aymaan noor
31-10-2012, 12:50 PM
تداعيات تقييد التيار السلفي لحرية الإبداع في تونس
http://www.rcssmideast.org/media/k2/items/cache/e9432fccf28a953514f077b86e5e657a_L.jpg
رانيا مكرم
لم تَحْظَ حريةُ التعبير والإبداع في دول الثورات العربية بذلك الاهتمام الذي كان يطمح إليه المثقفون والإعلاميون، بل على العكس من ذلك، فقد شهدت هذه الحريات تقييدًا ملحوظًا ربما بشكل فاق ما كان معهودًا من قبل
، مع اختلاف المبررات والأسباب التي يسوقها القائمون على فرض هذه القيود الجديدة؛ حيث باتت حجج "مخالفة شرع الله"، و"ازدراء الدين الإسلامي"، و"المساس بالمقدسات"، هي الأقرب، لا سيما مع صعود التيارات الإسلامية المتشددة، وتولي كوادرها مناصب قيادية في بعض دول الثورات العربية.
ولا تعد تونس استثناء من هذا الوضع الجديد، إن لم تكن النموذج الأبرز، فمنذ أشهر يشهد المجتمع التونسي جدلًا واسعًا حول محاولات التيار السلفي التضييق على حريات الفكر والإبداع الثقافي والفني، مستخدمًا في ذلك العديد من أساليب الترهيب، فعقب بعض المظاهرات والاشتباكات مع الشرطة في عدد من المدن التونسية بهدف منع نشاطات ثقافية معينة؛ لجأ هذا التيار إلى شن هجوم مسلح على مقرات الأنشطة الثقافية لفضها أو منع إقامتها بالقوة، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مستقبل الإبداع الثقافي في تونس في ظل استئساد هذا التيار.
قيود متعددة
على الرغم من تعهد حركة النهضة التي تتزعم "الترويكا الحاكمة" في تونس منذ وصولها للسلطة بدعم الثقافة والإبداع؛ فإن ما تشهده الحريات من تقييد يُشير إلى حدوث تراجع عن هذا الأمر، أو على الأقل حدوث تراخٍ في تنفيذه؛ إذ لم تواجه تحركات التيار السلفي في الجامعات التونسية -والتي تؤشر إلى رغبة هذا التيار في فرض أفكاره المغايرة للنمط السائد في المجتمع التونسي- بالحزم بعد مطالبته بفرض النقاب على الطالبات، ورفع العلم السلفي بدلا من العلم الوطني.
وخلال الشهور الأربعة الماضية، كان لممارسات التيار السلفي المقيدة للحريات حضورٌ طاغٍ على المشهد الإبداعي والثقافي التونسي؛ حيث بدأت في شهر يونيو الماضي في شكل مظاهرات عنيفة خلَّفت قتيلا وعشرات الجرحى احتجاجًا على تنظيم معرض للرسامة "نادية الجلاصي" قيل إنه عرض رسومًا تسيء للمقدسات الإسلامية، وعلى خلفية ذلك استدعى القضاء التونسي الرسامة بتهمة عرض رسوم من شأنها تعكير صفو الأمن العام.
وتطور الأمر بعد ذلك إلى مهاجمة مقرات الأنشطة الثقافية غير المرغوب فيها؛ حيث تعرض مهرجان ثقافي في مدينة بنزرت شمال تونس كان يستضيف الدورة الثانية من "مهرجان الأقصى" خلال شهر أغسطس الماضي، للهجوم من قبل مجموعة من السلفيين، اعتراضًا على وجود عميد الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية سمير القنطار، بحجة دعمه لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وقد أدى ذلك إلى إنهاء المهرجان لأنشطته، كما مُنع عرض مسرحي ساخر في المركز الثقافي بمدينة منزل بورقيبة، حيث افترش مئات السلفيين الساحة، وأقاموا صلاة في نفس المكان الذي كان من المفترض أن يقدم فيه العرض المسرحي، احتجاجًا على مضمون المسرحية المسيئة للإسلام، وفق رؤيتهم.
بالإضافة إلى ذلك، تم منع فرقة إنشاد صوفية إيرانية من تقديم عرضها خلال مهرجان دولي للموسيقى الصوفية في مدينة القيروان، بحجة أن هذا العرض يدعم الفكر الشيعي في البلاد. كما طال العنف بعض المثقفين والمفكرين، حيث تعرض الشاعر "محمد الصغير أولاد أحمد" لاعتداء من قبل بعض السلفيين على خلفية مشاركته في برنامج تليفزيوني انتقد فيه الإسلاميين المتشددين في تونس.
ردود فعل متباينة
وقد دفعت هذه الأحداث وزارة الثقافة التونسية إلى التنديد باستمرار التجاوز في حق المثقفين والمبدعين في تونس، داعية الجهات الأمنية المختصة إلى الاضطلاع بدورها في حماية المبدعين، ومحاسبة المعتدين، كما صرح وزير الثقافة التونسي "مهدي مبروك" بأنه تم منع 12 عرضًا فنيًّا هذا الموسم، لأسباب أمنية على رأسها التهديدات الموجهة من جانب السلفيين، مشيرًا إلى أنه أصبح يخشى سيطرة السلفيين على المشهد الثقافي، وأن وزارته قامت برفع 6 قضايا على جماعات سلفية بتهمة منع إقامة عروض. كما طالب اتحاد الكتاب التونسيين بتضمين الدستور الجديد نصًّا عن حرية الإبداع وحمايتها من أي تهديدات قد تتعرض لها.
فضلا عن ذلك، أثارت ممارسات التيار السلفي المقيدة للحريات استياء شعبيًّا ملحوظًا عبر عنه -على سبيل المثال- استطلاع للرأي أجراه المعهد التونسي للدراسات، وأعلن نتائجه في 30 سبتمبر الماضي، حيث كشف الاستطلاع عن تخوف 78% من المستطلع آراؤهم والبالغ عددهم 2570 تونسيًّا من انتشار السطوة السلفية، فيما أوضح 88% أن السلفيين يهددون حرية التعبير في البلاد، وخاصة حرية المعتقد، كما أشار 82% من المشاركين إلى أن الحكومة لم تتخذ الخطوات اللازمة لوضع حد لهذه المشكلة، مما أدى إلى تعزيز القدرات البشرية للجماعات السلفية، وتصعيد أنشطتها العنيفة.
غير أن انتقادات المسئولين لممارسات التيار السلفي لم تتبلور إلا عقب أحداث الهجوم على السفارة الأمريكية في العاصمة التونسية؛ حيث وجدت حركة النهضة نفسها في مأزق حرج، دفعها إلى التأكيد على "ضرورة مواجهة السلفيين الجهاديين من دون تلكؤ"، وذلك على لسان نائب رئيس الحركة "عبد الفتاح مورو" الذي أشار إلى "أهمية أن تشجب الأطراف كافة العنف المتأتي من سوء ممارسة حرية الرأي والتعبير".
وبالطبع، فإن استمرار الرفض الشعبي للمواقف التي يتبناها التيار السلفي، لا سيما تجاه حرية الإبداع والتعبير، والتركيز على ما يمكن أن ينتج عن هذه المواقف والسلوكيات من تهديد للانسجام المجتمعي، ربما يؤدي إلى تقييد دور وتقليص نفوذ هذا التيار على الساحة الداخلية في تونس، وتوسيع هامش الحركة أمام القوى الأخرى التي شاركت في الثورة، لكنها تعرضت للتهميش بعد ذلك.
http://www.rcssmideast.org/media/k2/items/cache/e9432fccf28a953514f077b86e5e657a_L.jpg
رانيا مكرم
لم تَحْظَ حريةُ التعبير والإبداع في دول الثورات العربية بذلك الاهتمام الذي كان يطمح إليه المثقفون والإعلاميون، بل على العكس من ذلك، فقد شهدت هذه الحريات تقييدًا ملحوظًا ربما بشكل فاق ما كان معهودًا من قبل
، مع اختلاف المبررات والأسباب التي يسوقها القائمون على فرض هذه القيود الجديدة؛ حيث باتت حجج "مخالفة شرع الله"، و"ازدراء الدين الإسلامي"، و"المساس بالمقدسات"، هي الأقرب، لا سيما مع صعود التيارات الإسلامية المتشددة، وتولي كوادرها مناصب قيادية في بعض دول الثورات العربية.
ولا تعد تونس استثناء من هذا الوضع الجديد، إن لم تكن النموذج الأبرز، فمنذ أشهر يشهد المجتمع التونسي جدلًا واسعًا حول محاولات التيار السلفي التضييق على حريات الفكر والإبداع الثقافي والفني، مستخدمًا في ذلك العديد من أساليب الترهيب، فعقب بعض المظاهرات والاشتباكات مع الشرطة في عدد من المدن التونسية بهدف منع نشاطات ثقافية معينة؛ لجأ هذا التيار إلى شن هجوم مسلح على مقرات الأنشطة الثقافية لفضها أو منع إقامتها بالقوة، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مستقبل الإبداع الثقافي في تونس في ظل استئساد هذا التيار.
قيود متعددة
على الرغم من تعهد حركة النهضة التي تتزعم "الترويكا الحاكمة" في تونس منذ وصولها للسلطة بدعم الثقافة والإبداع؛ فإن ما تشهده الحريات من تقييد يُشير إلى حدوث تراجع عن هذا الأمر، أو على الأقل حدوث تراخٍ في تنفيذه؛ إذ لم تواجه تحركات التيار السلفي في الجامعات التونسية -والتي تؤشر إلى رغبة هذا التيار في فرض أفكاره المغايرة للنمط السائد في المجتمع التونسي- بالحزم بعد مطالبته بفرض النقاب على الطالبات، ورفع العلم السلفي بدلا من العلم الوطني.
وخلال الشهور الأربعة الماضية، كان لممارسات التيار السلفي المقيدة للحريات حضورٌ طاغٍ على المشهد الإبداعي والثقافي التونسي؛ حيث بدأت في شهر يونيو الماضي في شكل مظاهرات عنيفة خلَّفت قتيلا وعشرات الجرحى احتجاجًا على تنظيم معرض للرسامة "نادية الجلاصي" قيل إنه عرض رسومًا تسيء للمقدسات الإسلامية، وعلى خلفية ذلك استدعى القضاء التونسي الرسامة بتهمة عرض رسوم من شأنها تعكير صفو الأمن العام.
وتطور الأمر بعد ذلك إلى مهاجمة مقرات الأنشطة الثقافية غير المرغوب فيها؛ حيث تعرض مهرجان ثقافي في مدينة بنزرت شمال تونس كان يستضيف الدورة الثانية من "مهرجان الأقصى" خلال شهر أغسطس الماضي، للهجوم من قبل مجموعة من السلفيين، اعتراضًا على وجود عميد الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية سمير القنطار، بحجة دعمه لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وقد أدى ذلك إلى إنهاء المهرجان لأنشطته، كما مُنع عرض مسرحي ساخر في المركز الثقافي بمدينة منزل بورقيبة، حيث افترش مئات السلفيين الساحة، وأقاموا صلاة في نفس المكان الذي كان من المفترض أن يقدم فيه العرض المسرحي، احتجاجًا على مضمون المسرحية المسيئة للإسلام، وفق رؤيتهم.
بالإضافة إلى ذلك، تم منع فرقة إنشاد صوفية إيرانية من تقديم عرضها خلال مهرجان دولي للموسيقى الصوفية في مدينة القيروان، بحجة أن هذا العرض يدعم الفكر الشيعي في البلاد. كما طال العنف بعض المثقفين والمفكرين، حيث تعرض الشاعر "محمد الصغير أولاد أحمد" لاعتداء من قبل بعض السلفيين على خلفية مشاركته في برنامج تليفزيوني انتقد فيه الإسلاميين المتشددين في تونس.
ردود فعل متباينة
وقد دفعت هذه الأحداث وزارة الثقافة التونسية إلى التنديد باستمرار التجاوز في حق المثقفين والمبدعين في تونس، داعية الجهات الأمنية المختصة إلى الاضطلاع بدورها في حماية المبدعين، ومحاسبة المعتدين، كما صرح وزير الثقافة التونسي "مهدي مبروك" بأنه تم منع 12 عرضًا فنيًّا هذا الموسم، لأسباب أمنية على رأسها التهديدات الموجهة من جانب السلفيين، مشيرًا إلى أنه أصبح يخشى سيطرة السلفيين على المشهد الثقافي، وأن وزارته قامت برفع 6 قضايا على جماعات سلفية بتهمة منع إقامة عروض. كما طالب اتحاد الكتاب التونسيين بتضمين الدستور الجديد نصًّا عن حرية الإبداع وحمايتها من أي تهديدات قد تتعرض لها.
فضلا عن ذلك، أثارت ممارسات التيار السلفي المقيدة للحريات استياء شعبيًّا ملحوظًا عبر عنه -على سبيل المثال- استطلاع للرأي أجراه المعهد التونسي للدراسات، وأعلن نتائجه في 30 سبتمبر الماضي، حيث كشف الاستطلاع عن تخوف 78% من المستطلع آراؤهم والبالغ عددهم 2570 تونسيًّا من انتشار السطوة السلفية، فيما أوضح 88% أن السلفيين يهددون حرية التعبير في البلاد، وخاصة حرية المعتقد، كما أشار 82% من المشاركين إلى أن الحكومة لم تتخذ الخطوات اللازمة لوضع حد لهذه المشكلة، مما أدى إلى تعزيز القدرات البشرية للجماعات السلفية، وتصعيد أنشطتها العنيفة.
غير أن انتقادات المسئولين لممارسات التيار السلفي لم تتبلور إلا عقب أحداث الهجوم على السفارة الأمريكية في العاصمة التونسية؛ حيث وجدت حركة النهضة نفسها في مأزق حرج، دفعها إلى التأكيد على "ضرورة مواجهة السلفيين الجهاديين من دون تلكؤ"، وذلك على لسان نائب رئيس الحركة "عبد الفتاح مورو" الذي أشار إلى "أهمية أن تشجب الأطراف كافة العنف المتأتي من سوء ممارسة حرية الرأي والتعبير".
وبالطبع، فإن استمرار الرفض الشعبي للمواقف التي يتبناها التيار السلفي، لا سيما تجاه حرية الإبداع والتعبير، والتركيز على ما يمكن أن ينتج عن هذه المواقف والسلوكيات من تهديد للانسجام المجتمعي، ربما يؤدي إلى تقييد دور وتقليص نفوذ هذا التيار على الساحة الداخلية في تونس، وتوسيع هامش الحركة أمام القوى الأخرى التي شاركت في الثورة، لكنها تعرضت للتهميش بعد ذلك.