مشاهدة النسخة كاملة : حول تأليفِ آياتٍ تُشبِه آياتِ الكتاب


abomokhtar
30-01-2013, 07:29 AM
الحمد لله وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبدُه النبيُّ المصطفى، والرسولُ المرتضى، صلى الله عليه وآلِه وصحبه ومن اقتفى، وبعد؛

إن مما يؤسف له في هذا الزمان انصرافَ المسلمين عن سنة نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم، فبدلَ أن يَنكبُّوا على هدي خير خلق الله عليه الصلاة والسلام قراءةً وحفظاً، وفهماً وعملاً، وتدريساً وتعليماً، انكبُّوا على اللهو واللعب، فأخذت المبارياتُ غالبَ نهارهم، واستغرقَ سماعُ الأغاني والمسلسلات، والأفلام والمسرحيات سائرَ ليلِهم، فلم يهجعوا من الليل إلا يسيرا، والعنكبوت يبثُّ سمومه، وينصبُ شبكته، فيتتبَّعُه الشباب ليلَ نهار، باحثين في مواقعه؛ لالتقاط هذه السموم من شبكته العنكبوتية، لو فتشتَ جيوب شابٍ، أو حقيبة شابَّة، أو طالبٍ أو طالبة، أو دخلت غرفة فتىً أو فتاة؛ فهل ستجدُ مصحفًا على طاولة؟ أو كتابَ فقهٍ أو حديثٍ على مائدة؟ أم ستجدُ في جيوبِ كثيرٍ من الشباب، وحقائبِ كثير من البنات، وفي غرفِ كثير من الفتيان والفتيات، تجدُ صورَ اللاعبين واللاعبات، المغنين والمغنيات، والممثلين والممثلات نحوهم!

إذن؛ فحدِّث ولا حرج إذا فتحت جوَّاله أو جوَّالَها، أو عثرْتَ على كلمةِ السرِّ لبريده أو بريدها، لو فعلت ذلك لوجدت الجواب، ولعرفت المسألة وبدأ العتاب، ولعلمت سببَ الهمومِ التي تعيش فيها أمةٌ ابتعدت في الغالب عن دينها، ونسيت ماضيَها التليد، ومجدَها العريق، جرفَها تيار الشهوات والشبهات إلى هاوية التفكك والصراع؛ الصراعُ الفكريُّ والروحي، والصراعُ المذهبيُّ والديني، والصراعُ الطائفيُّ والعِرقي، وسيطرت فكرةُ الشعوبية، وغابت النخوةُ الإسلامية بظهور النزعة الحزبية، فكلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون، وكلُّ طائفةٍ أهلها بما عندهم يمرحون، بين حقٍّ وباطلٍ لا يفرقون، وبين صوابٍ وخطأٍ يتمازحون، حياتهم في مرح ومزاح، والجَدُّ من حياتهم قد راح، لم يسلمْ منهم كلامُ الله؛ فبِه يستهزئون، ومن أهله يضحكون، إذا حفظوا منه أجزاءً فلدنيا يصيبونها، وإذا تَلَوا منه آياتٍ فللمدح والثناء ينتظرون.

في هذا الزمن جعلوا القرآن في الأغاني، واخترعوا عباراتٍ مسجوعةٍ ليضاهوه في الإلقاء: مرسيل خليفة غنى بسورة يوسف عليه السلام، ورجلٌ أمريكيٌّ ألف ثمانين أضحوكة، قال عنها: (آيات تُشبه آيات القرآن) -زعم- وطَبَعَها مشكولةً، وبحروفٍ منمَّقةٍ، تُشبهُ حروفَ المصحف، ليدجِّل على الجهلاء والمغرضين.

ويخرج علينا كاتبٌ وأديبٌ ومفكِّرٌ وصفاتٌ أخرى وُصِف بها يقول: "لولا مخافةُ الله لألَّفتُ قرآناً"، كذب والله إن كان قالها. إخواني في دين الله! إياكم أن تكونوا من حزب مسيلمةَ الكذاب، وطليحةَ الأسديِّ وسجاحَ وغيرِهم، ممن ادعوا النبوة، وأنه يوحى إليهم قرآن، فصاروا أضحوكةَ الصبيان والنسوان، وحازوا غضبَ الرحيم الرحمن، إلا من تاب وأناب، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: من الآية 23]؛ قَالَ: يَقُولُ: "بِسُورَةٍ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ؛ حَقًّا لَا بَاطِلَ فِيهِ، وَلَا كَذِبَ".

وهذه بعض أخبار من أتوا بسور كاذبة باطلة:

قال عبد المجيد بن عبد العزيز -وهو ابن أبي روَّاد، العالم القدوة، شيخ الحرم، توفي سنة (206هـ)-: "كان عندنا بخراسان رجل كتب مصحفًا في ثلاثة أيام، فلقيَه رجلٌ، فقال: في كم كتب هذا؟ فأومأ بالسبابةِ والوسطى والإبهام، وقال: في ثلاثٍ {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [الشورى: من الآية 18]، فجفَّت أصابعه الثلاث، فلم ينتفع بها فيما بعد. وخَطَرَ لبعض الفُصحاء أنه يقدِر أن يقولَ مثل القرآن! فصعَد إلى غرفة، فانفرد فيها، وقال: أمهلوني ثلاثًا! فصعدوا إليه بعد الثلاث، ويدُه قد يبِسَت على القلم، وهو ميت. ومنهم مسيلمة، ادعى النبوة، وتسمّى رحمان اليمامة؛ لأنه كان يقول: (الذي يأتيني رحمان!) فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعى أنه قد أشرك معه! -أي أشركه معه في النبوة- فالعجب أنه يؤمن برسول، ويقول: إنه كذّاب! ثم جاء بقرآن يُضْحِك الناس، مثل قوله: "يا ضفدعُ بنتُ ضفدعين! نُقِّي ما تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين". و"من العجائب؛ شاة سوداء، تحلب لبنًا أبيض!" فانهتك ستره في هذه الفصاحة، ثم مسح بيده على رأس صبي، فذهب شعره! وبصق في بئر، فيبست" [صيد الخاطر (ص: 314، 315)]. ثمّ جعل يَسْجَع السَّجعات، فيقول لهم فيما يَقُولُ مُضاهاةً للقرآن: "لقد أنعم اللَّه عَلَى الْحُبْلى، أخرج منها نَسَمةً تَسْعَى، من بين صِفاقٍ وحَشى". [تاريخ الإسلام ت تدمري (2/ 683)].

جَاءَ رجلٌ إِلَى ابْن مَسْعُود فَقَالَ: إنّي مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرءون قراءةً ما أنزلها اللَّه: "الطَّاحِنات طَحْنًا، والعاجنات عَجْنًا، والخابزات خَبْزًا، والثَّاردات ثَرْدًا، واللاقمات لَقْمًا". فأرسل إليهم عَبْد اللَّه فأتى بهم، وهم سبعون رجلًا ورَأسُهم عَبْد اللَّه بْن النَّوَّاحَة. قَالَ: فأمَر بِهِ عَبْد اللَّه فقُتل. ثمّ قَالَ: "ما كنّا بمُحْرِزِين الشَّيْطان من هَؤُلَاءِ، ولكنّا نَحْدُرهم إلى الشّأْم لعلّ اللَّه أنَّ يَكْفِيَنَاهُمْ" [تاريخ الإسلام ت تدمري (2/ 685)].

ولمَّا قَدِمَتْ وُفُودُ بَنِي حَنِيفَةَ عَلَى الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه قَالَ لَهُمْ: "أسمعونا من قرآن مسيلمة".

فقالوا: أو تعفينا يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟

فَقَالَ: "لَا بدَّ مِنْ ذَلِكَ".

فَقَالُوا: كَانَ يَقُولُ: "يَا ضِفْدَعُ بنت الضِّفدعين نقِّي لكم تنقِّين، لَا الْمَاءَ تكدِّرين، وَلَا الشَّارب تَمْنَعِينْ، رَأْسُكِ فِي الْمَاءِ، وَذَنَبُكِ فِي الطِّين"، وَكَانَ يَقُولُ: "والمبذِّرات زَرْعًا، وَالْحَاصِدَاتِ حَصْدًا، والذَّاريات قَمْحًا، والطَّاحنات طِحْنًا، وَالْخَابِزَاتِ خَبْزًا، والثَّاردات ثَرْدًا، وَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا، إِهَالَةً وَسَمْنًا، لَقَدْ فضِّلتم عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ، وَمَا سَبَقَكُمْ أَهْلُ الْمَدَرِ، رَفِيقَكُمْ فَامْنَعُوهُ، وَالْمُعْتَرَّ فآووه، والنَّاعي فواسوه".

وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ مِنْ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي يَأْنَفُ مِنْ قَوْلِهَا الصِّبيان وَهُمْ يَلْعَبُونَ، فَيُقَالُ: إنَّ الصِّديق قَالَ لَهُمْ: "وَيَحَكُمُ! أَيْنَ كَانَ يُذْهَبُ بقولكم؟ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍ"، -أَيْ مِنْ رُبُوبيَّة- (النهاية في غريب الحديث). وَكَانَ يَقُولُ: "وَالْفِيلْ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْفِيلْ، لَهُ زلُّوم طَوِيلْ"، وَكَانَ يَقُولُ: "واللَّيلِ الدَّامس، والذِّئبِ الْهَامِسْ، مَا قَطَعَتْ أَسَدٌ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ"، وتقدَّم قَوْلُهُ: "لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْحُبْلَى، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ بين صفاق وحشى"، وَأَشْيَاءُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ السَّخيف الرَّكيك الْبَارِدِ السَّميج.

وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ (إِعْجَازِ الْقُرْآنِ) أَشْيَاءَ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ المتنبِّئين؛ كَمُسَيْلِمَةَ وَطُلَيْحَةَ، وَالْأَسْوَدِ وَسَجَاح وَغَيْرِهِمْ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَعُقُولِ مَنِ اتَّبعهم عَلَى ضَلَالِهِمْ ومحالِّهم.

وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أيَّام جَاهِلِيَّتِهِ، فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى صَاحِبِكُمْ فِي هَذَا الْحِينِ؟

فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ سُورَةٌ وَجِيزَةٌ بَلِيغَةٌ.

فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟

قَالَ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَالْعَصْرِ . إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحات وَتَوَاصَوْا بالحقِّ وتواصوا بالصَّبر}.

قَالَ: ففكَّر مُسَيْلِمَةُ سَاعَةً، ثمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "وَلَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ مِثْلُهَا.

فَقَالَ لَهُ عمرو: وما هي؟

فَقَالَ مُسَيْلِمَةُ: يَا وَبَرُ يَا وَبَرُ، إنَّما أنت إيرادٌ وصدر، وسائرك حفر نَقْرٌ.

ثمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى يَا عَمْرُو؟

فَقَالَ لَهُ عَمْرُو: وَاللَّهِ إنَّك لَتَعْلَمُ أنِّي أعلم أنَّك تكذب.

وَذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ؛ أَنَّهُ كَانَ يتشبَّه بالنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم، بَلَغَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَقَ فِي بئر فغزر ماؤه، فبصق -مسيلمة- في بئر فغاض ماؤه بالكلِّية، وفي أخرى فصار ماؤه أُجَاجًا. وَتَوَضَّأَ وَسَقَى بِوَضُوئِهِ نَخْلًا فَيَبِسَتْ وَهَلَكَتْ، وأتى بوِلْدَانٍ يبرِّك عليهم، فجعل يمسح رؤوسهم فَمِنْهُمْ مَنْ قُرِعَ رَأْسُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لُثِغَ لِسَانُهُ، وَيُقَالُ: إنَّه دَعَا لِرَجُلٍ أَصَابَهُ وَجَعٌ في عينيه فمسحهما فعمي.

عَنْ عُمَيْرِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْيَمَامَةِ فَقَالَ: أَيْنَ مُسَيْلِمَةُ؟

فقال: مَهْ رَسُولُ اللَّهِ!

فَقَالَ: لَا! حَتَّى أَرَاهُ.

فلما جاء قَالَ: أَنْتَ مُسَيْلِمَةُ؟

فَقَالَ: نَعَمْ!

قَالَ: مَنْ يأتيك؟

قال: رجس.

قَالَ: أفِي نُورٍ أَمْ فِي ظُلْمَةٍ؟

فَقَالَ: فِي ظُلْمَةٍ.

فَقَالَ: أَشْهَدُ أنَّك كذَّابٌ وإنَّ محمَّداً صَادِقٌ، وَلَكِنْ كذَّاب رَبِيعَةَ أحبُّ إِلَيْنَا مِنْ صَادَقِ مُضَرَ! واتَّبعه هَذَا الْأَعْرَابِيُّ الْجِلْفُ لعنه الله، حتى *** معه يوم عقربا، لا رحمه الله" [البداية والنهاية ط إحياء التراث (6/ 359، 360)].

ومنهم طليحة بن خويلدٍ، خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة، وتبعه عوامّ، ونزل سميراء، فتسمى بذي النون، يقول: إن الذي يأتيه، يقال له: (ذو النون)، وكان من كلامه: "إن الله لا يصنَع بتعفيرِ وجوهكم، ولا قبحِ أدباركم شيئًا، فاذكروا الله أعفَّة قيامًا!" ومن قرآنه: "والحمامُ واليمام، والصرد الصوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام". وتبعة عيينة بن حصن، فقاتله خالد بن الوليد، فجاء عيينه إلى طليحة، فقال: ويحك! أجاءك المَلَك؟

قال: لا!. فارجع فقاتل، فقاتل، ثم عاد.

فقال: أجاءك؟

فقال: لا!.

فعاد فقاتل، ثم عاد، فقال: أجاءك؟

فقال: لا!

فعاد فقاتل، ثم عاد، فقال: أجاءك؟

قال: نعم!

قال: ما قال لك؟

قال: إن لك رحى كرحاه وحديثًا لا تنساه.

فصاح عيينة: الرجل والله كذاب. فانصرف الناس منهزمين، وهرب طليحة إلى الشام، ثم أسلم، وصحَّ إسلامُه، وقُتل بنهاوند.

ومنهم هذيلُ بن يعفور، من بني سعد بن زهير، حكى عنه الأصمعي أنه عارض سورة الإخلاص، فقال: "قل هو الله أحد، إلهٌ كالأسد، جالس على الرصد، لا يفوته أحد".

ومنهم هذيل بن واسع، كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني، عارض سورة الكوثر، فقال له رجل: "ما قلت؟" فقال: "إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، فما يؤذيك إلا كل فاجر"؛ فظهر عليه القسريُّ ف***ه، وصلبَه على العمود، فعبَرَ عليه الرجل، فقال: "إنا أعطيناك العمود، فصل لربك من قعود، بلا ركوع ولا سجود، فما أراك تعود" [صيد الخاطر (ص: 417- 419)].

أما ما ادعته سجاح فقالت: "عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة" [تاريخ الطبري (3/ 271)].

وجاء في الدر المصون: "يُحْكَى أنه قيل للكندي: "أيها الحكيم! اعمل لنا مثل هذا القرآن" فقال: "نعم! أعملُ لكم مثلَ بعضِه"، فاحتجب أياماً كثيرة، ثم خَرَجَ فقال: "واللهِ لا يَقْدِرُ أحد على ذلك، إنني فتحت المصحفَ فخرجت سورةُ المائدة؛ فإذا هو قد نَطَقَ بالوفاء، ونهى عن النكث، وحَلَّل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أَخْبَرَ عن قُدْرَتِه وحكمته في سطرين". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] [الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (4/ 184، 185)].

فمن ادعى أنه أتى أو يأتي بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور مثله، أو بسورةٍ مثله؛ فقد كفر، ومن لم ينوِ مضاهاة القرآن، فبسمل -أي قال بسم الله الرحمن الرحيم- ثم أتى بعبارات مسجوعة، وجُمَلٍ منمَّقة، وكلماتٍ مثيرة، قد يظنُّها الجاهل من القرآن؛ فهذا قد أتى بابا من أبواب الكبائر.

أما من خطب وتكلم بكلام مسجوع، وجملٍ منمَّقة، وعباراتٍ مثيرة، وليس هناك أيُّ شبهةٍ أو ظنٍّ أنها قرآن؛ فلا شيء عليه، ولا مانعَ منه، وإن كان السجعُ من كلامِ الكهان فخلافه أولى.

قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 88]، ثُمَّ تَقَاصَرَ مَعَهُمْ إِلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ فَقَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هُودٍ: 13]. ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا، فَقَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يُونُسَ: 38]، وَقَصَرَ التَّحَدِّيَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي الْمَدَنِيَّةِ أَيْضًا كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 23-24].

فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا، وَهَذَا وَهُمْ أَفْصَحُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْبَلَاغَةِ وَالشِّعْرِ وَقَرِيضِ الْكَلَامِ وَضُرُوبِهِ، لَكِنْ جَاءَهُمْ من الله مالا قِبَلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ الْبَلِيغِ، الْوَجِيزِ، الْمُحْتَوِي عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ النَّافِعَةِ، وَالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعَادِلَةِ وَالْمُحْكَمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الْأَنْعَامُ: 115].

إنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ مُعَارَضَتَهَا طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سُورَةُ الْعَصْرِ]" [تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 20)].

الخطبة الآخرة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين وبعد؛

لقد نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى شَرَفِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ كُلُّهُمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، لَمَا أَطَاقُوا ذَلِكَ وَلَمَا اسْتَطَاعُوهُ، وَلَوْ تَعَاوَنُوا وَتَسَاعَدُوا وَتَظَافَرُوا، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُسْتَطَاعُ، وَكَيْفَ يُشْبِهُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامَ الْخَالِقِ، الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا مِثَالَ لَهُ، وَلَا عَدِيلَ لَهُ؟!

حتى الكفار شهدوا لهذا القرآن بأنه ليس من كلام البشر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَذَكَرَ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ قَالَ الْوَلِيدُ: وَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ: "حَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يَعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ" [شعب الإيمان (1/ 287)].

إنه القرآن الكريم، كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وهو صفة من صفاته سبحانه، قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

إنه كلام الله عز وجل، يجب الاستماع إليه عند قراءته، والإنصات عند تلاوته، قال سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].

فلا نكنْ من المزَّاحين واللاهين عند تلاوته، ولا من الذين قال فيهم ربهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].

عباد الله! {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]، فليقولوا في القرآن ما شاؤوا، قال سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].

وأما الآن؛ فقد مضي أربعةَ عشرَ قرناً، ولم يأتِ له فيها معارض على أن هذه المدَّةَ الطويلةَ، منذ هاجر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وصحبه وَسَلَّمَ مرَّت على سَحَرَة الكتابةِ والخطباء، ونقضت عن مَهَرَةِ البَرَعَةِ أُساةِ أساليبِ الكلام إذا اعْتِلَّ، وبناةِ أساساتِ البيانِ إذا اخْتَلَّ:


يَرْمُونَ بِالْخَطْبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً *** وَحْيَ الْمَلاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ

فانظر كيف تقضت السنينُ والأعوام، وتصرَّمت الليالي والأيام، ولم يأت أحدٌ من هؤلاء البلغاء بمثل هذا القرآن، ولا بسورة من مثله، تصديقاً لما جاء به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من قوله عزَّ سلطانه، {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] أ.هـ.

اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل النجاة، وبلغ كلامنا ما أمَّله ورجاه، واجعل لنا عندك أعظم قدر وجاه، ولا تحرمنا من فضلك العظيم يا أكرم الأكرمين [موارد الظمآن لدروس الزمان (6/ 602)].

وصلِّ الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

عبدَ الله! {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].


جمع المادة من مظانها: أبو المنذر فؤاد

mfa1
30-01-2013, 10:32 AM
{ إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ ) وهو القرآن( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال: وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل مَّا ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه ، والهاء في قوله لَهُ) من ذكر الذكر.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ، قال في آية أخرى( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ ) والباطل: إبليس( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينتقص منه حقا، حفظه الله من ذلك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال: حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلا أو ينقص منه حقا ، وقيل: الهاء في قوله( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى: وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه.
التفسير الطبري ص 262
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لادعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنو الفعل للمفعول إيماءً إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } أي من أكل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان : الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولاً أولياً ، ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه ، وقال الحسن : حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة ، وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الإسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل ، ولم يحفظ سبحانه كتاباً من الكتب كذلك بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظاً أولاً وآخراً ، وإلى هذا أشار في «الكشاف» ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقاً لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني؟ وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقاً لإثبات محفوظية الذكر أولاً وآخراً ، وأجاب بأنه جيءَ به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور أما ما هو أن يكون دليلاً على أنه منزل من عند الله تعالى آية ، فالأول وإن كان رداً كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن الذكر من عندنا لما بقي محفوظاً عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام ، وذلك لأنه نظمه لما كان معجزاً لم يمكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالإعجاز كذا في «الكشف» : ، وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر .
وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سبباً لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى ، فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عز وجل ، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكتاب . واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان ، وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا : إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لا بد لها من دليل . واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجيب ما نقله عن أصحابه حيث قال : قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة اه ، ولعمري أن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال ، ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل ، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد { وَنَحْنُ } ليس فصلاً لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن ، ويعلم مما قررنا أن ضمير { لَهُ } للذكر وإليه ذهب مجاهد .وقتادة . والأكثرون وهو الظاهر ، وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي وأنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] والمعول عليه الأول ، وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى : الوسي
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } وفيه مسائل :
لمسألة الأولى : أن القوم إنما قالوا : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] لأجل أنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :« إن الله تعالى نزل الذكر علي » ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } .
فأما قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم فإن الواحد منهم إذا فعل فعلاً أو قال قولاً قال : إنا فعلنا كذا وقلنا كذا فكذا ههنا .
المسألة الثانية : الضمير في قوله : { لَهُ لحافظون } إلى ماذا يعود؟ فيه قولان :
القول الأول : أنه عائد إلى الذكر يعني : وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان ، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] وقال : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
فإن قيل : فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله فلا خوف عليه .
والجواب : أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك قال أصحابنا : وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن ، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان ، فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصوناً عن التغيير ، ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضاً أن يظن بهم النقصان ، وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة . والقول الثاني : أن الكناية في قوله : { لَهُ } راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء ، وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال : لما ذكر الله الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه ، لكونه أمراً معلوماً كما في قوله تعالى : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا ، إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل ، والله أعلم .

youssef darwish
06-02-2013, 11:38 PM
جزاكم الله خيراً

أحـمد قرنى
05-09-2013, 01:27 AM
جزاكم الله خيراً
وجعله الله فى ميزان حسناتكم

على العربى
02-09-2016, 06:00 PM
جزاك الله خيراً وبارك فيك

رنيم فواز
03-09-2016, 06:24 AM
شكرا لك اخي الكريم