alien2
23-12-2012, 05:23 PM
الفقيه الدستورى د.جابر نصار يكتب:الحقيقة المُرة فى تقييد أهم الحقوق والحريات فى مشروع الدستور
كتب : د.جابر نصار السبت 15-12-2012 07:50
طباعة 26 (http://www.elwatannews.com/news/details/96353#)
http://elwatanmedia.sarmady.net/News/Large/19690_660_633102_opt.jpg الجمعية التأسيسية للدستور"صورة أرشيفية"
من الادعاءات غير الصحيحة التى تساق ترويجاً لهذا المشروع، تأتى فى القلب منها أنه أطلق الحقوق والحريات بغير قيد، وأنه احتفى بهذه الحريات بصورة غير مسبوقة فى تاريخنا الدستورى، وأن هذا المشروع هو أعظم دستور عرفته مصر، بل إن البعض رآه -ويا للعجب- أحسن دستور فى العالم، ولا أدرى فى حقيقة الأمر إن كانت هذه الادعاءات مردها جهل البعض، بما يحتويه نظامنا الدستورى من كنوز وصياغات دستورية شديدة التميز، لا سيما فى دستور 1923، ودستور 1954، فضلاً عن مشروعات أخرى جرى تداولها بين مؤسسات المجتمع المدنى منذ مدة طويلة، وفضلاً عن أن الجمعية -وللأسف- حجبت نفسها عن تطورات عالمية بخصوص الحقوق والحريات؛ وأذكر فى ذلك حادثة معبرة، حيث إن الأستاذ اللامع والحقوقى المتميز عبدالله خليل كان فى وقت مواكب لاجتماعات الجمعية وعملها، أخرج مؤلفه المتميز الذى جاء بعنوان: «دليل حقوق الإنسان فى الدساتير العالمية - دليل إرشادى» وفيه بذل جهداً خارقاً ومتميزاً فى جمع وتبويب وتصنيف الحقوق والحريات فى أغلب دساتير العالم، إن لم يكن جميعها، وعندما تفضل سيادته بإهدائى نسخة رجوته أن يبعث بعض النسخ إلى الجمعية، حتى ولو على سبيل الإهداء، وكنت فى هذا الوقت منسحباً منها، فأفادنى بأنه أرسل إلى الجمعية 150 نسخة بعدد أعضائها الأصليين والاحتياطيين، وكان ذلك جهداً مشكوراً منه.
الادعاء بأن هذا الدستور أتى بما لم يأت به الأوائل فى تنظيم الحقوق والحريات أمر غير صحيح جملة وتفصيلاً، والحق أن تنظيم الحقوق والحريات فيه جاء أكثر بؤساً وأكثر تقييداً لا سيما فيما يتعلق بالحقوق الأساسية وعندما عدت إلى الجمعية، ورأيت كم البؤس الذى يحيط بالحقوق والحريات العامة، لا سيما ما يتعلق منها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وحاولت تقصى أمر هذه النسخ، فوجئت بأنها لم توزع على أعضاء الجمعية حتى انتهت من أعمالها، ويعلم الله إلى أين ذهبت هذه النسخ حتى الآن؟!
ولعل ذلك يطرح سؤالاً عريضاً، لماذا حجبت إدارة الجمعية هذا المصدر العلمى المحترم عن أعضائها؟! وهو أمر قد يتصل أيضاً بما يسمى «حوارات لجنة الاقتراحات»، حيث إنه على طول مدة وجودى فى الجمعية، لم يوزع على الأعضاء أى شىء يتصل بعمل هذه اللجنة، بل كانت بعض الاقتراحات المجتمعية تأتى بخطابات بريدية من بعض جمعيات المجتمع المدنى، وكانت توضع على جانب مدخل القاعة التى تجرى فيها الجلسة العامة، وكان الملاحظ تراكمها وقليل هم من يفكرون فى تتبعها أو النظر إليها، وهو أمر كان له بالنسبة لى دلالاته العميقة فضلاً عن أنه كان مصدر تعجب.
المهم أن هذا الادعاء بأن هذا الدستور أتى بما لم يأت به الأوائل فى تنظيم الحقوق والحريات أمر غير صحيح جملة وتفصيلاً، والحق أن تنظيم الحقوق والحريات فيه جاء أكثر بؤساً وأكثر تقييداً لا سيما فيما يتعلق بالحقوق الأساسية التى يترتب عليها ممارسة الحقوق والحريات الأخرى.
وإطلاق الحرية فى النص الدستورى تمثل ضمانة أساسية لممارسة الحقوق والحريات، ويمنع المشرع العادى حين يتدخل بتنظيمها من تقييد هذه الحرية أو النيل منها، أما إذا جاء النص الدستورى بقيود عامة فضفاضة بغير مدلول محدد لها فى التنظيم الدستورى والقانونى، فهذا فى حقيقة الأمر يؤدى إلى فتح الباب والمجال أمام المشرع العادى لتقييد هذه الحقوق والنيل منها، حيث إن هذه القيود أصبح لها ظهير دستورى يمكن أن يستند إليه المشرع فى تقييدها، وهذا ما حدث تحديداً فى أهم الحقوق والحريات فى مشروع الدستور، وسوف نرصد فى هذا المقال أهم هذه القيود التى وردت على بعض الحقوق والحريات الأساسية ووثيقة الصلة بالمواطن العادى، ذلك أنه ربما يصعب تتبع كل هذه القيود فى مقال واحد.
أولاً: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
احتلت هذه الحقوق فى مشروع الدستور المواد من 58 وحتى 73 ويؤخذ عليها أنها جاءت فى صياغاتها عامة وغير محددة، ولا تلزم الدولة بالتزامات محددة، وهى فى الجزء الأكبر منها تكرار لما ورد بدستور 11 سبتمبر 1971، ومن ذلك مثلاً ما نصت عليه المادة 58 من الحق فى التعليم، فقد جاء هذا التنظيم فى عبارات غير محددة وفضفاضة، ولا تلزم الدولة بشىء محدد لإصلاح حال التعليم، أو ضبط مخرجاته، أو ربطه بسوق العمل، أو التزام الدولة بتشغيل الخريجين.
كما يرتبط بذلك المادة 59 الخاصة بالبحث العلمى، أما المادة 60 فأمرها أعجب من العجب حتى تنص على أن بعض المواد الدراسية هى مواد أساسية، ألم يكن ذلك مرده القانون، وما علاقة ذلك فى حقيقة الأمر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، وقس على ذلك عمومية كل النصوص التى تحدثت عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
تقديم الرعاية الصحية المجانية يرتبط فى الدستور الجديد بـ«شهادة فقر» تحط من كرامة المصريين وتنال من آدميتهم على أننا فى هذا الإطار سنركز فقط على نص المادة 62 من المشروع والتى تنص على أن:
«الرعاية الصحية حق لكل مواطن تخصص له الدولة نسبة كافية من الناتج القومى، وتلتزم الدولة بتوفير خدمات الرعاية الصحية، والتأمين الصحى وفق نظام عالى الجودة ويكون ذلك بالمجان لغير القادرين، وتلتزم جميع المنشآت الصحية بتقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل مواطن فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة».
والحق أن هذا النص أصابه العوار فى مسألتين، إذ إنه جعل الرعاية الصحية المجانية لغير القادرين مالياً، وهو أمر تجاوزه النظام الصحى المصرى، حيث لم يعد يرتبط فيه تقديم الخدمات الصحية المجانية بضرورة تقديم شهادة فقر تحط من كرامة المصريين، خاصة مع انتشار الفقر والحاجة بين المصريين. وهو الأمر الذى يحط من كرامة المصريين وينال من آدميتهم، وكنا نظن أن التنظيم الدستورى للحق فى الصحة والعلاج قد تجاوزه كما فى بلاد كثيرة.
أما المسألة الثانية فهى ما قرره النص من تحديد التزام المنشآت الصحية جميعها، سواء خاصة أو حكومية بتقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل مواطن، فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة، وامتناعها دون ذلك، بما يعنى أن غير القادرين الذين يعانون من أمراض مزمنة وخطيرة وكلفة فى علاجها، ليس لهم الحق فى هذا العلاج، فالنص جاء مبهماً وغامضاً إلى حد كبير، وسوف يحرم المصريين من تلقى العلاج فى المستشفيات الحكومية والعامة، إلا فى حالة الطوارئ والخطر على الحياة وهو أمر مؤسف وخطير وسوف يؤدى إلى إشكاليات مجتمعية كثيرة.
وتجدر الإشارة إلى أن المشروع استخدم فى أكثر من مادة من مواد المشروع مسألة «غير القادرين»، واتخذ ضرورة إثبات فقرهم أساساً لمساعدتهم، وهى مسألة مهينة وحاطة بالكرامة، ما كان يجب على المشروع أن ينزلق إليها.
ثانياً: تقييد الحريات والحقوق المدنية والسياسية
كان من مظاهر إبداع هذا المشروع وتجلياته تقييد أهم الحريات والحقوق المدنية والسياسية، ومن ذلك حرية الصحافة وحرية الجمعيات والنقابات وحرية تنظيم الاجتماعات والتظاهرات.
فمن ناحية أولى: قيد هذا المشروع فى المادة 48 منه حرية الصحافة بقيود شديدة الوطأة لم تعرفها الصحافة المصرية فى تاريخها ولم يشهدها النظام الدستورى المصرى، حيث لم يسبق للدساتير المصرية أن تجرأت على حرية الصحافة وقيدتها بهذه الصورة.
واللافت للنظر أن هذه القيود أقحمت على المادة 48 قبل التصويت عليها، ولم تتداول فى الجمعية أبداً وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة. ولا يعلم أحد من أين أتت هذه القيود؟ ولم يعلن أحد مسئوليته، سواء من داخل الجمعية أو من خارجها عن العملية التى قيدت بمقتضاها حرية الصحافة، على الوجه الذى جاءت به المادة 48 التى نصت على أن:
«حرية الصحافة والطباعة والنشر وسائر وسائل الإعلام مكفولة، وتؤدى رسالتها بحرية واستقلال لخدمة المجتمع، والتعبير عن اتجاهات الرأى العام، والإسهام فى تكوينه، وتوجيهه فى إطار المقومات الأساسية للدولة والمجتمع، والحفاظ على الحقوق والحريات والواجبات العامة، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومقتضيات الأمن القومى، ويحظر وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائى».
والملاحظ أن هذه المادة قد كبلت وقيدت حرية الصحافة بقيود واسعة وفضفاضة لا يمكن من الناحية القانونية ضبط إطارها ومن ذلك خدمة المجتمع، والمقومات الأساسية للدولة والمجتمع، والحفاظ على الحقوق والحريات ومقتضيات الأمن القومى. فكل هذه التعبيرات ليست لها مضامين محددة ولا معانٍ واضحة، الأمر الذى تكون معه الحرية قد انتهت تماماً، وأصبحت الصحف فى قبضة الحكومة تستطيع إغلاقها أو مصادرتها أو وقفها.
ويجدر التنبيه إلى أن تطلب ذلك بحكم قضائى لا يمثل ضمانة لحرية الصحافة، لأن القانون سوف يتوسع فى تحديد هذه القيود والحالات التى تقيد الحرية.
ومن نافلة القول ذكر أنه فى ظل دستور 1971 لم يكن متاحاً إلغاء الصحف أو غلقها بأحكام قضائية، ولكن فى هذا المشروع حدث ولا حرج، فمن الواضح أن مصر تعود إلى الوراء مع هذه المادة التى تمثل عدوانا أثيماً على حرية الصحافة.
ومن ناحية ثانية، نشير إلى حرية الاجتماعات والتظاهرات السلمية، وفقاً لنص المادة 50 من المشروع حيث لم تكن هذه الحرية أسعد حالاً. إذ ميز المشروع بينها وبين الحريات الأخرى، والذى اكتفى فى ممارستها بمجرد الإخطار، وتطلب بخصوص حرية الاجتماع والتظاهر إخطاراً ينظمه القانون، كما كان الحال فى ظل دستور 1971، وهو إخطار يتحول فى حقيقة الأمر إلى «ترخيص»، حين تتطلب جهة الإدارة ضرورة سبق موافقتها بعد الإخطار، وهو ما يؤدى إلى تقييد الحرية بهذا الشكل. ولقد حاولنا فى الجمعية أن تُمارس حرية الاجتماعات والتظاهرات بمجرد الإخطار، كغيرها من الحريات الأخرى فى الدستور، ولكن للأسف لم يكن لمحاولتنا صدى، إذ إنه بعد الاتفاق على ذلك تم تغيير هذا النص قبيل التصويت عليه فى الجلسة النهائية، وهو ما يؤكد بؤس حالة الحقوق والحريات الأساسية فى هذا المشروع والميل إلى تقييدها بصورة كبيرة.
ومن ناحية ثالثة، فإن المشروع قد قيد الحريات النقابية، وكذلك الجمعيات الأهلية بقيد غير معروف ولا مألوف لا فى مصر ولا فى غيرها، وهو أنه أباح حل النقابات أو الاتحادات أو الجمعيات بأحكام قضائية، وأعطى سلطة للقانون فى تحديد الحالات التى يجرى فيها الحل، وهو أمر غريب وعجيب، حيث إن الحل يجب أن يقتصر على مجالس الإدارة، أو الهيئات الإدارية التى تمثل هذه المؤسسات، إذا خالفت القانون. ولعل هذه السلطة التى خولها النص الدستورى بحل النقابات أو المؤسسات، تستدعى إلى الذاكرة ذلك الصراع المرير الذى حدث بين بعض النقابات، والرئيس الراحل أنور السادات، وأراد على إثره أن يحل هذه النقابات ويحولها إلى أندية لشرب الشاى والقهوة حسب تعبيره آنذاك، ولكن لأن دستور 1971 لم يكن يسمح بذلك فإنه لم يقدر عليه ولم يستطعه، وهو ما جاء به المشروع وهو أمر مؤسف ومشين، ويؤدى إلى قمع النقابات والجمعيات الأهلية وسائر مؤسسات المجتمع المدنى.
ثالثاً: تقييد الحقوق والحريات العامة الواردة فى الدستور بمقتضى المادة 81 من الدستور.
أخيراً وليس آخراً -كما يقولون- لم يكتفِ المشروع بكل هذه القيود التى حاصر بها الحقوق والحريات، وأجهز على أهمها، نجد أن المادة 81 من فقرتها الأخيرة وهى آخر مادة فى باب الحقوق والحريات تنص على:
«وتمارس الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المقومات الواردة فى باب الدولة والمجتمع بهذا الدستور».
وهو نص غريب إذ يقيم تناقضاً واضطراباً بين نصوص الدستور، ويجعل بعضها مقيداً للبعض ومحدداً لنطاقها، وهو أمر غير مألوف فى الصياغات الدستورية ولكنه للحق مشروع دستور العجائب، ويزداد العجب عندما نطالع نصوص الباب الأول، فنجده مليئاً بالعبارات الفضفاضة والتعبيرات المطاطة، التى يمكن أن تكون قيوداً حديدية تكبل الحقوق والحريات الواردة فى الدستور، وهو الأمر الذى يؤكد عمق الأزمة التى عاشت فيها الجمعية، وعانت منها، حيث كان يسيطر على كثير من الاتجاهات الفاعلة فيها، هاجس الخوف من الحرية وضرورة تقييدها وربطها بقيود حديدية، أخلّت بأهم هذه الحقوق والحريات، وحرم المجتمع من فرصة تاريخية جاءت بعد ثورة نادت بالحرية والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، كان يجب أن تؤدى إلى احترام حقوق الإنسان، واحترام معايير حماية هذه الحقوق والحريات فى المواثيق الدولية، والتراث الدستورى المصرى، وهو ما لم يحدث، فحقيقة ما حدث هو إخراج مشروع للدستور يقيد الحقوق والحريات بقيود وفدت إليه خلسة، أو مررت فيه خدعة، يسأل عنها مَن صنعها ومن مررها ومن وافق عليها.
والله خير شاهد.. التاريخ لن يرحم.
كتب : د.جابر نصار السبت 15-12-2012 07:50
طباعة 26 (http://www.elwatannews.com/news/details/96353#)
http://elwatanmedia.sarmady.net/News/Large/19690_660_633102_opt.jpg الجمعية التأسيسية للدستور"صورة أرشيفية"
من الادعاءات غير الصحيحة التى تساق ترويجاً لهذا المشروع، تأتى فى القلب منها أنه أطلق الحقوق والحريات بغير قيد، وأنه احتفى بهذه الحريات بصورة غير مسبوقة فى تاريخنا الدستورى، وأن هذا المشروع هو أعظم دستور عرفته مصر، بل إن البعض رآه -ويا للعجب- أحسن دستور فى العالم، ولا أدرى فى حقيقة الأمر إن كانت هذه الادعاءات مردها جهل البعض، بما يحتويه نظامنا الدستورى من كنوز وصياغات دستورية شديدة التميز، لا سيما فى دستور 1923، ودستور 1954، فضلاً عن مشروعات أخرى جرى تداولها بين مؤسسات المجتمع المدنى منذ مدة طويلة، وفضلاً عن أن الجمعية -وللأسف- حجبت نفسها عن تطورات عالمية بخصوص الحقوق والحريات؛ وأذكر فى ذلك حادثة معبرة، حيث إن الأستاذ اللامع والحقوقى المتميز عبدالله خليل كان فى وقت مواكب لاجتماعات الجمعية وعملها، أخرج مؤلفه المتميز الذى جاء بعنوان: «دليل حقوق الإنسان فى الدساتير العالمية - دليل إرشادى» وفيه بذل جهداً خارقاً ومتميزاً فى جمع وتبويب وتصنيف الحقوق والحريات فى أغلب دساتير العالم، إن لم يكن جميعها، وعندما تفضل سيادته بإهدائى نسخة رجوته أن يبعث بعض النسخ إلى الجمعية، حتى ولو على سبيل الإهداء، وكنت فى هذا الوقت منسحباً منها، فأفادنى بأنه أرسل إلى الجمعية 150 نسخة بعدد أعضائها الأصليين والاحتياطيين، وكان ذلك جهداً مشكوراً منه.
الادعاء بأن هذا الدستور أتى بما لم يأت به الأوائل فى تنظيم الحقوق والحريات أمر غير صحيح جملة وتفصيلاً، والحق أن تنظيم الحقوق والحريات فيه جاء أكثر بؤساً وأكثر تقييداً لا سيما فيما يتعلق بالحقوق الأساسية وعندما عدت إلى الجمعية، ورأيت كم البؤس الذى يحيط بالحقوق والحريات العامة، لا سيما ما يتعلق منها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وحاولت تقصى أمر هذه النسخ، فوجئت بأنها لم توزع على أعضاء الجمعية حتى انتهت من أعمالها، ويعلم الله إلى أين ذهبت هذه النسخ حتى الآن؟!
ولعل ذلك يطرح سؤالاً عريضاً، لماذا حجبت إدارة الجمعية هذا المصدر العلمى المحترم عن أعضائها؟! وهو أمر قد يتصل أيضاً بما يسمى «حوارات لجنة الاقتراحات»، حيث إنه على طول مدة وجودى فى الجمعية، لم يوزع على الأعضاء أى شىء يتصل بعمل هذه اللجنة، بل كانت بعض الاقتراحات المجتمعية تأتى بخطابات بريدية من بعض جمعيات المجتمع المدنى، وكانت توضع على جانب مدخل القاعة التى تجرى فيها الجلسة العامة، وكان الملاحظ تراكمها وقليل هم من يفكرون فى تتبعها أو النظر إليها، وهو أمر كان له بالنسبة لى دلالاته العميقة فضلاً عن أنه كان مصدر تعجب.
المهم أن هذا الادعاء بأن هذا الدستور أتى بما لم يأت به الأوائل فى تنظيم الحقوق والحريات أمر غير صحيح جملة وتفصيلاً، والحق أن تنظيم الحقوق والحريات فيه جاء أكثر بؤساً وأكثر تقييداً لا سيما فيما يتعلق بالحقوق الأساسية التى يترتب عليها ممارسة الحقوق والحريات الأخرى.
وإطلاق الحرية فى النص الدستورى تمثل ضمانة أساسية لممارسة الحقوق والحريات، ويمنع المشرع العادى حين يتدخل بتنظيمها من تقييد هذه الحرية أو النيل منها، أما إذا جاء النص الدستورى بقيود عامة فضفاضة بغير مدلول محدد لها فى التنظيم الدستورى والقانونى، فهذا فى حقيقة الأمر يؤدى إلى فتح الباب والمجال أمام المشرع العادى لتقييد هذه الحقوق والنيل منها، حيث إن هذه القيود أصبح لها ظهير دستورى يمكن أن يستند إليه المشرع فى تقييدها، وهذا ما حدث تحديداً فى أهم الحقوق والحريات فى مشروع الدستور، وسوف نرصد فى هذا المقال أهم هذه القيود التى وردت على بعض الحقوق والحريات الأساسية ووثيقة الصلة بالمواطن العادى، ذلك أنه ربما يصعب تتبع كل هذه القيود فى مقال واحد.
أولاً: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
احتلت هذه الحقوق فى مشروع الدستور المواد من 58 وحتى 73 ويؤخذ عليها أنها جاءت فى صياغاتها عامة وغير محددة، ولا تلزم الدولة بالتزامات محددة، وهى فى الجزء الأكبر منها تكرار لما ورد بدستور 11 سبتمبر 1971، ومن ذلك مثلاً ما نصت عليه المادة 58 من الحق فى التعليم، فقد جاء هذا التنظيم فى عبارات غير محددة وفضفاضة، ولا تلزم الدولة بشىء محدد لإصلاح حال التعليم، أو ضبط مخرجاته، أو ربطه بسوق العمل، أو التزام الدولة بتشغيل الخريجين.
كما يرتبط بذلك المادة 59 الخاصة بالبحث العلمى، أما المادة 60 فأمرها أعجب من العجب حتى تنص على أن بعض المواد الدراسية هى مواد أساسية، ألم يكن ذلك مرده القانون، وما علاقة ذلك فى حقيقة الأمر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، وقس على ذلك عمومية كل النصوص التى تحدثت عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
تقديم الرعاية الصحية المجانية يرتبط فى الدستور الجديد بـ«شهادة فقر» تحط من كرامة المصريين وتنال من آدميتهم على أننا فى هذا الإطار سنركز فقط على نص المادة 62 من المشروع والتى تنص على أن:
«الرعاية الصحية حق لكل مواطن تخصص له الدولة نسبة كافية من الناتج القومى، وتلتزم الدولة بتوفير خدمات الرعاية الصحية، والتأمين الصحى وفق نظام عالى الجودة ويكون ذلك بالمجان لغير القادرين، وتلتزم جميع المنشآت الصحية بتقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل مواطن فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة».
والحق أن هذا النص أصابه العوار فى مسألتين، إذ إنه جعل الرعاية الصحية المجانية لغير القادرين مالياً، وهو أمر تجاوزه النظام الصحى المصرى، حيث لم يعد يرتبط فيه تقديم الخدمات الصحية المجانية بضرورة تقديم شهادة فقر تحط من كرامة المصريين، خاصة مع انتشار الفقر والحاجة بين المصريين. وهو الأمر الذى يحط من كرامة المصريين وينال من آدميتهم، وكنا نظن أن التنظيم الدستورى للحق فى الصحة والعلاج قد تجاوزه كما فى بلاد كثيرة.
أما المسألة الثانية فهى ما قرره النص من تحديد التزام المنشآت الصحية جميعها، سواء خاصة أو حكومية بتقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل مواطن، فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة، وامتناعها دون ذلك، بما يعنى أن غير القادرين الذين يعانون من أمراض مزمنة وخطيرة وكلفة فى علاجها، ليس لهم الحق فى هذا العلاج، فالنص جاء مبهماً وغامضاً إلى حد كبير، وسوف يحرم المصريين من تلقى العلاج فى المستشفيات الحكومية والعامة، إلا فى حالة الطوارئ والخطر على الحياة وهو أمر مؤسف وخطير وسوف يؤدى إلى إشكاليات مجتمعية كثيرة.
وتجدر الإشارة إلى أن المشروع استخدم فى أكثر من مادة من مواد المشروع مسألة «غير القادرين»، واتخذ ضرورة إثبات فقرهم أساساً لمساعدتهم، وهى مسألة مهينة وحاطة بالكرامة، ما كان يجب على المشروع أن ينزلق إليها.
ثانياً: تقييد الحريات والحقوق المدنية والسياسية
كان من مظاهر إبداع هذا المشروع وتجلياته تقييد أهم الحريات والحقوق المدنية والسياسية، ومن ذلك حرية الصحافة وحرية الجمعيات والنقابات وحرية تنظيم الاجتماعات والتظاهرات.
فمن ناحية أولى: قيد هذا المشروع فى المادة 48 منه حرية الصحافة بقيود شديدة الوطأة لم تعرفها الصحافة المصرية فى تاريخها ولم يشهدها النظام الدستورى المصرى، حيث لم يسبق للدساتير المصرية أن تجرأت على حرية الصحافة وقيدتها بهذه الصورة.
واللافت للنظر أن هذه القيود أقحمت على المادة 48 قبل التصويت عليها، ولم تتداول فى الجمعية أبداً وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة. ولا يعلم أحد من أين أتت هذه القيود؟ ولم يعلن أحد مسئوليته، سواء من داخل الجمعية أو من خارجها عن العملية التى قيدت بمقتضاها حرية الصحافة، على الوجه الذى جاءت به المادة 48 التى نصت على أن:
«حرية الصحافة والطباعة والنشر وسائر وسائل الإعلام مكفولة، وتؤدى رسالتها بحرية واستقلال لخدمة المجتمع، والتعبير عن اتجاهات الرأى العام، والإسهام فى تكوينه، وتوجيهه فى إطار المقومات الأساسية للدولة والمجتمع، والحفاظ على الحقوق والحريات والواجبات العامة، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومقتضيات الأمن القومى، ويحظر وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائى».
والملاحظ أن هذه المادة قد كبلت وقيدت حرية الصحافة بقيود واسعة وفضفاضة لا يمكن من الناحية القانونية ضبط إطارها ومن ذلك خدمة المجتمع، والمقومات الأساسية للدولة والمجتمع، والحفاظ على الحقوق والحريات ومقتضيات الأمن القومى. فكل هذه التعبيرات ليست لها مضامين محددة ولا معانٍ واضحة، الأمر الذى تكون معه الحرية قد انتهت تماماً، وأصبحت الصحف فى قبضة الحكومة تستطيع إغلاقها أو مصادرتها أو وقفها.
ويجدر التنبيه إلى أن تطلب ذلك بحكم قضائى لا يمثل ضمانة لحرية الصحافة، لأن القانون سوف يتوسع فى تحديد هذه القيود والحالات التى تقيد الحرية.
ومن نافلة القول ذكر أنه فى ظل دستور 1971 لم يكن متاحاً إلغاء الصحف أو غلقها بأحكام قضائية، ولكن فى هذا المشروع حدث ولا حرج، فمن الواضح أن مصر تعود إلى الوراء مع هذه المادة التى تمثل عدوانا أثيماً على حرية الصحافة.
ومن ناحية ثانية، نشير إلى حرية الاجتماعات والتظاهرات السلمية، وفقاً لنص المادة 50 من المشروع حيث لم تكن هذه الحرية أسعد حالاً. إذ ميز المشروع بينها وبين الحريات الأخرى، والذى اكتفى فى ممارستها بمجرد الإخطار، وتطلب بخصوص حرية الاجتماع والتظاهر إخطاراً ينظمه القانون، كما كان الحال فى ظل دستور 1971، وهو إخطار يتحول فى حقيقة الأمر إلى «ترخيص»، حين تتطلب جهة الإدارة ضرورة سبق موافقتها بعد الإخطار، وهو ما يؤدى إلى تقييد الحرية بهذا الشكل. ولقد حاولنا فى الجمعية أن تُمارس حرية الاجتماعات والتظاهرات بمجرد الإخطار، كغيرها من الحريات الأخرى فى الدستور، ولكن للأسف لم يكن لمحاولتنا صدى، إذ إنه بعد الاتفاق على ذلك تم تغيير هذا النص قبيل التصويت عليه فى الجلسة النهائية، وهو ما يؤكد بؤس حالة الحقوق والحريات الأساسية فى هذا المشروع والميل إلى تقييدها بصورة كبيرة.
ومن ناحية ثالثة، فإن المشروع قد قيد الحريات النقابية، وكذلك الجمعيات الأهلية بقيد غير معروف ولا مألوف لا فى مصر ولا فى غيرها، وهو أنه أباح حل النقابات أو الاتحادات أو الجمعيات بأحكام قضائية، وأعطى سلطة للقانون فى تحديد الحالات التى يجرى فيها الحل، وهو أمر غريب وعجيب، حيث إن الحل يجب أن يقتصر على مجالس الإدارة، أو الهيئات الإدارية التى تمثل هذه المؤسسات، إذا خالفت القانون. ولعل هذه السلطة التى خولها النص الدستورى بحل النقابات أو المؤسسات، تستدعى إلى الذاكرة ذلك الصراع المرير الذى حدث بين بعض النقابات، والرئيس الراحل أنور السادات، وأراد على إثره أن يحل هذه النقابات ويحولها إلى أندية لشرب الشاى والقهوة حسب تعبيره آنذاك، ولكن لأن دستور 1971 لم يكن يسمح بذلك فإنه لم يقدر عليه ولم يستطعه، وهو ما جاء به المشروع وهو أمر مؤسف ومشين، ويؤدى إلى قمع النقابات والجمعيات الأهلية وسائر مؤسسات المجتمع المدنى.
ثالثاً: تقييد الحقوق والحريات العامة الواردة فى الدستور بمقتضى المادة 81 من الدستور.
أخيراً وليس آخراً -كما يقولون- لم يكتفِ المشروع بكل هذه القيود التى حاصر بها الحقوق والحريات، وأجهز على أهمها، نجد أن المادة 81 من فقرتها الأخيرة وهى آخر مادة فى باب الحقوق والحريات تنص على:
«وتمارس الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المقومات الواردة فى باب الدولة والمجتمع بهذا الدستور».
وهو نص غريب إذ يقيم تناقضاً واضطراباً بين نصوص الدستور، ويجعل بعضها مقيداً للبعض ومحدداً لنطاقها، وهو أمر غير مألوف فى الصياغات الدستورية ولكنه للحق مشروع دستور العجائب، ويزداد العجب عندما نطالع نصوص الباب الأول، فنجده مليئاً بالعبارات الفضفاضة والتعبيرات المطاطة، التى يمكن أن تكون قيوداً حديدية تكبل الحقوق والحريات الواردة فى الدستور، وهو الأمر الذى يؤكد عمق الأزمة التى عاشت فيها الجمعية، وعانت منها، حيث كان يسيطر على كثير من الاتجاهات الفاعلة فيها، هاجس الخوف من الحرية وضرورة تقييدها وربطها بقيود حديدية، أخلّت بأهم هذه الحقوق والحريات، وحرم المجتمع من فرصة تاريخية جاءت بعد ثورة نادت بالحرية والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، كان يجب أن تؤدى إلى احترام حقوق الإنسان، واحترام معايير حماية هذه الحقوق والحريات فى المواثيق الدولية، والتراث الدستورى المصرى، وهو ما لم يحدث، فحقيقة ما حدث هو إخراج مشروع للدستور يقيد الحقوق والحريات بقيود وفدت إليه خلسة، أو مررت فيه خدعة، يسأل عنها مَن صنعها ومن مررها ومن وافق عليها.
والله خير شاهد.. التاريخ لن يرحم.