محمد حسن ضبعون
01-02-2013, 04:10 PM
روى البخاري بسنده عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي أنه قال: مفاتح الغيب خمس ثم قرأ الآية: (إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 34).
أثار المشككون الشغب حول تفسير علم ما في الأرحام بعمومه على أنه أحد الغيوب الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وقالوا لقد بات العلماء يعرفون ما في الأرحام من ذكورة الجنين أو أنوثته، والتشوهات الخلقية فيه، وهو في بطن أمه بأجهزة التصوير والتحاليل الدقيقة! وأصبح في مقدور العلماء إنزال المطر من السحب، بواسطة بعض التقنيات العلمية! فأثاروا البلبلة في أذهان الكثيرين من العوام، وعند غير الراسخين في العلم بهذا الموضوع! وهب بعض العلماء المعاصرين يدفعون الشبهة وينافحون عن تفسير النص القرآني، لكنهم للأسف أخطئوا طريق الدفاع الصحيح! فلم يحرروا محل النزاع بدقة، ولم ينظروا إلى النصوص الواردة في الموضوع مجتمعة، ولم يدرسوا الأمر دراسة موضوعية، فطاشت سهامهم! وبقيت الشبهة حية في عقول وأفواه الكثيرين من الناس.
وفي هذا البحث سنناقش هذا الموضوع باختصار في الإجابة على الأسئلة التالية:
ما الفرق بين علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وبين علم الله المحيط بعالم الشهادة؟ وكيف حدث الخلط بينهما.؟ وهل يمكن أن يعلم البشر شيئا من مفاتح الغيب؟ وما هو العلم الذي لا يعلمه إلا الله لما في الأرحام؟ وما هو الزمن الذي تتعلق به مفاتح الغيب الخمس؟ وهل يوجد وجه للإعجاز في التحدي بهذه المغيبات الخمس.
قال الله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام: 59).
تحدثت الآية الكريمة في أولها عن عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله, ثم تحدثت في الجزء الثاني منها عن علم الله الشامل المحيط في عالم الشهادة فما هو عالم الغيب وما هو عالم الشهادة؟
الغيب: هو ما غاب عن حواس الإنسان أو عن علمه وبصيرته، أو ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم بعضه بخبر الأنبياء ـ عليهم السلام.
قال ابن جرير الطبري(1): أخبر الله تعالى أن عنده علم كل شئ كان ويكون وما هو كائن مما لم يكن بعد وذلك هو الغيب. وقال صاحب المنار(2): الغيب هو ما حجب الله علمه عن الناس،بعدم تمكينهم من أسباب العلم به، لكونه مما لا تدركه مشاعرهم الظاهرة ولا الباطنة؛ كعالم الآخرة. وعرف ابن عاشور الغيب فقال(3): والغيب ما غاب عن علم الناس، بحيث لا سبيل لهم إلى علمه، وذلك يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن، والأعراض الخفية، ومواقيت الأشياء. وحصره الماوردي(4): في علم الماضي الذي لا يعلمه أحد، وعلم المستقبل.
وينقسم الغيب من حيث الزمان إلى:
غيب الماضي:
كالعلم بأحداث القرون التي مضت.
غيب الحاضر:
مثل تسجيل الملائكة الأعمال، وما يدور في النفوس.
غيب المستقبل:
مثل العلم بالموجودات قبل إيجادها، وعلم وقت قيام الساعة، ومواقيت حدوث الموت.
كما ينقسم الغيب من حيث علم المخلوقين به إلى قسمين:
غيب حقيقي، وغيب إضافي.
والغيب قسمان:
غيب حقيقي مطلق؛ وهو ما غاب علمه عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله ـ عز وجل: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65).
وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض؛ كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر، وأما ما يعلمه البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب، أو عجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله.
عالم الشهادة:
الشهادة لغة واصطلاحا: المعاينة أو الإخبار بالخبر القاطع،أو مجموع ما يدرك بالحس أو البصر من الموجودات. وعالم الشهادة هو عالم الأكوان الظاهرة..
ولقد تحدثت الآية الكريمة (وعنده مفاتح الغيب..الآية) في الجزء الثاني منها عن علم الله الشامل المحيط في عالم الشهادة.متمثلا بموجودات البر والبحر , كلياتها وجزئياتها , صفاتها وأحوالها ومآلاتها، ودقائق تفاصيلها وسنن تسخيرها.تحقيقا لقوله تعالى: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) (الطلاق: 12).
ولم يحجب الله عن البشر الطرق والوسائل الموصلة للعلم بهذه الموجودات، بالقدر الذي يتناسب وطاقتهم وحاجتهم لتسخيرها، فيما ينفعهم للقيام بعمارة الأرض، ولا تعارض مطلقا بين علم البشر بأي شيء في هذا الوجود، وبين علم الله المحيط المطلق فيه.
وتطلق مفاتح الغيب في اللغة والاصطلاح على: الطرق والوسائل التي يتوصل بها للغيب أو على خزائن الغيب. ومفاتح الغيب جمع مضاف يعم كل المغيبات، أو هي علم الله بجميع الأمور الغيبية.(5) وقد خصص هذا العموم بعض المفسرين(6)؛ بخزائن الأقدار و الأرزاق، أو الثواب والعقاب، أو عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.
والصحيح أن العموم في مفاتح الغيب خصصه النبي بخمسة أشياء فقط، بقوله عليه الصلاة والسلام: مفاتح الغيب خمس، وذكر آية لقمان (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا و وما تدري نفس بآي أرض تموت، إن الله عليم خبير) رواه البخاري.
الخلط بين العلم بمفاتح الغيب وعلم الله المحيط بعالم الشهادة.
لم ينظر معظم الذين كتبوا في هذا الموضوع من المعاصرين إلى جميع النصوص الواردة في قضية مفاتح الغيب الخمس، حينما نظروا إلى قول الله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ليزيلوا شبهة التعارض بين ما ثبت من الحقائق العلمية في علم الأجنة الحديث، وبين التفسير الشائع لعلم ما في الأرحام، الذي يدخل قضية علم نوع الجنين وصفاته الخلقية، في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فقالوا: إنه لا تعارض مطلقا بين علم البشر، وعلم الله لما في الأرحام، فعلم البشر علم جزئي، وعلم الله محيط شامل للذكورة والأنوثة وغيرها؛ من الأجل والرزق والشقاء والسعادة وغير ذلك، فوقعوا بهذا التفسير في خلط جلي؛ بين الغيب الحقيقي المقصور علمه على الله تعالى وحده في مفاتح الغيب الخمس، وبين علم الله المحيط الشامل لعالم الشهادة من الموجودات؛ والتي يمكن أن يتعلق ببعضها أو ببعض أجزائها علم البشر؛ بواسطة إدراك العلماء وتعلمهم لسنن الكون والحياة. لكن الناظر إلى قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر.. الآية) يجد أن الله سبحانه فصل بين القضيتين بوضوح و أن النبي قد أخبر أن الخمس الواردة في آية سورة لقمان هي مفاتح الغيب الخمس، بتحديد ظاهر لا لبس فيه.
هل يمكن أن يعلم البشر شيئا من مفاتح الغيب؟
اتفق جميع أهل العلم على أن مفاتح الغيب الخمسة؛ لا يعلمها إلا الله، ولا يخضع أي منها في كلياتها وجزئياتها، للسنن الكونية في عالم الشهادة، وبالتالي لا يمكن لمخلوق أن يعلم أي شيء منها، اعتمادا على سنن الاستكشاف في عالم الكون المنظور.
قال ابن حجر: فالمراد بالغيب المنفي في قوله تعالى: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65) . هو المذكور في هذه الآية التي في لقمان(7).
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم علم كل شيء سوى هذه الخمس(8)، وقال القرطبي(9) بعد ذكره لنفس الآية: قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن، لأنه خالفه. وقال عبد الرحمن السعدي(10): وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي طوى علمها عن جميع الخلق فلا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب فضلا عن غيرهما
وقد كان هذا الأمر واضحاً في كلام المفسرين ـ رحمهم الله ـ حينما فسروا الآية الكريمة (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر.).الآية..
قال الطبري(11): وعند الله علم ما غاب عنكم أيها الناس مما لا تعلمونه ولن تعلموه، مما استأثر بعلمه نفسه، ويعلم أيضاً مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم ولا يخـفى عليه شيء.
وقال محمد رشيد رضا(12): وعلمه تعالى بما في البر والبحر من علم الشهادة المقابل لعلم الغيب، على أن أكثر ما في خفايا البر والبحر، غائب عن علم أكثر الخلق، وإن كان في نفسه موجودا يمكن أن يعلمه الباحث منهم عنه. وقد بين الله تعالى لنا في هذه الآية أن خزائن علم الغيب كلها عنده، وعنده مفاتيحها وأسبابها الموصلة إليها، وأن عنده من علم الشهادة ما ليس عند غيره، وذكر على سبيل المثال علمه ما في البر والبحر من ظاهر وخفي.
وضوح القضية عند علماء السلف:
لقد كانت قضية مفاتح الغيب الخمس، واضحة تماما لا لبس فيها عند علمائنا السابقين. فعلم ما في الأرحام، وعلم وقت نزول المطر، كعلم وقت قيام الساعة سواء بسواء، من ادعى علم شيء منها فقد كذب بالقرآن، وخرج من ملة الإسلام، وكلام السلف علي الجملة صحيح، فهم يعتقدون أن علم إنزال الغيث وعلم ما في الأرحام هما مفتاحين من مفاتح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وأن ادعاء علم شيء فيهما وفق السنن تكذيب بالقرآن والسنة، وخروج من الملة. أما تعرض بعضهم لتفاصيل علم ما في الأرحام وإدخال قضية العلم بنوع الجنين، في الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فقد تبين اليوم خطؤه، حيث ثبت بيقين أن العلم بنوع الجنين هو من عالم الشهادة؛ الخاضع لسنن الاستكشاف والمعرفة التي بثها الله في الخلق. وإدخال هذه القضية في الغيب المحظور إنما كان اجتهاد منهم ـ رحمهم الله ـ وليس فيه سند من قرآن أو سنة. أو لعله من باب تفسير عموم ما في الأرحام الوارد في الآية من غير نظر إلى حديث النبي الذي خصصه بمفاتح الغيب الخمس.
علم ما في الأرحام الذي لا يعلمه إلا الله هو علم ما تغيض الأرحام:
أخبر النبي عن عدد ومسمى مفاتح الغيب في صيغتين: الصيغة الأولى تشير إلى القضايا التي وردت في آية سورة لقمان، قال النبي : مفاتح الغيب خمس، ثم قرأ الآية (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث وبعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) رواه البخاري وغيره
و في الصيغة الثانية من الخبر يقول النبي : (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) رواه البخاري.
فنحن الآن أمام حديثين وردا بصيغتين مختلفتين، في موضوع واحد، هو تحديد عدد ومسمى مفاتح الغيب، وصيغة الحديث الأول تماثل صيغة الحديث الثاني، في ثلاث قضايا هي:علم الساعة، وعدم دراية الأنفس لكسبها، ومكان موتها، وهذه الثلاثة غيب حقيقي لا يعلمه إلا الله باتفاق العلماء، لكن الحديثين يختلفان في مسمى قضية إنزال المطر، وقضية ما في الأرحام.. فالحديث الأول أشار إلى أن الصيغة العامة لهما هي مفتاح الغيب، في قوله تعالى: (وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام). وأما الحديث الثاني فقد عدل عن صيغة العموم إلى صيغة الخصوص، فقد سماهما النبي بألفاظ مخصوصة محددة فقال: (ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله).
وبالجمع بين الروايتين يصير غيض الأرحام، وزمن مجيء المطر، هما الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وبالتالي يصبح مراد النبي في اللفظ العام في آية سورة لقمان بناء على الحديث الأول، هو المعنى المحدد باللفظ الخاص في الحديث الثاني. وبهذا تتوافق النصوص وينتهي الإشكال. و يكون غيض الأرحام هو أحد مفاتح الغيب الخمس، لا الذكورة ولا الأنوثة ولا العلم بصفات الجنين، و يكون أيضاً العلم بوقت نزول المطر الوارد في الحديث هو أحد مفاتح الغيب الخمس، لا مطلق إنزال الغيث الوارد في الآية الكريمة.
آية سورة الرعد تشرح معنى ما في الأرحام
وبالجمع بين النصوص الواردة في الموضوع أيضا يتضح الأمر فقد وردت في سورة الرعد آية تجمع بين العموم لما في الأرحام، وعلم الله المحيط به، وبين علم غيض الأرحام الذي لا يعلمه إلا الله؛ وهي قوله تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: 8).
أثار المشككون الشغب حول تفسير علم ما في الأرحام بعمومه على أنه أحد الغيوب الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وقالوا لقد بات العلماء يعرفون ما في الأرحام من ذكورة الجنين أو أنوثته، والتشوهات الخلقية فيه، وهو في بطن أمه بأجهزة التصوير والتحاليل الدقيقة! وأصبح في مقدور العلماء إنزال المطر من السحب، بواسطة بعض التقنيات العلمية! فأثاروا البلبلة في أذهان الكثيرين من العوام، وعند غير الراسخين في العلم بهذا الموضوع! وهب بعض العلماء المعاصرين يدفعون الشبهة وينافحون عن تفسير النص القرآني، لكنهم للأسف أخطئوا طريق الدفاع الصحيح! فلم يحرروا محل النزاع بدقة، ولم ينظروا إلى النصوص الواردة في الموضوع مجتمعة، ولم يدرسوا الأمر دراسة موضوعية، فطاشت سهامهم! وبقيت الشبهة حية في عقول وأفواه الكثيرين من الناس.
وفي هذا البحث سنناقش هذا الموضوع باختصار في الإجابة على الأسئلة التالية:
ما الفرق بين علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وبين علم الله المحيط بعالم الشهادة؟ وكيف حدث الخلط بينهما.؟ وهل يمكن أن يعلم البشر شيئا من مفاتح الغيب؟ وما هو العلم الذي لا يعلمه إلا الله لما في الأرحام؟ وما هو الزمن الذي تتعلق به مفاتح الغيب الخمس؟ وهل يوجد وجه للإعجاز في التحدي بهذه المغيبات الخمس.
قال الله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام: 59).
تحدثت الآية الكريمة في أولها عن عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله, ثم تحدثت في الجزء الثاني منها عن علم الله الشامل المحيط في عالم الشهادة فما هو عالم الغيب وما هو عالم الشهادة؟
الغيب: هو ما غاب عن حواس الإنسان أو عن علمه وبصيرته، أو ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم بعضه بخبر الأنبياء ـ عليهم السلام.
قال ابن جرير الطبري(1): أخبر الله تعالى أن عنده علم كل شئ كان ويكون وما هو كائن مما لم يكن بعد وذلك هو الغيب. وقال صاحب المنار(2): الغيب هو ما حجب الله علمه عن الناس،بعدم تمكينهم من أسباب العلم به، لكونه مما لا تدركه مشاعرهم الظاهرة ولا الباطنة؛ كعالم الآخرة. وعرف ابن عاشور الغيب فقال(3): والغيب ما غاب عن علم الناس، بحيث لا سبيل لهم إلى علمه، وذلك يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن، والأعراض الخفية، ومواقيت الأشياء. وحصره الماوردي(4): في علم الماضي الذي لا يعلمه أحد، وعلم المستقبل.
وينقسم الغيب من حيث الزمان إلى:
غيب الماضي:
كالعلم بأحداث القرون التي مضت.
غيب الحاضر:
مثل تسجيل الملائكة الأعمال، وما يدور في النفوس.
غيب المستقبل:
مثل العلم بالموجودات قبل إيجادها، وعلم وقت قيام الساعة، ومواقيت حدوث الموت.
كما ينقسم الغيب من حيث علم المخلوقين به إلى قسمين:
غيب حقيقي، وغيب إضافي.
والغيب قسمان:
غيب حقيقي مطلق؛ وهو ما غاب علمه عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله ـ عز وجل: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65).
وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض؛ كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر، وأما ما يعلمه البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب، أو عجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله.
عالم الشهادة:
الشهادة لغة واصطلاحا: المعاينة أو الإخبار بالخبر القاطع،أو مجموع ما يدرك بالحس أو البصر من الموجودات. وعالم الشهادة هو عالم الأكوان الظاهرة..
ولقد تحدثت الآية الكريمة (وعنده مفاتح الغيب..الآية) في الجزء الثاني منها عن علم الله الشامل المحيط في عالم الشهادة.متمثلا بموجودات البر والبحر , كلياتها وجزئياتها , صفاتها وأحوالها ومآلاتها، ودقائق تفاصيلها وسنن تسخيرها.تحقيقا لقوله تعالى: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) (الطلاق: 12).
ولم يحجب الله عن البشر الطرق والوسائل الموصلة للعلم بهذه الموجودات، بالقدر الذي يتناسب وطاقتهم وحاجتهم لتسخيرها، فيما ينفعهم للقيام بعمارة الأرض، ولا تعارض مطلقا بين علم البشر بأي شيء في هذا الوجود، وبين علم الله المحيط المطلق فيه.
وتطلق مفاتح الغيب في اللغة والاصطلاح على: الطرق والوسائل التي يتوصل بها للغيب أو على خزائن الغيب. ومفاتح الغيب جمع مضاف يعم كل المغيبات، أو هي علم الله بجميع الأمور الغيبية.(5) وقد خصص هذا العموم بعض المفسرين(6)؛ بخزائن الأقدار و الأرزاق، أو الثواب والعقاب، أو عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.
والصحيح أن العموم في مفاتح الغيب خصصه النبي بخمسة أشياء فقط، بقوله عليه الصلاة والسلام: مفاتح الغيب خمس، وذكر آية لقمان (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا و وما تدري نفس بآي أرض تموت، إن الله عليم خبير) رواه البخاري.
الخلط بين العلم بمفاتح الغيب وعلم الله المحيط بعالم الشهادة.
لم ينظر معظم الذين كتبوا في هذا الموضوع من المعاصرين إلى جميع النصوص الواردة في قضية مفاتح الغيب الخمس، حينما نظروا إلى قول الله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ليزيلوا شبهة التعارض بين ما ثبت من الحقائق العلمية في علم الأجنة الحديث، وبين التفسير الشائع لعلم ما في الأرحام، الذي يدخل قضية علم نوع الجنين وصفاته الخلقية، في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فقالوا: إنه لا تعارض مطلقا بين علم البشر، وعلم الله لما في الأرحام، فعلم البشر علم جزئي، وعلم الله محيط شامل للذكورة والأنوثة وغيرها؛ من الأجل والرزق والشقاء والسعادة وغير ذلك، فوقعوا بهذا التفسير في خلط جلي؛ بين الغيب الحقيقي المقصور علمه على الله تعالى وحده في مفاتح الغيب الخمس، وبين علم الله المحيط الشامل لعالم الشهادة من الموجودات؛ والتي يمكن أن يتعلق ببعضها أو ببعض أجزائها علم البشر؛ بواسطة إدراك العلماء وتعلمهم لسنن الكون والحياة. لكن الناظر إلى قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر.. الآية) يجد أن الله سبحانه فصل بين القضيتين بوضوح و أن النبي قد أخبر أن الخمس الواردة في آية سورة لقمان هي مفاتح الغيب الخمس، بتحديد ظاهر لا لبس فيه.
هل يمكن أن يعلم البشر شيئا من مفاتح الغيب؟
اتفق جميع أهل العلم على أن مفاتح الغيب الخمسة؛ لا يعلمها إلا الله، ولا يخضع أي منها في كلياتها وجزئياتها، للسنن الكونية في عالم الشهادة، وبالتالي لا يمكن لمخلوق أن يعلم أي شيء منها، اعتمادا على سنن الاستكشاف في عالم الكون المنظور.
قال ابن حجر: فالمراد بالغيب المنفي في قوله تعالى: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65) . هو المذكور في هذه الآية التي في لقمان(7).
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم علم كل شيء سوى هذه الخمس(8)، وقال القرطبي(9) بعد ذكره لنفس الآية: قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن، لأنه خالفه. وقال عبد الرحمن السعدي(10): وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي طوى علمها عن جميع الخلق فلا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب فضلا عن غيرهما
وقد كان هذا الأمر واضحاً في كلام المفسرين ـ رحمهم الله ـ حينما فسروا الآية الكريمة (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر.).الآية..
قال الطبري(11): وعند الله علم ما غاب عنكم أيها الناس مما لا تعلمونه ولن تعلموه، مما استأثر بعلمه نفسه، ويعلم أيضاً مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم ولا يخـفى عليه شيء.
وقال محمد رشيد رضا(12): وعلمه تعالى بما في البر والبحر من علم الشهادة المقابل لعلم الغيب، على أن أكثر ما في خفايا البر والبحر، غائب عن علم أكثر الخلق، وإن كان في نفسه موجودا يمكن أن يعلمه الباحث منهم عنه. وقد بين الله تعالى لنا في هذه الآية أن خزائن علم الغيب كلها عنده، وعنده مفاتيحها وأسبابها الموصلة إليها، وأن عنده من علم الشهادة ما ليس عند غيره، وذكر على سبيل المثال علمه ما في البر والبحر من ظاهر وخفي.
وضوح القضية عند علماء السلف:
لقد كانت قضية مفاتح الغيب الخمس، واضحة تماما لا لبس فيها عند علمائنا السابقين. فعلم ما في الأرحام، وعلم وقت نزول المطر، كعلم وقت قيام الساعة سواء بسواء، من ادعى علم شيء منها فقد كذب بالقرآن، وخرج من ملة الإسلام، وكلام السلف علي الجملة صحيح، فهم يعتقدون أن علم إنزال الغيث وعلم ما في الأرحام هما مفتاحين من مفاتح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وأن ادعاء علم شيء فيهما وفق السنن تكذيب بالقرآن والسنة، وخروج من الملة. أما تعرض بعضهم لتفاصيل علم ما في الأرحام وإدخال قضية العلم بنوع الجنين، في الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فقد تبين اليوم خطؤه، حيث ثبت بيقين أن العلم بنوع الجنين هو من عالم الشهادة؛ الخاضع لسنن الاستكشاف والمعرفة التي بثها الله في الخلق. وإدخال هذه القضية في الغيب المحظور إنما كان اجتهاد منهم ـ رحمهم الله ـ وليس فيه سند من قرآن أو سنة. أو لعله من باب تفسير عموم ما في الأرحام الوارد في الآية من غير نظر إلى حديث النبي الذي خصصه بمفاتح الغيب الخمس.
علم ما في الأرحام الذي لا يعلمه إلا الله هو علم ما تغيض الأرحام:
أخبر النبي عن عدد ومسمى مفاتح الغيب في صيغتين: الصيغة الأولى تشير إلى القضايا التي وردت في آية سورة لقمان، قال النبي : مفاتح الغيب خمس، ثم قرأ الآية (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث وبعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) رواه البخاري وغيره
و في الصيغة الثانية من الخبر يقول النبي : (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) رواه البخاري.
فنحن الآن أمام حديثين وردا بصيغتين مختلفتين، في موضوع واحد، هو تحديد عدد ومسمى مفاتح الغيب، وصيغة الحديث الأول تماثل صيغة الحديث الثاني، في ثلاث قضايا هي:علم الساعة، وعدم دراية الأنفس لكسبها، ومكان موتها، وهذه الثلاثة غيب حقيقي لا يعلمه إلا الله باتفاق العلماء، لكن الحديثين يختلفان في مسمى قضية إنزال المطر، وقضية ما في الأرحام.. فالحديث الأول أشار إلى أن الصيغة العامة لهما هي مفتاح الغيب، في قوله تعالى: (وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام). وأما الحديث الثاني فقد عدل عن صيغة العموم إلى صيغة الخصوص، فقد سماهما النبي بألفاظ مخصوصة محددة فقال: (ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله).
وبالجمع بين الروايتين يصير غيض الأرحام، وزمن مجيء المطر، هما الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وبالتالي يصبح مراد النبي في اللفظ العام في آية سورة لقمان بناء على الحديث الأول، هو المعنى المحدد باللفظ الخاص في الحديث الثاني. وبهذا تتوافق النصوص وينتهي الإشكال. و يكون غيض الأرحام هو أحد مفاتح الغيب الخمس، لا الذكورة ولا الأنوثة ولا العلم بصفات الجنين، و يكون أيضاً العلم بوقت نزول المطر الوارد في الحديث هو أحد مفاتح الغيب الخمس، لا مطلق إنزال الغيث الوارد في الآية الكريمة.
آية سورة الرعد تشرح معنى ما في الأرحام
وبالجمع بين النصوص الواردة في الموضوع أيضا يتضح الأمر فقد وردت في سورة الرعد آية تجمع بين العموم لما في الأرحام، وعلم الله المحيط به، وبين علم غيض الأرحام الذي لا يعلمه إلا الله؛ وهي قوله تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: 8).