب الوزير الكورى بالقول إنه سيكون من الضرورى قبل ذلك التيقن من طبيعة المواقف الأمريكية، غير أنه أعرب عن تقديره لدعوتى للتوصل إلى حل سلمى للمسألة الكورية وما قلته من ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الاهتمامات الأمنية والاقتصادية لكوريا الشمالية.
أما أفضل مقابلاتنا فكانت مع مدير هيئة الطاقة النووية فى كوريا الشمالية؛ رى يى سون، التى جرت فى الفندق الذى كنا ننزل به على مائدة طعام بها كثير من الأطباق الشهية من المطبخ الكورى التقليدى. وبصراحة نادرة قال رى يى سون فى رده على سؤال لى إن أبناء شعبه فى أغلب الأحيان لا يستطيعون الحصول على اللحم أو غيره من أنواع البروتين على مائدة طعامهم. غير أن تلك الصراحة لم تبعده عن اتباع موقف الحزب والحديث بنفس العبارات تقريبا عن «التجارب السيئة» لبلاده فى التعامل مع الوكالة، وعن الرغبة فى التركيز على المستقبل. وبعد كل هذه اللقاءات عدت إلى جناح الفندق البارد للغاية وأنا أفكر أنه بالرغم من كل شىء فإن حوارا قد بدأ بين الوكالة وبين كوريا الشمالية، وأن ذلك من شأنه أن يسهل سبل التعامل بين الجانبين خلال الأشهر القادمة. وعندما قمت بتشغيل التليفزيون لم أجد سوى المواد التى لا يكف التليفزيون الكورى عن بثها حول جرائم الحرب التى ارتُكبت بحق شعب كوريا الشمالية من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية واليابان خلال الحرب العالمية الثانية. وشعرت بالسعادة لأن الزيارة لم تكن طويلة.
وفى 19 مارس 2007، أعلن كرستوفر هيل إنهاء التجميد المفروض على أرصدة كوريا الشمالية فى أحد بنوك أمريكا فى ماكاو، مشيرا إلى أن ذلك جاء للتجاوب مع التحركات الإيجابية التى قامت بها بيونج يانج. غير أن نقل الأموال من ماكاو إلى كوريا الشمالية استغرق شهورا، ولم يتم إلا فى شهر يونيه بعد تدخل من قِبل روسيا.
وفى الشهر التالى قامت كوريا الجنوبية بإرسال حمولة لا بأس بها من الوقود إلى جارتها الشمالية فى مساهمة من سيول لدفع الأمور فى الاتجاه الإيجابى. وفى الشهر ذاته التقيت رئيس كوريا الجنوبية الذى بدا غير مرتاح لإهدار الوقت جراء عدم كفاءة عملية التفاوض، وقال: «إن الأمر استغرق خمس سنوات لمجرد إقناع الأمريكيين بإجراء محادثات ثنائية مع بيونج يانج».
وكان لتحويل الأموال التى كانت مجمدة إلى كوريا الشمالية أثره الإيجابى والسريع؛ حيث بدأت كوريا الشمالية فى إغلاق مفاعل يونج بيون، بل إنه مع حلول السابع عشر من شهر يوليو كان مفتشو الوكالة قد تمكنوا من التأكد من إغلاق المنشآت، وقاموا بوضع الأختام المطلوبة وتركيب معدات المراقبة.
واستمرت النشاطات الإيجابية والتى أسهمت فى حل كثير من النقاط المتعلقة ببرنامج كوريا الشمالية النووى خلال معظم عام 2008. كما استمرت المباحثات السداسية ودخلت فى مرحلتها الثانية لتنفيذ الخطوات المقررة فى البيان المشترك. فى الوقت نفسه كانت شحنات الوقود تصل إلى كوريا الشمالية فى الأوقات المقررة. وبدأت كوريا الشمالية واليابان فى العمل على تطبيع علاقاتهما. كما وافقت كوريا الشمالية على تقديم سجل كامل ومدقق لكل منشآتها النووية وما بحوزتها من مواد نووية. واستمرت عملية تفكيك البرنامج النووى لكوريا الشمالية حسب الجدول المقرر لها، بل إن كوريا الشمالية سمحت لوفود من الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بزيارة موقع يونج بيون. وعندما سافر كريستوفر هيل إلى بيونج يانج لمزيد من المشاورات حمل معه رسالة ودية من الرئيس بوش إلى قائد كوريا الشمالية كيم يونج إيل.
دعت كوريا الشمالية وسائل الإعلام الغربى لزيارة الموقع النووى الذى تم إغلاقه. وفى فبراير 2008 قامت كبيرة المراسلين للشؤون الخارجية فى شبكة «سى إن إن» الإخبارية الأمريكية؛ كريستيان أمانبور، ببث تقرير مباشر من يونج بيون، مشيرة إلى أن كوريا الشمالية «قد كشفت الغطاء النووى الذى كانت تضعه». وكذلك قام فنيون من وزارة الطاقة الأمريكية بزيارة موقع يونج بيون للمشاركة فى عملية التفكيك للبرنامج النووى، الأمر الذى أشارت إليه أمانبور على أنه يُظهر تحركا يباعد كثيرا بين اللحظة الحالية وبين اللحظة العدائية التى كان بوش قد أعلن فيها أن كوريا هى عضو فى «محور الشر». إلى جانب ذلك قام أوركسترا نيويورك الفيلهارمونى بتقديم عرض فى كوريا الشمالية، وهو ما وصفته أمانبور فى التقرير نفسه بأنه بداية الطريق الطويل جدّا نحو إقامة علاقات طبيعية يوما ما مع كوريا الشمالية.
غير أن ذلك كله لم يَعْنِ كثيرا بالنسبة إلى التطوير الفعلى لعلاقة الوكالة مع كوريا الشمالية. فعندما طلب إلينا الأطراف فى المحادثات السداسية التحقق من إغلاق منشآت بيونج بيون استجبنا لذلك بسرعة. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية، بمقتضى إعلان التفاهم مع كوريا الشمالية، كانت تقوم بنفسها بعمليات تفكيك المنشآت النووية لكوريا الشمالية دون مشاركة الوكالة مفضلة العمل الثنائى. كنت أتجنب الشكوى صراحة من ذلك لأن التقدم فى التفكيك كان مشجعا.
فى الوقت ذاته كان هناك اتفاق ضمنى بين الوكالة والولايات المتحدة الأمريكية؛ أن يقوم الفنيون الأمريكيون المكلفون بتفكيك البرنامج الكورى بالاحتفاظ بكل التفاصيل حتى تستطيع الوكالة أن تحصل عليها فى ما بعد. غير أن ذلك لم يَحُلْ دون قلق مفتشى الوكالة من أن بعض الخيوط الرئيسية قد تفقد إذا لم يكن من بينهم من هو موجود على الأرض فى كوريا الشمالية فى أثناء عملية التفكيك وهو ما يمكن أن يعرقل عملية التفتيش والمراقبة للمواد النووية فى مراحل لاحقة.
وفى السادس من مايو 2008، جاء جون رود مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون نزع السلاح لزيارتى فى فيينا، حيث أخبرنى برغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى أن تقدم كوريا الشمالية إعلانها عن منشآتها النووية إلى الصين وأن تقوم الوكالة بالتحقق مما جاء فيه. لتضمن أن يتم التقارب مع كوريا الشمالية فى الإطار متعدد الأطراف، عوضا عن الإطار الثنائى. وأخبرت رود استعدادنا للقيام بهذه المهمة، مشيرا فى الوقت نفسه إلى ما كان قد نما إلى علم الوكالة عبر كوريا الشمالية من رغبة واشنطن عدم إشراك الوكالة فى التعامل مع برنامج كوريا الشمالية النووى.
ومع هذا فقد أبديت استعدادى لتولى عملية التحقق من صحة وشمول ما يأتى فى إعلان كوريا الشمالية. ولكننى أوضحت لـ«رود» الغموض الذى يكتنف وضع الوكالة فى كوريا الشمالية، لأن عملها فيها محاط بمعوقات تتعلق بموقف بعض الدول، بما فى ذلك اليابان ودول أوروبية، بأن انسحاب كوريا الشمالية من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية غير قائم، وأنه بالتالى يكون لدى الوكالة صلاحيات قانونية بالتحقق من سلامة إعلان كوريا الشمالية عن أنشطتها النووية، وهو ما لا يتوافق مع ما تراه بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية من أن انسحاب كوريا الشمالية من المعاهدة قد تم بالفعل. وأضفت لـ«رود» أننى أرى من الناحية القانونية أن كوريا الشمالية لم تعد عضوا فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بعد قرار انسحابها منها فى يناير عام 2003.
وقد طلبت من الدول الأعضاء فى المعاهدة، من خلال مجلس محافظى الوكالة، إيضاحا عما إذا كانت كوريا الشمالية ما زالت عضوا فى الاتفاقية أم لا، ومن جانبى لم أكن أريد أن تُلام الوكالة لعدم قيامها بمسؤولياتها. ولم أتلق ردّا من جانب الدول الأعضاء فى المعاهدة. وما زال الأمر معلقا حتى الآن.
وفى السادس والعشرين من يونيه قدمت كوريا الشمالية الإعلان للصين، مصحوبا بكثير من الوثائق المتعلقة بماضى برنامجهم النووى وحاضره. وأعقبت ذلك بهدم جزء من برج التبريد فى مفاعل يونج بيون فى حضور مجموعة من الصحفيين والإعلاميين الأجانب. وبعد ذلك مباشرة جاء هيل إلى فيينا ليخبرنى بنتائج مباحثاته مع الكوريين حول طرق التحقق من سلامة الإعلان المقدم للصين، مشيرا إلى أن الدول الأعضاء فى المحادثات السداسية، فيما عدا كوريا الشمالية نفسها، تود أن تقوم الوكالة بدور رئيسى فى عملية التحقق. وكان باديا لى أن بعضا من المسؤولين فى كوريا الشمالية ما زالت لديهم تحفظات حول عمليات التفتيش التى قامت بها الوكالة فى 1993. كما نما إلى علمى أيضا أن هناك فى بيونج يانج من يرى أن قيام فرق عن الدول المشاركة فى المحادثات السداسية بعمليات التحقق سيكون أنسب من قيام فرق الوكالة بذلك بالنظر إلى النهج الصارم المعروف عن الوكالة.
وعلى أى حال، أعطانى هيل مسودة اقتراح يعرض أن تقوم الوكالة الدولية بدور «استشارى» للدول الست، فى حين تقوم هذه الدول الست بالتحقق الفعلى وبتقييم نتائج عملية التحقق. وبناء على هذا الاقتراح، ستعمل الوكالة تحت «رعاية» هذه الدول. ولقد رفضت هذه الشروط، وقلت لـ«هيل» إننى لا أقبل أن أتنازل هكذا عن سلطة التحقق التى تمتلكها الوكالة ودورها. وبالطبع فهمت أن الدول الست تسعى للحصول على المصداقية التى ستوفرها مشاركة الوكالة فى عملية التحقق والتقييم. ولكن فى الحقيقة، كان العكس هو ما سيحدث؛ ولن يكون لتفتيش الوكالة مصداقية إذا تم فقط تحت رعاية مجموعة من الدول ودون الاستقلالية اللازمة. فإما أن نقوم بالتحقق برعاية المجتمع الدولى كله، كما قمنا على مدار خمسين عاما، وإما يمكنهم أن يجدوا جهة أخرى تقوم بهذا العمل. وطلبت من زملائى فى الوكالة أن يبلغوا الرسالة نفسها لباقى الدول المشتركة فى المحادثات السداسية.
وعندما رأيت نسخة من الإعلان الذى قدمته كوريا الشمالية، الذى كان ينبغى أن يكون به تفاصيل كل النشاطات النووية لبيونج يانج فى الماضى والحاضر، وجدت أن الإعلان لا يقدم كل المعلومات المفترض فيه أن يقدمها. وعلى سبيل المثال فإن التقرير يقدم معلومات مفصلة عن كميات البلوتونيوم التى تم إنتاجها، ولكنه لا يقدم تفاصيل عن برنامج تطوير الأسلحة النووية أو عدد هذه الأسلحة، كما أن التقرير لم يشر إلى ما سبق الادعاء به من قيام كوريا الشمالية ببعض عمليات التخصيب لليورانيوم.
ووافقنى هيل، مشيرا إلى اعتقاده بأن بيونج يانج ربما تسعى لإطالة أمد احتفاظها بالأسلحة النووية لأطول مدة ممكنة. ومع ذلك كان هناك تقدم نتيجة تجميد برنامج السلاح النووى لكوريا الشمالية عند مستواه الحالى نتيجة لعمليات تفكيك المنشآت النووية. كما أنه كان هناك اتفاق على أن الانتهاء من عملية تفكيك البرنامج النووى الكورى سيتطلب مزيدا من الوقت والصبر، وأن عملية التحقق من دقة كمية البلوتونيوم المعلن عنها ستكون بدورها عملية طويلة ومعقدة.
وفى هذا الوقت تذكرت ما كان قد ألمح إليه هيل من أنه فى ضوء نظرة اليابان إلى أمنها الخاص فإن بعض المراقبين لم يعودوا يستبعدون أن تعيد اليابان التفكير فى موقفها الرافض من تطوير برنامج التسلح النووى. وسبق أن أشار لذلك وزير خارجية اليابان فى أكتوبر 2006 بصورة غير مباشرة وكذلك كبير المسؤولين عن السياسات فى الحزب الليبرالى الديمقراطى اليابانى اللذان أشارا إلى الحاجة إلى بدء نقاش فى اليابان حول برنامج تسلح نووى. كان هذا تطورا مذهلا بالنسبة إلى المفكرين اليابانيين، حيث إن اليابان كانت واحدة من أكثر الدول دعما لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما أن أى حديث علنى عن قيام اليابان بتطوير برنامج للأسلحة النووية كان يُنظر إليه دوما على أنه من المحرمات.
ولقد رأيت فى ذلك ما يدعم وجهة نظرى من أن قرار أى دولة لتطوير برنامج للأسلحة النووية، أو استخدامها من عدمه هو أمر يتأثر بالمتغيرات الأمنية التى ترى هذه الدولة أنها قد تكون معرضة لها فى مرحلة معينة؛ وهو ما يعنى أن التغيير وارد فى سياسات البلدان تبعا للتغيرات التى تطرأ على رؤية الدولة لأمنها القومى أو الإقليمى مهما طال الأمد على هذه السياسات.
وعادت الأمور إلى التدهور مرة ثانية فى صيف 2008 حيث ساءت العلاقات بين واشنطن وبيونج يانج، بسبب غضب كوريا الشمالية من عدم قيام الولايات المتحدة الأمريكية برفع اسم كوريا الشمالية من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وحسب البيان المشترك القائم على الخطوات المتبادلة فقد كانت هذه هى الخطوة التالية التى ينبغى على واشنطن القيام بها فى أعقاب إغلاق كوريا الشمالية مفاعل يونج بيون.
وحسبما علمت فإن المتشددين فى واشنطن كانوا يريدون الحصول على مزيد من كوريا الشمالية فى مقابل هذه الخطوة حيث كانوا على وجه التحديد يريدون التريث حتى يتم التحقق من دقة ما جاء فى إعلان كوريا الشمالية عن نشاطاتها النووية. غير أن كوريا الشمالية بطبيعة الحال رأت فى ذلك تراجعا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية عن الوفاء بعهودها، فما كان من بيونج يانج إلا أن أمرت بإعادة بعض الأجهزة للمواقع التى كان قد تم إغلاقها، وتم إبعاد مفتشى الوكالة عن الموقع فى يونج بيون فى الثامن من أكتوبر.
وبعد ثلاثة أيام تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية عن موقفها، وتم بالفعل رفع اسم كوريا الشمالية من قائمة الدول الداعمة للإرهاب فى العالم، وفى اليوم التالى مباشرة عادت كوريا الشمالية بدورها إلى عمليات تفكيك منشآتها النووية، وعاد مفتشو الوكالة إلى الموقع فى يونج بيون
aymaan noor 28-09-2012, 05:24 PM سنوات الخداع - الحلقة الثانية عشر
انتكاسة أخرى طالت ملف كوريا الشمالية مع حلول ربيع 2009، حيث قامت بيونج يانج، رغم الضغوط الدولية، بعملية إطلاق قمر صناعى، والتى صُوّرت على أنها اختبار للصاروخ الأطول مدى لدى كوريا الشمالية، وهى العملية التى وصفها الرئيس «باراك أوباما» بأنها «استفزازية»، وطالب مجلس الأمن باتخاذ إجراء إزاءها.
وفى الثالث عشر من إبريل أدان مجلس الأمن كوريا الشمالية جراء هذه العملية، وهى الإدانة التى ردت عليها كوريا الشمالية بغضب متوقع، حيث أعلنت اعتزامها مقاطعة المحادثات السداسية بصورة نهائية. ومرة ثانية كان على مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية مغادرة كوريا الشمالية.
وتزامنت تلك التطورات مع تعرض كوريا الشمالية لأزمة متفاقمة تتعلق بوصول الفقر إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما أدى إلى تقليل الكميات الضئيلة من الأرز التى كانت الحكومة توفرها للمواطن الكورى، والتى لم تكن تتناسب مع الحد الأدنى للتغذية السليمة. فى الوقت نفسه كانت صحة الزعيم الكورى تتداعى، وكانت خلافاته مع القيادات الكورية العسكرية حول خلافة ابنه له فى الحكم تتصاعد مع رغبة كبار العسكريين فى اغتنام الفرصة للوصول إلى الحكم. وكان ذلك يعنى أن حدوث أية مواجهة خارجية كان يمكن أن يوفر ذريعة لقيام المتشددين فى كوريا الشمالية بعمل درامى.
وبحلول 25 مايو 2009 كانت كوريا الشمالية قد أجرت ثانى تفجير نووى لها بنجاح، ورغم أن التفجير كان صغيرًا حسب معايير الأسلحة النووية فإنه فى كل الأحوال كان أكبر كثيرًا من التفجير الأول. وتمت إدانة التفجير من قِبل مجلس الأمن ومن قِبل الأعضاء الخمسة الآخرين فى المحادثات السداسية التى كانت متوقفة بصورة كاملة عند وقوع هذه الأحداث.
ظهرت على السطح مرة أخرى قصة برنامج تخصيب اليورانيوم المزعوم، وهذه المرة فى صورة منشأة متكاملة للتخصيب، كشفت عنها كوريا الشمالية بكل فخر فى نوفمبر من عام 2010 لأحد أهم الخبراء الأمريكيين، «سيجفريد هكر»، وهو أستاذ فى جامعة ستانفورد وكان يرأس معمل لوس الأموس الوطنى. أطلع الكوريون «هكر» وزملاءه على غرفة متطورة للغاية وقاعة تخصيب مزودة بما قال المسؤولون الكوريون إنه 2000 جهاز طرد ينتج بالفعل اليورانيوم منخفض التخصيب. وكانت المنشأة تقع فى مركز سابق لتصنيع الوقود، مما أوضح أن منشأة التخصيب هذه بُنيت بعد إبريل 2009، وهى آخر مرة وجد فيها المفتشون الدوليون فى كوريا الشمالية. ودعت سرعة البناء على هذا النحو الكثيرين إلى أن يستنتجوا أن لدى كوريا الشمالية مواقع أخرى بالتأكيد تُجرى بها عمليات تخصيب اليورانيوم. وكان هذا الكشف دليلا مذهلا آخر على عبث محاولات احتواء انتشار الأسلحة والطموحات النووية من خلال المواجهة، والعقوبات، والعزلة.
■ ■ ■
وبالنسبة لى، كان الاختبار النووى الثانى لكوريا الشمالية أكثر إحباطا من الأول. فلقد قطعنا شوطا فى ملف كوريا الشمالية خلال العامين الماضيين. وبالنظر إلى سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، فإن التفجير جاء فى وقت كان يحدونا فيه، أكثر من أى وقت فى الماضى القريب، أمل أكبر تجاه نزع السلاح النووى فى العالم.
لكن أكبر مصدر للإحباط والغضب كان متابعة هذه السلسلة من المد والجَزْر فى علاقة كوريا الشمالية بالغرب. كانت تصرفات وردود أفعال كوريا الشمالية متوقَّعة إلى حد كبير. وعندما كانت بيونج يانج طرفا فى حوار هادف كان الموقف أفضل بكثير. لكن عندما توقف الحوار، وحدثت الإهانات، وأعيد تقديم سياسة العزلة، تدهور الوضع كثيرًا. إن الموضوع بسيط بطريقة أكثر مما هو متصور. فإدانة مجلس الأمن لإطلاق كوريا الشمالية لتلك الصواريخ جعلت الوضع أسوأ مما كان. وربما كانت كوريا الشمالية قد تعمدت أن تستفز الإدارة الأمريكية الجديدة فى محاولة لجذب الانتباه والحصول على معاملة أفضل من تلك التى كانت تلقاها من إدارة «بوش». وكان من المؤكد أن كوريا الشمالية ستبالغ فى رد فعلها، كما فعلت فى كل المواقف السابقة. وقد سألت نفسى: هل أصبح الدبلوماسيون والسياسيون يركزون فقط على قضية اليوم وحدها وينسون الغاية الكبرى من كل ذلك، ألا وهى نزع السلاح النووى؟ وفى كل الأحوال فسواء كان مجلس الأمن يتعامل مع كوريا الشمالية أم أى قضية أخرى لمنع انتشار السلاح النووى، فإن المجلس كان يبدو دائمًا إما منقسما على نفسه، وإما محدودا جدّا فى خياراته، فلا يقدم سوى البيانات الواهية أو الأفعال التى تؤتى بنتائج غير مقصودة. وفى أزمة تلو الأخرى نجد أن المواقف التى يتخذها مجلس الأمن ردّا على تهديد انتشار السلاح النووى كانت جوفاء وغير ذات أثر. وبالطبع فحتى يصبح للمجلس تأثير قوى، فإنه يجب القيام ببعض المواءمات الضرورية، مثل: التركيز على الأسباب الجوهرية لمشكلة انعدام الأمن وليس فقط على أعراضها، والسير بسرعة وواقعية أكبر فى التعامل مع عدم امتثال الدول لاتفاقياتها، والتدخل المبكر وليس بعد وقوع الكارثة، واتخاذ إجراءات فعالة تستهدف الأنظمة الحاكمة المعنية، وليس المدنيين الأبرياء، وأخيرا، الثبات على المبدأ وعدم الكيل بمكيالَيْن فى المواقف المتشابهة. وهذه التعديلات الضرورية تبدو أكثر حتمية عند التعامل مع برنامج نووى مثل برنامج الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الفصل الخامس: إيران: 2003 – 2005
لغز «التقية»
يبدو أن دراما التحقق من القدرات النووية الجارية فى بلدين فى نفس الوقت لم تكن كافية، ففى منتصف عام 2002، بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى تلقى معلومات عن أزمة جديدة. فقد جاءت صور الأقمار الاصطناعية التى تم التقاطها لمبنى صناعى ضخم غير واضح المعالم فى مدينة «ناتانز» الواقعة بإقليم أصفهان بإيران والتى توحى بأن هذا المبنى ربما يكون مستخدمًا لأغراض تخصيب اليورانيوم.
وفى منتصف أغسطس عقد ممثلون عن المجلس الوطنى للمقاومة فى إيران، وهو كيان إيرانى سياسى معارض، مؤتمرًا صحفيًّا فى واشنطن ليعلنوا عن قيام طهران ببناء منشأة نووية سرّا فى «ناتانز».
وبدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى التحقيق فى الأمر، وفى شهر سبتمبر، وخلال المؤتمر العام للوكالة بحثت عن غلام رضا آغازاده للتحدث معه. وآغازاده رجل ضئيل البنية شديد الجدية، يشغل منصبين: فهو نائب لرئيس الجمهورية الإيرانية، كما أنه فى الوقت نفسه مدير للمنظمة الوطنية للطاقة النووية فى إيران.
وعلى هامش الاجتماع انفردت بآغازاده وسألته عن حقيقة المنشأة التى تم تصويرها فى «ناتانز»، وما إذا كانت فعلا تُستخدم لأغراض التخصيب؟ مقترحًا أنه ربما يجب أن نقوم بزيارة لهذا الموقع للتحقق من حقيقة ما يدور فيه.
وقد رد آغازاده بابتسامة! قائلا: «بالطبع سنوجه لكم الدعوة قريبا، وعندئذ سيتم إيضاح كل شىء». ولم أجد فى ما قاله آغازاده شيئا يطمئننى.
ومما زاد الشكوك هو تأخر تلك الدعوة لزيارة «ناتانز»، والتى توالت الحجج لتبرير هذا التأخير بدءا من غياب الرئيس الإيرانى خامنئى عن البلاد فى مهمة عمل بالخارج، أو إصابته بوعكة صحية، أو أن المواعيد المقترحة لا تتناسب وجدول مواعيد كبار المسؤولين فى إيران. واستمرت هذه المماطلة لشهور متتالية.
وفى خلال هذه الشهور كنت قد التقيت وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول» و«ريتشارد آرميتاج» مساعد وزير الخارجية. وخلال هذا اللقاء أخبرتهما بأن السياسة الأمريكية إزاء إيران، والتى تقوم بالأساس على استخدام المقاطعة والعقوبات على طهران لمنعها من تطوير أسلحة نووية، ليست فى رأيى بالسياسة المُجدية.
فقد كان اعتقادى أنه لا فائدة ترجى من مجرد توقيع عقوبات على بلدٍ ما لسعى هذا البلد لامتلاك سلاح نووى فى غياب التعامل مع الأسباب الحقيقية التى أدت إلى السعى لذلك. كما أشرت إلى أن هذا النهج لا يمثل سياسة حقيقية ولا حتى يمثل استراتيجية بالمعنى البراجماتى للكلمة.
وقلت لـ«باول» و«آرميتاج» إن كل ما يمكن توقعه من هذا النهج هو تأخير قيام الدولة المعنية، فى هذه الحالة إيران، بتطوير السلاح النووى الذى تسعى له. ولم يعلق «باول» على ما قلت، لكن «آرميتاج» أبدى موافقته. واعتقدت عندئذ أن هذا دليل على أنهما ربما يتدبران فى ما قلت وهو ما قد يدعو للتفاؤل.
وفى الوقت ذاته كنت أدرس ملفات تعامل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع بلاد مثل الأرجنتين والبرازيل وجنوب إفريقيا. لقد تمكنت الأرجنتين والبرازيل من الحصول على التكنولوجيا اللازمة لتطوير دورة الوقود النووى، وذلك على الرغم مما تعرضتا له من تضييق على وارداتهما عبر سنوات طويلة. أما جنوب إفريقيا، والتى تعرضت لنفس القدر من التضييق فقد تمكنت من أن تطور دورة الوقود النووى بما يكفى لأن تُصنّع سلاحا نوويّا، وإن كانت قد اختارت بعد ذلك أن تتخلى طواعية عن هذا السلاح.
ووجدت أن أهم درس يجب تعلمه من خبرات التعامل مع هذه التجارب أن محاولة منع دولة ما من الحصول على التكنولوجيا النووية ذات الطبيعة الحساسة إنما يستفز الحماسة الوطنية لدى هذه الدولة، ويجعل هدف الوصول إلى تلك التكنولوجيا أولوية قومية تسعى لها هذه الدولة بكل طاقتها.
وفى النهاية، قررت طهران دعوتنا لزيارة إيران فى الأسبوع الثالث من فبراير من عام 2003 ولم يكن ذلك بالموعد المناسب على الإطلاق. ففى الوقت ذاته كانت كوريا الشمالية قد انسحبت لتوها من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وكان مجلس الأمن يشهد انقسامًا كبيرًا حول استخدام القوة فى العراق، وبدا أن وقوع هجمة عسكرية على العراق أصبح وشيكا. من ناحية أخرى فإن فِرق التفتيش التابعة للوكالة كان لديها أعباء تفوق طاقتها. ولكن الوقت كان قد حان للحصول على أجوبة للأسئلة التى طُرحت حول ما يجرى فى «ناتانز»، فقررت الذهاب برفقة «بيير جولدشميدت»، وهو عالم نووى بلجيكى كان نائبا للمدير العام للوكالة لشؤون الضمانات، و«أوللى هاينونين».
وفى أول مقابلة أجريناها فى طهران أقر آغازاده والفريق المعاون له بأن المبنى قيد التساؤل فى «ناتانز» هو بالفعل منشأة كبيرة لتخصيب اليورانيوم، لكنهم أصروا على أنه لم يتم بناؤه بغرض إخفائه عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأضاف أنه بناء على اتفاق الضمانات المبرم مع الوكالة فإنهم ليسوا ملتزمين بإبلاغها إلا قبل إدخال المواد النووية بـ180 يومًا إلى المنشأة، ومن ثَمَّ فإن موقفهم سليم، حيث لم يتم إدخال أى مواد نووية إلى المنشأة، ولم يتم فيها أى عمليات تخصيب.
وفى اليوم التالى توجهنا إلى «ناتانز»؛ وهى بلدة جبلية صغيرة معروفة ببساتينها ويحيط بها عدد من المواقع الدينية. رافقنا فى هذه الزيارة آغازاده ونائبه محمد سعيدى وعدد كبير من المهندسين والفنيين الإيرانيين. وتوقفنا فى البداية أمام مبنى بلا معالم واضحة لونه لون الرمال ويشبه المستودع، وعندما دخلناه وجدنا قاعة كبيرة مقسمة إلى ستة أجزاء، وقد ذكر أغازادة أن تلك القاعة هى منشأة تجريبية لتخصيب اليورانيوم. وقد تم تجميع عشرين جهاز طرد بالفعل، لكن كل جزء من الأجزاء الستة فيها يمكن أن يسع 164 جهازا، أى بعدد إجمالى يقرب من الألف، ثم توجهنا بعد ذلك إلى طابق تحت الأرض فى البناء نفسه، حيث وجدنا قاعة مدهشة، كانت فارغة تماما، لكنها يمكن أن تسع أكثر من خمسين ألف جهاز طرد. ولم يتردد آغازاده أو معاونوه فى تقديم الإجابات عن الأسئلة الفنية التى طرحناها عليهم فى هذا الصدد.
أوضحت لنا هذه الزيارة أمرين رئيسيين، الأول يتعلق بمدى الطموح النووى لإيران وهو ما يتطلب إعادة تقييم كاملة لطريقة التعامل معها من قِبل الوكالة، لأن ما رأيناه فى «ناتانز» يتجاوز بكثير المفاعل النووى الذى قدمته روسيا لإيران فى بوشهر، الذى تعاقدت فيه على توريد الوقود النووى. لكن منشأة «ناتانز»، عندما يتم تشغيلها بصورة كاملة ستكون قادرة على تزويد مفاعلَيْن أو ثلاثة مفاعلات قدرة 1000 ميجاوات بالوقود. فما المنشآت الأخرى التى تخطط لها المنظمة الإيرانية أو تقوم ببنائها؟ أما الأمر الثانى فيتعلق بطبيعة المعلومات التى قدمها آغازاده حول المنشأة التى زرناها فى إيران والتى أصر على أن طهران قد قامت ببنائها وتجهيزها معتمدة كلية على القدرات الإيرانية دون اللجوء إلى أى جهات خارجية، وأنها لم تبدأ بعد فى استخدام أى مواد نووية فى الاختبارات التى جرت فى هذه المنشأة، وهو الأمر الذى لم يكن خبراؤنا على يقين كامل من صدقه.
وقد تعززت هذه الشكوك خلال اللقاء الذى جمعنى مع الرئيس سيد محمد خاتمى، الرئيس الإيرانى الودود الذى يجيد الحديث بلغات أجنبية عديدة، وكان رئيسا للمكتبة الوطنية، والذى وصل إلى الحكم فى عام 1997 على أساس برنامج للإصلاحات الاجتماعية، وبقى متمتعا بشعبية كبيرة رغم عدم تمكنه من الوفاء بكامل وعوده فى إطلاق حرية التعبير وتقوية أسس المجتمع المدنى. كما كان معروفا دوليّا بدعوته إلى حوار الحضارات. وقد شارك فى لقائنا مع الرئيس الإيرانى، سفير إيران فى فيينا على أكبر صالحى الذى خلف آغازاده فى ما بعد فى ترأس المنظمة الوطنية للطاقة النووية فى إيران. وقد تولى صالحى عملية الترجمة.
وفى البداية رحّب بى خاتمى ترحيبًا حارّا، ثم تحدث باللغة العربية لدقائق قليلة وهى اللغة التى يجيدها بوصفه دارسًا للقرآن ثم انتقل إلى الفارسية، وقام صالحى بترجمة كلماته التى أكد فيها أنه ليس فى المنشأة الكائنة فى «ناتانز» ما يدعو لقلق الوكالة الدولية للطاقة الذرية لأنها استخدمت فقط الغاز الخامل فى تشغيل أجهزة الطرد المتتابعة. لكن خاتمى تحدث بتفاصيل فنية متخصصة حول تبريد أجهزة الطرد بدون استخدام مواد نووية، وجدتها غير متطابقة مع خبراته وطبيعة دراسته واهتماماته. ورغم أننى كنت أتفهم رغبة خاتمى فى التأكيد على أن إيران لم تخرق تعهداتها القانونية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن ذلك لم يُجِب عن التساؤلات التى دارت فى ذهنى حول طبيعة حديثه الفنى، لكن الأشهر التالية قدمت بعض الإيضاحات.
كانت المعلومات الاستخباراتية قد أفادت بوجود مصنع لإنتاج أجهزة كهربائية فى منطقة قريبة من طهران اختبر فيها الإيرانيون عددا من أجهزة الطرد مماثلة لتلك الموجودة فى «ناتانز». ولم يكن المصنع منشأة نووية، وأكد لنا الإيرانيون أنه لم يتم فيه سوى «دراسات محاكاة». فإذا صح ذلك فإنهم يكونون فى حدود حقهم فى عدم إبلاغ الوكالة به. لكن كيف لنا أن نتأكد من ذلك إذا لم يُسمح لنا بالتحقق مما يقولون. وقعنا إذن فى المأزق التقليدى. فعدم الإخطار بأن هذا المصنع يقع ضمن المنشآت النووية يحول دون حق الوكالة من الناحية القانونية فى تفتيش هذا المبنى بناء على مجرد الاشتباه، لأن إيران لم تكن موقِّعة على البروتوكول الإضافى لمعاهدة منع الانتشار النووى الذى يسمح لمفتشى الوكالة بتفتيش أماكن لم تعلن عنها الدولة. وفى ضوء ما كانت تعلنه إيران دائما من أنها تتبع سياسة تقوم على الشفافية الكاملة فى تعاملها مع الوكالة فقد طلبنا من السلطات الإيرانية أن تسمح لنا بزيارة المصنع محل التساؤل وبأخذ عينات للمسح البيئى. كانت تلك هى الوسيلة الوحيدة للتحقق مما تقوم به إيران فى هذا المصنع.
وبعد فترة قبلت إيران على مضض بقيام مفتشى الوكالة بزيارة المصنع، لكنها لم تسمح لهم بأخذ العينات المطلوبة للمسح البيئى، ولكن بعد عدة أشهر وافقت إيران على السماح للمفتشين بأخذ عينات بيئية (باستخدام قطع من القماش تمسح بها أسطح محددة)، وهو ما قاموا به بالفعل، لكنهم لاحظوا وجود تعديلات واضحة فى المصنع خلال هذه الزيارة بالمقارنة لما كان عليه فى زيارتهم الأولى، وقد أدى ذلك إلى قلقهم من أن يؤثر ذلك على دقة تحليلاتهم. ومع هذا، فإن تحليل العينات أكد أن هناك ما يدل على استخدام مواد نووية فى اختبارات أجهزة الطرد. وفى ضوء هذا فإن إيران قد ضُبطت متلبسة بمخالفتها لالتزاماتها القانونية طبقا لاتفاق الضمانات مع الوكالة.
ومع الوقت بدأ مزيد من التفاصيل فى الظهور على السطح، ومن ذلك التماثل الكبير بين الأجهزة الموجودة فى منشأة «ناتانز» مع مثيلات لها فى دول أوربية على الرغم مما قاله الإيرانيون من أن هذه المنشأة تم بناؤها وإعدادها اعتمادا على القدرات الإيرانية الوطنية وبدون اللجوء إلى أى مساعدة من أى جهة خارجية. غير أنه بمواجهة المسؤولين الإيرانيين عن نتائج التحليل قرروا أن بعض مكونات الأجهزة المستخدمة فى منشأة «ناتانز» وفى المصنع تم استيرادها، وأن النتائج الإيجابية للتحليل ربما ترتبط باستخدامات سابقة لهذه الأجهزة فى بلد المنشأ. وفى الواقع أننا وجدنا في ما بعد أن تكنولوجيا أجهزة الطرد الموجودة فى إيران جاءت بالكامل من دول أخرى.
ولم تكن مسألة استيراد إيران أجهزة الطرد لمنشأة «ناتانز» من عدمها مسألة ثانوية، لأنه كان من شأن الإجابة عن هذا السؤال أيا كانت الإجابة أن تتحصل الوكالة على معلومات تحتاج إليها بشدة، فإذا كانت إيران اعتمدت حصريّا على قدراتها فإن ذلك يعنى أن برنامج البحث والتطوير النووى أوسع بكثير من ذلك الذى أقرت به إيران، وأن عملية البحث والتطوير ربما تكون قد شملت بعض النشاطات النووية غير المعلن عنها من قِبل طهران. أما فى الحالة الثانية فإن ذلك يعنى أن بلدا أو بلدانا أخرى هى التى زودت إيران بهذه التكنولوجيا.
بموازاة ذلك تم الكشف عن كميات من اليورانيوم غير المخصب التى استوردتها إيران من الصين فى معمل جابر بن حيان بمركز طهران للبحوث النووية. ولم يكن قد سبق لإيران أن أخبرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن هذا المعمل أو عن هذه الكمية من اليورانيوم غير المخصب. وعلى الرغم من وجود بعض المؤشرات على أن عملية التحويل التى خضع لها هذا اليورانيوم توحى بأنه يُستخدم بالأساس لأغراض سلمية إلا أن المفتشين وجدوا فى المخازن ثلاث أسطوانات من غاز اليورانيوم «uf4» وهو مادة التلقيم اللازمة للتخصيب وكانت كمية الغاز فى إحداها ناقصة. وبسؤال الإيرانيين عن ذلك قالوا إن الغاز لا بد أنه تسرب. ولقد أدركت مبكرًا أننا بصدد التعامل مع فريق يبدو مستعدّا للمراوغة لتحقيق أهدافه، وعلى هذا فإن علينا أن لا نقبل بأى تأكيدات يقدمها الإيرانيون بدون الحصول على الأدلة المادية على هذه التأكيدات. صحيح أن التحقق أمر يدخل فى صميم عمل الوكالة فى كل الأحوال، إلا أنه بدا أكثر ضرورة فى هذه الحالة، ولا سيما وأن هذا النهج من المراوغة والخداع حظى بتأييد ومساندة أعلى المستويات فى الحكومة الإيرانية.
ففى مايو 2003، قام آغازاده بإلقاء كلمة أمام مجلس السفراء المعتمدين فى فيينا، حيث أكد أن بلاده لم تستخدم أى مواد نووية فى تجربة أجهزة الطرد لديها.
لقد التقيت بالعديد من المسؤولين الإيرانيين بجانب الرئيس خاتمى وآغازاده، ومهدى كروبى رئيس البرلمان الإيرانى وعلى أكبر رافسنجانى، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، والرئيس الإيرانى السابق. ولقد كانوا جميعا شخصيات لها هيبة وقدرة على الحديث الرصين، وبدوا لى جميعا أن لديهم معلومات دقيقة حول تفاصيل برنامج التخصيب، وقد أكدوا جميعا فى حديثهم معى أن البرنامج النووى الإيرانى مقصور على الأغراض السلمية فقط.
وربما كان رافسنجانى أكثر هؤلاء فى الحنكة السياسية، ولقد أخبرنى فى لقاء له فى القصر الذى يقيم به أنه رجل اختبر الحروب ورأى ويلاتها ورأى ضحايا الأسلحة الكيميائية من أبناء بلده خلال الحرب العراقية الإيرانية، وهو لا يمكن له أن يكون داعية لحوار الحضارات، وأن يدعو فى الوقت نفسه لتطوير سلاح نووى.
aymaan noor 28-09-2012, 05:28 PM سنوات الخداع - الحلقة الثالثة عشر
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/09/51428383_10.jpg
أخبرنى كثيرون، بمن فى ذلك الرئيس المصرى مبارك، أن العقيدة الشيعية تسمح لأتباعها باستخدام المراوغة كوسيلة لتحقيق هدف مشروع. وقيل لى إن الكلمة المستخدمة فى هذا الصدد هى كلمة «تقية»؛ أى اتقاء الضرر الذى قد يصيب الإنسان أو هؤلاء المسؤول عنهم.
من جانبى فلقد أخبرت المسؤولين الإيرانيين أنه بغضّ النظر عن الأسباب أو الأهداف وراء مراوغتهم، فإن هذه المراوغة تسببت فى ضرر بالغ لعلاقتهم بالمجتمع الدولى، مشيرا إلى أن رصيدهم من الثقة لدى المجتمع الدولى بدأ ينفد بالفعل بل وأصبح سلبيّا. ولكن المسؤولين الإيرانيين لم يكونوا يشعرون بأى حرج إزاء مراوغتهم، بل إنهم كانوا يجدون تبريرات لهذه المراوغة فى ما وصفوه بعقود متتالية من اتّباع الغرب سياسة ازدواج المعايير فى التعامل مع إيران.
وكانت إيران فى عهد الشاه قد أعلنت اعتزامها بناء ثلاثة وعشرين مفاعلا نوويّا كبيرا لتوليد القوى للأغراض السلمية، بدعم واضح من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها، وبدأت بالفعل فى سنة 1975 فى التعاقد مع شركات ألمانية لبناء أولى هذه المحطات فى بوشهر. كما حصلت على حصة قدرها 10% فى شركة متعددة ال***يات تدير مصنعا لتخصيب اليورانيوم فى فرنسا، ولكن الأمر توقف تماما مع قيام الثورة الإسلامية فى 1979 التى أطاحت بحكم الشاه. فقد رفضت الشركة الألمانية الاستمرار فى بناء منشأة بوشهر وأوقفت الولايات المتحدة تزويد إيران بالوقود اللازم لمفاعلها البحثى، كما رفضت فرنسا الاستمرار فى إمداد إيران بمزيد من اليورانيوم المخصب على الرغم من محاولات إيران العديدة، وعلى الرغم من حصة إيران فى الشركة متعددة ال***يات. وفى ضوء تاريخهم السابق فإن المسؤولين الإيرانيين كانوا يصرون على أن لهم الحق فى ما يقومون به، خصوصا أنهم كانوا يؤكدون أن الحصول على التكنولوجيا النووية للاستخدامات السلمية هو أحد أولويات السياسة الإيرانية.
كذلك فقد أكد الإيرانيون ضرورة حصولهم على دورة الوقود النووى لأنه ليس هناك فى العالم مَن يزودهم بالوقود النووى سوى روسيا، التى قالوا إنها لا تلتزم دائما بما يتم الاتفاق عليه، وإنها تبالغ فى المقابل المادى الذى تحصل عليه لهذا الوقود.
من ناحية أخرى، أكد الإيرانيون أنه لم يكن لديهم حيلة فى التزام السرية إزاء المنشآت والمواد النووية، وأرجعوا ذلك إلى النظام الصارم للعقوبات المطبقة عليهم من جانب الولايات المتحدة وحلفائها، الذى حال دون إمكانية حصولهم على التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية، الأمر الذى تسبب فى اعتمادهم على السوق السوداء لاستيراد المعدات والمواد النووية اللازمة، والذى أدى إلى كلفة مالية طائلة بالنسبة إليهم وصلت فى بعض الأحيان لأربعة أضعاف الأسعار فى الظروف العادية. أما الاحتفاظ بسرية البرنامج لأطول وقت ممكن فقد كان أمرا ضروريا، كما أكدوا مرارا.
وفى الدوائر الدبلوماسية بڤيينا فإن الولايات المتحدة الأمريكية، التى تولت قيادة المجهود الغربى لعزل إيران لأكثر من عقدين، لم تُبْد أى رغبة فى محاولة تفهم التبريرات الإيرانية. وبالنسبة إلى واشنطن فإن كذب إيران دليل دامغ على أنها تسعى لتطوير أسلحة نووية. وبالطبع فإن الوصول إلى مثل هذا الاستنتاج لم يكن لديه ما يؤيده من الدليل الفعلى. ولم تكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتعتد بأى شىء سوى الدليل الفعلى قبل أن تصل إلى مثل هذا الاستنتاج. لكن بلدانا غربية أخرى أخذت تردد المواقف الأمريكية المؤكدة عزم إيران على امتلاك السلاح النووى، بينما أبدى عديد من الدول النامية تعاطفها مع اضطرار إيران لالتزام السرية تفاديا لتعرضها لمزيد من العقوبات. وكانت هذه السابقة من جانب إيران مدعاة للقلق بالنسبة إلىّ. وبدأ الانقسام يظهر فى مجلس محافظى الوكالة بين دول الشمال ودول الجنوب.
وطَوال صيف وخريف 2003 كنا دوما نواجَه بمزيد ومزيد من الأسئلة التى لا إجابات لها حول البرنامج النووى الإيرانى، كما أن ملاحظات المفتشين ونتائج المسح جاءت على خلاف الموقف الإيرانى. والأكثر من ذلك أن المفتشين كانوا على قناعة بأن إيران لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه فى ما يتعلق بدرجة تطور برنامجها النووى لو لم تكن قد قامت بإجراء اختبارات أوسع بكثير مما أقرت به.
فعلى سبيل المثال أوضحت زيارة مفتشى الوكالة إلى منشأة لليزر فى عسكر أباد مدى التقدم فى استخدام بخار الليزر الذى يمكن أن يُستعمل مباشرة فى التخصيب، ومع ذلك أفاد الإيرانيون بأنهم لم يقوموا بإجراء أى تخصيب من هذا النوع. ولاحظ المفتشون كذلك أن رسومات المفاعل «IR 40»؛ وهو مفاعل بحثى يعمل بالماء الثقيل، كان من المقرر أن يبدأ بناؤه فى آراك فى سنة 2004، لم تشمل تخطيطا «للخلايا الساخنة»؛ وهى غرف خاصة مجهزة بمعدات تحكّم عن بُعد حتى يمكن فيها معالجة المواد المشعة، بما فى ذلك فصل البلوتونيوم، دون تعرض لمخاطر الإشعاع؛ ومع ذلك فإنه كانت هناك دلائل على جهود تبذلها إيران للحصول من الخارج على أجهزة التداول ونوافذ مصنوعة من الرصاص، لاستخدامها فى الخلايا الساخنة وفى منشآت تحويل اليورانيوم فى أصفهان وفى غيرها من المعامل، وهى ذات تصميم جيد ومكتملة إلى حد بعيد، صمم الإيرانيون على أنهم لم يقوموا بمحاولات لتحويل اليورانيوم. واستمر الأمر كذلك حتى واجهناهم بنتائج مخالفة للعينات وبأسئلة كثيرة من جانب مفتشى الوكالة. عندئذ تحول الإنكار المتكرر إلى اعتراف تدريجى بأن العلماء النوويين الإيرانيين قاموا بالفعل بتجارب فى جميع مراحل تحويل اليورانيوم تقريبا.
كان الوقت قد حان لمواجهة صريحة مع الإيرانيين، فسافرت إلى طهران فى 16 أكتوبر والتقيت هذه المرة مع حسن روحانى الأمين العام لمجلس الأمن القومى الإيرانى، ولقد كانت تلك المقابلة فاصلة بالفعل. وبعد تبادل عبارات المجاملة تحدثت معه بصراحة مطلقة عن سلسلة من الأمور الموضوعية مثل اختبار أجهزة الطرد وفصل نظائر الليزر وتحويل اليورانيوم ومشروع مفاعل الماء الثقيل ونتائج اختبارات الوكالة للعينات، وضعتها أمامه كاملة، وأكدت له فى الوقت نفسه أن سياسة المراوغة والتراجع التى تتبعها طهران لا يمكن أن تستمر.
ويبدو أن روحانى كان متوقعا لما قلته، وبالتالى فبدلا من الاستمرار فى المراوغة أكد لى أن إيران مستعدة لفتح صفحة جديدة من التعاون مع الوكالة. وأن القيادة السياسية فى إيران قررت مد الوكالة بكل تفاصيل نشاط طهران النووى السابق والحالى، على أن يتم ذلك خلال الأسبوع التالى. كما قال لى إن إيران مستعدة للانضمام إلى البروتوكول الإضافى للوكالة الدولية للطاقة الذرية طبقا لأحكام البروتوكول الإضافى، بل وإنها يمكن أن تسمح بتوسيع نطاق التفتيش أمام مفتشى الوكالة طبقا لأحكام البروتوكول الإضافى إلى أن يدخل البروتوكول حيز النفاذ.
وكان روحانى فى الوقت نفسه يجرى مفاوضات غير معلنة مع وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وفى 21 أكتوبر صدر إعلان طهران؛ وهو اتفاق بين طهران وباريس وبرلين ولندن، يؤكد النقاط الرئيسية التى كان روحانى قد طرحها علىَّ خلال اللقاء معه فى طهران، ويؤكد استعداد إيران للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بما فى ذلك العمل على تطبيق البروتوكول الإضافى، بل ويعلن استعداد إيران لوقف أنشطة التخصيب وإعادة المعالجة خلال فترة المفاوضات التى تجرى مع الدول الأوروبية الثلاث فى بادرة لحسن النية من قِبل طهران. فى المقابل أقرت الدول الأوروبية الثلاث بالحقوق المشروعة لإيران فى تطوير تكنولوجيا نووية، كما اتفقت على التفاوض للوصول إلى حزمة من الضمانات التى تقدمها إيران حول الطبيعة السلمية لبرنامجها النووى. وأقرت الدول النووية، بموجب نفس الإعلان، أنه فور التوصل إلى حزمة الضمانات اللازمة فإن هذه الدول ستقدم لإيران تكنولوجيا متقدمة، بما فى ذلك التكنولوجيا النووية.
وبعد يومين من صدور هذا الإعلان، تلقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية رسالة من آغازاده يعلن فيها اعتزام إيران بدء مرحلة جديدة من الثقة والتعاون مع الوكالة. وقد أقر خطاب آغازاده بكثير من النشاطات التى طالما أنكرتها إيران، بل إنه إضافة إلى ذلك قام بتقديم معلومات لم تكن متاحة للوكالة من قبل حول البرنامج النووى الإيرانى.
وقد تبين من خطاب آغازاده أن إيران اختبرت أجهزة طرد بمواد نووية فى مصنع «كالاى» باستخدام غاز «UF6» الذى كان قد «تسرب» من إحدى أسطوانات معمل جابر بن حيان، وأجرت اختبارات تخصيب بواسطة الليزر طَوال التسعينيات. وقامت بتجارب لإعادة المعالجة فى مركز طهران للبحوث النووية وقامت بفصل كمية صغيرة من البلوتونيوم. كما أنه تبين استخدام مواد نووية لم يسبق الإبلاغ عنها من قبل، فى تجارب موسعة لتحويل اليورانيوم. ولم يشر أى من هذه الأنشطة صراحة إلى وجود برنامج تسلح نووى، ولكنها كانت تشكل معا برنامجا يكاد يكون شاملا لدورة الوقود النووى تم فى معظمه سرا.
-وفى العاشر من نوفمبر 2003 قدمت لمجلس محافظى الوكالة تقريرا مفصلا حول عمل الوكالة المتعلق بإيران، وأشرت فى هذا التقرير إلى «سياسة المراوغة» التى اتبعتها إيران، وإلى أن تقديم المعلومات من قِبلها جاء «محدودا» وفى الأغلب فى إطار إجابات عن أسئلة طرحتها الوكالة على طهران. كما شمل التقرير أيضا، تفصيلا عما تلا ذلك من استعداد إيران لإبداء التعاون وحُسن النية والتعامل بشفافية وتعليق نشاطات التخصيب والتحويل لليورانيوم، بل وقرارها توقيع البروتوكول الإضافى وتنفيذه.
ولم يكن هناك اختلاف مع أىٍّ مما جاء فى هذا التقرير من قِبل مجلس المحافظين. وفى الجزء الختامى من التقرير أوضحت تقديرنا المرحلى لوضع إيران من حيث انتشار الأسلحة النووية، وأكدت أن ما عثرت عليه الوكالة من دلائل على نشاطات نووية ومن مواد نووية «حتى الآن لا يعد دليلا على وجود برنامج لدى إيران لامتلاك السلاح النووى»، وأضفت أنه فى ضوء ما سبق من سياسات مخادعة من قِبل إيران فلا بد للوكالة من «مزيد من الوقت قبل أن تستطيع القول بصورة نهائية إن برنامج إيران النووى هو فقط لخدمة أغراض سلمية».
كان التقرير قائما على الحقائق بصورة كاملة، وتمت صياغته بلهجة مباشرة. غير أن هذا التقرير قوبل بانتقاد حادٍّ من قِبل جون بولتون مساعد وزير الخارجية الأمريكى لشؤون نزع السلاح والأمن الدولى، والذى قال إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان ينبغى عليها أن تتبع نهجا أكثر تشددا إزاء إيران. واستتبع ذلك نقاش مطول فى أروقة الوكالة والدوائر الدبلوماسية فى ڤيينا حول المعنى القانونى الدقيق لكلمة «دليل» بالنظر إلى ما جاء فى تقريرى بأنه «لا دليل حتى الآن» على سعى إيران لامتلاك السلاح النووى. وصمم بولتون على الرد بعنف، وكلف كين بريل؛ مندوب الولايات المتحدة الأمريكية لدى الوكالة بقراءة بيان فى مجلس المحافظين قال فيه: «إن المؤسسة التى كلفها المجتمع الدولى بالتحقق من مخاطر الانتشار النووى تتجاهل وقائع هامة أسفرت عنها تحقيقاتها ذاتها»، وأضاف أن «استعادة الوكالة لمصداقيتها التى تعرضت لكثير من الأذى» هو أمر سيتطلب مزيدا من الوقت.
ولقد كان لدى بريل من الكياسة ما يكفى لأن يحيطنى علما مسبقا بالبيان الذى سيلقيه أمام مجلس المحافظين، وبرغم ذلك فقد شعرت بالغضب لدى تلاوته فى المجلس فقمت على الفور ودون أن يكون لدىّ نص معد بالرد على ما جاء فيه والدفاع عن عمل الوكالة ونزاهتها، مشيرا إلى أن التقدم الذى حققته الوكالة فى الكشف عن الصورة الحقيقية لبرنامج إيران النووى فى خلال عشرة أشهر يتجاوز بكثير ما استطاعت أفضل أجهزة المخابرات فى العالم تحقيقه فى عشر سنوات كاملة.
وفى المداخلة ذاتها وجهت نقدا شديدا لما وصفته بـ«التركيز الأمريكى المفتقر إلى المنطق» على ما يمكن اعتباره بـ«الدليل» على نية إيران امتلاك السلاح النووى. وفى هذه المداخلة اعتمدت على التوصيف القانونى لكلمة «دليل» حسبما يُشار إليه فى واحد من أهم المراجع القانونية التى كنت أعتمد عليها خلال سنوات دراستى للقانون الدولى فى نيويورك منذ أكثر من 30 عاما.
وقلت بوضوح إن الوكالة الدولية تجيد اختيار الألفاظ المستخدمة، وتعرف بدقة ما الذى يمكن وصفه بـ«الدليل»، وما الذى لا يمكن وصفه بذلك، مشيرا إلى المصداقية التى حققتها الوكالة فى هذا الصدد خلال تعاملها مع برنامج العراق النووى، وكانت إشارتى واضحة أن الأمريكيين وحلفاءهم هم الذين لم يعرفوا ما الذى يمكن اعتباره دليلا على سعى دولة ما لتطوير سلاح نووى، عندما سارعوا ببدء حرب كارثية مع العراق. حيث كنا نرى كل يوم الدليل على تبعات رغبة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اتباع معلومات مخابراتية غير موثقة باعتبارها دليلا على أن العراق كان ما زال لديه برنامج للأسلحة النووية. وكان ما يدور فى خاطرى فى تلك اللحظة أنه من غير الأمانة على الإطلاق أن يهاجم أحد الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاختيارها توخّى الدقة فى عملها.
ولقد كان وَقْع هذه المداخلة على الجالسين فى قاعة الاجتماع صادما؛ فلم يكن أىّ من الحضور يتصور إمكانية حدوث مثل هذه المصادمة الدبلوماسية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وخلال إلقائى مداخلتى لم أرفع صوتى مرة، ولكن المواجهة المباشرة كانت أسلوبى. وعندما بادر رئيس المجلس لدعوة المتحدث التالى لأخذ الكلمة رأيت أن أغادر القاعة لأستعيد كامل هدوئى. وبعد انتهاء الاجتماع قال لى بعض من المشاركين فيه، بما فيهم سفير الصين، إن هذا كان «يوما تاريخيّا» تمكَّن فيه موظف دولى من الوقوف أمام محاولة الولايات المتحدة الأمريكية فرض آرائها وأجندتها قسرا.
بمجرد الإعلان عن النشاطات النووية الإيرانية التى لم يسبق الإبلاغ عنها، كتبت مقالا فى مجلة «الإيكونومست» البريطانية مقترِحا أن يتم تشغيل دورة الوقود النووى فى كل أنحاء العالم تحت مراقبة دولية، متعددة الأطراف. ولم تكن هذه الفكرة جديدة بل إنها كانت منذ سبعينيات القرن العشرين محل دراسات ومناقشات فى لجان عديدة. بل إن هذا الأمر كان قد طُرح، ولو بصورة غير مباشرة، فى سنة 1953 من جانب الرئيس الأمريكى آيزنهاور، فى خطابه الشهير بشأن «الذرة من أجل السلام».
ولكن هذا الأمر أصبح أكثر إلحاحا مع الانتشار السريع والمتزايد للتكنولوجيا والخبرة النووية بالطرق القانونية والطرق غير القانونية على حد سواء؛ لأن قيام كل دولة بتشغيل دورة الوقود النووى الخاص بها يفتح بابا لا يمكن إغلاقه أمام أخطار انتشار الأسلحة النووية. وبالتالى فإن الحل يكمن فى التعامل الدولى مع هذا الأمر من خلال بناء منشآت مركزية تحت إشراف وإدارة عدد من الدول لتشغيل دورة الوقود النووى وبحيث يستفيد منها كل المشاركين فى ملكية وإدارة هذه المنشآت، وهذا يمكن أن يَحُول دون أخطار انتشار التسلح النووى، وفى الوقت نفسه يمكّن الدول التى تستخدم الطاقة النووية بصورة قانونية أن تحصل على احتياجاتها من الوقود النووى لتشغيل مفاعلاتها. إضافة إلى ذلك فإن الفوائد الاقتصادية لهذا المشروع واضحة؛ لأنه يخفض من التكاليف الباهظة التى تنفق من قِبل كل دولة لبناء المنشآت اللازمة لتخصيب اليورانيوم أو فصل البلوتونيوم. لكن الهدف الأهم الذى يمكن لهذا الاقتراح أن يحققه هو الحيلولة دون تحويل أىّ من المواد النووية إلى أسلحة نووية.
وحظى هذا المقال بكثير من الاهتمام، وبدأ تداول الفكرة المطروحة فيه والنقاش حولها على نطاق واسع. وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها فى السعى للترويج لفكرة «شراكة دولية من أجل الطاقة النووية». واقترح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إنشاء شبكة من مراكز تشغيل دورة الوقود النووى. واقترحت ألمانيا إنشاء مركز يمكن من خلاله أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالإشراف على عملية دولية لتخصيب اليورانيوم.
أما تيد تيرنر وسام نان، ولكليهما دور مرموق فى مجال مكافحة انتشار التسلح النووى، فقد تحركا نحو إقناع وارين بافيت وهو رجل أعمال أمريكى ينفق من أمواله لخدمة الأغراض النبيلة للإنسانية بتقديم تبرع بمبلغ 50 مليون دولار لبناء مخزون من الوقود النووى يكون تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، شريطة أن تقوم الحكومات بتقديم 100 مليون دولار من جانبها كخطوة أولى نحو دعم هذا المشروع.
ولكن مناخ الثقة الذى كان آخذا فى التزايد لم يستمر طويلا؛ فلقد تقدمت ست دول هى: أمريكا وروسيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبريطانيا بمقترح لمجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية يضمن توفير الوقود النووى للدول الراغبة فى الحصول عليه، شريطة أن تقوم هذه الدول بالتخلى عن حقوقها المقررة وفقا لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فى ما يتعلق بحق التخصيب وحق إعادة معالجة البلوتونيوم.
وكان هذا الطرح مختلفا بصورة جذرية عن الطرح الذى كنت عرضته من خلال مقالى بمجلة «الإيكونومست». ذلك أننى كنت أرى أن إقامة منشآت دولية متعددة الأطراف لدورة الوقود النووى يعتبر المرحلة الأولى فى عملية متعددة المراحل من شأنها تقريب المسافة بين الدول التى تمتلك التكنولوجيا والقدرة النووية وتلك التى لا تمتلكها، بما يسهم فى خدمة هدف الحد من انتشار التسلح النووى وصولا إلى مرحلة نزع الأسلحة النووية.
أما الاقتراح المقدَّم من الدول الست فلم تتجاوز أهدافه سوى الهدف العاجل المتعلق بالحد من انتشار التسلح النووى، بطريقة ليس من شأنها إلا توسيع الفجوة بين الدول النووية والدول غير النووية لأن الرسالة التى كان ينطوى عليها هذا الاقتراح مفادها تأكيد رغبة الدول التى تمتلك تكنولوجيا دورة الوقود النووى فى الاستمرار فى احتكار تلك التكنولوجيا.
ولأننى كنت أستطيع أن أتوقع أن ذلك الاقتراح بصورته الحالية لن يلقى التوافق، بل سيكون محل خلاف كبير، طالبت برفع الشرط المتعلق بتنازل الدول عن حقوقها المقررة فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية المتعلقة بتشغيل دورة الوقود النووى، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية أصرت على بقاء الشرط ووزع الاقتراح على جميع أعضاء مجلس المحافظين. وكما توقعت، أثار الأمر كثيرا من الهواجس، ليس فقط لدى الدول النامية، ولكن أيضا لدى دول متقدمة لم تقم باستكمال دورة الوقود النووى مثل كندا وإيطاليا وأستراليا، وكلها كانت تريد أن تظل الخيارات متاحة أمامها فى المستقبل. كما أن هناك دولا أخرى مثل اليابان وألمانيا وهولندا والبرازيل والأرجنتين اتخذت موقفا وسطا: فهى لم تكن تمتلك أسلحة نووية لكن تمتلك تكنولوجيا دورة الوقود النووى مما جعلها فى وضع أفضل. وما من دولة لها مثل هذه الميزة على استعداد للتخلى عنها لصالح برنامج دولى من شأنه الحد من مخاطر الانتشار.
وقد سمم هذا الاقتراح الأجواء. فالدول التى لم تكن لديها تكنولوجيا دورة الوقود النووى أصبحت تنظر إلى كل اقتراح لاحق بكثير من الريبة باعتباره حلقة فى سلسلة من الحيل التى ترمى إلى حرمانهم من حقوقهم. وتفاقمت فجوة الثقة بين الدول النووية والدول غير النووية، التى كانت ملموسة أصلا، وظلت تسيطر على آفاق الدبلوماسية النووية الدولية.
فمنذ سقوط أول قنبلة نووية على هيروشيما، أصبح امتلاك قلة من الدول الأسلحة النووية حافزا للتنافس بين الآخرين من أجل الحصول عليها. ولم يؤد رفض معظم الدول المالكة الأسلحة النووية الاعتراف بتلك العلاقة السببية إلا إلى ترسيخ ذلك. ورغم أن المعاهدة أوضحت أن امتلاك خمس دول الأسلحة النووية ليس إلا مرحلة انتقالية تمهيدا لنزع السلاح النووى، فإن الأمر بعد ثلاثة وثلاثين عاما ظل على ما كان عليه. فكل بيان صادر عن إحدى الدول المالكة السلاح النووى يؤكد قيمة الردع التى يمثلها، وكل تصرف لتحسين أو تحديث ترساناتها النووية، يأتى بمثابة مؤشر على سوء النية بالنسبة إلى الذين لا يملكون هذا السلاح.
ولقد كان لهذا التباين فى وجهات النظر أثره الواضح على النقاش الدائر بين أعضاء مجلس المحافظين للوكالة الدولية للطاقة الذرية حول ملف إيران، رغم أن أحدا لم يكن مرتاحا لما قامت به طهران من نشاطات نووية سرية حتى أولئك الذين كان لديهم التفهم لدواعى السرية التى اتخذتها إيران. واستمر مجلس المحافظين فى مطالبة إيران بتقديم كل ما لديها من معلومات حول منشآت أو مواد نووية، لكن فى الوقت نفسه كان هناك إحساس واضح بعدم الارتياح لرغبة الاحتكار النووى المسيطرة على الدول النووية. وبالتالى تفهم كثيرون رغبة إيران فى الحصول على تكنولوجيا دورة الوقود النووى. وإزاء عدم وجود دليل على سعى إيران للحصول على أسلحة نووية فإن هذه الدول لم تكن على استعداد لإدانة تصرفات إيران صراحة. ولم تؤد ضغوط الحكومات الغربية إلا إلى تعميق الفجوة بين الجانبين.
aymaan noor 30-09-2012, 01:13 PM سنوات الخداع - الحلقة الرابعة عشر
http://www.watan.com/files/imagecache/max485/news/2012/09/20/brd.jpg
شهدت السنوات من 2003 وحتى خريف 2005 الكثير من الشد والجذب غير المعلن بين إيران والمجتمع الدولى. فمن جهة، كانت هناك لحظات تفاؤل نتجت عن صدور إعلان طهران، وتعهد إيران بالتزام الشفافية إزاء برنامجها النووى، ومن جهة أخرى ظهرت خلافات دولية حادة حول كيفية التعامل مع ملف إيران النووى. والواقع أن هذه الفترة شهدت كل المظاهر التى اتصف بها هذا الصراع المعقّد: التضحية بالحلول العملية فى سبيل مبادئ شديدة الغموض، والآثار السلبية لسياسات متشددة فى غير محلها، وتصعيد المواقف تمامًا كلما ظهرت دلائل معارضة جديدة.
أصبحت الوكالة -وبوجه خاص اجتماعات مجلس المحافظين- ساحة للصراع بين المواقف المتعارضة بشأن إيران. وكان من بين القضايا التى ثار حولها الخلاف فى المجلس فى مارس عام 2004 نوع أجهزة الطرد المركزى التى تستخدمها إيران فى تخصيب اليورانيوم، وما إذا كانت قاصرة على نموذج أولى من طراز «1-P» زودتها به باكستان أو إذا ما كان هذا النموذج قد تم تطويره إلى أكثر من ذلك وثبت بعد التحقيق والتفتيش خارج إيران أنها ربما سعت إلى إنتاج نموذج أكثر تطورًا من طراز «2-P»، وكان كلا الطرازين منقولين عن طراز أوروبى تمكّن من نقله العالم النووى الباكستانى عبد القدير خان فى أثناء عمله فى منشأة للتخصيب فى هولندا.
حتى هذه اللحظة لم يكن لدى مفتشى الوكالة علم بالعمل الذى يجرى بشأن الأجهزة من طراز «P-2». لكننا كنا نعرف أن الإيرانيين كانوا يحاولون البحث والتطوير لمختلف جوانب دورة الوقود النووى. كان هذا الطراز أكثر تقدمًا من سابقه وأكثر قدرة على التخصيب. وكان من غير المرجح أن يتخلى الإيرانيون عن العمل على إنتاج هذا الطراز إذا أُتيحت لهم الفرصة لذلك.
وأكد مفتشو الوكالة هذه النقطة. وفى يناير 2004 أقر الإيرانيون بأنهم كانوا قد تلقوا فى أواخر 1994 رسومات لأجهزة طرد من طراز «P-2». وقام مهندسو إحدى الشركات الخاصة فى طهران بإجراء اختبارات محدودة، بناءً على تكليف من منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، على تصميم معدل لأجهزة «P-2». ولم تكن إيران قد أشارت إلى ذلك فى إخطارها للوكالة فى أكتوبر 2003.
وكان هناك موضوع آخر يتعلق بمركز «لافيزان شيان» للبحوث الفنية الواقع فى إحدى ضواحى طهران. وكان قد ذكر احتمالا بأن يكون هذا المركز منشأة للبحوث حول أسلحة الدمار الشامل. وكانت الوكالة قد تلقت معلومات عن أن المركز اشترى أجهزة للكشف عن الإشعاعات. وأظهرت صور السواتل التى أخذت بعد أغسطس 2003 أن هذا المركز قد أزيل وأن أبنيته هُدمت ورفعت أنقاضه، مما يوحى بأن هناك محاولة للإخفاء.
وذكر الإيرانيون أن هذا المركز كان تابعًا لوزارة الدفاع، وكان يقوم بالبحوث لتطوير وسائل صد الهجمات والحوادث النووية، وأنه أزيل بعد أن صدرت التعليمات للوزارة بإعادة الأرض المقام عليها المركز إلى بلدية طهران بعد نزاع بين هاتين الجهتين الحكوميتين. وبالنظر إلى ماضى إيران فى الإخفاء والخداع فإن مسائل مثل اختبار أجهزة «P-2»، وهدم موقع يقال إنه خاص بأسلحة الدمار الشامل، أثارت الشبهات بطبيعة الحال.
لقد كان الموقف معقدًا بالفعل، لأنه بالرغم من هذه الإشكاليات كانت إيران قد قدمت بالفعل بعض الخطوات الإيجابية فى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ أكتوبر 2003، حيث تمكن مفتشو الوكالة بمقتضى موافقة إيران على تطبيق البروتوكول الإضافى بصفة مؤقتة إلى حين دخوله حيز النفاذ من زيارة مواقع التخصيب وغيرها من المنشآت دون اختلاف حول ما إذا كانت هناك مواد نووية استخدمت فيها أم لا، بما جعل الوكالة تشعر بأنها أخيرا بدأت تكوِّن صورة أوضح عن طبيعة النشاطات النووية لإيران.
لكن فى الوقت نفسه فإن التعاون الإيرانى مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يكن دائمًا ومتواصلا ولم يكن ذلك بالتأكيد فى مصلحة إيران. ومن أمثلة ذلك القرار المفاجئ للسلطات الإيرانية بوقف زيارة كانت مقررة لمفتشى الوكالة فى مارس لـ«ناتانز» وبعض المواقع الأخرى، وذلك قبل أيام فقط من توجه المفتشين إلى إيران بدعوى أن موعد الزيارة يوافق بدء العام الإيرانى الجديد، وهو العذر الذى لم يكن لأحد أن يأخذه على محمل الجد، لأن موعد العام الإيرانى الجديد كان معروفًا لطهران لدى تحديدها موعد زيارة المفتشين، ولم تكن طهران تريد الإفصاح عن السبب وراء قرارها إلغاء زيارة المفتشين وأعطى الإيرانيون، مرة أخرى، انطباعًا بأنهم يريدون إخفاء شىء ما.
ثم قام حسن روحانى بزيارتى مرتين لمطالبة الوكالة برفع ملف إيران من أجندة اجتماعات مجلس المحافظين المقررة فى مارس، باعتبار أن ذلك سيعطى إشارة بأن قلقنا تجاه إيران قد تناقص. ولكن الأمر لم يكن محل توافق، ففى حين دعم الأوروبيون المطلب الإيرانى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، التى كانت تسعى لإحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن، أصرت على أن يبقى الملف على أجندة اجتماعات شهر مارس.
ومن جانبى فقد أكدتُ للجميع أن جدول أعمال مجلس محافظى الوكالة لن يكون أداة لخدمة أى أغراض سياسية، وأخبرتُ الإيرانيين والأوروبيين أننى على استعداد لرفع الملف الإيرانى من على أجندة أعمال مجلس المحافظين لاجتماع شهر مارس فورًا فى حال ما حصلت الوكالة على إجابات للأسئلة التى تطرحها على إيران، أما فى حال عدم حدوث ذلك، فإن الملف سيبقى على جدول الأعمال دون تغيير.
على أية حال فإن الصك الرسمى الذى تُحدد الدول الأعضاء مواقفها بناء عليه ليس هو جدول الأعمال، ولكن القرارات التى يعتمدها المجلس فى اجتماعاته. ومن المتعارف عليه أن القرارات تصاغ ويتم التفاوض عليها بواسطة ممثلى الدول الأعضاء دون تدخل من أمانة الوكالة. وفى حالة إيران، كانت مشروعات القرارات تأتى عادة من الدول الأوروبية الثلاث صاحبة المبادرة، لمحاولة إيجاد حل للمسألة، ثم توزع بعد ذلك على باقى الدول.
لكن الأمر كان بالغ التعقيد، فلأول مرة تنقسم الدول الغربية هكذا حول ما ينبغى فعله، فلقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية، مدعومة من كندا وأستراليا تريد أن يُصاغ مشروع القرار الذى يطرح على مجلس المحافظين صياغة متشددة تدين إيران، وكانت الدول الأوروبية الثلاث المتفاوضة مع إيران تسعى للتخفيف من هذه الصيغة.
وفى إيران كان المفاوضون النوويون يؤكدون للصحافة الإيرانية وللمؤسسات السياسية فى طهران أن استمرار التعاون مع الوكالة له فوائده السياسية لصالح إيران، وعلى هذا فإن قيام مجلس المحافظين بتبنى صيغة متشددة تجاه إيران كان من شأنه أن يُضعف موقف هؤلاء المفاوضين. فى الوقت نفسه فإن الدول النامية كانت بدورها غير راضية عن صياغة المسودة الأولى لمشروع القرار.
وفى ما يمثل سابقة، طلب الإيرانيون وساطتى، وفعل الأمريكيون الشىء نفسه من خلال رسالة نقلها إلىّ سفير الولايات المتحدة الأمريكية فى ڤيينا من وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول»، وفى النهاية تم التوصل إلى قرار توافقى قَبِل به الأمريكيون والإيرانيون. وعلى الرغم من أن الأمر انتهى بصورة مُرضية، إلا أنه أصبح من الواضح أن مجلس المحافظين صار مسرحًا للتجاذب والاختلافات حول الملف الإيرانى بصورة تنذر بالمزيد من الانقسام الدولى.
وبعد أيام من اجتماع مجلس المحافظين ذهبتُ للقاء الرئيس الأمريكى «بوش» بناءً على دعوة غير متوقعة. كنت قبل فترة وجيزة قد نشرت مقالا فى صحيفة «نيويورك تايمز» حول مسألة منع انتشار الأسلحة النووية وسبل مكافحة الانتشار السرى لهذه الأسلحة، وهو الأمر الذى كان «بوش» قد تطرق إليه بدوره فى خطاب أخير له. ولقد جاءت دعوة «بوش» للزيارة قبيل انعقاد اجتماع مجلس المحافظين عبر وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول»، وهى الدعوة التى قبلتها بالطبع، وإن كنت فضلت أن لا تأتى الزيارة إلا بعد الانتهاء من أعمال مجلس المحافظين، خشية أن يُنظر إليها على أنها تؤثر على الموقف الذى سأعرضه أمام المجلس.
وقُبيل لقائى مع «بوش» التقيت مع «ريتشارد آرميتاج» مساعد وزير الخارجية الأمريكى الذى ذكّرنى ببوادر حُسن النية التى أبدتها واشنطن إزاء طهران من خلال المساعدات الإنسانية التى قدمتها لإيران بعد تعرض مدينة بام الإيرانية لزلزال شديد التدمير فى ديسمبر من عام2003، وهى المساعدات التى رفضتها إيران فى البداية ثم عادت وغيرت موقفها. وقد تصادف أن ذلك جاء بعد أسبوع من توقيع إيران البروتوكول الإضافى وما تبعه من تصريحات إيجابية أدلى بها «باول» حول إمكانية الحوار مع طهران، لكن الأمور لم تتطور أكثر من ذلك.
واستقبلنى «بوش» بحديث ودود حول لعبة البيسبول التى أهتم بها وأتابعها، وتحدثنا قليلا عن أحد الفرق، ثم انتقل اللقاء، الذى تم بمشاركة «آرميتاج» ووزير الطاقة «سبنسر إبراهام» و«كوندوليزا رايس» و«بوب جوزيف» الذى يعمل مع «رايس» فى مجلس الأمن القومى، إلى ملف الأسلحة النووية، وكان يرافقنى الأمريكى «دافيد واللر» نائب المدير العام لشؤون الإدارة بالوكالة، وهو صديق أثق فيه. وقد بادر «بوش» بالقول: «سمعت أن لديك أفكارًا حول تعزيز نظام منع انتشار الأسلحة النووية».
وقدمتُ له عرضًا موجزًا للأفكار التى تضمنتها مقالة «نيويورك تايمز»، مشيرا إلى أهمية السعى لتقليل استخدام اليورانيوم عالى التخصيب للأغراض السلمية، والتوسع فى استخدام اليورانيوم منخفض التخصيب، لا سيما فى المفاعلات البحثية، بما يمثل تقليلا مباشرًا لمخاطر انتشار الأسلحة النووية، مشيرًا إلى أن عملية تحويل مفاعلات الأبحاث من استخدام يورانيوم عالى التخصيب إلى يورانيوم منخفض التخصيب ستحتاج إلى نحو 50 مليون دولار كل عام على مدى أربعة أو خمسة أعوام، فكان تعليقه «إن هذا لا يبدو بالمبلغ الكبير»، ثم وجّه سؤاله لوزير الطاقة الأمريكى حول «ما إذا كان من الممكن تنفيذ هذه الخطة»، فأجابه «إبراهام»: «بالطبع يمكننا تنفيذ هذا الأمر». وقد نما إلى علمى فى ما بعد أن وزارة الطاقة الأمريكية كانت تعمل على خطة مشابهة، ولكن بعد هذا اللقاء مع «بوش» أصبحت تتابع تنفيذ الخطة بتعليمات مباشرة من الرئيس.
من ناحية أخرى، تطرقتُ فى حديثى إلى ضرورة تقليل عدد الدول المالكة لدورة الوقود النووى الكاملة، مشيرًا إلى أنه يوجد بالفعل نحو 13 دولة لديها القدرة للوصول إلى المراحل النهائية لهذه الدورة، قلت إننا إذا حاولنا الحيلولة دون زيادة هذا العدد من الدول، فإن الدول التى شارفت على الحصول على التكنولوجيا اللازمة لتشغيل الدورة الكاملة للوقود النووى لن تكون بالضرورة سعيدة بأية خطوات تُتخذ فى هذا الصدد.
وعند تلك النقطة انتقل الحديث منطقيًّا إلى الملف الإيرانى، ولأن أجواء النقاش كانت جيدة فقد قررت أن أنتهج الصراحة الكاملة، وذكرت أنى -بصرف النظر عن الخلافات الأيديولوجية- لا بد أن يكون هناك تحرك جاد للتعامل مع إيران على نحو عملى من خلال منح طهران حزمة جيدة من الحوافز يصعب عليها رفضها، ثم العمل بعد ذلك للوصول إلى وَقْف طوعى لحصول أى دولة أخرى على التكنولوجيا اللازمة لامتلاك دورة الوقود النووى، فما كان من «بوش» إلا أن قال: «أنا مستريح لهذا الشخص الذى يفكر بصورة براجماتية». وقد كان هذا التعليق مفاجئًا لى.
ثم قال «بوش» إنه يود أن يكون هناك تحرك قانونى نحو منع الدول التى تمتلك منشآت لتشغيل دورة الوقود النووى من نقل هذه التكنولوجيا إلى دول أخرى، فأشرت إلى أن ذلك يتعارض مع ما تسمح به معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وأن النجاح فى هذا الصدد من الأرجح أن يتحقق من خلال توافق دولى على فرض حظر طوعى على نقل هذه التكنولوجيا، على أن يكون ذلك مقترنًا بضمانات حول توفير الوقود النووى، مع تأكيد الدول النووية التزامها بنزع الأسلحة النووية.
وفى ما يخص إيران على وجه التحديد أكدتُ للرئيس «بوش» أن إطلاق التهديدات فى وجه طهران لن يجدى، فالمهم أن تكون هناك أسباب لتحفيز إيران على التعاون، مشيرًا إلى أن «الحل الأمثل للتعامل مع الملف الإيرانى يكمن فى الجمع بين الدبلوماسية، والتحقق من خلال الوكالة الدولية مما يجرى على الأرض هناك».
ومرة ثانية فاجأنى الرئيس «بوش»، حيث قال لى إن ما اقترحتُه «لا يمثل فقط الحل الأمثل، بل هو الحل الأوحد، بخلاف الحل الإسرائيلى»، مشيرًا إلى أن «هناك خشية أن تلجأ إسرائيل لاستخدام القوة» ضد إيران.
ولقد تريثتُ على أمل أن يُفصح عن شىء ما حول التوجهات الإسرائيلية فى هذا الشأن، ولكنه لم يقل شيئًا واضحًا، وظل حديثه يتسم بالتعميم الشديد، فلم أكن أعرف إذا ما كانت لديه معلومات بالفعل حول الخطط الإسرائيلية أم أنه ليست لديه معلومات محددة. وألمح «بوش» فى هذه الجلسة إلى أن هدف الولايات المتحدة الأمريكية من تشديد الضغط على إيران هو تفادى لجوء إسرائيل لاستخدام القوة، وتذكرت محادثة دارت بينى وبين وزير الخارجية البريطانى «جاك سترو» و«يوشكا فيشر» وزير الخارجية الألمانى، حيث قالا لى إن الدول الأوروبية الثلاث المشاركة فى المفاوضات النووية إنما تسعى لأن تكون «درعًا بشريّة» لإيران من خلال الحوار الذى تأمل أن يحول دون قيام الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل بتوجيه ضربة لإيران.
ولقد شهدت هذه المرحلة تباينًا للرؤى داخل الإدارة الأمريكية حول سبل التعامل مع إيران، فكان جناح الصقور يرى ضرورة توجيه ضربة عسكرية لإيران والقيام بعملية لتغيير النظام الحاكم بها دون أن يأخذوا أى عظة مما حدث فى العراق. لقد كان هؤلاء الصقور ينظرون إلى إيران بوصفها تهديدًا لوجود إسرائيل، وكانوا يرفضون أى حوار قد يعطى أى شرعية للنظام بها. أما الجناح الآخر والذى كنت أعتقد أنه كان يضم الرئيس «بوش» نفسه و«كوندوليزا رايس»، بغض النظر عن التصريحات المتشددة التى يدليان بها، فقد كان يرى أن الحوار والتفاوض هما الطريق الأمثل للتعامل مع هذا الأمر، لكنهم كانوا يُصرون فى الوقت نفسه على أن الطريق إلى التفاوض يجب أن تسبقه تلبية إيران مجموعة من الشروط المسبقة. وكان هناك فريق ثالث يضم مسؤولين مثل «باول» و«آرميتاج»، وكان يميل إلى الدخول فى حوار دون شروط مسبقة عن قناعة أن الحل للملف الإيرانى هو بالضرورة حل دبلوماسى.
وكنت قد أحضرتُ معى رسالة من حسن روحانى، نيابة عن النظام الإيرانى، تفيد باستعداد إيران للدخول فى حوار مع الولايات المتحدة حول جميع القضايا، بما فى ذلك البرنامج النووى لطهران، وقضايا أوسع تتعلق بالأمن الإقليمى. ولقد كانت هذه الرسالة مكتوبة على صفحة واحدة من ورق أبيض لا يحمل أى إشارة لهوية الراسل، كما أن الرسالة لم تكن تحمل توقيعًا، ولكننى قمت بتقديم هذه الرسالة إلى «بوش» مؤكدًا أنها موجهة من روحانى، ومشددًا على أهمية شروع الولايات المتحدة فى حوار مع إيران.
وكان تعقيب «بوش»: «أحب أن يكون الحديث بين القادة بصورة مباشرة، ولكننى لا أظن أن الزعيم الإيرانى مستعد لذلك، لأنه منشغل جدًّا بأفكار تدمير إسرائيل»، وكان ذلك إشارة منه إلى آية الله خامنئى. ثم أشار «بوش» إلى أن إيران تحتجز نحو 40 من عناصر «القاعدة» من أصول سعودية ومصرية كورقة للتفاوض، مع علمها باهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالوصول إلى هذه العناصر.
وفى المجمل شعرتُ أن «بوش» كان يؤكد -على طريقته الخاصة- اعتقادى بأن الحوار بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يجلب الكثير من الفوائد للطرفين، بما فى ذلك قيام إيران بدعم فُرص الأمن فى العراق بالنظر إلى العلاقة التى تربطها مع الشيعة هناك. ولقد أشرتُ إلى أن الحوار هو أحد دلائل الاحترام، وأنه بالنسبة إلى دول الشرق الأوسط وثقافتها، فإن إبداء الاحترام هو أمر أساسى فى اتجاه الوصول إلى تسوية سلمية لأية مشكلة.
وكان هناك العديدون فى النظام الإيرانى الذين يودون إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بهدف التوصل إلى «صفقة كبرى» تشمل ملفات الأمن والتجارة، ونظرة إسرائيل إلى الخطر العسكرى الإيرانى، وأمورًا أخرى تتعلق بتطبيع كامل للعلاقات بين طهران وواشنطن. وهذا كان فى رأيى فحوى رسالة روحانى، ولكن لم يَبْد لى أن «بوش» أو «رايس» كانا فى هذا الوقت على استعداد للتعامل مع آفاق مثل هذا التوجه.
وقرب نهاية اللقاء اقترحتُ عقد مؤتمر دولى لدعم أهداف نظام منع انتشار الأسلحة النووية، وعلى الفور لاقى هذا الاقتراح قبولا واضحًا من «رايس» التى قالت إنه «طالما فكرت فى أننا نحتاج لمثل هذا المؤتمر»، وكان واضحًا أن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن وسيلة لإثبات الزعامة الدولية، خصوصًا فى هذا العام الانتخابى الذى كان ملف أسلحة الدمار الشامل فيه ملفًا بارزًا.
وقد منحنى هذا الاجتماع بعض أسباب التفاؤل، حيث إن الاجتماع كان أكثر عمقًا مما كنتُ قد توقعت، ثم زادت أسباب التفاؤل خلال لقاء تالٍ مع «جورج تنيت» مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الذى يتمتع بمهنية عالية وقدرة على الحديث المباشر، وقد لاحظتُ تحسب «تنيت» من استخدام العبارات المبالغ فيها حول تقييم الوضع بالنسبة إلى البرنامج النووى فى إيران، وهو ما مثَّل اختلافًا كبيرًا عن لغة الاستخبارات قبل حرب العراق. وكان «تنيت» نفسه مقتنعًا بأن الهدف من البرنامج النووى الإيرانى هو إنتاج أسلحة نووية، غير أنه أقر بأنه لم يكن لديه دليل مباشر على ذلك، أو حسب لغة العاملين فى أجهزة المخابرات، لم تكن لديه «معلومات يمكن التحرك على أساسها»، وبالتالى فلقد كان «تنيت» يأمل أن تنكشف النوايا الإيرانية فى مرحلة ما من مراحل التفتيش على منشآتها النووية.
ولقد قدم لى «تنيت» بذلك توضيحا لِما كنت أسمعه عبر وسائل الإعلام الأمريكية ومن المسؤولين الأمريكيين حول تأكد واشنطن من سعى إيران لامتلاك الأسلحة النووية، على الرغم من عدم تقديم أى دليل على ذلك. وفى ما استطعتُ أن أخلص إليه فإن أجهزة المخابرات الأمريكية تمكنت من خلال تتبع لمحادثات تليفونية وما إلى ذلك، أن تضع يدها على انخراط بعض أفراد الحرس الثورى الإيرانى فى البرنامج النووى الإيرانى، بما فى ذلك القيام ببعض المشتريات الخاصة بهذا البرنامج، ولكن لم تكن هناك معلومات تفيد بوجود رابطة بين هذا البرنامج وبين برنامج نووى عسكرى. وبالتالى فإن التحرك الأمريكى كان يهدف للضغط على إيران فى انتظار التوصل إلى دليل دامغ أو فى انتظار أن يتقدم شخص ما بمعلومات حاسمة فى هذا الصدد.
ولم تكن إيران تساعد نفسها فى علاقتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإخفاؤها المتعمد لمعلومات حول جهود تطوير أجهزة التخصيب من طراز «P-2» وإلغاؤها المفاجئ للزيارة المقررة لمفتشى الوكالة إلى «ناتانز» خلق انطباعًا سلبيًّا لدى الوكالة. ورأيتُ أنه لا بد أن يتم الحديث مع طهران بصورة حاسمة، وقررتُ أن أقوم بنفسى بهذه المهمة من خلال زيارة لطهران.
وفى طهران أخبرتُ كل مسؤول التقيتُ به بدءًا من الرئيس خاتمى ووصولا إلى وزير الخارجية كمال خرازى أننى سئمت سياسة المماطلة والتأخير التى تتبعها إيران فى تعاملاتها مع الوكالة. ولقد أبديتُ للرئيس خاتمى -على وجه التحديد- معاملة جافة تختلف عما أبديته خلال آخر لقاء جمعنى به، لأنه وببساطة خدعنى فى ذلك اللقاء، واخترت أن لا أدخل فى مواجهة حول هذا الأمر، واكتفيت بأن يكون حديثى معه دالا على أن موقفى منه قد تغير.
كما أحطتُ الرئيس خاتمى وكل من قابلتهم بأن صبر مجلس محافظى الوكالة أخذ فى النفاد، وأن إيران لم يعد لديها نفس القدر من الدعم والمساندة، وأن ملفها أصبح خلافيّا. وأكدتُ لهم أنه لم يعد أمام إيران سوى التعاون المتواصل والأمين مع الوكالة، وأن أى شىء خلاف ذلك سيُلحق الأذى بالموقف الإيرانى.
فى الوقت نفسه أحطتُ روحانى وخاتمى بالنقاط الأساسية التى خلصت إليها من لقائى مع «بوش»، بما فى ذلك تشكك الرئيس الأمريكى فى نوايا إيران للحوار. وأخبرتهم أن الولايات المتحدة الأمريكية تنتظر أن تقوم إيران بتسليم عناصر «القاعدة» المحتجزين لديها إلى بلادهم، كما أخبرتهم بعدم ارتياح واشنطن لما أبدته طهران من تردد فى قبول المساعدات الإنسانية الأمريكية فى أعقاب زلزال «بام» فى ديسمبر 2003
aymaan noor 01-10-2012, 11:14 AM سنوات الخداع - الحلقة الخامسة عشر
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/09/elb0-0031.jpg
محمد البرادعى وكولين باول
أبدى خاتمى استياءه من التشكك الأمريكى، وأشار إلى تحسن العلاقات بين واشنطن وطهران فى عهد الرئيس الأمريكى كلينتون، الذى جعل خاتمى يقدم اعتذارا لأُسر الرهائن الأمريكيين الذين كان قد تم احتجازهم فى إيران عند اندلاع الثورة الإسلامية، وقال إنه فى ردها على هذه اللفتة قامت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت بالاعتراف بدور المخابرات المركزية الأمريكية فى عملية الإطاحة برئيس الوزراء مصدق فى 1953، وإعادة الشاه إلى موقعه، كما أنها أيضا قامت برفع الحظر عن الصادرات الإيرانية من الكافيار والفستق والسجاد وقد فتحت هذه اللفتة الباب أمام تجارة بملايين الدولارات.
وألح خاتمى فى القول على أن مجىء إدارة الرئيس بوش كان السبب وراء تراجع التقدم الحادث فى العلاقات الأمريكية الإيرانية، وذلك على الرغم من الدعم الذى قدمته طهران لحرب الولايات المتحدة فى أفغانستان وفى أثناء الاستعداد للحرب على العراق، مشيرا على وجه التحديد إلى لقاءات تمت فى هذا الصدد فى السليمانية بكردستان العراق ولندن. وقال خاتمى إنه فى مقابل هذه المساعدة وهذا التعاون فإن كل ما جنيناه هو أنه أصبح يطلق علينا أننا جزء من محور الشر.
كما أبدى وزير الخارجية خرازى أيضا استياءه إزاء المساعدة الأمريكية بعد زلزال بام، وقال إنه بعد عقود من العقوبات والمقاطعة الاقتصادية التى خلفت آثارا مروعة فإن الولايات المتحدة الأمريكية تأتى بعد الزلزال لتقدم لنا عشرة ملايين دولار، كما لو كانت صدقة. وأضاف: إن هؤلاء ليس لديهم أى تقدير لذهنية الآخرين وطريقة تفكيرهم.
فى الوقت نفسه أبدى خرازى استعداد طهران للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية فى ما يخص عناصر القاعدة، لكنه أضاف أن إيران تريد فى المقابل أن تتعاون الولايات المتحدة الأمريكية معها فى ما يتعلق بمجاهدى خلق؛ وهى منظمة مسلحة من المعارضين الإيرانيين الذين يسعون للإطاحة بالنظام الإيرانى.
وأبدى الإيرانيون استعدادا لمزيد من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكنهم لفتوا إلى أن الانطباع السائد فى طهران هو أن العلاقة بين إيران والوكالة لم تفد إيران بشىء، بل إن المتشددين الذين أصبحت لديهم أغلبية فى البرلمان الإيرانى يلومون الحكومة الإيرانية على قرارها وقف تخصيب اليورانيوم، لمجرد إرضاء الغرب دون الحصول على أى شىء فى المقابل، وأن المعتدلين الذين كانوا يسعون لحل سلمى وتحسين العلاقات مع الغرب لم يعد لديهم نفس التأثير فى دوائر اتخاذ القرار أو فى الرأى العام.
وأشار روحانى إلى أنه إذا جاء تقريرى حول تطورات الوضع بالنسبة إلى إيران فى اجتماع يونيه لمجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتقييم سلبى، فإنه وزملاءه لن يكون بمقدورهم الاستمرار فى التعاون مع الوكالة أو حتى الاحتفاظ بمناصبهم. لقد كان المعتدلون يأملون على الأقل فى الحصول على رد فعل إيجابى من الأوروبيين حتى يتمكنوا من إبلاغ الرأى العام فى بلادهم أن السياسة التى يتبعونها هى سياسة مجدية.
كانت مشكلة الإيرانيين حسبما كنت أراها أنهم بالغوا فى الاحتفاء ببرنامجهم النووى أمام شعبهم، بل إنهم قدموه على أنه بمثابة جوهرة التاج بالنسبة إلى الإنجازات العلمية للأمة الإيرانية، وبالتالى أصبح من الصعب عليهم أن يشرحوا أسباب قرار تعليق العمل فى هذا البرنامج، وبالطبع فهم لم يهتموا بأن يبلغوا الشعب الإيرانى أن أسباب وقف نشاط البرنامج النووى إنما ترجع إلى أن إيران قد خدعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية لسنوات طويلة، واختاروا بدلا من ذلك أن يخبروا مواطنيهم أن الضغوط التى تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على الوكالة هى السبب وراء تباطؤ عملية التحقق من تفاصيل البرنامج النووى الإيرانى. ولم يكن الموقف الإيرانى فى هذا الشأن يختلف عما كان عليه الأمر فى العراق وكوريا الشمالية، فادعاء كل من واشنطن وطهران سوء نية الطرف الآخر من أجل الاستهلاك المحلى.
والحقيقة أنه بمجرد إطلاق حملة الدعاية من طرف ضد الآخر فإنه يصعب السيطرة عليها أو كبح جماحها، ولعل ما تعرضت له شخصيّا أحيانا من جانب الصحافة الإيرانية يوضح كيف يُصنع الرأى العام، حيث نشرت جريدة «طهران تايمز» أن البرادعى أصبح شخصا سلبيّا ومحبطا بالنظر إلى الضغوط الشديدة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية. وسألنى الصحفيون الإيرانيون مرارا كيف أتعامل مع هذه الضغوط. قلت مبتسما: إننى أتعرض لضغوط من الجميع، سواء من الأمريكيين أم الإيرانيين أم غيرهم. ولكننى فى الحقيقة لم آخذ الأمر بهذه الخفة، لأنه أصبح واضحا بالنسبة إلىّ، ليس فقط من هذه الأسئلة، ولكن أيضا من مجمل التغطية الصحفية، أن البرنامج النووى الإيرانى أصبح بالفعل مسألة مرتبطة بالكرامة الوطنية فى إيران، ولم يكن هذا مما يسهل التوصل إلى حل حول الخلافات القائمة.
ومما زاد الأمر صعوبة أن الإيرانيين كان لديهم اعتقاد بأنهم يملكون أوراقا يستطيعون بها الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، مثل تعقيد الوضع على الساحة العراقية بصورة أكبر، كما أشار روحانى إلى ذلك فى حديثه معى، وهو الأمر الذى حاولت أن أُثنيه عنه.
وعند عودتى من طهران اقترحت على كين بريل؛ السفير الأمريكى، وعلى جون وولف مساعد وزير الخارجية الأمريكى، النظر فى إيجاد طريق لبدء الحوار مع طهران أو على الأقل إبداء بادرة لحسن النيات. وقلت لهما: إذا ما كنا جميعا نتفق على أن الهدف هو أن لا تحصل إيران على السلاح النووى فيجب علينا أن نتفق على استراتيجية تمكننا من تحقيق هذا الهدف فى النهاية.
وأبلغت ممثلى الدول الأوروبية الثلاث بنفس الرأى، وأوضحت لهم أن موقف المتشددين يقوى فى إيران بسبب ضعف النتائج التى تخرج بها طهران من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقلت لهم إن السياسة القائمة على ممارسة الضغوط لن تكفى وحدها، خصوصا أن أحدا فى الغرب ليس لديه الدليل على أن إيران تطور سلاحا نوويّا. وأشرت إلى أنه فى حال لم تحصل إيران على حوافز فإن النظام قد يلجأ إلى عديد من الخطوات من بينها إعادة تخصيب اليورانيوم، أو التراجع عن الالتزام بالبروتوكول الإضافى، أو حتى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كليّا.
ولكن كل هذا لم يؤد إلى النتيجة المبتغاة، وعوضا عن ذلك تبنى مجلس المحافظين فى يونيه موقفا يستنكر عدم تعاون إيران تعاونا كاملا فى التوقيت السليم وبصورة إيجابية مع الوكالة. وبالطبع فإن هذه الانتقادات كان لها ما يبررها إلى حد ما، ولكنها أدت إلى إغضاب طهران بصورة شديدة. لقد كان من شأن هذا التقييم أن يقوى موقف المتشددين الرافضين التعاون مع الوكالة الدولية، وبالفعل فبعد عدة أسابيع أبلغت طهران الوكالة أنها ستعاود برامجها لتطوير أجهزة التخصيب ولكن دون استخدام مواد نووية. ولقد طالبتُ طهران بإعادة النظر فى هذا الموقف، ولكن مطالبتى لم تؤد إلى أى نتيجة، وبالفعل بدأت إيران فى إعادة تشغيل المنشآت التى كانت الوكالة قد أغلقتها ووضعت بذلك حدّا للوقف الطوعى للبحث والتطوير فى مجال التخصيب.
بعد ما حدث فى اجتماع مجلس المحافظين فى يونيه، وما تبعه، توجهت بنداءات شخصية إلى كولين باول ومعاونيه فى الخارجية الأمريكية للبدء فى الانخراط فى حوار مباشر مع إيران، مشيرا إلى أن كل ما تحتاج إليه إيران هو ستة أشهر تستطيع خلالها، فى ظل استمرار عدم وجود دليل على سعيها لامتلاك سلاح نووى، أن تجعل عملية تخصيب اليورانيوم أمرا واقعا، وأن ثمن وقفه سيكون باهظا. وأشرت فى الوقت نفسه إلى أن الاقتراح الذى يردده البعض بإحالة الملف الإيرانى إلى مجلس الأمن لن يجدى، لأن الرد الإيرانى على هذه الخطوة قد يكون بالانسحاب تماما من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما يعنى أننا سنكون أمام نموذج مكرر لحالة كوريا الشمالية.
وفى إحدى المحادثات المغلقة التى أجريتها مع كولين باول قال لى «لو أن الأمر بيدى لالتقيت غدا وزير الخارجية الإيرانى خرازى».
وكانت المشكلة فى تحليل باول هو أن الشعور المعادى لإيران فى الولايات المتحدة الأمريكية لم يضعف منذ أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين فى السفارة الأمريكية بطهران عند اندلاع الثورة الإسلامية؛ وهو ما يجعل من الصعب البدء فى حوار مباشر بين أمريكا وإيران. ومن جانبها أبدت كوندوليزا رايس أيضا تجاوبا غير متوقع مع حديثى، وطرحَتْ علىَّ بعض الأسئلة حول روحانى وشخصيته، مبدية الانطباع بأنها على الأقل ليست رافضة فكرة الحوار.
وفى خلال لقاء جمعنى به فى منزله الصيفى فى موسكو، قدم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إسهاما بنّاءً؛ فلقد أبدى بوتين، عكسا لما كان يردَّد فى الغرب، رفضه إصرار إيران على الحصول على الأسلحة النووية وتشكك فى احتياجها إلى القدرات المتعلقة بالتخصيب، غير أنه قال إن إيران فى الوقت نفسه يجب أن تحصل على حزمة من المساعدات الجذابة بما فى ذلك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية. وأيد فكرة وجود ضمان دولى لإمدادها بوقود المفاعلات. وفى اللقاء نفسه تقدم بوتين باقتراح لإنشاء مستودع دولى للوقود النووى المستنفد، ولقد رحبت بهذه الفكرة بشدة لأننى كنت أعتقد أنه سيكون لها إسهام إيجابى فى الحد من مخاطر الانتشار وفى تحقيق بعض أسباب الأمان النووى، وخرجت من لقائى مع بوتين يحدونى الأمل فى أن تُسهم روسيا فى إيجاد حل ما للأزمة الإيرانية.
بالتوازى مع ذلك كان خبراء الوكالة يبذلون كل ما فى وسعهم للتعرف على مصدر جزيئات اليورانيوم المخصب التى عُثر عليها فى أماكن مختلفة فى إيران، وما إذا كانت مماثلة لتلك المستخدمة فى البرنامج النووى الباكستانى، وهو الأمر الذى كان يتطلب الحصول على عينات بيئية من أجهزة الطرد المستخدمة فى باكستان، ولكننى علمت بعد ذلك من سفير باكستان أن واشنطن أبلغتهم أن باكستان تعاونت مع الوكالة بما فيه الكفاية، وبدا لى من هذا أن البعض فى واشنطن كان لا يريد تسوية هذه المسألة؛ بحيث تستمر معلقة للضغط على إيران.
شعرت بالسأم من تلك المناورات التى تدور خلف الأبواب المغلقة، وما تؤدى إليه من إبطاء فى تحقيق أى تقدم، وناشدت باكستان التعاون بشدة، وهى ما قررت أن تفعله ولكن على الطريقة التى تتناسب مع كونها ليست عضوا فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما اضطررنا معه إلى أن نقبل أن يقوم خبراء باكستانيون بإمدادنا بالعينات المطلوبة عوضا عن أن يقوم مفتشو الوكالة بالذهاب إلى المواقع النووية الباكستانية، التى هى مواقع عسكرية، لأخذ العينات. وتم الاتفاق على أن يتم نقل العينات بآلية محددة تضمن أنه لا يتم التلاعب بها.
ومع منتصف أغسطس تبين لنا أن العينات التى حصلنا عليها من باكستان مقاربة إلى حد كبير لتلك التى وجدناها فى ناتانز وفى شركة «كالاى» مما يدعم ما كانت إيران قد قالته. ولكننا كنا ما زلنا ندرس العينات للوصول إلى نتيجة قاطعة.
وكنا نقترب من موعد اجتماع مجلس المحافظين المقرر فى شهر سبتمبر 2004، وكنت أشعر أننا سنواجَه مرة ثانية بنفس الأسلوب من جانب الولايات المتحدة وإيران: حملة إعلامية أمريكية شديدة ضد إيران تدّعى الحصول على دليل جديد على سعى إيران للحصول على أسلحة نووية، ومعلومات مهمة تقدمها إيران للوكالة أو دعوتها لزيارة مواقع معينة، ولكن فى وقت متأخر قبل إصدار التقرير الدورى للوكالة بما يحول دون تمكّن الوكالة من التحقق منها وإدراجها فى تقريرها إلى مجلس المحافظين.
وكما هى عادته فى سعيه للتأثير على مناقشات المجلس، كان جون بولتون هو من أطلق شرارة البدء هذه المرة من خلال حوار مع برنامج «نيوز نايت» على الـ«بى بى سى»، حيث أشار إلى عودة إيران إلى تصنيع أجهزة الطرد، ومن ثَمَّ فإنه لم يعد كافيا قصر معالجة الملف الإيرانى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأضاف بنوع من السخرية: تلك المنظمة الرائعة وغير المعروفة القابعة فى ڤيينا. واقترح بولتون إحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن الدولى، وكان أعجب ما فى هذا الاقتراح أنه يأتى من بولتون الذى لم يكن أبدا من دعاة الدبلوماسية متعددة الأطراف.
وبعد ثلاثة أيام من بدء اجتماعات المجلس، وقبل مناقشة برنامج إيران النووى، أذاعت محطة «إيه بى سى» صورا ملتقطة بالقمر الصناعى لموقع عسكرى فى بارشين؛ على بُعد أربعين كيلومترا جنوب شرق طهران، ومع هذه الصور أذاعت القناة التليفزيونية الأمريكية تعليقا لـديفيد أولبرايت مدير أحد المعاهد الأمريكية المتخصصة فى دراسة قضايا الأمن، خصوصا مع ما يتعلق منها بقضايا الانتشار النووى. وفى تعليقه قال أولبرايت إنه يعتقد أن هذه الصورة قد تكون لموقع أُجريت فيه اختبارات لتفجيرات نووية. عقب ذلك مباشرة نقلت وكالة «الأسوشيتد برس» تصريحا نقلا عن مصدر رفض ذكر اسمه فى بعثة الولايات المتحدة الأمريكية بڤيينا يوجه إلىَّ النقد لأننى لم أُشر فى تقريرى الذى قدمته حول إيران إلى موقع بارشين، مع التلميح أننى تعمدت عدم الإشارة إلى هذا الأمر.
وكان هذا الادعاء لا أساس له من الصحة بالمرة، ولم يكن وراءه من دافع سوى محاولة الإيحاء بانحياز الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحقيقة أن الوكالة كانت قد أثارت ملف موقع بارشين مع طهران، وأن المعلومات التى لدينا كانت تفيد بأنه موقع عسكرى استُخدم لصنع واختبار متفجرات كيميائية. وكانت الوكالة عازمة على الاستمرار فى أسئلتها لإيران حول هذا الموقع، ولكن فى تلك اللحظة لم يكن هناك أى دليل على الإطلاق بارتباط هذا الموقع بأى نشاطات نووية. ولم تساعد مثل هذه الألاعيب الأمريكية بطبيعة الحال على إقناع الإيرانيين بعدم استئناف إنتاج أجهزة الطرد المركزى.
وفى منتصف أكتوبر 2004 تحققت خطوة متقدمة. فقد أفادت الدول الأوروبية الثلاث التى لم تتوقف عن محاولة إيجاد حل دبلوماسى؛ باستعداد إيران للدخول فى حوار حول مستقبل برنامجها النووى. وقد طالبت الدول الأوروبية إيران، كشرط مسبق لبدء التفاوض، أن تعود لوقف نشاطاتها النووية بما فى ذلك إنتاج الأجهزة الخاصة بالتخصيب، وجاء الرد الإيرانى إيجابيّا حيث وافقت طهران على أن تتوقف جميع هذه النشاطات فى الوقت الذى تُجرى فيه المفاوضات.
وكان التوقيت بالغ الحساسية؛ حيث إن مزاج السياسة الداخلية الإيرانية كان يتجه نحو التشدد.
وحسب ما خلصت إليه من نقاش مع سيروس ناصر؛ وهو واحد من ألمع وأذكى المفاوضين الإيرانيين، فإن كل المرشحين للانتخابات الرئاسية القادمة فى إيران ينتمون إلى التيار المتشدد الذى يدعو إلى المواجهة مع الغرب. وبالطبع فكان مما يخدم هذا التيار أن يدعو إلى المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل على مزيد من الأصوات، حتى إذا تحول بعد عام أو عامين أو نحو ذلك ليحاول الحصول على رصيد سياسى جديد بالعمل على الحصول على تسوية سياسية مع واشنطن. وفى الوقت نفسه كان من شأن ذلك التوجه أن يقوّى من شوكة الحرس الثورى الإيرانى؛ وهو ما يعنى النكوص عن عديد من الإصلاحات التى شهدتها إيران خلال السنوات القليلة السابقة.
وحسب ما قاله لى ناصرى فى تلك المقابلة، فإنه بغض النظر عمن سيتم انتخابه للرئاسة فإنه ولأسباب محلية سيستحيل على إيران أن تستمر فى وقف برنامجها للتخصيب النووى؛ لأنه لا يمكن لأى زعيم إيرانى أن يوقف ذلك البرنامج النووى الذى تحملت إيران كثيرا فى سبيله. وتطرق الحديث مع ناصرى لما تردد عن احتمالات عمل عسكرى أمريكى أو إسرائيلى ضد المنشآت النووية الإيرانية، وهو الأمر الذى لم يبد لى أن الإيرانيين كان لديهم كثير من القلق بشأنه؛ لأن إيران بدا أن لديها التكنولوجيا النووية لإعادة بناء أى منشأة قد يُجرى هدمها فى خلال أشهر قليلة وبعيدا عن الأعين وهكذا قال لى ناصرى.
وفى ظل كل ذلك كان الاقتراح الأوروبى بالوقف الاختيارى لأنشطة التخصيب فرصة لإيران لا يمكن إهدارها، ولكن الخلاف انصبّ على ما يمكن وصفه تحديدا بأنه أنشطة متعلقة بالتخصيب. فإعلان طهران فى أكتوبر 2003 يقوم على الوقف الاختيارى لجميع أنشطة تخصيب اليورانيوم وتجهيزه، فهل يشمل ذلك المرحلة التحضيرية لتحويل اليورانيوم؟ وهل يشمل صنع أجهزة الطرد؟ وبعد مناقشات فنية مطولة أصبح من الواضح ضرورة اللجوء إلى محكم.. وهكذا قررت إيران والدول الأوروبية الثلاث اللجوء إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وهكذا وجدنا أنفسنا مرة أخرى فى مفترق طرق بين التكنولوجيا والسياسة. حيث إن التوصيف الفنى البسيط لما يمكن اعتباره أنشطة تخصيب كان سيقتصر على وقف استخدام مواد نووية فى أجهزة الطرد المتوالية، وكان من شأن ذلك أن يناسب إيران كثيرا، ولكن ذلك لم يكن ليرضى الأوروبيين الذين أرادوا لإيران أن تتحرك فى إطار بناء الثقة، وبالتالى فإن التعريف الذى كانوا سيقبلون به كان أوسع كثيرا من ذلك التعريف الذى ترضى به إيران. وبالرغم من كل الجهود التى بذلتها الوكالة لتقديم التعريفات المطلوبة إلا أن عام 2004 اقترب من الانتهاء بينما لم يكن قد تم التوصل إلى اتفاق بعد.
وكان الغرب قد بدأ يشعر بنفاد الصبر بينما كانت إيران مستمرة دون توقف فى نشاطاتها النووية بما فى ذلك إنتاج غاز «UF6»؛ وهى مادة التلقيم اللازمة للتخصيب، ثم قامت فى شهر أغسطس بتجهيز 37 طنّا من الكعكة الصفراء وهى مادة مركزة من اليورانيوم، من أجل تجربة خطوط الإنتاج فى منشأة تحويل اليورانيوم فى أصفهان.
وفى النهاية توصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تعريف كان الطرفان على استعداد للقبول به مما فتح الباب أمام توقيع اتفاقية باريس فى 14 نوفمبر، واتفق الطرفان على التفاوض بحسن نية، ووافقت إيران على وقف جميع أنشطة تحويل اليورانيوم، وتجميع واختبار أجهزة الطرد، بل ووَقْف استيراد مكوناتها. وأقرت إيران بأن استمرار عملها بوقف نشاطات التخصيب، حسب التعريف الذى تم التوصل إليه، هو أمر ضرورى لاستمرار التفاوض.
ولقد ساد التفاؤل بما يكفى لوضع خطة للتفاوض تتجاوز الملف النووى لتشمل جملة من القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية، بما فى ذلك الاتفاق على ضمانات مؤكدة للتعاون فى مجال التكنولوجيا النووية السلمية. بل إن الدول الأوروبية وافقت على تقديم دعم لإيران للتفاوض من أجل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. كما اتفق الطرفان على العمل من أجل مكافحة الإرهاب بما فى ذلك نشاطات تنظيم القاعدة وجماعة مجاهدى خلق. كما أعرب الجانبان عن دعمهما عملية سياسية تؤدى إلى وصول حكومة عراقية منتخبة إلى الحكم.
وفى أثناء التوقيع قام روحانى، بوصفه كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين بالتركيز على عدة نقاط، طالب الجميع بأخذها فى الاعتبار؛ وأولها أن قرار إيران بوقف النشاطات النووية كان قرارا اختياريّا، وليس هناك إلزام قانونى بشأنه، وثانيها أن المفاوضات التى ستُجرى لا يجب أن يكون الهدف من ورائها محاولة دفع إيران نحو وقف قدرتها على تطوير دورة الوقود النووى الكاملة، ولم يكن هناك خلاف حول تلك النقطة الأخيرة؛ لأن الأوروبيين كما ذكروا لم يكونوا يسعون للحيلولة دون تطوير إيران دورة الوقود النووى، بل الحصول على ضمانات لها مصداقية أن البرنامج النووى الإيرانى هو برنامج للأغراض السلمية فقط.
وتحركت إيران بسرعة لتنفيذ الاتفاق، وبعد أسبوع واحد أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران قد قامت بالفعل بتنفيذ ما تعهدت به.
aymaan noor 02-10-2012, 08:22 AM سنوات الخداع - الحلقة السادسة عشر
كان لتوقيع اتفاقية باريس، كما اتُّفِق على تسميتها، أثر إيجابى على اجتماع مجلس محافظى الوكالة فى شهر نوفمبر. وفى البداية بدا أن الأمريكيين كانوا يشعرون بالرضا، بل إنهم أعربوا عن التقدير للعرض الشامل الذى قدمتُه حول أعمال التفتيش التى تمت فى إيران حتى ذلك الوقت، فى ما مثَّل اختلافًا كبيرًا عن المواقف الأمريكية المعتادة، والتى استمرت حتى أشهر قليلة مضت عندما أثاروا الضجة المفتعلة حول موقع «بارشين».
والأكثر من ذلك أن أمريكا لم تعمل على إيقاف قرار مجلس المحافظين الصادر عن اجتماع نوفمبر حول إيران على الرغم من عدم رضا واشنطن عنه، وعلى الرغم مما قالته «جاكى ساندرز» مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية، وأحد أقرب معاونى «بولتون»، من أن شيئًا ذات قيمة لم يتغير فى الملف الإيرانى، وإن الولايات المتحدة الأمريكية كانت «تتوقع للأسف ما جاء فى هذا التقرير»، وإنها كانت أيضًا على استعداد لإحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن بمفردها دون الحصول على توافق من مجلس المحافظين، ولكنهم مع ذلك تركوا القرار يمر.
أما الإيرانيون فكان لديهم تفاؤل بأنهم حققوا نقلة كبيرة فى التعامل مع هذا الملف، وبالتالى ادّعى ناصرى أنه راح فى إغفاءة فى أثناء الاجتماع بينما كانت «ساندرز» تُدلى بكلمتها، بينما وصف روحانى دعم مجلس المحافظين لاتفاقية باريس بـ«الانتصار الكبير».
ثم أدلى روحانى بحديث لـ«بى بى سى»، وقال: «إن العالم بأسره تجاهل دعوة أمريكا لإحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن». وفى محاولة فى ما يبدو للحصول على إعجاب الإيرانيين، بالغ روحانى بعض الشىء فى وصفه الحالة المزاجية «المنهزمة» لمندوبة الولايات المتحدة الأمريكية، وقال: «إن المفاوضات القادمة هى فرصة تاريخية لإيران والدول الأوروبية أن تثبت أن الدبلوماسية القائمة على القرارات الأحادية لا تجدى».
وكان التوصل إلى الاتفاق هو الجزء الأسهل من عملية التفاوض، ولقد بدا واضحًا لى من خلال محادثاتى مع الأوروبيين أنهم يعلمون يقينًا بوجوب تقديم حزمة حوافز مشجعة للإيرانيين، فى نهاية التفاوض. وكان الألمان هم الأكثر تفاؤلًا بالنتائج المتوقعة للمفاوضات، بينما اتسم الموقف البريطانى بالتحفظ حرصًا على عدم إغضاب الأمريكيين. أما الفرنسيون فقد اتخذوا موقفًا وسطًا بين الألمان والبريطانيين، غير أنهم جميعًا بدوا متفائلين، خصوصًا بعد أن دعمت مجموعة الثمانى الاتفاق وأقرت تقديم تنازلات كبيرة لإيران.
بعد ذلك تزايدت التوقعات طوال عدة أشهر، بأن تؤدى عملية التفاوض هذه إلى إيجاد حل للأزمة الإيرانية. وكانت إيران تتعاون بقوة مع الوكالة ولم يبقَ سوى بعض المسائل الواجب التعامل معها فى ما يتعلق بالتفتيش. وبحلول جلسة مجلس المحافظين فى مارس 2005 فإن ملف إيران لم يكن على الأجندة للمرة الأولى فى نحو عامين، وهو الأمر الذى سارع الإيرانيون بالإشارة إليه على أنه دليل على حدوث تقدم. بل إن البعض أشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على استعداد ربما للتعاون مع الأوروبيين فى تقديم حوافز إلى إيران.
لكن مع الوقت بدأ القلق الإيرانى يتزايد، حيث لم تكن المفاوضات تحقق التقدم المرجوّ، وكان روحانى يقع تحت ضغط كبير من حكومته ليأتى بثمار التعاون الذى أبداه فى صورة ملموسة وواضحة. وكان روحانى يُلح على الأوروبيين للموافقة على قيام إيران باستئناف بعض جوانب عملياتها النووية ولو على مستوى البحث والتطوير. وحسبما فهمت فإن خطة إيران كانت تهدف إلى استكمال منشأة لتحويل اليورانيوم دون أن تصل إلى مرحلة تطوير هذه العملية لأغراض التصنيع، وكذا مشروع صغير للتخصيب. على أن يتم الاتفاق بعد ذلك مع الأوروبيين على إيقاف منشأة التخصيب الكبيرة فى «ناتانز» لعدد من السنوات. هذا الأمر صاغه روحانى فى صورة مقترح مكتوب تقدم به إلى الدول الأوروبية المفاوضة فى مارس 2005، مشيرًا إلى أن إيران يمكن أن تبدأ التخصيب بخمس مئة جهاز طرد يمكن أن تزداد مع الوقت إلى ثلاثة آلاف، وهى تقل كثيرًا عن الأربعة والخمسين ألف جهاز التى يمكن تشغيلها فى «ناتانز» عندما تعمل بكامل طاقتها. وأشار روحانى إلى أن هذا المقترح هو صياغة أولية قابلة للتعديل فى ضوء المناقشات مع الأوروبيين. وكان أهم ما فى الأمر بالنسبة إليه الرسالة التى يوجهها إلى الشعب الإيرانى بأن برنامج التخصيب الإيرانى ما زال جاريًا. وكان بوسع الوكالة أن تراقب الأنشطة فى المنشأة الصغيرة، كما أن إيران كانت ستوقف أنشطتها لأغراض التصنيع. وكانت إيران تأمل فى الحصول مقابل ذلك على مفاعلات الطاقة النووية من الغرب وغيرها من أشكال التكنولوجيا، والاتفاقات التجارية والحوافز الإضافية.
وكانت الانتخابات الرئاسية الإيرانية تقترب، حيث كان الموعد المقرر لها هو يونيو، وكانت لهجة الحوار السياسى فى إيران تحتدم. وفى مايو قالت إيران إن عدم تقديم الأوربيين عرضًا محددًا لإيران يمثل مخالفة لاتفاقية باريس، بل إن طهران هددت باستئناف النشاطات النووية التى كانت قد أوقفتها، وطالب الأوروبيون بمزيد من الوقت لصياغة مقترح يقدمونه إلى الإيرانيين الذين وافقوا على الانتظار حتى منتصف أغسطس.
وفى منتصف يونيو انتخب الإيرانيون محمود أحمدى نجاد، وهو واحد من أكثر الرجال المتشددين من بين كل الذين كانوا يخوضون انتخابات الرئاسة الإيرانية. وبعد هذه الانتخابات مباشرة، وقبل حصول إيران على المقترح الأوروبى، كانت طهران تلمّح بالفعل إلى اعتزامها استئناف بعض من الأنشطة التى كانت قد أوقفتها، وعادت أجواء التشاؤم لتسود الدوائر الدبلوماسية.
وبعد شهرين بدت المفاوضات على وشك الانهيار الكامل، حيث جاء العرض الأوروبى خاليًا من الكثير من النقاط المتفق عليها خلال اجتماع باريس، كما أنه جاء خاليًا من أى إشارة إلى تقديم مفاعلات نووية لتوليد الطاقة، واقتصر على عرض تقديم مفاعلات للأغراض البحثية.
وكان بإمكان الفرنسيين أن يقدموا إلى إيران تكنولوجيا مفاعلات القوى لو لم تكن شركة «آريفا» الفرنسية المنتجة للمفاعلات النووية تخشى إغضاب الولايات المتحدة الأمريكية حرصًا على معاملاتها التجارية مع السوق الأمريكية، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد رفضت منح «آريفا» الموافقة على تقديم مفاعل لإيران، ومن ثَمَّ اقتصر العرض الأوروبى على إشارة مبهمة إلى منح إيران إمكانية الوصول إلى أسواق التكنولوجيا النووية الأجنبية.
وقد قال لى بعضهم إن الأوروبيين حاولوا تطبيق سياسة إيران فى التفاوض القائمة على المساومة، كما يحدث فى المحلات التجارية، بمعنى أن لا يقدموا أقصى ما لديهم فى العرض الأول، ولكن النتائج كانت كارثية لأن العرض لم يكن فقط متواضعًا، بل إنه وصل إلى الدرجة التى يمكن وصفه بأنه جسَّد تعاليًا على إيران. ووصل الأمر إلى حد أن الأوروبيين ذكروا أنهم سيتولون العلماء الإيرانيين برعايتهم إذا لم تعد هناك حاجة إليهم بعد أن يتوقف التخصيب فى إيران. لقد تحدث اتفاق باريس، شأنه شأن إعلان طهران، عن التزام إيران بتقديم «ضمانات موضوعية» عن الطبيعة السلمية لأنشطتها النووية. لكن الأوربيين بدؤوا يحاولون تفسير ذلك فى العرض المقدم منهم على أنه التزام بحظر الأنشطة الخاصة بدورة الوقود النووى على عكس كل التصريحات والبيانات التى أدلى بها روحانى وزملاؤه.
وحاول الإيرانيون حَمْل الأوروبيين على النظر فى إمكانية قيام إيران بتحويل اليورانيوم على الأقل، بوصف أن ذلك من شأنه أن يُحسن من صورة النظام أمام الرأى العام، وأن يشير إلى أن إيران لم تتخل تمامًا عن إنجازاتها النووية. وكان هناك اقتراح بأن تقوم إيران بإنتاج «uf6» ثم تصدّره إلى جنوب إفريقيا لتخزينه. ولكن العواصم الغربية لم تكن مستعدة للقبول بالطلب الإيرانى. وقبل أن يعلن الأوروبيون عن مقترحهم كنت قد أشرت عليهم بالنظر فى أن يتضمن المقترح إشارة إلى إمكانية استئناف إيران لبعض من النشاطات التى قررت إيقافها، وذلك لأننى كنت أخشى انهيار المفاوضات بصورة كاملة.
ولأن الفرنسيين كانوا قد تولوا صياغة العرض الأوروبى فقد ذهبت مباشرة إلى المدير السياسى فى وزارة الخارجية الفرنسية «ستنسيلاس دولابولاى» بهذا المقترح، ولكن جاء الرد بأن هذا المقترح متأخر لأن التوافق قد تم التوصل إليه بين الأطراف الأوروبية الثلاثة، ولم يعد من الممكن تعديله.
وقبل الإعلان عن العرض الأوروبى ألمحتْ فرنسا لإيران بفحواه، فكان ذلك مخيبًا لآمال الإيرانيين الذين شعروا أن أشهر من المفاوضات ذهبت هباء.
وفى 3 أغسطس تولَّى أحمدى نجاد الحكم، وقام بإعادة تشكيل الحكومة، وكان من بين الذين تم إعفاؤهم من مناصبهم روحانى وفريقه المعاون، وتم تعيين على لاريجانى أمينًا عامًّا لمجلس الأمن الوطنى الأعلى فى إيران. وبدأت إيران بسرعة فى تزويد منشأة التحويل فى أصفهان بأكسيد اليورانيوم. وبعد إعلان المقترح الأوروبى فى العاشر من أغسطس قررت إيران استئناف كامل نشاطاتها وفضت الأختام التى كانت الوكالة قد وضعتها على المنشأة.
وعقد مجلس محافظى الوكالة الدولية جلسة خاصة حث فيها إيران على العودة إلى وقف أنشطتها النووية، وفى 24 سبتمبر ذهب المجلس إلى أبعد من ذلك بالإشارة إلى أن تاريخ إيران الطويل من محاولة إخفاء الحقائق، وعدم الإبلاغ عن أنشطتها يعد من قبيل «عدم الامتثال»، وهى إشارة توحى بأن احتمال إحالة الملف إلى مجلس الأمن أصبح مؤكدًا.
وبهذا بدأت مرحلة جديدة من مراحل الأزمة النووية الإيرانية.
ينص نموذج اتفاق الضمانات النابع من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية على أن قرار إحالة الدول التى توصم بـ«عدم الامتثال» من عدمه هو أمر يخضع لتقدير مجلس المحافظين. وبالنسبة إلى حالة إيران كنت دومًا أسعى لتفادى استخدام تعبير «عدم الامتثال» وأستخدم تعبيرات أخرى، مثل خرق أو انتهاك الالتزامات لتفادى التأثير على مجلس المحافظين. ومن جانبه لم يكن المجلس مندفعًا نحو إحالة إيران إلى مجلس الأمن، واكتفى باستخدام هذا الاحتمال كوسيلة من وسائل الضغط والتفاوض، مع العلم أن أمريكا كانت تود لو تم إحالة الملف إلى مجلس الأمن منذ البداية وأنها كانت تلوم على الوكالة عدم استخدام تعبير «عدم الامتثال».
ومما جعل مسألة إحالة موضوع إيران إلى مجلس الأمن محل شك أنه فى ذلك التوقيت لم تكن هناك أى مستجدات فى ما يتعلق بما يمكن وصفه بعدم امتثال إيران، وهو الأمر الذى كان معروفًا منذ عامين. بل إن الفترة الأخيرة قد شهدت تطورات إيجابية تتعلق بقيام الوكالة بنشاطات محددة فى ما يتعلق بالتحقق من طبيعة النشاطات النووية للبرنامج الإيرانى. وبالتالى فإن إحالة الملف إلى مجلس الأمن كان يهدف بالأساس إلى وقف التخصيب الذى تقوم به إيران، وهو الأمر الذى يعتبر من حقها حسب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، عن طريق الإشارة إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بتهديد السلم والأمن الدوليين.
ولطالما سُئلت إذا ما كان العرض الأوروبى بالصورة التى جاء عليها قد أهدر فرصة للتوصل إلى اتفاق نهائى حول البرنامج النووى الإيرانى؟ وما إذا كانت محدودية العرض والضغوط التى مارستها أمريكا على الشركة الفرنسية لعدم منح إيران التكنولوجيا الفرنسية قد أهدر هذه الفرصة؟ والإجابة عن هذا السؤال أمر صعب لأن أحدًا لا يعلم يقينًا ما الذى كانت ستكون عليه الأمور لو اختلفت بعض المعطيات، ولأن أحدًا لا يستطيع الجزم بالنوايا الحقيقية لأى من الأطراف: إيران، والدول الأوروبية، وأمريكا. لقد كان الموقف بالغ التعقيد.
لكن الواضح هو أن إيران كانت تعتقد أن تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان يمكن أن يَحُول دون تحويل ملفها إلى مجلس الأمن، وأنها كانت تنظر للتفاوض مع الأوروبيين على أنه بداية الطريق للتوصل إلى تفاهم مع الأمريكيين. وإزاء عدم تحقق هذه النتائج، الأمر الذى بات واضحًا بحلول أغسطس 2005، قررت طهران الحد من تعاونها مع الوكالة على أمل أن يؤدى ذلك إلى تنازلات من الغرب. وكما اتضح فى الشهور والسنوات التالية فإن الموقف الغربى المتشدد والإصرار على رفض المطلب الإيرانى باستعادة جزء صغير من نشاطها النووى لم يؤدِّ إلى شىء.
إن محاولة تغليب مبادئ نظرية على التفكير العملى لم تؤدِّ إلى شىء. وفى اعتقادى أنه لو جاء العرض الأوروبى أفضل قليلًا وتضمن مزايا محددة لإيران، لكانت إيران قد استمرت فى وقف برنامجها للتخصيب، أو حتى قصرته على عمليات البحث والتطوير، مع استمرار التفاوض للوصول إلى اتفاق. إن ما كانت إيران تسعى للحصول عليه هو التكنولوجيا الغربية، سواء التكنولوجيا النووية لتوليد القوى أم غيرها من أنماط التكنولوجيا التى حالت العقوبات الأمريكية المفروضة دون حصول إيران عليها. ولكن المعارضة الأمريكية حالت دون تحقيق ذلك الهدف، وكانت النتائج متوقعة بأن تعود إيران إلى أنشطة تحويل اليورانيوم ثم تخصيبه، وأن ترفع سقف المطالب مع مرور الوقت.
ولم يفقد المجتمع الدولى الأمل مباشرة فى التوصل إلى حل، ففى نوفمبر 2005 كان هناك مقترح لتقوم إيران بأولى مراحل تحويل اليورانيوم فى منشآت أصفهان ثم شحن الناتج من «uf6» إلى روسيا لتخصيبه ثم استخدامه وقودًا للمفاعل الإيرانى، إلا أن قوى الرفض ضد هذا المقترح كانت شديدة.
ليبيا الاكتشاف والتفكيك
فى مايو 2003 وبينما كنا منشغلين بالكشف عما تخفيه إيران مما يتعلق ببرنامجها النووى، علمت لأول مرة، من مسؤول بريطانى أنه ربما يكون هناك ما يستدعى القلق بشأن ليبيا، وأشار إلى مفاعل بحثى نووى بمدينة تاجورا شرق طرابلس، ولم يحدد الأسباب التى تثير هذا القلق. وعندما طرحت عليه أسئلة حول هذا الأمر قال إنه سيرتب لى زيارة إلى لندن حيث أستطيع أن أحصل على معلومات أكثر توثيقًا وعمقًا.
وعندما نما أمر هذا اللقاء إلى علم بعض أعضاء الخارجية الأمريكية من المحافظين الجدد طلبوا من بريطانيا عدم إطلاع الوكالة الدولية للطاقة الذرية على ما لديها من معلومات. وكان هذا الموقف متطابقًا مع طبيعة تفكير تلك المجموعة ونظرتها إلى الأمم المتحدة ومنظماتها، والقائم على أفضلية عمل الولايات المتحدة بمفردها وليس فى إطار المجتمع الدولى. نظرة قاصرة ولكنها كانت سائدة فى أثناء ولاية الرئيس بوش الابن.
وعلى الرغم من أن السلوك البريطانى إزاء مثل هذه الأمور كان يتسم بدرجة أعلى من التفهُّم بالنسبة إلى أهمية المنظمات الدولية فى إدارة المشكلات الدولية فإننى وبعد مضى ثمانية أشهر على هذا اللقاء لم يكن لدىّ أى معلومات إضافية حول هذا الملف.
وفى الثامن عشر من ديسمبر 2003 علمت من «جراهام أندرو»، وهو بريطانى ال***ية وواحد من مساعدىّ المقربين، أنه تلقى رسالة من بلاده تفيد بقرب الإعلان عن أمر هام بشأن ليبيا، مشيرا إلى أن أهمية الإعلان المتوقع كبيرة لدرجة أنه ربما يأتى على لسان الرئيس «بوش» ورئيس الوزراء «بلير». ورأى «أندرو» أنه ربما يكون من الأفضل أن أرجئ رحلة كنت أعتزم القيام بها إلى الهند اليوم التالى بعد تأجيل متكرر.
وفى مساء اليوم ذاته تلقيت رسالة من معتوق محمد معتوق نائب رئيس الوزراء الليبى لشؤون العلوم والتكنولوجيا، الذى أخبرنى أن وزير خارجية ليبيا على وشك الإعلان عن اعتزام بلاده القيام بتفكيك برنامج للأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل كانت بحوزتها. وبالنسبة إلىّ فإن أمر امتلاك ليبيا أسلحة دمار شامل كان جديدًا تمامًا، واقترح علىّ معتوق أن يقوم بزيارة إلى فيينا ليطلعنى على مزيد من التفاصيل، وهو ما تم الاتفاق عليه وبالتالى تأجلت زيارتى إلى الهند مرة أخرى.
وبالفعل فى اليوم التالى وصل معتوق وهو رجل قصير القامة له شعر مصبوغ باللون الأسود ومعه وفد مرافق من نحو 20 شخصًا من الدبلوماسيين والعلماء والمسؤولين، كان سلوكه بادى الاحترام والمهنية. وبعد المجاملات التقليدية دخلت إلى اجتماع منفرد وحديث مباشر مع معتوق، الذى ظل لسنوات عديدة ضمن دائرة الحكم فى ليبيا.
وملخص القصة أن ليبيا تقوم منذ سنوات بتنفيذ برنامج لتخصيب اليورانيوم، وأشار إلى أن ليبيا حصلت على المعدات والتكنولوجيا النووية والمواد اللازمة لتطوير البرنامج عن طريق العالِم النووى الباكستانى الشهير عبد القدير خان، ومن خلال شبكة من الشركات والأفراد.
وبينما كنت أستمع لمعتوق أدركت أن ما يخبرنى به لا يتعلق فقط بما قامت به ليبيا للحصول على سلاح نووى، ولكن بما يدور فى السوق السوداء للتكنولوجيا والمواد النووية. ولقد أشار معتوق فى حديثه إلى المساعدة التى تلقتها ليبيا من بعض أصدقائها فى جنوب إفريقيا، كما أشار إلى حادثة تسرب بعض المعلومات المخابراتية التى أدت إلى غارة إيطالية على سفينة شحن ألمانية كانت تنقل معدات نووية إلى ليبيا صُنعت فى ماليزيا.
وأكثر ما أقلقنى فى ما قاله لى معتوق إن خان كان قد زار ليبيا مؤخرًا ومعه كيسان عليهما اسم ترزى فى كراتشى، ولكن فى الحقيقة فإن ما كان بداخل هذين الكيسين هو تصميمات لتصنيع السلاح النووى، وقد ذكر خان لمعتوق عندما أعطاه هذين الكيسين أنه «قد تحتاجون إلى تلك المعلومات فى المستقبل»، وقد ذكر معتوق أنه ما زال يحتفظ بهذين الكيسين فى الخزانة الخاصة به.
ويجب أن أُقر بأننى ذُهلت من مدى اتساع الأنشطة النووية السرية لليبيا كما وصفها معتوق. وفى الوقت نفسه فإننى كنت أفكر فى ما يمكن أن تحصل عليه الوكالة من معلومات إضافية عن تلك الأنشطة من خلال التفتيش حيث إن ليبيا هى طرف فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
وأخبرنى معتوق أن حكومته دخلت فى مفاوضات سرية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لمدة تسعة أشهر للوصول إلى صفقة تقوم ليبيا بموجبها بالتخلى عن برنامجها لأسلحة الدمار الشامل، وأشار إلى أن ليبيا «أرادت أن تخبر الوكالة، ولكنهم لم يسمحوا لنا أن نقوم بذلك». اعتدلت فى مقعدى ولم أعلق بشىء على تلك الملاحظة الأخيرة.
وفى اليوم التالى زارنى مسؤولون أمريكيون وبريطانيون فى منزلى للنقاش حول ملف ليبيا، ولم أَسْع لإخفاء استيائى وقلت لهم بصراحة: «أنا لا أفهم ما الصعوبات فى الموضوع، فأمريكا وبريطانيا وليبيا، أعضاء فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والمفترض حسب ما تقتضيه هذه المعاهدة أنه على أمريكا وبريطانيا أن تبلغا الوكالة عندما تصل لهما معلومات تفيد بأن ليبيا تقوم بخرق التزاماتها المقررة فى الاتفاقية، بحيث تستطيع الوكالة أن تتخذ الإجراءات اللازمة».
ولم يعلق ضيوفى على ما قلت، ولكن بعد فترة وجيزة تلقيت اتصالًا هاتفيًّا من وزير الخارجية البريطانى «جاك سترو»، يعتذر لى عن عدم إطلاعى على المعلومات التى قال لى إنها لم تكن متاحة سوى لما لا يزيد على أربعة أشخاص فى الحكومة البريطانية.
وبعد ذلك اتصل بى وزير الخارجية الأمريكية «كولن باول»، الذى عبّر عن نفس الموقف، مشيرًا إلى أن قرار إبقاء الأمر قيد السرية الشديدة إنما يرجع إلى أن أحدًا لم يكن واثقًا من الطريقة التى ستسير بها المفاوضات مع الجانب الليبى، ولم يكن أحد يريد أن يتعرّض للحرج فى حالة ما لم تنجح المفاوضات.
ولم أجد فى ما قاله «باول» ما يقنعنى. وفى ما بعد علمت من أحد المسؤولين فى المخابرات البريطانية أن السبب وراء التكتم الشديد الذى أحاط بهذا الأمر كان يتعلق بالرغبة فى عدم وصول أى معلومات عنها إلى المتشددين فى الولايات المتحدة الأمريكية خشية إفساد المفاوضات الهادفة للتوصل إلى تسوية سلمية لملف أسلحة الدمار الشامل الليبية. وبالتالى كان هناك حرص أن لا يُعلموا بالأمر إلا عندما يتم التوصل إلى اتفاق مع ليبيا.
لم يكن ذلك هو الفارق الوحيد، فالأمريكيون عادة ما يكون لديهم رؤى محددة حول كيفية تفسير المعلومات الأولية، بينما ينظر إليها البريطانيون بغير جمود بحيث يتركون الوقائع تتحدث عن نفسها. ومما يلفت الانتباه ما ذكره لى معارفى فى بريطانيا من أنه على الرغم من قيام رئيس المخابرات المركزية الأمريكية بإحاطة الرئيس الأمريكى بما لديه من معلومات كل صباح، فإن المخابرات المركزية الأمريكية نادرًا ما تشارك فى صنع القرار، على خلاف الحال بالنسبة إلى المخابرات البريطانية.
قيل لى إن نشأة البرنامج النووى الليبى، وغيره من برامج أسلحة الدمار الشامل لدى القذافى، جاءت ردًّا على الغارات التى قامت بها الولايات المتحدة فى أبريل 1986، والتى قتلت فيها ابنة القذافى المتبناة.
aymaan noor 03-10-2012, 09:22 PM سنوات الخداع - الحلقة السابعة عشر
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/10/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%AF%D8%B9%D9%89.p ng
قررت أن أتخذ موقفًا إيجابيًّا إزاء كل ما يجرى، فاصطحبت فريقًا من خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتوجهنا إلى طرابلس فى زيارة استغرقت الأيام القليلة التى تفصل بين عطلة عيد الميلاد ورأس السنة. واصطحبَنَا الليبيون إلى مستودعات المعدات النووية، حيث وجدنا أن برنامجهم كان محدودًا. قيل لنا إنهم كانوا قد بدؤوا تركيب عدد قليل من أجهزة الطرد المتتابعة لاختبارها فقط، وإن مجموعة من تسعة أجهزة هى فقط التى اكتملت، وإن أيًّا منها لم يختبر بمواد نووية. وقال لنا الليبيون إنهم لم يقتربوا بعد من الوصول إلى مراحل الإنتاج الصناعى، كما أنه ليس لديهم برنامج لصنع سلاح نووى.
وكان من الواضح أن ليبيا لديها نحو عشرين جهاز طرد كامل ومكونات لمئتى جهاز آخر من طراز «P–1»، وهو الجيل الأول من الطراز الباكستانى الذى رأيناه فى إيران، وأنها كانت قد طلبت عشرة آلاف جهاز من طراز «P–2» الأكثر تقدمًا، ولكن العديد من مكوناتها الرئيسية لم يكن قد سُلّم بعد. ويبدو أن عبد القدير خان قد حاول المساعدة عن طريق إحدى الشركات فى جنوب إفريقيا، ولكن مسعاه لم ينجح فلجأ إلى شركة أخرى فى ماليزيا، ولكن الليبيين كانوا قد كشفوا عن برنامجهم قبل تصنيع هذه المعدات.
وفى تصريحات صحفية حول ما رأيتُ فى ليبيا وصفتُ حال البرنامج النووى لطرابلس بأنه فى أولى مراحله. غير أننى بالرغم من ذلك كنت قلقًا، حيث إن معدات تحويل اليورانيوم كان قد تم تركيبها بأسلوب منهجى ومنظم فى شكل وحدات، الأمر الذى يدل على أن طرابلس كانت قد حصلت على مساعدة فنية جيدة ومتقدمة من جهة ما، وأن من وضع هذا التصميم السهل ربما يكون فى ذهنه أن يتكرر ذلك مع دول أخرى.
ولم يكن أحد يعلم على وجه الدقة عدد الأشخاص الذين نقل لهم عبد القدير خان ما لديه من معلومات، رغم كثرة ما سمعناه من آراء وشائعات، وفى الوقت نفسه كان القليلون فى ليبيا هم الذين يعلمون حجم المبالغ المالية التى حصل عليها خان نظير الخدمات التى قدمها إلى ليبيا. وبالتالى فإن السؤال المُلِحّ فى أذهاننا جميعًا كان يدور حول العملاء الآخرين الذين استطاعوا التعامل مع هذه الشبكة السرية للإمدادات النووية وتوافرت لهم الموارد المالية اللازمة لدفع مقابل هذه الخدمات.
وبينما كنت فى ليبيا تلقيت دعوة للقاء العقيد معمر القذافى؛ وهو اللقاء الذى تم فى ثكنة باب العزيزية العسكرية فى وسط طرابلس.
وانتظرتُ لقاء القذافى فى غرفة باردة، وكنت سعيدًا بارتداء معطفى فى هذه اللحظات. ثم جاء لتحيتى واحد من أقرب معاونى القذافى؛ وهو بشير صالح بشير الذى أكد لى التزام ليبيا بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعاونًا كاملا. وبعد فترة قصيرة دخل وزير الخارجية عبد الرحمن شلقم إلى الغرفة ودعانى إلى الدخول للقاء العقيد القذافى. وتم اصطحابى إلى غرفة جيدة التدفئة، بها القليل من الأثاث ومكتب كبير ومكتبة واسعة بها مجموعة قليلة من الكتب العربية المتناثرة على رفوفها.
وخلف هذا المكتب كان العقيد القذافى يجلس مرتديًّا جلبابًا ليبيًّا تقليديًّا، ودعانى أنا وشلقم لنجلس على المقاعد المواجهة للمكتب من الناحية الأخرى. ولقد تحدث القذافى بصوت خفيض أكثر مما توقعت، وجاء حديثه به قدر من الود وأيضا قدر من التحفظ.
وما زلت أتذكر بوضوح الكلمات الأولى التى قالها لى خلال هذه الجلسة: «الحقيقة أنا لا أفهم لماذا تكرهك الحكومة المصرية! لقد قال لنا المصريون إنهم يستطيعون مساعدتنا فى تفكيك برنامج أسلحتنا النووية بصورة أفضل من الوكالة الدولية التى ترأسها، ومن العاملين فيها».
ثم سألنى القذافى إذا ما كنت ناصريًّا. وقال: «لقد نشأتَ فى زمن عبد الناصر ولا بد أنك من أشد معجبيه؟»، فأجبتُه بالنفى؛ وهى الإجابة التى ربما خيبت آماله، لأنه كان ينظر إلى عبد الناصر على أنه مثله الأعلى، وأضفت قائلا «إن عبد الناصر كانت لديه أفكار ومبادئ جيدة جدّا، لكن كثيرا من هذه الأفكار وهذه المبادئ أخفق فى التطبيق العملى».
ثم بدأ القذافى يتحدث عن قراره تفكيك الأسلحة النووية التى بحوزة ليبيا، بعد أن وصل إلى قرار أن مثل هذه الأسلحة لا تسهم فى زيادة الأمن الليبى. وأعرب القذافى عن اعتقاده بأنه لا ينبغى لأى دولة، سواء فى الشرق الأوسط أو فى العالم بأسره أن تقتنى الأسلحة النووية. ولقد اتفقتُ مع هذا الطرح بالكامل وبكل حماس. ثم بدأ القذافى يتحدث عن أمور أخرى، بما فى ذلك مكانة ليبيا التى كان يرى أنها على صغر حجمها -من وجهة نظره- لها مكانة كبيرة على ساحة السياسة الدولية، وأخذ يسوق بعض الوقائع للتدليل على ما قاله، ولم تكن كل هذه الوقائع إيجابية على كل الأحوال.
وبدا لى مما قاله القذافى أنه غير متابع لتطورات التحالفات والتغييرات على الساحة الأمنية فى العالم، ومن ذلك أننى عندما تحدثت إليه عن مظلة التأمين النووى لحلف الأطلسى (الناتو) فإنه أمسك بقلم رصاص وبدأ يدون بعض الملحوظات.
والحقيقة أن القذافى تحدث بحماس خلال هذا اللقاء عن رغبته فى تطوير ليبيا، وعن رغبته فى تحسين البنية التحتية، وبناء مزيد من الطرق، وكذلك عن رغبته فى أن يحصل الطلاب الليبيون على مِنح دراسية فى الجامعات الغربية، وأن تحقق ليبيا تقدمًا فى مجال العلوم والتكنولوجيا. وسألنى القذافى عما إذا كنت أستطيع أن أثير هذه الأمور مع «جورج بوش» و«تونى بلير» لأحصل على دعمهما لأفكاره بالنسبة إلى مستقبل ليبيا.
وخلال اللقاء نفسه طلب منى القذافى أن أُدلى بتصريحات تفيد بأن ما قامت به ليبيا ينبغى أن يكون مثلا يُحتذى لغيرها من دول الشرق الأوسط، بما يمكن أن يجعل هذه المنطقة خالية من الأسلحة النووية. وأكدت للقذافى دعمى جهود إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، كما وعدته أن أتحدث مع الأمريكيين والبريطانيين عن تقديم الدعم الاقتصادى لليبيا. وبالفعل فقد أثَرْت هذا الأمر مع «جاك سترو»، وزير الخارجية البريطانى، وعدد من المسؤولين الأمريكيين الذين وعدوا بأن يُبدوا تجاوبا إزاء الاحتياجات الليبية، حيث كانوا يرون أنه من مصلحة الجميع أن تحقق ليبيا نقلة نوعية اقتصادية ومالية بما يسمح بتطبيع العلاقات بين طرابلس والمجتمع الدولى.
ولم تكن زيارتى ليبيا، والتى أتت مباشرة بعد الإعلان الذى قام به «بوش» و«بلير»، مُرحّبًا بها من قِبل جميع المعنيين فى واشنطن، حيث أراد بعض المسؤولين الأمريكيين أن يحصلوا وحدهم على التقدير الكافى للكشف عن برنامج ليبيا السرى لأسلحة الدمار الشامل وأن يتفاوضوا هم مع طرابلس من أجل تفكيكه وإنهائه.
وبالنسبة إلى فإن مسألة التقدير لم تكن ذات بال، وما كان يشغلنى فعلا فى هذا الصدد هو أن أمريكا وبريطانيا لم تقوما بالوفاء بالالتزامات المقررة عليهما بوصفهما طرفين فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، فى ما يتعلق بوجوب إبلاغ الوكالة عن البرنامج السرى الليبى للأنشطة النووية. ولكن بعد أن حصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على هذه المعلومات أصبح لزاما عليها أن تقوم بواجبها القانونى بمتابعة هذا الملف.
وفى 2 يناير 2004، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية تصريحات لرئيس الوزراء الليبى شكرى غانم يطالب فيها الولايات المتحدة الأمريكية بالوفاء بما تعهدت به من التزامات بموجب الصفقة التى قامت ليبيا على أساسها بتفكيك برنامجها للأسلحة النووية، وأهمها رفع العقوبات التى طال عليها الأمد، ومن بينها أن تقوم واشنطن بإنهاء الحظر المفروض على شركات النفط الأمريكية إزاء التعامل مع ليبيا، وكذلك أن ترفع الحظر عن أرصدة ليبية قيمتها مليار دولار أمريكى. وأشار غانم فى نفس التصريحات إلى أن ليبيا ترى أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية هى المسؤولة عن تفكيك برنامج التسلح النووى الليبى.
ولأن هذه التصريحات جاءت بعد أيام قليلة من زيارتى ليبيا فلقد أثارت بالطبع الحساسية الأمريكية. كما نقلت «نيويورك تايمز» فى نفس المقال الذى تضمن تصريحات غانم، تصريحات منسوبة إلى مصدر بالإدارة الأمريكية وصف فيه زيارتى ليبيا بأنها «محاولة غير موفقة للدعاية». وحسب ما نقلته «نيويورك تايمز» عن المسؤول نفسه فإن تفكيك البرنامج الليبى للأسلحة النووية سيتولاه خبراء أمريكيون وبريطانيون. وبدا من تصريحاتهم أن الولاية القانونية الصريحة للوكالة الدولية للطاقة الذرية فى ما يتعلق بالتحقق من الأنشطة النووية فى الدول الأطراف فى المعاهدة لم تكن أمرًا يدخل فى الحسبان لديهم.
كما أن الأمريكيين لم يرُق لهم ما صرحتُ به بأن الوصف المبدئى للبرنامج النووى الليبى يوضح أن هذا البرنامج فى مراحله الأولى وبالنسبة إليهم فإن دور المخابرات الأمريكية والبريطانية فى الكشف عن البرنامج الليبى النووى كان سيكون أكبر لو أنه تم تصوير هذا البرنامج على أنه فى مراحل متقدمة، وأنه يمكن لليبيا أن تكون قريبة من إنتاج أسلحة نووية. وفى كل الأحوال فإن تقييمى الأول تَوافق مع ما خلص إليه خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذين قاموا بزيارات متتالية إلى ليبيا فى الأسابيع والشهور التالية لزيارتى، للتحقق من تفاصيل وطبيعة البرنامج الليبى.
والمثال الجيد على ذلك هو منشأة تحويل اليورانيوم فى صلاح الدين. فقد تبين أن العلماء الليبيين كانوا يعملون من الثمانينيات على مستوى الاختبارات المعملية والتجريبية فى أنشطة تحويل اليورانيوم بمساعدة أحد العلماء الأجانب. وفى سنة 1984 طلبت ليبيا من الخارج معدات منشأة تجريبية لتحويل اليورانيوم فى شكل مكونات محمولة تسلمتها فى 1986، ثم تم تخزينها فى مواقع مختلفة بالقرب من طرابلس حتى سنة 1998 عندما تم تجميعها جزئيًّا ونقلها إلى موقع الخلة. وفى فبراير 2002 بدأ العلماء الليبيون اختبارات «على البارد»، لكنهم عادوا بعد شهرين، وبسبب مخاوف من اختراقات أمنية، بتفكيك المنشأة وتعبئة كل مكوناتها وشحنها إلى موقعها الحالى فى صلاح الدين.
فماذا كان حجم قدرات تحويل اليورانيوم فى موقع صلاح الدين؟ دلت تحاليل العينات التى أخذناها، على أن ليبيا لم تستخدم اليورانيوم فى أى وقت فى هذه المنشأة. وكانت الوحدة التجريبية ذات قدرة محدودة، وليس بإمكانها إنتاج غاز «هيكسا فلورايد» من اليورانيوم، وهو مادة التلقيم اللازمة لتخصيب اليورانيوم. وحتى على المستوى المعملى لم يقم العلماء الليبيون بإنتاج «UF6» محليًّا.
كذلك فإن دورة الوقود النووى لديهم كانت محدودة النطاق والقدرة، كما كانت تفتقر إلى الخبرة العملية. ولم تكن هناك أى عمليات تعدين أو طحن، فقد اقتصرت قدرات التخصيب لديهم على عدد محدود من أجهزة الطرد التى لم يكن بها أى مواد نووية سواء للإنتاج أو لمجرد الاختبار. لقد اشتروا ورش آلات دقيقة لإنتاج أجهزة الطرد محليّا. لكن أجزاءها ظلت فى صناديقها التى تم شحنها فيها. وفى المفاعل البحثى فى تاجورا قاموا بتشعيع عدة مجموعات من أجزاء اليورانيوم معظمها لا يزيد على جرام واحد، وقاموا بفصل البلوتونيوم من اثنين منها بكميات ضئيلة للغاية. ولم يقوموا بأى عمل يتعلق بالتسلح النووى. كانوا قد تلقوا تصميمات، ولكن هذه التصميمات ظلت حبيسة «الأكياس» التى جاءت فيها وظلت محفوظة كما هى فى خزينة معتوق.
وبينما كان عمل مفتشى الوكالة ما زال فى بداياته فقد كانت وكالات الأنباء الغربية تنقل عن مسؤولين فى بريطانيا وأمريكا أن خبراء من البلدين فى طريقهم إلى ليبيا لتفكيك برنامجها للتسلح النووى وشحن المعدات إلى خارج ليبيا. فما كان منى إلا أن اتصلت بمندوب بريطانيا لدى الوكالة «بيتر جينكنز» وقلت له بصراحة ودون مواربة إنه فى حال حدوث ذلك قبل أن تنهى الوكالة عملها، فإننى لن أتردد فى الدعوة إلى عقد اجتماع لمجلس محافظى الوكالة لأخبرهم «أننى بسبب تدخلات بريطانيا وأمريكا فإننى لم أعد قادرًا على القيام بالمسؤوليات القانونية التى تقع على عاتقى بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وأرجوك أن تبلغ حكومتك بموقفى هذا». كنت قد سئمت من تلك الألاعيب وقررت أننى لن أبقى صامتًا.
وبعد أيام قليلة اتصل بى «كولين باول» ليخبرنى أنه سيرسل «بولتون» ونظيره البريطانى «ويليام إهرمان» إلى فيينا ليتناقشا معى حول سبل التعاون بشأن الملف الليبى. وقال لى «باول»: «إنه ينبغى علينا أن نحترم اختصاص الوكالة؛ فى إشارة إلى التفويض القانونى للوكالة الدولية للطاقة الذرية بمقتضى معاهدة منع الانتشار». ثم أضاف «باول»: «وبالطبع نحن أيضا لدينا مصالحنا».
وأجبته: «إننى أتفهم ذلك، ولكننى فى الوقت نفسه لدىّ تفويض من قِبل الدول أعضاء الوكالة ولا يمكنى بأى حال التفريط فيه».
وقد قرر «باول» أن يتوقف عند هذا الحد، وأبلغنى أنه التقى «بولتون» صباح اليوم وأن «بولتون» «يتطلع جدّا للقائى»!
لم أكن واثقًا من مسألة تطلع «بولتون» للقائى، لأننى أتذكر من خلال لقاء سابق لى معه، لدى توليه منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الحد من التسلح والأمن الدولى، قوله إنه سيضطر إلى العمل بطريقة مخالفة لما كان يكتبه، مشيرًا بذلك إلى انتقاداته اللاذعة حول الأمم المتحدة ومنظماتها. ولكن رسالة «باول» المبطنة لى كانت مطمئنة، وهى أن «بولتون» قادم إلى فيينا بتعليمات محددة بأن لا يثير المشكلات.
وفى الحقيقة فإن اللقاء الذى تم بينى وبين «بولتون» بعد هذه المكالمة اتسم بالمهنية. وقد بدا «بولتون» حريصًا على التوصل إلى اتفاق، وبدورى قلت له إننى لا أعتزم التنازل عن الصلاحيات الممنوحة للوكالة ولا عن المسؤوليات المنوطة بها. وفى خلال هذا اللقاء اتفقنا على أن الوقت سيُترك لمفتشى الوكالة للانتهاء من عملهم المتعلق بالتفتيش والتحقق وأخذ العينات، ثم ستتاح الفرصة بعد ذلك للخبراء من أمريكا وبريطانيا لأن يقوموا بتفكيك برنامج ليبيا النووى تأسيسًا على الاتفاق المقرر بين هذه البلدان الثلاثة.
وانتهت المقابلة بصورة ودية، وهو الأمر الذى استراح له جدّا «وليليام إهرمان» الذى يبدو أنه كان يتوقع احتكاكًا بينى وبين «بولتون». والحقيقة أن الاتفاق تم تنفيذه أيضًا بسلاسة دون حدوث أى مشكلات بين مفتشى الوكالة وخبراء أمريكا وبريطانيا.
ومما سهل مهمة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بصورة تكاد تكون غير معتادة، هو التعاون الكامل والابتعاد عن المراوغة من قِبل الليبيين. وإلى جانب ذلك فقد حرص معتوق على القيام بزيارات دورية لى فى فيينا للتأكد من انتظام العمل وعدم وجود أى عوائق. لقد كان عملنا فى ليبيا تغييرًا إيجابيًّا بالمقارنة بالتجارب التى مررنا بها فى العراق وكوريا الشمالية وإيران. وبنهاية يناير كان مفتشو الوكالة قد أنهوا الجزء الأكبر من المرحلة الأهم فى عملية التفتيش والتحقق، ومباشرة بعد ذلك تم تفكيك معدات مخصصة لتشغيل دورة الوقود النووى، وحسب الاتفاق الذى تم بين واشنطن وطرابلس تم شحن هذه المعدات إلى أمريكا.
وفى الثالث والعشرين من فبراير توجهتُ إلى طرابلس لإجراء محادثات، ووجدت فى الفندق الذى أقيم فيه عددًا كبيرًا من رجال الأعمال الغربيين، خصوصًا من العاملين فى مجال البترول، وبعد ذلك تسربت معلومات حول قرب رفع العقوبات المفروضة على التعامل مع ليبيا. وخلال حديثى مع المسؤولين الليبيين الذين كانوا يحاولون اللحاق بكثير من التطورات المتتالية بدا لى أنهم يمكن أن يقعوا فريسة للاستغلال فى هذه المرحلة التى تشهد انفتاحًا جديدًا على ليبيا.
وخلال حديثى مع وزير الخارجية شلقم قال لى إن المشكلة التى تواجه ليبيا هى نقص الكفاءات من المديرين، وبالطبع فإن ذلك كان أمرًا متوقعًا، كون أن ليبيا قد تعرضت للعزلة الدولية لأكثر من عشرين عامًا. وخلال هذه الأعوام العشرين فإن الكثير من الكفاءات والعقول الليبية كانت قد هاجرت، وباستثناء بعض الليبيين الذين حصلوا على التعليم فى الخارج وبعض كبار المهنيين والعلماء النوويين، فإن حظوظ ليبيا من كفاءات الوظائف الحكومية كانت محدودة للغاية.
ومن المسؤولين القليلين التى كانت لديهم خبرة الشؤون الدولية موسى كوسا رئيس المخابرات الليبية، الذى كان قد ذهب لاستكمال دراسته العليا فى العلوم الاجتماعية بجامعة ميتشيجان، وخلال هذه الدراسات قام بكتابة رسالة الماجستير عن معمر القذافى. كما أن شلقم أيضا عاش سنوات طويلة فى الغرب، من بينها السنوات التى أمضاها سفيرًا لبلاده لدى إيطاليا. وقد تبادلتُ الحديث مع الاثنين حول ضرورة اكتساب ليبيا الكفاءات والمهارات التفاوضية، وضرورة أن تحصل ليبيا على عوائد مناسبة وعادلة مقابل مواردها الطبيعية.
وتطرق الحديث مع شلقم وكوسا أيضا إلى التعقيدات التى تحيط بالعلاقات مع دول شمال إفريقيا، وإلى الاتهامات التى تواجه ليبيا فى العالم العربى بعد إعلانها تخليها عن برامج أسلحة الدمار الشامل بأنها باعت ثلاثين عامًا مما يطلق عليه المواقف «الثورية» فى الكثير من الموضوعات.
وقد علمتُ خلال هذه المحادثات أن النظام المصرى -على وجه الخصوص- كان مستاءً من أن ليبيا لم تُخطره عن برامجها لأسلحة الدمار الشامل التى كانت تحاول تطويرها، أو عن مفاوضاتها مع أمريكا وبريطانيا. وكان الرئيس مبارك قد قال فى أحد خطاباته قبل فترة وجيزة من الكشف عن برنامج ليبيا للأسلحة النووية: «أنا أعلم ما لدى ليبيا.. والليبيون ليس لديهم أسلحة دمار شامل». وبالطبع فإن الكشف عن هذا البرنامج مثَّل إحراجا له.
وأرسل الليبيون عبد الله السنوسى رئيس المخابرات العسكرية الليبية وصهر القذافى، إلى مصر لمحاولة تطييب خاطر مبارك، ومع ذلك فإن الصحافة المصرية وجهت النقد إلى القذافى على تخليه عن برنامج التسلح، وهو ما أتبعه القذافى بإنهاء دخول المصريين ليبيا دون تأشيرات، وكان ذلك القرار قاسيًا بالنظر إلى أنه كان هناك قُرابة نصف مليون مصرى يعملون فى ليبيا فى ذلك الوقت. وفى النهاية قرر المصريون وضع حد لانتقادات الصحافة المصرية للقذافى، وبعثت القاهرة بوفد من الحكومة المصرية لمحاولة حمل القذافى على تعديل قراره.
ولم يكن من الصعب أن يخلص المتابع لهذا الأمر إلى أن العلاقات الليبية- المصرية تحكمها الأهواء والانفعالات اللحظية، لا التعاون القائم على التخطيط المنطقى.
من جانبهم كان لدى المسؤولين الليبيين الكثير من النقد للحكومة المصرية، خصوصًا فى ما أشاروا إليه من «تقدم مبارك فى العمر بدرجة لم يعد من الممكن معها أن يقدم الكثير، سواء على الصعيد الداخلى لمصر أم للعالم العربى». وعلق أحدهم قائلا «أنت تعلم أهمية مصر من حيث قيادة العالم العربى، فإذا توقفت القيادة المصرية فإن العالم العربى لا يتحرك كثيرًا، أما إذا تحركت مصر للأمام فإن العالم العربى سيتبعها».
لم تُسهم حملة إعلامية أطلقها وزير الطاقة الأمريكى «سبنسر إبراهام» فى تحسين موقف ليبيا فى العالم العربى. ففى السادس عشر من مارس اتصل بى معتوق ليعرب لى عن غضبه مما يقوم به «إبراهام» الذى أحضر عددًا كبيرًا من الصحفيين ليصوروا بأنفسهم المعدات النووية التى أرسلتها ليبيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد قرارها التخلى عن برنامج التسلح النووى، بينما وصفه «إبراهام» بأنه «انتصار كبير للغاية»، وأن هذه المعدات هى مجرد بداية لما سيصل من ليبيا. وأضاف «إبراهام» أنه «بأى معيار موضوعى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية والعالم المتحضر بأسره أصبح أكثر أمانًا، نتيجة الجهود التى أدت إلى تخلص ليبيا من هذه المواد النووية».
وبغض النظر عن الإهانة التى تضمنتها تصريحات «إبراهام» فى حديثه عن «العالم المتحضر»، فإن تقييمه لما كان يمكن أن يتسبب فيه البرنامج النووى الليبى كان تقديرًا مبالغًا فيه إلى درجة كبيرة، خصوصًا فى ما قاله عن امتلاك ليبيا أربعة آلاف جهاز طرد، لأن معظم هذه الأجهزة لم يكن قد اكتمل. ولفت هذا الأمر انتباه المتخصصين داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، واستدعى انتقاداتهم. وكان من بين هؤلاء «ديفيد أولبرايت» رئيس واحد من أهم المعاهد المتخصصة فى دراسات الأمن النووى والذى قال «إن الحديث عن أن البرنامج الليبى كان خطيرًا جدًّا وأننا يجب أن نكون جميعًا سعداء، هو جزء من حملة دعائية مبالغ فيها يقوم بها البيت الأبيض للحصول على مكاسب سياسية».
ولقد جاء اتصال معتوق بى وأنا فى واشنطن للقاء الرئيس «بوش»، وطالبنى معتوق بالتدخل لدى الأمريكيين لوقف مثل هذه الأنشطة الدعائية التى تضر بصورة ليبيا فى الداخل وفى العالم العربى، وتجعل ليبيا تبدو وكأنها خضعت لرغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى تفكيك برنامجها للتسلح.
aymaan noor 03-10-2012, 11:57 PM سنوات الخداع - الحلقة الثامنة عشر
لم أكن واثقًا ما إذا كان الأمريكيون غير مدركين أن ما قاموا به يمثل إحراجا لليبيا، أو ما إذا كانوا غير مهتمين بهذا الأمر من الأساس. لكن بالنسبة إلى اليبيين كان من الضرورى أن يكون واضحًا للإعلام أن قرار طرابلس التخلص من الأسلحة النووية كان قرارًا متفقًا عليه بين الطرفين، وأنه تم تنفيذه بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد مناقشة طويلة، وفى ضوء قوانين دولية، وتحت إشراف منظمة دولية. ولم تكن للولايات المتحدة الأمريكية الكثير من الشعبية فى العالم العربى فى هذه السنوات، وبالتالى فإن آخر ما كانت تريده ليبيا أن تبدو أنها قد خضعت لضغوط أمريكية عنيفة.
وفى اليوم التالى التقيت «بوش»، وعندما تطرق الحديث إلى ليبيا أعرب لى عن شكره للتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ومن جانبى أشرت إلى الحساسيات التى تحيط بالتعامل فى هذا الملف، وأشرت على وجه الخصوص إلى الاستياء الليبى جراء الطريقة التى تم بها عرض المعدات الليبية أمام وسائل الإعلام. وأضفت أنه ينبغى على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتوخى الحذر فى أن لا تصور القذافى أمام العالم العربى على أنه الرجل الذى خان أمته من أجل العلاقات مع الغرب، مشيرًا إلى أن القذافى لا يحتاج إلى المزيد من النقد فى هذه اللحظة، وأن استمرار أمريكا وبريطانيا فى تصويره على أنه رجل مهزوم لن يخدم على الإطلاق مستقبل العلاقات بين ليبيا وكل من أمريكا وبريطانيا.
ولقد تفهم «بوش» الأمر على الفور وقرر إلغاء استعراض آخر لوصول المعدات الليبية إلى أمريكا بناءً على أوامره. وقال لى «بوش» إنه سيرسل «بيل بيرنز» مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط إلى ليبيا ليعرب لطرابلس عن التقدير لقرارها التخلى عن برامج أسلحة الدمار الشامل. كما أكد لى «بوش» «الالتزام بتطبيع العلاقات مع ليبيا»، وطلب منى إذا ما سنحت الفرصة أن أنقل مودته إلى القذافى.
لكن التعقيدات المحيطة بتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع ليبيا لم تنته، ففى مايو 2004 أخبرنى معتوق أن «جون بولتون» يلح على ليبيا لتوقيع اتفاقية ثنائية بشأن أسلحة الدمار الشامل مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبموجب الاتفاقية المقترحة من «بولتون» فإن واشنطن سيكون لها الحق فى اتخاذ تدابير، تشمل أعمال التفتيش، فى حال ما قامت ليبيا بخرق التزاماتها المقررة فى الاتفاقية أو فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. كما أخبرنى معتوق كذلك أن واشنطن تريد من طرابلس رفع شرط السرية المفروضة على سجلات الوكالة الدولية للطاقة الذرية الخاصة بليبيا حتى تتمكن الولايات المتحدة من الاطلاع عليها.
ونصحت معتوق بأن لا يستجيب إلى أى من المطلبَيْن، وأننى لا أوافق على أن يطَّلع أى شخص على ملفاتنا. فشرط السرية إجراء اعتيادى فى كل ما يتعلق بنظام الضمانات فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما أن ليبيا لا تحتاج إلى التوقيع على ضمانات إضافية، لأن الضمانات التى تلتزم بها ليبيا مع الوكالة كافية، وبالتالى فإن مثل هذا التوقيع لا يمكن فهمه إلا على أنه رخصة غير مبررة من ليبيا للأمريكيين للتدخل فى أى وقت. وبالطبع لم يكن من الصعب إقناع معتوق بذلك.
وفى يونية التقيت شكرى غانم، رئيس وزراء ليبيا الذى أصبح فى ما بعد وزيرا للبترول فى مؤتمر فى فرنسا. وكانت تربطنى بغانم صداقة منذ السنوات التى عمل فيها مديرا للدراسات فى منظمة الأوبك بڤيينا. وأراد غانم أن يُعرفنى بأحدهم: سيف الإسلام القذافى، ثانى أبناء العقيد القذافى، والمسؤول عن التوصل للاتفاقية بين ليبيا وأمريكا وبريطانيا حول برنامج ليبيا للأسلحة النووية.
وعندما وصلا إلى منزلى قام غانم بتقديم سيف الإسلام ثم انصرف، وكان واضحًا أن سيف الإسلام كان يسعى للحصول على النصح حول جملة من القضايا، وبدأ بطرح أسئلة حول صورة ليبيا فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى الغرب عموما. ولم أجد هناك داعيا لمحاولة إخفاء الحقيقة أو تجميلها، فقلت له إن «الغرب لا يثق فى ليبيا، وإنه سيكون عليكم بناء الثقة معهم، وهذا الأمر سيستغرق وقتا». ثم أضفت أنه من الناحية الأخرى فإن ليبيا تثبت الآن أنها تريد أن تأخذ منحى جديدًا بوصفها عضوًا مسؤولا فى المجتمع الدولى، وهو ما يعنى أنه يحق لليبيين طلب المساعدة فى مجالات مثل التعليم والإدارة المالية وغيرها من الاحتياجات الوطنية.
وتحدث سيف الإسلام عن افتقار ليبيا للكفاءات الإدارية الرفيعة فى الحكومة، فكان اقتراحى له اعتماد آلية للتدريب تقوم على إرسال بعض من الإداريين الليبيين إلى الخارج للتدريب والاستعانة فى نفس الوقت ببعض الكفاءات الخارجية لتقديم دورات تدريبية لليبيين فى بلادهم. فى الوقت نفسه كان على ليبيا أن تعمل على تطوير بنيتها التحتية فى أسرع وقت ممكن.
ولقد لاحظت أن عزلة ليبيا عن العالم خلال العقود الماضية كانت لها أثر سلبى كبير على البلاد، ففى عام 1964 كان هناك خط طيران مباشر بين نيويورك وطرابلس، التى كانت تعد فى ذلك الوقت واحدة من المدن المزدهرة على ساحل المتوسط. وفى عام 1970 لجأ الشيخ زايد آل نهيان حاكم الإمارات إلى ليبيا ليحصل على قرض وليجرى عملية جراحية، وبالطبع منذ ذلك الحين تحولت الإمارات العربية المتحدة إلى قوة اقتصادية صاعدة، بينما تراجع حال ليبيا كثيرًا عامًا بعد آخر.
إن أسلوب القذافى فى الحكم يمكن أن يوصف على أقل تقدير بأنه مختلف، ففى أحد الأعوام قرر القذافى وقف مهنة الحلاقة لأنه لم يكن يعتقد أنها مهنة منتجة، وهو ما دفع الليبيين خلال تلك الفترة إلى أن يعتمدوا على أنفسهم فى تهذيب شعرهم، أو للحلاقة فى الخفاء.
كما كان للقذافى أيضا طريقة غريبة فى التعامل مع الشخصيات الدولية، بما فى ذلك قراره لقاء «كوفى أنان» فى خيمة فى وسط الصحراء فى منتصف الليل خلال زيارة الأمين العام للأمم المتحدة لليبيا، لأن القذافى كان مستاءً من قيام الأمم المتحدة بفرض بعض العقوبات على ليبيا مؤخرًا. وإضافة إلى ذلك فإن وصول «أنان» إلى خيمة القذافى استغرق ساعتين مر خلالهما فى دوائر عبر الصحراء فى عتمة الليل مع اختراق صمت الصحراء المطبق لأصوات حيوانات كان «أنان» لا يراها أو يعرف ماهيتها بالضبط.
وفى عام 2004 قام الرئيس الفرنسى «شيراك» لأول مرة بزيارة إلى ليبيا فأحضره القذافى أيضا إلى خيمته، وفى أثناء المباحثات دخل عمال النظافة لتنظيف الخيمة، وبعد أن انصرفوا دخلت عنزة تتجول فى الخيمة.
وإذا ما صدقت مثل هذه الروايات فلا يمكن بسهولة معرفة السبب وراء مثل هذه التصرفات غير المألوفة، وعما إذا كان السبب هو إبداء عدم رضا القذافى عن بعض السياسات التى تتبعها الأمم المتحدة أو فرنسا، أو التأكيد على أن القذافى لا يلتزم بالقواعد البروتوكولية المتعارف عليها فى التعامل مع الشخصيات الدولية الرفيعة.
وفى كل الأحوال فإن آثار عدم الخبرة الناجمة عن سنوات العزلة الطويلة على ليبيا كانت بادية فى الأوجه، سواء فى ذلك نقص الكفاءات الإدارية أم البنية التحتية المتدهورة أم السياسات الداخلية والخارجية «الفريدة» من نوعها، وذلك كله بينما ممثلو الشركات الدولية يتوافدون على ليبيا للحصول على صفقات لاستغلال الموارد الليبية.
ولا بد من القول إننى مع ذلك كنت مندهشا بأن ليبيا، على الرغم من كل العزلة التى تعرضت لها، وعلى الرغم من العقوبات الدولية التى فرضت عليها، فإنها تمكنت بسهولة من تطوير برنامج لأسلحة الدمار الشامل بما فى ذلك برنامج بدائى لتطوير السلاح النووى.
وفى الحقيقة فإننى كنت قلقا من رغبة الكثيرين فى التعامل بسرعة مع هذا الوضع، دون النظر بعمق إلى الدواعى وراء مثل هذا البرنامج النووى السرى، سواء فى ليبيا أم غيرها، والذى تم تطويره عبر عدة عقود من الزمن. فمثل هذه الدواعى لا تستأصل بتوقيع اتفاق واحد أو بعقوبات تفرض على عجل أو بحملة قصف خاطفة أو حتى بخطوات دبلوماسية متفرقة، فتفكيك المعدات والمواد الخطرة هو خطوة أولية فقط فى عملية معقدة. والتغيير الحقيقى فى مثل هذه الحالات يتطلب التزاما طويل الأجل بإقامة علاقات قائمة على الاحترام والثقة المتبادلة. والنجاح النسبى الذى يمكن أن تحققه ليبيا فى إقامة مثل هذه العلاقات مع شركائها الدوليين سيتضح فقط بمرور الوقت.
وقد كنت دائما، وما زلت، منزعجا لرغبة بعض الدول فى ممارسة الخداع وحجب المعلومات بالمخالفة لالتزاماتها الدولية: فليبيا خرقت التزاماتها المقررة حسب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وكلٌّ من أمريكا وبريطانيا حجبت عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية معلومات استخباراتية كشفت عن برنامج ليبى سرى للتسلح النووى إلى أن قررت الكشف عن هذه المعلومات فى الوقت الذى يناسبها هى، ثم قامت بعد ذلك بنشر أحاديث مبالغ فيها عن هذا البرنامج لتحقق أهدافا دعائية.
تساءلت كثيرا وما زلت: إلى أى مدى يمكن أن يتسامح المجتمع الدولى مع مثل هذه الممارسات؟ وإلى أى مدى يمكن أن تستمر قبل أن تأخذ فى النَّيل من مصداقية نظام منع التسلح النووى بكامله؟
aymaan noor 04-10-2012, 12:17 PM سنوات الخداع - الحلقة التاسعة عشر
لقد مثّل الكشف عن الشبكة السرية لعبد القدير خان الحلقة الثالثة فى سلسلة من التغيرات العميقة فى الوضع النووى حول العالم. كان التطور الأول هو خرق دول أعضاء فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لالتزاماتها المقررة فيها، بسعيها سرّا لتطوير أسلحة نووية، كما كان الحال بالنسبة إلى العراق وكوريا الشمالية. ولم تكن ليبيا سوى المثال الأحدث على ذلك. أما الحلقة الثانية فكانت قيام الإرهابيين بتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر فى الولايات المتحدة، وهو ما جعل الكثيرين يتوقفون أمام هذا الأمر ويفكرون فى ما يمكن أن يكون عليه الحال لو أن المجموعات الإرهابية دخلت إلى سوق المواد المشعة. ورأى الخبراء النوويون أن من لديه القدرة على القيام بمثل هذا العمل المنظم والمعقد يمكن له أيضا أن يضع يديه على مواد الإشعاع، التى يمكن أن يصنع منها «قنبلة قذرة» أو الأسوأ أن يتمكنوا من الحصول على كمية كافية من المواد النووية يتمكنون بها من صُنع قنبلة نووية حتى ولو كانت بدائية. ولقد زاد القلق من مثل هذا الوضع عندما تم الكشف عن دلائل تفيد بمحاولة تنظيم القاعدة الحصول على أسلحة دمار شامل.
وتمثلت ردة فعل المجتمع الدولى على هذا الأمر فى اتخاذ سلسلة متصاعدة من الإجراءات لتقييم كيفية حماية الدول لمنشآتها النووية وللمواد المشعة التى بحوزتها. وفى خلال شهور ارتفعت ميزانية الوكالة الدولية للطاقة الذرية المخصصة لأغراض الأمن النووى من مليون دولار إلى 30 مليون دولار، وقد جاءت الزيادة فى أغلبها من إسهامات طوعية. وقامت الوكالة بإرسال فِرق للبحث فى مصير المواد المشعة المهملة فى دول الاتحاد السوفييتى السابق مثل جورجيا وغيرها. فى الوقت نفسه تم رفع مستوى التأمين الفعلى على كل محطات القوى النووية والمفاعلات البحثية وغيرها من المنشآت النووية. وتحرك العالم بموازاة ذلك لإعادة تقييم السيناريوهات المحتملة للقيام بأعمال تخريبية فى المنشآت النووية.
ولم يكن الرد على هذا التهديد موحدًا عبر العالم. فقد بادرت الدول الغربية والمنظمات الأهلية فى كثير من هذه الدول بتقديم إسهامات طوعية لدعم أعمال الأمن النووى التى تقوم بها الوكالة. غير أن الدول النامية أصرّت على أن لا تأتى هذه الزيادة من الميزانية العادية للوكالة. وفى المناقشات التى دارت فى الكواليس أشاروا إلى أن الوكالة عليها، كما جرت العادة، أن توجد التوازن المطلوب بين تقديم التمويل للنهوض بالتكنولوجيا النووية للأغراض السلمية مثل علاج مرض السرطان أو تحسين الإنتاجية الزراعية وبين تحقيق الأمن النووى، فقد كانت هذه الدول تخشى أن تصبح هذه الاستثمارات الضخمة الجديدة بندا دائما فى ميزانية الوكالة وتصبح بالتالى ملزمة بالمساهمة فيها.
وقد كان هذا الخلاف فى المواقف مؤشرًا جديدًا من ضمن مؤشرات التباين بين تعاطى دول الشمال ودول الجنوب مع الشأن النووى إجمالا. وكان عديد من الدول النامية يرى أن أخطار التهديدات النووية تستهدف فى المقام الأول الدول المتقدمة صناعيّا وغالبيتها غربية، وبالتالى فعلى الدول الغربية أن تدفع فاتورة تأمين منشآتها، وكانت هذه الرؤية قاصرة، لأن الأحداث أكدت لنا أن الأخطار تهدد كذلك الدول الصغيرة والأقل نموّا كما دلت عليه محاولات تهريب المواد النووية والمواد المشعة، وهى المحاولات التى تشير معلومات الأجهزة الأمنية فى العالم إلى أنها لا تفرق بين الدول المتقدمة والدول النامية. وقد دل على ذلك أيضا تزايد الطلب من جميع أنحاء العالم على خدمات الأمن النووى التى تقدمها الوكالة. وبالفعل فقد قامت الوكالة خلال السنوات التالية لأحداث الحادى عشر من سبتمبر بتقديم الدعم الفنى للنهوض بترتيبات حماية للمواقع النووية فى أكثر من 30 دولة، كما قامت بعقد المئات من ورش العمل والدورات التدريبية للتوعية بأسباب وطرق الأمن النووى فى أكثر من 120 دولة، ذلك إلى جانب قيامها بتوزيع ما يزيد على 3000 معدة لتقصى أى تسريبات إشعاعية وتأمين نحو 5000 مصدر للمواد المشعة فى العديد من بلدان العالم.
وفى أوائل عام 2004 كنا بصدد مواجهة تغيرات جديدة كشفت عنها التطورات التى رأيناها فى إيران وليبيا، وهى وجود سوق سوداء للمواد والمعدات النووية. ولأن كل سوق يقوم على أساس العرض والطلب فقد كان واضحًا بالنسبة إلينا أن الطلب موجود سواء من قِبل بعض الدول، أم من قِبل بعض الجماعات المتطرفة التى تسعى للحصول على المواد النووية وعلى تكنولوجيا الأسلحة النووية. أما جانب العرض فقد كان متاحًا من خلال شبكة عبد القدير خان والمتعاملين معه. وفى السنوات التالية، ومع زيادة أعمال المراقبة والمتابعة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن قاعدة البيانات لدى الوكالة رصدت أكثر من 1300 حالة لمحاولة تهريب غير مشروع للمواد النووية والمواد المشعة. لقد كنا بصدد اكتشاف سوق كبيرة للبضائع النووية تخدم كل العملاء حسب الطلب.
لكن السؤال هو: ما الذى يدفع شخصا مثل عبد القدير خان ليقوم بما قام به؟ والإجابة تأتى مما قاله خان نفسه عن ذكريات طفولته فى الهند، حيث ذكر أنه شاهد مذبحة للمسلمين على أيدى الغالبية الهندوسية. وبعد فترة ليست بالطويلة غادر خان الهند مهاجرا مع أسرته إلى باكستان، حيث استقر هناك منذ عام 1947، عندما تم تقسيم الهند إلى الهند وباكستان. وبعد نحو عقدين من الزمن وعندما كان خان يدرس فى بلجيكا للحصول على درجة الدكتوراه وقعت باكستان فى قبضة حرب طاحنة مع الهند تعرض خلالها الجيش الباكستانى لهزيمة ساحقة تم معها اقتطاع جزء من شرق باكستان ليصبح بنجلادش. وفى عام 1974 عندما قامت الهند بأول تفجيراتها النووية كان خان يعمل فى شركة «urenco» وهى إحدى الشركات العاملة فى مجال تخصيب اليورانيوم، والمملوكة لبريطانيا وألمانيا الغربية وهولندا وتقوم بإنتاج أنواع متطورة من أجهزة الطرد المركزى المستخدمة لتخصيب اليورانيوم، وهى الشركة التى سرعان ما أصبحت لاعبًا مهمّا فى سوق الوقود النووية.
ولا يمكن لأحد أن يحكم على وجه التحديد من توالى فصول هذه القصة عما إذا كان الدافع وراء تصرفات خان مرتبطا بالحماسة الوطنية، أو الرغبة فى دعم المسلمين الذين رآهم يتعرضون للقمع، أو بمجرد الطموحات والمكاسب الشخصية، ولم تمكن باكستان الوكالة الدولية للطاقة الذرية من استجواب خان بطريق مباشر حتى تستطيع أن تكوّن تصورًا وراء أهدافه وعملائه.
ولكن كان من الواضح أنه عندما عاد خان إلى باكستان ليرأس معامل البحوث الهندسية، التى سميت باسمه من بعد، فإن الموارد والإمكانات اللازمة قد سخرت له، والتى استطاع على أساسها أن يحقق نقلة كبرى فى قدرات باكستان النووية. ولقد لجأ خان فى ذلك لاستخدام معلومات وتكنولوجيا استحوذ عليها بطريقة غير قانونية من خلال عمله فى شركة «urenco» شملت تصميمات لأجهزة الطرد ومجموعة كبيرة من قوائم الاتصالات وأسماء الشركات التى يمكن من خلالها شراء المعدات والمواد اللازمة لتخصيب اليورانيوم وغيرها من أجزاء دورة الوقود النووى. وإلى جانب تطوير القدرات النووية الباكستانية فمن المؤكد أن خان استخدم السوق النووية السوداء والتى بدأت فى التوسع منذ الثمانينيات فى أن يحقق لنفسه ثروة تقدر بـ400 مليون دولار. واستمر خان فى عمله هذا لمدة سنوات، وعندما تم كشف ما يقوم به فإن الشبكة التى كوَّنها كانت قد توسعت وتوغلت بشكل كبير على المستوى الدولى.
وبعد أن حصلنا على أول حصيلة من المعلومات حول ما كان خان يقوم به فى إيران وفى ليبيا قام «أوللى هاينونين»، أحد المدراء المسؤولين عن نظام الضمانات بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعملية دراسة وبحث موسَّعَيْن فى نشاط هذه الشبكة غير القانونية. ومن خلال هذه الدراسة والتحريات اللتين اشترك فيهما مع «هاينونين» عدد كبير من المعاونين تمكنَّا من أن نضع أيدينا على معلومات مهمة حول المتعاونين مع خان، ووسائل تحويل الأموال فى إطار هذه الشبكة، بل ووضعنا أيدينا أيضا على أسماء بعينها وتواريخ محددة لتحويلات مالية تمت عبر بنوك تم رصدها لعمليات إمداد الجهات والدول المختلفة بهذه المواد والتكنولوجيا النووية، إلى جانب قائمة بأسماء الوسطاء.
وبالطبع فإنه بالتوازى مع عملنا هذا كانت أجهزة المخابرات الرئيسية فى العالم تقوم بدورها بعمليات الرصد للأذرع المختلفة لهذه الشبكة غير القانونية وكانت تمدنا بمعلومات مهمة تساعدنا فى عملنا المتعلق بالكشف عن تفاصيل البرامج النووية سواء فى إيران أم ليبيا أم كوريا الشمالية أم غيرها.
aymaan noor 04-10-2012, 12:18 PM سنوات الخداع - الحلقة التاسعة عشر
لقد مثّل الكشف عن الشبكة السرية لعبد القدير خان الحلقة الثالثة فى سلسلة من التغيرات العميقة فى الوضع النووى حول العالم. كان التطور الأول هو خرق دول أعضاء فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لالتزاماتها المقررة فيها، بسعيها سرّا لتطوير أسلحة نووية، كما كان الحال بالنسبة إلى العراق وكوريا الشمالية. ولم تكن ليبيا سوى المثال الأحدث على ذلك. أما الحلقة الثانية فكانت قيام الإرهابيين بتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر فى الولايات المتحدة، وهو ما جعل الكثيرين يتوقفون أمام هذا الأمر ويفكرون فى ما يمكن أن يكون عليه الحال لو أن المجموعات الإرهابية دخلت إلى سوق المواد المشعة. ورأى الخبراء النوويون أن من لديه القدرة على القيام بمثل هذا العمل المنظم والمعقد يمكن له أيضا أن يضع يديه على مواد الإشعاع، التى يمكن أن يصنع منها «قنبلة قذرة» أو الأسوأ أن يتمكنوا من الحصول على كمية كافية من المواد النووية يتمكنون بها من صُنع قنبلة نووية حتى ولو كانت بدائية. ولقد زاد القلق من مثل هذا الوضع عندما تم الكشف عن دلائل تفيد بمحاولة تنظيم القاعدة الحصول على أسلحة دمار شامل.
وتمثلت ردة فعل المجتمع الدولى على هذا الأمر فى اتخاذ سلسلة متصاعدة من الإجراءات لتقييم كيفية حماية الدول لمنشآتها النووية وللمواد المشعة التى بحوزتها. وفى خلال شهور ارتفعت ميزانية الوكالة الدولية للطاقة الذرية المخصصة لأغراض الأمن النووى من مليون دولار إلى 30 مليون دولار، وقد جاءت الزيادة فى أغلبها من إسهامات طوعية. وقامت الوكالة بإرسال فِرق للبحث فى مصير المواد المشعة المهملة فى دول الاتحاد السوفييتى السابق مثل جورجيا وغيرها. فى الوقت نفسه تم رفع مستوى التأمين الفعلى على كل محطات القوى النووية والمفاعلات البحثية وغيرها من المنشآت النووية. وتحرك العالم بموازاة ذلك لإعادة تقييم السيناريوهات المحتملة للقيام بأعمال تخريبية فى المنشآت النووية.
ولم يكن الرد على هذا التهديد موحدًا عبر العالم. فقد بادرت الدول الغربية والمنظمات الأهلية فى كثير من هذه الدول بتقديم إسهامات طوعية لدعم أعمال الأمن النووى التى تقوم بها الوكالة. غير أن الدول النامية أصرّت على أن لا تأتى هذه الزيادة من الميزانية العادية للوكالة. وفى المناقشات التى دارت فى الكواليس أشاروا إلى أن الوكالة عليها، كما جرت العادة، أن توجد التوازن المطلوب بين تقديم التمويل للنهوض بالتكنولوجيا النووية للأغراض السلمية مثل علاج مرض السرطان أو تحسين الإنتاجية الزراعية وبين تحقيق الأمن النووى، فقد كانت هذه الدول تخشى أن تصبح هذه الاستثمارات الضخمة الجديدة بندا دائما فى ميزانية الوكالة وتصبح بالتالى ملزمة بالمساهمة فيها.
وقد كان هذا الخلاف فى المواقف مؤشرًا جديدًا من ضمن مؤشرات التباين بين تعاطى دول الشمال ودول الجنوب مع الشأن النووى إجمالا. وكان عديد من الدول النامية يرى أن أخطار التهديدات النووية تستهدف فى المقام الأول الدول المتقدمة صناعيّا وغالبيتها غربية، وبالتالى فعلى الدول الغربية أن تدفع فاتورة تأمين منشآتها، وكانت هذه الرؤية قاصرة، لأن الأحداث أكدت لنا أن الأخطار تهدد كذلك الدول الصغيرة والأقل نموّا كما دلت عليه محاولات تهريب المواد النووية والمواد المشعة، وهى المحاولات التى تشير معلومات الأجهزة الأمنية فى العالم إلى أنها لا تفرق بين الدول المتقدمة والدول النامية. وقد دل على ذلك أيضا تزايد الطلب من جميع أنحاء العالم على خدمات الأمن النووى التى تقدمها الوكالة. وبالفعل فقد قامت الوكالة خلال السنوات التالية لأحداث الحادى عشر من سبتمبر بتقديم الدعم الفنى للنهوض بترتيبات حماية للمواقع النووية فى أكثر من 30 دولة، كما قامت بعقد المئات من ورش العمل والدورات التدريبية للتوعية بأسباب وطرق الأمن النووى فى أكثر من 120 دولة، ذلك إلى جانب قيامها بتوزيع ما يزيد على 3000 معدة لتقصى أى تسريبات إشعاعية وتأمين نحو 5000 مصدر للمواد المشعة فى العديد من بلدان العالم.
وفى أوائل عام 2004 كنا بصدد مواجهة تغيرات جديدة كشفت عنها التطورات التى رأيناها فى إيران وليبيا، وهى وجود سوق سوداء للمواد والمعدات النووية. ولأن كل سوق يقوم على أساس العرض والطلب فقد كان واضحًا بالنسبة إلينا أن الطلب موجود سواء من قِبل بعض الدول، أم من قِبل بعض الجماعات المتطرفة التى تسعى للحصول على المواد النووية وعلى تكنولوجيا الأسلحة النووية. أما جانب العرض فقد كان متاحًا من خلال شبكة عبد القدير خان والمتعاملين معه. وفى السنوات التالية، ومع زيادة أعمال المراقبة والمتابعة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن قاعدة البيانات لدى الوكالة رصدت أكثر من 1300 حالة لمحاولة تهريب غير مشروع للمواد النووية والمواد المشعة. لقد كنا بصدد اكتشاف سوق كبيرة للبضائع النووية تخدم كل العملاء حسب الطلب.
لكن السؤال هو: ما الذى يدفع شخصا مثل عبد القدير خان ليقوم بما قام به؟ والإجابة تأتى مما قاله خان نفسه عن ذكريات طفولته فى الهند، حيث ذكر أنه شاهد مذبحة للمسلمين على أيدى الغالبية الهندوسية. وبعد فترة ليست بالطويلة غادر خان الهند مهاجرا مع أسرته إلى باكستان، حيث استقر هناك منذ عام 1947، عندما تم تقسيم الهند إلى الهند وباكستان. وبعد نحو عقدين من الزمن وعندما كان خان يدرس فى بلجيكا للحصول على درجة الدكتوراه وقعت باكستان فى قبضة حرب طاحنة مع الهند تعرض خلالها الجيش الباكستانى لهزيمة ساحقة تم معها اقتطاع جزء من شرق باكستان ليصبح بنجلادش. وفى عام 1974 عندما قامت الهند بأول تفجيراتها النووية كان خان يعمل فى شركة «urenco» وهى إحدى الشركات العاملة فى مجال تخصيب اليورانيوم، والمملوكة لبريطانيا وألمانيا الغربية وهولندا وتقوم بإنتاج أنواع متطورة من أجهزة الطرد المركزى المستخدمة لتخصيب اليورانيوم، وهى الشركة التى سرعان ما أصبحت لاعبًا مهمّا فى سوق الوقود النووية.
ولا يمكن لأحد أن يحكم على وجه التحديد من توالى فصول هذه القصة عما إذا كان الدافع وراء تصرفات خان مرتبطا بالحماسة الوطنية، أو الرغبة فى دعم المسلمين الذين رآهم يتعرضون للقمع، أو بمجرد الطموحات والمكاسب الشخصية، ولم تمكن باكستان الوكالة الدولية للطاقة الذرية من استجواب خان بطريق مباشر حتى تستطيع أن تكوّن تصورًا وراء أهدافه وعملائه.
ولكن كان من الواضح أنه عندما عاد خان إلى باكستان ليرأس معامل البحوث الهندسية، التى سميت باسمه من بعد، فإن الموارد والإمكانات اللازمة قد سخرت له، والتى استطاع على أساسها أن يحقق نقلة كبرى فى قدرات باكستان النووية. ولقد لجأ خان فى ذلك لاستخدام معلومات وتكنولوجيا استحوذ عليها بطريقة غير قانونية من خلال عمله فى شركة «urenco» شملت تصميمات لأجهزة الطرد ومجموعة كبيرة من قوائم الاتصالات وأسماء الشركات التى يمكن من خلالها شراء المعدات والمواد اللازمة لتخصيب اليورانيوم وغيرها من أجزاء دورة الوقود النووى. وإلى جانب تطوير القدرات النووية الباكستانية فمن المؤكد أن خان استخدم السوق النووية السوداء والتى بدأت فى التوسع منذ الثمانينيات فى أن يحقق لنفسه ثروة تقدر بـ400 مليون دولار. واستمر خان فى عمله هذا لمدة سنوات، وعندما تم كشف ما يقوم به فإن الشبكة التى كوَّنها كانت قد توسعت وتوغلت بشكل كبير على المستوى الدولى.
وبعد أن حصلنا على أول حصيلة من المعلومات حول ما كان خان يقوم به فى إيران وفى ليبيا قام «أوللى هاينونين»، أحد المدراء المسؤولين عن نظام الضمانات بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعملية دراسة وبحث موسَّعَيْن فى نشاط هذه الشبكة غير القانونية. ومن خلال هذه الدراسة والتحريات اللتين اشترك فيهما مع «هاينونين» عدد كبير من المعاونين تمكنَّا من أن نضع أيدينا على معلومات مهمة حول المتعاونين مع خان، ووسائل تحويل الأموال فى إطار هذه الشبكة، بل ووضعنا أيدينا أيضا على أسماء بعينها وتواريخ محددة لتحويلات مالية تمت عبر بنوك تم رصدها لعمليات إمداد الجهات والدول المختلفة بهذه المواد والتكنولوجيا النووية، إلى جانب قائمة بأسماء الوسطاء.
وبالطبع فإنه بالتوازى مع عملنا هذا كانت أجهزة المخابرات الرئيسية فى العالم تقوم بدورها بعمليات الرصد للأذرع المختلفة لهذه الشبكة غير القانونية وكانت تمدنا بمعلومات مهمة تساعدنا فى عملنا المتعلق بالكشف عن تفاصيل البرامج النووية سواء فى إيران أم ليبيا أم كوريا الشمالية أم غيرها.
محمد محمود بدر 04-10-2012, 12:25 PM بارك الله فيك على هذه الحلقات الرائعة
aymaan noor 06-10-2012, 09:52 AM سنوات الخداع - الحلقة العشرون
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/10/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D9%88%D9%86.jpg
كان جانب كبير من التحريات التى تقوم بها الوكالة يرمى إلى تتبع سلسلة الإمدادات من مختلف المكونات. فقد استخرجنا من أوامر الشراء عناوين وأسماء الشركات والاتصالات، وأيضا الكشوف المالية متى كانت متاحة. واستخدمت بطاقات المعدات لمعرفة مورديها المحتملين، واستخدمت الأرقام المسلسلة لتتبع تواريخ وأماكن الإنتاج (ما لم تكن الأرقام قد تم محوها). وقمنا بالطبع بإجراء مقابلات وبجهود مضنية لمقارنة المعلومات التى كنا قد حصلنا عليها من العلماء والمسؤولين الإيرانيين والليبيين بالقصص التى يرويها الوسطاء الذين كان لهم دور ما. وبدأت معالم الصورة تتضح.
ومما تم كشفه فى إطار عملية البحث هذه أن واحدة من أولى عمليات خان تمت عام 1987 من خلال مجموعة من معاونى خان. كان هؤلاء المعاونون قد أجروا لقاءً مع بعض الإيرانيين فى دبى ليتفقوا على صفقة لبيع بعض مكونات وتصميمات أجهزة الطرد المستخدمة فى عمليات تخصيب اليورانيوم. واستطاعت الوكالة الحصول على ورقة مكتوبة بخط اليد كشفت عن الصفقة، تضمنت الورقة المواد النووية التى كانت إيران ترغب فى شرائها، وكانت أشبه بقائمة تسوق منزلى. وحصلت إيران ضمن هذه الصفقة على قائمة بأسماء الشركات الأوروبية وغير الأوروبية التى تستطيع أن تشترى منها التكنولوجيا اللازمة لبرنامجها.
وحسب نفس التحريات فإن أقرب مساعدى خان فى عملياته هذه هو رجل أعمال من ****انكا اسمه بوهارى سيد أبو طاهر، ويمتلك واحدة من أهم شركات إنتاج الأجهزة الإلكترونية فى دبى ورثها هو وأخوه عن والدهما. وكانت علاقة طاهر مع خان قد بدأت مع قيام شركة الأول بتوريد أجهزة تكييف إلى أحد أكبر المعامل الوطنية البحثية فى باكستان فى وقت كان فيه خان هو المسؤول عن هذه المعامل، ومع الوقت توطدت العلاقة بين خان وطاهر وأصبح هو الوسيط الذى يقوم بكثير من المهام نيابة عن خان مع وسطاء آخرين.
ولقد كان طاهر هو من تولى عملية نقل بعض أجهزة الطرد المستخدمة لتخصيب اليورانيوم إلى إيران فى صفقة تالية جرت فى عام 1994 وتم خلالها نقل المعدات من دبى إلى إيران على متن باخرة نقل مملوكة لأحد المواطنين الإيرانيين.
كانت دبى بوصفها مركزا تجاريّا هامّا تتسم نظمه الجمركية بالمرونة مكانا مناسبا لإجراء عمليات الشحن هذه، وقام خان بشراء منزل فى واحد من أحيائها السكنية الراقية ليدير منها أعمال شبكته.
وكانت ماليزيا موقعا مهمّا آخر فى نشاطات خان، وكان طاهر متزوجا من سيدة ماليزية وله علاقات عمل مع شركة هندسية تقوم بإنتاج أجزاء من أجهزة الطرد المستخدمة فى عمليات تخصيب اليورانيوم وهناك تم التعاون مع مهندس سويسرى هو «أورس تينر»، نجل المهندس النووى «فريدريك تينر» الذى كان شريكا لخان فترة طويلة، لإنشاء مصنع فى ماليزيا والإشراف على إنتاجه. وكانت المواد الخام، من الألمنيوم رفيع المستوى، تُستورد من سنغافورة. ولأن الأجزاء المستخدمة فى تجميع أجهزة الطرد الخاصة بعمليات تخصيب اليورانيوم كانت تصنَّع كقطع منفصلة فإنها كانت قابلة أيضا للاستخدام فى بعض الأجهزة المنزلية فلم يكن للعاملين فى الشركة أو إدارتها أن يعرفوا على وجه اليقين، أو ربما حتى يرتابوا، فى أن الأجزاء سيتم استخدامها لأغراض أخرى. وكانت أجهزة الأمن الماليزية قد كشفت عن تورط طاهر فى هذه النشاطات، وقامت بالقبض عليه مع آخرين فى مايو 2004 بوصفه يهدد الأمن القومى لماليزيا.
وبعد القبض عليه طالبتُ الوكالة الدولية للطاقة الذرية لعدة أشهر متتالية أن تقوم باستجواب طاهر وهو ما تم بعد فترة طويلة، وكشف الاستجواب أن شبكة خان يعمل من خلالها عدد من المهندسين ورجال الأعمال ومجموعة من المعارف والأقرباء يعملون معا دون تسلسل محدد للمهام والأدوار. وكان يتعاون مع هؤلاء مجموعةٌ غير قليلة من الوسطاء، تم الكشف عن بعضهم عندما قررت حكوماتهم ملاحقتهم قضائيّا لاتهامهم بتهم جنائية مختلفة. وكان من بين هؤلاء مواطن ألمانى يعيش فى سويسرا ومواطن بريطانى يعيش فى فرنسا، ورد ذكرهما فى قضية فى ألمانيا وجنوب إفريقيا، واعترف كلاهما بمعرفته بخان، لكنهما أنكرا أنهما متواطئان فى عمليات غير قانونية تتعلق ببرامج نووية غير مشروعة ولم يقدما للمحاكمة. كما تم القبض على مواطنَيْن أحدهما جنوب إفريقى أُسقطت عنه التهمة بعد أن وافق على الإدلاء بشهادة ضد مواطن ألمانى يقيم بجنوب إفريقيا قيل إنه هو الذى أدخله فى الشبكة. كما أن هذه الشهادة ورطت مواطنا سويسريّا آخر يقيم أيضا فى جنوب إفريقيا.
كما علمنا أيضا أن كلّا من البائع والمشترى فى هذه السوق، كما هو الحال فى جميع الأسواق الأخرى كانا يتخذان المبادرة. وعلى سبيل المثال، فإن إيران مثلا كانت تقوم بمحاولات مستقلة لشراء معدات نووية يمكن استعمالها فى مجالات أخرى، وذلك من عدد من الدول، بخلاف اتصالها برجال خان. وكانت فى الوقت نفسه تسعى فى منتصف التسعينيات للحصول على مواد وأدوات من جنوب إفريقيا، ولكن ذلك لم يتحقق حيث إن جنوب إفريقيا كانت قد انضمت فى هذا الوقت إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
وفى كل الأحوال فإن مَن يقوم بالشراء كان يتحرك بصورة يصعب معها كشف هويته أو نواياه، وبالتالى، وإمعانا فى التمويه، فإنه كان يستعين بعديد من الوسطاء الذين لا يعرف أحدهم الآخر. ولم يكن المورِّد يعرف المقصد النهائى أو الاستخدام الحقيقى للبضائع. وفى بعض الأحيان كان يتم استخدام شركات حقيقية كأحد الوسطاء، وفى أحيان أخرى كان يتم إنشاء شركات وهمية فى دبى بواسطة خان أو أحد مساعديه لتولى مهمة الوساطة، ثم يجرى تصفيتها بعد انتهاء مهمتها. أما الدفع فكان يتم دوما من بلد آخر غير البلد الذى ستنتهى إليه المعدات التى يتم شراؤها على أجزاء من جهات مختلفة، وكان الدفع يتم من حسابات مختلفة يصعب التأكد من هوية أصحابها، وأحيانا كان الدفع يتم نقدًا، كما حدث مع إيران فى بعض الحالات، وكان خان يعتمد على تجار الذهب فى دبى لتولِّى مهمة غسل هذه الأموال وتبييضها.
وكان أبسط ما لدى خان من سلع وأكثرها قيمة قائمة طويلة من المعارف، أفرادا وشركات، فى بلدان عديدة لتسهيل مهمته فى إمداد عملائه بالتكنولوجيا والمواد اللازمة لتكوين برنامج نووى، فخلال عمله فى هولندا، مثلا، كان يستخدم نوعًا من الصلب شديد الصلابة من خلال شركة موردة للشركة الأم التى يعمل فيها وعُرِف من خلال ذلك الشركات الهندسية التى تقوم بتوريد هذا النوع من الصلب، وهو مادة أساسية لصنع الروتور الخاص بأجهزة الطرد. ومن خلال معارفه فى الشركات تمكن عملاؤه من أن يعرفوا أسماء العاملين ووسيلة الاتصال بتلك الشركات.
ونفذت الشبكة أحد مشروعاتها الهامة فى بلدة صغيرة بالقرب من جوهانسبرج فى جنوب إفريقيا. كان المشروع يشتمل على إقامة منظومة لوحدات المعالجة اللازمة لتخصيب اليورانيوم بخلاف أجهزة الطرد. وكانت المنظومات فى ما عدا ذلك مكتملة بطلمباتها وصماماتها ووسائل تلقيمها ومراجلها المصنوعة من الصلب، والأنابيب التى يمر بها غاز (UF6) إلى أجهزة الطرد المتتابعة. وقد رتبت هذه الأخيرة بطريقة المراحل التدريجية بحيث يتم تخصيب اليورانيوم الطبيعى أولا بنسبة 3.5% «U-235»، ثم يتم تخصيبه بعد ذلك بنسبة أعلى تصل إلى 90% التى تكون صالحة لصنع الأسلحة. وكان صاحب المصنع يصف هذه المنظومة بأنها «عمل فنى» (A work of art).
وفى سبتمبر 2004 داهمت شرطة جنوب إفريقيا المصنع، بناءً على معلومة وصلتها وبالتنسيق مع المسؤولين فى جنوب إفريقيا عن مكافحة الانتشار النووى ومفتشى الوكالة، وكانت المنظومة قد تم تفكيكها قطعة قطعة ووضعت فى حاويات استعدادا لشحنها.
ولقد كانت الصدمة كبيرة فى جنوب إفريقيا لدى الكشف عن هذه العملية السرية، لأن هذا البلد بالذات كان قد اختار طوعا التخلى عن برنامجه النووى، وأصبح زعماؤه من أقوى الدعاة لعدم الانتشار ونزع السلاح النووى. وبالتالى فقد أدى هذا الكشف إلى إدراك واسع للحاجة الشديدة لمزيد من الجهود الوطنية لمراقبة إنتاج وتجارة الصادرات النووية أو متعددة الاستخدامات.
ولم تكن جنوب إفريقيا هى وحدها المعنية بالأمر. فقد بدأت التفاصيل تتوالى وتبين أن الشبكة كانت تتعامل مع جهات عديدة وأفراد كثيرين فى إسبانيا وألمانيا وسويسرا. وكان التعاون يشمل عمل مواطنين من بلدان مختلفة يعملون فى بلدان أخرى مثل عمل مهندس سويسرى فى شركة مقرها ماليزيا تقوم باستخدام رسوم هندسية واردة من باكستان، لكن تصميمها الأصلى تم فى هولندا، أو مهندس إسرائيلى من أصل مجرى يعمل فى الولايات المتحدة الأمريكية، ومهندس بريطانى لجأ إلى التعاون مع مصنع فى إيطاليا، وآخر فى تركيا لتوفير معدات تذهب لليبيا. لقد كانت الشبكة واسعة ومتداخلة ومتقاطعة، وشملت نحو 30 شركة فى عدد مماثل من البلدان.
aymaan noor 06-10-2012, 10:46 AM سنوات الخداع - الحلقة الواحد و العشرون
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/10/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%AF%D8%B9%D9%89.j pg
فى عام 2003 كان مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية يجوبون أنحاء العراق المختلفة بحثًا عن أسلحة نووية لم يكن لها وجود، وبعد عام فها نحن نجد الدليل القاطع تلو الآخر على عملية واسعة للانتشار النووى، ها نحن نرى ليبيا تعترف بطموحاتها النووية، بينما كوريا الشمالية تقترب من الحصول على سلاح نووى، وإيران تُفصِح عن معلومات حول برنامجها للحصول على دورة الوقود النووى الذى بدأ منذ عقدين، وذلك بعد عامين كاملين من الأسئلة والمراوغة وأنصاف الإجابات. ومع ذلك لم نكن واثقين تمامًا إلى أين وإلى أى مدى وصلت شبكة خان.
فى 12 فبراير 2004 نشرتُ مقالًا فى «النيويورك تايمز» تحت عنوان «لننقذ أنفسنا من الدمار» أشرت فيه إلى شبكة خان لنشر المواد والتكنولوجيا النووية، مؤكدًا أن الأسواق تنفتح أكثر فأكثر أمام هذه الشبكة. وفى المقال نفسه، اقترحتُ مجموعة من الإجراءات لمواجهة الانتشار النووى من بينها تشديد الرقابة على الصادرات، وتوسيع دائرة انضمام الدول إلى البروتوكول الإضافى لنظام ضمانات الوكالة الدولية الذى يمنح الوكالة حقًّا أوسع فى القيام بأعمال التفتيش وتقصى الحقائق، ومنع الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وإحياء المفاوضات حول معاهدة منع إنتاج المواد الانشطارية التى تمنع إنتاج المواد النووية التى تستخدم فى تصنيع الأسلحة، وكذلك المزيد من الأمن للمواد النووية بالإضافة إلى وضع خارطة طريق لتخلى الدول التى تمتلك بالفعل أسلحة نووية عن أسلحتها.
وكنت فى طرحى هذا أعلم أننى بالأساس أتحدث عن آليات للتعامل مع مشكلة لها جذور عميقة تتعلق بالتباينات الواسعة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية بين دول الشمال والجنوب، وغياب التوازن عن نظام الأمن الدولى الذى يُدار على أساس من المعايير المزدوجة، والمشاكل والصراعات التى ما زالت تلبد أجواء مناطق بعينها، ولهذا فإننى أضفت فى هذا المقال: «يجب علينا أيضًا أن نتعامل مع الأسباب الأساسية التى تؤدى إلى غياب الإحساس بالأمن». وذكرت فى المقال أنه:
«فى مناطق مثل الشرق الأوسط وجنوب آسيا وشبه الجزيرة الكورية يمكن لنا دومًا أن نتوقع استمرار السعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ورغم أن مثل هذا السعى يبقى غير مبرر فإنه أيضًا مُعبّر عن غياب البدائل السلمية للتعامل مع النقص الأمنى الذى تواجهه هذه المناطق».
«فى الوقت نفسه أعتقد أننا يجب أن نضع حدًّا للتصور بأن بعض الدول لها الحق الأخلاقى فى امتلاك الأسلحة النووية وبناء منظومتها الأمنية على أساس هذه الأسلحة، بينما أن المطلوب أخلاقيًّا من دول أخرى أن لا تسعى لامتلاك هذه الأسلحة»،
«من ناحية أخرى يجب أن نتخلى عن التوصيف التقليدى لأمن دولة ما بأنه يبدأ وينتهى عند حدود بعينها أو مدن بعينها، وأن ندرك أن أمن الدول فى يومنا هذا أصبح متداخلًا بصورة لا رجعة فيها، ولم يعد يرتبط بالضرورة بسياقات دينية أو عِرقية كما كان عليه الحال فى مراحل سابقة، لأن حراك الأفراد والبضائع والأفكار لا يتوقف ويفتح آفاقًا أوسع للتواصل بين المجتمعات».
«وفى مثل هذا العالم يجب علينا أن نسعى لمكافحة الإرهاب من خلال ثقافة أمنية تتعدى الحدود وتتلاقى فيها أفكار ثقافية مختلفة وتأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الأمنية المختلفة فى إطار من التضامن القائم على تقدير قيمة الحياة الإنسانية. فى مثل هذا العالم ليس هناك مكان لأسلحة الدمار الشامل».
وقبل أيام من نشر هذا المقال علمت أن الرئيس الأمريكى بوش بصدد الإعلان عن حزمة من الإجراءات المتعلقة بمجابهة انتشار الأسلحة النووية، وبالتالى رأيت أنه من المناسب تأجيل نشر المقال لبضعة أيام حتى لا يبدو أننى أحاول أن أستبق بمقالى خطاب بوش المتوقع.
وقبل ساعات من خطاب الرئيس بوش اتصل بى «كولين باول» ليخبرنى أن بوش سيعلن عن سبعة إجراءات تستهدف مواجهة انتشار الأسلحة النووية. وبدأت أُصغى باهتمام أكبر عندما علمت أن «باول» لا يوافق على كل هذه الأفكار بالضرورة «وأن بعض هذه الأفكار قد تكون خلافية، وربما يحتاج الأمر إلى عرضها على مجلس محافظى الوكالة لدراستها».
ومع عرض بوش لأفكاره وجدت أن بها الكثير من الأفكار التى طرحتُها فى مقالى بـ«النيويورك تايمز»، فكلانا أثار الحاجة إلى تشديد المراقبة على الصادرات وتجريم الأفعال التى من شأنها المساعدة عمدًا على انتشار الأسلحة النووية. كذلك اقترح بوش أيضًا تخصيص ميزانية أكبر لتأمين المخزون الموجود من المواد النووية، إضافة إلى ما أعرب عنه من دعم قوى للبروتوكول الإضافى، وأوصى ببذل مزيد من الجهد فى ما يتعلق بالمبادرة الأمنية لمكافحة الانتشار.
ولكن، وعلى العكس من الطرح الذى تقدمت به، فإن الرئيس بوش اقترح أن الدول التى لا تمتلك بعد دورة الوقود النووية يجب أن لا تكون لديها فرصة الحصول على التكنولوجيا اللازمة للحصول عليها. وبالطبع فهو لم يتحدث عن تخلص الدول النووية من ترسانتها من الأسلحة النووية.
والواقع أن كثيرًا من مقترحات بوش كانت تهدف لسد الثغرات التى أظهرتها شبكة خان فى نظام حظر الانتشار.
ولكن كان هناك أمران فى ما اقترحه بوش رأيت فيهما شططا، الأول يتعلق بمطالبته الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإنشاء لجنة خاصة فى مجلس المحافظين تتولى أمور الضمانات والتحقق من التزام الدول بقواعد حظر الانتشار، والثانى يطلب من الوكالة حرمان الدول التى يُجرى التحقيق معها لخرقها هذه القواعد من عضوية مجلس محافظى الوكالة.
وفى ما بعد علمت أن «جون بولتون» و«بوب جوزيف»، هما اللذان كتبا لـبوش خطابه دون أن يتم تمريره أو إقراره من قِبل وزارة الخارجية الأمريكية. وفى هذا السياق فإننى رأيت أن المقترح الخاص بإنشاء لجنة خاصة للضمانات، رغم أنه وسيلة جيدة لتعزيز برنامج التحقق فى الوكالة، فإنه جاء وليد الرغبة فى التدخل الأمريكى المباشر فى عمل الوكالة فى هذا الصدد، بما يمكّن أصحاب السياسات المتشددة من تحقيق أهدافهم فى ما يتعلق بالملف الإيرانى.
أما فى ما يخص الاقتراح باستبعاد الدول التى يُجرَى التحقيق معها لخرقها قواعد التحقق من عضوية مجلس محافظى الوكالة، والذى كان يستهدف إيران تحديدًا، فلم تتم صياغته على نحو يُخفى الغرض منه فضلًا عن أنه لم يكن قابلًا للتطبيق. فقد كشف عن عدم فهم الأساليب الدبلوماسية متعددة الأطراف والاحترام المتبادل الذى تعمل على أساسه الهيئات الدولية والتى تقوم كما هو الحال بالنسبة إلى آليات التعامل فى المجتمعات الديمقراطية على التفاهم وليس على التعصب والضغط والأحكام المسبقة.
وفى مارس 2004 التقيت بالرئيس بوش وتناول حديثنا الخشية من تبعات اتساع السوق النووية السوداء. ذكرت لـبوش أنه رغم ما يبدو من أن خان رئيس لهذه الشبكة التى تتاجر سرًّا فى التكنولوجيا والمعدات النووية إلا أنه فى النهاية لا يعمل بمفرده وأنه بالنسبة إلى الحالة الإيرانية على سبيل المثال كان يعمل مع بعض عناصر من الجيش الباكستانى، بينما فى حالة كوريا الشمالية كان يقوم بدوره فى إطار تعاون بين باكستان وكوريا الشمالية. وقد بنيت هذا الافتراض على أساس خطاب اطلعت عليه حرره خان بخط يده يؤكد أن عمله مع إيران وكوريا الشمالية هو بتعليمات من عناصر فى الجيش الباكستانى، وكان الهدف من هذا الخطاب هو حماية خان لنفسه فى حال تعرضه للتوقيف من قِبل السلطات الرسمية فى بلاده.
ورغم أن بوش أقر بأن هناك دلائل لتورط عناصر باكستانية أخرى فى أعمال خان، فإنه فى الوقت نفسه بدا غير عازم على التحرك فى هذا الصدد، لأنه لم يُرِد أن يخسر التعاون والدعم الذى كانت باكستان تقدمه للولايات المتحدة فى أفغانستان.
وقد رأيت أن الأولوية من الناحية العملية ينبغى أن توجه لتحديد الجهات الأخرى التى قد تكون قد حصلت على التكنولوجيا النووية من خلال شبكة خان.
رحييق 06-10-2012, 11:22 AM جزاك الله خيرا وبارك في حضرتك
اسمح لي بالعودة مرارا حتى أكمل كل الحلقات الرائعة
تقبل مروري وتقديري
aymaan noor 06-10-2012, 04:24 PM جزاك الله خيرا وبارك في حضرتك
اسمح لي بالعودة مرارا حتى أكمل كل الحلقات الرائعة
تقبل مروري وتقديري
جزيل شكرى وتقديرى على مرورك الكريم
بالفعل هذه المقالات تستحق القراءة
خاصة أنها للدكتور محمد البرادعى
المدير العام للوكالة الدولية للطاقة النووية
جزاك الله خيرا و بارك الله فيك
السياسى القديم 07-10-2012, 12:48 PM طبعا طبعا
جزاك الله خيرا
اللى يقرى حيفهم ...... بس محدش علق من اصحابنا اياهم !!!!
aymaan noor 07-10-2012, 02:20 PM سنوات الخداع - الحلقة الثانية و العشرون
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/10/121.jpg
فى الأسابيع التالية ظهر حماس دولى للتحرك ضد الجهات أو الأفراد الذين يعملون فى السوق النووية السوداء، وتجريم أفعالهم لمواجهة نوعية الأنشطة السرية التى قامت بها شبكة خان. وفى شهر مايو أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1540 الذى يطالب الدول باستصدار وتطبيق قوانين تستهدف الأفراد الذين يسعون بأى طريقة لنشر أسلحة الدمار الشامل. كما طالب القرار بتشديد إجراءات الرقابة الداخلية التى تطبقها الدول على المواد ذات الصلة بالأنشطة النووية.
ولم تحظَ كل مقترحات «بوش» بنفس النجاح. فلم تكن فكرة استبعاد الدولة التى يجرى التحقيق معها من عضوية مجلس المحافظين -وهى فكرة ليست ذات مضمون غير الإهانة- بأى بحث جدى. ولمدة عامين بعد خطاب «بوش» حاولت الولايات المتحدة الأمريكية أن تجد الدعم لفكرتها الخاصة بإنشاء لجنة خاصة بالضمانات؛ وهى الفكرة التى لم تكن تخلو من وجاهة من حيث المبدأ، لو أنها ركزت على الطرق والوسائل الكفيلة بتعزيز الضمانات، مثل دعم معامل الفحص بالوكالة التى كانت فى حالة متدهورة. وبالفعل تم تشكيل هذه اللجنة، ولكنها لم تستمر طويلا بسبب الخلافات التى ظهرت بين دول الشمال ودول الجنوب حول مدى العدالة فى نظام حظر الانتشار ومدى فعاليته. وبعد عدد من الاجتماعات اختفت هذه اللجنة بهدوء. وَضَع اكتشاف شبكة خان، باعتباره من كبار المسؤولين فى الحكومة الباكستانية، إسلام آباد فى حرج بالغ، واضطر الرئيس الباكستانى مشرّف إلى أن يتحرك. ففى 4 فبراير 2004 أُجبر خان على الظهور على شاشة التليفزيون الرسمى الباكستانى ليعترف بما كان يقوم به فى السوق النووية السوداء. وفى اليوم التالى أصدر الرئيس الباكستانى عفوا عامًّا عن خان بسبب الخدمات العلمية الجليلة التى قال مشرّف إنه قدمها لبلاده، غير أنه أبقاه قيد الإقامة الجبرية حتى 2009. ولكن بالنسبة إلى غير الباكستانيين فإن إصدار عفو عام عن المسؤول الأول عن شبكة الاتجار غير الشرعى فى التكنولوجيا النووية ومعداتها كان سؤالا محيرا. لكن مشرّف كان يتصرف فى ضوء أن خان يُنظر إليه فى بلاده على أنه بطل قومى ساعد باكستان على تحقيق التوازن النووى مع الهند؛ وهو بالتالى يستحق أن يكون فى مأمن من الملاحقة القضائية. فى الوقت نفسه، فإن مشرّف كان يعلم بالضرورة أن ملاحقة خان القانونية ستفتح الباب أمام ملاحقة شخصيات أخرى فى الحكومة الباكستانية، وكان هناك كثير من التساؤل حول مدى علم الحكومة الباكستانية بأنشطة خان، خصوصا فى ظل وجود معلومات أن خان كان يستخدم الطائرات الوطنية الباكستانية لنقل المعدات النووية إلى عملائه فى الخارج. وبالتأكيد فإن القدرة المادية لخان وأسلوب حياته كانت تؤكد الشكوك أنه لا يعتمد فقط على مرتبه الحكومى وإنما على دخله من أعماله «الخاصة». وتفيد التقارير الصحفية أن المكتب الوطنى للمحاسبة فى باكستان كان قد أعد ملفّا مفصلا عن خان لكنه فضَّل عدم اتخاذ أى إجراء بشأنه.
ومع تزايد فهم الوكالة لأنشطة شبكة خان، اتضح للوكالة أن بعض أجهزة المخابرات كانت تراقب نشاط خان لفترة طويلة دون أن تتحرك. ويقول المسؤولون الأمريكيون إنهم كانوا على علم بنشاط خان منذ البداية، ولو صح هذا الأمر بالكامل فإن الحديث الأمريكى عن تحقيق انتصار مخابراتى بالكشف عن أسلحة الدمار الشامل فى ليبيا يبدو لا معنى له.
وقد قال لى رئيس وزراء هولندا السابق «روود لابرز»، إن الهولنديين كانوا يقتفون أثر خان ونشاطاته، وإنهم كانوا بصدد إيقافه منذ السبعينيات من القرن العشرين، لولا تدخل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التى طالبتهم بعدم توقيف خان. وقد أكدت مصادر أخرى ذلك أيضا.
وفى مارس 2004 نشر «سيمور هيرش» مقالا فى مجلة «النيويوركر» نقل فيه عن مصادر أمريكية قولها إن الأمريكيين كان بوسعهم توقيف خان منذ أكثر من 15 عاما، وإن المتعاملين اليوم فى شبكة خان هم الجيل الثانى من المتعاملين الذين بدأ بهم خان شبكته للتجارة النووية السرية.
وفى وقت لاحق قال «روبرت إينهورن»؛ الذى شغل منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون منع الانتشار من 1991 حتى 2001، إن الأمريكيين كانوا على علم بما يقوم به خان، وإنهم كانوا يقتفون أثره، ولكن السؤال المُلحّ عليهم كان حول ما «إذا كان من الأفضل توقيفه على الفور أو الانتظار والتتبع حتى يتم توقيفه وكل المتعاملين معه واجتثاث الشبكة من جذورها»، مشيرا إلى أن الرأى الأغلب كان باتجاه الانتظار.
والحقيقة أننى لم أفهم أبدا ما الفائدة التى جناها المجتمع الدولى من الانتظار، بينما خان يتحرك من خلال شبكته لنشر الأسلحة النووية، وبينما الوكالة الدولية للطاقة الذرية تُحجب عنها هذه المعلومات الحيوية. ألم تكن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرهما تعرف التزاماتها بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية للإفصاح عما لديها من معلومات عن مثل هذه البرامج السرية؟ ألم يكن من المنطقى إيقاف البرامج السرية لإيران وليبيا وغيرهما وهى لا تزال وليدة؟ وأيّا كانت الظروف والدواعى التى أدت إلى قرار الانتظار فى حينها فإنه كان فى الواقع خطأ فادحا؛ فقد أدى ذلك إلى تنبيه الكثير من أعضاء الشبكة إلى أنهم مراقَبون؛ مما دعاهم إلى التخلص من كثير من المستندات؛ الأمر الذى جعل من الصعب على الوكالة وغيرها من المحققين التعرف على أبعاد أخرى للشبكة، بما فى ذلك ما إذا كان لها عملاء آخرون؟ لقد قيل عنه إنه رجل التخصيب النووى الذى نقل التكنولوجيا النووية إلى أماكن بعيدة، خصوصا أنه زار الشرق الأوسط وإفريقيا مرارا ولا يعلم أحد على وجه اليقين ما الذى خلصت إليه هذه الزيارات، لكن الشائعات كثيرة، كما أن مؤشرات مقلقة تظهر أحيانا.
وفى إحدى زياراتى لواحدة من دول الخليج فى عام 2004 قال لى أحد الأمراء إن خان قد زارهم عارضا بضاعته، وإن دولته قد تظاهرت بالاهتمام بالأمر دون أن تتجه لشراء أى شىء، فى محاولة للتعرف على معاملات الشبكة مع إيران. ولم تكن تلك الرواية هى الأولى من نوعها، فلقد سمعتها بصور مختلفة فى بلدان أخرى. والسؤال هنا: ما هى الضمانة أن خان لم يستطع أن يقنع أيًّا من الدول التى زارها والتى عرض عليها خدماته بأن تنظر فى أمر الشراء ثم تقرر فعلا الشراء؟
إن أكبر كابوس يراودنى هو أن خان الذى يقدم التكنولوجيا والمعلومات.. بل والمواد النووية لمن يدفع، ربما يكون قد استطاع إنشاء وحدة تخصيب صغيرة فى منطقة نائية مثل شمال أفغانستان. وهذا الأمر ليس بمجرد السيناريو الخيالى الأسود فى ضوء التطور التكنولوجى الذى بلغه أداء بعض هذه المجموعات.
وعلى الرغم من أن ذهاب عبد القدير خان ربما حرم الشبكة من عقلها المفكر، فإنه ليس هناك ما يضمن أنها لم تعد قادرة على تزويد مَن يرغب من العملاء. وكما أشار السيناتور الأمريكى السابق «سام نان» فإنه بالنظر إلى الأموال والمصالح المتشابكة وراء عمل هذه الشبكة فإنه يصعب تصور أنها انتهت وتوقفت عن العمل.
لقد كان الهدف الذى يبدو أن عبد القدير خان قد سعى إلى تحقيقه هو تمهيد الطريق أمام الدول الإسلامية للحصول على الأسلحة النووية، وإيجاد حالة من التكافؤ الأمنى مع إسرائيل، وبالطبع جَنْى المال فى أثناء ذلك كله. وفى ضوء هذا فإن التخلص من البازار النووى الذى أطلقه خان سيستغرق بالتأكيد بعض الوقت.
وهناك ثلاثة دروس يجب الاعتبار بها من هذه القصة: الأول وكما رأينا من الدور الذى لعبته إسرائيل فى الشرق الأوسط، والهند فى جنوب آسيا؛ هو أن الانتشار النووى يُولِّد مزيدا من الانتشار.
الدرس الثانى هو أن محاولة مجابهة انتشار الأسلحة النووية من خلال فرض المزيد من الرقابة على نقل الخبرة النووية هو أمر هام، ولكن لم يعد كافيا؛ لأن التكنولوجيا النووية أصبحت بالفعل فى يد الكثيرين.
أما الدرس الثالث فهو أنه مع استمرار حيازة البعض للأسلحة النووية واعتبار هذه الأسلحة سببا من أسباب القوة؛ فإن المزيد من الدول سيستمر فى السعى للحصول على تلك الأسلحة، لا سيما الدول التى ترى نفسها معرَّضة للتهديد.
aymaan noor 09-10-2012, 10:13 AM سنوات الخداع - الحلقة الثالثة و العشرون
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/10/231.jpg
فى صيف 2004 كانت مدتى الثانية كمدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية تقترب من نهايتها، وكنت أنتوى عدم الترشح لمدة ثالثة على الرغم من إصرار معظم الدول الأعضاء على أن أستمر فى مهام منصبى لأن ضغوط العمل مجهدة للغاية، ولأن أسرتى كانت تطالبنى بأن لا أستمر فى هذا المنصب الشاق ولكن التدخل الأمريكى غيّر هذا التوجه.
لقد ألمح لى بعضهم أن الولايات المتحدة الأمريكية ستدعمنى إذا ما قررت الترشح لمدة ثالثة، وبينما كنت أمضى إجازة الصيف فى منزلى على شاطئ البحر بمصر تلقيت اتصالًا يفيد بأن كولين باول سيتصل بى ليخبرنى بهذا الأمر بنفسه، ولم أكن مندهشًا من هذا الموقف الأمريكى، لأنه خلال الشهور الماضية كانت هناك سلسلة من الاجتماعات الإيجابية مع عدد من المسؤولين الأمريكيين بما فى ذلك بوش نفسه.
ولكن باول لم يتصل، ولدى عودتى لڤيينا علمت من نائبى، دافيد واللر، أن الموقف الأمريكى قد تغيّر. وأخبرنى دافيد أن ذلك حدث بناء على حملة شنها جون بولتون ضدى. وكان بولتون يستند فى موقفه هذا إلى أن أى رئيس لأى منظمة من منظمات الأمم المتحدة لا ينبغى أن يحتفظ بمنصبه لأكثر من مدتين، على الرغم من علمى أن هذه القاعدة كثيرًا ما لا تُطبّق. ولقد بعث لى بولتون برسالة نقلها إلىّ دافيد، مفادها أننى إذا قبلت بعدم الترشح لمدة ثالثة فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستُصدر بيانًا تُعرب فيه عن تقديرها للعمل الذى قمت به خلال الأعوام الثمانية التى ترأست فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ولقد أثار هذا الأمر غضبى بشدة، لأن بولتون كان يمثل كل شىء لا أتفق معه، خصوصا ما يتعلق بتقليله من أهمية الدبلوماسية المتعددة الأطراف على الساحة الدولية. ومما زاد من غضبى أن بولتون طالما سعى خلال الأعوام الماضية لتعويق عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بطرق عديدة، ليس أقلها عرقلة الجهود التى تُبذل لحل قضايا الانتشار النووى سلميًّا. كان يسعى لتقويض كل ما كنت أدافع عنه.
ولقد أثار حنقى أن يتصور بولتون أنه سيقرر عنى إذا ما كنت أترشح لمدة ثالثة أم لا، وكانت المفارقة أن الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت قد دعّمت ترشحى لمنصب مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تريد الآن إقصائى من هذا المنصب.
وفى ذلك المساء جلست مع زوجتى عايدة، وتشاورنا قليلًا فى الأمر، ثم قررنا أننى سأترشح لمدة ثالثة، فإذا ما كان لى أن أفوز، فإن ذلك سيكون بمثابة رسالة واضحة حول الدعم الدولى للدبلوماسية متعددة الأطراف، وسيمثل لى ذلك أيضًا تفويضًا واضحًا للسعى نحو حل تفاوضى فى إيران وغيرها من المناطق المضطربة، وإذا لم أفز فإن ذلك سيكون على كل حال دليلًا على أننى وقفت فى وجه الضغوط المتوالية التى كانت أمريكا تمارسها. وفى صباح اليوم التالى كتبت رسالة لرئيس مجلس المحافظين معلنًا ترشحى لفترة ثالثة.
بدأت العاصفة مباشرة بمجرد تقدمى بهذا الخطاب. ففى سبتمبر 2004 علمت أن الأمريكيين أرادوا أن يعيدوا صياغة مشروع قرار كانت قد تمت بالفعل صياغته حول إيران، ليرفعوا منه جملة تقليدية تعبّر عن التقدير «لحياد ومهنية» عمل الوكالة فى هذا الملف. وعلى الرغم من أن مثل هذا الأمر قد يبدو عاديًّا بالنسبة إلى البعض، فإن مَن يعمل فى الدوائر الدبلوماسية يعلم بالضرورة أن مثل هذا الأمر يمثل إهانة. ولقد وصف السفير البريطانى فى ڤيينا بيتر جانكينر، هذا السلوك من جانب الولايات المتحدة بالتصرف الضحل غير الجدير بالاحترام.
وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية البحث عن مرشحين يمكن أن يتنافسوا معى على المنصب، وتم التشاور مع البرازيل لترشيح أحد أبرز سفرائها العاملين فى مجال نزع الأسلحة سيرجيو دوكويروز دوارتى، كما تم التشاور مع الأرجنتين لترشيح روبرتو جراسيا مورايتان، وهو أحد مساعدى وزير خارجية الأرجنتين. كما اتصلوا باليابان لدراسة فكرة ترشيح سفير سابق لها فى ڤيينا وهو شينزو آبه. وأيضا أجرت الولايات المتحدة الأمريكية اتصالًا بأستراليا وروسيا للمطالبة بدعم ترشيح آلكسندر داونر وزير الخارجية الأسترالى لهذا المنصب.
وعندما لم تسفر أىُّ من هذه المقترحات عن ترشيح حقيقى، أجرت الولايات المتحدة اتصالًا بالأوروبيين للحصول على موافقتهم على مطالبة الوكالة بتمديد تاريخ تقديم الترشيحات لمنصب المدير العام، وهو الأمر الذى رفضه الأوروبيون.
وعندئذ لجأ الأمريكيون إلى أساليب مختلفة لإفشال حصولى على مدة ثالثة، ففى نوفمبر 2004، فى نفس الوقت الذى كانت تُجرى فيه الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة تقريبًا، تسربت أنباء عن اختفاء بعض المتفجرات من موقع القعقاعة فى العراق. وتبعت ذلك سلسلة من المعلومات غير الصحيحة، ومنها أحاديث مختلفة حول برنامج نووى سرى فى مصر اتصالًا بالبرنامج الليبى واتهامى بأننى أحاول التستر على هذا النشاط، ثم اتهامى أنا وهانز بليكس، بأن لنا حسابات سرية فى أحد بنوك سويسرا بها أموال حصلنا عليها من العراق خلال مدة عملنا هناك، ثم الحديث عن تحويل الإيرانيين مبالغ مالية لحساب بنكى باسم زوجتى فى سويسرا، قيل إن المبلغ كان 600 ألف دولار إلى جانب أحاديث حول تقديم الإيرانيين هدايا لى من السجاد الإيرانى، تبلغ قيمة كل واحدة منها 50 ألف دولار.
وفى الوقت نفسه، نشرت صحيفة «الواشنطن بوست» تحقيقًا صحفيًّا أشار إلى أن اتصالاتى الهاتفية وأخرى لعاملين فى الوكالة يتم تسجيلها للحصول على أى معلومات يمكن أن تستخدم ضدى، ولم يكن فى ذلك مفاجأة كبيرة إلىّ، لأننا كنا قد علمنا من قبل عن تجسس على رسائل نصية ومكالمات للعاملين فى الوكالة. لكن الأمر أصبح مادة صحفية عن مصدر موثوق.
وأخبرنى أحدهم بأن من قام بتسريب موضوع التنصت على مكالماتى الهاتفية كان من العاملين فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ولأسباب تتعلق بعدم الرضا عن بعض تصرفات أشخاص بعينهم فى الخارجية الأمريكية. ولم أندهش لذلك كثيرًا لأنه خلال الفترة من منتصف 2004 وحتى منتصف 2005 تلقت أمانة بصفة سرية صورًا من العديد من المذكرات وغيرها من المعلومات الخاصة بمحاولة إعاقة إعادة انتخابى من موظفين فى الخارجية الأمريكية الذين لم يكونوا راضين عن سلوك بعض الشخصيات الرفيعة فى الخارجية الأمريكية.
وفى النهاية كان الأمريكيون هم وحدهم مَن يعارض ترشيحى، بل إن الدول التى عادة ما تصوت مع الولايات المتحدة الأمريكية وتتبع مواقفها وهى أستراليا وكندا واليابان وبريطانيا، لم تتدخل كثيرًا فى الجدل الدائر، وبعثت إلىّ برسائل مفادها أنها تساندنى، ولكنها تفضل عدم إعلان هذه المساندة حتى لا يكون فى ذلك إحراج للولايات المتحدة الأمريكية أو جعلها تبدو فى موقف منعزل دبلوماسيًّا.
وقبل أسبوع من اجتماع مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية تمت دعوتى لواشنطن من قِبل كوندوليزا رايس التى أصبحت وزيرة للخارجية. وفى اللقاء اقتصر الحديث مع رايس ومع ستيفان هادلى، مستشار الأمن القومى، على ملف إيران وعلى الإصرار الأمريكى لمنع إيران من الحصول على الدورة الكاملة للوقود النووى.
وعندما ذكرت أنه لا بد من أن تحصل إيران على مخرج كريم، أجاب هادلى أنه لا يجب السماح لإيران حتى بتشغيل جهاز طرد واحد لتخصيب اليورانيوم ومنذ ذلك الحين أصبح هذا الموقف حاسمًا فى الحديث الأمريكى عن الملف الإيرانى.
وعندما شارف اللقاء على نهايته، أثارت رايس مسألة إعادة ترشيحى، حيث أخبرتنى بأن موقف الولايات المتحدة الأمريكية إزائى لا يتعلق بشخصى وإنما يتعلق بموقف واشنطن فى عدم استمرار أى شخص كرئيس لأى من منظمات الأمم المتحدة لأكثر من مدتين.
لقد كنت أعلم أن هذا غير حقيقى، وكانت رايس تعلم أننى أعلم ذلك. وربما كانت رايس تحاول الخروج من بعض المطبات الدبلوماسية التى تورط فيها جون بولتون، وكنت قد سمعت أنها رفضت بقاء بولتون فى الخارجية الأمريكية لدى توليها منصبها. وقد قام بوش بتعيينه مندوبًا دائمًا فى الأمم المتحدة، الأمر الذى يُعد إما أسوأ مَثَل فى التاريخ الدبلوماسى على تعيين شخص فى المكان غير المناسب، وإما أفضل تعبير عن نهج الولايات المتحدة تجاه الدبلوماسية متعددة الأطراف فى ذلك الوقت.
وفى كل الأحوال، فلم أزد أنا ولم تزد رايس فى الحديث فى هذا الموضوع، وفهمت وقتها أن الولايات المتحدة الأمريكية بصدد تغيير موقفها إزاء ترشيحى، فما كان منى إلا أن قلت: «لا داعى لأن نتحدث كثيرا عن أحداث وقعت وانتهت»، وبالفعل فى 13 يونيو 2005 تمت إعادة انتخابى لمدة ثالثة بإجماع الأصوات. وبعد كل ما تعرّضت له الوكالة من حملات للإساءة إليها وتقليص عملها، بدا لى أننا بصدد الحصول على تعويض وتقدير مهم. ففى صباح السابع من أكتوبر 2005 كنت عائدًا لتوى من رحلة شاقة. بقيت فى منزلى مرتديًا ثياب النوم أتابع أنباء تتناثر هنا وهناك حول ترشيح الوكالة ومديرها العام، للسنة الثانية على التوالى، لجائزة نوبل للسلام
aymaan noor 09-10-2012, 10:15 AM سنوات الخداع - الحلقة الرابعة و العشرون
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/05/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%AF%D8%B9%D9%89.j pg
فى العام السابق، 2004، بلغت قوة التوقعات إلى الدرجة التى جعلت إدارة الإعلام فى الوكالة تصوغ مسودات لرد الفعل الذى ينبغى أن يصدر فى حال ما ذهبت الجائزة بالفعل لنا، وأتذكر أنه فى الموعد الذى أعلن فيه عن اسم الفائز كنت فى لقاء فى اليابان مع وزير الاقتصاد اليابانى، وعند وصولى إلى مقر الاجتماع وجدت ما يزيد على 50 كاميرا ومحررًا تليفزيونيًّا ينتظرون أنباء لجنة نوبل. وفى أثناء اللقاء علمت أن الجائزة ذهبت إلى الكينية وانجرى ماثاى. وعندما خرجت من اللقاء لم أجد سوى كاميرا وحيدة تلطَّف مصورها ليعرب لى عن أسفه بأننى لم أحصل على الجائزة.
لكن فى صباح الجمعة 7 أكتوبر 2005 قررت أن لا أذهب للعمل، حيث كنت سأواجَه حتمًا بكثير من الأسئلة وبالعديد من موظفى الوكالة ينظرون فى ساعاتهم فى حالة ترقب، خصوصا أن توقعات فوزنا بالجائزة ازدادت بقوة فى اليوم السابق على إعلان الفائز.
وكان من المعتاد أن تتصل اللجنة بالفائز لتخبره مقدمًا بحصوله على الجائزة قبل الإعلان الرسمى عنها بنصف ساعة. ولما كان الإعلان متوقعًا فى الحادية عشرة صباحًا، ولما كانت الساعة قد وصلت 10:45 زالت عنى حالة الترقب وتيقنت أن الجائزة ستذهب إلى شخص آخر، وانضممت إلى زوجتى لمتابعة حفل الإعلان وكلى فضول لأعرف مَن الذى حصل على نوبل للسلام عن عام 2005. وعندما جاء الإعلان باللغة النرويجية، مشيرا إلى اسم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو الاسم الذى استطعت أن أفهمه، وبعد ذلك ذُكر اسمى، نظرت إلى عايدة وانهمرت الدموع من أعيننا.
وانهالت فى الوقت نفسه الاتصالات الهاتفية، اتصل بى أخى على من القاهرة، الذى كان ملتصقا تقريبا بجهاز التليفزيون، فى انتظار الخبر، ثم اتصلت بى سكرتيرتى مونيكا بيخلر، لتُخبرنى أن سفير النرويج ونائبه قد حضرا إلى مكتبى ومعهما باقة رائعة من الزهور، وكان هو الشخص الوحيد الذى تلقى معلومات مسبقة من لجنة نوبل، فدعوتهما للقدوم إلى منزلى. وبين اتصالات هاتفية لم تنته وبين مشاعر كثيرة انتابتنى فى تلك اللحظة وجدت بالكاد الوقت لتغيير ثياب النوم وارتداء ملابسى.
وبعد ذلك توجهت إلى الوكالة، حيث ألقيت كلمات قصيرة للصحافة ثم كلمة قصيرة لموظفى الوكالة الذين كانوا قد اجتمعوا فى البهو وسط ضحكات سعادة وتعبيرات سرور وموجات لا نهائية من التصفيق والاحتفاء.
ولا يمكن لى أبدًا أن أصف مدى السعادة الغامرة والفخر اللذين شعرت بهما وزملائى العاملون معى فى الوكالة والذين ينتمون إلى أكثر من 90 دولة، والذين بذلوا كثيرًا من الجهد من خلال الوكالة لجعل العالم الذى نعيش فيه أكثر أمنًا. لقد كانت تلك لحظة استثنائية بكل المقاييس ومثَّلت بالنسبة إلىّ تكريمًا وتتويجًا لأربعين عاما قضيتها فى العمل من أجل الصالح العام.
وتوالت رسائل التأييد والتهنئة سواء عبر الإيميل أو بالبريد العادى للدرجة التى كان بريدى الإلكترونى لا يستوعبها، وإلى الحد الذى اضطر العاملون فى إدارة البريد بالوكالة لتوزيع هذه الخطابات فى حقائب بلاستيكية كبيرة كتلك التى تستخدم للتسوق. لقد كانت الرسائل تأتى من أناس وأشخاص مختلفين، الكثير منهم أشخاص عاديون من هنا ومن هناك، أبناء قوميات وأعراق مختلفة، وأتباع أديان مختلفة، مدرسون، رؤساء دول وأطفال. أرسل أطفال من إسبانيا بـ300 رسالة، يعبر كل منهم فيها عن التهانى، وراهبات تدعو إلى الصلاة لمستقبل أفضل وأكثر أمنًا، ومواطنون مصريون يعربون عن لحظات فخر وسعادة.
لقد كانت هذه الرسائل رائعة، شعرت معها بكثير من الدعم والتقدير، وتمنيت أن يكون عملى فى المستقبل عند حُسن ظن كل من بعث برسالة. وفى الوقت نفسه شعرت بأن كل رسالة من هذه الرسائل منحنى ثقة كبيرة ودعمًا مهمًّا.
وفى الخطاب الذى ألقيته عند تسلمى الجائزة شعرت أن من واجبى أن أوضح مفهومى الخاص للانتشار النووى فى السياق الأوسع لعدم المساواة فى العالم، والسعى إلى تحقيق الأمن الإنسانى. فقد حاولت لفترة من الزمن، وفى خطاب تلو الآخر، أن أُبيّن الصلة بين التصاعد السلبى للفقر وعدم المساواة فى المجتمعات، والذى كثيرا ما اقترن بغياب الحكم الرشيد وبالفساد وبانتهاك حقوق الإنسان، وبين ما يؤدى إليه ذلك من إيجاد تربة خصبة للتطرف والعنف والحروب الأهلية، بل إلى الاتجاه فى المناطق ذات النزاعات المزمنة لاستعراض القوة وتحقيق التكافؤ الأمنى عن طريق الحصول على أسلحة الدمار الشامل.
لكن مساعدى الإعلامى لابان كوبلنتز، وميليسا فليمنج المتحدثة باسم الوكالة، أخبرانى بأن الرسالة التى أحاول أن أوصلها غير واضحة بشكل كافٍ، رغم المنطق الذى تقوم عليه. فالصلات التى أحاول أن أبنيها موجودة ولكنها لا تصل إلى المستمعين بوضوح. وبالتالى كان علىَّ أن أفكر فى شىء ملموس يوضح ما أردت الحديث عنه.
وها هى الإجابة تَرِد على ذهنى وأنا أفكر فى كيفية استخدام القيمة المالية للجائزة. كانت الوكالة قد قررت أن نصف نصيبها من الجائزة التى كانت تبلغ إجمالا نحو مليون يورو سيذهب إلى دعم أغراض علاج السرطان، ومعالجة سوء تغذية الأطفال فى الدول النامية، بينما قررت أن نصيبى سيذهب إلى قضية طالما شغلت بالى وهى الأيتام فى القاهرة، وهو مجال للعمل التطوعى، كانت زوجة أخى منهمكة فيه.
وهكذا وصلت إلى الصورة التى أردت إيصالها وبدأت أكتب «إن زوجة أخى تعمل مع جماعة تعنى بالأيتام فى القاهرة، حيث تقوم مع زملاء لها برعاية الأطفال الذين تُركوا لمواجهة مقدراتهم لأسباب لا يد لهم فيها، وتقدم هذه الجماعة الغذاء والملبس لهؤلاء الأطفال وتعلمهم القراءة. فى الوقت نفسه أقوم مع زملائى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعمل على أن لا تقع المواد النووية فى أيدى جماعات متطرفة، وكذلك نحن نقوم بإجراءات لتفقد المنشآت النووية حول العالم للتأكد من أن البرامج النووية السلمية لا تستخدم كغطاء لبرامج للتسلح النووى. وفى هذا فإننى وزوجة أخى نعمل لنفس الهدف عبر طرق مختلفة، ألا وهو أمن الأسرة الإنسانية».
وأضفت أن السعى لتحقيق هذا الأمن هو الدافع الذى تتضافر من أجله كثير من جهود الإنسانية. ولكن لأن الأولويات المجتمعية أصبحت ملتبسة، فإننا ننفق أكثر من تريليون دولار سنويًّا على التسلح، بينما يعيش أكثر من ثلثَى سكان العالم على أقل من دولارين فى اليوم الواحد كما ينام مليار إنسان جائعا دون عشاء كل ليلة. إن أسباب عدم الأمان فى عالم اليوم تتفاقم ولا يمكن أن تستمر الأمور على ما هى عليه.
وقلت أيضا «إن العولمة تُسقط الحواجز التى تفصل بيننا كدول وأفراد، فإذا تجاهلنا أسباب عدم أمان البعض فسرعان ما ستصبح تلك أسبابا لعدم الأمان للجميع. فى الوقت نفسه، فإنه مع تطور العلوم والتكنولوجيا وانتشارها فإن إصرار البعض على الاعتماد على الأسلحة النووية سيضعنا أمام خطر أن تصبح هذه الأسلحة أكثر إغراءً للآخرين».
ولم أود أن أنهى محاضرتى بنبرة تشاؤم فاقترحتْ عايدة أن أختمها بدعوة لأمل فى مستقبل أفضل، فكتبت: «دعونا نتخيل كيف سيكون حال العالم لو أن دول العالم خصصت لأغراض التنمية نفس الميزانية التى تخصصها لآلات الحرب؟! ولو أننا كنا نعيش فى عالم يتمتع فيه كل إنسان بالحرية والكرامة؟! تخيلوا لو أننا نعيش فى عالم يشعر فيه الناس بنفس القدر من الحزن لوفاة طفل فى دارفور أو فى فانكوفر! تخيلوا لو أننا نعيش فى عالم تتم فيه تسوية الخلافات والمشكلات بالحوار والأساليب الدبلوماسية لا بالقنابل وإطلاق الرصاص! تخيلوا لو أن العالم تخلّى عن الأسلحة النووية فلم يبق منها إلا آثار تعرض فى المتاحف! أى عالم سيكون هذا الذى يمكننا أن نجعله حقيقة واقعة نتركها لأبنائنا؟!».
لا يمكن لى أبدًا أن أصف يوم استلام الجائزة فى أوسلو، لأن كلمات مثل «يوم لا ينسى» وما إلى ذلك لا يمكن أن تفى تلك اللحظات حق قدرها.
لقد أثّر فى كرم ضيافة وحفاوة الشعب النرويجى والعائلة المالكة بدرجة كبيرة. إن من المدهش أن تتوقف الحياة اليومية فى أوسلو لمدة ثلاثة أيام متواصلة ليقتصر الأمر على الاحتفاء بالسلام، فتُكتب الأشعار والمسرحيات التى يقدمها تلاميذ المدارس، وتقدم الحفلات الموسيقية وتذاع ليشهدها الناس فى أكثر من مئة دولة. ولكن أكثر ما أثّر فى هى تلك الجولة فى متحف نوبل للسلام، حيث تعرفت على تاريخ كل هؤلاء الذين حصلوا على الجائزة من قبلى.
وعندما طُلب منى أن أكتب بعض الكلمات فى كتاب يدوّن فيه كل من حصل على الجائزة، كنت متوترا بينما خطَّت يداى كلمات «علينا أن نغير أسلوب تفكيرنا»، وأضفت «نحن بحاجة إلى أن نفهم القيم التى تجمعنا ونقدِّر أن الحروب لا تحل خلافاتنا أو تؤدى بنا إلى السير على طريق السلام. إن السبيل الوحيد للمضى قدمًا كأسرة إنسانية واحدة لا يتحقق إلا من خلال الحوار والاحترام المتبادل». (ولسوء الحظ فقد أخطأت فى هجاء إحدى الكلمات، وهو الأمر الذى لا تتوقف زوجتى عن التندر معى حوله حتى يومنا هذا).
aymaan noor 10-10-2012, 01:23 PM سنوات الخداع - الحلقة الخامسة و العشرون
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/10/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%82%D8%A9-25.jpg
كانت تلك الأيام الثلاثة أياما ذات طبيعة خاصة على المستوى الشخصى، حيث كانت أسرتى بكاملها برفقتى، زوجتى وابنتى وابنى وأمى وإخوتى وأخواتى، كما كان برفقتى أيضا زملاء مقربون وأصدقاء من الوكالة وأصدقاء مقربون آخرون. وفى هذا كله كانت والدتى مبعث ابتسام وسرور كالعادة. وقد أصبحت والدتى نجمة وهى فى الثمانين من عمرها، حيث توالت قنوات التليفزيون للقائها فى منزلها بالقاهرة عند إعلان الجائزة، وكانت تدلى بالحديث تلو الآخر، تتحدث عنى وعن طفولتى والدموع تترقرق فى عينيها. وفى أوسلو كانت تتحرك بنشاط وبخفة من احتفال إلى آخر. وفى إحدى الأمسيات بينما كنا متجهين لمكان ما بسيارة الليموزين وكنا محاطين بركب من الشرطة وجدتها فجأة تقول: «إن هذا يبدو كالحلم.. إننى أشعر كما لو كنت ملكة».
لقد كانت جائزة نوبل لحظة فارقة، ليس فقط بالنسبة إلىّ على المستوى الشخصى، لكن أيضا بالنسبة إلى تقدير العالم للعمل الذى تقوم به الوكالة وبالتوازى بالنسبة إلىّ إحساس الوحدة والفخر الذى جلبته للأمانة العامة للوكالة. وقبل ذلك لم تكن وسائل الإعلام قد اهتمت كثيرًا بعلمنا سوى بالنسبة إلى بعض عمليات التفتيش فى أماكن بعينها، على الرغم من أننا كنا نقوم عامًا بعد الآخر بتفقد 900 منشأة فى سبعين دولة.
ومن أهم ما حققَتْه الجائزة أنها لفتت النظر إلى أن قيمة عمل الوكالة لا تقتصر فقط على تفقد وتفتيش منشآت نووية وهذا هو عمل واحدة من إدارات الوكالة، لكنه يشمل أيضا الدعوة إلى الاستخدامات الآمنة للطاقة النووية فى خدمة الأغراض السلمية، بما فى ذلك علاج أمراض القلب، والبحث عن المياه الجوفية وتطوير استخدامها، وتحسين الحاصلات الزراعية كمًا ونوعًا. وبالنسبة إلى مجموعة عمل بهذا التنوع وتنتمى إلى خلفيات ثقافية وتعليمية ووظيفية متعددة، فإن ارتقاء الوعى العام بعملها بهذا القدر كان من شأنه تعزيز القناعة داخل المنظمة بأن الكل يعمل فيه لتحقيق هدف مشترك.
وقد أفادت الجائزة كذلك فى تيسير التواصل مع من نريد. كان عمل الوكالة فى العراق قبل الغزو فى مارس 2003، قد وضعها فى دائرة الضوء، وأصبحت من أشهر المنظمات الدولية. لكن حصولها على جائزة نوبل ضاعف من هذه الشهرة، وأصبح لديها قدرة أكبر لإيصال رسالتها عبر العالم سواء من خلال تسليط الضوء الإعلامى المكثف علينا، أم من خلال القدرة المتزايدة للقاء زعماء وقيادات العالم بعد أن كانت اللقاءات تُعقَد قبل ذلك على المستوى الوزارى. إن جائزة نوبل ولا شك غيّرت المعيار الذى يتم على أساسه التعامل مع الوكالة.
وبجانب كل ذلك فقد أكدت جائزة نوبل أهمية استقلالية عمل الوكالة، بل وأعطته دفعة جديدة. وبوصفى مديرًا عامّا للوكالة شعرت بأننى أصبح لدىّ مناعة أكبر فى مواجهة الاتهام بالانحياز أو التعاطف أو ما إلى ذلك من الاتهامات غير المنصفة التى كانت توجه إلىّ أحيانا.
فى الوقت نفسه قمت باستغلال هذه الفرصة لألفت الانتباه إلى محدودية الموارد المالية التى كانت متاحة لدى الوكالة، والتى كانت لا تسمح لنا بالتوسع فى تطوير التكنولوجيا المتاحة لنا، الأمر الذى يهدد استقلالنا ويضطرنا أحيانا إلى الاستعانة بالآخرين، كاعتمادنا مثلا على دولتين أو ثلاث لإمدادنا بصور ملتقطة بالأقمار الاصطناعية للكشف عن منشآت نووية غير معلن عنها. وعادة ما يتم إمدادنا بهذه الصور بشكل انتقائى، وبالتالى فنحن فى حاجة إلى القدرات المالية التى تمكننا من اختيار ما نريد من الصور وشرائها. إلى جانب ذلك فنحن بحاجة أيضا لتدعيم قدرات مختبرات البحث النووى الخاصة بنا، التى تساعدنا فى عمليات التحقق.
ومنذ الفوز بجائزة نوبل أصبحت أتحدث بحماس أكبر وثقة أكبر عن ضرورة دعم استقلال الوكالة بسلطات قانونية أوسع وقدرات تكنولوجية أكبر وموارد مالية أكثر.
وبالطبع لم تقلل الجائزة على الإطلاق من شأن التحديات الكبيرة التى كنا بصددها، وإن كانت بالتأكيد عززت من قدرتنا وعزيمتنا على التصدى لهذه التحديات.
الفصل التاسع
إيــران 2006
«ولا جهاز طرد واحد»
بحلول يناير 2006، كانت المحادثات الملتبسة والمتعثرة بين إيران والمجتمع الدولى قد توقفت تماما. فلقد رأت إيران أن العرض الأوروبى لتقديم العون والمساعدة التكنولوجية لها مقابل وقف تطوير برنامجها النووى، كان عرضًا مهينًا من حيث الصياغة، وغير ذى فائدة من حيث المكاسب التى يطرحها على إيران، خصوصا ما يتعلق باحتياجاتها الأمنية والسياسية. ومع رفض العرض، وفشل المفاوضات بشأنه، استأنفت إيران عمليات تخصيب اليورانيوم، وهو ما أنهى الإيقاف الطوعى الذى كانت طهران قد قررته لأنشطتها النووية، وهى الخطوة التى أدت بمجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إدانة «عدم امتثال» إيران لالتزاماتها المقررة بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
ولم يكن هناك تقدم ملموس يلوح فى الأفق. وكانت إيران تشعر بالثقة، فأسعار النفط كانت فى ارتفاع، فى وقت كانت الصين فيه معتمدة على واردات النفط والغاز من إيران، وكانت روسيا مستمرة فى بناء مفاعل بوشهر، كما كانت حريصة على الإبقاء على العلاقات الجيدة مع جارتها إيران.
وبالتالى، قررت إيران أن تقوم بمغامرة محسوبة، حيث أخطرت الوكالة فى 3 يناير بأنها تنوى اتخاذ خطوة للأمام باستئناف أعمال البحث والتطوير الخاصة بتخصيب اليورانيوم، ثم بعثت للوكالة بخطاب تطالبها فيه برفع الأختام التى كانت قد وضعتها على منشأة التخصيب فى «ناتانز».
وكانت هذه المغامرة المحسوبة تنطوى على قيام الإيرانيين بتشغيل عدد محدود من أجهزة التخصيب البحثية فى المحطة التجريبية، وكان الإيرانيون يعتقدون أن مجلس الأمن لن يفرض عليهم عقوبات جديدة، خصوصا أن إجراء عملية تخصيب لأغراض سلمية كان فى كل الأحوال فى إطار الحقوق القانونية المقررة لإيران بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وأن قرار إيقاف العمل بهذا الحق كان بمثابة بادرة حُسن نية من قِبل طهران، بغرض تسهيل التفاوض. ولم يكن من المرجح فى تقدير طهران أن يتخذ مجلس الأمن إجراء ضدها لأن معظم حالات «عدم الامتثال» كان قد تم تصحيحها خلال العامين السابقين، كما أن عملية التخصيب الصغيرة تلك كانت بالفعل قانونية. وكان الإيرانيون على ثقة بأنه لن تكون هناك تداعيات سلبية لقرارهم، وأن المفاوضات مع الأوروبيين سيتم استئنافها، وأنهم، أى الإيرانيون، سيقبلون لاحقا بمهلة توقف خلالها عمليات التخصيب واسعة النطاق.
وحاول الروس وهذا ما يُحسب لهم الوصول إلى حل وسط بأن يسمح لإيران بتشغيل عدد محدود يتراوح بين ثلاثين وأربعين جهازًا من أجهزة الطرد فى إطار برنامجهم للبحث والتطوير بحيث يتم تحديد تفاصيلها بالتشاور مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن هذا الاقتراح تم سحبه من قِبل روسيا نظرا للرفض الأمريكى الحاسم لاستئناف إيران أى من أنشطة التخصيب، كما أن إيران نفسها لم تؤيد هذا الاقتراح صراحة.
كان المقترح الروسى فى نظرى معقولا، ويتيح الفرصة لتجاوز حالة التوقف التى وصلت إليها المفاوضات. وعندما زارنى «بوب جوزيف»، الذى حل محل «جون بولتون» فى فيينا أبلغته بذلك. وقد اتصلت بى «كوندوليزا رايس» مباشرة بعد هذا اللقاء معربة عن استيائها، لما وصفته بدعمى لاستئناف إيران لأنشطة التخصيب، مما يضفى الشرعية علىها. وكنت عندئذ فى دافوس، وذكرت لها أننى لم أتخذ موقفًا علنيّا فى هذا الشأن لكنى أرى أن المقترح الروسى جدير بالنظر فيه، لأن فوائده تفوق أضراره، خصوصا أنه إذا ما تم العمل به، فإنه سيمكن للوكالة بموافقة إيران أن تستأنف عمليات التحقق والتفتيش على المنشآت الإيرانية التى قد تكون غير معلنة تنفيذًا للبروتوكول الإضافى الذى وافقت إيران على تنفيذه بشكل مؤقت لحين التصديق عليه، كما ذكرت لها أنه من الضرورى بدء المفاوضات مع إيران، إذا كنا نأمل فى إيقاف تقدمها نحو التخصيب على نطاق واسع.
وفى نهاية تلك المحادثة المتوترة، أبلغتها أن القرار فى النهاية يرجع إلى مجلس الوكالة، لكنى مع ذلك مدين لهم بإبلاغهم بوجهة نظرى. بعد هذه المحادثة التقت «رايس» نظيرها الروسى «سيرجى لافروف» الذى أدلى بتصريحات صحفية تفيد بأنه لم يكن هناك مقترح روسى من الأساس، فى ما بدا محاولة لعدم الدخول فى مواجهة يمكن أن تزيد من تعقيد العملية الدبلوماسية.
وفى فبراير، قرر مجلس الوكالة إحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن، وذلك فى ضوء الفشل المتكرر للتوصل لحل تفاوضى لمدة أكثر من عامين بين الدول الأوروبية الثلاث وبين طهران، معلنا بذلك دخول الأزمة مع إيران فى مرحلة جديدة.
ولكن أصوات أعضاء المجلس كانت منقسمة، فمن بين الدول الـ35 الأعضاء، امتنعت خمس دول نامية عن التصويت، بينما صوتت ثلاث دول ضد القرار، من منطلق أن وقف إيران لكامل نشاطاتها كان قرارا اختياريّا، ولم يكن هناك إلزام قانونى. ولقد مثَّل هذا الانقسام فى الآراء خرقا لقاعدة التصويت بالتوافق، فى مجلس محافظى الوكالة والتى تسمى «روح العمل فى ڤيينا». ولم يكن هذا الانقسام مؤشرًا طيبًا.
aymaan noor 12-10-2012, 07:51 AM سنوات الخداع - الحلقة السادسة و العشرون
جاء الرد الإيرانى المتوقع فى سبتمبر 2005 بوقف العمل بالبروتوكول الإضافى إذا ما تمت إحالة الملف الإيرانى لمجلس الأمن. وكان من شأن هذه الخطوة أن تقلص بشدة قدرات التفتيش والتحقق من المواد والأنشطة التى قد تكون غير معلنة والتى كانت متاحة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما أنها جاءت بمثابة إعلان عن مزيد من التشدد فى المواقف المتخذة من قِبل الأطراف فى الملف الإيرانى.
وكان لا بد من القيام بزيارة أخرى إلى واشنطن، وهو ما حدث فى شهر مايو، حيث التقيت «رايس» و«جون نجروبونتى» مدير المخابرات الوطنية الذى كان من رأيه أنه حتى إذا كان الهدف النهائى لطهران هو تصنيع سلاح نووى، فإن ذلك سيستغرق سنوات عديدة حتى يتمكن الإيرانيون من الحصول على التكنولوجيا اللازمة لهذا الغرض. ولقد دأب «نجروبونتى» على الإدلاء بتصريحات علنيه بهذا المعنى، فى ما بدا لى أنه ربما كان محاولة لدرء التحريض على القيام بعمل عسكرى الذى كانت تنادى به إسرائيل والمتشددون فى الولايات المتحدة الأمريكية.
وكنت أود استعادة مسار العلاقة مع «رايس»، التى كنت قد اختلفت معها بشدة فى الفترة السابقة للحرب على العراق، دون أن يحول ذلك دون استئنافنا فى ما بعد لعلاقة قوامها الاحترام المتبادل، وأحيانا شىء من الدعابة، خصوصا أننى كنت أرى أن «رايس» تتسم بالبراجماتية أكثر من الأيديولوجية خصوصا إذا كنا وحدنا، وفى كل الأحوال لم يكن خافيا أن آراء «رايس» لم تكن دوما هى التى يتم على أساسها اتخاذ القرارات، وأنها كانت ترى أن مهمتها الرئيسية هى تنفيذ قرارات الرئيس «بوش» الذى كانت تدين له بالكثير من الولاء. ورغم أننى لم أكن واثقا عادة من حقيقة مواقف «رايس»، فإننى كنت فى المجمل أنظر إليها بوصفها إحدى أهم الشخصيات التى يمكن التعامل معها فى إدارة «بوش» كما كنت أرى أنها مؤمنة بأهمية العمل الدبلوماسى.
وبعد حديث حول أمور صغيرة من هنا وهناك، انتقل الحديث إلى الملف الإيرانى وقلت لها بصراحة إنه ينبغى للولايات المتحدة الأمريكية أن تشترك فى الحوار مع إيران، لأن الحوار لن يتقدم دون مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقبل توجهى إلى الولايات المتحدة الأمريكية كنت قد التقيت على لاريجانى، كبير المفاوضين الإيرانيين، وطلب منى أن أنقل إلى الولايات المتحدة أن الإيرانيين مهتمون بالحوار المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية ليس فقط فى ما يخص الملف النووى الإيرانى، ولكن أيضا فى ما يتعلق بالعراق وأفغانستان وحزب الله وحماس. وعبّر لاريجانى عن قناعته بأن إيران يمكن أن تلعب دورا هامّا إزاء عدد من القضايا التى ستؤثر على انتخابات التجديد النصفى فى الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها قادرة على دعم الأمن فى بغداد، والمساعدة على تشكيل حكومة وحدة وطنية فى لبنان. وعندما ذكرتُ تلك النقطة لـ«رايس» لمحتُ لمعانا فى عينيها.
وقد أكدتُ مرة أخرى لـ«رايس» و«بوب جوزيف» أن المطالب الإيرانية لاستئناف البحث والتطوير على نطاق محدود لنشاطها النووى ليس له تبعات كبيرة من منظور انتشار التكنولوجيا الخاصة بالأسلحة النووية، وأنه فى النهاية يمكن للإيرانيين أن يقوموا بذلك بصورة سرية، وأنه من المشجع جدّا أن إيران اختارت أن تتحرك فى هذا الأمر بعلنية. وأن الشىء المهم هو تجميد أى تحرك نحو التخصيب على نطاق واسع والإبقاء على حضور قوى للوكالة فى إيران لأغراض التحقق من أنشطتها. فما الفائدة من التحقق التام من الأنشطة النووية المعلن عنها دون أن يكون هناك بروتوكول يسمح لنا بالتأكد من أنهم لا يقومون بأنشطة غير معلنة أو أن لديهم برنامجا سريّا؟ وأضفت أن الحصول على التكنولوجيا الخاصة بتطوير الأسلحة شىء والتحرك فعلا لتطوير هذه الأسلحة شىء آخر، وأكدت مرة أخرى أن الموافقة على المطلب الإيرانى لحفظ ماء الوجه سيكون مقابلا بسيطا فى سبيل ذلك.
ولقد سُررت عندما وجدت «رايس» تصغى باهتمام لما كنت أقوله لها، خاصة أنها اعتادت أن تستمع لعبارة واحدة تتردد دوما فى إطار الحديث عن الملف الإيرانى، وهى أنه لا ينبغى أن يُسمح للإيرانيين بتشغيل «ولا حتى جهاز طرد واحد»، وهى المقولة التى طالما رددها «ستيف هادلى»، وربما كان منشأ هذه المقولة من جانب البريطانيين فى أثناء تفاوضهم مع الإيرانيين، حيث قالوا إن برنامج بريطانيا لتصنيع السلاح النووى قام على تشغيل عدد قليل من أجهزة الطرد. وكانت عبارة «ولا حتى جهاز طرد واحد» قد اتخذت أهمية كبرى لدى أولئك المنظرين الأيديولوجيين الذين كانوا يرون فى الولايات المتحدة ضابطا يفرض النظام فى العالم، والذين كانوا يستمعون فقط بعضهم لبعض للإبقاء على معتقدات عفا عليها الزمن. فقد كان من الواضح أن هذا التوجه لن يجدى، لأن إيران لم تكن قطعا لتتخلى عن كل برنامج التخصيب بالكامل.
ولم يكن الكثيرون فى واشنطن يدعمون فكرة الحوار أو التقارب مع إيران، بل إن بعض التقارير قد أشارت فى أبريل إلى ترتيبات سرية لضربة محتملة ضد منشآت إيران النووية. أما «رايس» فكانت مقتنعة أن إيران ستتراجع لأنها ليست مثل كوريا الشمالية، ولا تريد أن تعيش معزولة عن العالم الخارجى.
وأجبت بأننى أخشى أن يأتى تزايد الضغط على إيران بنتيجة عكسية. وكنت أرى فى الوقت نفسه أن السياسة الأمريكية تجاه إيران كانت قائمة على التبسيط المخلّ من خلال عبارتين: «ولا حتى جهاز طرد واحد» و«إيران ستتراجع» وأنها أصبحت تفتقر إلى العمق والمرونة اللازمَيْن للتعامل مع الواقع المتغير.
وفى اللقاءات المنفردة مع «رايس»، حرصَت على تأكيد أنها والرئيس «بوش» يبذلان كل الجهد للتوصل إلى حل سلمىّ لقضية إيران فى محاولة للإيحاء بأنه لا يمكن تصور اللجوء إلى الخيار العسكرى. وبعد عدة أيام صدرت عن واشنطن تصريحات تفيد باعتزام الولايات المتحدة الأمريكية الانخراط فى الحوار المباشر مع طهران فى حال ما التزمت بوقف كل الأنشطة المتعلقة بالتخصيب.
ولقد مثَّل هذا الموقف نقلة جذرية فى التصريحات العلنية التى كانت تصدر من واشنطن، وكان واضحا أن ذلك الموقف جاء نتيجة جهد بذلته «رايس» ومعاونوها فى مقابل الضغط الذى يمارسه المحافظون الجدد الذين يقولون بأن الحوار مع طهران يعطى النظام الإيرانى مشروعية، فى حين أنهم يَدْعون صراحة إلى تغيير هذا النظام.
على الرغم من ذلك، فلقد كان باديا أن ما تطلبه واشنطن فى المقابل من شأنه أن يُحدث خلافات داخلية مزلزلة بالنسبة إلى إيران، بالنظر إلى أن البرنامج النووى الإيرانى أصبح مسألة تتعلق بالكرامة الوطنية، وبالنظر أيضا إلى الصعوبات الكبيرة التى كانت حكومة أحمدى نجاد تواجهها على الساحة الداخلية، وهو ما يعنى أنه سيكون من الصعب عليها أن تقبل بترتيب يمكن أن تبدو على أساسه أنها تخضع لضغوط غربية. إضافة إلى ذلك فإن الحكومة الإيرانية لم تُرِد أن تقدم تنازلات تفاوضية مبكرة للغرب لأن ذلك يُضعِف موقفها التفاوضى، كما أن استئناف العمل فى برنامجها فى المستقبل سيكون معرضا للخطر لو أنه تم تصويره بأنه سيجىء كتنازل من جانب الغرب، وتلك مغامرة غير مأمونة العواقب.
وفى يونية 2006، وإزاء عدم وجود محادثات مباشرة بين واشنطن وطهران، عاد الأوربيون مرة أخرى بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين للعمل على وضع صفقة جديدة لطرحها على طهران. وكانت الفكرة هى أن يُطرح على إيران مقترح له مساران، الأول أن تحصل إيران على جملة من الحوافز مقابل الموافقة على الحد من برنامجها النووى. والثانى هو الإنذار بعقوبات فى حال لم تقبل بذلك.
ومن جانبى، حاولتُ أن أشرح لهم أنه من المنظور الثقافى، فإن تقديم هذين الطرحين معا أى الجزرة والعصا سيجعل حكومة إيران تبدو كما لو أنها تتفاوض تحت التهديد، مما سيدفعها دفعا نحو رفض المقترح من باب الاحتفاظ بالاحترام الذاتى والتأييد الشعبى. ولم يكن لهذا المنطق أى علاقة بالأبعاد الفنية للموضوع. فالأسلوب الغربى فى التعامل مع إيران كان أشبه بالذهاب إلى السوق وعرض مبلغ مناسب على صاحب المتجر مع تهديده كذلك بحرق المتجر إذا لم يوافق على العرض. وإذا كان هذا الأسلوب يصلح لفيلم سينمائى يمثله «كلينت أيستوود» فهو مقضى عليه بالفشل منذ البداية فى التعامل مع إيران.
وقد أبدى الأوربيون تفهما مبدئيّا لهذا الطرح واتفقوا فى ما بينهم على مجموعة الحوافز، وكذلك على مجموعة من العقوبات. وقرروا أن يذهب «خافيير سولانا» إلى طهران لنقل المقترح، بحيث يتحدث فقط عن الحوافز دون إثارة أمر العقوبات المحتملة فى حالة الرفض.
aymaan noor 13-10-2012, 12:33 PM سنوات الخداع - الحلقة السابعة و العشرون
http://tahrirnews.com/wp-content/uploads/2012/10/%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%AF%D8%A7%D8%B9-26.jpg
على عكس الصفقة الأولى التى كان الأوروبيون قد طرحوها فى أغسطس 2005، جاءت هذه الصفقة بكثير من السخاء، وعرضت على وجه التحديد مد إيران بتكنولوجيا تقليدية ونووية لتوليد القوى. كما أن العرض تمت صياغته بصورة تعبر عن الاحترام لحقوق إيران، كما تضمن عناصر لاتفاق تجارى مع الغرب. غير أن العرض كرر مطالبة إيران بإيقاف برنامج التخصيب كشرط مسبق للمفاوضات، بل إن الصياغة بدت وكأنها تعلق حق إيران فى استئناف برنامج التخصيب على موافقة الغرب.
وطلب الإيرانيون مهلة حتى 22 أغسطس لدراسة العرض والرد عليه، وكانت إيران فى هذا الوقت ما زالت مستمرة فى تطوير أبحاث التخصيب، وبصدد الانتقال من عملية تجريبية قوامها من عشرة إلى عشرين جهاز طرد متتابع إلى تجربة قوامها مئة وأربعة وستين جهازًا. ولم يكن ذلك يجرى بانتظام تام، إذ كانوا يقومون بالتشغيل لمدة عشرة أيام ثم يتوقفون بضعة أيام ثم يستأنفون التشغيل. وكان خبراؤنا يعتقدون أنه كان بوسع الإيرانيين أن يسيروا بوتيرة أسرع كثيرًا لو أنهم أرادوا. وفى مرحلة ما، ذكر الإيرانيون أنهم ربما يقومون بتشغيل مجموعة ثانية من مئة وأربعة وستين جهازًا فى غضون ثلاثة أشهر، وهو ما نصحتهم بأن لا يقوموا به، لأن ذلك من شأنه أن يجعل المفاوضات أكثر تعقيدًا.
وكان طلب إيران مزيدًا من الوقت محل تشكك وريبة من جانب البعض فى الغرب، حيث رأى الأمريكيون وغيرهم أن الهدف من هذا الوقت هو تحقيق التقدم فى أبحاث وتطوير التخصيب الذى يقومون به، ولم يكن فى هذا أى منطق على الإطلاق، لأنه لم يكن من الممكن أن تحقق إيران أى تقدم يُذكر خلال فترة تقل عن ثلاثة أشهر. أما أنا فقد كنت أعتقد أن الأمر ناجم عن بطء عملية اتخاذ القرار فى إيران، بالنظر إلى تعقيدات وتداخلات المشهد السياسى، فهم يطيلون التفكير قبل صياغة أى استراتيجية، وهم أبدًا لا يبدون متعجلين. وخاصة إذا تعلق الأمر بمحاولة دفعهم لاتخاذ قرارات تحت الضغط الخارجى.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تريد الانتظار، وأصرت على أن يسعى «سولانا» إلى عقد اجتماع مع الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن قبل تاريخ 22 أغسطس. وقد وافق لاريجانى على عقد اجتماع فى بروكسل فى 11 يولية مع مجموعة الخمسة زائد واحد بدافع من رغبته فى استيضاح بعض تفاصيل الصفقة، خاصة ما يتعلق بالشروط المقترحة لإيقاف أنشطة التخصيب ومداه. وبدا بوضوح من مناقشاتى معه أنه عازم على التوصل إلى حل تفاوضى.
لكن هذا الاجتماع كان ضرره أكثر من نفعه. ففى منتصف المباحثات، تدخل «جون ساورز»، مسؤول الشؤون السياسية فى الخارجية البريطانية بشكل حاد، مقاطعا «سولانا» بينما كان يتحدث وموجها حديثه للاريجانى قائلا: «نحن نريد أن نعلم بصورة قاطعة ما إذا كنتم مستعدين لوقف أنشطة التخصيب أم لا».
وبالطبع، لم يكن من الممكن للاريجانى أن يقدم ردّا إيجابيّا عن هذا السؤال، لأن طهران لم تكن قد توصلت إلى رد نهائى، وانهار الاجتماع، وأعلن «سولانا» فى نهايته أن مجموعة خمسة زائد واحد أعلنت عزمها على إحالة الملف إلى مجلس الأمن.
وبعد ذلك بفترة وجيزة، توجهت للمشاركة فى قمة الدول الثمانى فى مدينة «سانت بيترسبورج»، وهناك التقيت الرئيس «بوش»، الذى بادرنى مبتسما: «البرادعى!». ثم قال لى إنه يقدر الجهد الذى أبذله فى ما يتعلق بالملف الإيرانى، لأن أحدا لا يعلم على وجه اليقين ما الذى يجرى فى طهران. وبالطبع كان ردى أنهم يريدون بعض الوقت، لكنهم بالفعل يريدون التوصل إلى حل عبر التفاوض، فكان رده: «نحن مستعدون»، فى إشارة إلى نيته الاستماع لما لدى طهران أن تقوله.
ثم فى محادثة منفصلة أبدى «تونى بلير» نفس التعليق على ما قلته له بشأن رغبة إيران فى التوصل إلى حل تفاوضى. «نحن مستعدون»، قالها كما لو كان هو و«بوش» قد اتفقا معا على حرفية ما سيقولانه لى.
وبينما كان مجلس الأمن يقترب من التوصل إلى قرار حول الملف الإيرانى، جاء جواد وحيدى، نائب لاريجانى، لمقابلتى فى ڤيينا. وكان فحوى ما قاله لى إن إيران مستعدة للقبول بوقف نشاطات التخصيب، لكن كنتيجة يمكن التوصل إليها عبر صفقة من خلال التفاوض، وليس كشرط مسبق للبدء فى التفاوض، على أن يكون ذلك أيضا مرتبطا بحصول إيران على ضمانات أمنية من نوعٍ ما.
وأضاف وحيدى: «نحن نريد أن نعرف إذا ما كنا نتفاوض مع حليف أم مع خصم، لأن الأمر لا يتعلق فقط بالبرنامج النووى، ولكن بمجمل العلاقة بين أمريكا وإيران فى المستقبل».
ثم شرح الموقف الداخلى لأحمدى نجاد، وقال إنه لو وافق الرئيس الإيرانى الآن على وقف التخصيب من دون الحصول على شىء فى المقابل، فإن حكومته ستنهار.
وبعد ذلك أخبرنى وحيدى بما اعتبرته أمرا توضيحيّا ومقلقا فى الوقت نفسه، وهو أن روحانى، الذى كان يتفاوض مع الوكالة وقت تولى الرئيس خاتمى الحكم فى إيران، أصبح اليوم هو وفريقه معارضين لوقف التخصيب وقبول الصفقة. ولم يكن الأمر يتعلق فقط بالصفقة المعروضة عليهم والتى كانت بالتأكيد أفضل من سابقتها، لكن فى كونها قد تكون بداية لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذى يمكن أن يجعل من أحمدى نجاد بطلا قوميّا، وهو آخر ما كان يود أن يراه روحانى وفريقه، وبالتالى فقد عملوا كل ما فى وسعهم لعرقلة الصفقة التى عملوا جاهدين على إتمامها قبل ذلك. وكان ذلك أمرا مؤسفا، لأنه أوضح أن التركيز كان بالأساس على نتائج هذا الاتفاق على الفرقاء فى السياسة الداخلية الايرانية، وليس على إيجاد حل للازمة الإيرانية.
وكنت أخشى أن تضيع تلك الفرصة، فبادرت بالاتصال بمندوب أمريكا لدى الوكالة الدولية «جريج شولتى» لأخبره بأن الفرصة ما زالت متاحة للتوصل إلى اتفاق يشمل ترتيبات أمنية إقليمية واسعة، وأن ما يلزم للتحرك قدما هو أن تقبل الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم تنازل بسيط للغاية. وطلبت منه أن يبلغ هذه الرسالة إلى واشنطن.
ولكن ذلك لم يتحقق، ففى أواخر يوليه 2006، قبل ثلاثة أسابيع من الموعد المحدد لتقديم إيران لردها، أصدر مجلس الأمن القرار 1696. وبمقتضى هذا القرار الذى تم تبنيه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذى يخول مجلس الأمن اتخاذ التدابير اللازمة فى حالة تهديد السلم، أو الإخلال به، أو العدوان، أصبح وقف التخصيب إجباريّا. ومع نهاية شهر أغسطس، كان علىّ أن أقدم تقريرًا لمجلس الأمن يؤكد أن إيران أوقفت بالفعل عمليات تخصيب اليورانيوم.
كان من الصعب أن أتصور شيئا أبعد عن المعقول من القرار 1696، وما هو أشد مدعاة للانقسام، لأننا ببساطة كنا قد أنفقنا نحو أربع سنوات فى التحقق من برنامج إيران النووى، ولم يكن هناك ما يضير فى الانتظار لمدة ثلاثة أسابيع أخرى يمكن أن نستفيد منها فى إيجاد حل لمسألة التخصيب. وهو ما جعلنى أعتقد أن الإدارة الأمريكية ربما لا تكون معنية حقيقة بإيجاد حل للملف الإيرانى أو الحوار مع طهران. فهل يمكن أن تكون الإدارة أسيرة لمن لا يريد إلا مواجهة مع إيران، ومن يصر على تغيير النظام فى طهران؟
إضافة إلى ذلك، فإن القرار كانت به شوائب قانونية، فبالإضافة إلى أنه لم يكن هناك دليل على أن طهران لديها برنامج تسلح نووى، فإنه كان من المبالغة الشديدة وصف أجهزة الطرد المحدودة على المستوى المعملى لتخصيب اليورانيوم، وهو حق لكل الأطراف فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بأنها تمثل «تهديدا للأمن والسلم الدوليَّيْن».
وفوق هذا وذاك، فإن القرار كان يفتقر للمنطق، لأنه لو كانت هناك خشية حقيقية من سعى إيران لامتلاك سلاح نووى، فإن وقف أعمال التخصيب البحثية المحدودة المعلنة لم يكن ليعنى شيئا على الإطلاق. لو أن إيران كان لديها بالفعل برنامج فعال للتسلح النووى. فقد كان ينبغى أن يكون الهدف الأساسى هو الإبقاء على عمليات التفتيش التى تقوم بها الوكالة للبحث عن أنشطة التخصيب غير المعلنة لإيران أو برامج التسلح السرية. وقد أوضح التركيز على عمليات البحث والتطوير من أجل التخصيب فى «ناتانز» أن الأمر لا يتعلق ببرنامج تسلح سرى، بل بشأن نوايا إيران فى المستقبل.
والأسوأ من كل ذلك، كان توقيت القرار والذى تزامن مع حرب مشتعلة فى لبنان، ومع الصراع متفاقم بين حزب الله وقوات الدفاع الإسرائيلية، والذى أثر على حياة آلاف من المدنيين اللبنانيين. وعلى الرغم من الدعاوى التى صدرت عن المجتمع الدولى، فإن «بوش» و«بلير» استمرا فى رفضهما للدعوة لوقف إطلاق النار، بل إنه عندما طالب «كوفى أنان» كلّا منهما بالدعوة لوقف إطلاق النار كان ردهما: «لسنا مستعدين لذلك بعد».
واتضح فى ما بعد أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت فقط أن تسعى لوقف إطلاق النار، عندما اكتشفت أن الهجوم العسكرى الإسرائيلى لم يكن يحقق مبتغاه. وقبل ذلك وبدلا من أن تسعى لوقف القتال كانت الولايات المتحدة تهرع لتمد إسرائيل بقنابل شديدة الدقة فى التصويب.
aymaan noor 14-10-2012, 09:55 AM سنوات الخداع - الحلقة الثامنة و العشرون
http://dostorasly.com/uploadedimages/Sections/Politics/Egypt%20Politics/big/6079607056gjkjhkh.jpg
انتظر العالم حتى 11 أغسطس، ليقرر مجلس الأمن تبنى قرار وقف إطلاق النار بعد أن كان قُتل ألف ومئة لبنانى، و40 إسرائيليًّا، وبعد أن تسببت الحرب فى نزوح 750 ألف لبنانى. هذا كله بينما كانت قوى العالم تتابع المشهد دون أن تتحرك لتوقف الدمار.
لقد كنت فى مصر فى ذلك الوقت فى منزلى الصيفى غرب الإسكندرية، وكان الرأى العام مستاء للغاية، بل وقابلا للانفجار جراء الشعور العام بأن الغرب يكيل بمكيالين ويتعمد عدم اتخاذ أى إجراء، ولم يكن ذلك قاصرًا على مصر، حيث ساد الشعور نفسه عبر الشرق الأوسط.
وفى ذلك الوقت، اتصل بى كوفى أنان، وقال لى بصوت حزين مكتئب: «هذه الحرب المستعرة فى لبنان لا تشكل تهديدًا للأمن والسلم الدوليَّيْن، وإنما المعمل البحثى النووى الصغير فى إيران هو الذى يمثل هذا التهديد!!».
فى محاولة للإبقاء على تركيزى على الملف الإيرانى، اقترحت فى رسالة إلى لاريجانى أن ترسل إيران ردًّا بالموافقة على المقترح الغربى، على الرغم من صدور القرار 1696، فى الموعد المقرر فى 22 أغسطس، واقترحت أن يُبدوا فيه استعدادهم لإيقاف أنشطة التخصيب على المستوى الصناعى لبضع سنوات والالتزام بحل المشكلات المعلقة مع الوكالة بشأن التحقق، مشيرًا إلى أنه إذا استطعت أن أقدم تقريرًا يُظهر تقدمًا فى تلك المسألتين فإن ذلك يمكن أن يغير موقف الأوروبيين وغيرهم إزاء إيران. لكن رد لاريجانى جاء فى شكل رسالة إلى الغرب من خلال وسائل الإعلام بأن إيران لن تقبل أبدًا بوقف تخصيب اليورانيوم.
لم أكن على علم بكل تفاصيل تبنى القرار 1696، ولكن بدا لى أن جانبًا من المشكلة يرجع إلى ما كان يجرى وراء الكواليس فى منتصف عام 2006. فقد تبنى الدبلوماسى البريطانى القدير جون ساورز، مساعد بلير السابق، والذى كان يتحدث باسم المملكة المتحدة، موقفًا متشددًا شبيهًا بموقف الأمريكيين.
وكنت خلال العامين السابقين قد لاحظت اختلافًا فى الأسلوب والمضمون بين ساورز ورئيسه سترو، وزير الخارجية. وكانت علاقتى وثيقة مع سترو فقد وجدته قادرًا على استيعاب الصورة الكبيرة وعلى الإنصاف واحترام الفوارق الثقافية، كما أن لديه استعدادًا عمليًّا لبحث الحلول التى يمليها المنطق السليم. لكن سترو لم يعد رئيسًا لساورز، فقد سبق أن ذكر لى سترو أن الأمريكيين لم يعودوا يثقون به، خصوصًا بعد أن وصف أفكارًا كان يتم تسريبها عن احتمال استهداف عسكرى لمنشآت نووية إيرانية بأنه ضرب من الجنون، لأنه «لا يوجد دليل» على امتلاك إيران الأسلحة النووية.
وبعد شهر واحد من ذلك قام بلير بإزاحة سترو عن منصبه لتحل محله مارجريت بيكيت، التى لم تكن لها صلة بالدبلوماسية، وبالتالى لم تكن لديها فرصة حقيقية لمعارضة هذه السياسة.
وقيل لى إن سترو أزيح من منصبه بسبب اختلافاته السياسية مع بلير، وفهمت أن ذلك تم بإلحاح من الأمريكيين، لكنه أكد لى أن الأمر لم يكن بسبب كوندى (رايس) وكان معروفًا أن سترو وصف سياسة بلير فى أثناء حرب لبنان بأنها «كارثية». لكن رأيه حول إيران ولبنان والقرار 1696 لم يعد مهمًّا بالنسبة إلى بلير، كما أنه لم يكن بوسع بيكيت، لحداثة عهدها بالأمر، أن تعارض.
وكان وزير الخارجية الفرنسى فيليب دوست بلازى، وهو طبيب، جديدًا هو الآخر على وزارة الخارجية. وقيل لى إنه لم يكن يؤخذ مأخذ الجد فى وزارته، وإن هذه الكراهية بينه وبين أعضاء وزارته كانت متبادلة. هذا فضلًا عن أن الفرنسيين كانوا على أبواب انتخابات رئاسية وبدأ الفرنسيون يقولون إن هناك فرنسا التى يقودها جاك شيراك ومستشاره للأمن القومى، وفرنسا الأخرى التى تقودها وزارة الخارجية. ولكل منهما سياسته الخارجية المتعارضة مع الآخر، ومن هنا فإن السياسة الخارجية لفرنسا، التى كانت تمر فى ذلك الوقت بظروف استثنائية، لم تكن متناسقة كما كانت فى ظروف أخرى.
كان الألمان هم الذين يسعون لمحاولة إيجاد حل وسط مع الإيرانيين. وفى لقاءات منفصلة مع المستشارة أنجيلا ميركل، ووزير الخارجية فرانك والترشتاينماير، وجدتُ أنهما حازمان ويتسمان بالإنسانية والإنصاف فى تناولهما السياسة الخارجية. غير أن الألمان لم يكن لديهم من الثقل بما يسمح بتحقيق تقدم فى هذا الشأن بغير تعاون شركائهم الأوروبيين، وكانوا يبدون سعداء فقط لإشراكهم فى المفاوضات.
ولعل أكثر ما أدهشنى فى ذلك الوقت هو موافقة روسيا والصين على تبنى القرار تحت الفصل السابع، على الرغم من مواقف عديدة سابقة معارِضة لذلك. فقد كانوا يعلمون أنه ليس من شأن ذلك إلا أن يؤدى إلى مواجهة وإلى تعقيد الأمور بالنسبة إلى حل مشكلة برنامج إيران النووى، ولكن يبدو أنهم وجدوا أن هذه الموافقة ستخدم مصالح أخرى أكثر إلحاحًا بالنسبة إليهم.
وفى رأيى، فإن القرار 1696 لم يكن فقط ضارًّا من الناحية السياسية، ولكنه كان أيضًا إساءة لاستخدام صلاحيات مجلس الأمن بمقتضى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فقد كان من المذهل أن نشهد مثل هذا الفارق فى المعاملة بين كوريا الشمالية وإيران. فكوريا الشمالية كانت قد انسحبت من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وأعربت عن تهديدات صريحة بتطويرها أسلحة نووية (وقامت بالفعل بأول اختبار لسلاحها بعد أقل من ثلاثة أشهر فى أكتوبر 2006)، ومع ذلك فإن الأمريكيين كانوا على استعداد لإجراء حوار مباشر معهم، وكان كريستوفر هيل موجودًا فى بيونج يانج باستمرار. وعلى العكس من ذلك فإن إيران، التى ظلت ملتزمة ببروتوكول الضمانات وطرفًا فى معاهدة حظر الانتشار، عوقبت على احتمال أن تكون لديها فى المستقبل نية تطوير سلاح نووى، ورفض الأمريكيون التحدث إليهم دون شروط مسبقة.
كنت ما زلت فى منزلى الصيفى فى 20 أغسطس 2006، عندما اتصل بى شتاينماير ليخبرنى بأنه يريدنى أن أجتمع مع المصرفى السويدى الغامض بيتر كاستنفلت، الذى كان مستشارًا للكوريين الشماليين، وأصبح الآن مستشارًا لطهران بحضور أحد نواب لاريجانى قبل أن تقوم إيران بتقديم ردّها على المقترحات الأوربية. وفى لقاء عُقد مع هؤلاء فى القاهرة، أكدت لنائب لاريجانى أهمية أن تقدم إيران ردًّا بالإيجاب على المقترح الذى تلقته على الرغم من كل ما حدث. ويجب أن يكون من الواضح أن إيران على استعداد لإيقاف التخصيب على المستوى الصناعى أو أن تَعِد على الأقل بعدم استخدام مواد نووية فى أجهزة الطرد. وكنت أرى أن أسئلتهم عن الأمن الإقليمى كانت فى محلها لأن تلك مسألة أساسية بالنسبة إليهم، وأن معالجة هذه الهواجس الأمنية من شأنها تسهيل الوصول إلى اتفاق حول إيقاف التخصيب. تحدثنا لمدة ساعتين وذكر لى كاستنفيلت بعد ذلك أنه ظل خمس ساعات أخرى مع نائب لاريجانى لمحاولة صياغة فحوى حديثنا كتابة.
وفى الموعد المحدد (22 أغسطس) قام الإيرانيون بتسليم ردّهم، معربين عن قبول بعض وليس كل ما أشرت به عليهم. ولقد جاء الرد الإيرانى فى 21 صفحة وكان مليئًا بالعبارات المعقدة، ولكنه فى النهاية كان به ما يعنى استعداد إيران للقبول بوقف التخصيب، ولكن كنتيجة للتفاوض وليس شرطا له. وإضافة إلى ذلك، فإن إيران أبدت الاستعداد للعمل بأحكام البروتوكول الإضافى بصورة طوعية خلال فترة التفاوض، بل وكانت إيران مستعدة للإعراب عن التزامها بالاستمرار فى العضوية فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بصفة دائمة وعدم الانسحاب منها لتهدئة الخواطر حول احتمال تكرار سيناريو كوريا الشمالية.
وجاء الرد الأوروبى متحفظًا مع إبداء إمكانية البدء فى الحوار، بينما أكدت روسيا أن العقوبات لن تؤدى إلى شىء، ودعت الصين لإعمال الصبر. واتصل الجميع بى أو حضروا لمقابلتى بما فى ذلك كوفى أنان وخافيير سولانا، لسؤالى عن تقييمى لرد إيران. ولكن أحدًا لم يكن مستعدًّا لتولى زمام الأمور.
وبعد فترة من الوقت، قرر الأوروبيون والولايات المتحدة تكليف سولانا بلقاء لاريجانى لتحديد الخطوة القادمة. ولكن هذا الأمر لم يرق إلى لاريجانى كثيرًا بالنظر لاعتقاده أن سولانا لا يتمتع بالصلاحيات الكافية. كما أنه رفض بالتأكيد أن يجتمع مع سولانا وممثلى الدول الأوروبية الثلاث، لأنه لم يكن قد تجاوز الغضب الذى أثاره اجتماع بروكسل.
aymaan noor 15-10-2012, 09:43 AM سنوات الخداع - الحلقة التاسعة و العشرون
اقترحت على سولانا أن يعقد لقاء منفردا مع لاريجانى يتم خلاله الاتفاق على أربعة مبادئ تكون إطارا عامًّا يسير فيه التفاوض، الأول: أن تقوم إيران بوقف التخصيب خلال المفاوضات. والثانى: أن يقوم الأوروبيون والأمريكيون بوقف العقوبات المقررة من قِبل مجلس الأمن خلال تلك الفترة. والثالث: تأكيد حق إيران وفقا لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فى استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية فى إشارة إلى أن وقف التخصيب ليس دائما. ورابعا: احترام سيادة إيران واستقلالها السياسى. وفى حال ما تم الاتفاق على ذلك يمكن لوزراء خارجية مجموعة الـ«5+1» أن يجتمعوا ويعلنوا أن هذه المبادئ هى أساس المفاوضات.
وقد بدا لى أن ذلك يوفر مَخْرجا مشرفا لكل من الإيرانيين بحيث يكون بإمكانهم أن يقولوا إن الوقف هو لفترة المفاوضات فقط، وللأمريكيين بحيث يمكنهم القول بأنهم يحضرون الاجتماع بعد أن تأكدوا من موافقة إيران. وكنت مقتنعا بأهمية مشاركة رايس فى الحوار كدليل على الجدية.. ولتحفيز إيران.
وتحدثتُ فى الأمر مع لاريجانى قبل أن يقرر هو وسولانا الالتقاء فى سبتمبر. وتحدثت فيه أيضا مع أنان الذى كان يعتزم القيام بزيارة لطهران فى نفس الوقت تقريبا.
كانت إيران تلتزم بضبط النفس. ولم تكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد لاحظت وجود تقدم كمى أو كيفى يُذكر فى برنامج إيران للتخصيب أكثر من المئة والأربعة والستين جهاز طرد التى كانت موجودة من قبل. وكانت المواد النووية تُستخدم من حين إلى آخر لفترات قصيرة، ولم تكن تلك هى الطريقة المناسبة لاكتساب خبرات التخصيب لو كان ذلك هو هدف الإيرانيين حقًّا. ولم نتمكن من معرفة ما إذا كان هذا التقدم البطىء راجعا إلى مشكلات فنية أم إلى خيار سياسى. لكن برنامج إيران كان على أى حال لا يزال فى مراحله الأولية.
وفى 5 سبتمبر اتصلت بى كوندوليزا رايس لتسأل عن مجموعة المبادئ التى أبلغها بها السفير شولتى. قلت لها إن إيران لا تستطيع أن تقبل وقف التخصيب كشرط مسبق لأن ذلك فى نظرهم بمثابة انتحار سياسى. كما أنهم سيحتاجون إلى بيان ما بشأن أمن إيران. قالت: «إن ذلك يبدو شبيها بما فعلناه مع كوريا الشمالية»، الأمر الذى فسرته بأنها على استعداد لبحث المبادئ الأربعة، وهو ما كان يمثل تغيرا فى الموقف الأمريكى الذى لا يتزعزع حول التخصيب الإيرانى. ثم قالت إنه «قد تكون هناك صعوبة فى إعطائهم ضمانات أمنية». قلت: «ليكن إعلانا لحُسن النوايا إذن». ووافقت رايس على الأقل على أن تفكر فى الأمر، ثم عادت وقالت: «أنت تعلم أننا لا نستطيع أن نجلس مع إيران حتى يصبح الوقف ساريا، وربما استطاع الأوروبيون، وربما يكون معهم الروس والصينيون، أن يجتمعوا بهم أولا. وبعد إصدار إعلان المبادئ والتحقق من الوقف تستطيع الولايات المتحدة أن تنضم إليهم».
وبينما كنت متوجها لإنجلترا لزفاف ابنتى ليلى، اتصل بى السويدى بيتر كاستنفلت ليخبرنى بأنه يريد أن يتحدث معى «للضرورة القصوى»، وبالفعل وصل إلى الفندق حيث كانت أسرتا العروسين قد اجتمعتا من القاهرة ونيويورك وبلاد أخرى كثيرة، وبينما نحن نستعد للعشاء، وصل ليتحدث معى حول إيران؛ ولم تكن ليلى بالطبع سعيدة بذلك وقالت لى إنها تأمل أن يكون لديه شىء هام للغاية يستدعى أن يفسد هذا التجمع العائلى.
وجلست إلى كاستنفلت الذى كان قد جاء لتوه من طهران، وكان يستمع إلىَّ أكثر مما يتحدث، وسألنى إذا ما كان يمكن أن يقوم الإيرانيون بوقف جزئى للتخصيب. قلت له إن هذا صعب، وإن عليه أن يبلغ الإيرانيين بأن الوقت آخذ فى النفاد. وقلت له إنه لو لم يتم الاتفاق، فإن الولايات المتحدة والأوروبيين سيذهبون إلى مجلس الأمن ليطلبوا المزيد من العقوبات، وإنه حتى لو جاءت هذه العقوبات مخففة، فإن طهران ستضطر إلى الرد، وسيدخل الأمر فى سلسلة من الفعل ورد الفعل، وربما يصل إلى المجابهة، دون التوصل إلى حل، وكان كاستنفلت يدون بعض الملحوظات مما كنت أقوله له.. ثم انصرف.
وفى الثامن من سبتمبر، احتفلنا بزواج ابنتى ليلى لشاب بريطانى مسلم هو نييل بيزى. وكانت لحظات رائعة، ذكّرتنى بعبارة قلتها لدى تسلمى جائزة نوبل للسلام، وأثّرت فى ليلى إلى درجة البكاء، حيث أشرت إلى أننى أشعر بالسعادة أن ابنى وابنتى لا يتعاملان مع الناس من منظور اللون ولا ال***ية، ولكنهما يتعاملان مع الناس بوصفهم بشرا متساوين. كما تذكرت أيضا القلق الذى كانت ليلى تستشعره وهى تحاول أن تقدم لى نييل بوصفه الرجل الذى تعتزم الزواج منه، وفى إطار ما كانت تعرفه بأننى كنت أتمنى بصورة أو أخرى أن تتزوج مصريّا، لكنها حصلت على موافقتى ودعائى بالسعادة؛ لأننى كنت مؤمنا بأننا جميعا من أسرة إنسانية واحدة، بغض النظر عن اختلاف الثقافات.
وفى نفس هذا اليوم، كان سولانا ولاريجانى يلتقيان فى ڤيينا فى اجتماع وصفه لاريجانى فى ما بعد بأنه اجتماع إيجابى، باستثناء أن أمر وقف تخصيب اليورانيوم بقى العقبة الأساسية التى كان لاريجانى يعلم تماما صعوبة التعاطى معها نتيجة تخوف بعض الدوائر السياسية فى إيران من العقبات السياسية الدولية الكبيرة التى يمكن أن تواجههم إذا ما أرادوا استئناف عملهم فى دورة الوقود النووى بعد موافقتهم على وقف التخصيب.
وفى ما بعد اقترحت، لتسهيل الأمر على لاريجانى، أن يكون الحديث عن وقف التخصيب فى سياق أوسع يشمل حصول إيران على مفاعلات طاقة للاستخدامات السلمية من الغرب، واحترام حقوق إيران وفقا لمعاهدة حظر الانتشار، أو أن يتم وقف التخصيب فعليّا دون الحاجة إلى الإعلان عنه. وكان من الواضح أنه يشعر بالإحباط ويحاول الوصول إلى حل مبتكر للمسألة، وقال إنه تحدث فى كثير من هذه الأمور مع سولانا.
وأصر لاريجانى على أنه فى حالة موافقة إيران على تعليق أى أنشطة خاصة بدورة الوقود النووى، فإن الجهة الوحيدة التى ستقرر مدى التزام إيران بما يتم الاتفاق عليه من عدمه هى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على الرغم من مطالبات الأوروبيين بأن يكون للدول المتفاوضة رأى سياسى فى ما إذا كانت إيران قد حققت القدر اللازم من الثقة بها. ولكن لاريجانى لم يكن مستعدّا على الإطلاق لمناقشة هذا الأمر، وإن كان منفتحا على نقاش حول الأوضاع الإقليمية مثل العراق وأفغانستان ولبنان، وهو ما كان يرغب فيه الأوروبيون أيضا.
من ناحيته، كان سولانا يريد أن يعرف ما قاله لى لاريجانى، وكان يعلم أن النتيجة التى وصل إليها غير مُرضية للأمريكيين. والحقيقة أن سولانا كان فى وضع صعب؛ لأن لديه ست دول تُلح عليه كلٌّ فى تفصيلة ما. وفى النهاية حاول سولانا أن يجمع الجميع حول قاسم مشترك كان بالضرورة أقل ما يمكن التفاوض عليه. ومن جانبى، اقترحت عليه إعادة صياغة المقترح المقدم إلى إيران بصورة أكثر إحكاما ليتركز حول عنصرين؛ أحدهما يتعلق بالبرنامج النووى لإيران وحقوقها وواجباتها القانونية ذات الصلة ومسألة وقف التخصيب. والثانى يتعلق بالالتزام بالتفاوض حول جملة من القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية، بما فى ذلك إعلان حُسن النوايا من جانب الأمريكيين بما يدل على أن إيران لن تواجَه بمحاولات لتغيير النظام فيها، أو استخدام القوة ضدها، وعرضت على سولانا تقديم أى مساعدة من ناحيتى قد يراها مفيدة. وفى التاسع عشر من سبتمبر، التقت رايس مع باقى وزراء خارجية مجموعة الست، وأخبرونى بأنهم سيمنحون إيران فرصة حتى أوائل أكتوبر للاتفاق حول كيفية وقف التخصيب كجزء من عملية التفاوض. وكان من المفترض أن تبدأ المحادثات دون الولايات المتحدة، وأن يتزامن وقف إيران للتخصيب مع وقف العقوبات المفروضة من مجلس الأمن، على أن يعقب ذلك دخول الولايات المتحدة الأمريكية على خط التفاوض. ورغم أن جريدة «الواشنطن بوست» قالت إن الأوروبيين بذلك يمنحون إيران مهلة للمرة الرابعة فى أربعة أشهر. وكان هذا صحيحا فى الواقع، إلا أن ذلك كان يرجع فى الحقيقة إلى عدم رغبة، أو عدم قدرة، أىٍّ من الطرفين بدرجة كافية على الوصول إلى حل وسط.
ومع نهاية سبتمبر؛ خلال المؤتمر العام للوكالة، عقدتُ اجتماعا مع نائب الرئيس الإيرانى والمسؤول عن الطاقة النووية فى إيران غلام آغازاده؛ الذى كان الشخص الوحيد الذى عاصر الموضوع منذ بدايته الذى لا يزال باقيا فى منصبه على الجانب الإيرانى. ولم يكن الاجتماع سلسا، لأن آغازاده كان مستاء من أن تقارير الوكالة لم تعبر عن التقدير لتعاون بلاده معها عبر أربع سنوات، وهو ما اضطرنى إلى الرد عليه بالحديث عن التناقضات التى كثيرا ما شابت المواقف الإيرانية، والمعلومات المقدمة من قِبل طهران، فضلا عن الأسئلة المعلقة التى لا تزال دون إجابة. وعقب ذلك، بعث لى آغازاده بخطاب شخصى غريب، مشيرا إلى أنه يرسل لى هذا الخطاب بوصفه صديقا. وفى هذا الخطاب، أعرب المسؤول الإيرانى عن اعتقاده بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا تعتزم أبدا إغلاق الملف الإيرانى، مشيرا إلى أن التعاون الإيرانى مع الوكالة قُوبل بمزيد من الأسئلة من قِبل مفتشى الوكالة. وقال آغازاده إننى لا أحظى بتقدير كبير فى أوساط القيادة الإيرانية، واختتم بأنه لا ينتظر منى ردّا على هذا الخطاب. ولم تكن لهجة الخطاب مبشرة بأى خير.
aymaan noor 16-10-2012, 11:09 AM سنوات الخداع (الحلقة 30 والأخيرة)
تلقيت اتصالًا هاتفيًّا من لاريجانى، قال لى فيه إن الدول المتفاوضة لا تعرف كيف تسير الأمور على الساحة الداخلية فى إيران. فقد كان يواجه من الصعوبات فى التفاوض فى بلاده حول شكل مقبول لإيقاف التخصيب، مثلما كان يواجه مع سولانا وزملائه. وإن أقصى ما يمكن أن تلتزم به إيران هو الاقتصار على ما هو قائم من أنشطة التخصيب، وليس وقفًا تامًّا لهذه الأنشطة. وفى النهاية قال لى لاريجانى إنه يشعر بأن قوى التطرف هى مَن يحدد الخطوة القادمة. ومن نبرة صوته استشعرت بأنه يتحدث عن قوى التطرف فى واشنطن كما فى طهران.
ومع مطلع أكتوبر، لم يقدم الإيرانيون ردًّا على العرض الغربى، وخشيت أن الرد الغربى سيكون بقرار جديد من مجلس الأمن، وهو ما سيستتبع رد فعل غاضبًا جديدًا من طهران، ولتجنب الانزلاق فى هذا المنحنى توجهت إلى واشنطن للقاء رايس وبوب جوزيف.
وفى ذلك الوقت، كانت كوريا الشمالية قد أجرت أول اختبارات التفجيرات النووية، وبدا أن ذلك قد يكون خفف بعض الشىء من حدة الموقف الأمريكى إزاء طهران. وأوضحت أهمية أن يحرص القرار القادم من مجلس الأمن على تجنب استفزاز إيران أو إهانتها، بل ينبغى أن يكون محفزًا لها على المضى قدمًا فى اتجاه استئناف التفاوض، وهو الموقف الذى بدت رايس متفقة معه.
وفى الوقت نفسه، اقترحت على رايس أن يبدأ حوار غير معلن بين واشنطن وطهران على قضايا إقليمية، مثل الوضع الأمنى فى العراق، على أمل أن يؤدى الحوار حول أمور ليست موضع خلاف كبير إلى تمهيد الطريق بين الأطراف الرئيسيين على نحو يسمح بتحقيق تقدم فى الملف النووى. وقد ذكرت لها أن لاريجانى وزملاءه على استعداد للدخول فى مثل هذا النقاش. لكن الأمر يتطلب أن توفد الولايات المتحدة شخصية ذات مستوى أعلى من سفيرها فى العراق، زلماى خليل زاد، لأن هذا الأخير ليس لديه الثقل الكافى فى نظر إيران.
وأخبرت رايس أن إيران يمكن أن تقلقل الأوضاع فى الشرق الأوسط، وهو ما ردت عليه بأن ذلك حادث بالفعل، فذكّرتها بأن إيران بوسعها أن تقوم بأكثر مما تقوم به حاليا. وفى المحصلة النهائية، بدت رايس منفتحة على فكرة الحوار التى طرحتها.
فى الوقت نفسه، وافقنى سولانا على أن أى عقوبات جديدة يتم فرضها من مجلس الأمن على إيران يجب أن تكون رمزية. ولكن مسودة القرار التى حصلت على نسخة منها من بعثة فرنسا فى ڤيينا، لم تكن أبدًا على هذه الصورة، بل بالعكس من ذلك كانت مسودة شديدة اللهجة، وبها إشارات إلى فرض حظر على سفر مسؤولين إيرانيين، وتجميد أرصدة إيران فى الخارج، وإيقاف أو الحد من المعونة الفنية التى تقدمها الوكالة إلى إيران، وفرض زيارات إلزامية لضمان الشفافية من قِبل مفتشى الوكالة. ولقد رأيت أن ذلك كله من شأنه أن يتسبب فى تعقيد الأمور وليس فى تسهيلها. وكان أبعد شىء نريده هو استفزاز إيران على نحو يدعوها إلى التعجيل ببرنامج التخصيب أو الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار.
واتفق معى فى الرأى نائب وزير خارجية روسيا سيرجى كيسلياك، الذى قال لى إن هذه المسودة «غير مقبولة على الإطلاق» من قِبل روسيا. وأضاف أنه إذا ما كان الأوروبيون بصدد الإصرار على هذا القرار، فإن اللعبة ستختلف بالكامل، وهو القول الذى أعطانى انطباعًا بأن روسيا قد تستخدم الفيتو ضد هذا القرار.
وفى النهاية، جاءت صيغة القرار مخففة بدرجة كبيرة، وأقره مجلس الأمن بالإجماع فى 23 ديسمبر، ولم تخرج معظم العقوبات كثيرًا عما كان المجلس قد سبق وفرضه على إيران، مثل الحظر على إمداد إيران بمواد وتكنولوجيا نووية، وتجميد أرصدة بعض الأفراد والشركات التى كانت تدعم برنامج التخصيب الإيرانى.
وجاء رد فعل إيران معتدلًا أيضًا، حيث أعلن جواد ظريف مندوب إيران فى الأمم المتحدة، أن أمة بكاملها تتعرض للعقوبات لأنها تمارس حقوقًا غير قابلة للتصرف. كما صدر بيان عن الخارجية الإيرانية وصف هذا القرار بأنه متجاوز للصلاحيات القانونية المقررة لمجلس الأمن ومخالف لميثاق الأمم المتحدة. ولكن ما كان يقلقنى حقًّا هو تلك الإشارات من جانب طهران بأنه لم يعد هناك ما يدعو إيران لوقف التوسع فى برنامجها للتخصيب.
وكان لدىَّ انطباع بأننا اقتربنا من نقطة اللا عودة، أو ربما على الأقل أن السقف السياسى لهذا الملف تم رفعه بصورة كبيرة جدًّا.
كثيرًا ما سألنى البعض، سواء فى اللقاءات الوزارية أم اللقاءات غير الرسمية، عن رأيى والذى ليس للنشر حول حقيقة نوايا إيران النووية.
والحقيقة أن ما كان لدىَّ هو تقدير يقوم على دراسة هذا الملف والخبرة بتطوراته. وهذا التقدير يأخذ فى الاعتبار أن إيران بدأت أبحاثها النووية فى أثناء حربها مع العراق، حيث كانت تحت تهديد بالغ لأمنها من جانب العراق، فقد قُتل وأصيب أكثر من مئة ألف إيرانى، بينهم الكثير من المدنيين كانوا ضحايا لاستخدام العراق الأسلحة الكيميائية. وربما كانت نيّة إيران فى ذلك الوقت تطوير سلاح نووى. لكن مع توقف الحرب واختلاف الأوضاع فى منتصف التسعينيات، ودخول الوكالة الدولية للطاقة الذرية على خط التفتيش، ربما قررت إيران أن تكتفى بتطوير دورة الوقود النووى بحيث تظل دولة لا تمتلك سلاحًا نوويًّا اتساقًا مع كونها طرفًا فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
ومع اعتقادى أن إيران لم تفصح بالكامل عن حقيقة بدايات برنامجها النووى، وأنه ربما كانت هناك مشاركة عسكرية فى شراء المواد النووية أو تجربتها. لكن اعتقادى كذلك أن ما لم تفصح به إيران ليس بالشىء الكبير. ولو أن الأمر كان على غير ذلك لكان الدليل عليه أكبر، ولكان إخفاؤه أكثر صعوبة. إضافة إلى ذلك، فإننى أظن أن الإيرانيين كانوا مستعدين أن يُفصحوا عن حقيقة بدايات البرنامج النووى فى المحادثات، مع مجموعة الست، وذلك فى نطاق صفقة شاملة وسيناريو متفق عليه مقدمًا، وفى هذا الوقت سيكون تركيز العالم على مستقبل إيران وليس على ماضيها. إلا أنه عندما انهارت المحادثات وتحول الاتجاه نحو المجابهة وجد الإيرانيون أنفسهم فى مأزق: فأى كشف عن انخراطهم فى برنامج نووى عسكرى مهما كان صغيرًا، أو مضى عليه الزمن يمكن أن يفسر فى هذه الظروف بأن إيران لا يمكن أن تكون محل ثقة. هذا من جهة، ولو أنهم من جهة أخرى امتنعوا عن إعطاء تفصيلات كاملة فإنهم سيكونون مستمرين فى ارتكاب خطيئة الإخفاء.
وقد سُئلتُ كثيرًا كذلك حول قراءتى لإصرار إيران على القيام بتخصيب اليورانيوم رغم العقوبات والإدانة الغربية. وقراءتى للأمر أن البرنامج النووى، بما فيه التخصيب، هو بالنسبة إلى إيران وسيلة لتحقيق هدف يتعلق بالاعتراف بها كقوة إقليمية فى الشرق الأوسط، وهو ما يمكن أن يفتح الباب من وجهة نظر طهران لتحقيق صفقة كبرى مع الغرب، لأنه حتى لو لم تكن إيران تعتزم تطوير أسلحة نووية، فإن مجرد الحصول على كامل دورة الوقود النووى يرسل رسالة قوية إلى الغرب والدول المجاورة ويحصن إيران ضد أى اعتداء محتمل، أى أن الأمر كان يتعلق باتباع سياسة الردع وهى السياسة التى كانت محل توافق الساسة الإيرانيين، على الرغم من أى اختلافات قد تكون بينهم.
وفى الإجمال، فلم يكن يبدو لى أن إيران كانت تريد أن تصبح كوريا شمالية أخرى أى دولة نووية منبوذة على المستوى الدولى، ولكنها كانت تطمح لأن تكون مثل اليابان أو البرازيل، دولة لديها القدرة التكنولوجية التى تستغلها فى إطار الالتزامات والواجبات المقررة فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، مع قدرتها فى فترة قصيرة على تطوير أسلحة نووية إذا ما اقتضت الظروف السياسية ذلك.
إن فهم الجدل الذى أُثير حول الملف الإيرانى النووى لا يمكن أن يتحقق دون نظرة أوسع إلى طبيعة الأوضاع الأمنية المضطربة فى الشرق الأوسط والأيديولوجيات المتنافسة بشدة فيه، خاصة بالنظر إلى الترسانة النووية التى تمتلكها إسرائيل وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست عضوًا فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، فإن ذلك لم يَحُل دون الشعور بوجود اختلال فى ميزان القوى والأمن الإقليمى فى المنطقة.
وبينما فشلت جهود التوصل إلى تسوية دبلوماسية حول الملف النووى الإيرانى، تمكنت إيران من تقوية موقفها كقوة إسلامية فاعلة فى المنطقة. واستغلت إيران التطورات والأزمات فى العراق، وأفغانستان، والمأساة الفلسطينية، والحرب اللبنانية فى عام 2006، ورفض الغرب لوقف إطلاق النار فيها وغيرها من التطورات لتقوّى الشعور السائد فى المنطقة بأن الغرب لديه انحياز ضد المسلمين. ولأن إيران كانت من الدول الإسلامية القليلة التى استطاعت الوقوف فى وجه الغرب فى تلك الفترة فإنه أصبح يُنظر إليها من جانب الكثير من المسلمين على أنها النصير الوحيد للحقوق المهدرة للشعوب الإسلامية.
|