simsim elmasry
06-02-2013, 11:48 AM
عبدالرزاق باشا السنهورى الفقيه القانونى الذى خذلته السياسةhttp://digital.ahram.org.eg/getsubpic.ashx?eassyid=1120760&picno=3
كلما تداعت أحداث النزاع بين رجال القضاء والسياسة كل منهما يحاول تقليم أظافر الآخر. وكلما مررت أمام المبنى العتيق لمجلس الدولة أراه بالكاد من شارع جانبي «عصام الدالى» بعد أن أقيم المبني الجديد للمجلس على حديقة المبني القصر«قصر الأميرة فوقية» ليحتل هو الواجهة على حرم الشارع الرئيسي، تذكرت علامة القانون وحجة القضاء النابغة القاضي الجليل الذي زلت قدمه بفعل السياسة، وكأنما يتناهى إلى مسامعى صوت استغاثاته المكتومة تحت وطأة يد مخبري العسكر الغليظة وهى تسحق عظامه وهى فى الواقع تسحق أراءه ومواقفه المؤازرة للديمقراطية. فكان أحد ضحايا م***ة 1954 التى سحقت معه محمد نجيب ويوسف صديق وغيرهما ممن طالبوا الجيش بالعودة إلى ثكناته لتبدأ مصر حياة نيابية جديدة بعد الثورة فهى لم تكن م***ة القضاء بل م***ة الديمقراطية.
ما زالت طرقات مبني مجلس الدولة القديم تعرف الرجل وتحفظ ملامحه فى أطر قديمة تزين المكان ومنها صورة التشكيل الأول للمجلس فى العاشر من فبراير 1947 وصور بورتريه له كثانى رئيس للمجلس بعد كامل مرسي باشا حيث تولى المجلس فى فبراير 1949 حتى أبريل 1954. تولاه شامخا قويا فى تصديه لجبروت الملك ومحاولاته لإنهاء حياة مجلس الدولة الوليد الذي أبى رجاله الشرفاء أن يكونوا أداة فى يد الملك فاروق لتكميم حرية الصحافة التى كانت تسلط أضواءها على الفساد المالى والسياسي والأخلاقي فى عهد الملك. ولما لم تكن الحكومة راضية عليه طالبته بالاستقالة إلا أن الجمعية العمومية للمجلس قررت عدم شرعية هذا الطلب فبدأت الوزارة تتحرش بالمجلس من خلال التلاعب فى الترقيات والرواتب. وفى سبتمبر 1951 قرر فاروق أثناء رحلة شهر العسل مع ناريمان إصدار قانون بإلغاء مجلس الدولة وهاجت الدنيا حتى قدم وزير الخارجية محمد صلاح الدين استقالته فلم يجد النحاس باشا سوى الامتثال لرأى الأقلية الرافضة للمرسوم الملكى ليبقى مجلس الدولة وتبقي هيبته التى تمر مغت بعد ذلك على أيد المتظاهرين المأجورين، ويكون السراي الذي شهد جلال صوت السنهورى شاهدا على ضياع هيبته لأن الرجل الذي واجه الملك انحاز بعد ذلك إلى العسكر وكان رجل القضاء فى عهدهم وانتهى به الحال محزونا أسيرا فى شرنقته ليدفع ثمن الخلط بين مهمته كقاض وهواه السياسي.
ففى 29 مارس 1954 خرج طوفان من البشر كانت هتافاتهم مخالفة لكل منطق ولكل حركات المجتمع عبر التاريخ التى كانت تسير دائما نحو المطالبة بالمزيد من الحريات. أما هؤلاء فقد خرجوا يطالبون بسقوط الديمقراطية والدستور ويطالبون بحياة العسكر وبقائهم فى السلطة. صحيح ما أشبه اليوم بالبارحة.
لقد نجح أحمد طعيمة مع إبراهيم الطحاوى فى تسيير مظاهرات ضخمة لمؤازرة عبدالناصر فى مواجهة محمد نجيب وحتى يقر مجلس قيادة الثورة عينا بالسلطة التى جاءته على طبق من ذهب وآثر عدم التفريط فيها. وخرجت المظاهرات المأجورة لتقتص من كل من آزر محمد نجيب وجاء الدور على السنهورى باشا الذي تلقى ضربا مبرحا داخل حرم مجلس الدولة ولولا سكرتيره وبعض الموجودين لكان قد لقى حتفه حتى قيل إنه غادر مجلس الدولة بأعجوبة بعد أن أصيب بكسر مضاعف فى ذراعه وكدمات عديدة فى أنحاء جسده. وفى المستشفى اتهم الرجل الصاغ ناصر بتدبير الاعتداء عليه ورفض لقاء عبدالناصر عندما جاء لزيارته فى المستشفى. لكن شهود الواقعة ابتلعوا لشهادة الحق ولفظت ألسنتهم شهادة الزور استجابة لضغط التهديدات. أما السنهورى المعتدى عليه فقد عانى من خطوات المخبرين الثقيلة التى كانت تراقبه فى كل شاردة وواردة ومنع من السفر لسنوات. وظل هذا الحادث الأليم يلح على ذاكرته ويمر على حلقه بالمرارة ولا يجد أمامه - كما ذكر فى أوراقه - إلا أن يردد قول الرسول «اللهم أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتي وهوانى على الناس».
موظف الجمرك. علامة القانون
السنهورى من مواليد مدينة الإسكندرية عام 1895. توفى والده وهو فى الخامسة من عمره وتركه يتيما فقيرا مع ستة آخرين من الأبناء. لكن من يرغب فى التفوق يدركه مهما كانت الظروف، فقد كان الأول فى الثانوية العامة على القطر المصري عام 1913 كما كان الأول على كل طلبة مدرسة الحقوق الخديوية التى حصل منها على الليسانس 1917 رغم أنه كان يعمل موظفا فى أثناء الدراسة فى جمرك الإسكندرية. ولأنه كان الأول فقد عين وكيلا للنيابة ثم مدرسا بمدرسة القضاء الشرعي ليوفد بعدها فى بعثة إلى فرنسا حيث يعد ثلاث رسائل للدكتوراة.
ويعود الرجل إلى مصر مدرسا للقانون المدنى بالجامعة المصرية لكنه يفصل بعد تأسيسه جمعية الشبان المصريين الداعية إلى الرابطة الشرقية. وفى عام 1935 يذهب إلى العراق بناء على طلب حكومتها وهناك أنشأ كلية الحقوق ووضع مشروع القانون المدنى للدولة. بعدها بعامين عاد عميدا لكلية الحقوق فى مصر. وأسندت إليه وزارة العدل المصرية مهمة وضع مشروع القانون المدنى رافضا الحصول على أى مكافأة تماما، كما وضع قانون ليبيا المدنى 1953 بدون مقابل لأنه لم يكن ساعيا وراء المال لكنه حب العلم الذي تحدث عنه فى مذكراته حين كتب: «رأيت فيما يري النائم أن الغرب تشرق عليه الشمس ساطعة حدقت فيها ثم أدرت وجهى تجاه الشرق فرأيت شمسا أوسع مدى وأسطع نورا وحسبت أنى الذي أنقل هذه الشمس بيدى، شمس الشرق للغرب وكأنى وقتها سمعت صوت العلم يهمس ثم أفقت من نومى». لهذا لم يكن السنهورى الأستاذ الجامعى يبيع كتبه لطلبته داخل الجامعة. هذا ما أخبرني به الكاتب الصحفي عبدالرحمن فهمى الذي كان السنهورى باشا يدرس له فى كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول مادة «الالتزامات» أصعب فروع القانون المدنى. ولصعوبتها كان الطلبة كثيرا ما يترددون على حجرة الباشا بالكلية ولم يكن أبدا يرد طالب علم. بل كان دوما يستقبل الجميع ببشاشة وكان يحرص على حصول طلبته على الملازم مجانا. كان عدد الطلاب محدودا آنذاك وسائر الأساتذة يتعاملون مع طلبتهم بقدر أكبر من التعالى وهم حملة ألقاب الباشوية والبكوية. لكن السنهورى لم يكن مثلهم رغم بلاغته القانونية ومكانته وهو صاحب أهم وأضخم كتاب فى تاريخ القانون «الوسيط» وهو صاحب دستور 1954 الذي لم ير النور حيث مزق داخل مجلس قيادة الثورة لما يحتويه من نص واسع على الحريات. وضرب السنهورى داخل مجلس الدولة وسقط طربوشه على الأرض وداسوه بالأقدام.
لكن هذا لم ينتقص من مقدار الرجل الذي وضع دساتير الدول العربية حديثة الاستقلال ووضع لها قوانينها المدنية. وعندما طلب منه الشيخ زايد وضع الدستور الجديد لدولة الإمارات أوفد عددا من القانونيين كى يقفوا على أحوال البدو فى شتى الولايات حتى يكتب دستورا معبرا عن هؤلاء.
إن السنهورى القانونى لا يضاهيه أحد ولا يختلف عليه اثنان. المستشار مدحت المراغي رئيس محكمة النقض ورئيس محكمة القضاء الأعلى قام بتحديث وتنقيح «الوسيط» بأجزائه العشرة التى أبدعها السنهورى: يصفه بأنه أعظم فقيه قانونى فى تاريخ مصر والأمة العربية ومن أعظم فقهاء القانون على مستوى العالم. فقد وضع موسوعة القانون المدنى المصري الذي لم يحدث بها أى تعديل أو تغيير منذ صدورها عام 1948 وحتى الآن والذي يتشكل من 1160 مادة. وهذا مكمن العبقرية لقد ظل القانون بما فيه من إحكام فى الموضوع والصياغة كما هو لم يتغير فيه إلا مواد التقادم وهو تغيير استدعاه تغير الظروف والأحوال. فالموسوعة رائعة من حيث مضمونها وصياغتها ولغتها العربية المتمكنة التى جعلت صاحبها بأسلوبه المتميز يضاهي بها أهم الأدباء وكيف لا وهو عضو مجمع اللغة العربية فى أوج عظمته و***وانه وبأعضائه اللامعين. جاء الوسيط محكما بعد أن اطلع صاحبه على القوانين الأجنبية فى العالم متمكنا فيما يتصل بالشريعة الإسلامية فى روعة وعبقرية لم تتكرر فى مجال القانون. قام المستشار مدحت المراغى بوضع إضافات إلى الوسيط تمثلت فى كافة أحكام القوانين التى صدرت فى مصر منذ وفاته حتى الطبعة الأخيرة للكتاب، وكذلك أحكام محكمة النقض ومحاكم التمييز العربية فى الكويت ودبي وقطر والبحرين وعمان لتكتمل الموسوعة القانونية التى طلبت العديد من الدول الأجنبية ترجمتها إلى لغاتها ولنا أن نفخر بالقانون المدنى المصري المستمد من الشريعة الإسلامية وكافة القوانين المدنية فى العالم دون مخالفة لأحكام الشريعة ولم يتغير به سوى كلمة «عوائد» بدلا عن «فوائد» وفق ما أفتى به أئمة الفقه الحديث.
الدروس الخصوصية
ومن المضحكات المبكيات فى حياة الرجل أنه بعد توليه وزارة المعارف فى أكثر من وزارة خلال الفترة من 1945 - 1949 اعترف بفشله فى القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية. وقد قام فى أثناء توليه الوزارة بتأسيس جامعة فاروق "الاسكندرية"
السنهورى بين الحق والهوى
لم ينتقص من قيمة وقامة السنهورى رجل القانون سوى موقفه السياسي من ثورة يوليو حتى مع نبل الهدف وهو إيمانه بأن العسكر الثوار خطوة على طريق الإصلاح. لكن المبدأ الميكافيلي يثبت للمرة المليون أنه طريق الهاوية. وكما قال المستشار أحمد مكى فى تحليله لما حدث للسنهورى أن فيما حدث عبرة للقضاة بأنه لا يجوز الخلط بين السياسة والقضاء. بين الحق والهوى.
لقد ساند الفقيه القانونى الثوار ووجد له مخارج قانونية تتيح لهم تنفيذ ما يريدون فوقع رجل القانون فى فخ دهاليز السياسة وأحكامها التى تتغير بتغير أهواء أصحابها فظهر مصطلح «ترزية القوانين». وكانت البداية عندما لجأ إليه عبدالناصر طالبا منه إيجاد حل لأزمة واجهتهم بعد أن تنازل الملك عن العرش لابنه الرضيع وتطلب الأمر تشكيل مجلس وصاية وكان دستور 1923 ينص على أن يقوم مجلس الوصاية بأداء القسم أمام البرلمان ولما كان السنهورى يكره الوفد بأغلبيته البرلمانية وهو الذى استقال من الوفد وخرج عليه بصحبة النقراشي وأحمد ماهر 1937 وكانت له معاركه الشديدة معه. المهم أن السنهورى وجد مخرجا قانونيا لإقصاء الوفد من المشهد لكنه بعد ذلك أدرك أنه ساعد النظام الجديد على وأد الديمقراطية بالتخلص من التعددية بحل الأحزاب. وعندما قرر تدارك الخطأ كان الأوان قد فات.
الإمام الخامس
أما سنوات عمره الأخيرة فقد كرسها السنهورى للشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي - حتى أطلق عليه الفقهاء لقب الإمام الخامس - وقد أنجز خلالها موسوعته المكونة من ست مجلدات «مصادر الحق فى الفقه الإسلامي». وفى عام 1953 أثمرت جهوده افتتاح معهد الدراسات العربية العالمية الذي أراده معهدا لخدمة الفقه الإسلامي وقد بدأ وعيه الإسلامى مبكرا متأثرا بمصطفى كامل وسعد زغلول والكواكبي وجاويش وفريد وجدى. كما تأثر بكتابات محمد عبده والأفغاني.
وعندما كان فى باريس سقطت الخلافة الإسلامية فوضع رسالته بالفرنسية عن الخلافة الإسلامية والتى ترجمتها للعربية ابنته الوحيدة نادية بعد رحيله بسنوات.
كما وضع دراسته «مواد البرنامج» التى تحدث فيها عن طريقة جديدة لدراسة الشريعة الإسلامية ومقارنتها بالشرائع الأخرى حتى يتيسر فتح باب الاجتهاد ونجده يرسم معالم مشروع للنهضة يقول فيه: وددت أن اشترك فى نهضة مالية وسياسية فى مصر، ونهضة لإصلاح طرق التربية والتعليم وإصلاح الأزهر وودت لو تكونت جمعية أمم شرق إسلامية. وفى 21 من يوليو يستسلم الجسد المرهق لرقاد طويل تاركا تراثا قانونيا وفقهيا يجعل عمل صاحبه متصلا مستمرا يثاب عليه كلما نهل منه طالب علم. تماما كما كانت تصله دعوات ابنته نادية. فهى والقانون ذريته التى خلفها فى الحياة الدنيا كما قال هو نفسه:
خلفت بنتا فى حياتي ثم خلفت الولد
فالبنت نادية أتتنى من بعد يأس وكد
وإذا سألت عن الوليد أباه لم يعز كرد
ولدى هو القانون لم أرزقه إلا بعد جهد
_______________________________________________
المصدر الاهرام اليومى عدد 7 ديسمبر 2012
(http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?******=211660&eid=429)
كلما تداعت أحداث النزاع بين رجال القضاء والسياسة كل منهما يحاول تقليم أظافر الآخر. وكلما مررت أمام المبنى العتيق لمجلس الدولة أراه بالكاد من شارع جانبي «عصام الدالى» بعد أن أقيم المبني الجديد للمجلس على حديقة المبني القصر«قصر الأميرة فوقية» ليحتل هو الواجهة على حرم الشارع الرئيسي، تذكرت علامة القانون وحجة القضاء النابغة القاضي الجليل الذي زلت قدمه بفعل السياسة، وكأنما يتناهى إلى مسامعى صوت استغاثاته المكتومة تحت وطأة يد مخبري العسكر الغليظة وهى تسحق عظامه وهى فى الواقع تسحق أراءه ومواقفه المؤازرة للديمقراطية. فكان أحد ضحايا م***ة 1954 التى سحقت معه محمد نجيب ويوسف صديق وغيرهما ممن طالبوا الجيش بالعودة إلى ثكناته لتبدأ مصر حياة نيابية جديدة بعد الثورة فهى لم تكن م***ة القضاء بل م***ة الديمقراطية.
ما زالت طرقات مبني مجلس الدولة القديم تعرف الرجل وتحفظ ملامحه فى أطر قديمة تزين المكان ومنها صورة التشكيل الأول للمجلس فى العاشر من فبراير 1947 وصور بورتريه له كثانى رئيس للمجلس بعد كامل مرسي باشا حيث تولى المجلس فى فبراير 1949 حتى أبريل 1954. تولاه شامخا قويا فى تصديه لجبروت الملك ومحاولاته لإنهاء حياة مجلس الدولة الوليد الذي أبى رجاله الشرفاء أن يكونوا أداة فى يد الملك فاروق لتكميم حرية الصحافة التى كانت تسلط أضواءها على الفساد المالى والسياسي والأخلاقي فى عهد الملك. ولما لم تكن الحكومة راضية عليه طالبته بالاستقالة إلا أن الجمعية العمومية للمجلس قررت عدم شرعية هذا الطلب فبدأت الوزارة تتحرش بالمجلس من خلال التلاعب فى الترقيات والرواتب. وفى سبتمبر 1951 قرر فاروق أثناء رحلة شهر العسل مع ناريمان إصدار قانون بإلغاء مجلس الدولة وهاجت الدنيا حتى قدم وزير الخارجية محمد صلاح الدين استقالته فلم يجد النحاس باشا سوى الامتثال لرأى الأقلية الرافضة للمرسوم الملكى ليبقى مجلس الدولة وتبقي هيبته التى تمر مغت بعد ذلك على أيد المتظاهرين المأجورين، ويكون السراي الذي شهد جلال صوت السنهورى شاهدا على ضياع هيبته لأن الرجل الذي واجه الملك انحاز بعد ذلك إلى العسكر وكان رجل القضاء فى عهدهم وانتهى به الحال محزونا أسيرا فى شرنقته ليدفع ثمن الخلط بين مهمته كقاض وهواه السياسي.
ففى 29 مارس 1954 خرج طوفان من البشر كانت هتافاتهم مخالفة لكل منطق ولكل حركات المجتمع عبر التاريخ التى كانت تسير دائما نحو المطالبة بالمزيد من الحريات. أما هؤلاء فقد خرجوا يطالبون بسقوط الديمقراطية والدستور ويطالبون بحياة العسكر وبقائهم فى السلطة. صحيح ما أشبه اليوم بالبارحة.
لقد نجح أحمد طعيمة مع إبراهيم الطحاوى فى تسيير مظاهرات ضخمة لمؤازرة عبدالناصر فى مواجهة محمد نجيب وحتى يقر مجلس قيادة الثورة عينا بالسلطة التى جاءته على طبق من ذهب وآثر عدم التفريط فيها. وخرجت المظاهرات المأجورة لتقتص من كل من آزر محمد نجيب وجاء الدور على السنهورى باشا الذي تلقى ضربا مبرحا داخل حرم مجلس الدولة ولولا سكرتيره وبعض الموجودين لكان قد لقى حتفه حتى قيل إنه غادر مجلس الدولة بأعجوبة بعد أن أصيب بكسر مضاعف فى ذراعه وكدمات عديدة فى أنحاء جسده. وفى المستشفى اتهم الرجل الصاغ ناصر بتدبير الاعتداء عليه ورفض لقاء عبدالناصر عندما جاء لزيارته فى المستشفى. لكن شهود الواقعة ابتلعوا لشهادة الحق ولفظت ألسنتهم شهادة الزور استجابة لضغط التهديدات. أما السنهورى المعتدى عليه فقد عانى من خطوات المخبرين الثقيلة التى كانت تراقبه فى كل شاردة وواردة ومنع من السفر لسنوات. وظل هذا الحادث الأليم يلح على ذاكرته ويمر على حلقه بالمرارة ولا يجد أمامه - كما ذكر فى أوراقه - إلا أن يردد قول الرسول «اللهم أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتي وهوانى على الناس».
موظف الجمرك. علامة القانون
السنهورى من مواليد مدينة الإسكندرية عام 1895. توفى والده وهو فى الخامسة من عمره وتركه يتيما فقيرا مع ستة آخرين من الأبناء. لكن من يرغب فى التفوق يدركه مهما كانت الظروف، فقد كان الأول فى الثانوية العامة على القطر المصري عام 1913 كما كان الأول على كل طلبة مدرسة الحقوق الخديوية التى حصل منها على الليسانس 1917 رغم أنه كان يعمل موظفا فى أثناء الدراسة فى جمرك الإسكندرية. ولأنه كان الأول فقد عين وكيلا للنيابة ثم مدرسا بمدرسة القضاء الشرعي ليوفد بعدها فى بعثة إلى فرنسا حيث يعد ثلاث رسائل للدكتوراة.
ويعود الرجل إلى مصر مدرسا للقانون المدنى بالجامعة المصرية لكنه يفصل بعد تأسيسه جمعية الشبان المصريين الداعية إلى الرابطة الشرقية. وفى عام 1935 يذهب إلى العراق بناء على طلب حكومتها وهناك أنشأ كلية الحقوق ووضع مشروع القانون المدنى للدولة. بعدها بعامين عاد عميدا لكلية الحقوق فى مصر. وأسندت إليه وزارة العدل المصرية مهمة وضع مشروع القانون المدنى رافضا الحصول على أى مكافأة تماما، كما وضع قانون ليبيا المدنى 1953 بدون مقابل لأنه لم يكن ساعيا وراء المال لكنه حب العلم الذي تحدث عنه فى مذكراته حين كتب: «رأيت فيما يري النائم أن الغرب تشرق عليه الشمس ساطعة حدقت فيها ثم أدرت وجهى تجاه الشرق فرأيت شمسا أوسع مدى وأسطع نورا وحسبت أنى الذي أنقل هذه الشمس بيدى، شمس الشرق للغرب وكأنى وقتها سمعت صوت العلم يهمس ثم أفقت من نومى». لهذا لم يكن السنهورى الأستاذ الجامعى يبيع كتبه لطلبته داخل الجامعة. هذا ما أخبرني به الكاتب الصحفي عبدالرحمن فهمى الذي كان السنهورى باشا يدرس له فى كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول مادة «الالتزامات» أصعب فروع القانون المدنى. ولصعوبتها كان الطلبة كثيرا ما يترددون على حجرة الباشا بالكلية ولم يكن أبدا يرد طالب علم. بل كان دوما يستقبل الجميع ببشاشة وكان يحرص على حصول طلبته على الملازم مجانا. كان عدد الطلاب محدودا آنذاك وسائر الأساتذة يتعاملون مع طلبتهم بقدر أكبر من التعالى وهم حملة ألقاب الباشوية والبكوية. لكن السنهورى لم يكن مثلهم رغم بلاغته القانونية ومكانته وهو صاحب أهم وأضخم كتاب فى تاريخ القانون «الوسيط» وهو صاحب دستور 1954 الذي لم ير النور حيث مزق داخل مجلس قيادة الثورة لما يحتويه من نص واسع على الحريات. وضرب السنهورى داخل مجلس الدولة وسقط طربوشه على الأرض وداسوه بالأقدام.
لكن هذا لم ينتقص من مقدار الرجل الذي وضع دساتير الدول العربية حديثة الاستقلال ووضع لها قوانينها المدنية. وعندما طلب منه الشيخ زايد وضع الدستور الجديد لدولة الإمارات أوفد عددا من القانونيين كى يقفوا على أحوال البدو فى شتى الولايات حتى يكتب دستورا معبرا عن هؤلاء.
إن السنهورى القانونى لا يضاهيه أحد ولا يختلف عليه اثنان. المستشار مدحت المراغي رئيس محكمة النقض ورئيس محكمة القضاء الأعلى قام بتحديث وتنقيح «الوسيط» بأجزائه العشرة التى أبدعها السنهورى: يصفه بأنه أعظم فقيه قانونى فى تاريخ مصر والأمة العربية ومن أعظم فقهاء القانون على مستوى العالم. فقد وضع موسوعة القانون المدنى المصري الذي لم يحدث بها أى تعديل أو تغيير منذ صدورها عام 1948 وحتى الآن والذي يتشكل من 1160 مادة. وهذا مكمن العبقرية لقد ظل القانون بما فيه من إحكام فى الموضوع والصياغة كما هو لم يتغير فيه إلا مواد التقادم وهو تغيير استدعاه تغير الظروف والأحوال. فالموسوعة رائعة من حيث مضمونها وصياغتها ولغتها العربية المتمكنة التى جعلت صاحبها بأسلوبه المتميز يضاهي بها أهم الأدباء وكيف لا وهو عضو مجمع اللغة العربية فى أوج عظمته و***وانه وبأعضائه اللامعين. جاء الوسيط محكما بعد أن اطلع صاحبه على القوانين الأجنبية فى العالم متمكنا فيما يتصل بالشريعة الإسلامية فى روعة وعبقرية لم تتكرر فى مجال القانون. قام المستشار مدحت المراغى بوضع إضافات إلى الوسيط تمثلت فى كافة أحكام القوانين التى صدرت فى مصر منذ وفاته حتى الطبعة الأخيرة للكتاب، وكذلك أحكام محكمة النقض ومحاكم التمييز العربية فى الكويت ودبي وقطر والبحرين وعمان لتكتمل الموسوعة القانونية التى طلبت العديد من الدول الأجنبية ترجمتها إلى لغاتها ولنا أن نفخر بالقانون المدنى المصري المستمد من الشريعة الإسلامية وكافة القوانين المدنية فى العالم دون مخالفة لأحكام الشريعة ولم يتغير به سوى كلمة «عوائد» بدلا عن «فوائد» وفق ما أفتى به أئمة الفقه الحديث.
الدروس الخصوصية
ومن المضحكات المبكيات فى حياة الرجل أنه بعد توليه وزارة المعارف فى أكثر من وزارة خلال الفترة من 1945 - 1949 اعترف بفشله فى القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية. وقد قام فى أثناء توليه الوزارة بتأسيس جامعة فاروق "الاسكندرية"
السنهورى بين الحق والهوى
لم ينتقص من قيمة وقامة السنهورى رجل القانون سوى موقفه السياسي من ثورة يوليو حتى مع نبل الهدف وهو إيمانه بأن العسكر الثوار خطوة على طريق الإصلاح. لكن المبدأ الميكافيلي يثبت للمرة المليون أنه طريق الهاوية. وكما قال المستشار أحمد مكى فى تحليله لما حدث للسنهورى أن فيما حدث عبرة للقضاة بأنه لا يجوز الخلط بين السياسة والقضاء. بين الحق والهوى.
لقد ساند الفقيه القانونى الثوار ووجد له مخارج قانونية تتيح لهم تنفيذ ما يريدون فوقع رجل القانون فى فخ دهاليز السياسة وأحكامها التى تتغير بتغير أهواء أصحابها فظهر مصطلح «ترزية القوانين». وكانت البداية عندما لجأ إليه عبدالناصر طالبا منه إيجاد حل لأزمة واجهتهم بعد أن تنازل الملك عن العرش لابنه الرضيع وتطلب الأمر تشكيل مجلس وصاية وكان دستور 1923 ينص على أن يقوم مجلس الوصاية بأداء القسم أمام البرلمان ولما كان السنهورى يكره الوفد بأغلبيته البرلمانية وهو الذى استقال من الوفد وخرج عليه بصحبة النقراشي وأحمد ماهر 1937 وكانت له معاركه الشديدة معه. المهم أن السنهورى وجد مخرجا قانونيا لإقصاء الوفد من المشهد لكنه بعد ذلك أدرك أنه ساعد النظام الجديد على وأد الديمقراطية بالتخلص من التعددية بحل الأحزاب. وعندما قرر تدارك الخطأ كان الأوان قد فات.
الإمام الخامس
أما سنوات عمره الأخيرة فقد كرسها السنهورى للشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي - حتى أطلق عليه الفقهاء لقب الإمام الخامس - وقد أنجز خلالها موسوعته المكونة من ست مجلدات «مصادر الحق فى الفقه الإسلامي». وفى عام 1953 أثمرت جهوده افتتاح معهد الدراسات العربية العالمية الذي أراده معهدا لخدمة الفقه الإسلامي وقد بدأ وعيه الإسلامى مبكرا متأثرا بمصطفى كامل وسعد زغلول والكواكبي وجاويش وفريد وجدى. كما تأثر بكتابات محمد عبده والأفغاني.
وعندما كان فى باريس سقطت الخلافة الإسلامية فوضع رسالته بالفرنسية عن الخلافة الإسلامية والتى ترجمتها للعربية ابنته الوحيدة نادية بعد رحيله بسنوات.
كما وضع دراسته «مواد البرنامج» التى تحدث فيها عن طريقة جديدة لدراسة الشريعة الإسلامية ومقارنتها بالشرائع الأخرى حتى يتيسر فتح باب الاجتهاد ونجده يرسم معالم مشروع للنهضة يقول فيه: وددت أن اشترك فى نهضة مالية وسياسية فى مصر، ونهضة لإصلاح طرق التربية والتعليم وإصلاح الأزهر وودت لو تكونت جمعية أمم شرق إسلامية. وفى 21 من يوليو يستسلم الجسد المرهق لرقاد طويل تاركا تراثا قانونيا وفقهيا يجعل عمل صاحبه متصلا مستمرا يثاب عليه كلما نهل منه طالب علم. تماما كما كانت تصله دعوات ابنته نادية. فهى والقانون ذريته التى خلفها فى الحياة الدنيا كما قال هو نفسه:
خلفت بنتا فى حياتي ثم خلفت الولد
فالبنت نادية أتتنى من بعد يأس وكد
وإذا سألت عن الوليد أباه لم يعز كرد
ولدى هو القانون لم أرزقه إلا بعد جهد
_______________________________________________
المصدر الاهرام اليومى عدد 7 ديسمبر 2012
(http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?******=211660&eid=429)