مشاهدة النسخة كاملة : مصر وخيار بافلوف ... شريف عبد العزيز الزهيري


abomokhtar
13-04-2013, 10:07 PM
يعتبر العالم الروسي "إيفان بافلوف" (1849م ـ 1936م) واحدًا من أشهر علماء النفس الفيزيولوجي في العصر الحديث، فهو رائد الأبحاث العلمية حول فيزيولوجيا النشاطات العصبية الحركية، والذي استطاع عبر نشاطاته في هذا الميدان أن يترك آثارًا كبيرة، في نظريات وآراء علماء الفيزيولوجيا وعلم النفس الفيزيولوجي على مدى القرن العشرين برمته، وتعتبر نظرية الإشراط الكلاسيكي من أهم وأبرز نظريات بافلوف، حيث يعتقد "بافلوف" أنَّ الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل الكائنات، ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الكائنات الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي، والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية، فالسلوك الإنساني صناعة تتم وفقًا لمبدأ الاستجابات الشرطية، حيث يمكن لنا التحكم في سلوك الإنسان، وتشريطه وتصنيعه مخبريًا، أو بصورة اجتماعية عندما يتم التحكم بشروط الحياة الاجتماعية. فأفكارنا، ومفاهيمنا، وتصوراتنا، وقيمنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا، وكل جوانب نشاطاتنا النفسية والاجتماعية، هي نتاج لعملية تشريط اجتماعية تربوية بعيدة المدى، وأنه يمكن رسم حدود هذه النشاطات، والتحكم فيها وفقًا لمبدأ الإشراط، ومبدأ الارتكاسات الشرطية، ولقد بين بافلوف أنه يمكن للتشريط الارتكاسي، إيقاع الناس فريسة الأمراض والأوهام النفسية، كما يمكن أيضًا علاجهم عن طريقها.
وعلى الرغم من أنَّ هذه النظرية نظرية طبية، واستخداماتها الأصلية كانت لأغراض علمية طبية، إلا إنها سرعان ما دخلت المجال العسكري وخصوصًا عمل الاستخبارات الحربية، حيث تم تطويرها لتقوم بدور عملية غسيل المخ الجماعي، بوضع الشعوب أو المجموعات المستهدفة، تحت ثلاثة ضغوط رئيسة هي: عزل - ألم - فكر مختلف، وذلك لفترة طويلة.
وهذه النظرية يتم استخدامها بقوة الآن ضد مصر الثورة.
بدراسة تاريخ الثورات المعاصرة والحديثة، يتضح لنا أنَّ أخطر وأهم جزء في حركة هذه الثورات، يتمثل في ترسيم مستقبل العلاقة الدولة الفاعلة والمهيمنة صاحبة النفوذ في دولة ما، مع هذه الدولة، بعد حدوث تغير للنظام السياسي نتيجة الثورة فيها، فالدول الفاعلة صاحب المصالح والنفوذ تكون حريصة على عدم حدوث تغيير حقيقي في أيدلوجية الحكم، وفلسفة النخبة الحاكمة الجديدة، حتى تبقى مصالحها مصانة من مخططات التغيير، وعند استشعار هذه الدول الفاعلة والمهيمنة بأدنى نية لدى النظام الجديد، نحو إعادة ترسيم هذه العلاقة، بنحو يمس بمصالحها أو يحجم نفوذها القديم، فإنها تتحرك سريعا عبر عدة محاور وبدائل لإجهاض هذه المخططات والنوايا.
فقد يكون الخيار أو البديل الأول هو أن تتدخل عسكريًا بقواتها المسلحة للقضاء على الثورة، أو على النظام غير الموالي لها، وتعيين نظام جديد موال، ومن أمثلة ذلك، تدخل الاتحاد السوفيتي عسكريًا في المجر عام 1956م، وغزو واحتلال أفغانستان عام 1979م. وتدخل الولايات المتحدة عسكريًا في بنما بأمريكا الوسطى عام 1989م.
وقد يكون البديل الثاني هو أن تعمل أو تمهد السبيل نحو إحداث انقلاب يطيح بالنظام الجديد، مثل التدخل في إيران «مصدق» عام 1953م، وفى جواتيمالا «أربينز» عام 1954م. وقيام الاتحاد السوفيتي بإحداث أكثر من انقلاب في أفغانستان، الفترة من 1973م حتى نهاية 1979م، ومن بين الأمثلة التي حدثت في عالمنا العربي، قيام فرنسا بالمساعدة في حدوث انقلاب عسكري أدى إلى الإطاحة بجبهة الإنقاذ الإسلامي، في الجزائر عام 1992م، واستبدالها بنظام آخر، وهو ما أدى إلى حدوث صراعات داخلية عنيفة استمرت سنوات طويلة، وتسببت في مئات الآلف من ال***ى والجرحى.
أما أخبث الوسائل وأخطرها، وهو ما يجري اليوم على قدم وساق في مصر، فهو خيار بافلوف، بالعبث بسلوكيات الشعوب، وهو أن تحاصر بلد الثورة عسكريًا واقتصاديًا وماليًا وسياسيًا، حصارًا طويلاً شديدًا، مع إشعار الشعب الذي ثار على النظام القديم -الموالي للدول الفاعلة الأجنبية- بالحرمان الشديد من كل مقومات الحياة الأساسية حتى يصل الشعب إلى المرحلة التي يكفر فيها بالثورة والقائمين عليها، فتفقد الثورة مبررات بقائها، فينقلب الشعب أو الجيش عليها فتنتهي.
وترجع خطورة هذا البديل إلى أنه لا يؤدي إلى تغيير النظام غير الموالي واستبداله بآخر، لكنه يؤدي إلى فقد الشعب الثقة في الأيديولوجيا أو العقيدة التي قام عليها النظام الجديد، وفي حالة مصر هو النظام الإسلامي -هذا لو افترضنا أن الإخوان جماعة إسلامية-، وبالتالي فهذا البديل لا يطبق عادة إلا بالنسبة للثورات التي تستند إلى أيديولوجيا معادية، أو ثورات لها مرجعية دينية.
هذا البديل هو نوع من أنواع غسيل المخ الجماعي، المبني على نظرية بافلوف، بوضع أفراد الشعب المستهدف تحت ضغوط رئيسة لمدة طويلة، تم تجربته بنجاح كبير من دول الكتلة الغربية على إثيوبيا، بعد انقلاب عسكري شيوعي أطاح ب«هيلاسلاسي». لقد استمر النظام الشيوعي 14 سنة تحت الحصار العنيف، ذاق فيها الشعب الإثيوبي الظلم والقهر والجوع والمرض، ومات و*** مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء. وبعد سنوات الحصار ثار الشعب ضد منجستو وضد الشيوعية كأيدلوجية وعقيدة.
هذا الخيار حاول الصهاينة تطبيقه مع الفلسطينيين في قطاع غزة، بعد أن أتت الانتخابات النزيهة بحركة حماس سنة 2005م، وبعد حرب أهلية قصيرة بين حماس وفتح، تم عزل حركة حماس في قطاع غزة، وحاصرت إسرائيل الشعب الفلسطيني في غزة حصارًا عسكريًا واقتصاديًا وماليًا وسياسيًا، شديد ال***، شديد القسوة، كثير الدم.
تهدف إسرائيل إلى دفع الشعب الفلسطيني إلى نبذ المقاومة بصفة عامة، والمقاومة المستندة إلى عقيدة إسلامية بصفة خاصة، حتى يكفر الفلسطينيون وغيرهم، بالثورة وبالفكرة الإسلامية المجاهدة.
خيار بافلوف يجري تطبيقه في مصر منذ وصول الإخوان لسدة الحكم، ورغم ما يتظاهر به الأمريكان من دعم ومساندة لنظام مرسي، إلا إن أمريكا القوة الوحيدة الفاعلة في العالم كله، هي التي تقود تطبيق خيار بافلوف في مصر، فأمريكا هي التي أمرت دول الخليج بقطع المعونات عن مصر، والتضييق على المصريين العاملين بأراضيها، وأمريكا هي التي توحي إلى الاتحاد الأوروبي بوقف المساعدات المقدرة، وتعطيل قرض صندوق النقد الدولي، وهي التي تحرك الدمي السياسية الموجودة في مصر، والتي تتظاهر بالعداء للهيمنة الأمريكية، في الوقت الذي لا تنقطع اللقاءات السرية مع السفيرة الأمريكية، وأرصدتهم البنكية تكاد تميز من ضخامة المبالغ المحولة إليها من بنوك أمريكا، وما زالت الأسماء الحاصلة على التمويل الأمريكي محفوظة ومعروفة لدى المصريين في القضية الشهيرة التي أغلقها العسكر بأوامر عليا.
أمريكا بتطبيقها لخيار بافلوف في مصر تريد أحد أمرين:
إما أن يرضخ الإخوان لمتطلبات الهيمنة الأمريكية، ويسيروا على نفس طريق مبارك المخلوع، من الخضوع للإرادة الأمريكية، والاتساق مع المصالح العليا الأمريكية في المنطقة.
وإما أن يكفر الشعب بالثورة وبالفكرة الإسلامية كلها، ويترحم على أيام مبارك، وسنواته العجاف، وهو ما كثر ذكره هذه الأيام في مصر، مما يدل على صمود الإخوان ومقاومتهم العنيفة للضغوط الأمريكية والخارجية، ولكن ثمة بوادر تلوح في الأفق، تفيد بأن الصمود الإخواني آخذ في الانهيار، ولن يستطيع الإخوان الصمود أكثر من ذلك، إذا لم يرتفع الوعي الشعبي لدى المصريين، في فهم طبيعة المرحلة وما يراد بهم، فالأمر جد خطير.