مسلمة22
31-01-2013, 02:37 PM
هل تموت المدرسة ؟
في الوقت الذي يودّع فيه القرن العشرون الميلادي دنيا الوجود، يعكف كل أهل تخصص وفن على مراجعة إنجازاتهم، وأغرب ما مرّ بهم خلال هذا القرن غير العادي، ومن ضمن العاكفين على المراجعة أهل التربية والتعليم.وبالتأكيد فإن معشر التربويين يجمعون على أن من أغرب ما واجهوه خلال القرن العشرين، هو ظهور نفر من المفكرين، ادعوا على قلب الجسد التربوي.. المدرسة!
والأغرب أن المدّعين لم يطالبوا باستصلاح هذا المتهم ـ المدرسة ـ أو تعديل سلوكه، أو الحد من سيئاته، بل كان الحكم الذي طالبوا به هو.. الإعدام!ولنا أن نتصور عالماً ودنيا بلا مدارس!النقمة على المؤسسات:رغم أن هناك إرهاصات للاتجاه اللامدرسي في كتابات المفكر الشهير جان جاك روسو (1712 ـ 1778م)، الذي رأى أن المدرسة والتعليم النظامي يفسدان الطبيعة الخيرة للطفل، وما تلا هذه الفكرة من أفكار فروبل وبستالوتزي وديوي الذين أكدوا على مبدأ تعليم الأطفال ما يرغبون فيه دون تقييد، إلا أن الهجوم العنيف على المدرسة في صورته المتطرّفة المطالبة بالإلغاء والإعدام تماماً قد كان في النصف الثاني من القرن العشرين على يد «إيفان إيلتش» ورفاقه.وكان نقد إيلتش للمدرسة ينطلق من إطار عام للنقد موجه أصلاً نحو الاتجاه المؤسسي في المجتمع الغربي،
فإيلتش يؤكد أن المناخ المؤسسي يسحق الحرية الفردية ويبتلع شخصية المواطن لأسباب، من أهمها أن هذه المؤسسات قيدت حركة الناس بالبيروقراطية والمركزية والهرمية، ومن ثم فقد تحكمت في حياة الناس، والأدهى أن هذه المؤسسات التي أنشأها الناس لخدمتهم أصبحت في يد قلّة منهم، وعليه فلم تعد هذه المؤسسات خدميّة للجميع بل اقتصرت منفعتها على هذه القلّة.وفي حين أصبح هذا هو حال المؤسسات، فقد تزايد اعتماد الناس عليها بتزايد استهلاك الناس لما تنتجه، وبالتالي تحديد الفقر بأنه قلة استهلاك ما تنتجه هذه المؤسسات أو ما يوفره المجتمع من خدمات.واستمر نقد إيلتش ومن سار في دربه للمؤسسات حتى تولدت لديهم فكرة مفادها:
«أن أفضل طريقة لإعادة بناء الحياة هي تقويض كل المؤسسات وجعل حياة الناس حرة!».كل هذا وكأن الأمور لا تعني شيئاً بالنسبة للتربويين، إلا أن القذيفة الأولى التي وجهها أصحاب هذا الاتجاه النقدي إلى ساحة التربية والتعليم تمثلت في فكرة أخرى تولدت عن الفكرة السابقة ومفادها: «أن المدرسة أخطر مؤسسة في المجتمع!!».قذائف في ساحة المدرسة:أطلق إيلتش ورفاقه سيلاً من الانتقادات الموجهة نحو المدرسة كمؤسسة تعليمية وتربوية، وكان من أهم ملامح هذا النقد، أن المدرسة عندما تحدد سناً أدنى لدخولها إنما تمارس نوعاً من التفرقة لصالح الأطفال ضد الراشدين،
وتتيح فقط لهؤلاء الصغار الاستفادة من الإنفاق الضخم المخصص للتعليم، كما أن الناس تتعلم خارج المدرسة أكثر مما تتعلمه داخلها، أي أن التعليم ليس نتيجة التدريس، بل إن المدرسين هم الذين يعطلون التعلم الطبيعي لدى التلاميذ نتيجة لعملهم الروتيني النمطي، والمدرسة بهذه الصفة تحكمت في عملية التنشئة الاجتماعية، وعملت على تنميط السلوك وتوحيد الاستجابات في تجاهل فاضح للفروق الفردية الطبيعية بين بني البشر، أما المعرفة في هذه المدارس فقد تحولت إلى سلعة معلبة معدة للاستهلاك، مما يجعل المدرسة غير قادرة على تخريج مفكر مبدع مبتكر، لأن المدرسة وهذه حالها أشبه ما تكون بمعقل لتدريب الطلاب على الانضباط والانقياد والتراتب الاجتماعي،
أما المدرس في المدرسة فليس سوى سجّان وواعظ ومعالج يهيمن ويسيطر على تكوين شخصية التلميذ. ولم ينس إيلتش أن يذكّر بما تذخر به المدرسة من مواعيد وأنظمة وقوانين ولوائح.. من أمور رأى أنها تمارس فيها سلطة على التلميذ وتعيق حريته إن لم تئدها.وهاجم إيلتش بشدة المنهج المقرر في المدرسة، فهو في رأيه ليس كل ما ينبغي أن يتعلمه الطالب، بل إن هذا المنهج المقرر لا يعدو كونه مجموعة رزم من المعارف الجامدة، ولكي يتدرج الطالب في السلم التعليمي لابد له أن يثبت عن طريق الامتحان أنه قد التهم هذه الرزم بنفس الترتيب الذي وضعت به.وإلى جانب هذا المنهج المقرر يسلط إيلتش الضوء على منهج آخر يعمل خفياً في الظلام يساند المنهج المقرر، وهو ما يسمى أحياناً بالمنهج الخفي، يضم كماً كبيراً من القيم والمفاهيم والمعارف والاتجاهات التي تبث في الطلاب بطريقة غير مباشرة، وأخطر ما يبثه هذا المنهج، حسب رأي إيلتش، رسائل خفية تربط قيمة الإنسان بالتمدرس،
بمعنى أنه من خلال المدرسة يصبح الإنسان ذا قيمة، وتتعاظم قيمة الإنسان بفترة بقائه في المدرسة والشهادات المدرسية التي ينالها وهكذا.. وينبه إيلتش إلى أنه مع تزايد الاهتمام بالشهادات المدرسية، ضاع كثير من العلوم والمهارات والأفكار وفرص الابتكار والإبداع، ووصل الإنسان إلى حالة شنيعة من الاغتراب المعرفي..وبالتقاء سيل انتقادات إيلتش وأصحاب هذا الاتجاه اللامدرسي بسيل النقاد السابقين للنظام التعليمي القائم في الغرب آنذاك ممن عرفوا بالماركسيين الجدد أو الفيبريين الجدد أمثال (بيير بورديو) و (باسرون) و (بولز) و (جينتس) و (كارنوي) و (باولو فليريري)، بالتقاء هذين السيلين تكون سيل جارف يتمثل في فكرة واحدة شديدة التطرف تؤكد على أنه
«بالتخلص من المدرسة نتخلص من كل قيودها على العملية التعليمية!».إيفان إيلتش يتبنى اللامدرسية:ونحن نوغل في فلسفة هذا الاتجاه اللامدرسي، لنتمهل قليلاً ونتعرف على رائد هذا الاتجاه المتطرف الغريب، قبل أن نتعرف على البديل الذي قدمه عوضاً عن المدرسة.فإيفان إيلتش Ivan Illich يعتبر بحق أشهر رواد الاتجاه اللامدرسي في صورته المتطرفة التي تنادي بنفي المدرسة من الوجود، ليكون المجتمع كله هو المدرسة الكبرى للجميع، إلا أن هناك عدداً آخر من السائرين في نفس الاتجاه مهدوا له وساندوه، ومنهم «نيل» و «ب. جودمان» و «أ. ريمر» و «ج.دينسون» و «ج.هولت» و «و.جلسر».وقد ولد إيفان إيلتش عام 1926م في روما، ودرس فيها الفلسفة واللاهوت في الجامعة الجريجورية، ثم توجه إلى سالزبورج وحصل فيها على الدكتوراه في التاريخ،
وفي عام 1951م توجه إلى أمريكا وعمل قساً في نيويورك في منطقة تعج بمواطنين ايرلنديين وبورتريكيين فقراء، وقد كانت هذه الفترة أكثر المراحل تأثيراً في فكره، ثم توجه إلى بورتريكو وعمل مساعداً للجامعة الكاثوليكية ما بين 1956ـ1960م، وكان نشطاً للغاية فأنشأ مركزاً كبيراً لتدريب القساوسة الأمريكيين.وساهم إيلتش بعد ذلك في تأسيس «مركز توثيق العلاقات المتداخلة» في كيرناكافا بالمكسيك، ورغم دراسته المتعمقة للاهوت و اشتغاله بالعمل الكنسي إلا أنه أصاب الكنيسة الكاثوليكية بالكثير من سهام نقده، منتمياً لما عرف باليسار الديني أو لاهوت التحرير.وبداية نقده للمدارس كانت في مهاجمته لفكرة التعليم الإلزامي، وشاركه في دعوته الجديدة ايفرت ريمر، لكن هذا الأخير يهاجم المدرسة ككل وليس فكرة الإلزام في التعليم فقط.وقد بدأ تأثير ريمر منذ عام 1958م، حيث أصدر ريمر كتابه «موت المدرسة» ، الذي جعل إيلتش يراجع أفكاره التي كانت لا تشكك في جدوى فكرة التعليم الإلزامي، ثم يتحول إلى النقيض تماماً!وكان إيلتش منذ عام 1967م يلتقي مع ريمر في مركز توثيق الثقافات المتداخلة، وكانت تشترك في الحوار مع كليهما فالنتين بوريمان مديرة المركز التي ظلت تحث إيلتش على اختبار أفكاره في ضوء ظروف أمريكا اللاتينية وأفريقيا.بعد ذلك بلور إيلتش أفكاره في كتابه الذي أسماه «مجتمع بلا مدارس»
وهذا الكتاب يشمل الدراسات التي ناقشها مع ريمر في مركز كيرناكافا عام 1970م، وفي فصله الأخير عرض تأملاته الخاصة بعد مناقشاته مع ايريك فروم.البديل عن المدرسة:إذا كان حريّاً بصاحب أي اتجاه نقدي أن يقدّم صورة بديلة للحال موضع النقد، فإن إيفان إيلتش لم يغفل عن هذا الأمر، فقدم صورة بديلة للمدرسة، قد تجد من ينظر إليها خصوصاً في عصرنا اليوم عصر ثورة المعلومات وثورة الاتصالات متمثلاً في أبرز مظهر لهاتين الثورتين وهو شبكة المعلومات العالمية أو ما عرف بالإنترنت.وقد سمى إيلتش مشروعه البديل بـ «شبكات التعليم»،
وهي شبكات تدخل التقنية في تكوينها، تمثل وسائط يتعلم الناس من خلالها، وهذه الشبكات لا تحدد عمراً أدنى لمن يريد دخولها، وتتيح للمتعلم أن يختار نوع التعليم الذي يرغبه، وبالتالي سيحصل على أقران يلائمونه من حيث الميول والاتجاهات والرغبات، كما أن هذه الشبكات تتيح في نفس الوقت لمن يملك معرفة أو مهارة، أن يوصلها ويعلمها لمن يرغب فيها، كل هذا ولا أحد يفرض على المعلم ولا على المتعلم منهجاً بعينه أو وقتاً معيناً أو عمراً محدداً.. وبذلك يصبح التعليم خدمة متاحة للجميع في أي وقت كالهاتف أو التلفزيون على سبيل المثال.ولتوضيح الصورة أكثر يحدد إيلتش أربعة اتجاهات تصف معالم شبكات التعليم هي:1- عالم الأشياء كمصدر للمعلومات:
فالأشياء من حول الإنسان هي المصادر الأساسية للتعلم، فلا ينبغي أن تحول مؤسسة كالمدرسة بين الإنسان وبين الأشياء من حوله، وتحدد مقدار وطريقة تعلمه عن طريق الحواجز التي تقيمها، وعلى هذا فنوعية البيئة وعلاقة الإنسان بها هما اللذان يحددان القدر الذي يتعلمه الإنسان منها، وهذا يتم بشرطين، أولهما: أن تكون البيئة الطبيعية في متناول الجميع وثانيهما: أن تكون هذه البيئة (الأشياء) غير مربوطة بمنهج دراسي معين بمعنى أن تكون في خدمة التعليم الذاتي.2 - تبادل الخبرات: فلا تقتصر مهمة التعليم على أولئك الذين يحملون مؤهلاً في التعليم ويسمون مدرسين أو معلمين، بل إن الاستفادة من هذه الشبكات ستكون مباشرة من أصحاب الخبرات ممن لا يعملون في مجال التدريس، وهذا يتأتى من خلال إنشاء بنك لتبادل الخبرات يتمثل في مراكز حرة لتبادل هذه الخبرات تعطي الفرصة فيها لذوي الخبرات والمهارات الجيدة لتعليم غيرهم داخل هذه المراكز نظير أجر،
مع ضمانات قانونية تسمح بالتمييز على أساس المهارات المختبرة، وتراقب سوء استغلال الاختبارات لتأهيل من لا يصلح.3- تلاؤم الأقران: فإذا كانت المدارس تجمع عدداً من التلاميذ ذوي ميول واتجاهات ورغبات مختلفة في فصل واحد، وتفرض عليهم منهجاً واحداً، فإن التعليم اللامدرسي يسمح لكل فرد أن يحدد النشاط الذي يبحث فيه عن قرين يلائمه، ويتم تلاؤم الأقران من خلال شبكة للاتصالات سماها إيلتش «شبكة تلاؤم الأقران»، ومن خلالها يقوم المتعلم بتعريف نفسه عن طريق ذكر اسمه وعنوانه ووصف النشاط الذي يحتاج فيه إلى أقران، وسيرسل له الكمبيوتر أسماء وعناوين جميع أولئك الذين يشاركونه الاهتمام نفسه.4- المعلمون المحترفون: وهم معلمون غير أولئك المدرسين المألوفين في المدارس والذين يتخذون التدريس مهنة في حد ذاتها، بل هم معلمون من طراز خاص لديهم استعداد لإفادة الآخرين مباشرة، بما يملكون من نماذج الخبرة التي يمتلكونها في مجالهم، وهكذا مع اختفاء مدرسي المدارس العادية، تنشأ ظروف تحتم ظهور هؤلاء المعلمين ذوي النوعية الخاصة. وسيحتاج إنشاء شبكات التعليم بعض المصممين الإداريين، لكنهم أيضاً ليسوا من نوعية أولئك الذين يعملون في إدارة المدارس،
والذين جل همهم انضابط الطلبة والعلاقات العامة، وتعيين المدرسين ومراقبتهم، كذلك لن يكون هنالك إعداد منهج أو طباعة وتوزيع كتب مدرسية وصيانة مرافق ومنافسات رياضية وتحضير دروس وضغط سجلات...إلخ.مهلاً إيلتشلم يكن إيفان إيلتش ليطرح أفكاره اللامدرسية في فراغ أو على آذان فيها وقر، بل وجد من يسمعه ما بين مؤيدين وهم القلة، وساخرين وهم الكثرة، ونقاد وهم الذين واجهوا نقده للمدارس وللمؤسسات عموماً، بنقد أكثر موضوعية وتعقلاً، وكان الخطاب النقدي الموجه إلى إيلتش واتجاهه اللامدرسي يخاطبه بمنطق العقل إذ جاء يقول:مهلاً إيلتش! فأنت تجرنا بدعوى إلغاء المؤسسات إلى فوضى عارمة لم يشهدها البشر منذ فجر التاريخ، وتذكرنا بأفكار كربوتكين التي تنادي بمجتمع بلا حكومة ونشاط إنساني بلا مؤسسات، إنك ـ يا إيلتش ـ بهذا تتجاهل عملية التنظيم التي لا يقدر عليها بحال من الأحوال الأفراد لوحدهم، وإذا كنت ولابد ناقماً فلا تكن نقمتك على المؤسسات في ذاتها، ولكن انقم على الأسلوب والطريقة التي تدار وتستغل بها سائر المؤسسات في المجتمع، والمدرسة ـ يا إيلتش ـ ليست أخطر مؤسسة في المجتمع، فهناك مؤسسات أخرى هي المسؤولة عن التأثير المباشر في حياة الناس، وأهمها المؤسسات الاقتصادية فكان الأجدى أن تبدأ بها، والمدرسة ـ يا إيلتش ـ أمثل مكان لتعلم المهارات الأساسية اللازمة للناشئين جميعهم، مهما كانت ميولهم كالقراءة والكتابة والحساب، وهي المكان الوحيد الذي يمكن أن يحقق ديمقراطية في تعلم هذه المهارات، وأنت ـ ياإيلتش ـ عندما تقول إن المدرسة تمارس تعصباً لصالح الأطفال، تتجاهل أن الطفولة أهم مرحلة في العمر، وتتناسى ما تثبته البحوث العلمية من أن ما يتعلمه الإنسان خلال هذه المرحلة هو أكثر ما يؤثر فيه طوال حياته، وفي أفكارك ـ يا إيلتش ـ تجاهل واضح لدور التنظيم في العملية التعليمية، فمن المستحيل الاستغناء عن التدريب المنهجي المنظم في عملية التعليم، فتعلم الحاسوب مثلاً في دورة منظمة أفضل وأسرع وأسهل من تعلمه عن طريق المحاولة والخطأ، ثم إنك ـ يا إيلتش ـ تغالي كثيراً وتبالغ في قضية الحرية الفردية، فمن أين للصغير ـ إذا تركنا له مطلق الحرية ـ أن يصل إلى الاختيارات السليمة؟ ومن أين له أن يعرف أسفل سلم المعرفة من أعلاه؟ من أين للصغير أن يعرف أن عليه أن يجيد عملية الضرب حتى يقوم بعملية القسمة. إن التدخل في التربية ذا أثر محمود وليس قمعياً أو تسلطياً دائماً، صحيح أنه ينبغي مراعاة جانب الحرية في التعليم، ولكن لتكن حرية الاختيار بين مجالات التعليم التي يهوى التلميذ أحدها، ويميل إليه، ثم ليأتي دور التنظيم ليهدي هذا التلميذ إلى طريق المعرفة ضمن المجال الذي اختاره بحرية، إنك ـ يا إيلتش ـ عندما تقدر الحرية تهمل النظام بالكلية، وتهب الطائر جناحاً واحداً وتحرمه الجناح الآخر، فالنظام والحرية جناحا طائر لا يعلو إلا بهما، وعليك أن تتذكر ـ يا إيلتش ـ والكلام عن الحرية، أن هناك طبقات فقيرة وطبقات كسولة تميل إلى حياة الخمول والدعة ذات رغبة خاصة في عدم التعلم إن ترك لها مطلق الحرية.وفيما يخص البدائل التي قدمتها عوضاً عن المدارس، ألا ترى ـ يا إيلتش ـ أن هذه البدائل صعبة التحقق خصوصاً في بلدان العالم النامي والمتخلف؟ أليست بدائلك هذه عرضة ووسيلة للهيمنة والسيطرة من قبل الدول القوية مادياً وعسكرياً على حساب المجتمعات والدول الفقيرة والنامية؟ أليست بدائلك هذه ـ وانتبه جيداً يا إيلتش ـ هي نوع من المؤسسات التي سعيت في البداية للقضاء عليها؟!!إن أفكارك ـ يا إيلتش ـ تشجع وبقوة على قيام النزعات التجهيلية، أضف إلى أن أمانيك بمجتمع لا مدرسي يلفها ويكتنفها الغموض من جميع نواحيها. ويتواصل النقد الموجه إلى الاتجاه اللامدرسي المتطرف الذي نادى به إيلتش ورايمر وسواهما، وبطبيعة الحال فإن مصدر هذا النقد ـ أو جله ـ كان من قبل المدرسين وسائر التربويين... ولا تعليق لي حول الأسباب!!ومهلاً معشر التربويينسأضع بين أيديكم ـ يامعشر التربويين ـ في البداية تساؤلات ذات علاقة بدعوى إيلتش، قلّبوها جيداً في أدمغتكم، وإذا كان ردكم عليها جميعاً بالإيجاب فواصلوا القراءة، وهذه التساؤلات من قبيل:- ألم يلق إيلتش حجراً في مستنقع الفكر الراكد حول المدرسة وجدوى العمل الذي تقوم به الآن؟- ألم يدع إيلتش ـ وقد يجد من يؤيده ـ إلى معاودة التفكير في دور المدرسة، كونها تنمط السلوك وتوحد الاستجابات مع اليقين بحقيقة وجود الفروق الفردية، كما أن المدرسة بهذا ت*** ملكة الإبداع والابتكار في أغلب الأوضاع؟- ألم تدعم ثورة المعلومات والاتصالات ـ خصوصاً الإنترنت ـ احتمال بروز شبكات التعليم التي حلم ونادى بها إيلتش.-ألم يسخر كثير من الناس يوماً من كتّاب أدب الخيال العلمي أمثال جول فيرن وهربرت ويلز وسواهما في نهاية القرن التاسع عشر عندما كتبوا عن الغواصات والطائرات والصواريخ والوصول إلى سطح القمر؟ ألم يصف الكثير من الناس هذه القصص بأنها نوع من التخريف؟!إن أجبتم ـ معشر التربويين ـ بنعم على التساؤلات السابقة، فليس أمامكم سوى خيارين:إما أن تؤكدوا بالفعل ـ لا بالقول ـ بطلان هذه الاتهامات لدوركم ودور المدرسة، بوضع أيدي الناس على نتاج هذه المؤسسة من مخرجات تتمثل في أفراد صالحين عاملين منتجين مفكرين مبدعين يحملون كل ما يحلم به المجتمع الإنساني من عادات واتجاهات وسلوكيات مرغوبة، وإما أن تتعلموا صنعة أو مهنة منذ الآن ـ ولكم بعد الظهر متسع من الوقت ـ بحيث لو امتد بكم العمر لتشهدوا يوم إعدام المدرسة، كان باستطاعتكم التحول إلى معلمين محترفين أو إداريين يقدمون خدماتهم من خلال «شبكات التعليم».المراجع:1ـ د. سعيد إسماعيل علي، فلسفات تربوية معاصرة، سلسلة عالم المعرفة (198) يونيو 1995، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.2- د. محمد عيسى فهيم، محاضرات في مادة فلسفة التربية
في الوقت الذي يودّع فيه القرن العشرون الميلادي دنيا الوجود، يعكف كل أهل تخصص وفن على مراجعة إنجازاتهم، وأغرب ما مرّ بهم خلال هذا القرن غير العادي، ومن ضمن العاكفين على المراجعة أهل التربية والتعليم.وبالتأكيد فإن معشر التربويين يجمعون على أن من أغرب ما واجهوه خلال القرن العشرين، هو ظهور نفر من المفكرين، ادعوا على قلب الجسد التربوي.. المدرسة!
والأغرب أن المدّعين لم يطالبوا باستصلاح هذا المتهم ـ المدرسة ـ أو تعديل سلوكه، أو الحد من سيئاته، بل كان الحكم الذي طالبوا به هو.. الإعدام!ولنا أن نتصور عالماً ودنيا بلا مدارس!النقمة على المؤسسات:رغم أن هناك إرهاصات للاتجاه اللامدرسي في كتابات المفكر الشهير جان جاك روسو (1712 ـ 1778م)، الذي رأى أن المدرسة والتعليم النظامي يفسدان الطبيعة الخيرة للطفل، وما تلا هذه الفكرة من أفكار فروبل وبستالوتزي وديوي الذين أكدوا على مبدأ تعليم الأطفال ما يرغبون فيه دون تقييد، إلا أن الهجوم العنيف على المدرسة في صورته المتطرّفة المطالبة بالإلغاء والإعدام تماماً قد كان في النصف الثاني من القرن العشرين على يد «إيفان إيلتش» ورفاقه.وكان نقد إيلتش للمدرسة ينطلق من إطار عام للنقد موجه أصلاً نحو الاتجاه المؤسسي في المجتمع الغربي،
فإيلتش يؤكد أن المناخ المؤسسي يسحق الحرية الفردية ويبتلع شخصية المواطن لأسباب، من أهمها أن هذه المؤسسات قيدت حركة الناس بالبيروقراطية والمركزية والهرمية، ومن ثم فقد تحكمت في حياة الناس، والأدهى أن هذه المؤسسات التي أنشأها الناس لخدمتهم أصبحت في يد قلّة منهم، وعليه فلم تعد هذه المؤسسات خدميّة للجميع بل اقتصرت منفعتها على هذه القلّة.وفي حين أصبح هذا هو حال المؤسسات، فقد تزايد اعتماد الناس عليها بتزايد استهلاك الناس لما تنتجه، وبالتالي تحديد الفقر بأنه قلة استهلاك ما تنتجه هذه المؤسسات أو ما يوفره المجتمع من خدمات.واستمر نقد إيلتش ومن سار في دربه للمؤسسات حتى تولدت لديهم فكرة مفادها:
«أن أفضل طريقة لإعادة بناء الحياة هي تقويض كل المؤسسات وجعل حياة الناس حرة!».كل هذا وكأن الأمور لا تعني شيئاً بالنسبة للتربويين، إلا أن القذيفة الأولى التي وجهها أصحاب هذا الاتجاه النقدي إلى ساحة التربية والتعليم تمثلت في فكرة أخرى تولدت عن الفكرة السابقة ومفادها: «أن المدرسة أخطر مؤسسة في المجتمع!!».قذائف في ساحة المدرسة:أطلق إيلتش ورفاقه سيلاً من الانتقادات الموجهة نحو المدرسة كمؤسسة تعليمية وتربوية، وكان من أهم ملامح هذا النقد، أن المدرسة عندما تحدد سناً أدنى لدخولها إنما تمارس نوعاً من التفرقة لصالح الأطفال ضد الراشدين،
وتتيح فقط لهؤلاء الصغار الاستفادة من الإنفاق الضخم المخصص للتعليم، كما أن الناس تتعلم خارج المدرسة أكثر مما تتعلمه داخلها، أي أن التعليم ليس نتيجة التدريس، بل إن المدرسين هم الذين يعطلون التعلم الطبيعي لدى التلاميذ نتيجة لعملهم الروتيني النمطي، والمدرسة بهذه الصفة تحكمت في عملية التنشئة الاجتماعية، وعملت على تنميط السلوك وتوحيد الاستجابات في تجاهل فاضح للفروق الفردية الطبيعية بين بني البشر، أما المعرفة في هذه المدارس فقد تحولت إلى سلعة معلبة معدة للاستهلاك، مما يجعل المدرسة غير قادرة على تخريج مفكر مبدع مبتكر، لأن المدرسة وهذه حالها أشبه ما تكون بمعقل لتدريب الطلاب على الانضباط والانقياد والتراتب الاجتماعي،
أما المدرس في المدرسة فليس سوى سجّان وواعظ ومعالج يهيمن ويسيطر على تكوين شخصية التلميذ. ولم ينس إيلتش أن يذكّر بما تذخر به المدرسة من مواعيد وأنظمة وقوانين ولوائح.. من أمور رأى أنها تمارس فيها سلطة على التلميذ وتعيق حريته إن لم تئدها.وهاجم إيلتش بشدة المنهج المقرر في المدرسة، فهو في رأيه ليس كل ما ينبغي أن يتعلمه الطالب، بل إن هذا المنهج المقرر لا يعدو كونه مجموعة رزم من المعارف الجامدة، ولكي يتدرج الطالب في السلم التعليمي لابد له أن يثبت عن طريق الامتحان أنه قد التهم هذه الرزم بنفس الترتيب الذي وضعت به.وإلى جانب هذا المنهج المقرر يسلط إيلتش الضوء على منهج آخر يعمل خفياً في الظلام يساند المنهج المقرر، وهو ما يسمى أحياناً بالمنهج الخفي، يضم كماً كبيراً من القيم والمفاهيم والمعارف والاتجاهات التي تبث في الطلاب بطريقة غير مباشرة، وأخطر ما يبثه هذا المنهج، حسب رأي إيلتش، رسائل خفية تربط قيمة الإنسان بالتمدرس،
بمعنى أنه من خلال المدرسة يصبح الإنسان ذا قيمة، وتتعاظم قيمة الإنسان بفترة بقائه في المدرسة والشهادات المدرسية التي ينالها وهكذا.. وينبه إيلتش إلى أنه مع تزايد الاهتمام بالشهادات المدرسية، ضاع كثير من العلوم والمهارات والأفكار وفرص الابتكار والإبداع، ووصل الإنسان إلى حالة شنيعة من الاغتراب المعرفي..وبالتقاء سيل انتقادات إيلتش وأصحاب هذا الاتجاه اللامدرسي بسيل النقاد السابقين للنظام التعليمي القائم في الغرب آنذاك ممن عرفوا بالماركسيين الجدد أو الفيبريين الجدد أمثال (بيير بورديو) و (باسرون) و (بولز) و (جينتس) و (كارنوي) و (باولو فليريري)، بالتقاء هذين السيلين تكون سيل جارف يتمثل في فكرة واحدة شديدة التطرف تؤكد على أنه
«بالتخلص من المدرسة نتخلص من كل قيودها على العملية التعليمية!».إيفان إيلتش يتبنى اللامدرسية:ونحن نوغل في فلسفة هذا الاتجاه اللامدرسي، لنتمهل قليلاً ونتعرف على رائد هذا الاتجاه المتطرف الغريب، قبل أن نتعرف على البديل الذي قدمه عوضاً عن المدرسة.فإيفان إيلتش Ivan Illich يعتبر بحق أشهر رواد الاتجاه اللامدرسي في صورته المتطرفة التي تنادي بنفي المدرسة من الوجود، ليكون المجتمع كله هو المدرسة الكبرى للجميع، إلا أن هناك عدداً آخر من السائرين في نفس الاتجاه مهدوا له وساندوه، ومنهم «نيل» و «ب. جودمان» و «أ. ريمر» و «ج.دينسون» و «ج.هولت» و «و.جلسر».وقد ولد إيفان إيلتش عام 1926م في روما، ودرس فيها الفلسفة واللاهوت في الجامعة الجريجورية، ثم توجه إلى سالزبورج وحصل فيها على الدكتوراه في التاريخ،
وفي عام 1951م توجه إلى أمريكا وعمل قساً في نيويورك في منطقة تعج بمواطنين ايرلنديين وبورتريكيين فقراء، وقد كانت هذه الفترة أكثر المراحل تأثيراً في فكره، ثم توجه إلى بورتريكو وعمل مساعداً للجامعة الكاثوليكية ما بين 1956ـ1960م، وكان نشطاً للغاية فأنشأ مركزاً كبيراً لتدريب القساوسة الأمريكيين.وساهم إيلتش بعد ذلك في تأسيس «مركز توثيق العلاقات المتداخلة» في كيرناكافا بالمكسيك، ورغم دراسته المتعمقة للاهوت و اشتغاله بالعمل الكنسي إلا أنه أصاب الكنيسة الكاثوليكية بالكثير من سهام نقده، منتمياً لما عرف باليسار الديني أو لاهوت التحرير.وبداية نقده للمدارس كانت في مهاجمته لفكرة التعليم الإلزامي، وشاركه في دعوته الجديدة ايفرت ريمر، لكن هذا الأخير يهاجم المدرسة ككل وليس فكرة الإلزام في التعليم فقط.وقد بدأ تأثير ريمر منذ عام 1958م، حيث أصدر ريمر كتابه «موت المدرسة» ، الذي جعل إيلتش يراجع أفكاره التي كانت لا تشكك في جدوى فكرة التعليم الإلزامي، ثم يتحول إلى النقيض تماماً!وكان إيلتش منذ عام 1967م يلتقي مع ريمر في مركز توثيق الثقافات المتداخلة، وكانت تشترك في الحوار مع كليهما فالنتين بوريمان مديرة المركز التي ظلت تحث إيلتش على اختبار أفكاره في ضوء ظروف أمريكا اللاتينية وأفريقيا.بعد ذلك بلور إيلتش أفكاره في كتابه الذي أسماه «مجتمع بلا مدارس»
وهذا الكتاب يشمل الدراسات التي ناقشها مع ريمر في مركز كيرناكافا عام 1970م، وفي فصله الأخير عرض تأملاته الخاصة بعد مناقشاته مع ايريك فروم.البديل عن المدرسة:إذا كان حريّاً بصاحب أي اتجاه نقدي أن يقدّم صورة بديلة للحال موضع النقد، فإن إيفان إيلتش لم يغفل عن هذا الأمر، فقدم صورة بديلة للمدرسة، قد تجد من ينظر إليها خصوصاً في عصرنا اليوم عصر ثورة المعلومات وثورة الاتصالات متمثلاً في أبرز مظهر لهاتين الثورتين وهو شبكة المعلومات العالمية أو ما عرف بالإنترنت.وقد سمى إيلتش مشروعه البديل بـ «شبكات التعليم»،
وهي شبكات تدخل التقنية في تكوينها، تمثل وسائط يتعلم الناس من خلالها، وهذه الشبكات لا تحدد عمراً أدنى لمن يريد دخولها، وتتيح للمتعلم أن يختار نوع التعليم الذي يرغبه، وبالتالي سيحصل على أقران يلائمونه من حيث الميول والاتجاهات والرغبات، كما أن هذه الشبكات تتيح في نفس الوقت لمن يملك معرفة أو مهارة، أن يوصلها ويعلمها لمن يرغب فيها، كل هذا ولا أحد يفرض على المعلم ولا على المتعلم منهجاً بعينه أو وقتاً معيناً أو عمراً محدداً.. وبذلك يصبح التعليم خدمة متاحة للجميع في أي وقت كالهاتف أو التلفزيون على سبيل المثال.ولتوضيح الصورة أكثر يحدد إيلتش أربعة اتجاهات تصف معالم شبكات التعليم هي:1- عالم الأشياء كمصدر للمعلومات:
فالأشياء من حول الإنسان هي المصادر الأساسية للتعلم، فلا ينبغي أن تحول مؤسسة كالمدرسة بين الإنسان وبين الأشياء من حوله، وتحدد مقدار وطريقة تعلمه عن طريق الحواجز التي تقيمها، وعلى هذا فنوعية البيئة وعلاقة الإنسان بها هما اللذان يحددان القدر الذي يتعلمه الإنسان منها، وهذا يتم بشرطين، أولهما: أن تكون البيئة الطبيعية في متناول الجميع وثانيهما: أن تكون هذه البيئة (الأشياء) غير مربوطة بمنهج دراسي معين بمعنى أن تكون في خدمة التعليم الذاتي.2 - تبادل الخبرات: فلا تقتصر مهمة التعليم على أولئك الذين يحملون مؤهلاً في التعليم ويسمون مدرسين أو معلمين، بل إن الاستفادة من هذه الشبكات ستكون مباشرة من أصحاب الخبرات ممن لا يعملون في مجال التدريس، وهذا يتأتى من خلال إنشاء بنك لتبادل الخبرات يتمثل في مراكز حرة لتبادل هذه الخبرات تعطي الفرصة فيها لذوي الخبرات والمهارات الجيدة لتعليم غيرهم داخل هذه المراكز نظير أجر،
مع ضمانات قانونية تسمح بالتمييز على أساس المهارات المختبرة، وتراقب سوء استغلال الاختبارات لتأهيل من لا يصلح.3- تلاؤم الأقران: فإذا كانت المدارس تجمع عدداً من التلاميذ ذوي ميول واتجاهات ورغبات مختلفة في فصل واحد، وتفرض عليهم منهجاً واحداً، فإن التعليم اللامدرسي يسمح لكل فرد أن يحدد النشاط الذي يبحث فيه عن قرين يلائمه، ويتم تلاؤم الأقران من خلال شبكة للاتصالات سماها إيلتش «شبكة تلاؤم الأقران»، ومن خلالها يقوم المتعلم بتعريف نفسه عن طريق ذكر اسمه وعنوانه ووصف النشاط الذي يحتاج فيه إلى أقران، وسيرسل له الكمبيوتر أسماء وعناوين جميع أولئك الذين يشاركونه الاهتمام نفسه.4- المعلمون المحترفون: وهم معلمون غير أولئك المدرسين المألوفين في المدارس والذين يتخذون التدريس مهنة في حد ذاتها، بل هم معلمون من طراز خاص لديهم استعداد لإفادة الآخرين مباشرة، بما يملكون من نماذج الخبرة التي يمتلكونها في مجالهم، وهكذا مع اختفاء مدرسي المدارس العادية، تنشأ ظروف تحتم ظهور هؤلاء المعلمين ذوي النوعية الخاصة. وسيحتاج إنشاء شبكات التعليم بعض المصممين الإداريين، لكنهم أيضاً ليسوا من نوعية أولئك الذين يعملون في إدارة المدارس،
والذين جل همهم انضابط الطلبة والعلاقات العامة، وتعيين المدرسين ومراقبتهم، كذلك لن يكون هنالك إعداد منهج أو طباعة وتوزيع كتب مدرسية وصيانة مرافق ومنافسات رياضية وتحضير دروس وضغط سجلات...إلخ.مهلاً إيلتشلم يكن إيفان إيلتش ليطرح أفكاره اللامدرسية في فراغ أو على آذان فيها وقر، بل وجد من يسمعه ما بين مؤيدين وهم القلة، وساخرين وهم الكثرة، ونقاد وهم الذين واجهوا نقده للمدارس وللمؤسسات عموماً، بنقد أكثر موضوعية وتعقلاً، وكان الخطاب النقدي الموجه إلى إيلتش واتجاهه اللامدرسي يخاطبه بمنطق العقل إذ جاء يقول:مهلاً إيلتش! فأنت تجرنا بدعوى إلغاء المؤسسات إلى فوضى عارمة لم يشهدها البشر منذ فجر التاريخ، وتذكرنا بأفكار كربوتكين التي تنادي بمجتمع بلا حكومة ونشاط إنساني بلا مؤسسات، إنك ـ يا إيلتش ـ بهذا تتجاهل عملية التنظيم التي لا يقدر عليها بحال من الأحوال الأفراد لوحدهم، وإذا كنت ولابد ناقماً فلا تكن نقمتك على المؤسسات في ذاتها، ولكن انقم على الأسلوب والطريقة التي تدار وتستغل بها سائر المؤسسات في المجتمع، والمدرسة ـ يا إيلتش ـ ليست أخطر مؤسسة في المجتمع، فهناك مؤسسات أخرى هي المسؤولة عن التأثير المباشر في حياة الناس، وأهمها المؤسسات الاقتصادية فكان الأجدى أن تبدأ بها، والمدرسة ـ يا إيلتش ـ أمثل مكان لتعلم المهارات الأساسية اللازمة للناشئين جميعهم، مهما كانت ميولهم كالقراءة والكتابة والحساب، وهي المكان الوحيد الذي يمكن أن يحقق ديمقراطية في تعلم هذه المهارات، وأنت ـ ياإيلتش ـ عندما تقول إن المدرسة تمارس تعصباً لصالح الأطفال، تتجاهل أن الطفولة أهم مرحلة في العمر، وتتناسى ما تثبته البحوث العلمية من أن ما يتعلمه الإنسان خلال هذه المرحلة هو أكثر ما يؤثر فيه طوال حياته، وفي أفكارك ـ يا إيلتش ـ تجاهل واضح لدور التنظيم في العملية التعليمية، فمن المستحيل الاستغناء عن التدريب المنهجي المنظم في عملية التعليم، فتعلم الحاسوب مثلاً في دورة منظمة أفضل وأسرع وأسهل من تعلمه عن طريق المحاولة والخطأ، ثم إنك ـ يا إيلتش ـ تغالي كثيراً وتبالغ في قضية الحرية الفردية، فمن أين للصغير ـ إذا تركنا له مطلق الحرية ـ أن يصل إلى الاختيارات السليمة؟ ومن أين له أن يعرف أسفل سلم المعرفة من أعلاه؟ من أين للصغير أن يعرف أن عليه أن يجيد عملية الضرب حتى يقوم بعملية القسمة. إن التدخل في التربية ذا أثر محمود وليس قمعياً أو تسلطياً دائماً، صحيح أنه ينبغي مراعاة جانب الحرية في التعليم، ولكن لتكن حرية الاختيار بين مجالات التعليم التي يهوى التلميذ أحدها، ويميل إليه، ثم ليأتي دور التنظيم ليهدي هذا التلميذ إلى طريق المعرفة ضمن المجال الذي اختاره بحرية، إنك ـ يا إيلتش ـ عندما تقدر الحرية تهمل النظام بالكلية، وتهب الطائر جناحاً واحداً وتحرمه الجناح الآخر، فالنظام والحرية جناحا طائر لا يعلو إلا بهما، وعليك أن تتذكر ـ يا إيلتش ـ والكلام عن الحرية، أن هناك طبقات فقيرة وطبقات كسولة تميل إلى حياة الخمول والدعة ذات رغبة خاصة في عدم التعلم إن ترك لها مطلق الحرية.وفيما يخص البدائل التي قدمتها عوضاً عن المدارس، ألا ترى ـ يا إيلتش ـ أن هذه البدائل صعبة التحقق خصوصاً في بلدان العالم النامي والمتخلف؟ أليست بدائلك هذه عرضة ووسيلة للهيمنة والسيطرة من قبل الدول القوية مادياً وعسكرياً على حساب المجتمعات والدول الفقيرة والنامية؟ أليست بدائلك هذه ـ وانتبه جيداً يا إيلتش ـ هي نوع من المؤسسات التي سعيت في البداية للقضاء عليها؟!!إن أفكارك ـ يا إيلتش ـ تشجع وبقوة على قيام النزعات التجهيلية، أضف إلى أن أمانيك بمجتمع لا مدرسي يلفها ويكتنفها الغموض من جميع نواحيها. ويتواصل النقد الموجه إلى الاتجاه اللامدرسي المتطرف الذي نادى به إيلتش ورايمر وسواهما، وبطبيعة الحال فإن مصدر هذا النقد ـ أو جله ـ كان من قبل المدرسين وسائر التربويين... ولا تعليق لي حول الأسباب!!ومهلاً معشر التربويينسأضع بين أيديكم ـ يامعشر التربويين ـ في البداية تساؤلات ذات علاقة بدعوى إيلتش، قلّبوها جيداً في أدمغتكم، وإذا كان ردكم عليها جميعاً بالإيجاب فواصلوا القراءة، وهذه التساؤلات من قبيل:- ألم يلق إيلتش حجراً في مستنقع الفكر الراكد حول المدرسة وجدوى العمل الذي تقوم به الآن؟- ألم يدع إيلتش ـ وقد يجد من يؤيده ـ إلى معاودة التفكير في دور المدرسة، كونها تنمط السلوك وتوحد الاستجابات مع اليقين بحقيقة وجود الفروق الفردية، كما أن المدرسة بهذا ت*** ملكة الإبداع والابتكار في أغلب الأوضاع؟- ألم تدعم ثورة المعلومات والاتصالات ـ خصوصاً الإنترنت ـ احتمال بروز شبكات التعليم التي حلم ونادى بها إيلتش.-ألم يسخر كثير من الناس يوماً من كتّاب أدب الخيال العلمي أمثال جول فيرن وهربرت ويلز وسواهما في نهاية القرن التاسع عشر عندما كتبوا عن الغواصات والطائرات والصواريخ والوصول إلى سطح القمر؟ ألم يصف الكثير من الناس هذه القصص بأنها نوع من التخريف؟!إن أجبتم ـ معشر التربويين ـ بنعم على التساؤلات السابقة، فليس أمامكم سوى خيارين:إما أن تؤكدوا بالفعل ـ لا بالقول ـ بطلان هذه الاتهامات لدوركم ودور المدرسة، بوضع أيدي الناس على نتاج هذه المؤسسة من مخرجات تتمثل في أفراد صالحين عاملين منتجين مفكرين مبدعين يحملون كل ما يحلم به المجتمع الإنساني من عادات واتجاهات وسلوكيات مرغوبة، وإما أن تتعلموا صنعة أو مهنة منذ الآن ـ ولكم بعد الظهر متسع من الوقت ـ بحيث لو امتد بكم العمر لتشهدوا يوم إعدام المدرسة، كان باستطاعتكم التحول إلى معلمين محترفين أو إداريين يقدمون خدماتهم من خلال «شبكات التعليم».المراجع:1ـ د. سعيد إسماعيل علي، فلسفات تربوية معاصرة، سلسلة عالم المعرفة (198) يونيو 1995، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.2- د. محمد عيسى فهيم، محاضرات في مادة فلسفة التربية