مشاهدة النسخة كاملة : الأمن في الإسلام


أبو أنس محمد علي
04-01-2013, 09:43 PM
file:///C:/DOCUME%7E1/pc2/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image002.gif
الأمن في الإسلام
مـقـدمـة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا, نحمده ونستهديه ونستغفره، ونتوب إليه من سيئات أعمالنا , من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه، وشهيده على أمره ونهيه، وأصلي وأسلم على الهادي البشير, المبعوث رحمة للعالمين , والذي ما ترك من خير إلا ودل الأمة عليه وأمرهم باتباعه, وما ترك من شر إلا وحذر الأمة منه ونهاهم عن اقترافه, وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ الأمن يعتبر من أهم مطالب الحياة، بل لا تتحقق أهم مطالبها إلا بتوفره؛ حيث يعتبر ضرورة لكل جهد بشري، فردي أو جماعي، لتحقيق مصالح الأفراد والشعوب، والتاريخ الإنساني يدل على أن تحقيق الأمن للأفراد والجماعات الإنسانية، كان غاية بعيدة المنال في فترات طويلة من التاريخ، وأن الأمن لم ينبسط على الناس في المعمورة إلا خلال فترات قليلة؛ فالحرب والقتال بين البشر ظاهرة اجتماعية لم تختف حتى الآن، وكان تغير الدول والإمبراطوريات قديمًا، ونشأتها، وضعفها، وانتهاؤها، مرتبطًا في الغالب بالحروب ونتائجها.
ولما كان توفر الأمن ضرورة من ضروريات المجتمع التي تفوق ضرورة الغذاء اهتم الإسلام بتوفير الأسباب الجالبة للأمن، وذلك ببناء الإنسان عقيدةً وأخلاقًا وسلوكًا؛ لأن الأمن لا يتوفر بمجرد البطش والإرهاب وقوة الحديد والنار، وإنما يتوفر بتهذيب النفوس وتطهير الأخلاق وتصحيح المفاهيم حتى تترك النفوس الشر رغبة عنه وكراهية له، فإذا فقد المجتمع هذه المقومات التي جاء الإسلام بها، فإنه يفقد أمنه واستقراره، قال أحمد شوقي:
وَإِنَّما الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت



فَإِن تَوَلَّت مَضَوا في إِثرِها قُدُما



ولهذا نجد الأمم التي تفقد هذه المقومات من أفلس الناس من الناحية الأمنية، وإن كانت تملك الأسلحة الفتاكة والأجهزة الدقيقة؛ لأن الإنسان لا يحكم بالآلة فقط، وإنما يحكم بالشرع العادل والسلطان القوي، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25].
فإذا تحقق الإسلام والإيمان توفرت أسباب الأمن، لكن قد يكون هناك شذوذ لم يتمكن الإسلام والإيمان من قلوبهم فتحصل منهم نزوات تخل بالأمن، وهنا وضع الله I زواجر وروادع لهؤلاء تكف عدوانهم وتصون الأمن من عبثهم، فشرَّع سبحانه الحدود الكفيلة لردعهم وتحذير غيرهم من أن يفعلوا مثل فعلهم، وشرَّع حد المرتد لحفظ الدين، وشرَّع القصاص لحفظ الدين، وشرَّع القصاص لحفظ النفوس، وشرَّع حد الزنا وحد القذف لحفظ العرض والنسب، وشرَّع حد المسكر لحفظ العقل، وشرَّع حد السرقة لحفظ الأموال، وشرَّع حد قطاع الطريق لحفظ السبل وتأمين المواصلات، وشرَّع قتال البغاة لحفظ السلطة الإسلامية ومنع تفريق الكلمة واختلاف الأئمة.
وإنَّ الأمن معنى شامل في حياة الإنسان، ولا يتوفر الأمن للإنسان بمجرد ضمان أمنه على حياته فحسب، فهو كذلك يحتاج إلى الأمن على عقيدته التي يؤمن بها، وعلى هويته الفكرية والثقافية، وعلى موارد حياته المادية، والشعوب والدول تحتاج -فضلاً عن الحفاظ على أمنها الخارجي- إلى ضمان أمنها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والثقافي، ودون أن يتحقق لها ذلك، لا تتمكن من النهوض والتطلع إلى المستقبل، بل يظل الخوف مُهيمنًا على خطواتها، ومقيدًا لتطلعاتها.
ولذلك؛ فإن تكامل عناصر الأمن في مجتمع معين هو البداية الحقيقية للمستقبل الأفضل، وتوفر عناصر الأمن الديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وبقاؤه في المجتمع، ضمان له لاستعادة أمنه الخارجي، حتى لو فقده بصفة مؤقتة أو عارضة، ويمثل التزام الإسلام عقيدةً وشريعةً وقيمًا وأصولاً اجتماعية أهم عناصر الأمن في المجتمعات الإسلامية.
ولا بدَّ لنا ونحن نتناول أهمية الأمن في الإسلام أن نتحدَّث عن الأمن بمفهومه الشامل الذي يحتاج إليه الفرد والمجتمع، وعن أمن غير المسلمين في المجتمع المسلم، وأن نشير إلى أظهر الأسباب التي تخل بالأمن في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
ولقد جاء الحديث في هذا الموضوع المهم في أربعة مباحث وخاتمة:
المبحث الأول: الأمن في الكتاب والسنة.
المبحث الثاني: مفهوم الأمن في المجتمع المسلم.
المبحث الثالث: تطبيق الشريعة والأمن الشامل.
المبحث الرابع: وسائل حفظ الأمن في الإسلام.
الخاتمة: في أهم ما يحقق الأمن للمجتمع المسلم.
نسأل الله تعالى أن ينفع به كل مَن قرأه، وأن يوفقنا إلى الاهتداء بهديه I، والاقتداء برسوله ^، والعمل بما يرضيه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، وأن يجعل مصر أمنًا وأمانًا سخاءً ورخاءً وسائر بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
* * *

المبحث الأول
الأمن في القرآن الكريم والسُّنة
لا بد لنا أن نبيِّن أولاً معنى الأمن في اللغة وفي العرف المستعمل حتى لا يختلط ببعض المفاهيم المحرَّفة، قال الجوهري في (الصحاح): «(أَمِنَ) منه الأمان والأمانة بمعنى, وقد أَمِنْتُ فأنا آمن, وآمنت غيري من الأمن والأمان. والأمن ضد الخوف. والأَمَنَةُ بالتحريك: الأمن, ومنه قوله تعالى: ﴿أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ [آل عمران:154], واستأمن إليه, أي: دخل في أمانه».
والأمن في العرف: هو اطمئنان النفس وزوال الخوف, ومنه قوله تعالى: ﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش:4], ومنه الإيمان والأمانة, وضده الخوف. ووقع من أسمائه الحسنى المؤمن في قوله تعالى: ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ﴾ [الحشر:22]، ومعناه أنه هو المعطي الأمان لعباده المؤمنين حين يؤمنهم من العذاب في الدنيا والآخرة.
وينقسم الأمن إلى قسمين:
أمن في الدنيا: وهو يتحقق على الصعيد الفردي والاجتماعي بمختلف الأشكال الحياتية: سياسي, عسكري، اقتصادي, تعليمي, اجتماعي، وغيرها.
وأمن في الآخرة: وهو الاطمئنان بعدم عذاب الله في جهنم، وهو خاص بالمؤمنين الذين عملوا الصالحات، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
ووردت كلمة الأمن وما يشتق منها في القرآن الكريم في مواضع عديدة، بالمعنى الذي يعني السلامة والاطمئنان النفسي، وانتفاء الخوف على حياة الإنسان، أو على ما تقوم به حياته من مصالح وأهداف وأسباب ووسائل، أي ما يشمل أمن الإنسان الفرد، وأمن المجتمع.
قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [فصلت:40]، وقال أيضًا: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران:97]، وقال أيضًا: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهَ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99]، وقال أيضًا: ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ [سبأ: 18]، وقال أيضًا: ﴿وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾ [الحجر: 82]، وقال أيضًا: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: 125]، وقال أيضًا: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: 35]، وقال أيضًا: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: 55]، وقال أيضًا: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:112].
ومن آيات القرآن الكريم يظهر معنى الأمن الذي ينافي الخوف، ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: 125]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 97]، وقوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99]، وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾ [الحجر: 82].
ولا يتحقق للإنسان في الحياة الدنيا الأمن المطلق.. ذلك أن الإنسان مهما أوتي من نعمة، ومن سلامة نفس وبدن ووفرة رزق، لا يحس بالأمن الكامل، أو الأمن بمعناه المطلق الذي ينافي كل خوف مهما كانت أسبابه، فالأمن المطلق لا يوجد إلا في دار النعيم التي وعد الله بها عباده الصالحين. قال الله تعالى: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر: 46].. ففي الجنة لا يكون خوف ولا فزع ولا انقطاع ولا فناء، أما في الدنيا؛ فالأمن المطلق غير واقع، إذ يشوبه الخوف من انقطاع الأمن، والخوف من زوال الحياة نفسها.
ولا يحس بالأمن المطلق من عذاب الله إلا الغافلون الخاسرون، يقول الله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99]. أما المؤمنون حقًّا؛ فحالهم بين الرجاء في رحمة الله U، والخوف منه I، الذي يعتبر ضروريًّا للمسلم حتى يأمن من ظلمه لنفسه، ومن ظلمه لغيره، ومن ظلم غيره له، فالخوف من الله مفتاح الأمن للمسلم في دنياه والفلاح في أخراه.
والخوف قد يكون جزاء على كفر النعمة، فينقلب الأمن خوفًا، إذا لم يكن شكر من الإنسان لله عليها: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:112]، وذلك مثل أهل مكة في أول أمرهم، ومحاربتهم للرسول ^، مع ما كانوا فيه من نعمة. يقول الله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 3-4].
أهمية أمن الإنسان في الجماعة التي يعيش فيها:
وفي السُّنة النبوية ما يؤكد أهمية أمن الإنسان في الجماعة التي يعيش فيها، يقول الرسول ^: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» (رواه الترمذي). فالأمن على نفس الإنسان، وعلى سلامة بدنه من العلل، والأمن على الرزق، هو الأمن الشامل الذي أوجز الإحاطة به وتعريفه هذا الحديث الشريف، وجعل تحقق هذا الأمن لدى الإنسان بمثابة ملك الدنيا بأسرها، فكل ما يملكه الإنسان في دنياه، لا يستطيع الانتفاع به، إلا إذا كان آمنًا على نفسه ورزقه.
وقد دعا الرسول ^ إلى كل عمل يبعث الأمن والاطمئنان في نفوس المسلمين، ونهى عن كل فعل يبث الخوف والرعب في جماعة المسلمين، حتى ولو كان أقل الخوف وأهونه، باعتبار الأمن نعمة من أجلِّ النعم على الإنسان، ونهى الرسول ^ عن أن يروع المسلم أخاه المسلم، فقال: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» (رواه الإمام أحمد، وأبو داود)، كما نهى الرسول ^ عن أن يشهر السلاح عليه، حتى ولو كان ذلك مزاحًا، فقال: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» (متفق عليه). ونهى الرسول ^ عن أن يخفي الإنسان مالاً لأخيه، ولو لم يكن بقصد الاستيلاء عليه، ولكن أراد بذلك أن يفزعه عليه، فقال: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا، وَلَا جَادًّا» (رواه أبو داود). وكان من دعاء النبي ^ ربه أن يؤمِّن روعاته؛ حيث كان يقول: «اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي» (رواه الإمام أحمد، وأبو داود).
فالخوف والروع نقيض الأمن الذي يطلبه المسلم في دنياه وآخرته، ويظهر اهتمام الإسلام بالأمن حتى في وقت القتال، فلا يصح إرهاب أو قتال من لا يحارب، كالنساء والصبيان، وكبار السن، الذين لا مدخل لهم في القتال ضد المسلمين، فقد نهى الرسول ^ عن قتل النساء في الحرب، وقال حين شاهد امرأة مقتولة في إحدى المغازي: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ» (رواه أبو داود).
ولقد واجه الصحابة ألوانًا من التخويف والعدوان والإرهاب في بداية الدعوة، وقد أوردت كتب السيرة ما لا يحصى من صور العدوان والإرهاب الذي لقيه المسلمون على يد كبار المشركين، ولقد حاول عدو الله أبو جهل أن يطأ عنق الرسول ^ وهو ساجد لله، ولكن الله أخزاه عندما همَّ بذلك الجرم، وعاد إلى أصحابه ممتقع الوجه قد أخذه الخوف، وقال لأصحابه حين سألوه عن سبب نكوصه وفزعه: «إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً»، وفي الصحيحين أن عقبة بن أبي معيط وضع سلاة جزور بين كتفي الرسول ^ وهو يصلي، وقد شق عتبة بن أبي لهب قميص الرسول ^ وتفل في وجهه، ودعا عليه الرسول ^ بأن يسلط الله عليه كلبًا من كلابه، فأكله السبع وهو يجتاز طريقًا بالشام.
إرهاب المسلمين الأوائل في مكة والعدوان عليهم:
وكان إرهاب المسلمين الأوائل في مكة والعدوان عليهم، أشد وأقسى، فلقد تحمل أبو بكر الصديق t الكثير من الأذى والعنف في أول الإسلام، حتى فكَّر في الهجرة بدينه إلى الحبشة، وقد ضربه المشركون في المسجد الحرام ومنهم عتبة بن ربيعة، حتى أدموه واستنقذه أهله، وممَّن تعرض للأذى والعدوان والتعذيب عبد الله بن مسعود، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون، وآل ياسر، كما لقي بلال بن رباح، وكثير من المستضعفين من الناس، إرهابًا وتخويفًا من أهل الكفر والشرك.
ولم يقتصر الأمن على المسلمين، بل إن غير المسلمين كان لهم نصيبهم من الأمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وقد تمَّ ذلك بالصحيفة التي كانت أول وثيقة تنظم أمور المجتمع المسلم، وعلاقات أفراده من المسلمين بغيرهم من أهل الكتاب، وثمة نص واضح وصريح في الوثيقة يتعلق بالأمن، وهو بين بنودها العامة: «من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله»، وبمقتضى هذا الشرط في العهد النبوي يتحقق الأمن لجميع المسلمين وغير المسلمين، في خروجهم وبقائهم من غير ظلم ولا إثم.
وهكذا كان الأمان للجميع، وكان الأمن الشامل للناس في عهد النبوة، سواء في دولة الإسلام في المدينة، أم في مكة التي دخل أهلها بعد الفتح في دين الله أفواجًا، وأصبحت أقدس مدينة في تاريخ الإسلام، والحرم الأول للمسلمين، الذي جعله الله مثابةً للناس وأمنًا.
* * *

المبحث الثاني
مفهوم الأمن في المجتمع المسلم
مفهوم أمن المجتمع وتحقيقه:
إنَّ الفطرة الإنسانية تقتضي الاجتماع، ومتى وُجد جماعة من الناس تَعين أن تقوم فيهم سلطة حاكمة ترعى مصالحهم، وتعمل من أجل بقائهم وتقدمهم، وتحجز بين أفرادهم حين تختلف المصالح، وتعمل هذه السلطة وفقًا لمبادئ وأهداف تحاول تحقيقها، لا بدَّ أن تكون واضحة في نظرها، ومقبولة من المجتمع الذي تتولى تنظيمه ورعايته، وقد تكون هذه المبادئ مستمدة من أعراف سائدة، أو نظم وتقاليد أفرزها تطور الحياة في المجتمع، وقد تكون هذه المبادئ والأهداف والغايات مستمدة من عقيدة دينية راسخة، كما هو الحال في المجتمع المسلم.
إذ لا بدَّ لكل سلطة تقوم فيه أن تستمد نظامها وأحكامها وقيمها وأهدافها وغاياتها من الإسلام، وبغير ذلك لا يستقيم لها حكم، ولا تلقى من تعاون مجموع الناس وتوحد جهودهم، ما يكفي لحفظ مصالح المجتمع وأمنه، ولا تكفي القوة أو السلطة بذاتها، لكي يبقى المجتمع متماسكًا وقادرًا على النمو والارتقاء.
لقد آمن المسلمون منذ بداية ظهور المجتمع المسلم الأول، ومنذ نشأة الدولة الإسلامية، أن كتاب الله وسنة رسوله ^ هما الأصل في نظام المجتمع، والأساس الذي يقوم عليه، فالإسلام هو العقيدة الدينية، والمنظومة الخلقية والسلوكية، والمنهج الاجتماعي للفرد والجماعة، في كل العلاقات التي تنشأ داخل المجتمع بين الأفراد، وبين الأفراد والسلطة، وبين المجتمع المسلم، وما يتصل به من مجتمعات أخرى، مسالمة أو معادِية، تدين بالإسلام، أو لها عقائدها المختلفة، فما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة، هو الأساس في نظام الإسلام السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ومن فرائض الإسلام على المسلمين جميعًا الطاعة لله ولرسوله ^، وطاعة أولي الأمر فيما لا يكون فيه معصية، والرجوع دائمًا عند الاختلاف وتعدد الرأي في شئون الحياة، إلى الأصلين العظيمين القرآن والسُّنة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59].
ويستحق ولاة الأمر في المجتمع المسلم طاعة الناس، بتمسكهم بهذين الأصلين في حياة المجتمع، عقيدةً وأخلاقًا وتشريعًا، ولا يجوز الخروج على الأئمة، ولا منابذتهم من قبل الرعية ما لم يكن منهم كفر صراح، عند الناس منه بينة. عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ^ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»، أَيْ: مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ (رواه مسلم).
فأمن المجتمع من الفتن والقلاقل هدف له الأسبقية، والمقصود هو بيان حدود الطاعة التي ترتبط بوجود إمام، أو ولي أمر للمسلمين، يحفظ الأصلين العظيمين في المجتمع، الكتاب والسنة، ويجعلهما الأساس، وقد كان ذكر الصلاة بالذات، وهي العلامة الفارقة بين الإيمان والكفر في المجتمع المسلم، كافيًا في البيان والدلالة على وجوب المحافظة على الأمن والسلام في المجتمع، الذي يظهر فيه الإسلام بأول علاماته وأقوى دلالاته، وهي الصلاة.. فلا قتال ولا محاربة ولا عدوان، حتى وإن ظهرت بعض المنكرات، فسبيل ذلك الإصلاح، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا يكون قتال المسلمين أو عدوان بعضهم على بعض سبيلاً للنفع أو الخير في مجتمع مسلم، مهما كانت البواعث والنيات، فالمجتمع الآمن الذي يشعر فيه الناس بحرمة الأنفس والأعراض والأموال فيما بينهم، ويؤدون فيه شعائر الدين، هو المجتمع المسلم القابل للنمو والارتقاء، والذي تتحقق فيه خيرية الأمة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران:110].
ومن واجب أولياء الأمور في المجتمع المسلم، بحكم ولايتهم، أن يحققوا لكل من يقيم تحت سلطانهم، الأمن على نفسه وعرضه وماله، سواء أكان من المواطنين أم من المقيمين، فالسلطان الذي يملكه، والطاعة التي يُلزم الشرع ببذلها له، هما وسيلته في القيام بواجبه في تحقيق الأمن لمن هو تحت ولايته من الناس، وقد كفلت الشريعة الإسلامية تحقيق أمن المجتمع بحد من حدود الله، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:33]، فمحاولة الإخلال بأمن المجتمع المسلم عن طريق ارتكاب جرائم القتل أو النهب، أو حتى إرهاب الناس، يعتبر من الناحية الشرعية محاربة لله ورسوله، تستوجب إقامة الحد.
إنَّ الأهمية البالغة للأمن في المجتمع المسلم، وكون توافره العامل المهم في سعي المجتمع إلى النمو والارتقاء في جميع المجالات، هي التي جعلت الإخلال بالأمن محاربة لله ورسوله، وكانت عقوبته من أشد الحدود صرامة وحسمًا في الإسلام؛ إذ إن عقوبة هذا الإخلال الخطير تتراوح بين القتل والصلب وبين قطع الأطراف والنفي، وكلها عقوبات جسيمة جعلها الشارع للزجر عن ارتكاب الجريمة، وللردع عند ارتكابها، فهي لشدتها تؤدي إلى الوقاية قبل ارتكابها، وإلى العقاب العادل عند وقوعها، وتشمل الصور التي يطبق عليها حد الحرابة، الجرائم والجنايات الخطيرة التي تنتهك أمن الإنسان، كالقتل وأخذ المال كرهًا، مما يجعل الأمن العام مهددًا أو منقوصًا.
أمن غير المسلم في الدولة الإسلامية:
إنَّ الأمن مطلب للإنسان الذي كرمه الله، وهو نعمة تعم الناس جميعًا في المجتمع المسلم، فأحكام الإسلام المنزلة من الله تعالى، والمبينة بسنة رسوله ^، تدل على أن أمن غير المسلم -الذي يعيش في المجتمع المسلم- على نفسه وماله وعرضه، مضمون ما دام ملتزمًا بما تقضي به تلك الأحكام، لا يُمس إلا بحق، وهي أحكام واضحة أوجبها الإسلام، ولم توجبها المصالح المتبادلة بين المسلمين وغير المسلمين، ولم تلزمنا بها قواعد القانون الدولي، أو المعاهدات بين الدول الإسلامية وغيرها، لأن هذه الأحكام جانب مهم من شريعة الإسلام الكاملة، يجب على الدولة الإسلامية تطبيقه والعمل به، فهو واجب ديني، قبل أن يكون مصلحة سياسية أو التزامًا دوليًّا.
وتشمل حماية غير المسلمين في المجتمع المسلم، الحماية من العدوان الخارجي؛ ففي كتاب (مطالب أولي النهى): «يجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع ما يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع من قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب، بل بدارنا ولو كانوا منفردين ببلد».
وتشمل كذلك الحماية من الظلم الداخلي، أي داخل المجتمع المسلم، وتعني دفع كل اعتداء عليهم، وتأمين أنفسهم وأبدانهم وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم، التي تكفلها لهم الشريعة، ويتولى ذلك إمام المسلمين وولي الأمر في المجتمع المسلم، أو من ينوب عنه. فأمن الذمي على نفسه وبدنه، مضمون بالشريعة؛ لأن الأنفس والأبدان معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، يقول الرسول ^: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا» (رواه البخاري). وذهب الشعبي وأبو حنيفة إلى قتل المسلم بالذمي؛ لعموم النصوص الموجبة للقصاص ولاستوائهما في عصمة الدم المؤبدة، وتقطع يد المسلم بسرقة مال الذمي، مع أن المال أهون من النفس.
ولم تقتصر الشريعة الإسلامية على حماية من يعيش في مجتمع مسلم، في حياته الدائمة والمستقرة بين أسرته، وفي مقر عمله الذي يتكسب منه، وهي حالة الذميين، وإنما تجاوزت ذلك إلى حماية المخالف في الدين، الذي يحضر إلى بلاد المسلمين للعمل، أو التجارة أو لشأن من الشئون المباحة، بإذن من ولي الأمر فيها، ويكون حضوره مؤقتًا بانتهاء العمل، أو قضاء المصلحة التي يبتغيها، فالإسلام بذلك، لا يقاطع الآخر مقاطعة شاملة، ولا يحرم أصل التعامل مع غير المسلمين لتحقيق مصالح المجتمع المسلم من خلال تلك العلاقات.
وإذا وقع الأمان بشروطه وجب على المسلمين جميعًا الوفاء للمؤَمَّنِينَ به، فلا يجوز أسرهم، ولا أخذ شيء من مالهم إلا بإذن شرعي، ولا أذيتهم بغير وجه شرعي، وإذا مات المؤمَّن في دار الإسلام، فماله لوارثه إن كان معه، وإذا لم يكن وارثه معه أرسل إليه المال.
* * *

المبحث الثالث
تطبيق الشريعة والأمن الشامل
إنَّ المجتمع المسلم يقصد به كل تجمع مسلم، تسوده عقيدة الإسلام، وتحكمه شريعته، وتظهر فيه قيمه الخلقية والسلوكية، وغالبًا ما يتطابق معنى المجتمع المسلم مع معنى الدولة الإسلامية، فالمجتمع في الدولة الإسلامية، هو مجتمع مسلم، وإن وقعت بعض المخالفات، أو التقصير من بعض أفراده، إذ العبرة بالغالبية التي يظهر فيها الخضوع للإسلام عقيدة وشريعة، فالمجتمع، كائن حي قابل للتغير والتطور بما يُصلح أمره، وإذا ظهرت المخالفة لحكم الشرع في بعض الأمور، فهي لا تنزع عن الدولة أو المجتمع هويته الإسلامية، وإنما يكون علاج ذلك أو تلافيه من مهمات أولي الأمر والقائمين على إصلاح البلاد والعباد.
وثمة تجمعات إسلامية تعيش داخل دول غير إسلامية، تتمثل في الأقليات المسلمة، والجاليات الإسلامية، ولا مندوحة من وصفها بهذا الوصف، تمييزًا لها عن الدائرة الواسعة التي تعيش فيها، والتي لا تسودها أحكام الإسلام، ولا تظهر فيها قيمه وأنماطه السلوكية، ولا يُحتكم فيها إلى شريعته.
وهذه التجمعات مطالبة بأن تحتفظ بهويتها الدينية وقيمها الخلقية، وأنماط سلوكها، المستمدة من الإسلام، وهي -وإن كانت في دول ومجتمعات غير إسلامية- تعد جانبًا لا يستهان به من الأمة الإسلامية الواحدة، ولا يمكن لهذه الأقليات والجاليات أن تأمن على عقيدتها وتؤدي شعائرها، وتحيا بقيمها المستمدة من الإسلام، إلا إذا توافر لها داخل الدول والمجتمعات التي تعيش فيها، الأمن والطمأنينة، فالمسلم يحتاج في إقامة دينه وأداء شعائره، والأمن على نفسه وعرضه وماله، إلى مجتمع آمن؛ حيث ولو كان يعيش في بلد ومجتمع غير إسلامي، فالأمن من أول مطالب الإنسان في حياته.
الأمن للفرد والمجتمع:
يحتاج الفرد في حياته إلى الأمن على نفسه ودينه وعرضه وماله، وقد جعلت الشريعة الإسلامية الحفاظ على هذه الضروريات من أهم مقاصدها، وفي نظرة سريعة مستمدة من أحكام الإسلام فرَّق علماء المسلمين بين مطالب الحياة الضرورية، التي تهم الإنسان، وبين غيرها من حاجاته، فأنزلوا الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال، منزلة الضرورة التي لا تستقيم الحياة إلا بها، وجعلوا حاجات الإنسان التي تُيسر حياته في مرتبة تالية، وأفسحوا مجالاً تكتمل به حياة الإنسان، فيما عدوه من الكماليات والتحسينيات.
ومن أجل تحقيق أكبر قدر من الحماية لهذه الضرورات، كان تشريع الحدود والقصاص للزجر والردع عن الجرائم التي تمس الأفراد في أنفسهم وأبدانهم وأعراضهم وأموالهم.
فتشريع القصاص في الإسلام هو الوسيلة الفعالة التي تكفل حماية الأنفس، وهو في نفس الوقت يحقق العدل بين الفعل ورد الفعل، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة:178]، ويقول تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة:45]، فحماية نفس الإنسان وبدنه تظفر بأعظم الاهتمام في موازين الشرع الإسلامي، وهي حماية للأفراد و للمجتمعات، وحماية الفرد من العدوان على نفسه وبدنه.
وإنَّ عقوبة قطع اليد تعد عقوبة جسيمة وذات أثر خطير على حياة من يقدم على ارتكاب جريمة السرقة، ولكنها في نفس الوقت وقاية من انتشار هذه الجريمة في المجتمع، وهي تحول دون الاستهانة بحرمة المال والملكية، وتوفر الأمن لملايين الناس، مقابل بث الرعب في قلوب عدد ضئيل من الناس، إذا فكروا في ارتكاب الجريمة، لأن تحقيق الأمن والاستقرار لملايين الناس في بيوتهم ومحال عملهم وتجارتهم، وانصرافهم إلى السعي في الأرض، وابتغاء الرزق الحلال، وتنمية المال، هدف كبير يتعلق بالمجتمع كما يهم الفرد، ولذلك كانت عقوبة السرقة قطع اليد، قال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ﴾ [المائدة: 38].
ويدخل تحت هذه الجريمة من الأنواع ما تشمله من استخدام العنف والإكراه وسلب الأموال عنوة، والاعتداء على الأعراض كرهًا أو علنًا، وممارسة تجارة المخدرات وترويجها بين الناس، للإضرار بالقوة العاملة في البلاد، وإفساد أخلاق الناس، وإهدار طاقتهم.
ومن صور هذه الجريمة، ترويع الناس بوضع مواد خطرة أو متفجرة في أماكن يرتادها الناس لحاجات حياتهم، حتى ولو لم تتسبب في قتل أحد، فإن إخافة الطريق وحدها، يتحقق بها ارتكاب حد محاربة الله ورسوله الذي نص الله في القرآن الكريم على عقوبتها بقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33]، وهذا الحد كما عدَّد الفقهاء صوره يحفظ أمن الدولة وأمن المجتمع من جرائم خطيرة، يتعاون فيها المجرمون على الإخلال بأمن الناس.
الأمن الاجتماعي:
يحتاج المجتمع المسلم إلى الأمن الاجتماعي وهو تعبير حديث، لكنه يعبر عن معنى إسلامي، وهو أن يكون المجتمع المسلم، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضًا، ونجد هذا المعنى واضحًا أشد الوضوح في الحديث الشريف: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (متفق عليه). وقد أمر الله المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى، ونهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان، يقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
وقد تضمن تشريع الإسلام ما يكفل قيام هذه الأخوة والولاية المتبادلة، ويظهر ذلك في تشريع الزكاة التي تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقرائهم، وهو تشريع يحقق الأمن الاجتماعي، ويشعر فيه القادر بأنه مسئول عن غير القادر في الوفاء بضرورات حياته، حتى لا يشيع الحقد في المجتمع، إذا كان المال بيد الأغنياء وحدهم، ولا ينال العاجز والضعيف منه شيء، وأوجب الإسلام نفقة القريب الفقير على القريب الغني، مما يقوي رباط الأسرة ويجعل المجتمع متماسكًا، يشعر فيه كل قادر بأنه مسئول عن أقرب الناس إليه، كما أوجب رعاية الجار، يقول الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 36]، والمقصود من تشريع الرفق بالضعفاء ورعاية الجار هو المحافظة على الأمن الاجتماعي داخل الأسرة وفي المجتمع الكبير.
وأقام الإسلام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي فريضة جماعية، أي تؤديها طائفة لحساب المجتمع كله، يقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، فإقامة هذه الفريضة في المجتمع تضمن أمنه وسلامة الناس وتضامنهم في دفع الفساد وتحصيل المصالح.
الأمن الاقتصادي:
في مجال الأمن الاقتصادي حض الإسلام على العمل، وقد وردت كلمة العمل وما يشتق منها، أكثر من ثلاثمائة مرة في القرآن الكريم، شاملة العمل للدنيا وللآخرة، ويشمل ذلك العمل في الزراعة والصناعة والتجارة، يقول الله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء:80]، ويقول Y: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة:63-64]، ويقول I: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]. ويحض الرسول ^ على إتقان العمل حتى يصبح عمل المسلم، متميزًا عن عمل غيره بهذا الإتقان الذي يصل إلى مرتبة الواجب الديني: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَه» (رواه البيهقي في «الشعب»، والطبراني في «المعجم الكبير»). ويروى عن الإمام جعفر الصادق: «ثلاثة أشياء يحتاج إليها جميع الناس؛ الأمن والعدل والخصب، فبالعدل تطمئن النفوس وتستقر البلاد, وبالعدل تصان الحقوق وينـتصف الناس، وبالخصب يُقضى على الفقر والعوز.
وإنَّ شر البلاد بلد لا أمن فيه, فإذا انتشر الأمن بين الناس زادت الحركة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع وعلت سياسة دولته بين الدول، ولا رفاهية لشعب إلا بالأمن، ويحض الإسلام على حماية موارد المسلمين التي أعطاهم الله وملَّكهم إياها، والمحافظة عليها، ويحض على رعاية العامل وإعطائه أجره العادل، وعلى إتقان العمل وتنظيمه.
الأمن الثقافي والفكري:
ثمة مصطلح يظنه الناس حديثًا ومن تعبيرات هذا العصر، وهو مصطلح الأمن الثقافي أو الفكري، بمعنى أن يعيش الناس في بلادهم آمنين على أصالتهم، وعلى ثقافتهم المستمدة من دينهم وتراثهم وأعرافهم، ولكن ما نبَّه إليه علماء المسلمين، وما حذروا منه، من الغزو الثقافي للأمة الإسلامية، نجد توجيهاته حاضرة وظاهرة في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، فالمحاولات، قديمة لإبعاد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم وشريعتهم. يقول تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة:109]، ويقول تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة:120].
وإنَّ إبعاد المسلمين عن دينهم وغزوهم ثقافيًّا يتخذ وسائل، منها إضعاف العلوم الدينية الإسلامية، وإسقاطها من مكانتها في نفوس المسلمين، وكذلك علوم اللغة العربية، فهذه العلوم مصدر الثقافة الإسلامية والعربية كلها، وللغزو الثقافي صور ووسائل متعددة، وهو يستغل ضعف النفوس التي تعاني من الانبهار أو الانهيار أمام كل جديد من القول أو الفكر أو السلوك، دون أن تدرسه، وتضعه على موازين الإسلام لتقويمه والحكم عليه.
* * *

المبحث الرابع
وسائل حفظ الأمن في الإسلام
لما كان توفر الأمن ضرورة من ضروريات المجتمع التي تفوق ضرورة الغذاء اهتم الإسلام بتوفير الأسباب الجالبة للأمن، وذلك ببناء الإنسان عقيدةً وأخلاقًا وسلوكًا؛ لأن الأمن لا يتوفر بمجرد البطش والإرهاب وقوة الحديد والنار، وإنما يتوفر بتهذيب النفوس وتطهير الأخلاق وتصحيح المفاهيم حتى تترك النفوس الشر رغبة عنه وكراهية له، كما يقول أبو العتاهية:
ولا تنته الأنفس عن غيها



ما لم يكن لها من نفسها زاجر



فإذا فقد المجتمع هذه المقومات التي جاء الإسلام بها، فإنه يفقد أمنه واستقراره، قال أحمد شوقي:
وَإِنَّما الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت



فَإِن تَوَلَّت مَضَوا في إِثرِها قُدُما



ويفهم الأمن من مفهوم الإسلام؛ لأن الإسلام هو الاستسلام لله بالخضوع له وامتثال أوامره واجتناب منهياته، وقد نهى الله عن التعدي على الناس في أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، كما قال النبي ^: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». ومن دخل في الإسلام دخل في نطاق الأمن؛ لقوله ^: «من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم دمه وماله وحسابه على الله»، وقال ^: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».
فإذا تحقق الإسلام والإيمان توفرت أسباب الأمن، لكن قد يكون هناك شذوذ لم يتمكن الإسلام والإيمان من قلوبهم فتحصل منهم نزوات تخل بالأمن، وهنا وضع الله I زواجر وروادع لهؤلاء تكف عدوانهم وتصون الأمن من عبثهم، فشرع سبحانه الحدود الكفيلة لردعهم وتحذير غيرهم من أن يفعلوا مثل فعلهم، فشرع حد المرتد لحفظ الدين، وشرع القصاص لحفظ الدين، وشرع القصاص لحفظ النفوس، وشرع حد الزنا وحد القذف لحفظ العرض والنسب، وشرع حد المسكر لحفظ العقل، وشرع حد السرقة لحفظ الأموال، وشرع حد قطاع الطريق لحفظ السبل وتأمين المواصلات، وشرع قتال البغاة لحفظ السلطة الإسلامية ومنعًا لتفريق الكلمة واختلاف الأئمة.
- فالمرتد يقتل لحفظ الدين والعقيدة من عبث العابثين؛ لأن المرتد ترك الحق بعد معرفته واعتدى على العقيدة التي هي أقوى أسباب الأمن، قال النبي ^: «من بدل دينه فاقتلوه»، وقال الرسول ^: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».. فالمرتد يقتل لتبديله الدين وتركه له ومفارقة جماعة المسلمين حتى لا يكون الدين ألعوبة للملاحدة والزنادقة فيغتر بهم غيرهم من ضعاف الإيمان، ولسد الطريق على العابث الذي يدخل في الدين خداعًا ثم يخرج منه للتنفير منه.
- والقصاص من القاتل فيه حماية للنفوس البريئة وضمان للأمن بين الناس، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]، فإذا عرف من يريد قتل إنسان أنه سيقتل به امتنع عن القتل.. فكان في هذا حفظ لحياته وحياة غيره، وإذا أقدم على القتل فاقتص منه كان في هذا ردع للآخرين فلا يقدمون على مثل جريمته لئلا يكون مصيرهم كمصيره.
- ولشناعة جريمة الزنا وحرمة عرض المسلم، صان الله أعراض الأبرياء أن تدنس بنسبة هذه الجريمة إليها، وكف الألسنة البذيئة أن تتطاول على عرض المسلم فتقذفه بارتكاب فاحشة الزنا زورًا وبهتانًا، فأمر بجلد القاذف الذي لا يستطيع إقامة البينة على ما يقول بأن يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبدا وأنه يعتبر فاسقا ساقط العدالة ما لم يتب من هذه الجريمة. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 4]، ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ [النور: 5]، وبهذا الحد الرادع وسحب الثقة من القاذف تصان الأعراض البريئة، وتسكت الأفواه البذيئة، وتتوارى آثار هذه الجريمة، ويصبح الناس في مأمن منها ومن ذكرها حتى تتوارى من المجتمع نهائيًّا.
- ولما كان المال قوام الحياة والحفاظ عليه من الضروريات كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]، وقد حرَّم الله أخذ أموال الناس بغير حق والاستيلاء عليها بغير مبرر، فالاعتداء على مال الغير كالاعتداء على دمه وعرضه في الحرمة كما تدل عليه الآيات والأحاديث، ومن أشد أنواع الاعتداء على أموال الناس أخذها بالسرقة، وهي أخذ المال خفية من حرز مثله، وجزاء من فعل ذلك قطع يده، هذه اليد الخائنة التي امتدت إلى ما لا يحل لها وعبثت بالأمن وروعت المجتمع جزاؤها البتر، قال الله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38]، والسرقة أشد خطورة من ****** المال مجاهرة؛ لأن المجاهرة تمكن مدافعتها وعمل الاحتياطات المانعة من شرها، أما السرقة فإنها مكر خفي، وغدر سيئ، يؤخذ بها الإنسان من مأمنه وتدل على جرأة المجرم حيث لم تمنع منه الحروز والحصون، فكان جزاؤه بتر يده وتعطيلها عليه ردعًا له وعظة لغيره، وبهذا يتوفر الأمن للمجتمع ويطمئن الناس على أموالهم في بيوتهم ومستودعاتهم، ويقضى على الجريمة.
* * *

الخاتمة
أهم ما يحقق الأمن للمجتمع المسلم
بعد أن تحدثنا عن الأمن ومفهومه الإسلامي الشامل، وعن أحكام الشريعة التي تحقق أمن المجتمع وأفراده، نلخص أهم الأمور التي تضمن تحقيق أمن المجتمع المسلم فردًا أو جماعة:
وهذه الأمور تعتبر بمثابة الأسس التي يقوم عليها الأمن في كل بلد إسلامي، وإذا لم يؤخذ بها اختل الأمن فيه، وشاع المنكر، وتفشى العدوان والإرهاب بين الناس، وأهم الأمور التي يتأسس عليها الأمن في المجتمع الإسلامي، تطبيق الشريعة الإسلامية.. ذلك أن المجتمع المسلم، مكلف بالحفاظ على الدين الذي هو أول الضرورات وأهمها في حياة المسلم.
وتطبيق الشريعة يعني أن ولي الأمر وسلطات الدولة يتبعون المنهج الإلهي، وأن النظام الاجتماعي قائم ومؤسس على هذا المنهج في أصوله ومبادئه الكلية وأحكامه، وهو المنهج الوحيد الذي يؤمن المجتمع المسلم بصلاحيته وأفضليته على أي منهج آخر؛ لأنه يضمن بقاء المجتمع وتماسكه وتقدمه.
إنَّ التشريع الإسلامي، يحقق العدل في علاقات الأفراد فيما بينهم، وفي علاقة الحكام بالمحكومين، واستقرار هذه العلاقات، وقيامها على العدل والمصلحة، يوفر الأمن للفرد وللمجتمع، والمقصود بتطبيق أحكام الشريعة، أن تكون هي المرجع في التصرفات والأحكام والمعاملات، وأن تكون الأنظمة التي تضبط المجتمع المسلم في جميع المجالات، متفقة مع أحكام الشرع ومبادئه وأصوله الكلية.
ومن شأن اختيار المنهج الإلهي نظامًا اجتماعيًّا أنه يجنب المجتمع التفرق والانقسام والتمزق، الذي يحدث عند اختيار منهج آخر من وضع البشر؛ إذ لا بدَّ أن تختلف الآراء في صلاحيته وفي تقويم والحكم عليه، وهو أمر جلب الفوضى والاضطراب إلى مجتمعات إسلامية عديدة، لاسيما في العصر الحديث، حين اختارت هذه المجتمعات مناهج وضعية، وتسرعت في تطبيقها واستبدلتها بأحكام الشريعة، وقد أثر ذلك أشد التأثير على أمن تلك المجتمعات واستقرارها، ودفعها في بعض الأحيان إلى التخبط والتردد بين مختلف الآراء والمذاهب الوضعية.
ولا شك أن أحكام الشريعة الإسلامية، حين تطبق في جميع مجالات الحياة، نظامًا اجتماعيًّا، تضمن للمجتمع أمنه الخارجي والداخلي؛ إذ إن قواعد الشريعة، فيما يتعلق بأمن المجتمع الخارجي، تفرض أن يُعد المجتمع العدة للدفاع عن نفسه، والأمن الداخلي تكفله أحكام الشرع الإسلامي المتعلقة بحرمة الأنفس والأعراض والأموال فيما بين الناس، فكل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله.
ومن ناحية أخرى، فإن أحكام الشريعة، تضمن تحقيق الأمن الاجتماعي بما تفرضه من أحكام الزكاة، أعظم وسيلة للتكافل بين الأغنياء والفقراء، وبما توجبه من ولاية متبادلة بين المؤمنين: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]، وبما تفرضه من أخوة بينهم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10].
وهذه الأحكام التي وردت في القرآن الكريم، وبيَّنتها السُّنة المشرفة قولاً وعملاً، هي من أصول المنهج الإسلامي الاجتماعي، وهي تضمن حين تطبق في المجتمع المسلم، أن يسوده الأمن من جميع جوانبه، ولذلك، فإن أول وأهم ما يحقق الأمن في المجتمع المسلم، تطبيق الشريعة الإسلامية، وبدونه لا يستقر أمر المجتمع على حال، بل يسوده التردد والانتقال بين المذاهب الوضعية، بحسب الظروف والأحوال.
ويأتي بعد تطبيق الشريعة في المجتمع المسلم، أمر آخر مهم من أصول الإسلام ومبادئه؛ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أوجب الله تعالى هذا الأصل بقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].
ومن سُنة الله في الخلق أن تتابع رسله وأنبياؤه وكتبه وشرائعه، لإصلاح الخلق، حتى تمت النعمة في رسالة خاتم النبيين والمرسلين محمد ^، وبعد تمام الرسالات السماوية وختمها برسالة الإسلام، يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة دائمة وباقية لإصلاح المجتمع المسلم، كلما تقدم العهد، أو ظهرت بعض المنكرات، وذلك بالتنبيه عليها ومحاولة إزالتها، بدعوة الناس إلى ترك المنكر وفعل المعروف، وبالتصدي لهذه المنكرات، بالقوة من أولي الأمر إذا لزم الأمر، وبالإعراض عن مرتكبي المنكرات من عامة الناس، حتى يجدوا أنفسهم في عزلة وقطيعة مع أهل المعروف، فيرجعوا عما هم فيه، قال الله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78 - 79]، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له علاقة وثيقة بحفظ الأمن في المجتمع.
ومما يحقق الأمن في المجتمع المسلم أمر تظهر أهميته في العصر الحديث، لاسيما في بعض البلاد الإسلامية، ألا وهو بيان وسطية الإسلام، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومواجهة التطرف والغلو، والإرهاب المتستر بالدين.
ومن الأمور المهمة التي تحافظ أمن المجتمع المسلم في هذا العصر؛ أن يهتم العلماء وأولو الأمر فيه بتوجيه الناس نحو اتباع أحكام الشرع، وعدم الغلو في فهم الأحكام، وعدم الإساءة في تأويلها، واتخاذ ذلك مطية ووسيلة للخروج على جماعة المسلمين وولاة أمرهم، بزعم إصلاح الراعي أو الرعية، فالإسلام، له أحكامه الواضحة والقاطعة في لزوم الأمن، وعدم الاعتداء على الحقوق بين المسلمين، وعدم الخروج على الأئمة، ووجوب السمع والطاعة لهم في المعروف.
أسأل الله I أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
* * *
كتبه: أبو نس محمد علي