الأستاذة ام فيصل
30-05-2013, 03:47 PM
عندما يمتزج حب الحبيبه مع حب الوطن
عندما تكون ولدت في ارض يحتلها المغتصب ، فان هذا سيترك
في نفسيتك شغفا لروح العدالة والحق ، فتخوص نفسك في عمق مفاهيم الظلم والاضطهاد
والجبروت والاحتلال ، ستغوص للأسفل لتعود وتخرج كالمارد حاملا معه العدل
والحق والقوه التي تحمي الحق ، فالحق بلا قوه كالروح بلا جسد .
منذ ان كنت صغيرا ومنذ ان ولدت وأنا أسمع عن حيفا ويافا والناصره وبيسان وصفد واللد
والرمله وكل المدن الفلسطينيه التي احتلتها اسرائيل بحماية من مجتمع دولي
ظالم ، ويقترن باسم تلك المدن تحذير من دخول أي عربي لها ، فممنوع دخولها
الا باذن صعب من الاحتلال الاسرائيلي ، أو اذا كنت من العرب الذين بقو فيها
وتم منحهم الهويه الاسرائيليه ، فاسرائيل بعد أن طردت مئات الآلاف من
الفلسطينيين ، بقي من بقي منهم في مدنهم ولم تتمكن اسرائيل من طردهم لكي لا
تظهر بمظهر المطهّر العرقي ، ولكن اسرائيل تمهد منذ عام 1948 للآن لطردهم .
حين
أصبحت في فترة المراهقه ، كنت كالعديد من أقراني ، أحلم بأن أرى حيفا
ويافا والناصره وشقيقاتهما ، لكن كان ذلك صعب جدا ، بسبب الاجرائات المشدده
التي يفرضها الجيش الاسرائيلي ، ومن كوني ولدت في منتصف الثمانينات ، على
أبواب الانتفاضه الأولى وشببت في الانتفاضه الثانيه ، فقد كانت فرصتي لأرى
حيفا وشقيقاتها فرصه ضئيله .
في فتره المراهقه يكون الانسان متخبطا
ويبحث عن صقل شخصيته ، وكما أن هناك مراهقه عاطفيه فهناك أيضا مراهقه
سياسيه ، كانت مراهقتي العاطفيه مع فتاة لم أكن قادرا على تفسير مشاعري
تجاهها ، هل هو حب أم اعجاب أم صداقه واخوه ، لكني حسمت الموضوع في سنتي
المدرسيه الأخيره واعتبرته حب أخوي وطويت صفحته ، ولم أعد أفكر في تلك
الفتاه كحبيبه .
أما بخصوص مراهقتي السياسيه فاستمرت ولم أتمكن من حسمها
مثلما حسمت مراهقتي العاطفيه ، فكنت مؤمن بأن الثوره والسلاح هو عامل مهم
في قضيتي الوطنيه ، وكنت متأكد بأن السلاح يجب أن يبقى بالصداره ولكن ليس
وحده ، بل بجانب الفكر والمنطق ، وكنت ضد الانطلاق بالثوره أو النضال من
منطلق ديني ، لأن قضيتي وطنيه ويجب أن نناضل باسم الوطن ولأجل الوطن ، ولكن
لم أعرف أي حزب سأحمل أفكاره ، هل هو حزب علماني أم علماني اشتراكي ؟؟
دخلت
الجامعه ، وهناك تعرفت على طالبين قدما من منطقة 48 ( عرب 48 / هو اسم
نطلقه على الفلسطينيين الذين يعيشون داخل المدن الفلسطينيه التي احتلتها
اسرائيل عام 1948 ) ، ولم يمكثا بالجامعه سوى شهر لأنهما سافرا الى أوروبا
للالتحاق بجامعات هناك ، ولكن كنت من خلالهم تعرفت على مجموعة شباب من عرب
48 خارج الجامعه .
وجاءت اللحظه الذهبيه ، حيث تمكنت برفقة أحد "
شباب 48 " من التوجه لمشارف حيفا ، ورأيت حيفا عن بعد ، ورأيت الجدار الذي
تبنيه اسرائيل لفصل المدن المحتله عن المدن الأخرى ، كان منظرا مأساويا ،
أنظر لوطني ولمدينة أهلي ولكن ممنوع عليّ الاقتراب ، أرى سهل حيفا وشاطئ
حيفا من بعيد ، أرى البيوت العربيه القديمه المحاطه بمنازل اليهود المحتلين
، أرى علم اسرائيل يرفرف في سماء وطني ، أرى جدارا يفصل الأخ عن أخيه ،
والأم عن ولدها ، وأحيانا الزوجه عن زوجها الذي يعمل بمدينه أخرى ، أرى
الوطن المسلوب في زمان الظلم والغطرسه ، في عالم كاذب يرفع شعار الحريه
والانسانيه في العلن ليدوس الحريه والانسانيه في الخفاء ، أرى أطفالا من
أطفال وطني يلعبون خلسة كي لا تراهم أعين العدو وهم يلهون بأماكن ممنوع
عليهم الاقتراب منها لأنها حكر على أطفال اليهود ، أرى الطيور فقط ، هي
الوحيده التي يمكنها أن تمر من فوق سياج الحدود دون أن يسقطها رصاص
الاحتلال ، أرى كيف يتحول وطن لمنفى ... أشمّ رائحة حيفا الممزوجة برائحة
البحر وبحنية اللاجئين المشردين الحالمين بالعوده ... أسمع الأجداد .. هناك
.. في مخيمات اللاجئين ، يحدّثون أحفادهم عن حيفا ويافا والناصره وعن
فلسطين .. كل فلسطين .
كنت لم أحسم أمري بعد .. أي حزب سياسي سأتبع ؟؟
كانت فتح هي الخيار الأول والأرجح ، لعدة أسباب ، من ضمنها : أن فتح تعتبر
حجر الأساس لكل الفصائل الفلسطينيه ، وفتح حركه واقعيه وتقدر على حمل
السلاح وقلم التفاوض معا ، وفتح تتبع مبدأ التدرج فهي تقبل بقيام دوله
فلسطينيه على حدود عام 1967دون أن تمحى خريطة فلسطين التاريخيه ، وهناك سبب
شخصي وهو أن عمي كان من الفدائيين الفتحاويين الذي شارك بجانب القائد خليل
الوزير أبو جهاد في معركة بيروت ضد الجيش الاسرائيلي ، وعمي الآخر تم أسره
لمدة خمس سنوات لأنه كان يخطط وينفذ عمليات مسلحه ضد الجيش الاسرائيلي مع
رفاقه الفتحاويين ، وعم آخر لي كان مع مجموعة الفهد الأسود الجناح العسكري
لحركة فتح في الانتفاضه الأولى ونفذ عدة عمليات مسلحه ضد الجيش الاسرائيلي
قبل أن يقع أسيرا في قبضتهم ، أما والدي فلقد كان مستقلا ولكنه غرس حب فتح
في قلبي كحركة نضال وأحرار ، " بالمناسبه ، لقد كان والدي من حفظة القرآن
ولكنه لم يكن متزمت بالدين ، بل كان رجلا حضاريا ومثقفا في كل المجالات
لدرجة أني لا أذكر أن أحدا سأله سؤال ولم يجب الا ما ندر " .
لذلك كانت
فتح هي الخيار الأرجح عندي ولكني لم أحسم أمري .
في السنه الأولى لمعظم
طلاب الجامعه ، يكون الطلبه قليلي التواجد في كلياتهم نظرا للمواد الحره
التي يأخذوها ، ومع بداية السنه الجامعيه الثانيه يكون الطلاب دائمي
التواجد في كلياتهم ، وقد كنت أنا طالبا في كلية القانون ، وكان مبنى كلية
القانون وكلية العلوم والآداب مبنى واحد .
وجاء اللقاء الرائع ..
فلقد كنت داخلا من باب الكليه ، فالتقت عيناي بعيون شابه .. تمسمرت في
مكاني عندما رأيتها ، كأني كنت أبحث عن شئ ضائع فوجدته ، كأنها ضوء أضاء لي
في الظلمه ، أحيانا كثيره تعبر العيون عن كلمات عديده وتختصر عبارات
وعبارات ، فكأن العين تعكس أحاسيس باطنة فينا ، حوالي دقيقه وأنا أتبادل
النظرات معها ، لا أدري ما السحر الرائع الذي وجدته فيها ، انتهت النظره مع
صوت زميلي يناديني للدخول للمحاضره ، دخلت المحاضره ولم أسمع كلمه واحده
من الدكتور ، فلقد كان عقلي وذهني وتفكيري بتلك الشابه التي لم أعرف عنها
سوى أنها طالبه "عرفت ذلك من شنطة الكتب التي كانت تحملها " ، عرفت لا حقا
أنها طالبه في كلية العلوم والآداب سنه ثانيه في أحد التخصصات ، واسمها (
لا أريد ذكره ) ، أسرتها من عرب 48 ويسكنون في احدى مدن الضفه .
استمرينا
في تبادل النظرات اليوميه ، حتى كلمتها لأول مره واستمر بعدها حديثنا على
الموبايل أو في مكان نائي بالجامعه لكي لا تشاهدها احدى صديقاتها معي ، فقد
كانت من أسره محافظه ، اكتشفت أنه تجمعنا أفكار متشابهة وتقارب عجيب ،
فالحب مثل السحر .. تشعر وكأنك وجدت نصفك الضائع ، كانت شابه محافظه محترمه
.. مسلمه لا ترتدي الحجاب ، استمر لقائنا وحديثنا ولم نكن نشطح بالأحلام
ولكنا كنا على يقين بأننا سنكون معا ، كان الاسم الذي اسميها به على
موبايلي هو" ليلى " ، فأنا لم أكن أخبر أحدا بأموري العاطفيه ، لأني
أعتبرها أمر شخصي وجدّي للغايه ، ولم يكن أحدا يعلم بعلاقتي مع " ليلى "
سوى صديقي المقرّب والذي كانت شقيقته من صديقات " ليلى " ، وفي احدى
الأيام سرق أو ضاع موبايل شقيقتي ولم أهتم بموبايل شقيقتي بقدر ما اهتممت
بالبحث عن موبايلي خشية أن يكون قد سرق ( الخوف على الأرقام وبالذات رقم
ليلى ) عل فكره ، لقد أصبح اسم ليلى هو الاسم الذي أطلقه عليها أكثر من
اسمها الحقيقي .
كنت أنا من أسرة متوسطة الحاله الماديه ، ولم أتمكن من
أن أكون طالبا منتظما بل كنت أعمل على تأجيل بعض الفصول ، أما " ليلى " فقد
استمرت بالدراسه حتى تخرجت ، وكانت علاقتنا على أفضل ما يكون .
مضت
الأيام ، وفي احدى الليالي كنت سهرانا في منزل أحد الأصدقاء مع " شلّة
الصحاب " ، كنا نلعب الشده ، ونتسامر ودخان الأرجيله يملأ المكان ، وصوت
ضحكتنا يصل لبعيد ، لدرجة أن صديقي قال لي : " الله يسترك من هالليله ..
لأنك ضحكت كثير " .
انتهت السهره وعدنا لأدراجنا ، وأثناء عودتي للبيت
كنت أتصل على موبايل ليلى ولكن لا أحد يجيب ، وبعد دقائق اتصل بي صديقي
المقرّب ، ولأنه يعرف مالي من قدره هائله على التحمل / حقيقة بدون أي
مبالغه ، قال لي مباشرة : " ليلى صار معها حادث وماتت " ... انه الموت
مجددا ، وهذا المره سرق مني أغلى ما لديّ .
كان للموت معي تجارب ،
بدأت بوفاة عمي في حادث سير ، كان عمري حينها 12 عاما ، وكان ذاك اليوم
الذي رحل فيه عمي ورقد جثمانه في القبر ، كان آخر يوم أبكي فيه ، لأني قررت
بعدها أن لا تنزل دمعتي وأن أكون عصي الدمع ، فلقد كان لدي قرار بأن الرجل
يجب أن لا يبكي سوى في سرّه ، وهو قرار خاطئ بالمناسبه ، الا أنه بقي في
أعماقي حتى أصبحت عصي الدمع بالعلن والخفاء ، وبدون أي مبالغه فقد ودّعت
البكاء بقلب جسور تختلج المشاعر بداخله ، وفي سنتي الجامعيه الأولى توفي
أحد أصدقائي الذي توجه للدراسه في أوروبا ، وبعد ثلاث سنوات توفي والدي ،
ولم أبكي عليه طبعا لأني صرت عصي الدمع ، ولكن والدي ترك جرحا كبيرا بقلبي
لا تداويه الأيام ، فلقد كان رجلا حرّا بكل ما للكلمة من معنى ، ثم جاء موت
" ليلى " وأطفأ شعلة الفرح بحياتي .
سياسيا وحزبيا كنت قد التحقت
بالجبهة الشعبيه لتحرير فلسطين لمدة أشهر ثم تركتهم لأنهم " مع احترامي "
يعيشون في أحلام الاشتراكيه ، واخترت طريقي ، انه طريق الفتح .. فاخترت
حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح وحملت أفكارها .
كان ايجادي لخيار
فتح مثل لقائي بحب ليلى ، وكما أن حب ليلى لن يموت في قلبي ، فان خيار حركة
فتح لن يزول من رؤيتي الثوريه والسياسيه .
استجمعت قواي ولملمت جراحي ،
وصممت أن يبقى حب ليلى في قلبي أملا لحياتي ، فلن أمنح روحي لسواها حتى لو
منحت جسدي لأنثى غيرها .
وكما سيبقى عشقها بقلبي ، فسيبقى عشق كل
فلسطين بقلبي
وكما ستبقى روحها معي ، فسيبقى أمل عودة كل لاجئ لفلسطين
.. حتى لو عاد أحفاده
وكما سيبقى اسمها عنواني ، قستبقى حيفا ويافا
والناصره وكل فلسطين عنوان كل عربي
وكما سيبقى اخلاصي لها ، فسيبقى
مفتاح بيت كل لاجئ معه حتى يعود هو أو أحفاده لأرضه
واذا كنت لا أنسى
ذكراها ، فلن تكون فلسطين ذكرى .. بل الماضي والحاضر والمستقبل
واذا
كان الأحرار منقسمين بين مؤمنين وغير مؤمنيين بوجود لقاء بعد الموت ، فكل
الأحرار مؤمنين بوجود لقاء في فلسطين
عندما تكون ولدت في ارض يحتلها المغتصب ، فان هذا سيترك
في نفسيتك شغفا لروح العدالة والحق ، فتخوص نفسك في عمق مفاهيم الظلم والاضطهاد
والجبروت والاحتلال ، ستغوص للأسفل لتعود وتخرج كالمارد حاملا معه العدل
والحق والقوه التي تحمي الحق ، فالحق بلا قوه كالروح بلا جسد .
منذ ان كنت صغيرا ومنذ ان ولدت وأنا أسمع عن حيفا ويافا والناصره وبيسان وصفد واللد
والرمله وكل المدن الفلسطينيه التي احتلتها اسرائيل بحماية من مجتمع دولي
ظالم ، ويقترن باسم تلك المدن تحذير من دخول أي عربي لها ، فممنوع دخولها
الا باذن صعب من الاحتلال الاسرائيلي ، أو اذا كنت من العرب الذين بقو فيها
وتم منحهم الهويه الاسرائيليه ، فاسرائيل بعد أن طردت مئات الآلاف من
الفلسطينيين ، بقي من بقي منهم في مدنهم ولم تتمكن اسرائيل من طردهم لكي لا
تظهر بمظهر المطهّر العرقي ، ولكن اسرائيل تمهد منذ عام 1948 للآن لطردهم .
حين
أصبحت في فترة المراهقه ، كنت كالعديد من أقراني ، أحلم بأن أرى حيفا
ويافا والناصره وشقيقاتهما ، لكن كان ذلك صعب جدا ، بسبب الاجرائات المشدده
التي يفرضها الجيش الاسرائيلي ، ومن كوني ولدت في منتصف الثمانينات ، على
أبواب الانتفاضه الأولى وشببت في الانتفاضه الثانيه ، فقد كانت فرصتي لأرى
حيفا وشقيقاتها فرصه ضئيله .
في فتره المراهقه يكون الانسان متخبطا
ويبحث عن صقل شخصيته ، وكما أن هناك مراهقه عاطفيه فهناك أيضا مراهقه
سياسيه ، كانت مراهقتي العاطفيه مع فتاة لم أكن قادرا على تفسير مشاعري
تجاهها ، هل هو حب أم اعجاب أم صداقه واخوه ، لكني حسمت الموضوع في سنتي
المدرسيه الأخيره واعتبرته حب أخوي وطويت صفحته ، ولم أعد أفكر في تلك
الفتاه كحبيبه .
أما بخصوص مراهقتي السياسيه فاستمرت ولم أتمكن من حسمها
مثلما حسمت مراهقتي العاطفيه ، فكنت مؤمن بأن الثوره والسلاح هو عامل مهم
في قضيتي الوطنيه ، وكنت متأكد بأن السلاح يجب أن يبقى بالصداره ولكن ليس
وحده ، بل بجانب الفكر والمنطق ، وكنت ضد الانطلاق بالثوره أو النضال من
منطلق ديني ، لأن قضيتي وطنيه ويجب أن نناضل باسم الوطن ولأجل الوطن ، ولكن
لم أعرف أي حزب سأحمل أفكاره ، هل هو حزب علماني أم علماني اشتراكي ؟؟
دخلت
الجامعه ، وهناك تعرفت على طالبين قدما من منطقة 48 ( عرب 48 / هو اسم
نطلقه على الفلسطينيين الذين يعيشون داخل المدن الفلسطينيه التي احتلتها
اسرائيل عام 1948 ) ، ولم يمكثا بالجامعه سوى شهر لأنهما سافرا الى أوروبا
للالتحاق بجامعات هناك ، ولكن كنت من خلالهم تعرفت على مجموعة شباب من عرب
48 خارج الجامعه .
وجاءت اللحظه الذهبيه ، حيث تمكنت برفقة أحد "
شباب 48 " من التوجه لمشارف حيفا ، ورأيت حيفا عن بعد ، ورأيت الجدار الذي
تبنيه اسرائيل لفصل المدن المحتله عن المدن الأخرى ، كان منظرا مأساويا ،
أنظر لوطني ولمدينة أهلي ولكن ممنوع عليّ الاقتراب ، أرى سهل حيفا وشاطئ
حيفا من بعيد ، أرى البيوت العربيه القديمه المحاطه بمنازل اليهود المحتلين
، أرى علم اسرائيل يرفرف في سماء وطني ، أرى جدارا يفصل الأخ عن أخيه ،
والأم عن ولدها ، وأحيانا الزوجه عن زوجها الذي يعمل بمدينه أخرى ، أرى
الوطن المسلوب في زمان الظلم والغطرسه ، في عالم كاذب يرفع شعار الحريه
والانسانيه في العلن ليدوس الحريه والانسانيه في الخفاء ، أرى أطفالا من
أطفال وطني يلعبون خلسة كي لا تراهم أعين العدو وهم يلهون بأماكن ممنوع
عليهم الاقتراب منها لأنها حكر على أطفال اليهود ، أرى الطيور فقط ، هي
الوحيده التي يمكنها أن تمر من فوق سياج الحدود دون أن يسقطها رصاص
الاحتلال ، أرى كيف يتحول وطن لمنفى ... أشمّ رائحة حيفا الممزوجة برائحة
البحر وبحنية اللاجئين المشردين الحالمين بالعوده ... أسمع الأجداد .. هناك
.. في مخيمات اللاجئين ، يحدّثون أحفادهم عن حيفا ويافا والناصره وعن
فلسطين .. كل فلسطين .
كنت لم أحسم أمري بعد .. أي حزب سياسي سأتبع ؟؟
كانت فتح هي الخيار الأول والأرجح ، لعدة أسباب ، من ضمنها : أن فتح تعتبر
حجر الأساس لكل الفصائل الفلسطينيه ، وفتح حركه واقعيه وتقدر على حمل
السلاح وقلم التفاوض معا ، وفتح تتبع مبدأ التدرج فهي تقبل بقيام دوله
فلسطينيه على حدود عام 1967دون أن تمحى خريطة فلسطين التاريخيه ، وهناك سبب
شخصي وهو أن عمي كان من الفدائيين الفتحاويين الذي شارك بجانب القائد خليل
الوزير أبو جهاد في معركة بيروت ضد الجيش الاسرائيلي ، وعمي الآخر تم أسره
لمدة خمس سنوات لأنه كان يخطط وينفذ عمليات مسلحه ضد الجيش الاسرائيلي مع
رفاقه الفتحاويين ، وعم آخر لي كان مع مجموعة الفهد الأسود الجناح العسكري
لحركة فتح في الانتفاضه الأولى ونفذ عدة عمليات مسلحه ضد الجيش الاسرائيلي
قبل أن يقع أسيرا في قبضتهم ، أما والدي فلقد كان مستقلا ولكنه غرس حب فتح
في قلبي كحركة نضال وأحرار ، " بالمناسبه ، لقد كان والدي من حفظة القرآن
ولكنه لم يكن متزمت بالدين ، بل كان رجلا حضاريا ومثقفا في كل المجالات
لدرجة أني لا أذكر أن أحدا سأله سؤال ولم يجب الا ما ندر " .
لذلك كانت
فتح هي الخيار الأرجح عندي ولكني لم أحسم أمري .
في السنه الأولى لمعظم
طلاب الجامعه ، يكون الطلبه قليلي التواجد في كلياتهم نظرا للمواد الحره
التي يأخذوها ، ومع بداية السنه الجامعيه الثانيه يكون الطلاب دائمي
التواجد في كلياتهم ، وقد كنت أنا طالبا في كلية القانون ، وكان مبنى كلية
القانون وكلية العلوم والآداب مبنى واحد .
وجاء اللقاء الرائع ..
فلقد كنت داخلا من باب الكليه ، فالتقت عيناي بعيون شابه .. تمسمرت في
مكاني عندما رأيتها ، كأني كنت أبحث عن شئ ضائع فوجدته ، كأنها ضوء أضاء لي
في الظلمه ، أحيانا كثيره تعبر العيون عن كلمات عديده وتختصر عبارات
وعبارات ، فكأن العين تعكس أحاسيس باطنة فينا ، حوالي دقيقه وأنا أتبادل
النظرات معها ، لا أدري ما السحر الرائع الذي وجدته فيها ، انتهت النظره مع
صوت زميلي يناديني للدخول للمحاضره ، دخلت المحاضره ولم أسمع كلمه واحده
من الدكتور ، فلقد كان عقلي وذهني وتفكيري بتلك الشابه التي لم أعرف عنها
سوى أنها طالبه "عرفت ذلك من شنطة الكتب التي كانت تحملها " ، عرفت لا حقا
أنها طالبه في كلية العلوم والآداب سنه ثانيه في أحد التخصصات ، واسمها (
لا أريد ذكره ) ، أسرتها من عرب 48 ويسكنون في احدى مدن الضفه .
استمرينا
في تبادل النظرات اليوميه ، حتى كلمتها لأول مره واستمر بعدها حديثنا على
الموبايل أو في مكان نائي بالجامعه لكي لا تشاهدها احدى صديقاتها معي ، فقد
كانت من أسره محافظه ، اكتشفت أنه تجمعنا أفكار متشابهة وتقارب عجيب ،
فالحب مثل السحر .. تشعر وكأنك وجدت نصفك الضائع ، كانت شابه محافظه محترمه
.. مسلمه لا ترتدي الحجاب ، استمر لقائنا وحديثنا ولم نكن نشطح بالأحلام
ولكنا كنا على يقين بأننا سنكون معا ، كان الاسم الذي اسميها به على
موبايلي هو" ليلى " ، فأنا لم أكن أخبر أحدا بأموري العاطفيه ، لأني
أعتبرها أمر شخصي وجدّي للغايه ، ولم يكن أحدا يعلم بعلاقتي مع " ليلى "
سوى صديقي المقرّب والذي كانت شقيقته من صديقات " ليلى " ، وفي احدى
الأيام سرق أو ضاع موبايل شقيقتي ولم أهتم بموبايل شقيقتي بقدر ما اهتممت
بالبحث عن موبايلي خشية أن يكون قد سرق ( الخوف على الأرقام وبالذات رقم
ليلى ) عل فكره ، لقد أصبح اسم ليلى هو الاسم الذي أطلقه عليها أكثر من
اسمها الحقيقي .
كنت أنا من أسرة متوسطة الحاله الماديه ، ولم أتمكن من
أن أكون طالبا منتظما بل كنت أعمل على تأجيل بعض الفصول ، أما " ليلى " فقد
استمرت بالدراسه حتى تخرجت ، وكانت علاقتنا على أفضل ما يكون .
مضت
الأيام ، وفي احدى الليالي كنت سهرانا في منزل أحد الأصدقاء مع " شلّة
الصحاب " ، كنا نلعب الشده ، ونتسامر ودخان الأرجيله يملأ المكان ، وصوت
ضحكتنا يصل لبعيد ، لدرجة أن صديقي قال لي : " الله يسترك من هالليله ..
لأنك ضحكت كثير " .
انتهت السهره وعدنا لأدراجنا ، وأثناء عودتي للبيت
كنت أتصل على موبايل ليلى ولكن لا أحد يجيب ، وبعد دقائق اتصل بي صديقي
المقرّب ، ولأنه يعرف مالي من قدره هائله على التحمل / حقيقة بدون أي
مبالغه ، قال لي مباشرة : " ليلى صار معها حادث وماتت " ... انه الموت
مجددا ، وهذا المره سرق مني أغلى ما لديّ .
كان للموت معي تجارب ،
بدأت بوفاة عمي في حادث سير ، كان عمري حينها 12 عاما ، وكان ذاك اليوم
الذي رحل فيه عمي ورقد جثمانه في القبر ، كان آخر يوم أبكي فيه ، لأني قررت
بعدها أن لا تنزل دمعتي وأن أكون عصي الدمع ، فلقد كان لدي قرار بأن الرجل
يجب أن لا يبكي سوى في سرّه ، وهو قرار خاطئ بالمناسبه ، الا أنه بقي في
أعماقي حتى أصبحت عصي الدمع بالعلن والخفاء ، وبدون أي مبالغه فقد ودّعت
البكاء بقلب جسور تختلج المشاعر بداخله ، وفي سنتي الجامعيه الأولى توفي
أحد أصدقائي الذي توجه للدراسه في أوروبا ، وبعد ثلاث سنوات توفي والدي ،
ولم أبكي عليه طبعا لأني صرت عصي الدمع ، ولكن والدي ترك جرحا كبيرا بقلبي
لا تداويه الأيام ، فلقد كان رجلا حرّا بكل ما للكلمة من معنى ، ثم جاء موت
" ليلى " وأطفأ شعلة الفرح بحياتي .
سياسيا وحزبيا كنت قد التحقت
بالجبهة الشعبيه لتحرير فلسطين لمدة أشهر ثم تركتهم لأنهم " مع احترامي "
يعيشون في أحلام الاشتراكيه ، واخترت طريقي ، انه طريق الفتح .. فاخترت
حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح وحملت أفكارها .
كان ايجادي لخيار
فتح مثل لقائي بحب ليلى ، وكما أن حب ليلى لن يموت في قلبي ، فان خيار حركة
فتح لن يزول من رؤيتي الثوريه والسياسيه .
استجمعت قواي ولملمت جراحي ،
وصممت أن يبقى حب ليلى في قلبي أملا لحياتي ، فلن أمنح روحي لسواها حتى لو
منحت جسدي لأنثى غيرها .
وكما سيبقى عشقها بقلبي ، فسيبقى عشق كل
فلسطين بقلبي
وكما ستبقى روحها معي ، فسيبقى أمل عودة كل لاجئ لفلسطين
.. حتى لو عاد أحفاده
وكما سيبقى اسمها عنواني ، قستبقى حيفا ويافا
والناصره وكل فلسطين عنوان كل عربي
وكما سيبقى اخلاصي لها ، فسيبقى
مفتاح بيت كل لاجئ معه حتى يعود هو أو أحفاده لأرضه
واذا كنت لا أنسى
ذكراها ، فلن تكون فلسطين ذكرى .. بل الماضي والحاضر والمستقبل
واذا
كان الأحرار منقسمين بين مؤمنين وغير مؤمنيين بوجود لقاء بعد الموت ، فكل
الأحرار مؤمنين بوجود لقاء في فلسطين