مشاهدة النسخة كاملة : موسوعة الأنبياء فى القراءن الكريم


صوت الحق
28-06-2008, 09:41 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين
باذن الله نبداء موسوعة الأنبياء فى القراءن الكريم لكى يستفاد منها وتكون نبراسا لنا فى هذه الدنيا
يارب تقبل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم

صوت الحق
28-06-2008, 09:46 AM
النبي محمد (ص) حبيب الله

العالم قبل النبي محمد(ص)

بعث الله موسى(ع) نبياً مرسلاً، يهدي الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويأمرهم بالعدل، لينقذهم من ظلم الفراعنة والطواغيت، فجاءهم بالتوراة، فيها مالهم وما عليهم.
وبعد انتقال موسى(ع) إلى جوار ربه، راح أحبار اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه، ويستغلون الدين لأطماعهم الشخصية، ضاربين عرض الحائط بتعاليم موسى(ع) خصوصاً مابشر به من نبي يأتي من بعده اسمه عيسى.
ولما بعث الله عيسى(ع) لتهذيب الأخلاق وتطهير النفوس، وزرع المحبة بين أبناء البشر، في ظلال عقيدة التوحيد، وليبشر بنبي يأتي بعده إسمه أحمد، دخل جماعة من اليهود في الدين الجديد، وراحوا يعملون على تحريفه واستغلاله، تماماً كما فعلوا بدين موسى(ع)، حتى أصبح تحت تأثير رجال الكنيسة غير المؤمنين، سيفاً مصلتاً على رقاب الناس، خصوصاً المثقفين.
وهكذا، عاشت البشرية انحطاطاً مخيفاً، في شتى شؤونها الحياتية، وساد الظلم والفساد، وعاد الناس إلى الشرك وعبادة الأصنام، وباتوا يؤمنون بالخرافات والأساطير، وكأني بهم يهربون من واقعهم الأليم.
وكان شأن سكان الجزيرة العربية. شأن معظم الناس في ذلك العصر، فسيطر عليهم، ماسيطر على الناس، وسادتهم روح القبلية والنزاع، وعمهم الظلم والفساد والتردي، وباتوا على شفا جرفٍ هارٍ.

الوليد المبارك

بعد ضياع وفساد استمرا ردحاً من الزمن، وفي العام الذي سمي بعام الفيل، ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، في قبيلة قريش في العام سبعين وخمسمئة للميلاد. وكان ذلك الحدث العظيم بعد شهر تقريباً من حادثة أصحاب الفيل، المشهورة.
كان عبد الله بن عبد المطلب، والد محمد، يعمل في التجارة إلى الشام، فوافته المنية أثناء عودته من إحدى رحلاته، وكانت زوجته آمنة بنت وهب، من بني عدي بن النجار، حاملاً، فلم يقدر للوليد الجديد أن يرى أباه.
ولما كان من عادة العرب في مكة أن يسترضعوا لأولادهم نساء أهل البادية، طلباً للفروسية والفصاحة، فقد عرض محمد على مرضعة من قبيلة بني سعد بن بكر اسمها حليمة، فتبرمت به، لكونه يتيماً، ويشاء الله ان ترضعه حليمة، إذ يشير عليها زوجها أن تأخذ الطفل، عسى أن يكون لهما في إرضاعه خير.. وفعلاً، فقد حلّت بركة الوليد المصطفى، في الحي الذي تسكنه حليمة، وعمّ الخير في ربوعه. ويوماً بعد يوم، كانت تظهر عظمة الطفل المبارك، حتى أن حليمة وزوجها كانا يودان أن يبقى محمد عندهما، حتى بعد مابلغ سن الفطام.
ولما بلغ محمد الخامسة من عمره، أعيد إلى حضن أمه آمنة، لترعاه أحسن ماتكون الرعاية. فتأخذه معها إلى أخواله بني النجار في يثرب، حتى وافتها المنية وهي في طريق عودتها، ودفنت في الأبواء بين مكة والمدينة، ومحمد لايزال في السادسة من عمره، فعادت به أم أيمن جارية آمنة إلى جده عبد المطلب.
كفل عبد المطلب محمداً، ووفر له العطف والحنان والعناية اللازمة، لما كان يتوسم فيه من الشأن العظيم، ولكنه توفي ومحمد لايزال في الثامنة من عمره، فتولّى أبو طالب عمّ محمد رعايته، وأحاطه بعناية لم يحظ بها أحد من أبنائه، حتى أنّه كان يصحبه معه في تجارته إلى الشام.
وزاد تعلق أبي طالب بمحمد، بعد أن قال له الراهب بحيرا، وكان عالماً بالتوراة والانجيل، وقد راى محمداً، قال له: إن ابن أخيك هذا نبي هذه الأمة، فاحذر عليه من اليهود.
بلغ محمد مبلغ الشباب، فكان مثالاً لكل الصفات الأخلاقية النبيلة، فوجدت فيه قريش، وكذلك أهل مكة، سيداً من ساداتهم، ومرجعاً لهم في الملمات، وكانت له اليد الطولى في عقد حلف الفضول، لمناصرة المظلومين ومحاربة العدوان من أي مصدر كان.

علامات النبوة

سمعت خديجة بنت خويلد، وهي من أشراف قريش، سمعت بما يتمتع به محمد بن عبد الله، من الصدق والأمانة والأخلاق العالية، فأعجبت به، وودّت لو يبادلها محمد هذا الشعور، فدعته إلى الذهاب في تجارتها إلى الشام. لقاء أجر يعادل ضعفي ماكانت تعطيه للآخرين، فقبل محمد واتّجر لها، فنجحت الرحلة نجاحاً باهراً، وانتهى الأمر بعدها بزواج محمد من خديجة.
ورغم أن خديجة بنت خويلد كانت على أبواب الأربعين من عمرها، فيما كان محمد في ريعان الشباب، فإن زواجهما حقّق أروح تلاحم عاطفي أساسه الحب والاحترام المتبادل، وأثمر عدداً من الأولاد، ذكوراً وإناثاً، إذ ولد لهما القاسم، وبه كان محمد يكنى، ثم إبراهيم، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وعبد الله وفاطمة. ولكن مشيئة الله سبحانه قضت أن لايبقى منهم على قيد الحياة سوى فاطمة.
بعد أن تزوج محمد تركزت شخصيته الاجتماعية، وتعززت وتجلّت يوم اختلاف القبائل في وضع الحجر الأسود، بعد إعادة بناء الكعبة المشرفة، إثر السيل الجارف والحريق اللذين تعرضت لهما.. فما أن طلع عليهم محمد حتى قالوا: هذا الأمين رضينا به حكماً بيننا.. وقصوا عليه ماهم فيه من الخلاف، فما كان منه إلا أن وضع الحجر في ثوب، ثم أمرهم أن تأخذ كل قبيلة منهم بطرف، ليرفعوا الحجر ويضعوه في مكانه فيكون الجميع مشتركين في وضعه.
وبدأت علامات النبوة تظهر على محمد. فها هو ينقطع في غار حراء، شهراً كاملاً، من كل عام، يقضيه في التأمل والتفكر، بعيداً عن الصراعات القبلية والفساد. ولما بلغ الأربعين من العمر، أنزل الله سبحانه جبرائيل(ع) ليتلو على محمد(ص) أول بيان من الرسالة الخاتمة: {إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الانسان مالم يعلم}.
كان لهذا البيان العظيم أثره في قلب حبيب الله وفيه نفسه، وهو الذي لم يتعلّم القراءة ولا الكتابة، فعاد إلى بيته، وتدثر في فراشه، فأنزل الله عليه البيان الثاني: {ياأيها المدثّر قم فأنذر وربك فكبّر وثيابك فطهر والرجز فاهجر}.
وهكذا كان الأمر الالهي للنبي محمد (ص) واضحاً بحمل الرسالة، والقيام بأعباء الدعوة إلى الله.

النبي يدعو وقريش تراوغ

عرض رسول الله محمد(ص) دعوته على زوجه خديجة (رض) وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب، فآمنا بها، وتابع النبي دعوته، فآمن معه أربعون شخصاً، أغلبهم من الشباب. فاتخذ النبي(ص) دار الأرقم المخزومي، مركزاً يعلّم فيه المؤمنين القرآن.
وبعد ثلاث سنوات أمر الله سبحانه حبيبه محمداً (ص) بأن {أنذر عشيرتك الأقربين} فدعا النبي عشيرته إلى طعام، وما أن أراد محمد (ص) أن يحدثهم، وكانوا قد علموا بأمره، حتى قاطعه عمه أبو لهب، وحذره من الإستمرار في دعوته.
وانفضّ الاجتماع، قبل أن يتم محمد كلامه، فعاد الأمر الالهي: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} فأعاد (ص) الكرة ثانية فدعا عشيرته وأولم لهم، وماكادوا يفرغون من الطعام، حتى بادرهم عليه الصلاة والسلام بقوله: "يابني عبد المطلب، إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة... وأنا أدعوكم الى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون من النار: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله... أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى. قال(ص): فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد... أنقذوا أنفسكم من النار".
وقاطعة أبو لهب ثانية، وقال له: تباً لك، ألهذا دعوتنا! فأنزل الله سبحانه على حبيبه: {تبّت يدا أبي لهبٍ وتب. ماأغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى ناراً ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد}.
دخل جماعة من قريش في الاسلام، واخذت الدعوة المحمدية تشق طريقها في المجتمع، وراح أنصارها يزدادون يوماً بعد يوم، فاعتبر زعماء قريش أنّ ذلك خطر يتهدد مصالحهم الذاتية وزعاماتهم، وجاهروا بعدائهم للنبي وللإسلام، وسلكوا سبيل الحطّ من شأن الرسول وتكذيب دعوته، وراحوا يهزؤون به قائلين: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وأعناب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء}.
ولم يكن هذا الأسلوب اللئيم في المحاربة، ليثني النبي العظيم عن تبليغ رسالة ربه، وواصل دعوته بإصرار غير مكترث بسخرية زعماء قريش، فعمدوا، كما يعمد أعداء الله اليوم، إلى التضليل الاعلامي، وترويج الاشاعات الكاذبة، ضد النبي وأتباعه، فمرة يصفونه بالكذاب، وأخرى بالشاعر، وثالثة بالساحر، حتى بلغت إشاعاتهم الحبشة وسواها، وهم يهدفون إلى عزل جبيب الله عن المجتمع، وإبعاد القاعدة الشعبية عنه وعن الدين الجديد.
ولم تنفع كل تلك الإشاعات والإفتراءات وأساليب التضليل، وظلَّ الناس يتهافتون على النبي(ص) تهافت الفراش على النور، فلجأ زعماء قريش إلى أسلوب الإغراء والمساومة، فأرسلوا عتبة بن ربيعة ليقول للنبي(ص): يابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد بما جئت به شرفاً، سودناك علينا، حتى لاينقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا.
وجاء الردّ من النبي(ص) فقال: "أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. فقال(ص): فاسمع مني: {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لايسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل فاننا عاملون}.
وتابع النبي(ص) حتى بلغ موضع السجدة فسجد، وعتبة يسمع ويرى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: قد سمعت يا أبا الوليد ماسمعت، فأنت وذاك".
عاد عتبة مرتبكاً، فرآه أصحابه فقالوا: لقد عاد أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال لهم: "إني قد سمعت وقولاً، والله ماسمعت مثله قط... والله ماهو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة". وراح عتبة يدعوهم إلى التخلي عن مواجهة النبي، وتركه وشأنه، فقالوا له: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
ثم إنّ زعماء قريش أرسلوا إلى النبي(ص) وفداً منهم، ليعرضوا عليه المغريات فما كان قوله إلا أن قال: "ماجئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم".
قريش تؤذي النبي وأصحابه

لم تؤثر إغراءات زعماء قريش في النبي محمد(ص) وتابع دعوته وتهزئ أوثانهم، فلجأوا إلى أسلوب الضغط والحصار... فجاؤوا إلى عمه أبي طالب وقالوا له: والله لانصبر على تسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنّا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين.
وفاتح أبو طالب ابن أخيه بالأمر فقال النبي(ص): "ياعمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري. على أن أترك هذا الأمر، ماتركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه".
رأى زعماء قريش صلابة موقف النبي واستعداده للتضحية، حتى بحياته في سبيل الله، فرجموا بيته بالحجارة، ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا التراب على رأسه، وسلطوا صبيانهم ومجانينهم عليه، يلاحقونه، كما عمدوا إلى إيذاء أصحابه(رض) وملاحقتهم، فألقوا القبض على بلال الحبشي، مؤذن النبي، وألقوه على ظهره عارياً فوق رمال الصحراء الحامية، ووضعوا حجراً ثقيلاً على بطنه قائلين له: لاتزال كذلك حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللاّت والعزّى.
كذلك القوا القبض على ياسر وزوجته وانبهما عمار، وراحوا يعذبونه حتى يردوهم عن دينهم، دون جدوى.
واحتمل النبي(ص) كل ذلك بالصبر، واحتسبه عند الله، وكان صلوات الله عليه يقول: "ماأوذي نبي مثل ماأوذيت" ويأمر أصحابه بالصبر والثبات، حتى يأتي الله بأمره ويقول لهم: "قد كان من قبلكم لتمشط بأمشاط الحديد مادون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه... وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما يخاف إلا الله عزوجل".

الهجرة إلى الحبشة ثانية

ولما زادت مضايقات قريش للنبي وأتباعه، رأى النبي(ص) أن يأذن لبعض أتباعه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وظلوا هناك ثلاثة أشهر، عادوا بعدها إلى مكة، ولكن المشركين كانوا لهم بالمرصاد، فعاودوا ملاحقتهم وآذوهم أشد الإيذاء، فأمرهم بالهجرة مجدداً إلى الحبشة، وكانوا هذه المرة ثمانين رجلاً يتقدمهم جعفر بن أبي طالب، وثماني عشرة امرأة تتقدمهن أسماء زوج جعفر، فلما وصلوا إلى الحبشة، استقبلهم ملكها النجاشي النصراني وأحسن معاملتهم.
وحاول القرشيون استرجاع المهاجرين، إمعاناً في التضييق عليهم فأرسلوا إلى النجاشي مبعوثين هما عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، وحمّلوهما الهدايا، فاستدعى النجاشي المهاجرين فجاؤوا وجاء معهم جعفر بن أبي طالب، فقال للنجاشي: أيها الملك، كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار... فبعث الله فينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله... وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار.. فصدقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا، ليردونا إلى عبادة الأصنام، واستحلال الخبائث.. فلما قهرونا وظلمونا، خرجنا إلى بلادك... ورجونا ألاّ نظلم عندك.
فلما سمع النجاشي قول جعفر هذا، التفت إلى عمرو وعمارة وقال لهما: هذا والذي جاء به عيسى ابن مريم يخرج من مشكاة واحدة..
وشعر عمرو وعمارة بالخيبة والهزيمة، فحاولا إثارة فتنة طائفية بين المسلمين والنجاشي، فقالا: إنّ هؤلاء يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد لإلههم.. فسأل النجاشي المسلمين عن هذا الأمر، فأجابه جعفر بن أبي طالب: "مانقول فيه إلا الذي جاء به نبينا، من أنه عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول". فما كان من النجاشي إلا أن طرد عمراً وعمارة وأبقى المسلمين في بلاده.

حصار المشركين للنبي وبني هاشم

حين فشلت قريش في التضييق على أتباع حبيب الله محمد(ص) من المسلمين، وبعد طرد النجاشي لمبعوثيها عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، صبّت حقدها على المسلمين في مكة، واتخذ كبار المشركين، فيما بينهم قراراً يقضي بمقاطعة بني هاشم، ومحاصرتهم في شعب أبي طالب، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في الكعبة، ونصّت على عدم مبايعة بني هاشم أو الزواج منهم أو تزويجهم، وطالبوهم بتسليم النبي محمد(ص) يساندهم في ذلك عمه أبو لهب.
ورفض أبو طالب عم النبي وحاميه أن يسلّم لهم ابن أخيه، وأمر بحراسته، فبقي بنو هاشم وحبيب الله محمد معهم في الضيق والعذاب ثلاثة أعوام، شاء الله تعالى أن يمتحنهم بها، حيث أرسل بعدها أرضة أكلت الصحيفة ولم تبق منها غير عبارة: باسمك اللهم.
وأوحى الله سبحانه إلى حبيبه محمد (ص) ينبئه بالأمر، فأخبر النبي عمه أبا طالب، فأخبر أبو طالب قريشاً بأمر الصحيفة، فدبّ النزاع بينهم، ولم ينته إلا بفك الحصار عن بني هاشم.

النبي (ص) في الطائف

توفي أبو طالب (رض) وبعده بأيام توفيت خديجة زوجة الرسول ففقد حبيب الله بفقدهما سندين قويين لرسالته، فسمى ذلك العام عام الحزن، واغتنم المشركون الفرصة فزادوا من إيذائهم للنبي، فذهب النبي ومعه زيد بن حارثة إلى الطائف، لعله يجد فيها مجالاً لنشر الدين الجديد.
وفي الطائف التقى رسول الله(ص) بالزعماء وأصحاب النفوذ فلم يجد منهم إلا كما وجد من زعماء قريش، بل اكثر، فقد سبّوا حبيب الله، وشتموه، وسلطوا عليه الصبيان يرشقونه بالحجارة، حتى أدموا رجليه وشجّوا رأسه الشريف، وكان (ص) يقول: "إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي".
ورجع النبي(ص) إلى مكة، وراح يلتقي وفود القبائل التي كانت تأتي للحج، ويعرض عليهم الإسلام، ويتلو عليهم من القرآن الكريم، فيسلم بعضهم ويعودون إلى يثرب يدعون إقاربهم وأصحابهم إلى الإسلام، حتى انتشر الدين الجديد في قومهم، فجاؤوا في العام التالي وبايعوا النبي في العقبة.
وأسرى الله بحبيبه محمد(ص) ليلاً من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصا في القدس الشريف، وعاد النبي صباحاً يحدث بما رآه أثناء رحلة الإسراء، واجتمع المشركون عليه يسألونه أن يصف لهم المسجد الأقصا، فيصفه لهم وصفاً دقيقاً. ثم إنه أخبرهم عن قافلة سوف تصل إليهم عند طلوع شمس اليوم التالي.
وتحقق ما أنبأ به الرسول الكريم، ولكن المشركين جحدوا وأصروا على مضايقاتهم للمسلمين، فأمر رسول الله(ص) أصحابه بالهجرة إلى يثرب التي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

الهجرة إلى يثرب

عرف المشركون بهجرة أصحاب النبي(ص) إلى يثرب، فتآمروا لي***وا النبي(ص) ليلاً، وأنبأ الله حبيبه بما يبيّته المشركون، فأمر(ص) الإمام علي بن أبي طالب(ع) بالمبيت في فراشه، لإيهام المشركين بأن النبي باقٍ في مكة، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه خرج ليلاً يرافقه أبو بكر، قاصدين يثرب، وفي الطريق لجأ إلى غارٍ أمر الله سبحانه العنكبوت أن تنسج خيوها على بابه وأرسل حمامة باضت على تلك الخيوط، حتى بدا الغار وكأنه مهجور منذ زمن بعيد.
وعند الصباح، وبعد ما أفشل الله خطة المشركين ل*** حبيبه محمد، وعلموا بخروجه من مكة، لاحقوه إلى خارجها، ولكنهم لم يعثروا له على أثر، حتى وقفوا على باب الغار متحيرين لايعرفون في أي جهة يبحثون، والنبي(ص) وأبو بكر في الغار، وقد تسرب الخوف والحزن إلى قلب أبي بكر، فقال له النبي(ص): {لاتحزن إن الله معنا}.
ووصل رسول الله(ص) إلى قبا بالقرب من يثرب، وانتظر قدوم علي بن أبي طالب مع بعض النسوة، وفيهن الزهراء بضعة الرسول(ص)، ودخل الجميع المدينة (يثرب) وهناك بني النبي مسجده المبارك، وخصّص أمكنة لسكن أصحابه، وآخى بينهم وبين الأنصار، وأشاع مفهوم الأخوة في الله بقوله(ص): "إنَّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء... أنتم بنو آدم وآدم من تراب".
واتخذ النبي(ص) ابن عمه علي بن أبي طالب أخاً له قائلاً: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" وراح (ص) يمارس في المسجد العبادة والاجتماع وإدارة شؤون الأمة والفصل في الخصومات، ووضع الخطط العسكرية، والتعليم وغيرها من الأمور.

معارك النبي وغزواته

معركة بدر

كان اليهود يعيشون في المدينة فهادنهم النبي(ص) حتى يتفرع لبناء دولة الاسلام، ونشر الدين الجديد، وفي السنة الثانية للهجرة المباركة، وبعد أن وطّد رسول الله(ص) أركان الدولة، سعى لمحاربة المشركين، فالتقاهم عند بئر بدر حيث دارت بينه وبينهم معركة بدر الكبرى التي استغاث خلالها المسلمون بربهم، فأغاثهم كما حكى ذلك القرآن الكريم: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}.

وخسر المشركون أيما خسارة، ومرّغ المسلمون أنف قريش بوحل الهزيمة.

معركة أُحد

شعر اليهود والمنافقون بأن المسلمين ازدادوا قوة بعد انتصارهم في بدر، فأخذوا يتحرشون بهم في المدينة، وقد خافوا على سلطانهم وزعاماتهم. ولما ازدادت تحرشاتهم، حذرهم النبي(ص) فاستكبروا، مما اضطر الرسول الكريم لمحاربتهم وإخراجهم من المدينة.
أما قريش فلم تتعظ من معركة بدر، فأخذت تعد العدة لمعركة جديدة، فأمر النبي(ص) أصحابه بالخروج إليهم، ودارت بينهم وبين المسلمين معركة في جبل أُحد بالقرب من المدينة، أدّت إلى هزيمة المسلمين وإضعافهم، وتشجيع الأعداء عليهم، وأفسح في المجال لليهود، لحبك مؤامراتهم ودسائسهم.
فقد خرج زعماء اليهود إلى مكة، وحرضوا المشركين على قتال المسلمين، وراحوا يقولون للمشركين: "دينكم خير من دين محمد، وأنتم أولى بالحق" فأنزل الله فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}.

معركة الأحزاب (الخندق) وصلح الحديبية

واصل اليهود تأليب قبائل العرب على النبي والمسلمين فأقنعوا بني فزارة، وأشجع، ومرة، وبني سعد، وبني أسد وغيرهم، بمحاربة النبي وأصحابه، فاجتمع عشرة آلاف منهم تحت راية أبي سفيان...

علم النبي(ص) بالأمر، فتشاور مع أصحابه، فأشار سلمان الفارسي قائلاً: "إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا" فاستصوب النبي رأي سلمان وبادر مع أصحابه إلى حفر خندق على عجل، حتى أنجزوه في ستة أيام، وعسكروا على مقربة منه، وعسكرت الأحزاب من المشركين واليهود في الجهة المقابلة، دون أن يجرؤوا على اقتحامه.

وطال الحصار، فبدأ السأم والملل يتسربان إلى نفوس المشركين، وأرادوا العودة إلى مكة، فعرف اليهود بذلك، فتوجه زعيمهم حيي بن أخطب إلى يهود بني قريظة في المدينة، وأقنعهم بأن ينقضوا ما كانوا عاهدوا النبي عليه، ويدخلوا الحرب ضده مع المشركين.

عرف الرسول(ص) بالأمر فأرسل وفداً من المسلمين ليتأكد منه، ولكن اليهود أساؤوا الأدب مع الوفد، وراحوا يشتمون النبي ودينه،... واستبدّ الفزع بالمسلمين: {وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} وبدأ هجوم الأحزاب، فعبر عمرو بن عبد ود العامري الخندق مع نفر من المشركين، فتصدى له علي بن أبي طالب(ع) وأرداه قتيلاً، وبعد م*** عمرو تطور سير المعركة، وامتنع اليهود عن مساعدة المشركين خوفاً وهلعاً، فاستولى الرعب على المشركين وولوا الأدبار هاربين.

إنتصر المسلمون، ولم تعد قريش تفكر بمهاجمتهم، وظلَّ اليهود يتحينون الفرص للغدر وطعن المسلمين من الخلف، فما كان من النبي إلا أن حاصر بني قريظة، وقضى عليهم بعد حصار دام خمسة عشر يوماً، ثم إنه (ص) عقد مع قريش صلح الحديبية لمدة عشر سنوات، ليتفرد بيهود خيبر الذين كانوا يعدون العدة للإنقضاض على المسلمين وهكذا تمّ للنبي (ص) ما أراد من القضاء على اليهود، وضمان حرية المسلمين في الحج إلى بيت الله في مكة.

فتح مكة

إستتبّ الأمر لرسول الله(ص) فبدأ بمكاتبة ملوك الدول المجاورة، فكتب إلى قيصر ملك الروم، وكسرى ملك فارس، وزعيم الأقباط بمصر وإلى النجاشي ملك الحبشة، والحارث الغساني ملك دمشق وإلى ملك صنعاء، وملك عُمان وملك البحرين، وغيرهم، فمنهم مَن استجاب لدعوة الله ورسوله إلى الإسلام كالنجاشي ملك الحبشة، وملك البحرين وملك اليمن، ومنهم من رفضها علواً واستكباراً، كملك الروم وملك الفرس وملك دمشق.

وبعد انتشار الاسلام بين العرب وغيرهم، اعتدت قبيلة محالفة لقريش على قبيلة محالفة للنبي(ص) فقرّر النبي مقاتلة القرشيين فاستولت المخاوف عليهم، وأرسلوا أبا سفيان لتدارك الأمر، وتقوية العهد مع المسلمين، فلم تفلح جهود أبي سفيان، وعاد يجرجر أذيال الخيبة والخسران.

وأرسلت قريش عم النبي(ص) العباس بن عبد المطلب، ليستطلع الأمر، وكان العباس (رض) يبطن الاسلام ويتظاهر بالكفر، فعاد إليهم قائلاً لهم: هذا محمد قد جاءكم بما لاقبل لكم به، فقال أبو سفيان: فما ترى؟ قال: تطلبون الأمان من محمد.

قدم أبو سفيان ثانية ومعه العباس على النبي(ص) يطلبان الأمان لقريش، فعرض عليهما الإقرار بأن: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلم يكن أمام أبي سفيان إلا الإقرار.

وأعلن رسول الله(ص) أماناً عاماً لأهل مكة: "مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن"، ثم إنه (ص) دخل مكة ووقف على باب الكعبة قائلاً: "لا إله إلا الله وحدة لاشريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده... يامعشر قريش، ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً... أخٌ كريم وابن أخٍ كريم! فقال(ص): أقول كما قال أخي يوسف: {لاتثريب عليكم اليوم يغفر لكم وهو أرحم الراحمين} إذهبوا فأنتم الطلقاء.

وهكذا فتح رسول الله (ص) مكة، وبادر إلى تكسير الأصنام وهو يتلو قوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا}.

معركة حنين

بلغت أصداء نصر المسلمين في مكة قبيلة هوازن، وعلموا أن النبي(ص) سيتوجه لفتح الطائف، فنظّم زعيمهم جيشاً كبيراً لصدّ المسلمين واتخذوا مواقع لهم على قمم جبال حنين، وعند مضيق الوادي، وفاجأوا النبي وجيشه بالنبال، فاستولى الرعب على قلوب الكثيرين من المسلمين ففروا راجعين، ولم يبقَ مع النبي إلا عليّ بن أبي طالب(ع)، والعباس بن عبد المطلب، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، ونفر من بني هاشم.

وتحول النبي وأصحابه إلى الهجوم، وقاتلوا ببسالة نادرة، وثقةٍ بنصر الله لاتتزعزع، فانهزم بنو هوازن، ودخل النبي ومن بقي معه الطائف، حيث أعلن زعيم هوازن مالك بن عوف إسلامه وتتابعت جموع هوازن لاعتناق الإسلام، فردّ النبي عليهم أموالهم وأطلق أسراهم، ثم إنه(ص) واصل مسيره إلى مكة حيث قضى فيها عمرته وعاد إلى المدينة المنورة.

وإغتنم الروم فرصة انشغال النبي والمسلمين في المعارك الداخلية، فراحوا يجهزون الجيوش لغزو الأجزاء الشمالية من الجزيرة العربية، فما كان من النبي(ص) إلا أن استنفر المسلمين، وسار بنفسه على رأس جيش لقتال الروم، فما أن وصل إلى تبوك على الحدود الإسلامية الرومانية حتى هربت جموع الروم وولّوا إلى داخل بلادهم.

وعاد رسول الله (ص) إلى مدينته المباركة، فأنزل الله سبحانه عليه سورة التوبة، يفضح فيها المنافقين والمتواطئين معهم، ويكشف خططهم للنيل من الاسلام والمسلمين، فأمر النبي(ص) علي بن أبي طالب (ع) بتبليغها في مكة، ثم إنّه (ص) أمر بإحراق مسجد الضرار الذي كان المنافقون قد بنوه قاعدة للنفاق، وبذلك طويت آخر صفحة للشرك في مكة المكرمة في تلك الأيام.

إلى الرفيق الأعلى


حلَّ موسم الحج من السنة العاشرة للهجرة المباركة، فدعا خاتم الأنبياء (ص) الناس إلى الحج، وسار بهم قاصداً حجَّ بيت الله الحرام، وبعد أن أدوا مناسكهم وتوجهوا إلى عرفة، وقف حبيب الله فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "أما بعد أيها الناس... لاأدري لعليّ لا ألقاكم بعد عامي هذا... إنّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد... أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولايحل لامرئٍ مال أخيه إلا عن طيب خاطر، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..أيها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب".

وفي طريق العودة إلى المدينة نزل الوحي على رسول الله(ص): {يا أيها النبي بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}، فاستوقف النبي الناس عند غدير خم ووقف على أعواد نصبت له، بحيث يراه جميع الحاضرين، وأخذ بيد علي بن أبي طالب(ع)، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، يوشك أن أدعى فأجيب... أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين... فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيفما دار..."، فقال عمر بن الخطاب: "بخٍ بخٍ لك ياعلي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة".

وعاد خاتم الانبياء(ص) إلى المدينة، وراح يجهز الجيوش للفتح، ولكن المرض داهمه، واشتدّ عليه، ولم يلبث أن انتقل إلى جوار بارئه، ودفن في الحجرة التي توفي فيها.

وهكذا خسرت الانسانية بوفاة حبيب الله، شخصيَّةً ملأت الدنيا نوراً وعطاءً، فسلام على خاتم الانبياء حبيب الله محمد وعلى آله الطاهرين،
والحمد لله رب العالمين.

صوت الحق
28-06-2008, 09:50 AM
النبي آدم (ع) ابوالبشر

علة خلق آدم (ع)

يروى أن الأرض كانت، قبل خلق آدم (ع)، معمورة بالجن والنسناس والسباع، وغيرها من الحيوانات، وأنه كان لله فيها حجج وولاة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وحدث أن طغت الجن وتمردوا، وعصوا أمر ربهم. فغيروا وبدلوا، وأبدعوا البدع، فأمر الله سبحانه الملائكة، أن ينظروا إلى أهل تلك الأرض، وإلى ما أحدثوا وأبدعوا، إيذاناً باستبدالهم بخلق جديد، يكونون حجة له في أرضه، ويعبد من خلالهم.

ثم إنه سبحانه وتعالى قال لهم: {إني جاعلٌ في الارض خليفة}. فقالوا: سبحانك ربنا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} كما أفسدت الجن؟ فاجعل الخليفة منا نحن الملائكة، فها نحن {نسبِّحُ بحمدك ونقدِّسُ لك}، ونطيعك ما تأمرنا. فقال عزّ من قائل: {إنّي أعلمُ مالاتعلمون}.

وبعث اللهُ الملك جبرائيل (ع) ليأتيهُ بترابٍ من أديم الأرض، ثم جعله طيناً، وصيَّرهُ بقُدرتهِ كالحمإ المسنون، ثم كالفخّار، حيث سوّاه ونفخ فيه من روحه، فإذا هو بشرٌ سويّ، في أحسن تقويم.

خلق حواء وزواج آدم منها

سمّى اللهُ سبحانه وتعالى مخلوقه الجديد، آدم، فهو الذي خلقه من أديم الأرض، ثم إنه عزّوجلّ، خلق حوّاء من الطين الذي تبقى بعد خلق آدم وإحيائه.

ونظر آدم (ع) فرأى خلقاً يشبهه، غير أنها أنثى، فكلمها فردت عليه بلغته، فسألها: "من تكون؟" فقالت: "خلق خلقني الله".

وعلَّم اللهُ آدمَ الأسماء كلها، وزرع في نفسه العواطف والميول، فاستأنس بالنظر إلى حوّاء والتحدث إليها، وأدناها منه، ثم إنّهُ سألَ الله تعالى قائلاً: "ياربّ من هذا الخلقُ الحسن، الذي قد آنسني قربه والنظر إليه؟!" وجاءه الجواب: "أن ياآدم، هذه حوّاء.. أفتحبُّ أن تكون معك، تؤنسك وتحادثك وتأتمر لأمرك؟" فقال آدم (ع): "نعم ياربّ، ولك الحمدُ والشكرُ مادمتُ حيا." فقال عزّوجلّ: "إنّها أمتي فاخطبها إليّ". قال آدم (ع): "يارب، فإني أخطبها إليك، فما رضاك لذلك؟" وجاءه الجواب: "رضاي أن تعلمها معالم ديني.." فقال آدم(ع): "لك ذلك يارب، إن شئت". فقال سبحانه: "قد شئت ذلك، وأنا مزوجها منك".

فقبل آدم بذلك ورضي به.

تكريم الله لآدم ورفض إبليس السجود له

أراد الله عزوجل، أن يعبد من طريق مخلوقه الجديد، فأمر الملائكة بالسجود إكراماً له، بمجرد أن خلقه وسواه ونفخ فيه من روحه، فخرت الملائكة سُجّداً وجثيّا.

وكان إبليس، وهو من الجن، كان في عداد الملائكة حينما أمرهم الله بالسجود إكراماً لآدم(ع). وكان مخلوقاً من النار، شديد الطاعة لربّه، كثير العبادة له، حتى استحق من الله أن يقربه إليه، ويضعه في صف الملائكة... ولكن إبليس عصى هذه المرّة الأمر الإلهي، بالسجود لأدم(ع)، وشمخ بأنفه، وتعزز بأصله، وراح يتكبر ويتجبر، وطغى وبغى، وظل يلتمس الأعذار إلى الله سبحانه، حتى يعفيه من السجود لآدم(ع).

وما فتئ يتذرّعُ بطاعته لله وعبادته له، تلك العبادة التي لم يعبد الله مثلها ملكٌ مقرَّب، ولانبيٌّ مرسل... وأخذ يحتجُّ بأنّ الله خلقه من نار، وأن آدم مخلوق من تراب، والنار خير من التراب وأشرف: {قال: أنا خيرٌ منه، خلقتني من نارٍ وخلقته من طين}. {أأسجد لمن خلقت طينا}!.

ولما كان الله سبحانه وتعالى، يريد أن يُعبَدَ كما يُريد هو، ومن حي يريد، لاكما يريد إبليس اللعين هذا، صب عليه سوط عذاب، وطرده من الجنة، وحرّمها عليه، ومنعه من اختراق الحجب، التي كان يخترقها مع الملائكة (ع).

ولما رأى إبليس غضب الخالق عليه، طلب أن يجزيه الله أجر عبادته له آلاف السنين، وكان طلبُه أن يمهله الله سبحانه في الدنيا إلى يوم القيامه، وهو ينوي الإنتقام من هذا المخلوق الترابي، الذي حُرِمَ بسببه الجنة، وأصابته لعنة الله. كما طلب أيضاً، أن تكون له سلطة على آدم وذريّته، وظلّ يكابر ويعاند، ويدّعي أنّهُ أقوى من آدم، وخير منه: {قال: أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ، لئِنْ أخّرتنِ إلى يوم القيامة، لأحتنكنَّ ذريته إلاّ قليلاً}.

آدم (ع) يستعين بالله

أعطى الله سبحانه وتعالى، أعطى إبليس اللعين ماطلبه وأحبه من نعيم الدنيا، والسلطة على بني آدم الذين يطاوعونه، حتى يوم القيامة، وجعل مجراه في دمائهم، ومقرّه في صدورهم، إلا الصالحين منهم، فلم يجعل له عليهم سلطانا: {قال: إذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنم جزاؤكم جزاءً موفورا... إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}.

وعرف آدم ذلك، فلجأ إلى ربّه مستعصما، وقال: "يا ربّ! جعلت لإبليس سلطة عليّ وعلى ذرّيتي من بعدي، وليس لقضائك رادٌّ إلاّ أنت، وأعطيته ما أعطيته، فما لي ولولدي مقابل ذلك؟" فقال سبحانه وتعالى: "لك ولولدك: السيئة بواحدة، والحسنة بعشرة أمثالها" فقال آدم (ع): "متذرعاً خاشعا: يارب زدني، يارب زدني". فقال عزّوجلّ: "أغفِرُ ولاأُبالي" فقال آدم (ع) "حسبي يارب، حسبي".

نسيان آدم وحواء وخطيئتهما

أسكن الله سبحانه آدم وحواء الجنة، بعد تزويجهما: {وإذ قلنا ياآدم أسكن أنت وزوجك الجنة} وأرغد فيها عيشهما، وآمنهما، وحذّرهما إبليس وعداوته وكيده، ونهاهما عن أن يأكلا من شجرة كانت في الجنة، تحمل أنواعاً من البر والعنب والتين والعناب، وغيرها من الفواكه مما لدّ وطاب: {وكلا منها رغداً حيث شئتما ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}.

وجاءهما الشيطان بالمكر والخديعة، وحلف لهما بالله أنه لهما لمن الناصحين، وقال: إني لأجلك ياآدم، والله لحزين مهموم... فقد أنست بقربك مني... وإذا بقيت على هذا الحال، فستخرج مما أنت فيه إلى ما أكرهه لك.

نسي آدم(ع) تحذير الله تعالى له، من إبليس وعداوته، وغرّه تظاهر إبليس بالعطف عليه والحزن لأجله، كما زعم له، فقال لإبليس: "وما الحيلة التي حتى لاأخرج مما أنا فيه من النعيم؟" فقال اللعين: "إنّ الحيلة معك:" {أفلا أدلك على شجرة الخلد ومُلكٍ لايبلى}؟ وأشار الى الشجرة التي نهى الله آدم وحوّاء عن الأكل منها، وتابع قائلاً لهما: {مانهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}.

وازدادت ثقة آدم(ع) بإبليس اللعين، وكاد يطمئن إليه وهو العدوّ المبين، ثم إنّه استذكر فقال له: "أحقاً ماتقول": فحلف إبليس بالله يميناً كاذباً، أنّهُ لآدم من الناصحين، وعليه من المشفقين، ثم قال له: "تأكل من تلك الشجرة أنت وزوجك فتصيرا معي في الجنة إلى الأبد".

لم يظنّ آدمُ(ع)، أنّ مخلوقاً لله تعالى يحلف بالله كاذباً، فصدقه، وراح يأكل هو وحوّاء من الشجرة، فكان ذلك خلاف ما أمرهما به الله سبحانه وتعالى.

الخروج من الجنة

ماكاد آدم وحوّاءُ، يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، حتى نادى منادٍ من لدن العرش الإلهي، أن: "ياآدم، اخرج من جواري، فإنه لايُجاوِرُني مَن عصانيْ".

وبكى آدم(ع) لما سمع الأمر الإلهيّ له بالخروج من الجنة... وبكت الملائكة لهذا المخلوق الذي سجدت له تكريماً. فبعث الله عزّ وجلّ جبرائيل(ع)، فأهبط آدم إلى الأرض، وتركه على جبل سرنديب في بلاد الهند، وعاد فأنزل حوّاء إلى جُدَّة..

ثم أنّ الله سبحانه وتعالى، أمر آدم أن يتوجّه من الهند إلى مكة المكرّمة، فتوجّه آدم إليها حتى وصل إلى الصفا... ونزلت حواء بأمر الله إلى المروة، حتى التقيا من جديد في عرفة. وهناك دعا آدم ربّه مستغفراً: اللهم بحق محمد وآله والأطهار، أقلني عثرتي، واغفر لي زلتي، وأعدني إلى الدار التي أخرجتني منها.

الرحمة والغفران

{وتلقى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه}.

وأوحى الله عزوجلّ إلى جبرائيل(ع): إني قد رحمت آدم وحوّاء، فاهبط عليهما بخيمةٍ من خيم الجنة، واضربها لهما مكان البيت وقواعده، التي رفعتها الملائكة من قبل، وأنرها لهما بالحجر الأسود. فهبط جبرائيل(ع) بالخيمة ونصبها، فكان المسجد الحرام منتهى أوتادها، وجاء بآدم وحواء إليها.

ثم إنّه سبحانه أمر جبرائيل بأن يُنَحّيهما منها، وأن يبني لهما مكانها بيتاً بالأحجار، يرفع قواعده، ويتم بناءه للملائكة والخلق من آدم وولده، فعمد جبرائيل إلى رفع قواعد البيت كما أمره الله.

وأقال الله آدم عثرته، وغفر زلته، ووعده بأن يعيده إلى الجنة التي أُخرج منها. وأوحى سبحانه إليه، أن: "ياآدم، إني إجمع لك الخير كله في أربع كلمات: واحدة منهن لي، أن تعبدني، ولاتشرك بي شيئاً، وواحدة منهن لك: أجازيك بعملك، أحوجَ ماتكون، وكلمة بيني وبينك: عليك الدعاء ومني الإجابة، وواحدة بينك وبين الناس من ذريتك، ترضى لهم ماترضى لنفسك.

وهكذا، أنزل الله على آدم(ع) دلائل الألوهية والوحدانية، كما علمه الفرائض والأحكام والشرايع، والسنن والحدود.

قابيل ي*** هابيل

كان قابيل أول أولاد آدم(ع). فلما أدرك سنّ الزّواج، أظهر الله سبحانه جنية يقال لها جهانة، في صورة إنسية، فلما رآها قابيل أحبها، فأوحى الله تعالى إلى آدم(ع) أن يزوجها من قابيل ففعل.

ثم لما ولد هابيل، الإبن الثاني لآدم (ع). وبلغ مبلغ الرجال، أهبط الله تعالى إحدى حوريّات الجنة، فرآها هابيل وأحبها، فأوحى الله لآدم (ع) أن يزوجه بها.

ثم إن الله سبحانه وتعالى، أمر نبيه آدم (ع)، أن يضع مواريث النبوة والعلم عند ولده هابيل، ويعرفه بذلك... ولما علم قابيل بذلك، غضب واعترض أباه قائلاً: "أنا أكبر من هابيل، وأنا أحق بهذا الأمر منه".

وتحيّر آدم(ع)، فأوحى الله إليه أن يقول لابنه قابيل: "يابني، إنّ الأمر لم يكن بيدي، وإنّ الله هو الذي أمرني بذلك، ولم أكن لأعصي أمر ربي ثانية، فأبوء بغضبه، فإذا كنت لاتصدقني، فليقرب كل واحدٍ منكما قرباناً إلى الله، وأيُّكما يتقبَّل الله قربانه، يكن هو الأولى، والأحق بالفضل ومواريث النبوة.

قدّم قابيل قرباناً من أيسر ملكه، وقدّم هابيل قربانه من أحسن ماعنده... فتقبل الله سبحانه قربان هابيل، بأن أرسل ناراً تركت قربان قابيل كما هو، ممّا أثار حفيظة قابيل، وأجّج نار الحقد في صدره.

ووسوس له الشيطان بأن: ا*** أخاك فينقطع نسله، وتُريحُ أولادك من بعدم إن كان لك ولد، ثم لايجد أبوك من يعطيه المواريث سواك، فتفوز بها، وذريتك من بعدك..

وسوّلت له نفسه *** أخيه هابيل، ف***ه... وكانت أوّل جريمة على وجه الأرض، نفّرَت الوحوش والسّباع والطيور، خوفاً وفرقا.

ولم يدر قابيل كيف يخفي جريمته... وماذا يصنع بجسد أخيه الملقى على الأرض بلا حراك؟... ويبعث الله تعالى غرابين يقتتلان في الجو، حتى ي*** أحدهما الآخر، ثم يهوي وراءه إلى الأرض، فيحفر، بمخالبه حفرة، يدفن فيها صاحبه، وقابيل ينظر ويرى.

أدرك قابيل عجزه وضعفه وقال: "ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغُراب فأواري سوأة أخي} وأدفنُ جُثّتهُ، كما دفن هذا الطائر الصغير الحقيرُ صاحِبُه المقتول؟! {فأصبح من النّادمين}.

ذرية آدم(ع)

ولد لآدم وحواء سبعون بطنا، على مايُروى، وكان أوّل أولادهما قابيل ثم هابيل اللذين لم ينجبا على مايبدو...

ولكن الله جلّ وعلا وهب لآدم وحوّاء إبنهما شيثا (هبة الله) ومن بعده ولد لهما يافث.. فلما أدركا وبلغا مبلغ الرجال، وأراد الله أن يبلغ بالنسل مانرى... وأن يكون ماقد جرى به القلم، من تحريم ماحرّم الله تعالى، من زواج الإخوة وبالأخوات أنزل سبحانه من الجنة حوريتين، هما نزلة ومنزلة، وأمر آدم أ، يزوجهما من شيث ويافث، فكان ذلك... وولد لشيث غلامٌ، وولدت ليافث جارية، فأمر الله تعالى أن يزوج آدم (ع) إبنة يافث من ابن شيث.

ولم يحرم الله آدم وحوّاء من الإناث، فقد رزقهما الله ابنة أسمياها عناق، تزوجت وولدت ولداً اسمه عوج، وصار فيما بعد جباراً شقياً، عدواً لله ولأوليائه، فسلط الله عليه وعلى أمه عناق من ***هما.

وفاة آدم وحوّاء

انقضت أيام آدم(ع)، فأمره الله أن يوصي إلى ولده شيث، ويدفع إليه مواريث النبوة والعلم والآثار، وأمره بأن يكتم هذا الأمر عن قابيل، حتى لاتتكّرر الجريمة المأساة، وي***ه كما *** أخاه هابيل من قبل.

وتوفي آدم(ع) ولهُ من الذريّة من ولده وأولاد ولده العدد الكثير، بعد أن عمّر تسعمائة وستين سنة، ودفن في جبل أبي قبيس، ووجهه إلى الكعبة المشرَّفة على ماذكر في كتب السير. ولم تعمرّ حواء بعد آدم إلاّ قليلاً، عاماً واحداً مرضت بعده وماتت، ودفنت إلى جانب آدم(ع).

وفي أيام النبي نوحٍ(ع)، وعندما حصل الطوفان، أوحى الله سبحانه إلى نوحٍ أن يحمل معه في السفينة جثمان أبيه آدم (ع) إلى الكوفة، فحمله إلى ظهر الكوفة، وهو النجف الأشرف، حيث دفنه هناك في المكان المعروف بمرقد نوحٍ(ع)..

فسلام على آدم وحوّاء

صوت الحق
28-06-2008, 09:54 AM
النبي نوح (ع) صاحب السفينة

نوح والدعوة

في بقعة من أرض العراق، قد تكون الكوفة وما جاورها، أرسل الله تعالى نوحاص إلى قومه رسولاً هادياً، منذراً وبشيراً، يحمل إليهم دعوة السماء كي ينبذوا ما دأبوا عليه من كفر، وما أمعنوا فيه من ضلال..

وكان لابُدّ لنبيَّ الله نوحٍ (عليه السلام) أن يلاقي من تكذيب قومه، وعنتهم، وغيهم، مالقيه كل نبيٍّ كريمٍ، ورسولٍ أمينٍ.

فليس من اليسير هجران عادات، والإقلاع عن غوايات وضلالات..

وآتى الله نبيَّهُ نوحاً فصاحة لسان، ورشاقة عبارة، وبلاغة أداء.. فكان دامغ الحدة، ناصع البرهان!..

وكان طوال مئات السنوات لايدع مناسبة تمر، الا وذكر قومه بالله ربهم، وخالقهم، جاعياً إياهم الى عبادة الله الكبير المتعال، ونبذ ماهم عليه من بهتان وضلال!..

ولجأ نوح، في دعوته قومه، إلى أسلوبي الترغيب والترهيب:

فالنفس الانسانية، من طبعها ان تخشع، وأن تخاف!.

فهو يرغبهم، إن أخلصوا وجوههم الله، بغفران ذنوبهم، وبتعميرهم في الارض، وبالمطر، يرسل عليهم مدراراً وبالأموال، يُغدقها عليهم، بالبنين، يمدّهم الله بهم، وبأرضهم، يُحيلها الله إلى جنات تجري من تحتها الانهار!..

وهو يرهبهم عذاب الله الأليم، ويحذّرهم عقابه الشديد، ويخوفهم من عذاب يوم عظيم!..

ووجّه أبصارهم وبصائرهم الى بديع خلق الله تعالى، في أنفسهم.

فهم من تراب الارض قد خلقوا وإليه يعودون..

وفي سبع سموات، طباق، فيهن شمس، وقمر، ونجوم متلألئات..

وفي ارض ذات امتداد، وانبساط، وكأن الله ذلّلها لكل سالك سبيل!..

ويأخذ نوحاً العجب من هؤلاء القوم العمين... الذين يقابلون ذلك كلّه، بأن يسدوا آذانهم بأصابعهم، كي لاتسمع، وقلب أردانهم (أي ثيابهم) على وجوههم كي لاترى.. فقد أعمى الله بصائرهم عن مشاهدة نور الحق، فلا يريدون لأبصارهم أن ترى، وأصمّ قلوبهم عن استماع دعوة الله، فأصبحت سوداء سوداء، فلا يريدون لآذانهم أن تُصغي..

ويصيح نوح بهم: "مالكم لاترجون لله وقاراً"

فسدرتم في غياهب الضلال، وعبدتم، من دونه، أوثاناً وأصناماً...

ولايؤمن بنوح إلا نفر، من قومه، قليل، قد استضعفوا، واستذلوا،.. فهانوا على القوم، وصغروا، واتخذوهم سخرياً...

وينظر قوم نوح إلى نبيهم هذا، وإلى أتباعه.

فهو رجل كبقية الرجال،.. أما اتباعه فهم الاقلون عدداً، والارذلون بين الناس، والأذلون!...

فيقولون له: " مانراك إلا بشراً مثلنا، ومانراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا..."

فلايجوز، في عرفهم، أن يلتقي، على صعيد واحد، شرفاء القوم وساداتهم، مع فقراء الناس ومستضعفيهم. فنوح، والحالة هذه -في ضلال مبين، أو كأنّه أدركه مس من الجنون، فجنَّ، واستطير!....

ويحاول نوح من جديد، وبكل وسيلة استمالة قلوبهم الى نور الحق والهدى..

صحيح أنّه رجل بينهم، كبقية الرجال، لاملاكاً هابطاً عليهم من سماء... ولاتمتلك راحتاه خزائن الله.. ولايعلم الغيب...

أما هؤلاء الذين تقتحمهم الابصار لرقة حالهم، وشدة ضعتهم، في أعين قومهم، وفقرهم، فقد يؤتيهم الله من لدنه خيراً كثيراً، وفضلاً عظيماً...

وينكر نوح إنكاراً شديداً، مايشير عليه قومه بشأنهم:

- من الخير لك ولنا يانوح، أن تنبذ هؤلاء الأذلة، وتطردهم من مجلسك، كما نبذناهم نحن، وطردناهم...

فيجيبهم: اتقوا الله ياقوم!.. فمن يجيرني- إن فعلت ذلك- من عذاب الله؟..

فينصرفون عنه، يلوون رؤوسهم، هزءاً!...

ويلجُّ الكافرون في عنادهم وإصرارهم، ويتمادون في طغيانهم وضلالهم.. ويتصايحون- فيما بينهم: أن حافظوا على آلهتكم، بكل ماتملكون.

"وقالوا: لاتذرن آلهتكم ولاتذرن ودّاً ولاسواعاً. ولايغوث ويعوق ونسراً"

ويمكث نوح في قومه يدعوهم ماشاء الله له ذلك حتى بلغت مدة دعوته ألف سنة إلا خمسين عاماً!..

فقد آتاه الله جلداً واصطباراً، في عمر مديد.. فهو أحد الرسل "أولي العزم" الذين أمدّهم الله بعزم، منهُ، شديد، فلا يفت في عضدهم كيد الكائدين، ولاخيانة الخائنين، بل يقابلون شتى صنوف البلاء والمحن، بالصدر الرحب، والتمهّل، وطول الأناة...

وبقي نوح بين قومه يدعوهم إلى سواء الصراط... فلعل وعسى!...

وكان جواب قومه أخيراً بأن "قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين".

فانقطع كل جدل وحوار...

وأدرك نوحاً الياس، وعصف به القنوط، فكأنّ دعوته صرخة في واد... ولا من سميع أو مجيب...

فرفع نبيُّ الله يديه الكريمتين الى خالقه يعتذر إليه عن سفاهة هؤلاء القوم المفسدين، وضلالة هؤلاء الغاوين، الذين لم ينفعهم نُصحٌ ولم يردعهم ازدجار!...

{ قال: ربّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً. فلم يزدهم دعائي إلا فرارا. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا آصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً. ثم إني دعوتهم جهاراً. ثم إني أعلنتُ لهم وأسررت لهم إسراراً}.

ويستطرد نوح في تفصيل أسلوب دعوته وقومه، محاولاً تليين قلوبهم، صارفاً أبصارهم في كل حين إلى روائع خلق الله، لعلّ نوراً يتسرّبُ إليها، فيصبحوا مؤمنين!..

ويأخذُ نوحاً الغضب على هؤلاء الفسقة العتاة، والغلاظ القساة، فيدعو عليهم بالفناء.

{وقال نوح رب لاتدر على الارض من الكافرين ديّاراً. إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجراً كفّاراً}.

فلا أمل في إصلاحهم ولارجاء!...

إنهم ضالون مضلّون!...

حتى أولادهم، فهم، من طينتهم، كفرة، فجرة لايهتدون!...

وبالتالي، فإن تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة كافية أن تقطع كل عذر، وأن تحصحص مؤمناً قد اهتدى، من كافر في ضلالٍ مبين...

{وأوحي إلى نوح أنه لن نؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلاتبتئس بما كانوا يفعلون}

لقد بلغ نوح -في دعوته- نهاية المطاف!.. والله يفعل بعد ذلك مايشاء!...

فانصرف عن قومه لايدعوهم، غضبان أسفاً، وقد استجاب الله لنبيّه الدعاء!.

نوح والسفينة

أما، وقد عموا، وصمّوا،.. وطمس الله على ابصارهم وبصائرهم، ونكس قلوبهم، فلقد حقّت على قوم نوح كلمة العذاب!..

فأوحى الله تعالى إليه: أن أقدم {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولاتخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون}.

وباشر نوح يقطع أشجار النخيل، التي سبق له وغرسها بوحي من الله تعالى، كي يتخذ من جذوعها، لسفينته، خشباً!..

وخرج إلى ظاهر المدينة، بعيداً عن أعين الناس، فلا يراه منهم إلا القليل..

وشرع يبتني السفينة كما أمره الله عزوجل، فهو بين نشر الخشب، وتهيئة المسامير الغلاظ..

وكان قومه يمرون عليه، وهو منهمك في صنع سفينته، فيهزأون منه، ويعبثون..

ويقول قائلهم: أعدلت عن النبوة الى النجارة، يا نوح؟.

ويتساءل آخر متهكّماً: هلاَّ اتخذت لسفينتك، يا نوح، مكاناً، من البحر، قريباً؟...

فيجيبه صاحبه: ولم ذلك؟.. فسيبحر صاحبنا، غداً في بحرٍ لجّيٍّ، من رمالٍ!..

وكان نوح، عليه السلام، يعرض عنهم،.. فما للأنبياء ولغوالحديث!.. ويشيح بوجهه عنهم تكرّماً!..

وطال عبث العابثين، وهزء المستهزئين، فقال لهم، كالمتوعّد:

- { إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}.

فلا شك بأنّ أجل الله لآت: فللمؤمنين، أبداً، عاقبة الدار، وسيحل الخزي بالذين يكذّبون بآيات ربهم، وبرسله يستهزئون!..

حتى استوت السفينة ذات ألواح ودُسُر (أي: مسامير)، وقد صلب منها الهيكل، وعظم البنيان، فبدت شامخة كالطود، وهي جاثمة في قلب الصحراء!..

وأخذ نوح يعدُّ الأيام -منتظراً أمر الله،.. وهو الذي كان لايحسب لمئات الأعوام حساباً!..

فأوحي إليه، أنّهُ، إذا جاء أمرُنا، وبانت آياتنا، فاعمد إلى كل هؤلاء المؤمنين بك. فاحملهم على ظهر سفينتك، واحمل معك من كل ماخلق الله زوجين اثنين...

وآية ذلك: التنّورُ يفور!...

الطوفان

وفار التنّور!..

وماعهد نوح به، إلا مسجوراً (أي: ملتهباً) بالحطب الجزل...

إنها الآية المنتظرة.. وبدءُ الإنتقام!..

وأسرع نوح بمن معه من المؤمنين -وهم قليلٌ- إلى السفينة، مصطحباً شيئاً من الزّاد. وشرّع لها باباً، ولجهُ من الحيوان، من كل زوجين اثنين.. حاملاً فيها ماأمره الله أن يحمل، من إنسان وحيوانٍ، حتى ومن حبٍّ ونبات، فهم ذخيرة الحياة، في مستقبل الأيام!..

وتدفق الماء من السماء هطّالاً، غزيراً.. حتى كادت تتصل أرض بسماء وقد أطبق الغيم بينهما إطباقاً كثيفاً، كحلكةِ الظَّلماء!..

{ وتفجّرّت الارض عيوناً} فالتقى الماءان:

هذا ينزل من علٍ، مدراراً، وهذا يتفجّر من قلب الارض، ينابيع ذات دفق صاخب..

وعمّ الأرض طوفان هادر، فتحوّلت إلى بحر طام!...

وتدفّقت السيول، تعصف، غاضبة، لاتلوي على شئ، ولايقف في وجهها شئٌ!..

وجرت السفينة على وجه الماء، فكان، باسم الله مجراها، وباسم الله مَرساها..

وخرج قوم نوح يولون، مذعورين،.. لايدرون إلى أين يفرّون!.. يغالبون أمواجاً عاتياتٍ فتغلبهم، ويصارعون في سبيل البقاء، لايألون (أي: لايوفرون) في ذلك جهداً، حتى لم يبق منهم، من أحدٍ، أبداً!..

وتمكّن بعضهم من الاعتصام على قمم الوهاد والتّلال...

ولكن: لقد بلغ السيل الزُّبي (ج. زُبية: التلَّة لايدركها الماءُ)، فاجتاحهم إعصار الماء. وتسلّق بعضهم قمة جبل، ولكن الماء علا مرتفعاً، هائجاً، كالمرجل يفور، حتى غمر رأس الجبل، وأتى على من علاه!.

حتى أنّ المرأة أدركت قمّة الجبل، لاهثة، وهي تحمل طفلها.. ويدركها الماء الطاغي، مزبداً، مزمجراً، فتصبر على ذلك وقتاً..

ويزداد الماء طغياناً، وهو يفور، في إرغاء له، وإزبادٍ... حتى يبلغ منها العنق فتضيق منها الأنفاس، فالفم، فتشرُقُ بالماء، فالأنف، فتغالبُ الاختناق...

وترفع المرأة، وهي على ماهي، طفلها بيديها المضطربتين، صوب السماء. فلعل الله منجيه، ولكن لا يلبث الماء أن يغمرها وطفلها،

فلو شاء الله أن يرحم منهم أحداً، لرحم هذه المرأة حاملة طفلها وقد علا منه الصراخ... أما، وقد قضى تعالى بأن يشملهم جميعاً، العذاب... فليس بينهم، إذاً، من ناجٍ!...

نوح وابنُه

وكان أولاد نوح الثلاثة: سامٌ وحامٌ ويافثُ، مع أبيهم في السفينة التي كانت تشق بحيزومها (أي: مقدمها) عُباب الماء!..

أما ولده الرابع، كنعان، فكان مع القوم الكافرين..

ورآه أبوه يهرول، بينهم، مذعوراً، متنقّلاً من وهدةٍ إلى منبسط، منعطفاً منهما إلى ربوة، فجبل، والماء يلاحقهم جميعاً،.. يغمر ماانبسط من الارض وما ارتفع..

وأدركت نوحا شفقة وعطف على هذا الابن الضال، ورق قلبه له، إنه أبٌ يرى ولده في محدق الخطر..

وناداه نوحٌ من على سفينته {وهي تجري بهم في موج كالجبال}:

- {يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين}

- {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء}

- {قال لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}

وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}

فغلب على نوح همٌ ووجدٌ يعصفان بنفسه، وغشيته سحابة من حزن عميق، وادلهمّت الدنيا أمام ناظريه..

فها هو ذا ابنُهُ، حُشاشةُ كبده، وقد انتهى، في الدنيا وفي الآخرة، مع الكافرين..

ورفع نبيُّ الله طرفاً باكياً، إلى السماء، ويدين مرتعشتين، وقد تحدّرت على لحيته الشريفة قطرات دمعٍ كلاذع الجمر، وبصوت غلبت عليه رنّةُ إجهاش، فبدا معولاً منتحباً:

- رُحماك اللهم!..

{ونادى نوحٌ ربّهُ، فقال رب إنّ ابني من أهلي وأن وعدك الحق وانت احكم الحاكمين. قال يانوح أنه ليس من أهلك أنه عملٌ غير صالح. فلا تسألن ماليس لك به علم إني إعظك تكون من الجاهلين}.

وهكذا فصل الله لنبيه نوح، وبفصيح العبارة، أن النسب هو نسب الايمان، والقربى هي قربى الحقّ!..

وشعر نوح بأن عاطفته قد تغلّبت على حجاهُ (أي: عقله)، فمال به عن الحق هواه!.. وأحسّ بالندم على ما فرط منه، فليس لأنبياء الله، وهم صفوة الخلق طرّاً، إلا أن يترفّعوا عن كل علاقاتهم الشخصية مع من يحيط بهم من الناس، بالغاً مابلغوا من قُربى ومن نسب، وأن يتعالوا على كل هوىً وميلٍ، لايأتلفان ودعوة الحق المبين!..

فهم من طينة غلب عليها النور والصفاء!..

فما للأنبياء وصغائر الأمور وسفاسفها؟..

فليس لهم أن يسفوا (أي: يهبطوا) إلى مستوى ضعاف النفوس، وقد فجّر الله الحكمة في قلوبهم تفجيراً،.. فهي لا ترى إلا الايمان مقياساً بين الناس، وميزاناً!..

{ وأن ليس للانسان إلاّ ماسعى. وأن سعيهُ سوف يُرى. ثم يُجزاهُ الجزاءَ الأوفى}

فاستعاذ نوح بالله، من شطط في القول، ومن زلل، يؤديان إلى خُسران مبين!.. وتضرّع إلى الله مستعبراً، وقد ثابت إليه نفسه، التي تقطعت حسرات، فعادت أصفى مما كانت، وأنقى:

- { رب إني أعوذ بك أن أسألك ماليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكُن من الخاسرين}.

وصرف الله وجهه الى نوح بمعفرةٍ منه ورحمةٍ، ورضى، وقبولٍ حسنٍ!.

النهايــة

وعم الارض الطوفان، فطهرت من كل رجس أصابها، ودرن لحق بها!.. وتم أمر الله.. وحقّت كلمته على القوم الكافرين، فتهاووا، في لجج الماء، غرقى!..

أما السفينة فكانت لاتزال في تجوالها، متهادية على سطح الماء،.. وقد امّحت على الارض كل المعالم، فعميت على الركب الجهات..

وأسلم ركّاب السفينة أمرهم لله، جميعاً،.. فهو منجّيهم وهاديهم، والآخذ بيدهم في مدلهمّات الخطوب، والصعاب الشّداد!..

وسئم ركب السفينة من هذه الرحلة الطويلة، الرتيبة.. فمتى النهاية؟ أما آن لها أن تستقر بهم على برّ الأمان؟..

وخاطبوا في ذلك نوحاً:

- متى الفرج يا نبي الله؟.

- إنكم في فرج من الله، تحف بكم رحمته، وتكلأكم عين رعايته التي لاتنام، أفلا تعقلون؟

- ولكنا نريد أن ننزل الى الارض، فتطأها منا الأقدام!.

- صبراً ياقوم، حتى يتم أمر الله، ويقضي أمراً من لدنه، وإياكم واللّجاج!..

ويمسك نبي الله عن الكلام..

ويصمت قومه.

ويلُفُّ السفينة صمت، كصمت القبور، موحش وعميق.. وهي لازالت تتهادى بهم على صفحة ماء ساج (أي: هادئ) ورقراق!..

وينظرون إلى أقاصي الأفق، وإذا بطائر يتّجه إليهم، وكأنه يسبح في الهواء.. دون أن يرفرف له جناح..

ويدنو الطائر منهم، إنه حمامةٌ بيضاء قد أمسكت في منقارها الصغير غصن زيتون مبرعم.

ويتصايح من في السفينة: لقد اقتربنا من برّ الامان، فها هي ذي حمامة السلام تحمل في منقارها غصن سلام!..

ويوجّهون دفّة السفينة صوت الجهة التي قدمت منها هذه الحمامة البيضاء، وكأنها تؤذنهم بقريب الفرج.

وأمر الله السماء فأقلعت عن تهطال المطر..

وأمر الله الأرض، فابتلعت فائر الماء كالينابيع تدفُّقاً.. وأخذ الماء ينحسر عن اليابسة شيئاً فشيئاً..

{وأشرقت الأرض بنور ربّها!..} وسطعت الشمس في كبد السماء!..

ويصور الله تعالى لنا ذلك بآية من القرآن الكريم، كان لها أن تفحم بلغاء قريش، وفصحاءهم، الذين حاولوا معارضة بعض آي الذكر الحكيم،.. فلمّا انتهت إليهم هذه الآية، وهم في مجلسهم، نكّسوا رؤوسهم مخذولين، وانصرفوا آيسين:

{ وقيل ياأرض ابلعي ماءك، وياسماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بُعداً للقوم الظالمين}

وهكذا قدّر الله لهذه السفينة التي أضناها طول التجوال، أن تستقر على "الجودي"، أخيراً.. فلكلٍّ أجلٌ محتوم، ومقدار معلوم!.. فسبحان الله الذي قدّر للأمور مواقيتها، لاتعدوها!..

ونزل ركب السفينة يحمدون الله على بالغ عنايته بعباده المؤمنين الصالحين..

إنهم في عهد من الحياة، جديد.. وفي طور من عمران الأرض ستكون لهم فيه اليد الطولى.. كيف لا، وقد أصبح طوفان نوح منعطفاً من منعطفات بني الانسان، وحدّاً من حدود تاريخ البشرية، حاسماً، ومعتمداً لتسجيل أحداث، وتأريخ أحقاب غوابر، ماضيات.. تماماً، كالتاريخ الهجري في أيامنا هذه، والميلادي، في معظم أصقاع الدنيا!..

وارتاحت أبصار ركّاب السفينة إلى الأرض التي بدت أمامهم، منبسطة، مستوية، ككفِّ العذراء، وقد غمرتها أشعة الشمس، فبدت متلألئة متوهجة بتألّق الضياء!..

{قيل يانوح اهبط بسلامٍ منّا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممّن معك..}

فهبطوا!..

وتوجّه أبناء نوح الثلاثة: سامٌ، وحامٌ، ويافثُ، كلٌّ إلى جهة من جهات الارض، وقد لحق كلاًّ منهم بعض المؤمنين والمؤمنات..

وشاء الله تعالى أن يكون لكل من هؤلاء الرجال الثلاثة نسل، تعمر به زاوية من زوايا الارض التي انبثوا فيها،.. فكان الساميون، والحاميّون، وأبناء يافث، أجناساً، جناساً، وقد ضاقت عليهم الارض بما رحُبت، وامتلأت بهم الدنيا!.

صوت الحق
28-06-2008, 09:59 AM
النبي إبراهيم (ع) خليل الله

ولادة نبي ابراهيم (ع)

كان نمرود بن كنعان ملكاً على بابل.. وكان أهل هذه المدينة يعيشون حينذاك عيشة راضية، في رغد نعمة، وبحبوحة، وازدهار!...

وكانوا ينحتون أصناماً يتقرّبون إليها بالعبادة. أما ملكهم نمورد فكان يقبض على السلطة بيد من حديد، حتى أنه ادّعى الربوبية. فطلب من قومه أن يتخذوه إلهاً،.. فهو الآمر الناهي، وصاحب السلطان، يفعل مايشاء!.. ثم، أليس هو أجدر بالعبادة من هذه الاصنام الصمّاء، التي لاتنطق ولاتبين، ولاتسدي خيراً ولاتدفع ضراً؟.

في هذه البيئة التي عمّها الفساد، وفي بلدة صغيرة تدعى (فدام آدام)، ولد إبراهيم لأبيه "آزر"، وترى بعض الروايات أن "آزر" هذا كان جدّ ابراهيم، لاأباه. وهكذا فتح الصغير عينيه على قوم اتّخذوا الاصنام أرباباً من دون الله.. وكان آزر نحّاتاً. يصنع لقومه التماثيل والأصنام،.. فكان داعيةً لها، ومروّجاً لعبادتها،.. وهكذا كانت تقوم حياة آزر على الدعوة إلى الإثم، والفتنة، والغواية، والضَّلال!..


إبراهيم متأمّلاً:


ولكنّ إبراهيم، بما آتاه الله من نور في قلبه، وهدىً في بصيرته، ورشاد في تفكيره في ملكوت السماء والارض، توصل الى الايمان، بعفوية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بأن لهذه الارض ومن عليها، والسماء التي تزينها الكواكب والنجوم، رباً خالقاً، وحكيماً مدبّراً، وإلهاً صانعاً أتقن خلق كل شئ، وأحكم إنشاءه، فقدّره تقديراً!...

ولطالما كان يتأمّل في الليل نجوم السماء وكواكبها، فبعضها دائم المسير لايستقر في مكان في هذه السماء اللامتناهية الاتساع، وبعضها كالثابت في مكانه، لايتحرك أو، هو يظهر كذلك، وماهو بثابت!..

وكان يلاحق القمر بنظراته، متأمّلاً إيّاه، فكأنه بين هذه النجوم، وقد أحاطته هالة من نور شفّاف، كالملك تحفّ به حاشيته، والرّعيّة، فهو يتهادى بينها بزهو وخيلاء!..

وعندما يتقدم الليل، ينحدر هذا القمر الى الافق الآخر، وكأنه في ارتحال دائم، لايتوقف!..

وفي الصباح، يتأمّل إبراهيم الشمس، تغزو بنورها الارض من الأفق الشرقي، فتملأها ضياء، وتغمرها نوراً، وتبعث فيها دفئاً وحياةً..

وتتهادى في قُبّة الفلك بعظمة وسلطان، كي تغيب في الأفق الغربي، متحدّرة اليه بمهابة وجلال. فيهبط على إثر ذلك الظلام، وتبدأ النجوم تتلألا في كبد السماء ويطلع القمر من جديد، متناقصاً ليلة بعد ليلة، حيناً متزايداً، حيناً آخر، وهكذا تستمر الحياة بين ليل ونهار، وتعاقب فصول، في انتظام رتيب مهيب، واتساق عجيب، غريب، فتبارك الله أحسن الخالقين!..

لقد آتى الله إبراهيم رشداً، ورُجحان لبٍّ، ونفاذ بصيرةٍ..

ويتطلّع إبراهيم بعد ذلك إلى قومه، عبدة هذه الأصنام، فيُشفق عليهم، وهم دائبون على التضرّع إليها، والإعتكاف على عبادتها، وتقريب الأضاحي إليها، والقرابين!.. كما كان يُشفق إشفاقاً شديداً على هذا المليك النمرود، الذي ادّعى أنّه إله، وما هو بذلك، وليس له ذلك،... فهو إنسان عادي، رغم ماأوتي من عريض مُلك، وعظيم سلطان،.. وهو يحيا، كبقية الناس الذين حوله، ويجري عليه مايجري عليهم..

فهل باستطاعة هذا المدّعي الألوهية أن يتدخل في حركة هذه الكواكب، فيغيّر في نظامها، أو في تعاقب هذه الفصول، فيؤخّر بعضها، ويقدّم بعضها الآخر، أو أن يُحيي ويميت؟... وأنّى له ذلك، إن سوّلت له نفسه هذا الإثم العظيم؟..

وكان إبراهيم يخرج إلى البرّيّة يرعى قطيع أغنام كبيراً، فيسرّح نظرة في الطبيعة:

هذا عشب ينجم (أي: يطلع) كالطحلب اليوم، سيصير نبتاً مستوياً على ساقه بعد أيّام، وقد تفتح عن زهر هنا، وانشقّ عن حب هناك..

وذلك برعم صغير صغير، كحبّة خردل، لايلبث أن ينمو ليصبح بعد شهور أملوداً (أي: غصناً ليّناً) على شجرة، طريّ العود، وفرعاً منها صلباً، شامخاً، .. بعد سنين!..

إنها الحياة، تتسق في إنسان، وفي حيوان، وفي نبات، وربما في جماد أيضاً، اتّساقاً منتظماً، مقدوراً، في جميل معادلة، وبديع حساب... فلا تفاوت في صنع، ولاخلل في تركيب. ولكنها وحدة هائلة، رائعة، بدءاً من الجرم الصغير، كالذّرّة، لايكاد يبين، وانتهاءً بهذه الأفلاك السابحات في رحيب السموات، وقد أحسن إنشاءها خالق لها واحد، ومبدع لها قدير، فأحسن بديع هندستها، وقدّرها تقديراً... فيُفعم قلبُ إبراهيم إيماناً بالله. وتسليماً لحكمته البالغة!...

» رب أرني كيف تحيي الموتى:

وتحدث إبراهيم نفسه، يوماً، حديثاً غريباً:

- لوشاء الله، لأراك كيف يُبعث الموتى أحياءً من جديدٍ...

- أولم تؤمني يانفسُ؟..

ويزجرها إبراهيم زجراً عنيفاً، وقد خاف عليها من كيد الشيطان ووسوستِهِ..

- بلى!... ولكن، لأزداد إيماناً، وثقةً، واطمئناناً.

ويشفق إبراهيم على نفسه، وفيها، حذراً من فتنةٍ تعصف بها في أودية المهالك والضلال. ثم يطرق إلى الارض ملياً، يفكّرُ، ويستعرضُ الأحوال، فيذكر آدم وزوجه اللّذين أخرجهما الشيطان، بوسوسته لهما، من الجنّة، فيستعيذ بالله من الشيطان الرّجيم!... ويعاوده حديث نفسه، فالأمر لايخرج عن نطاق حظيرة الإيمان بالله، بل الثِّقة به، فلا خطر، إذاً، ولا حرج!..

فيرفع إبراهيم بصره إلى السماء، ضارعاً بقلبٍ سليم:

{- رب أرني كيف تحيي الموتى،

قال: أولم تؤمن؟

قال: بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي}

وينظر الله إلى قلب إبراهيم فإذا هو طافح بالإيمان حتى اليقين، فلا شكّ يساوره، ولاارتياب يخامرُهُ، فاتّخذهُ خليلاً!..

ويستجيب الله تعالى لطلب خليله إبراهيم، فيأمُرُه أن يأخذ أربعة من الطّير، مختلفات، فيضمُّها إليه، ثم يقطع أجسادها حتى تصبح أشلاءً، يوزّعها على قمم أربعة أجبُل، محاذٍ بعضُها بعضاً، ثم يستدعي إبراهيمُ بعد ذلك هذه الطيور إليه..

ويسرع إبراهيم يفعل ماأشار به الله تعالى عليه، فنفسُه توّاقةٌ إلى مشاهدة آية البعث قبل يوم البعث، ويقطع أوصال الطيور الأربعة، ثم يوزعها على الجبال.

ويعود إلى مكانه الأول.. ويستدعي إبراهيم إليه الطيور.. وإذا بأشلائها تتطاير من جبل إلى جبل، فينضم بعضها إلى بعض، كل إلى جنسه ونوعه فتعود، كما كانت، طيوراً، قبل أن تتقطع منها الأوصال، وتُقبلُ نحوه، ساعيةً، مرفرفةً بأجنحتها، لها زقزقةٌ وتغريدٌ، وكأنها تسبّح الله في ملكوته الأعلى!.. ويفيض قلبُ إبراهيم إيماناً ونوراً، ويطمئن قلبُه اطمئناناً إلى عظيم قدرة الله، تزول الجبال ولايزول!.. وتسكنُ إلى ذلك نفسه سكون الواثق، وقد رأت معجز الآيات، ودامغ البراهين!..


إبراهيم يدعو أباه:


وآتى الله إبراهيم من لدُنهُ حكمة، وحجّة بالغة، فأرسله نبيّاً إلى قومه، يدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهّار!.. بديع السموات والأرض، وربّ العالمين جميعاً!.

وابتدأ إبراهيم دعوته بأبيه!..

فأبوه نحّات أصنام ماهر، يعيش مما ينحت إزميله من تماثيل يتّخذها قومُه آلهةً، يعبدونها من دون الله.

ومهّد إبراهيم لدعوته أباه آزر، تمهيداً رفيقاً، رقيقاً، فيه دعةٌ وتلطُّفٌ، وجليُّ بيان!.. فأثار فيه مكامن عاطفته كأب، وخاطبه بالحسنى، ومنتهى التهذيب، والأدب الجميل!.

فما الذي يدعوه لعبادة هذه الأصنام التي لاتدفع عن نفسها، أو، عن غيرها، ضُرّاً، ولاتُسدي لهم نفعاً؟..

وأخذ إبراهيمُ، باللّيّن من القول، يزهّدُ أباه في عمل هذه الأصنام، والعُكوف على عبادتها، وهي رمز الشيطان، الداعية إلى سبيل الغيِّ والضلال!..

وخاف إبراهيم، أن يستصغر أبوه- وهو الشيخُ الكبير- شأنه، وهو الفتى الغرُّ، الذي لم تعرُكه، بعدُ، الأيّام، فقال له:

- {ياأبت، إنّي قد جاءني من العلم مالم يأتك}

فالله يجتبي (أي: يختار) من رسله، من يشاء، ويصطفي من يريد،..

وماكان طول العمر شرطاً من شروط الحكمة، والهُدى، أبداً!.. فَرُبَّ فتىً يافع آتاه الله من الرشد في عقله، والنور في قلبه، مالم يؤت أجلاّء الشيوخ!.. ولكنَّ آزر قابل دعوة إبراهيم بالتّجهُّم، والنّفور، والقول الغليظ،.. منكراً عليه ما يدعوه إليه،...

فمتى كان للأغرار -على حداثة سنّهم- أن يرشدوا كبار الشيوخ، الذين عجموا عود الحياة (كناية عن التجربة والخبرة)، فانتهوا إلى مزيدٍ من خبرةٍ، ومُكتسب تجاريب؟..

ولكن إبراهيم مازال يتلطّف في دعوة أبيه، الذي هدّده بطردٍ وهجرانٍ...

فأنّي لهذا القلب القاسي، كالحجر الجُلمود، أن يرقّ؟...

وأنّي لهذه البصيرة العمياء أن يتسرّب إليها نور الحقّ والإيمان؟.. وما ازداد آزر إلاّ إعراضاً عن إبراهيم، ونفوراً!..

وبطرفٍ باكٍ، وغصّةٍ في الحلق، ودّع إبراهيم أباه. فليس للحق أن يجاور الظّلام! وليس للإيمان أن يعايش الكُفران!.. وقال له، وهو يغادر عتبة البيت:

- {سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيّاً. وأعتزلكم وماتدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألاّ أكون بدعاء ربّي شقيّاً..}

وهكذا اعتزل إبراهيم أباه، كي لايكون له على الكفر ظهيراً!...


إبراهيمُ يدعو قومهُ:


وخرج إبراهيم إلى قومه يدعوهم إلى سبيل الرشاد. وسلك في دعوته إياهم طريق الحوار، والجدل الموصل للبرهان المقنع واستدرجهم في مجادلته إيّاهم:

- {ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون}

وأفاضَ قومُهُ في الحديث عن أصنامهم، وتناولوها بالتقديس والتعظيم، فلها حُرمة لاتمسّ، ولها شأنٌ، في حياتهم، خطيرٌ!..

ولم يعبأ إبراهيم ببهرج قولهم، إنّه لمزخرفٌ غرورٌ،... وإن هي إلا أصنامٌ اتّخذوها آلهةٌ، فلم اللَّفُّ والدّورانُ؟.

وجابههُم بصريح العبارة، وعفويّ المقال:

- {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً. إنّ الذين تعبدون من دون الله لايملكون لكم رزقاً، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له، إليه تُرجعون}

فاندكّت حجّتهم، وانقطعوا!...

حقاً، إنها لأصنامٌ صمّاءُ، بكماءُ، لاترى ولاتسمعُ، ولاتضرُّ ولاتنفع!.

وخيّل إلى بعضهم أنهم هدوا للقول الصّواب:

- {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين}

إنّ التقليد الاعمى، الذي لايستبصر!.. وتقديس الأقدمين في كل مايفعلون. ولو كانوا على غير هدى!..

{قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين}.

ثم أعلن فيهم دعوته الصُّراح، كفلق الصّباح:

{قال بل ربكم ربّ السموات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين}

وانفجر الموقف بين المتخاصمين المتجادلين، وقد توقّف كلٌّ منهم على الرأي المؤمن به، لايعدوه!... ولم يتزعزع موقفُ إبراهيم، وهو يرى اجتماعهم على الضّلال، وتفرّده بالحق...

وراعهُ موقفهم العنيد، وخصامهم اللّدود، وكأنّ الشيطان ينفُثُ على ألسنتهم كل كفرٍ وبهتان!..

أمّا، وقد منّ الله عليه، من دونهم، بالهداية، فلم ينقطع إبراهيم في كلّ مناسبة، عن دعوتهم إلى الإيمان بالدّين الحق الذي جاءهم به، دين الله الحنيف، وشريعته السّمحاء... ونبذ كل صنم، حجراً كان أم خشباً، محذّراً إياهم من الوقوع في حبائل الشيطان، الذي يصُدُّ عن سبيل الله صدوداً..

وصرف ابصارهم، وبصائرهم إلى بديع خلق الله، وباهر قدرته، وجليّ حكمته، وعظيم سلطانه، في أرض وفي سماء، معلناً تسليمه لأمر الله، وقضائه،... وتمرّده على ماهم عليه من ضلالٍ، وعداوتهُ لهُم ولما يعبدون من دون الله.

- {قال أفرأيتم ماكنتم تعبدون. أنتُم وآباؤكم الأقدمون. فإنّهم عدوٌ لي إلا ربّ العالمين. الّذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فهو يشفين. والذي يُميتُني ثمّ يُحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين}

ثم غادرهم بعد أن لم تنفع حُجّةٌ، ولم يُجدِ بُرهانٌ، ولم يُغنِ إنذار، مبيّتاً في نفسه أمراً خطيراً، له وقعُ الزّلزال تدميراً!..


إبراهيم يُحطّم الأصنام:


كان من عادة قوم إبراهيم أن يخرجوا في عيدٍ لهم إلى ظاهر المدينة يلهون ويمرحون، بعد أن يتركوا أمام أصنامهم صنوف الطّعام.

ودعوا إبراهيم إلى مشاركتهم فرحة العيد، والخروج معهم إلى البرّيّة، لعلّ نفسه تجد في ذلك استجماماً مما تعاني من حصر وضيق، فتنصرف عن هذه الدّعوة، أو تخفّفُ من حدّة غلوائها، على الأقل!..

فاعتذر إبراهيم إليهم بأنّهُ مريضٌ..

وليس المريض جسده، ولكن، نفسه التي كانت تتمزّق على قومه حسرةً وأسىً، لما هم فيه من ضلال، وكفر بأنعم الله!..

ولمّا خلت المدينة من أهلها -وقد خرجوا منها جميعاً، يسرحون ويمرحون ويلهون- دخل إبراهيم بيت عبادتهم، فوجد الأصنام تملأ رحاب هذا البيت، منها الصغير، ومنها الكبير، ومنها دون ذلك، ووجد صنماً ضخماً، يتوسّطها جميعاً، إنه كبير هذه الأصنام، فلا شك بأنه عظيم الآلهة، وسيّدُها الخطيرُ!..

ورأى من ضروب الطعام أمامها صُنوفاً، وألواناً!..

فابتسم إبراهيم ابتسامة ازدراء، ورماها بنظرة تنضحُ احتقاراً. فيالهوان هذه التماثيل!..

وتقدم إبراهيم، إلى الأصنام، وكأنه يخاطبها، عابثاً، محتقراً..

ولمّا لم تجب، وأنى لها ذلك؟... قدم إليها صحاف الطعام الفاخر، طالباً إليها تناول المستطاب منه. فلم تمتد منها يد.

فصرخ بوجهها، وكأنه يشتمها: مابكم؟.. ألا تنطقون؟.. ولم لاتأكلون؟.. وران (أي:خيّم) على المكان جوٌ ثقيلٌ ثقيلٌ، ورهيبٌ رهيبٌ!...

وتحولت سخريةُ إبراهيم إلى غيظٍ مُحنَقٍ، وقد رأى بعضها مكشِّراً، كمن يضحك،.. مستهزئاً.. واستبدّ به الغضب،.. فتناول من زاوية فأساً انهال بها على الأصنام ضرباً شديداً فتهاوت أمامه،.. واشتعل غضبُه، وماكان غضبُه إلاّ لله، وأخذ يحطّم من الأصنام الرؤوس والأعناق، فتناثرت تحت قدميه قطعاً من حجارةٍ!...

ثم غادر بيت عبادتهم، بعد أن امتلأ ركاماً وحُطاماً، باستثناء صنمهم الأكبر، عظيم آلهتهم، فقد أبقى إبراهيم عليه، لغاية في نفسه، ولسوف تظهر بعد حين!..

وعاد القوم في آخر النهار منتشين، يهزجون طربين، وتوجّهوا إلى بيت عبادتهم، فرحين! وما أن دخلوه حتى تسمّرت أقدامهم في مكانها، منذهلين، وقد اقشعرت منهم الأبدان!.. الصنمُ الأكبر، وحده، في مكانه قائم،... بينما تناثرت بقيّةُ الأصنام إلى قطع من حجارة غصّ بها بيت عبادتهم،... وشعروا، وكأن صفعةً لسعت وجوههم جميعاً فياللهوان!..

وصرخ سادنُ البيت (أي: المسؤول عنه) وآخرون:

- {قالوا: من فعل هذا بآلهتنا، إنه لمن الظالمين}

فأجاب بعضهم من أقصى المكان، ممّن سبق لهم وحاوروا إبراهيم:

- {قالوا: سمعنا فتىً يذكرُهم يقال له إبراهيمُ}

إنها فعلة إبراهيم الشنعاء، إذاً، الصارخة بالتحدي والتحقير!..

وإنهم ليعرفون هذا الفتى جيداً، ينطق بالحجة والبرهان... ولطالما نعى عليهم عبادة هذه الأصنام، مسفّهاً أحلام عابديها، معلناً براءته منهم ومنها، مظهراً لها لدد الخصام، حتى التهديد!..

وها قد بلغت به الجرأةُ إلى تنفيذ تهديده، وما توعّد به، فيا للعار!..

وعلت الصّرخات: ياللعار!.. الثأر، الثأر!..

ووجد القوم في ذلك فرصة سانحة للتخلص، نهائياً، من إبراهيم.. فهو يستحق على فعلته هذه، كلّ عقابٍ وعذابٍ.. فأرسلوا من يأتي به، ليحاكموهُ على أعين الناس.. وكان يوماً مشهوداً، وقد اجتمع أهل المدينة ليَروا ما سيحلُّ بهذا الفتى الّذي له جُرأةُ المجانين!..


المحاكمة:


وسيق إبراهيم إلى بيت العبادة مخفوراً، وقد استبدّ بالجماهير فائر الغضب، فصرخت بوجهه، وتناولته بألسنتها، وتطاولت إليه أيدٍ، فحيل بينها وبينه.. ومَثُلَ إبراهيم أمام كبير القضاة، وهو نفسُه سادنُ بيتِ العبادة، وقد تدلّت لحيتُه الكّةُ البيضاء على صدره، كالمنديل الناصع البياض..

ورماه القاضي بنظرة غضبى، وهو يكاد يتميّز غيظاً، وقد تراقصت شفتاه، لفرط تأثُّرٍ، فلم يأبه إبراهيم لذلك، وتجاهل مايعتري القوم من غضب جارف...

ورانت لحظات صمت ثقال، وقد أخذ إبراهيم مكانه أمام القضاء، شامخاً بالتحدي. وبوجيز العبارة، سألهُ كبير القضاة!

- {أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا ياإبراهيم}

وظهر، وكأن إبراهيم استدرجهم إلى حيث يقصد، من حيث لايشعرون!..

فأجاب، وكأنّه يعبث بأحلامهم:

- {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون}

وبلمحة البرق الخاطف أدرك الحضور غاية إبراهيم من إبقاء الصنم الأكبر على حاله كالشاهد على ماحدث، فلم يتحوّل، كغيره، جُذاذاً مهشّماً!.

إنّه أسلوب إبراهيم الحسّيُّ في حوارٍ له، دائماً، وفي نقاشٍ!.. وماعهدوه إلاّ ساطع الحجة، دامغ البرهان!..

فنظروا إلى الصنم الجامد، مشدوهين، حيارى!..

وازدرد القاضي بريقه، مطرقاً، وكذلك فعل من حوله.

فلقد آتى الله إبراهيم من الحجّة البيّنة التي تصل إلى أعماق النّفس، فتُحرّك فيها كوامن الأحاسيس الفطرية، والمشاعر العفوية.

إن إبراهيم لينطق، وأيم الله، بالصواب،... ولقد ظلم القوم انفسهم ظلماً بيّناً باتّخاذهم من الحجر الذي لايُقدّم ولا يؤخّر، ولاينفعُ ولايضُرُّ، رباً معبوداً... وصفعتهُم الخيبة بكفٍّ من جليدٍ!.. فتراجعوا مقهورين، ونكصوا على أعقابهم، مخذولين!...

- {لقد علمت ماهؤلاء ينطقون}

وهذا ماأرادهُ إبراهيم أن يُفصحوا عنه، ويعترفوا به من تلقاء أنفُسهم، أمّا، وقد اعترفوا هم بذلك، فقد انبلج الحق وبانت الحجّة، وقام البرهان على ذلك والدليل!.. فما من إله إلا الله الواحد القهّار!..

وهكذا حجّهم إبراهيم بتبيانه، وظهر عليهم ببرهانه،.. وهو، إلى ذلك، مايزالُ يتوجّهُ إلى قرارة أنفسهم، لعلّها تهتدي إلى الحقِّ المبين، وبرد اليقين:

- { قال أفتعبدون من دون الله مالاينفعكم شيئاً ولايضركم. أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}.

فانقطعوا!.. وبان عليهم الانكسار!.. وارتسمت على وجوههم علائم الخيبة والخزي... وخافوا على أنفسهم، وعلى مكانتهم بين قومهم، وعلى آلهتهم!... فسعوا للخلاص من هذه الورطة، على أيِّ حال، وحفظ ماء وجوههم كيفما اتّفق،... فلجأوا إلى المكابرة والعناد. والإصرار على الباطل الأثيم، وتذرعوا بالقوة والسُّلطان، يتسترون، بهما، مما حاق بهم من مرير الخذلان!...

فصاحوا: {حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين}

يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم

وتسابق القوم يجمعون الحطب الجزل، حتى اجتمع لديهم منه مايكفي لحرق مدينة بكاملها!...

وكانت المرأةُ المريضة منهم، تنذر، إن شفيت من مرضها، وعوفيت من سقمها، أن تأتي بحمل من الحطب لحرق إبراهيم!..

وتكدّس الحطبُ أحمالاً أحمالاً!..

إنهم بذلك يتشفّون من هذا الذي رماهم بكل ضلال وغيّ، وسفّه أحلامهم، لما جروا عليه من قديم العادات، واجترأ على تحطيم أصنامهم حتى تركها جذاذاً مُهاناً!...

وأُتي بإبراهيم موثوقاً..

وأُلقي بين أكوام الحطب، ثم كدّس فوقه من الحطب الكثير،..

وأضرمت بالحطب النارُ، فاستعرت وعلا لهيبُ النّار، وارتفع دخانُها، وسُمِعَ لصوتها فحيحٌ، وكأنها جهنّمُ قد فتّحت أبوابها!..

وصاحت الجماهير المهووسة، وقد أخذتها سورة الانتقام: مزيداً من النّار، مزيداً من النار!.. فطرح في النار كلّ مايحترق، فزادت تأججاً وسعيراً، واشتدت زفيراً..

وطرب القومُ، وكأنّهم في عرسٍ، فاليوم يوم إبراهيم!.. ومَضت ساعاتٍ،... ثم خمدت النار، بعد ذلك، وخبت!...

وتقدم القوم ليروا ماحلّ بإبراهيم!..

فكشفوا عنهُ الجمر الكبير، من بعيد، فسُمِعَ له تقصُّفٌ. ولفح وجوههم من ه وهج مستعر!... فما زال للنّار أوار، بعد، وحرارة، فابتعدوا...

ولكنّ بعضهم لاحظ حركةً تحت الجمر المتّقد، وسمع صوتاً يذكر ربّ الارض والسّماء... فجمد الدّمُ في عُروقهم!.. وتكاثروا، وازدحموا، وتقدّموا يزيحون الجمر، لايعبأون بلفح وهجة اللاسع!.. وإذا بإبراهيم يخرجُ عليهم من قبل الجحيم، يُزيحُ عنه بيديه المرتعشتين متلظّي الجمر، وينفضُ الرّماد، ويطأ على النّار، متوجّهاً إليهم، وهو يرتعدُ برداً!...

فبُهتوا، وعقلت المُفاجأةُ السنتهم، وسلبت الدهشة صوابهم، ففغروا أفواههم محملقين!..

إنها المعجزة الباهرة الكبرى!.. فآمن بإبراهيم نفرٌ من قومه قليلٌ، لم يجدوا إلا أن يكتُموا إيمانهم، تقيّةً، وحذراً!...


إبراهيم ونمرود:


وترامى إلى نمرودٍ الملك - الإله، خبرُ إبراهيم، وتناهت إليه المعجزة الكبرى. فاستدعاهُ إليه، ودار بينهما هذا الحوار:

نمرود: مالك ولهذه الفتنة التي زرعتها بين قومك، فكانت بينهم بذار شقاق وخلاف... وأنّي لك أن تتجرّأ على آلهتهم، فتعيبها، وتسبُّها، وتحطّمها، بعد ذلك، تحطيماً، وعلى أحلامهم فتُسفّهها تسفيهاً،... وعلى ما درجوا عليه من قديم عادات ومعتقدات فتدعوا إلى نبذها؟... وكأنك تعلن عليهم، يا إبراهيم، بذلك، حرباً ضروساً!...

ومن هو هذا الإلهُ، غيري، الّذي تدعو إلى عبادته، وأين تُراه يكون متّخذاً مكاناً؟

وبجنان ثابت، وقلبٍ مفعمٍ بالإيمان واليقين، أجاب إبراهيم، مطمئناً:

- {ربّي الذي يحيي ويميت...}

ولكنّ نمروداً يكابر، وتأخذه العزّة بالإثم. فللسلطان جبروت طاغ!... فيداور في جداله، ويراوغ، كالثعلب، مخاتلاً!..

ويتصوّر نفسه مالكاً رقاب النّاس، فهم له سوقة وعبيد، وله عليهم سلطان قاهر!... فإن شاء أنعم على من شاء الإنعام عليه، وله أن يسلب نعمة من يريد، إن أراد منه انتقاماً!.. وإن شاء *** من رعيّته من يشاء، وعفا عمّن يريد، إن رأى صفحاً!...

فهو -والحالة هذه- كإله إبراهيم، يرزق من يشاء، ويحرم من يشاء...

وي*** من يشاء، فيميتهُ، أو كأنّه هو الذي أماته..

ويعفو عمن يريد، فيحييه، أو كأنه هو الذي أحياه..

وتنفرجُ أساريرُ نمرود، وقد التمعت بذهنه هذه الأفكار، فيبادر:

- و{أنا أُحيي وأُميت}

ويستطرد في هذا المعنى استطراداً ويمعنُ تمثيلاً وتشبيهاً،.. فلا فرق بينه، إذاً، وبين إله إبراهيم..

و يبتسم إبراهيم بلطف، كالمشفق على هذا الطاغية الجبّار.. فمتى كان المخلوق خالقاً، ومتى كان المرزوق رازقاً؟..

ولكنه جبروت عزّة السُّلطان!..

ويري إبراهيم نمرود بديع خلق الله، ورائع حكمته، وعظيم سُلطانه، في كل ماتقع عليه عين، في الأرض وفي السماء.. فالله خالق كلّ شئ، وبيده ملكوت كل شئٍ...

فيهزأ نمرود بما يسمع..

عند ذلك يتّجه إبراهيم إلى إثبات عجز خصمه، وخطل رأيه، وسفه جبروته، فيكرُّ عليه موهناً كيده، ويأتيه من حيث لم يحتسب، قائلاً له:

- {إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب..

فبُهت الذي كفر}

وبان عليه العجز، وظهر عليه الحصر، وانقطعت حُجّته، فصمت، مغلوباً، مبهوراً!..

وأوجس نمرود من إبراهيم خيفة.. فهو يمثّل خطراً عليه، جدّياً، وداهماً... فصرفهُ!.. وبثّ حوله العيون والأرصاد، وتربّص به الدوائر للإيقاع به.

وأحسّ إبراهيم بما يبيِّتُ له هذا السلطان الغاشم،.. وبالتضييق، يأخذ عليه كل طريق، وكل مجال، وسبيل!..

ولم يجد إبراهيم مندوحةً (أي: بُدّاً) من الفرار بنفسه، وبدينه، من هذه الارض التي لم ينم له فيها غرس، وقد بدأ يغزوها قحط وجدب...

وترك قومه، آسفاً، لما سيحلُّ بهم من عذاب أليم،.. فالله آخذهم، لامحالة، بعد مغادرته إيّاهم، أخذاً وبيلاً!...

ويمّم إبراهيم وجهه شطر فلسطين مهاجراً، وهو يحمل على كاهله، وفي قلبه ديناً سماوياً جديداً... مستبدلاً بالأهل أهلاً، وبالأوطان أوطاناً!...


إبراهيم في حرّان:


وفي حرّان، على الطرف الشمالي من بلاد الشام، ألقى إبراهيم عصا ترحاله وكان أهل حرّان أيامذاك، يتعاطون علم النجوم والأفلاك... وكان يصل بهم الأمر في تعظيم بعض النجوم، وتقديسها، إلى درجة عبادتها.

ورأى إبراهيم منهم ذلك، فأنكره، دون أن يفصح لهم عن هذا الانكار.. ولجأ كعادته، إلى سبيل الحوار، الهادئ، المستطرد، الموصل الى الاقناع والتسليم.

فلمّا جنّ على إبراهيم الليل، وكان بين جماعة من الحرّانيين، رأى في السماء نجماً ساطعاً هلّل له من حوله، ممّن نزل بين ظهرانيهم (أي: بينهم) من أهل حرّان،.. وكبّروا له تكبيراً، وخرّوا له سُجّداً...

فعظم على إبراهيم مارأى.. وتبرّأ إلى الله من أن يُشرك بعبادته أحداً، وتبرّأ من هؤلاء الجهلة، المتظاهرين بالعلم، السادرين في غياهب الكفر ومتاهة الضلال!...

ولكن إبراهيم جارى القوم في ماهم فيه سادرون، متّخذاً ذلك سبيلاً لحجّة إقناعهم، فقال على سبيل المجاراة، ولكن إلى حين:

- {هذا ربي!..}

وبعد ساعات افتقد إبراهيم النجم فلم يجده.. لقد أفَلَ، وغاب، ومعه، أفلت كواكبُ، وغابت نجومٌ، ولايحصيها إلا الله، عدداً!..

فقال: {إني لاأحبُّ الآفلين.}

ثم عرض بهذه النجوم المتغيّرات، الدّائرات كالحيارى، وهي تسبح في أفلاكها، وأعلن بغضه لها، وبراءته من عبادتها..

{فلمّا رأى القمر بازغاً قال هذا ربي..}

استدراجاً لهم، ومُجاراةً لعقولهم، وتمشياً مع ماهم عليه من دينٍ..

{فلما أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين}

وهكذا بيّن إبراهيم لمن حوله من عبّاد هذه الكواكب والنجوم، أنّ الله الذي هو خالقُ كل شئ، ورب كل شئ، هول الهادي، والآخذ بيد عباده، المتطلّعين إلى عبادته..

ولمّا لم يجد إبراهيم من القوم معترضاً، أعلن براءته من هذه الآلهة التي ماأن تطلع حتّى تغيب،.. ملفتاً أنظار من حوله إلى أن هنالك خالقاً عظيماً، ومدبّراً قديراً، لكلّ مايتحرك في جوف سماء، ومايدبُّ على وجه الثّرى. أو يغوص في لجّة ماء!.. فهو وحده الجدير أن تتجه إليه أبصار الناس وبصائرهم، فيتّخذونه إلهاً معبوداً، وربّاً مربوباً!..

{فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا ربّي، هذا أكبرُ..}

وحقّ لإبراهيم أن يقول ذلك، تدرُّجاً، ومجاراةً..

فللشمس نورٌ باهرٌ وسلطانٌ قاهرٌ، أين منه نجم يتحرك في كبد السماء، على استحياء، أو قمر يتهادى بخفر في جوف الظّلماء!...

فلمّا أفلت، أعلن براءته من كل هذه الآلهة جميعاً بدءاً من النجم الصغير وانتهاءً بالشّمس أخطر الكواكب طُرّاً!.

فحاجّهُ قومه في ذلك، فحجّهم، وظهر عليهم. وقد آتاه الله من لدنهُ الحجّة البالغة، وفصلَ الخطابِ!..

وأشفق عبّاد النجوم على إبراهيم، الكافر بعبادتها، المحقّر شأنها، أن تطاله بأذاها، وشرّها المستطير، فابتسم مستهزئاً بهم، وبما يعتقدون. فهم الأحق أن يطالهم غضب الله، ويعمّهم عذابه الأليم!.

ولمّا رأى ابراهيم إصرارهم على وثنيتهم، عزم على مغادرة هؤلاء القوم الكافرين، فأرضُ الله واسعة، ورحمته وسعت كل شئ، وهو ولي عباده المؤمنين!.. وزاده تصميماً على ذلك ما شعر به من جفوة القوم إياه، وتباعدهُم عنه.

يضاف إلى ذلك قحط وجدبٌ عمّا البلاد، وغلاء أسعار أرهق كواهل الناس، فناؤوا تحت فادح وطأته، فجمع أمتعته، وماله، وأخذ بيد زوجه سارة، وسار متوجّهاً الى أرض مصر!..


إبراهيم في مصر:


وانتهى بإبراهيم، إلى أرض مصر، المسير. وكان يحكم مصر في تلك الحقبة من التاريخ أحدُ ملوك العرب العماليق..

وشاهد سارة- التي كانت على قسط من الجمال، وافر- أحد بطانة الملك ومستشاريه، فسحرهُ جمالُها الأخاذ، وأخذ يصف لمليكه ماتتمتّعُ به هذه الوافدة الجديدة إلى أرض مصر من جمال فتّانٍ. فأغرى الملك بها، ولم يلبث الملك أن ارسل من يُحضرها، وزوجها، إلى قصره.

ولمّا مثُل إبراهيم بين يدي الملك، سأله عن هذه الحسناء التي يصحبُها.. فأنكر إبراهيم، على الملك، هذا السؤال، وأوجس منه خيفة، مرتاباً، وانطلق لسانُ إبراهيم بالإجابة: إنّها أختي..

ولم يكذب في ذلك إبراهيم.. فسارة أختُه في الدين، وفي اللّغة، وفي الانسانية. ورفيقةُ دربه في رحلة هذا العمر الطويل، الملئ بالمشقّات، الزاخر بالصّعوبات.

وصمت الملك، وبان في عينيه التماع!..

وتنفّس إبراهيم الصُّعداء، فلو أعلن للملك أنها زوجهُ لسعى بكلّ مكيدةٍ كي يتخلّص منه، لتخلصَ سارةُ له وحده، دون العالمين!..

وأمر الملك بسارة الى قصره، يتخذها له زوجاً..

وأسرّ إبراهيم في أذن زوجه- وهي في طريقها إلى مخدع الملك-، ماأجاب به الملك من أنها شقيقته، لازوجه.. وأومأت سارة برأسها، وقد أدركت مايريد!..

وأخذ النسروة في القصر الملكي يعددن سارة لليلة زفافها للملك، فألبسنها فاخر الثّياب، وزيّنّها بكلّ ثمين، وأحطنها بوفير البذخ والأبّهة والجلال،...

فذات الحُسن المدلّ، المترف، الآسرة بجمالها لبَّ الملك، يليق بها كل إكرامٍ!..

وبموكب نسوي، باذخ الأناقة والتّرف، زُفّت الحسناءُ الخلوبُ، عروساً للملك، جديدة تضاف إلى العشرات غيرها، من نسوة الملك، وحظيّاته، النواعم، كالدُّمى!..

واختلى الملك بها، فوجدها ملتاعة يعصف بها حزن، ويعتصرُها أسىً... وقد أطرقت بنظراتها إلى الأرض، ودموعُها تتحدّر على وجنتيها، كحبَّات درٍّ، فطيّب الملكُ خاطرها. فليس للملك عهد، بزوجاته، على كثرتهنّ، يقابلنه في موعد السّعادة، بوجوم حزين، ودمعة حرى، وقد وردن نعمة، وحططن على عيشٍ خصيلٍ (أي: ناعم طيب)، أين منه جنّاتُ النعيم!...

وشعر الملك، شعوراً خفياً، بأن زوجه هذه من صنف آخر، لاعهد له به، في من عرف من نساءٍ،.. وأحسّ بقلبه اضطراباً، ووجيباً، ولم يكن ليحسّ بشئ من ذلك طوال ما سلف من عمره...

ومدّ الملك يده إلى عروسه،.. فلم تصل إليها، بل تعلّقت يده في الهواء كقطعة من حشب، وكأنّها ليست من لحم ودم!.

أتُراها من الجنّيّات؟..

أم تُراها من السّاحرات العليمات؟..

فأخذتهُ الرهبة، وعقلت لسانه الدهشة، وحاول، جاهداً، تحريك يده فلم تتحرّك... إنها جامدة كالعود اليابس..

وخيّل اليه أنه أمام امرأة تحرُسُها السماء، وترعاها عنايتها..

فطلب إليها، متوسّلاً، أن تدعو إلهها، كي يعيد إليه يده، كما كانت،.. معاهداً إياها ألا يمسّها بعد ذلك، أبداً..

واستجابت سارة لتوسّل الملك، الذي، عادت إليه يده، جدّ طبيعية، كما كانت!..

ولّما حوال ثانية أن يمدّ إليها يداً، عادت يده متشنّجةً، وقد جمد فيها الدم، وتصلّبت فيها العروق، فهو لايستطيع لها تحريكاً..

ويعاوده اليقين بأنه أمام امرأةً لها قدسيّة وعصمة، ليستا لغيرها من نساء الارض جميعاً!.

وألحّ الملك من جديد، على سارة أن تدعو له إلهها، فتعود يده سالمة، مقسماً بآبائه الأكرمين، وآلهة مصر جميعاً ألاّ يقترب منها، وقد رأى الراهين والآيات!..

ومرة ثانية، تستجيب سارة للملك، وقد حلف لها بكل عظيم،.. فتعود إليه يده. ثم ينهض إلى النوم وقد اثّاقلت جفونه، فينطرح على سريره، متثائباً، ويغط ملك مصر في سبات عميقٍ!..

ويستيقظُ الملك في صباح اليوم التالي، فينظر إلى سارة، وقد نهضت من مخدعها، وهو شارد النظرات، ثم يحني لها رأسه بإجلال...

فلقد رأى الملك في منامه، رؤيا حق، وصدق، أن سارة ذات بعلٍ، وعلى الملك ألاّ يقربها، بل عليه أن يحوطها بالإكرام والإعظام!..

ويُسرعُ الملك باستدعاء إبراهيم، فيُكرمُه، ويعيد إليه زوجه، على عفاف وطُهرٍ،.. ويُكرمُ سارة، وقد عصمها الله، بأمةٍ (أي: عبدةٍ) سوداء، خادمة لها.

ويبقى إبراهيم في أرض مصر ماشاء الله أن يبقى، على دعةٍ، واطمئنان.. وكان يعمل بدأب، فكثُر رزقه، وتضاعفت مواشيه، واشتهر أمره بين القوم، وعلا ذكره..

ولكنّ، كل ذي نعمة محسود!..

فسرعان ما انقلب الناس على إبراهيم حسداً من عندهم، وبغياً، وأضمروا له السوء، فجفي، وشعر بالغربة بينهم، وبكرههم إيّاه فصمّم على مغادرتهم إلى أرض فلسطين، التي سبق له أن حلّ فيها ردحاً من الزمن، قصيراً.

وتهيّأ إبراهيم للرّحيل. فجمع قطعانه، والمال الوفير الذي اكتسبه، وسار بسارة، تصحبُها هاجر خادمتها الجديدة، ميمّماً وجهه شطر الشمال، صُعداً.. إلى أرض فلسطين!..


إبراهيم في فلسطين


حلّ إبراهيم في فلسطين، بين قومه، وقد آمن به، منهم، قليلٌ!. وكانت حياته مقسّمةً بين عمل في سبيل العيش والحياة، وبثّ الدعوة بين قومه، وإرشادهم، وانصراف إلى شؤون بيته وأهله،... فلكل حقّهُ من الاهتمام!..

وكانت زوجهُ سارة عاقراً، فلم يُرزق إبراهيم منها ولداً، يخلُفُه من بعده..

وأنِسَت سارةُ من زوجها رغبةً في ولدٍ يليه، ويحفظ ذكره، بعد تصرّم أجله (أي: انقضاء أيامه) أنها طبيعة الحياة، وسنّة الله في خلقه.

والتمع في ذهن سارة خاطر: فلم لاتزوّج إبراهيم من هاجر، خادمتها، وبذلك توفّر على نفسها عناءً قد تلاقيه من ضرّةٍ غريبةٍ، لاتعرف من أمرها شيئاً؟..

وفاتحت سارة إبراهيم بهذا الخاطر الطارئ، فرضيَ!..

وتمّ ذلك!..

وشاء الله أن تحمل هاجر، لتلد، فيما بعد، إسماعيل، بكر أبناء إبراهيم، وخليفته من بعده. وامتلأت حياة إبراهيم سعادة، وقد رزقه الله غلاماً ذا شأن!.

وارتفع شأن هاجر في المنزل، فهي زوج إبراهيم، وأمُّ إسماعيل..

وأنست سارة بالوليد الصغير، المُنمنم المحيّا، البهيّ الطّلعة، على سُمرةٍ داكنةٍ، بعض الأنس، ورضيت بعض الرضى، فمن يدري؟.. لعل إسماعيل يكون لها بمثابة الإبن، في مستقبل الأيام، وهي العقيم!.

ولكن انصراف إبراهيم إلى ابنه، وأمّه، عنها، أثار حفيظتها، وأشعل غيرتها. فمتى كانت الأمةُ كالحرّة؟.. ومتى كان الليل الداكن، كالنّهار السّاطع بالضياء؟ ولم تطق سارة مع هذه الأمة وطفلها، عيشاً!.. وقد اسودّت الدنيا في عينيها. والغيرةُ داءٌ عُضالٌ!..

واحتار إبراهيم في أمره: فليس بوسعة أن يغضب سارة، وليس بإمكانه أن يتخلّى عن هاجر وابنها.

وتصر سارة على إبعاد هاجر وابنها عن الأرض التي هي عليها... فليس لهاجر في هذه الدّيار، مكانٌ!..

وكأن الله تعالى أوحى إلى نبيّه إبراهيم: أن سِر بهاجر وابنها إلى أرض الحجاز!.. فسار!..


وديعة إبراهيم


الرّكب الصغير يتهادى في سيره في أرض فلسطين إلى أرض الحجاز!.

والأمةُ وطفلها في هودج، مع متاع يسيرٍ،.. والراحلة تُتلع (إي: تمد) بعُنُقها، فالدّرب طويل طويل!..

وإبراهيم على دابّته، وقد أضناها المسير، فهزلت، وضمُرت..

وتمضي الأيامن تتلوها الأيام، قاطعاً خلالها نبيُّ الله إبراهيم صحارى، وأرضاً مقفرةً، معرّجاً من نجع (موطن العشب) إلى نجعٍ، ينزل، حيثُ أضناه لغوب (أي: تعب) السّير والسُّرى (المشي ليلاً)..

والطفلُ في حضن أمّه، يتلوّى، وقد أدركه إرهاق مشئ الناقة، الوئيد..

ويحُطُّ "خليلُ الرحمن" إبراهيم، عصا ترحاله في صحراء بلقع،... وتنزل هاجر ومعها ابنُها، وشئٌ من زهيد المتاع، وضئيل الزّاد! ويُبادرها إبراهيم قائلاً:

- في هذه الأرض مستقرُّكُما، حتّى يأتي الله بأمره!.

وتتلفّت هاجر ذات اليمين وذات الشمال، كظبي أعفر مذعورٍ، فلا ترى إلاّ صحراء تتلوها صحراء، وقد خلت من كل أثر من آثار الحياة، فتصرُخَ، وقد ارتسمت على وجهها علائم اندهاش واستغرابٍ:

- أفي هذه الأرض ستدعُنا ياإبراهيمُ؟

- أجلُ، ياأم إسماعيلَ.

- وإلى من تكِلُنا في هذا المهمه القفر (الصحراء المجدبة)؟

- إلى الله تعالى...

- ولكنّه الموتُ. أتترُكُنا ها هنا لنهلك جوعاً وعطشاً، في حرّ الهجير، ومستعر الرّمضاء؟.

- إنهُ أمرُ الله، فاعتصمي بالصبر، واتّكلي على الله..

وتضم هاجر الوليد الرضيع، وقد علا صُراخهُ، إلى حضنها، ثم تقدّمه لأبيه، مستعطفة فلعلّ قلب الأب يرقُّ!..

ولكنّ إبراهيم أشاح بوجهه عنها، وهو يزدرد ريقه، وقد جفّ حلقُه...

ثم عاد واستقبلها بابتسامة الحاني الشّفوق، مطيّباً خاطرها، داعياً إياها إلى التوكّل على الله... فهو وليّ أمر عباده المسلمين إليه أمورهم، قائلاً لها:

- لن يُضيّعكُما الله في هذا المكان الموحش!.

ثم، يعتلي دابّته، منتهراً إيّاها، فتجري به سريعاً، ويُلاحقه صراخُ هاجر، وعيل الطفل، فلايدير إليهما وجهاً..

ولكنّ قلبه كان كالمرجل غليان عاطفةٍ، وحُزناً متّقداً...

وتوجّه إبراهيم بكلّ مافيه من إحساسٍ صادقٍ، يتفجّر من قلبٍ سليمٍ، إلى مولاه، هاديه، والآخذ بيده في كل موقف عصيب، رافعاً إليه يده، وصوته، وكأنّه يجهش باكياً:

{ربّنا إني أسكنتُ من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم، ربّنا ليُقيموا الصّلاة، فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم، وارزقهم من الثّمرات لعلّهم يشكرون}.

إنها وديعةُ إبراهيم عند الله!. وهل كالله مستودع وثيق؟..


زمزم:


وتلاحق هاجر، بنظراتها الولهى، زوجها إبراهيم، على دابّته، تجتاز به القفار... وتظل كذلك، حتى أصبح يتراءى لها من بعيد، نقطة داكنةً على صفحة غبراء... ثم تختفي هذه النقطة شيئاً فشيئاً، وكأنّها تذوب!.

فتستسلم هاجر إلى الانتحاب بمرارةٍ، وتبكي سوء مصيرها، ومصير طفلها، وتندُبُ حظّهما التّعيس! فقد عصف بها يأسٌ مريرٌ قتّال!... ثم لاتلبث أن تُسلم أمرها لله!... فهكذا وصّاها إبراهيم.. فيالقساوة قلوب الرجال!. وتذكر ضُرّتها سارة، فتُدرك أنّ قلوب النساء أقسى!..

وتعود بها الذكريات إلى سابق حياتها في البلاط الملكيّ، العاطر الأرجاء، دائماً... الدّافق بالرزق والخيرات الحسان، على استمرار... وإلى انتقالها إلى أرض فلسطين التي لايفارقها الإخضرار صيف شتاء.. وأين من ذلك كلّه، هذه الأرض المواتُ، التي تستعصي الحياة فيها على الحيّات... فتنهمر من مقلتيها دموع حرار غزار... ولايعيدُها إلى واقعها الذي هي فيه، إلاّ صوتُ رضيعها إسماعيل، الذي أخذ يُلعلع في هذه الأرض الموحشة المقفرة، بصُراخه، ولامن سميع!..

فتسرع إليه تُلقمهُ ثديَهَا، ولكن الّبنَ جفّ منه، فيعافُه، إذ لاخير فيه..

ويعاود الصُّراخ، فتُهدهده في حضنها، معلّلةً إياهُ، فلعلّه يركنُ إلى السّكوت. ولكن الطفل يزداد صُراخاً، معلّلةً إياه، فلعلّهُ يركنُ إلى السكوت. ولكن الطفل يزداد صُراخاً، وقد لفح جبينه الطريّ حرّ الهجير، ولسعة الرّمضاء.. فتحتار الأمّ في أمرها، وترفع بصرها إلى السماء، ضارعةً، بحرقه الملهوف الحيران الحزين:

- ربّاهُ، مالعملُ؟...

ويلوح لها من بعيدٍ مايشبه الماء، فتدع الطفل أرضاً، يفحس بقدميه الحصى والرّمل، وقد اشتدت به حرقةُ الظّمأ.

وتُهرول إلى الماء الذي لاح لها آنفاً، رقراقاً، لمّاعاً، وإذا به سرابٌ خدّاعٌ!.. ثم لاتلبث أن تعود غلى مكانها الأول، حيث طفلُها، مهرولةً، فصُراخهُ يقطّع نياط قلبها الملتاع! وتعاود النّظر، فإذا كالماء، وتُهرول إليه من جديد، وتسعى،... ثم لاتلبث أن تعود... وهكذا، فما انفكّتْ عن هرولةٍ وسعيٍ في جيئةٍ وذهابٍ، حتى استوفت سبعة أشواطٍ كاملةٍ.. وصراخ الطفل يعلو، وقد فار وجهُهُ، بينما قدماهُ لاتتوقّفان عن فحص الأرض فحصاً عنيفاً...

ويشتدّ تلوّي الطّفل الظّمآن،... ويشتدّ صُراخُه،... ويشتدُّ فحصُ قدميه الصّغيرتين..

ولاتطيق هاجر مزيد احتمالٍ واصطبارٍ، فتُغمض عينيا قليلاً، وقد أعياها الجهد، وأخذ الإعياء منها كلّ مأخذٍ، وتشعر بما يشبه الدّوار، وتشعر بأنهّها لتكادُ تتهاوى أرضاً... وتفتح عينيها، وقد كفّ الطفلُ عن صُراخه،..

وإذا بالماء يتفجّر بين قدميه الصّغيرتين، زُلالاً!... إنّه ليس سراباً هذه المرّة..

وتفرُكُ عينيها، أفي حُلم هي؟.. فهي لاتكادُ تُصدّقُ ما ترى!..

وتُسرعُ إلى الماء تحبسُهُ، أن يسحّ على الرمل، ويفيض، بشئ من رملٍ وحصىً..

وتتناول الماء براحها السمراء الذاوية، وتدنيه من شفتي الوليد الجافّتين، فتبتلاّن! وتسقيه جُرعة ماء صغيرة، برّدت منه غليل الحشا.. وترشُفُ من هذا الماء المبارك رشفات، فتعود إليها الحياةُ..

ويورق في خاطرها أملٌ!.. ويُزهر رجاءٌ!..

وتذكر قول زوجها إبراهيم، وهو يهُمُّ بمغادرتها:

- لن يُضيّعكِ الله، وابنكِ، في هذا المكان الموحش...

وفعلاً، كانَ ذلك!..

فقد تكفّلها الله ووليدها، في هذه الأرض المُجدبة، برحمةٍ منه وحنانٍ... وفجّر لهما، في قلب الصّحراء، ينبوعاً!..

هذه العينُ الثّرةُ هي "زمزم" مورد الحجيج على مرّ الدّهور، ومستقى عُطاشى مكّة فيما بعد، ومن سيحلُّ حولها من الأعراب، وحجّاج "بيت الله الحرام" الّذين من مناسك حجّهم، السعيُ بين الصّفا والمروة، سبعة أشواطٍ، بالتّمام والكمال، كما فعلت هاجر الولهى على حياة ابنها الرّضيع!..


إسماعيل وجُرهُمْ:


قافلة من التُّجّار حطّت رحالها في أسفل مكّة. إنّهم من "جُرهُم" أتوا بتجارةٍ لهم..

ويشاهد التجار طيوراً تحوم فوق مكانٍ قريبٍ مما نزلوا فيه... وإنهم ليعلمون جيداً بأن الطيور لاتحومُ إى فوق عين ماءٍ، أو طعام لها.. فأرسلوا واردهم ليعود إليهم بخبر تحويم هذه الطيّور.

وعاد الرّسول بعد حين، يزُفُّ إليهم البُشرى: لقد فجّر الله في تلك البُقعة من الصحراء عينَ ماءٍ سلسبيلٍ، فإليها أيها العُطاشى الظِّماءُ!..

وتوافد الجرهميّون فرحين، سراعاً.. فوجدوا أمّ اسماعيل وابنها..

واستأذنوا أمّ إسماعيل أن ينزلوا مجاورين، مستقين الماء، فرضيت بهم نزلاء، لامُغتصبينَ..

وتكاثر جمعُهم، واختلط اسماعيلُ بهم، وأخذ عنهم اللّسان العربيّ المُبين... وتزوّج بامرأةٍ منهم، فقّرّ بها عيناً..

وخالط الجهرميين كأحدهم، فكان بينهم طائر الصّيت، ذائع الشُّهرة، محمود الذّكر... وماهي إلاّ سنين، حتّى اختطفت الموتُ أمّه، فحزن عليها حُزناً شديداً وتفطّر (أي: انشقّ) قلبُه على هذه الأمة التي عاشت على التسليم، والقناعة، والرّضا، والتي -شاء الله- أن يكون لها شأنٌ عظيمٌ!..

وكان إبراهيمُ يأتي بين الحين والحين للاطمئنان عن ولده إسماعيل، والوقوف على أحواله، وكثيراً ماكان يصادف وصولَه غيابُ الابن عن البيت، لأمور.. فيمكث الأبُ في منزل ابنه ساعةً أو سويعات.. وتحدثنا بعضُ الرّوايات، أن إبراهيم كان في بعض زياراته لاينزلُ عن ظهر دابّته، فكأنّه آتٍ، على عجلةٍ من أمره- ليستطلع خبراً، ومن ثمَّ، يعود أدراجه من حيث أتى.. بعد أن يترك لابنه وصيةً شفوية، تنقلها إلى أسماعيل زوجُه، عن لسان هذا الشيخ الزائر، الوقور، المهيب..


البلاء المبين:


فتنٌ تتلوها فتنٌ، ومحنٌ يأخذ بعضها برقاب بعض (أي: تتوالى).. وكأن الله، جلّت قُدرتُه، قدّر لهذا النبيّ الكريم، النّازل، أبداً، على حكم قضاء الله ومشيئته، أن يصهره البلاء بعد البلاء، كي يصفو خالصاً من كل شائبةٍ، كالذّهب الإبريز!..

ولعل أشدّ ماابتلى الله به خليله النبي إبراهيم، وامتحنه به، أمرُه تعالى أن ي*** وحيدَهُ إسماعيل!..

وكأن ليل هذا البلاء العسير، ليس له من آخرٍ!..

ويصارح الأبُ ابنه بما أمره الله تعالى به، فيا للبلاء المُبين!..

وما ذاك إلاّ ليُلاقي طلبُ الأب رضىً في نفس الابن، واستجابةً له، فلا يجرُّهُ إلى الذّبح -امتثالاً لأمر الله تعالى- قهراً، قسراً..

{ قال يابُنيَّ إني أرى في المنام أنّي أ***ُكَ فانظُر ماذا ترى}

ونحن نعلم، بأن رؤى الأنبياء حقٌ كلُّها وصدقٌ، فليس للشيطان إلى نفوسهم الزكيّة من سبيلٍ! وإن اسماعيل ليعلمُ ذلك حق العلم، فهو نبيٌّ من خاصّة طينة الأنبياء المجتبين وهو البارُّ بوالديه، الشفوق عليهما في شيخوختهما بحدبٍ وإيثارٍ..

وماكان إسماعيل ليتردّد في الاستجابة الفوريّة لإرادة الأب الممثّلة في بعض حالاتها إرادة الله.

{ قال ياأبت افعل ماتؤمر ستجدُني إن شاء الله من الصّابرين}

ويطيب إبراهيم نفساً بهذا الابن البارِّ،..

وتفيض عاطفةُ الأب!.. ويرقُّ قلبُ الابن باستسلامٍ غريبٍ،.. فيجهشان بالبُكاء!..

ويضم إبراهيم إسماعيل إلى صدره، قائلاً له، ويدهُ تعبثُ بشعر هذا الفتى بحنانٍ:

- نِعمَ الولدُ أنت يابُنيّ، معيناً على أمر الله، فجزاك الله خير مايجزي ولداً عن والدِه.

ويشُدُّ إبراهيم ابنه وثاقاً...

ويستسلم الابنُ للذّبح، على قناعةٍ، ورضىً، وتسليمٍ..

وينظرُ إبراهيمُ إلى ولده إسماعيل ملقىً بين يديه، كالنّعجة الوديعة،.. وإلى السّكين في يدهِ، حادةً، رهيفةً، تتلظى مضاءً، لفرط ماشحذ شفرتها إبراهيم..

وتفيضُ عبرات الأب، وكأن المذبوح قلبُه، لاابنُه!..

فمتى كان الأبُ يجزر ابنه الوحيد؟..

ويطلب الابنُ من أبيه، أن يربط عينيه بمنديل، فلا تلتقي منهما النّظرات.. إذ للعيون لغة، يقصر عن بعضها بليغ التعبير!.. ويفعل الأبُ ذلك..

ويذكر إبراهيم اسم الله، ويحُزُّ،.. فلا تفعل السكّينُ!.. فعل خارت عزيمةُ إبراهيم، أم غاب عن المُديةِ المضاءُ؟

ويطلب إسماعيل من أبيه، ثانيةً، أن يكبّهُ على وجهه، لي***ه من القفا.. فلايرى الألم على وجهه، وهو يصدعُ بأمر الله.. ويفعل إبراهيم ذلك..

ويعاود الحزُّ، باسم الله، .. ولكنّ السكين لاتفري، ولا تقطع، ولايشخب جرحٌ دماً..

ويحاول إبراهيم ثالثة، وكأنه ينتهر هذه السّكّين المتمرّدة على الذّبح وألقي في روعه أنّ السّكّين تنطقُ:

- العبدُ يأمرني، والله ينهاني!..

ويرتمي إبراهيمُ، فيقتعدُ الأرض، خائراً، يلهثُ، وإنّ جبينه ليرفض عرقاً صبيباً، والسكّينُ في يده..

ويتطلّع إلى علٍ، ينتظر أمر السّماء، وإذا به يرى ملاكاً يتهادى نحوه، نزلاً، إنه جبريلُ، الذي يعرفُهُ جيداً، وقد أمسك كبشاً سميناً، متّجهاً به إليه.. منادياً إياهُ:

{ أن ياإبراهيمُ. قد صدّقتَ الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين}

وتناول إبراهيم هذا الكبشَ- القُربان، وأمرَّ السكّين على حلقه، فهوى الكبش يتخبّطُ بدمه، مذبوحاً من الوريد إلى الوريد.

وهكذا افتدى الله ابن خليله بكبشٍ سمينٍ. فصار إسماعيلُ "ذبيح الله" كما صارت الضحيّة أحد مناسك حج المسلمين في كلّ عامٍ،.. حيث تنحر ألوف ألوف الضحايا السّمان، وتُقدّم قرابين، في ذكرى "ذبيح الله" إسماعيل ابن إبراهيم (عليهما السلام)، وإشارة إلى هذه الذكرى، ورمزاً!...


بناء الكعبــة:


ويأتي إبراهيمُ ولدهُ إسماعيل، في مكّة، لازائراً هذه المرّة، ولامتفقّداً، ولامطمئناً... ويطرُقُ عليه الباب، فلا يجدُه.. ولايستغرب الأبُ ذلك..

فلطالما كان يُلحّ على هذا الأب الشيخ، الشوقُ، فيقصدُ ابنه، كي يطفئ لواعج شوقه برؤيته، غير مُبالٍ نأيَ الدّيار، وشحط المزار،..

ولمّا كان يطأ عتبة داره، ويسأل عنه، يُخبر بأنّه غادر البيت، منذُ أيّام وخرج للقنص،.. أو هو في خارج مكة مع بعض صحبه،.. أو قد انصرف إلى بعض أعماله، بعيداً عن داره..

فكأن مكث هذا الولد في بيته، عليه حرام!..

ويتفقّد إبراهيم إسماعيل بين المضارب والأطناب (حيث تُنصبُ الخيام) فلا يجدُه، فأين هو؟.

ويتّجه إبراهيم إلى بئر زمزم ليروي طمأه، وياخذ حظّاً من الرّاحة، بعد أن أعياه التّجوال! فيرتوي من الماء المعين، ويحمدُ الله تعالى حمداً كثيراً نوقد استجاب دعوة إبراهيم فعمّر هذه الدّيار، وأسال هذا الماء السّلسبيل.. وأصبح هذا المكان الذي كان قفراً بلقعاً، منتجعاً، ومورداً للغادي والرائح والمقيم... فحُطّمت فيه الرّحال، طلباً للسُّكنى فيه، وللإقامة. وتكاثر فيه خلقٌ، وازدحمت فيه الأقدام... وقام فيه سوقٌ يتّجرُ فيه هؤلاء البدو، ويتبادلون فيما بينهم بضائع، وشيئاًن من صناعةٍ، يسيراً!...

وتطلّع إبراهيم إلى دوحة فينانة، باسقة متهدّلة الأغصان، وإذا برجل يتفيّأ ظلالها وهو يبري سهاماً بين يديه.

وتأمّل إبراهيم الرجل محدّقاً، فهو يشبه ابنه اسماعيل الّذي يجد في طلبه. ولعلّه هو!. وتقدّم نحوه خطوات، فإذا هو إسماعيل عينُهُ، فيحُثُّ نحوه الخُطى!..

ويشاهد إسماعيل شيخاً عجوزاً، يتقدّم منه بسرعة الملهوف، ويتفرّسه ملياً، فيعرفُهُ.. إنّه أبوه إبراهيم، فيصرُخ متهلّلاً، وقد أخرجتهُ المفاجأةُ السّعيدةُ عن طوره.. ويصيحُ الأبُ،.. ويركضُ كلٌّ منهما نحو صاحبه فيتعانقان ملياً.

ويجلس إبراهيم إلى جانب ابنه إسماعيل، تحت الشّجرة الفرعاء، يتأمّل فيه عزيمة الشّباب ونضارة الفتوّة إنّه رجلٌ ملءُ البصر، قد تهلّل وجهُهُ بِشراً، وكأنّ السّعادة تتقطّر من هذا المحيّا الكريم.. وينشرحُ الأبُ صدراً لهذا اللّقاء الماتع..

ويتناول الابنُ يد أبيه الخشنة، فيقبّلها، ويشمُّ فيها عبق النبوة الفوّاح، وأريجها المعطار!.. فلقد طال عهد دون يأذن الله بمثل هذا اللقاء الأنيس..

ويقبّل الأبُ غرّة هذا الابن، القويِّ الأركان،.. إنه امتدادُهُ فيما بعدُ على كرور الأعوام.. وبنسله ستعمرُ ديارٌ، وتمتلئُ بقاعٌ!..

ويدعو الابنُ أباه إلى البيت.. فوعثاءُ السّفر بادية العيان على ثياب هذا الشيخ ووجهه.. وجبينُه الكريم ينضح عرقاً وتعباً..

فيستمهل الشيخ ابنه وقتاً يسيراً.. فما كانت هذه الرّحلةُ الشّاقّةُ إلاّ كي يفضي إبراهيم إلى إسماعيل بأمر جلل، وخطيرٍ. فلا للزيارة أتى ولا للإطمئنان، ولكن لمهمّةٍ أوحت بها إليه السّماء!.. ويدنوان الواحد من الآخر، وكأنهما يتناجيان بسرٍّ، لايُباح..

ويشيرُ إبراهيم إلى نشزٍ من الأرض، يُطلُّ عليهما، قائلاً لابنه: -إنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أقيم للنّاس في هذا المكان بيتاً، يحُجُّ إليه الناسُ أفواجاً، يقيمون فيه شعائر الله، وقد توافدوا إليه من كل فجٍّ عميقٍ، ويتقرّبون فيه إلى الله بزكيِّ الطّاعةِ وخالص العبادة، ويذكرون الله فيه، في أيامٍ معدوداتٍ، ذكراً كثيراً!..

ويشمّر إسماعيل عن ساعدين مجدولين، قائلاً لأبيه:

- انهض، ياأبت، بما أمرك الله، فأنا نعم العون لك، إن شاء الله،.. على الله قصدُ السَّبيل!..

وتشيعُ على وجه الشيخ المهيب ابتسامةٌ طافحةٌ بالسّعادة والرّضى.. وينهضان إلى بيت إسماعيل، على الرّحب والكرامة.

وما أن تنفّس الصّباح، حتى كان الشيخ وفتاه يُباشران عملهما، فالفتى يحمل معدّات وآلات، والشيخ يحفر الأساس لأوّل بيت من حجرٍ شهدته الكُرَة الأرضيّةُ.

{ إن أول بيتٍ وضع للناس، للّذي ببكّة مباركاً وهدىً للعالمين. فيه آيات بيّناتٌ مقامُ إبراهيم ومن دخلهُ كان آمناً ولله على النّاس حجُّ البيتِ من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإنّ الله غنيٌّ عن العالمين}.

وانطلق إبراهيم يحفر بهمّة الشّباب وعزيمة الفتيان،.. لا يُبالي، وقد اغبّرت لحيتُه الشّريفة بما لحق بها من غُبار..

وكان إسماعيل يحمل إليه الحجارة، يقدّمها بين يديه، ويعينُهُ على رصّها حجراً جنب حجر، ومدماكاً يعلو مدماكاً..

ويبتسمان راضيين، فلقد استطال البُنيان..

ويُلقى في روعهما بأنّ الله أمدّهما ببعض الملائكة حتى علا البنيان المقدّس، واستطال..

ويمكثان على ذلك بعض أيّام..

ولمّا بلغ البُنيان طولُ قامة إبراهيم، طلب الشَّيخُ من ابنه أن يوافيه بحجرٍ يرتقيه، لمزيد من إعلاء البنيان..

وبعد طويل تفتيشٍ، يهتدي إسماعيل إلى حجرٍ فيه لمعةٌ داكنةٌ، ضاربةٌ إلى السّواد، يختلف عمّا سبق وحمل لأبيه من حجارةٍ. فيعلوهُ إبراهيم، ويعلُو البِناء.. ثم يأخذُ إبراهيمُ هذا الحجر الغريب، فيرصُّه إلى جانب حجرٍ في أحد أركان هذا البُنيان إنه الحجرُ الأسودُ الّذي يسعُدُ المسلمون بتعفير وجوههم فيه، ولثمه، واستلامه، في حجٍّ لهم، وفي عمرةٍ...

ويعودان في اليوم التالي لاستكمال بناء البيت، وإذا به قد علا في الجوِّ، مهيباً، باذخاً، وماهكذا تركاه مساء البارحة، فيشكران الله على توفيقه، وتسديده، وتأييده..

ويتّضح لهما بأن قد شارك في بناء هذاالبيت، أهلُ أرضٍ، وأهلُ سماء، إنه بيتُ الله في وسط أرضه، وقد أراده الله محجّةً لعباده، فكان!..

ويتابع إبراهيم وإسماعيل عملهما في البناء، وقد استفزّهما نشاط، وهمّةٌ وثُوبٌ... إذ لم يبقَ أمامهما إلاّ سقف البيت يمُدانه فوق ثوابت الجدران، وتمّ لهما ذلك بيسر، وجهدٍ قليل..

ونزل إبراهيم وإسماعيل إلى البيت، وقد فرغا، لتوّهما من بنائه، يصليان.. ورفعا أيديهما بحارّ الدُّعاء؛

{رّنا تقبّل منّا إنّك السّميع العليم. ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك وأرنا مناسكنا وتُب علينا إنّك أنت التوّاب الرّحيم}

وهكذا كانت الكعبة الشريفة محطّ أنظار المسلمين في كلّ بقاع الأرض، ومهوى أفئدتهم، وقبلة صلواتهم الخمس في كل يوم، يتّجهون بها إلى الله تعالى من خلال بيته العتيق!..


إبراهيم والملائكة المرسلون:


عاد إبراهيم من مصر، كما مرّ معنا آنفاً بقُطعان كثيرة، ومالٍ وفير.. واربت ثروته، وتكاثرت قطعانه حتى ضاقت با رحاب المروج الخضر.. وكان معه "لوط" أحد أقربائه الصّالحين، وأنصاره المقرّبين.

واتّخذ "لوط" لنفسه ناحيةً ثانيةً من أرض فلسطين، بعد أن ضاق الفضاء بقطعانه وقطعان إبراهيم. متخذاً "سدوم" له مقراً، ومنتجعاً..

وكان أهلُ "سدوم" قوماً مفسدين، لايتورّعون عن منكر يأتونه، أو، عن قبيح، ولايحجزهم عن معصية الله خلقٌ ولادينه، ولامروءة الرّجال.. وعلاوة على ذلك كلّه، فقد ابتلاهُم الله بانحرافٍ في أمزجتهم، واعتلالٍ في علاقاتهم، فكانوا لايتناهون، ولاينزجرون..

ويئس منهم لوطُ.. فلطالما دعاهم إلى الهُدى، وخوّفهُم عقاب الله، وعذابه الأليم، فكأنهم، والصلاحَ، على طرفي نقيضٍ، لايجتمعان... فدعا عليهم نبيُّهم لوطُ بعد أن طفح كيل فسادهم وفحشائهم، وإصرارهم على المنكر...

واستجاب الله لنبيّه لوطٍ، الدُّعاء!..

* * *

النبي إبراهيم في بيته منصرفٌ إلى بعض شؤونه... ويقال له: ياإبراهيمُ!... ضيوفٌ في الباب!..

وتهلّل وجهُ إبراهيم استبشاراً، وبرقت منه الأسارير الوضاء!.. فأهلاً بالضيوف، وسهلاً،.. ويامرحباً بالطارقين!.. وكما أنّ إبراهيم "خليلُ الرّحمن"، فهو "أبو الضّيفان" أيضاً.. وكثيراً ماكان يتأخّر في تناول عشائه، انتظاراً لضيوف قد يكونون إليه متّجهين، فيؤاكلُهُم في هزيعٍ من الليل. ويمكثون عنده ماشاؤوا، على تكريمٍ..

وكان من عادة خليل الرّحمن، أبي الضّيفان، أن يوقد لسُراة الليل، المُدلجين، (أي: المسافرين ليلاً) نيراناً، على القِمم، يهتدون بضوئها، فينزلون عنده ضيوفاً مكرمين.. أما وقد أتوه يطرقون بابه، فياللبُشرى!..

وخفَّ إبراهيم إلى الباب، يستقبلُ ضيوفه، وقد أخذ المساءُ يوشّح الأرض بدكنةٍ وسوادٍ.. وأدخلهم الدار، ولسانه لاينقطع عن الترحيب، وأجلس كلاًّ منهم على إهاب (أي: جلد كبشٍ)، وثيرٍ!..

وأسرع إلى الزّريبة، فشدّ منها عجلاً سميناً، ***هُ، ثم سلخ جلدهُ على عجلٍ، وأوعز إلى زوجه العجوز سارة، وقد أربت على الثمانين، أن هيّئي لنا من لحم هذا العجل طعاماً، نقدّمه للضيفان!..

وعاد إلى ضيوفه مرحّباً بهم من جديد، يؤنسهم بحديثه الطليّ الطيّب، وكأنّه، في بيانه، قطعٌ من مسكٍ منثور!..

وماهي إلاّ ساعةٌ، أو تزيد قليلاً، حتى كان القِرى (طعام الضيوف) أمام الضيوف، ونظر هؤلاء إلى الطّعام يقدّم إليهم،.. إنّه عجلٌ سمينٌ، قد طرح أمامهم مشوياً!.. وفاحت رائحة الشُّواء، فامتلأ من عبقا المكان..

- على اسم الله ياضيوف الرحمن..

قال ذلك إبراهيم، وشمّر عن معصميه يبتغي تقديم خالص اللحم لضيوفه.

واعتذر الضيوف عن تناول الطّعام، فلم تمتدّ إليه يدٌ!..

- أتعتذرون؟.. لن تُغادروا هذا المكان قبل تناول الطّعام، وهذا وقتُه، وربِّ الأرضِ والسّماء!..

وازدادت دهشة إبراهيم عندما توسّم وجوه ضيوفه وأجسامهم، فهؤلاء الّذين أمامه، ليسوا بشراً عادِّيين، وخيّل إليه، وإنه لكذلك، أنهم ملائكةً هبطوا عليه من السموات العلى!..

ملائكة!..

لذلك فهم لايأكلون، واقشعر بدن إبراهيم، واخذه روع وخوف.. فوجل منهم.. والملائكة- كما يعلم إبراهيم- لايتنزّلون ضيوفاً، ولايهبطون من السماء، عبثاً، بل رسل يحملون أمر الله تعالى إلى من يشاء من عباده!..

فالوقت، أذاً، ليس وقت ترحيب، ولاقرىً، ولا إكرام،..

ويتساءل إبراهيم، والوجل باد عليه: ترى، ماالمهمة التي من أجلها هبط هؤلاء الرسل الكرام؟

واخذ الملائكة يهدّئون من روع إبراهيم، وبددون وجله.. ثم ابتدروه وزوجه مبشرين اياهما بغلام عليم.

إنه إسحق،... ويضيفون: {ومن وراء إسحق يعقوب}

وينبهر الزوجان العجوزان، وقد بلغا من العمر عنياً، لهذه البشرى، يحملها إليهما ملائكة السماء فتصيح سارة، وقد عطّت عينيها بيدين مرتعشتين:

{ياويلتي، أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً، إن هذا لشئٌ عجيب}

وكانت دهشة إبراهيم دون دهشة سارة زوجه العقيم..

فقال بلهجة تنضح بما يشبه اللامبالاة وكانه لايعير لهذه البشرى كبير أهمية:

{ابشّرتموني على ان مسني الكبر، فبم تبشرون}

{قالوا: بشّرناك بالحق!..}

وساور إبراهيم احساس خفي، عميق، بأن تنزل الملائكة يحمل اكثر من بشرى بولادة غلام.. فكأنهم قادمون لأمر أخطر من ذلك وأعظم شأناً!..

- {قال: فما خطبكم أيها المرسلون؟..}

- {قالوا: إنا أرسلنا الى قوم مجرمين} ويشيرون بأيديهم الى جهة سدوم.

ويوقن إبراهيم بأن العذاب آت، لامحالة، قوم لوط!.. وكأنه طلب إمهالهم، فلعل القوم يتوبون الى بارئهم، ويصلحون.. فأخذ يجادل ملائكة ربه في ذلك.

وكان الجواب:

{ياإبراهيم اعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}

فيسكت ابراهيم، ويلوذ بالصمت.. ويطوف بباله خيال لوط، فلطالما دعاهم هذا النبي الى سبيل الرشاد، فلم يؤمن به منهم إلا نفر، جد، قليل!..

- {قال: إن فيها لوطاً..

- {قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجيّنهُ واهله الا امراتهُ كانت من الغابرين}

وينهض الملائكة، وقد أدوا رسالتهم الى ابراهيم-، داعين لاهل بيت ابراهيم برحمة من الله، وسلام، وينصرفون!..

وما ان تصرم الليل، الا أقلة، حتى جاء امر الله، فحاق بقوم لوط سوء العذاب.. فقد زلزل الله بهم الارض زلزالاً شديداً، فاضطربوا أيما اضطراب.. وأتبع الله ذلك بأن جعل عاليها سافلها، ودمرهم تدميراً.

ويمر المار في غور الأردن وفلسطين، ويتهيأ للصلاة في بقعة من هذه الوهاد الممتدات، الطوال، فيقال له: لا تفعل!.. فأنت في أرض خسف..

فها هنا كانت سدوم، وهناك كانت عمورة، مدينتا قوم لوط!..

* * *

وأخيراً ، رزق الله ابراهيم إسحق، فطابت نفس سارة، أن آتاها الله ولداً رسولاً، كما آتى ضرّتها، من قبل، هاجر، إسماعيل نبياً...

فكانت في ذرية خليل الرحمن إبراهيم النبوة والكتاب... وآتاه الله ماقرّت به عينه، وأثلج به صدره، ..

وشاهد من آيات ربه البيّنات الكثير الكثير.. فتحول إيمانه إلى يقين، ولاأرسخ.. وكانت نهاية المطاف...

وأحش أبو الانبياء بدنوِّ أجله، وبالموت يدب في أعضائه المرتعشات وكان ذلك في مدينة "الخليل" في فلسطين، حيث أسلم إبراهيم الخليل وجهه لله حنيفاً مسلماً، ففاضت روحه الشريفة، وقد أغمض عينيه الكريمتين، متمتماً:

- { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا، وتقبل دعاء. ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}

صوت الحق
28-06-2008, 10:01 AM
النبي إسماعيل (ع) الذبيح

دعوة إبراهيم(ع)

يروي المؤرخون أن نبي الله إبراهيم(ع) كان متزوجاً من سارة أخت نبي الله لوط(ع)، وهي ابنة خالته، وأنه لم يرزق منها بولد طوال أكثر من عشرين عاماً، فدعا إبراهيم ربَّه قائلاً: {ربّ هب لي من الصالحين}.

وكانت سارة تعلم برغبة إبراهيم (ع) في أن يصبح أباً ويكون له ولد يعينه في حياته ويرثه بعد مماته. وكانت لها جارية مصرية قبطية، اسمها هاجر، فوهبتها له، ليتزوجها عسى أن يتحقق له مايريد.

وهكذا حقق الله دعوة خليله إبراهيم(ع)، وحملت هاجر {فبشرناه بغلام حليم}، هو اسماعيل(ع).

ارتفعت نفس هاجر بعد حملها، وراحت تتباهى وتتكبر على سيدتها سارة، فاغتاظت سارة ولحقتها الغيرة، فكانت تدور بينها وبين هاجر خلافات كالتي تحصل بين الزوجتين في البيت الواحد، ولكن إبراهيم(ع) كان يوفق بينهما في كل مرة.

وظلت الحال كذلك حتى ولدت هاجر إسماعيل(ع) وإبراهيم(ع) في السادسة والثمانين من العمر، وسارة قد بلغت سن اليأس من الإنجاب، فتعاظمت غيرة سارة، وبات إبراهيم(ع) في حيرة في أمره، كيف يستطيع التوفيق بينهما وهو في هذا العمر شيخ كبير.

وبدأ إبراهيم(ع) يناجي ربه، ويطلب إليه أن يعينه ويساعدهُ، فبشره الله سبحانه بولدين آخرين تنجبهما سارة: { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. قالت: ياويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشئ عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.

بعد خمس سنوات على ولادة إسماعيل(ع) أنجبت سارة إسحاق(ع) وهكذا صار لإبراهيم ولدان: إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة... ولحكمة أرادها الله، وتحاشياً لما قد يقع بين الزوجتين وولديهما من الخلاف والمشاحنات أمر الله سبحانه خليله إبراهيم(ع) أن يخرج بإسماعيل وأمه هاجر، ويبتعد بهما عن سارة، التي اغتمت كثيراً وثقل عليها أمر هاجر وودلها إسماعيل، بعد أن صار لها ولد.

بوادٍ غير ذي زرع

أذعن إبراهيم(ع) لأمر ربه، فخرج بهاجر وابنها إسماعيل، وهو لايدري إلى أين يأخذهما، فكان كل ما مرّ بمكانٍ أعجبه فيه شجر ونخل وزرع قال: إلى ههنا ياربّ؟ فيجيبه جبرائيل(ع): امض يا إبراهيم...

وظلَّ خليل الله وهاجر سائرين، ومعهما ولدهما الرضيع إسماعيل حتى وصلوا إلى مكة، حيث لازرع هناك ولاماء، اللهم إلاّ دوحة ألقت عليها هاجر كساءً كان بحوزتها، ليظلهم من حرِّ الشمس اللاهبة.

أراد إبراهيم(ع) أن يترك هاجر وولدها إسماعيل، في ذلك المكان القاحل المقفر، حيث لادار ولانافخ نار، ولاطعام فيه ولاشراب، إلاّ كيس من التمر وقربة صغيرة فيها قليل من الماء كانوا قد حملوهما معهم عند بدء رحلتهم. فخافت هاجر على نفسها الجوع والعطش، وعلى ولدها الهلاك، فتعلقت بإبراهيم(ع) تريد ألا تتركه يذهب، وراحت تساله: إلى أين تذهب ياإبراهيم وتتركني وطفلي في هذا المكان الذي ليس فيه أنيس، ولازرع ولاماء؟!.. أو ما تخاف أن نهلك أنا وهذا الطفل جوعاً وعطشاً؟!

رق قلب إبراهيم(ع) وتحير في أمره، ولكنه تذكر أمر الله له، فماذا يفعل وهو إنما ينفذ ماأمره به ربه؟

وأشاح بوجهه عنها.. ولكن هاجر ألحت في السؤال، وظل إبراهيم(ع) منصرفاً عنها يناجي ربه.. ويأتي الجواب، جازماً حاسماً لاتردد فيه ولاتراجع: إن الله هو الذي أمرني بترككم في هذا المكان، وهو لاشك سيكفيكم..

لاذت أم إسماعيل بالصمت، ورضخت هي الأخرى لما أراده الله ثم قالت: إذن لايضيعُنا..

ورفع إبراهيم(ع) يديه بالدعاء متضرعاً إلى الله وهو يهم بالعودة: { رب إنّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم. وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}. ثم قفل عائداً إلى بلاد الشام حيث سارة، وقلبه يهوي إلى مكة.. إلى ولده وفلذة كبده إسماعيل الرضيع، ولاحيلة له إلاّ الدعاء والتضرع.

نفد التمر والماء من بين يدي هاجر... واشتدت حرارة القيظ فعطش الرضيع وطلب الماء ليشرب.. وراح يتلوى من الجوع والعطش فلم تعد هاجر تطيق رؤية طفلها على هذه الحال، فراحت تنظر إليه وعيناها مغرورقتان بالدمع، لاتدري ماذا تفعل.. أتترك وليدها يقضي جوعاً وعطشاً؟ لا، لا، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا المصير... فلا بد أنها ستجد الماء.. فالله لن يضيعها وطفلها..

وقامت هاجر في الوادي في موضع السعي أيام الحج، ونادت هناك: هل في الوادي من أنيس، فلم يجبها أحدٌ غير الصدى..

بئر زمـــزم

انطلقت هاجر تبحث عن المائ في كل اتجاه. وكان الصفا أقرب جبل إليها، فصعدت عليه وراحت تنظر يمنه ويسرة وفي كل ناحية فلاح لها على المروى سرابٌ طنته ماءً، نزلت عن الصفا وراحت تسعى مهرولة في الوادي باتجاه المروى، وفي ظنها أنها ستجد الماء.. ولكم كانت خيبتها حينما لم تجده شيئاً، فوقفت منهكة تنظر وتتفحص فلاح لها سرابٌ في الجهة الأخرى على الصفا وكأنه الماء فعادت مهرولة إلى الصفا ولكنها لم تجد هنالك شيئاً.

وهكذا في كل مرة، حتى فعلت ذلك سبع مرات وطفلها لم يفارق مخيلتها، ولم تكن تطيق أن يغيب عن ناظريها.. فلما كانت في المرة السابعة، وقد اشتد بها العطش، وأخذ منها التعب، وأنهكها المسير، دون أن تعثر على الماء.. نظرت إلى طفلها والدموع تكاد تطفر من عينيها، فإذا الماء ينبع من تحت قدميه، فأتته مسرعة وراحت تجمع حوله الرمل وهي تقول: زم زم. ثم أخذت تعب من الماء حتى ارتوت وانحنت على إسماعيل ترضعه.. فإذا بها تسمع صوتاً يقول لها: لاتخافي الضيعة، فإن ها هنا سيكون بيت لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، فقري عيناً، إن الله لايضيع أهله.

أفئدة من الناس تهوي إليهم

كانت قبيله جرهم، وهي إحدى أكبر القبائل العربية في ذلك الزمان، مثلها مثل بقية القبائل العربية تجوب الأماكن بحثاً عن الماء والعشب، وكانوا يقيمون في عرفات.. مما أتاح لهم أن يروا الطير تحوم فوق وادي مكة، حيث انبجس الماء من بئر زمزم، فعرفوا أن في ذلك الوادي ماءً، وبعثوا منهم من يتحقق من ذلك، فجاؤوا إلى الوادي فرأوا هاجر وإبنها إسماعيل، وشاهدوا البئر المملوءة ماءً فأعجبهم المكان، فاقتربوا من هاجر وسألوها من تكون؟.

قصت هاجر عليهم قصتها، فطلبوا منها أن تأذن لهم في النزول قريباً منها ومن البئر، فقالت لهم: سوف أستأذن لكم زوجي إبراهيم، فإنه يتفقدنا بين الحين والحين، ولما جاء إبراهيم ليرى إلام صار حال زوجته وابنه البكر إسماعيل(ع)، سألته هاجر إن كان يأذن أن ينزل الجرهميون قريباً منها في وادي مكة، فسرَّ بذلك سروراً عظيماً، وقد علم أن دعوته بدأت تتحقق، فأذن لهم.

وجاءت رسل جرهم ليعرفوا الجواب، فأعلمتهم هاجر أن زوجها أذن لهم بالنزول قريباً منها، شرط ألا يكون لهم على الماء سلطان. فعادوا إلى قومهم يخبرونهم، ففرحوا بذلك ووافقوا.

أقام الجرهميون قرب الماء، فأنست بهم أم إسماعيل، وقد منحوا ابنها كثيراً من المواشي.

وشبّ إسماعيل(ع) بين أبناء قبيلة جرهم، كواحد منهم، فتعلم منهم العربية، وبلغ مبلغ الرجال.

الرؤيا الإمتحان

لما بلغ إسماعيل(ع) الثالثة عشرة من عمره، أراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحن صدق إيمان أبيه إبراهيم(ع).. فأرى إبراهيم في المنام أنه يأمره ب*** ولده البكر الشاب إسماعيل وأن عليه إن كان صادق الإيمان أن يمتثل لأمر ربه.

وصدق إبراهيم الرؤيا قولاً وسعى إلى تصديقا عملاً وفعلاً، فجاء إلى ولده إسماعيل وقال له: {يابني إني أرى في المنام أني أ***ك فانظر ماذا ترى}.

ولم يكن إسماعيل(ع) ليكذب رؤيا أباه، ويرفض أمر الله مولاه، فقال لأبيه: {يا أبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين..}.

وهكذا صدق الإثنان: إبراهيم خليل الله، وولده إسماعيل عليهما السلام، صدقا أمر الله دون أن تراودهما الهواجس والشكوك، ولم يترددا في التنفيذ.. وبدأ التنفيذ العملي لذلك التصديق: قاد إبراهيم(ع) إسماعيل إلى المكان الذي أُمِر أ، ي***ه فيه، فبعث الله سبحانه إليه ملكاً على صورة شيخ جليل رزين، فقال إبراهيم(ع): ياإبراهيم، ماتريد من هذا الغلام؟ قال(ع): أريد أن أ***ه. قال الشيخ: سبحان الله! غلام لم يعص الله، ولم يأتِ مايستحق منك ذلك!

قال إبراهيم(ع) إنّ ربي هو الذي أمرني بذلك. فقال الملك الشيخ: ربك ينهاك عن ذلك وإنما أمرك به الشيطان. قال إبراهيم(ع): ويلك إن الذي بلّغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به.

وظل الشيخ يحاور إبراهيم(ع) ويقول له: ياإبراهيم إنك نبي إمام، فلئن أنت ***ت إبنك، تبعك الناس من بعدك وصاروا ي***ون أولادهم.

لم يلتفت خليل الرحمن إلى كلام الشيخ، بل أقبل يستشير ولده إسماعيل(ع) في ال*** وكيف يكون، فقال إسماعيل: يا أبتاه، غط وجهي بخمار، واربط يدي ورجلي.. فقال إبراهيم(ع): الوثاق مع ال***!.. لا والله أجمعهما عليك، وأسلما لأمر الله.. وتلّ إبراهيم إسماعيل، وأضجعه على الأرض وأخذ السكين ووضعها على حلقه..ورفع رأسه إلى السماء وجر السكين.. ولكن الله العزيز العليم، لم يكن ليترك إبراهيم ي*** ولده إسماعيل وهو يعلم صدق الأثنين وتسليمهما لأمره، وقد ظهر هذا التصديق جلياً واضحاً: {فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه: أن ياإبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين}.

وأمر الله سبحانه جبرئيل فقلب السكين على قفاها، فلم تفعل شيئاً. ثم رفع إسماعيل(ع) وأتى بكبش كبير أضجعه موضعه، ونجى إسماعيل من ال***: {وفديناه ب*** عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلامٌ على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين}.

إسماعيل(ع) وزوجتاه

وتوفيت هاجر أم إسماعيل رضوان الله عليها، فدفنها إسماعيل(ع) في مكة قرب البيت الحرام، في المكان الذي يعرف اليوم بحجر إسماعيل.

ثم تزوج فتاة من جرهم، عاشت معه بعد وفاة أمه هاجر... وجاء إبراهيم(ع) بعد فترة ليتفقد أحوال ابنه وأهله، ولم يكن إسماعيل موجوداً في البيت، فوقف على امرأته دون أن تعرفه، وراح يسألها عن إسماعيل، فقالت: خرج يبتغي لنا.. وسألها عن أحوالهم وكيف يعيشون، فراحت تشكو الضيق وتعلن أنهم في أسوأ حال.. ولم تستضفه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلاموقولي له يغير عتبة بابه.

وتركها إبراهيم(ع) وانصرف راجعاً، فلما جاء إسماعيل(ع) عرف أنّ إباه قد حضر، فسأل زوجته: هل جاءنا أحد اليوم؟ قالت: جاءنا رجل شيخ.. وراحت تصفه له وذكرت له ما سألها عنه، وأخبرته بما قالت هي له، فقال لها إسماعيل(ع) وهل أوصاكِ بشئ؟ قالت: أوصاني أن أقرئك السلام، ويقول لك أن تغيّر عتبة بابك.

فقال إسماعيل(ع): ذلك هو أبي، وقد أمرني أن أطلقك، وطلّقها فلحقت بأهلها، ثم تزوج بأخرى من قبيلة جرهم.

وعاود إبراهيم(ع) زيارته إلى بيت ولده إسماعيل(ع)، وكان إسماعيل خارجاً، فدخل فلم يجده ووجد زوجته، فرحبت به، واستضافته، فنزل وسألها عنه فقالت: خرج يطلب الرزق لنا. قال: كيف أنتم، وكيف تعتاشون؟ قالت: نحن بخير وسعة، والحمد لله، فقال إبراهيم(ع) وما طعامكم وشرابكم؟ قالت: أما طعامنا فاللحم، وأما شرابنا فالماء. فقال(ع): اللهم بارك لهم في اللحم والماء، ثم قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له يثبت عتبة بابه ويستوص بها خيراً.

ولما رجع إسماعيل إلى بيته. سأل امرأته: هل زاركم أحد اليوم؟ قالت نعم، رجل شيخ حسن الهيئة، سألني عنك، فأخبرته أنّك خرجت في طلب الرزق، وسألني عن حالنا وكيف عيشنا، فأبلغته أننا بخير وسعة من الله.

وسأل إسماعيل(ع) زوجته: هل أوصاك ذلك الشيخ بشئ؟ قالت: نعم، هو يقرئك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك وتستوصي بها خيراً. قال: إنه أبي، وأنت عتبة الباب، وقد أمرني أن أثبتك في بيتي زوجة لي وأستوصي بك خيراً.

إسماعيل(ع) ينقل الحجارة لبناء البيت الحرام

غاب إبراهيم(ع) مدة لم ير خلالها ابنه إسماعيل(ع)، حتى أمره الله سبحانه تعالى، أن يبني له بيتاً في مكة، يكون مثابة للناس.

ولم يعرف إبراهيم أين يبني البيت، وتحير في الأمر، فبعث الله عزوجل جبرائيل، فأشار إليه بالمكان المناسب، وجاءه بالقواعد من الجنة.

قصد إبراهيم(ع) منزل ولده إسماعيل، وأبلغه الأمر الإلهي، فقال إسماعيل(ع): تبنيه وأساعدك.

وبدأ إسماعيل بنقل الأحجار، من ذي طوى وجبل أبي قبيس، وراح إبراهيم(ع) يبني البيت ويدعو مع إسماعيل: {ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم}.

رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بناء البيت، حتى بلغ يوم بنائه تسعة أذرع، وقد جعلا له بابين: شرقياً وغربياً يسمى المستجار. ثم إنّ جبرائيل (ع) دل إبراهيم على موضع الحجر الذي كان الله تعالى قد أنزله على آدم، والذي يروى أنه كان أشد بياضاً من الثلج، وإنما اسود بعدما لمسته أيادي الكفار، فأخذ إبراهيم(ع) الحجر الأسود ذاك، ووضعه في المكان الذي هو فيه اليوم.

وعند انتهاء إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) من بناء بيت الله الحرام، عهد الله إليهما أن يقوما على خدمته: {... وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود} وجعله مثابة للناس، وأمرهم باتخاذه مصلى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.

ثم أمر الله سبحانه خليله إبراهيم(ع) أن يعلو ركناً من أركان البيت، وينادي في الناس: ألا هلم إلى الحج: {وأذَّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على مارزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوَّفوا بالبيت العتيق}.

إسماعيل(ع) نبي الله

لما أحس إبراهيم(ع) بقرب وفاته، أوصى ابنه إسماعيل(ع) أن يقوم بخدمة بيت الله الحرام، ويدبر شؤونه، وهكذا كان فبعد وفاة إبراهيم(ع)، قام إسماعيل برعاية البيت والسهر على شؤونه.. ثم إن الله سبحانه وتعالى نبأه وأرسله إلى العماليق وقبائل اليمن. فأخذ ينهاهم عن عبادة الأوثان ودعاهم إلى عبادة الرحمن، الواحد الأحد الفرد الصمد، فآمن بعضهم وكفر آخرون.

وقد ذكر الله سبحانه نبيه إسماعيل(ع) في سبع من سور القرآن المجيد، هي على التوالي: سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة النساء، سورة الانعام، سورة إبراهيم، سورة الأنبياء، وسورة ص.

أما إسماعيل الذي ورد ذكره في سورة مريم في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا. وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا}، إسماعيل هذا هو ابن حزقيل، كما أجمع عليه المؤرخون وليس إسماعيل بن إبراهيم(عليهما السلام) وكان إسماعيل بن حزقيل هذا نبياً أيضاً، وسمي "صادق الوعد" لأنه وعد شخصاً أن ينتظره في مكان معين لايبرحه، فانتظره ولم يغادر المكان، فيما نسى ذلك الشخص موعده وجاء بعد سنين ليجد إسماعيل(ع) لايزال في انتظاره، يأكل مما أنبته له الله من الأعشاب.

ويروى في قصة إسماعيل هذا، أنّ عابد بني إسرائيل الذي كان يقضي حوائج الناس عند الملك هو الذي وعده، وأنه نسي وعده وهو عند الملك، وأن الملك خرج ذات يوم للتنزه كعادته وقد اصطحب معه أعوانه ومنهم العابد هذا، وبينا هم يتجولون في البرية وقع نظر العابد على إسماعيل، فتقدم إليه وقال له: إنك لاتزال هاهنا ياإسماعيل؟ قال إسماعيل عليه السلام: ألم تقل لي إنتظرني ها هنا؟ فها أنا منتظرك، فتعجب الملك مما رأى وتساءل كيف يبقى إنسان إلى الحول في مكانٍ واحد. فاخبره إسماعيل(ع) أنّ الله قد أظله بغمام، وأجرى له عين ماءٍ، وأنبت له من بقل الأرض ماكان يقتات به.

وكان مع الملك رجل جبارٌ لم يستطع أن يفهم كيف أنّ إسماعيل قضى سنة كاملة في ذلك المكان، فقال للملك: سيدي الملك إنّ هذا الرجل لكذّاب، فلقد مررت أنا بهذه البرية منذ مدة فلم أرَ أحداً هنا، وإنما كان يروح ثم يعود إلى هذا المكان.

وكانت لإسماعيل هذا(ع) كرامة عند الله تعالى، كما لكل نبي من الأنبياء، فقال للجبار: إن كنت تكذب عليَّ فيما تقول، نزع الله صالح ما أعطاك، فلم يلبث أن تناثرت أسنان ذلك الجبار، واعترف بكذبه، ثم توسّل إلى الملك أن يطلب من إسماعيل، أن يسامحه ويدعو الله أن يرد عليه أسنانه، لأنه شيخ كبير السن ولايمكنه العيش دون أسنان. فطلب الملك إلى إسماعيل أن يدعو ربه أن يعيد للرجل أسنانه، فقال إسماعيل(ع) سأفعل. قال الملك: بل الساعة. قال إسماعيل(ع): إنني أفضّل أن أؤخره لوقت السَّحر، لإن أفضل أوقات الدعاء وقت السحر.

وهكذا، دعا إسماعيل ربه فردّ على الرجل أسنانه.

ويروي أنّ أهل مكة كانوا يفتشون عن إسماعيل لايعرفون له مكاناً، وهو قائم في المكان الذي وعد عابد بني إسرائيل أن يجده فيه، إلى أن عثر عليه رجل منهم. فقال له: يانبي الله، لِمَ تركتنا وتخليت عنا، فلقد ضعفنا بعدك وكدنا نهلك؟ قال إسماعيل(ع): لقد وعدت رجلاً أن ألاقيه في هذا المكان، ولن أغادر من هنا قبل أن يعود ونلتقي.

لما سمع الرجل ذلك من إسماعيل، أسرع إلى قومه يخبرهم بأمره وأمر الوعد، فخرجوا يبحثون عن الرجل حتى وجدوه، فقالوا له، مالك أيها الرجل تعد ولاتفي، لقد وعدت إسماعيل أن تلاقيه في مكانه وأخلفت وعدك، فهرع الرجل إلى مكان إسماعيل(ع) وقال له: يانبي الله، إنني نسيت موعدك، ولم أتذكر لو لم يذكّرني هؤلاء.

ويذكر أنّ إسماعيل(ع) قال للرجل: لو لم تأتِ لبقيت منتظراً، ولو طال ذلك إلى قيام الساعة، فأنزل الله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد}.

ويروي أن قوم النبي إسماعيل هذا، ضايقوه وآذوه، حتى أنهم، أخذوه فسلخوا جلده، فغضب الله عليهم، وأراد لنبيه أن يقتصّ منهم، فأنزل عليه ملكاً يقول له: قد أُمِرتُ بالسمع والطاعة لك، فمر فيهم بما ترى. فقال إسماعيل(ع): لا، يكون لي بالحسين بن علي(ع) أسوة.

أما إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام)، فهو أبو العرب، وقد عاش مائة وسبعاً وثلاثين سنة على مايذكر الرواة، وقد رزق(ع) من الأولاد اثنا عشر ذكراً هم: فائت، قيدار، إربل، ميم، مسمع، دوما، دوام، ميشا، حداد، حيم، قطورا، وماش.

وإلى إسماعيل(ع) يتصل نسب حبيب الله نبينا محمد(صلى الله عليه وآله) عن طريق ولده قيدار والله أعلم، حيث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: "أنا ابن الذبيحين" وهو يعني أباه عبد الله وجده إسماعيل بن إبراهيم عليه وعليهما الصلاة والتسليم.

ويذكر المؤرخون نسب النبي محمد(ص) ومنهم المسعودي الذي قال: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن عدنان بن أد بن أود بن ناحور بن يعور بن يعرب بن يشجب بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تارخ، إلخ....

من هنا يعلم فضل نبي الله إسماعيل(ع)، حيث أنه كان من صلبه شجرة النبوة المباركة، والأشخاص الذين من أجلهم خلق الله سبحانه الأرض ومن وماعليه، وهم أهل البيت حبيب الله محمد وأولاده من ابنته فاطمة(ع) وزوجها ابن عم النبي علي بن أبي طالب(ع). من هنا إذاً كرامة إسماعيل(ع) عند الله حتى افتداه ب*** عظيم كما مرّ معنا، ليحفظ سبحانه شجرة النبوة المباركة والأئمة الميامين.

ويذكر أن نبي الله إسماعيل (ع) لما أحس بدنو أجله، أوصى إلى أخيه إسحاق بتدبير شؤون البيت الحرام، وتوفي سلام الله عليه، ودفن في المسجد الحرام في المكان الذي فيه الحجر الأسود.

فسلام الله على إسماعيل إنه كان نبياً رسولاً

وكان من الأخيار وكان من الصابرين

والحمد لله رب العالمين

صوت الحق
28-06-2008, 10:05 AM
النبي إسحاق (ع) البشارة

ولادة إسحاق(ع)

بعدما طغى بوم نبي الله لوط(ع)، بعث الله عزوجل ثلاثة من ملائكته، لينزلوا بهم العذاب الذي يستحقونه، فمروا بإبراهيم(ع)، وكان متزوجاً من سارة بنت بتوايل بن ناحور إبنة عمه وابنة خالته، وكان قد بلغ من الغمر عتياً، دون أن يرزق منها بولد.

وعمد خليل الرحمن(ع) إلى عجل سمين أتى به و***ه إكراماً لأضيافه، وهو لايعرف أنهم من الملائكة، ولماذا جاؤوا. فلما انتهى من إعداد الطعام، وقدمه للضيوف، فوجئ(ع) بأن الضيوف لايأكلون.. فأوجس منهم خيفة، وبدت عليه علامات الخوف والإستغراب، فأدرك الملائكة ذلك فقالوا له: {لاتخف إنا رسل ربك إلى قوم لوط}.

هدأ روع إبراهيم(ع) قليلاً ولكنه جاهر بخوفه قائلاً: {إنا منكم وجلون}. وعاد الملائكة إلى طمأنة خليل الله(ع) فقالوا له: {لاتوجل إنا نبشرك بغلام عليم}.

كان إبراهيم عليه السلام قد بلغ سن الهرم واليأس من الإنجاب، وكانت زوجته سارة هي الأخرى واقفة لاتصدق ماتسمع أذناها، قال إبراهيم(ع): {أبَشرتموني على أن مسّني الكبر! فبم تبشرون} وقالت سارة: {ياويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً! إن هذا لشئ عجيب} فما كان من الملائكة إلا أن أكدوا لهما حصول الولادة في هذا الوقت قائلين: {أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.. {كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم}.

وبعد ولادة إسماعيل بن إبراهيم(ع) بخمس سنوات وبعد أن بلغ خليل الله إبراهيم مئة وعشرين سنة من العمر، ولد إسحاق بن إبراهيم(ع) غلاماً عليماً ثم شاباً صادقاً وسيماً كأن وجهه شقة قمر، ومن ثم {نبياً من الصالحين}.

زواجــه(ع)

أدرك الكبر إبراهيم(ع) وعجز عن الحركة ومباشرة الأعمال بنفسه، وكان إسحاق قد بلغ سن الزواج، فأمر إبراهيم(ع) أحد خدمه وهو العازر، أن يسعى لتزويج إسحاق(ع) من عشيرته وقبيلة بني أبيه، الذين كانوا لايزالون في العراق، الموطن الأصلي لخليل الله إبراهيم(ع)، وأمره أن يحمل معه من الهدايا والجواهر مايليق بالعروس وأهلها.

وتهيأ ألعازر للسفر، وقد أخذ معه الهدايا والتحف الثمينة، وساق من الجمال والدواب ما يجعله لأهل من ستكون عروساً لإسحاق(ع)، وتوجه نحو العراق، قاصداً منازل أسرة النبي إبراهيم(ع)، فلما وصل إلى هناك، وصار قريباً من ديارهم، حط الرحال في مكان يقال له: فدان آرام، وفيها أبناء أخي إبراهيم ناحور بن تارح الذي كان قد توفي وترك الرئاسة لابنه بتوئيل بن ناحور.

أقام ألعازر قريباً من منازل بتوئيل، مما أتاح له رؤية فتاة كريمة جميلة، كانت تحمل جرة ماء، فأوقفها وسألها أن تسقيه من الماء الذي تحمله، فرحبت به وأنزلت جرتها وسقته.

ثم إن ألعازر راح يحادثها، ويسألها من تكون؟ فإذا هي رفقة إبنة بتوئيل بن ناحور أخي إبراهيم(ع) فقال في نفسه: هذه هي العروس المناسبة لإسحاق، وسألها ألعازر ما إذا كان عند والدها مكان للضيافة، فقالت: نعم.

وعرّف ألعازر رفقة بنفسه، وأنه رسول عمها إبراهيم إليهم، وأنه جاء يطلب زوجة لابن عمها إسحاق بن إبراهيم(ع)، وإنه اختارها هي لتكون تلك الزوجة، ثم إنه ألبسها من الحلي والجواهر وطلب إليها أن تذهب لتخبر أهلها بقدومه إليهم.

عادت رفقة إلى أهلها، وأخبرتهم بنبأ الضيف العزيز، فقام أخوها لأبان بن بتوئيل، لملاقاته واصطحابه إلى ديارهم، حيث أتى به وأكرمه وسط مظاهر الفرح والبهجة.

وبعد أن ارتاح ألعازر قليلاً، أخبر مضيفه لابان بسبب زيارته لهم، وطلب منه أن يوافق على أن يصطحب أخته رفقة معه إلى فلسطين حيث ابن عمه إسحاق(ع) لتكون له زوجة. فأجابه لابان إلى طلبه، وقد وافقت رفقة على ذلك.

أعطي ألعازر الهدايا التي حملها معه من فلسطين إلى رفقة، وخلع عليها الحلى والثياب، كما أعطى أهلها بعضاً من تلك الهدايا التي كان يحملها، ثم استأذن بالعودة، فجهزة لابان أخته رفقة بما تحتاجه استعداداً للرحيل.

وعاد ألعازر ومعه رفقة، فلما وصلوا إلى فلسطين حيث إسحاق(ع) وكان والده ووالدته قد توفيا، فرح كثيراً برفقة، وكانت له عزاء عن فقدهما.

وهكذا، تزوج إسحاق(ع) من ابنة عمه رفقة، ورزقه الله منها بولدين توأمين هما: العيص ويعقوب.

وفاة إسحاق(ع)

عاش إسحاق عليه السلام، محباً لولديه، متعلقاً بهما، بحيث كان دائم الدعاء لهما، فقد كان(ع) يدعو لولده العيس بالملك والسلطنة في ولده ومن تبعه، وفي المقابل كان يدعو لولده يعقوب بالرياسة على إخوته وأهله والنبوة في ولده..

وعمَّرَ إسحاق(ع) كثيراً، حيث فقد بصره قبل أن يوافيه أجله وله من العمر مائة وخمسة وثمانون عاماً، توفي بعدها في مسقط رأسه فلسطين، ودفن فيها مع والده إبراهيم الخليل(ع) في جيرون على بعد ثمانية عشر ميلاً من بيت المقدس في المسجد المعروف بمسجد إبراهيم الخليل(ع).
فسلام الله عليه وعلى والده خليل الرحمن.

صوت الحق
28-06-2008, 10:25 AM
النبي يوسف (ع) ذوالحسن

رؤيا يوسف

استفاق يوسف ذات صباحٍ متهلّل الوجه، منبسطَ الأسارير، تطفو على قسمات وجهه المشعِّ غبطةٌ وسعادةٌ..

وشاهد أبوه يعقوبُ في فتاهُ الوسيم، ذلكَ، فسُرَّ بدوره، وطابت نفسُهُ، وانشرح صدرُه فيوسُفُ أحبُّ أبنائهِ إليه، وأقربهم إلى نفسه وقلبه، وآثرهم لديه منزلةً ومكاناً!..

وتناول يوسف يد أبيه وهو يَهمُّ بالجلوس إلى جانب هذا الشيخ الصّالح، كي يُفضي إليه بالسِّرِّ الَّذي أشاعَ في نفسه كلّ هذا الرِّضا والسُّرور، قائلاً لَهُ: {يا أبت إني رأيتُ أحدَ عشَرَ كوكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين}.

ويلتفتُ يعقوبُ، منتفِضاً، إلى هذا الفتى الأغرِّ، كالأملود الريّان طراوةً، والّذي يسطعُ جبينُهُ بنورٍ سماويٍّ ساحرٍ، أخّاذٍ، وتلتمعُ على وجنتيه إشراقَةُ لألاءٍ، ويشيع منهما ألقُ ضياءٍ.. فيضمُّه إلى صدرِهِ، ويُقبِّلُهُ بعطفٍ وحنانٍ، ويُلقى في روعه بأن الله تعالى أخذَ يُعدُّ هذا الفتى الوسيم، البهيَّ الطَّلعةِ، لجلائل الأمور!..

وبنبرةٍ تنضحُ إشفاقاً يطلبُ الشيخُ الوقورُ من ابنه الفتى ألاّ يقص هذه الرؤيا الصالحة على إخوته الأحد عشر، فقد يؤدي ذلك إلى حسد منهم، وكيد.. خاصة، وأنّ يعقوب يعلم حقّ العلم تبرُّم إخوة يوسف من أبيهم الذي يؤثر عليهم أخاهم يوسف إيثاراً شديداً. فلهُ في نفسه، من دونهم، ماليس لهم جميعاً!..

وينصرف الفتى يوسف، وبنفسه تطوف آمال عذاب، وأحلام رطاب!...

المؤامرة

وذات مساء يحيط بيعقوب أبناؤه. وقد أجمعوا على أمرٍ، وانطوت جوانحهم التي تأكّلها الحسد، على خطبٍ جللٍ!.. فلم إيثارُ الأب يوسف عليهم أجمعين؟..

وتودّدوا إليه: {قالوا: يا أبانا مالكَ لاتأْمَنّا على يوسُفَ وإنّا لهُ لناصحون. أرسِلهُ معَناَ غداً يرتّع ويلعبْ وإنّا لهُ لحافِظونَ}.

ويشعُرُ يعقوبُ بما يشبِهُ الإنتفاضةَ تسري في أوصالِهِ، فترتعدُ فرقاً (أي: خوفاً) فهو، فعلاً، لايأمنهُم على يوسف، فجميعهم له حاسدون!..

ويحاول الشّيخُ ألاّ يستجيبَ لطلبِ أبنائه هؤلاء، متذرّعاً بخوفه على يوسف من ذئب عاد، أو أفعى ناهشة، في هذه البرّيّة الموحشة، حيث يسرح أبناؤه بقطعانهم، من صبحٍ لمساءٍ!.. ويتظاهر إخوة يوسف بالحرص على أخيهم، فهو، بينهم، سويداءُ القلب، وسوادُ العين!.. ومن أين للأذى أن يعتريهُ؟..

وأنّى للذّئب أن يصل إليه، وهم عصبةٌ أشّداءُ؟..

ومازالوا بأبيهم يستميلونه، ويستعطفونه، حتّى أذن لهم.. فأخذوه معهم في صباح اليوم التّالي.

وما أن ابتعدوا عن الحيِّ حتَّى وثبُوا على يوسُفَ: فهذا يَشُدُّه وثاقاً، وذلك يُمسِكُ بيديه، وذاكَ يُجَرِّدُه من قميصِهِ..

وائتمروا به.. ماذا يفعلون؟..

قال أحَدُهم: نَقتُله ونستريحُ..

وقال آخرُ: بل نبيعُه لبعض التُّجَّارِ العابرينَ على أنّه عبدٌ رقيقٌ..

وقال كبيرُهم يهوذا: من الحرام أن نقتُله، إذ لم يجترم جُرماً، ولم يقترف إثماً،.. بل نلقيه في غيابات جبٍّ قريبٍ، وليكُن بعد ذلك مايكون!..

واستحسنوا رأيه!..

فقادوا يوسف إلى جبٍّ قريبٍ، ألقوه فيه، ثمَّ قفلوا، بعد ذلك، راجعين..

لقد انتهَوا من يوسُفَ، دونَ أن تتَلطَّخَ بدمِهِ يدٌ!..

وعادُوا إلى أبيهم، مساءً، وهم يصفُقون كفاً بكفٍّ مُتباكينَ!.. ويَبتدِرُهُم أبوهُم يَعقُوبُ، وقد انخلعَ جِنانُه:

- ويحَكُم!.. ما الأمرُ؟

- {قالوا ياأبانا إنّا ذهبنا نستبقُ، وتركْنا يوسُفَ عند مَتاعِنا، فأكَلَهُ الذِّئبُ، وما أنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا، ولَو كُنَّا صادقين}.

ويَصفُقُ يعقوبُ كَفّاً بِكَفٍّ، أيضاً...

- أحقّاً، ماتَدَّعونَ؟..

- إي، وربِّ آبائِكَ الصَّالحينَ!..

ويشعُرُ يعقوبُ، شُعوراً، يكاد يكونُ يقيناً، بتآمر أبنائه، على أخيهم يوسُفَ الوضئ القسمات، الأبلج، كيداً منهم وحسداً..

ويطرح إخوة يوسف قميص أخيهم الممزَّقَ أمام أبيهم، وقد تلطَّخ بدمٍ كذبٍ.

ويُشيحُ يعقوبُ بوجهه عن أولاده الماكرين، وإنّ قسماتهم لتنضح بالكذب المبين، ويتولّى عنهم، وقد اسوَدَّ وجهُه حُزناً على يوسُف، وأسَفاً!..

{ قال: بل سوَّلَت لكُم أنفُسُكم أمراً، فصبرٌ جميلٌ، والله المستعانُ على ماتصفون}.

يوسف في الجُبِّ

ويتطلّع الفتى الوسيمُ تحتَه، فإذا بماءٍ ساكنٍ، رقرَاقٍ... ويتأمّلُ فوقَه، فلايرى إلاّ غتمةً حالكةً..

فتلُفُّهُ وحشةٌ خانقةٌ، وتطوفُ بخياله أفكارٌ سودٌ، فيرتعدُ..

إنّه مظلوم، وقد ألقي به في جوف هذا الجُبِّ الحالك، الموحش دون ذنب، أو جريرةٍ..

أمّا الظّالمون، فهم إخوتُه..

فيا لسُخرية الأقدار!.. ويشعُر بالألم يعتصر قلبه الصغير، اعتصاراً!.. ثم يشعُر وكأنّ نوراً رقيقاً، لطيفاً، ينسابُ إلى دخيلةِ نفسه شيئاً فشيئاً.. فيُبدّدُ ما علق بها من وحشة مكفهِرّةٍ، ومايلُفّه من ظلمات.. وخيّل إليه، كنقرٍ في أذنيه، صوتٌ يهتفُ بهدوءٍ:

- {لتُنَبِّئنَّهُمْ بأمرِهِم هذا، وهُم لايَشعرون}

فيطمئن، كالمستبشر خيراً، وترتاح إلى ذلك نفسه ارتياحاً غريباً.. ويُسلم أمرهُ لله!...

خلاصُ يوسف

وبعد حين، يسمع يوسف، وهو في غيابة الجبِّ، أصواتاً اختلط بعضُها ببعض، فيُصعي إلى الأصوات التي تترامى إلى مسمعه، من بعيد..

وإذا بها أصوات رجال، ووقع حوافر، وجلبة مسافرين.. إنّها قافلة، وقد حطّت عصا تُرحالها، قريباً من الجُبِّ..

ويسمع فوقه صوتاً، فينظر.. وإذا بدلوٍ يتدلّى فوق رأسه، يمتاح (أي: يطلب) به صاحبُه ماءً!.. فيتعلّقُ يوسُفُ بالدَّلوِ المتدلّي.. وماهي إلاّ لحظاتٌ، حتّى كان يوسُفُ خارج الجُبِّ..

وينظُر إليه صاحبُ الدَّلو، دَهشاً، فيصيح: {يابُشرى، هذا غلام!..}

وأخذهُ معه في القافلة المتوجّهة في تجارة إلى مصر، خادماً، مملوكاً!.. وفي مصر، بيع الفتى بالثّمن البخس، والسّعر الزّهيد!..

وكان الّذي اشتراه عزيزُ مصر، ورئيسُ شُرطتها "قوطيفار".

وتوَسّم عزيزُ مصر في الفتى محتداً شريفاً، وأصلاً كريماً.. إنّ وجهه ليُنبئ عن أرومةٍ طيّبة العناصر، عريقة الأصول!.. وأوصى به زوجه خيراً، فيوسفُ ليس عبداً كبقيّة العبيد!..

وأحسن يوسُفُ الخدمة في بيت سيّدِه، وأخلَصَ في ذلك... فهو بينَ أهليه حقّاً، فشتّان بينهم وبين الّذين خلّفهم وراءه في أرض كنعان!..

يوسف وامرأةُ العزيز:

وشبَّ يوسفُ، الغُلامُ اليافع، في بيت سيّده، على نعمةٍ، وخضيل عيش... واشتدّت فتُوّتُه، وظهرت نجابتَهُ، وتفجّرت وسامتُه، فكأنّه - لحسنِه وجمالِه- لامن طينَةِ البشرِ، بل ملاكٌ كريمٌ ‍‍‍!..

ولاحظت سيّدته فيه الشّباب الغضَّ المتألّق، فلا حقته بنظراتها،.. ثمّ أخذت تتراءى له، وتبتسمُ، وتمُدُّه بالغُنجِ والدَّلالِ!.

ويُطرقُ يوسفُ أمام ذلك كلّه، بخفر العذراءِ الحييَّة.. فليسَ لهُ إلاّ الإخلاصَ العفَّ الأمينَ، في بيت سيّده الجديد، ومولاه!..

ولكنّ سيّدة القصر مازالت تتقرَّبُ إلى يوسُفَ، فيُعرضُ عنها حيياًّ!.. فتزداد به تعلُّقاً، وله تعرُّضاً.. لقد شُغِفت به حُبّاً!..

وتتعرَّضُ له متصابيةً، وقد برّحت بها لواعج الشوق، وعصف بها الغرامُ!..

وتدنو منه، مراودةً أيّاه، فينفر، كالطّائر الفزع!. ويفرُّ أمامها،.. فتُلاحِقُهُ من غُرفةٍ، في القصر، إلى غرفةٍ، حتى الباب،.. وتشُدُّه من قميصِهِ فتشُقُّه!..

وإذ بعزيز مصر، في الباب، وجهاً لوجهٍ، وقد فغرَ فاهُ مدهوشاً!..

وقبلَ أن يستجمع العزيزُ شتات أفكاره، {قالت: ماجزاءُ من أرادَ بأهلِكَ سوءاً إلاّ أن يُسجَنَ أو عذابٌ أليمٌ}

ولايُطيق يوسفُ، مكراً من سيّدته، وكذباً، {قال: هي راودَتني عن نفسي}

ويظهر على عزيزي مصر الارتباك، فهو محتارٌ في أمره، لايدري مايفعل.. ويصل بعض أهل امرأة العزيز، فيُفاجأ، إذ الموقف فاضحٌ.. ينذرُ بعاصفةٍ وإعصارٍ!.. ويسكتُ الجميعُ، ويُطرقون، فمن يُحصحصُ صدقاً من كذبٍ، وحقاَّ من باطل؟..

ويهديه رُشدُهُ إلى اقتراحٍ، يقودُ إلى الحقيقة النّاصعة:

{ إن كان قميصُه قُدَّ (أي: شُقَّ) من قُبُلٍ، فصدَقَتْ وهُوَ من الكاذبينَ. وإن كان قميصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ، فكذَبَت وهُوَ من الصّادقينَ. فلمّا رأى قميصَهُ قُدّ من دُبُرٍ، قال: إنّهُ من كيدِكُنَّ، إنَّ كيدَكُنَّ عظيمٌ}.

وكان عزيزُ مصر حكيماً في موقفه، فلملم الموقف، محاذراً تفجيره،.. فليس للقُصور أن تنبعث منها رائحة فضيحة!.. وليس لهذا الأمر أن يتكرّر أو أن يشيع.. فيلتفت إلى يوسفَ المطرق برأسه، فيواسيه:

-{يوسف، أعرض عن هذا} لاعليك!... وانسَ ما حدث، وكأنّه لم يكُن!.. وينظرُ إلى زوجه، الّتي تكادُ تتهاوى من فرط حياءٍ وندمٍ وخجلٍ،.. فعليها أن تتُوبَ من فعلتها، وتندم على مابدر منها، ولاتعود لمثلها أبداً،..

- أما أنت، فتوبي {واستغفري لذنبِكِ إنّكِ كنتِ منَ الخاطئين}

يوسفُ ونسوةُ المدينة

ولم يكن لحادثٍ كهذا أن يمر ببساطة وسهولةٍ ويُسر،.. فألسُنُ الناس لاترحم!..

ووصل الخبر إلى إحدى سيّدات المدينة، فباحت به إلى إحدى صويحباتها،.. ومن ثم عمّ النبأ وشاع، فتناقلته السن سيدات المجتمع في كلّ محفلٍ ونادٍ!.. وسمعت زليخا بحديثهنَّ، فسُمعتُها أصبحت مضغةً في كلّ فمٍ!..

فأرسلت إليهنّ، وقد هيّأت لهُنَّ مجلساً وثيراً،.. فلما حضرن استقبلتهُن بحفاوةٍ وجميل لقاء، وأكرَمتهُنّ، وقد استقر بهن المجلس وقدمت لهن من الفاكهة صحاف البرُتقال، {وآتت كلّ واحدةٍ منهنَّ سكّيناً}

وكانت قبل ذلك، قد ألبست يوسُف فاخر اللّباس، وزيّنتهُ، فتألّق مشعشعاً!.. فلمّا انتظم عقد مجلسهنّ قالت: {اخرج عليهنّ. فلمّا رأينهُ أكبرنَهُ وقطّعنَ أيديهنَّ، وقُلن: حاشَ لله، ماهذا بشراً، إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ}.

وتعلّقت أنظار السيدات المجتمعات بهذا الفتى الأغرّ الوسيم، الوضئ المُحيّا، المشعِّ الطّلعة، فشهقن منبهرات.. وتمتمن:

- ليس على الأرض كهذا الجمال اليوسفيِّ السّاحر الأخّاذ!..

بينما كانت تسيلُ أيديهنَّ دماً، إذ قد حززن أسابعهُنَّ، دون أن يشعرن لمّا رأينه، وهنَّ، لدهشتهن، يحسبن أنّهن يحززن ماقدّم لهنَّ من برتقال!..

وتلتفت سيدة القصر إلىالنسوة، وقد طاشت عقولهنّ، فهنّ بما رأين، منبهرات، مأخوذات وتقول لهنّ بلهجة عتاب" {فذلكنَّ الّذي لُمتُنَّني فيه}، فما قولُكُنَّ بعدما رأيتُنَّ؟..

ويُجبنَ: لقد رأينا من الجمال مالا يوصفُ، ومن الحسن مالايُدركُ، ممّا تحارُ به الأفهام وتطيش به الألبابُ، وتنخلعُ له القلوبُ،..

وبالتالي، فلآلوم على سيدة مصر أن يتعلّق قلبُها بهذا الجمال الملائكيِّ المدهش.. وليس السّماع كالمعاينة!..

وتتابع زليخا، بجُرأة السّيِّدة الخطيرة الشأن، تبوح بدخيلة فؤادها، إلى من هُنّ دونها من سيّدات مجتمع مصر، دون حرج. فليس بين امرأتين سرٌ مكتومٌ..:

{وبقد راودتهُ عن نفسه فاستعصمَ، ولئن لم يفعل ما آمُرُهُ ليُسجننَّ وليكوناً من الصّاغرين}.

فأقبلت السَّيِّداتُ على يوسُف لائماتٍ، عاذلاتٍ،..

- يوسفُ، وأنت في ريعان الشّباب، وميعة الفتوّة، هلاّ رقَّ قلبُكَ لسيدتك الهائمة بك، فعطفت عليها بلفتة غرام تطفئُ ماتُعاني من الهوى المُمِضِّ، والوجد الملتهب؟.

وتناولته كلّ واحدةٍ منهنّ بالقول الخلوب، والاستعطاف الرقيق. والدَّلّ المغناج.. فأشاح بوجهه عنهُنَّ، يأبى الخيانة، وسُبُل الغواية والضّلال!..

ودعا ربّه أن يصرف عنه كيدهُن، فالسّجن أحبُّ إليه من دعوات الفُجور، وإلاّ فليس لهُ إلاّ أن يصبو إليهنَّ، وإن على كُرهٍ منه، بعد طويل تمنُّعٍ وإباءٍ!..

{فاستجاب له ربُّهُ فصرفَ عنهُ كيدَهُنَّ إنّهُ هو السّميعُ العليمُ}.

وأدخل يوسُفُ، بعد ذلك، السجن، بوشايةٍ ملفّقةٍ، واتّهامٍ كاذبٍ، حيثُ استقرَّ به المقامُ هناك، بضع سنين، وقد انقطعت أخبارُه عن العالمين!..

يوسف في السجن

ووجد يوسفُ في سجنه بعض متّسع من الوقت ليُبثَّ أفكاره بين هؤلاء السيئي الطّالع الذين تصمُّهم عتمةُ السجن فما من إلهٍ إلاّ الله الواحد القهارُ!..

فلا"رَعْ" -اي الشمسُ- بإلهٍ، ولا"إبيس"- أي العجلُ- بإلهٍ أيضاً،..

ولاهذه الأصنامُ جميعاً بألهةٍ. إنّها حجر منحوتٌ!.. فالله وحدهُ، خالقُ السموات وما فيهن، والأرضين، وما عليهن. وهو ربَّ العالمين!.. بذلك بشّر إبراهيمُ من قبلُ، وإليه دعا من بعده، جدُّ يوسفَ، إسحقُ، وأبوه يعقوبُ!..

{ودخل معه السجن فتيان} فأصغيا إلى دعوته، فوجداها حقاًّ.. إنّهما ساقي الملك، وخازن طعامه، سيقا الى السجن ليُحاكما بعد ذلك..

ووجد الفتيان في يوسف رجاحة عقل وشرف نفسٍ وعلوَّ همّةٍ، لم يجداها في غيره.. فأتياه يوماً ليُنبّئهُما بتأويل حلم رأياه:

قال الأول: لقد رايت فيما يرى النائم إني أقدّم للعزيز خمراً..

وقال الثاني: بينما رأيتُ أنا، أنِّي أحملُ على رأسي خبزاً، فتأتي الطيرُ، وتأكُلُ منه.

ويجد يوسفُ في المناسبة فرصة سانحة ليُبشّر بدينه، ودين آبائه: يعقوب وإسحق وإبراهيم.. فهو الدّين الحقُّ القيم {ولكنّ أكثر الناسِ لايعلمون}

ثم يلتفت إلى الأول منهما، قائلاً: لاأخالك إلاّ ناجياً، عمّا قريب، وستعود إلى بلاط الملك، ساقياًله، ونديماً، تقدّم له كؤوس الخمر. فإن كان ذلك، ولابدَّ من أنّه سيكون، فاذكرني عند سيّدك الملك".

ثم التفت الى الثاني، أما أنت، فستُصلبُ بعد خروجك من السّجن..

ويبتسم الثاني، وكأنه كان غير صادق في ما زعم من رؤيا، ويحاول الاعتراض فيرفع يوسف كلتا يديه بوجههما، قائلاً لهما: هذا أمرُ الله وقضاؤه فيكما، فقد {قُضي الأمرُ الذي فيه تستفتيان!..}.

ويكون مانبّأهُما به يوسف:

إذ سرعان مايستدعى الرجلان، فيخرجان من السجن، ويمثلان أمام القضاء، فتبرّأُ ساحة الأول، فيعود ساقياً للملك، ونديماً.. وتثبت على الثاني التُّهمة، فيُ*** صلباً..

وتمرُّ، بعد ذلك على يوسف في سجنه بضعُ سنين، وقد عانى فيها ما لايعلمُهُ إلا الله!..

رؤيا عزيز مصر

وخرج العزيزُ، صباح يومٍ، على العلماء المحتشدين في بلاطه، وقد تغيّر وجههُ، وكأنّ غمامةً من كآبةٍ تطوف على جبينه، لاتفارقُهُ.. فماذا تخبِّئُ لهُ الأقدار؟

ويسأله أحدهم، وقد بدا عليه اهتمامٌ:

- ماالأمرُ يامولايَ؟

- رؤيا، رأيتها البارحة، لاتزال ماثلة في وجداني.. ونصب عينيَّ، أبداً!..

- هاتها!.. وفينا كلُّ مفسِّرٍ، عليمٍ!..

_ {إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكُلهنَّ سبعٌ عجافٌ (ج.عجفاء: أي هزيلة) وسبعَ سُنبلاتٍ خضرٍ، وأُخرَ يابساتٍ، ياأيُّها الملأُ أفتُوني في رؤيايَ إن كنتُم للرُّؤيا تعبُرون}

ويطرق الكهنةُ في المجلس، والعلماءُ.. ولايجدون لرُؤيا الملك تأويلاً.. ويستغرقون في التفكير، ولايهتدون، إنّهم أمام طلّسم مستغلقٍ!.. وظهر عليهمُ العجزُ وبان الارتباكُ..

- {قالوا: أضغاثُ أحلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلامِ بعالمين}

وكان ساقي الملك يستمع إلى ذلك كلّه، فذكر رؤياه عندما كان سجيناً، وصاحبه، وذكر تأويل يوسُف للرُّؤيا. وطلب يوسف إليه أن يذكُرَهُ أمام عزيز مصر.. وها هي ذي المناسبةُ، فيصيحُ:

- سيّدي، سيّدي، في السّجن فتىً اسمُهُ يوسُفُ، عليمُ بتفسي الأحلام، وتأويل الرُّؤى، فلو شئت استدعيته، فتقعُ فيه على الخبير!..

ويأمره الملكُ: هيّا!.. اعرض عليه رؤياي، وهلُمّ إليَّ بما يقول!..

ويسرعُ ساقي الملك إلى السجن، ومعه بضعةُ رجال من الشُّرطة،.. فيدخلون على يوسف ويسلّم عليه ساقي الملك، ويعتذر إليه، فقد أنساه الشيطان أن يذكره أمام الملك وها هو ذا بابُ الفرج ينفتح على يوسف، فبعد اللّيل، فجرٌ وشمسٌ وضياءٌ!..

ثم يستمع يوسف، بعد ذلك، إلى رؤيا الملك، مليّاً ويقولُ للرسول، بلهجة الواثق، المطمئنِّ،: هاك تأويلها!..:

- تستقبلون سبع سنين فيها لين عيشٍ ورخاءٌ، وازدهار وعطاءٌ.. تتلوهنَّ سبعُ سنين - على نقيض سالفاتها- كوالحُ، شدادٌ، فيها ينقُصُ ماءُ النِّيل، وينحسرُ خيرُه، فلا يعودُ إلى سابق عطائه،.. وينقطعُ الغيثُ، فلا تغُلُّ الأرضُ، وتصابون بالدّواهي وعظائم الأمور، فيعُمُّ قحطٌ وجدبٌ، وتبتلون بشظف عيش وقسوة حياة.

وبعد ذلك، تقبل الأيام عليكم بوجهها من جديدٍ، بعد إدبارٍ، فيخصبُ وادي النّيل، ويُمرعُ، ويعُمَّ الخير أرض مصر كلّها..

وتغاثون حنطةً وشعيراً فتأكلون، وسمسماً وزيتوناً، وعنباً، فتعصرون!.. فإن كان ذلك- وهو كائنٌ لامحالة- فذروا ما حصدتم في سنبله، ودعوه في أهرائكم باستثناء ماأنتم بحاجة إلى أكله، حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً!..

ويعودُ الرّسول إلى قصر الملك، يهرولُ، مُسرعاً..

إن تفسير الرؤيا أعجبُ من الرؤيا ذاتها، وأغربُ!..

ويُنبِّئُ الملك، أمام العلماء المحتشدين في بلاط القصر، تفسير الرؤيا التي رآها.. فينبهرون جميعاً..

ويقول قائلهم: إن هذا لذو علمٍ عليمٌ.

ويقول آخرُ: بل، إنّ هذا من وحي السّماء!..

ويلتفت الملك إلى ساقيه، مُنتهراً إياه: ماذا تنتظرُ؟.. هيَّا!.. عليّ بيوسف سريعاً!..

ويُسرعُ ساقي الملك إلى يوسف، يزُفُّ إليه بُشرى اطلاق سراحه، داعياً إياه لمقابلة الملك.

ويقابل يوسف ذلك ببرودة أعصاب، فيُبهتُ الرَّسولُ!..

إنّ يوسُفَ يأبى أن يغادر السّجن دون إثبات براءته، ولو بعد حينٍ. فيقول للرّسول: -{ارجع إلى ربّك(بمعنى الملِك) فاسألْه ما بالُ النِّسوة اللاّتي قطّعن أيديهن، إنّ ربي ركيدهنّ عليمٌ}.

ويدعو عزيزُ مصر النّسوة، وفي طليعتهنّ زوجه زليخا، فلا يشهدن ليوسف إلا بكل مكرمة وخلقٍ رفيع..

وتجد السيدة زليخا الفرصة مؤاتية لتزيح عن نفسها همّاً طالما أقلق مضجعها، وأقضّه.. فتصرّح على رؤوس الأشهاد بأنّها هي التي راودته عن نفسه، فاستعصم وأبى!.. والكلُّ يعلم ذلك.. فلم مجانبة الحقيقة والقول الصّواب؟..

فما كان من عزيز مصر بعد ظهور الحقيقة ببراءة يوسف، إلاّ أن دعا يوسف إليه يستخلصهُ لنفسه رجلاً قوياً، بعد ما كان استخلصهُ لنفسه غلاماً فتياًّ!..

ويسلِّمه خزائن مصر، وهو الخبير العليم، يُشرف عليها، متصرّفاً في أمورها كما يرى.. إن يوسف وزير مال واقتصاد من طراز نادر، رفيع!.. وهو الجدير بأن تسلّم إليه مقاليد الأمور، وتُناط به المهمّاتُ، في حوالك الأيام!.. وينهض يوسف بالهمهمة الموكلة إليه، خيرُ نهوض.. فقد قرعت المجاعة أبواب الناس قاطبةً، وهجم عليهم الجوع فعضَّهم بأنيابٍ حِدادٍ!.. وتلاقي خُطَّتُه في خزن القمح والمؤن، وتوزيعها على الناس كلّهم، بالعدل والقسطاس، نجاحاً عظيماً!.. فهي التي خلَّصت شعب مصر من براثن مجاعة، وخطوبٍ عِظامٍ!..

يوسف وإخوته

وكما في مصر جدبٌ وقحطٌ، عامّان، كذلك في أعالي الجليل، حيث اجتاح الجفاف أرض كنعان، وضربها قحط أسود، كالحٌ!..

وتهيّأ إخوة يوسف ليمتاروا (أي: يجلبوا) حنطةً من مصر، حيث يقوم على ذلك ملكٌ حدت باسمه الرُّكبانُ!..

وساروا بقافلتهم متوجهين إلى أرض النيل، حتى وصلوا إلى مصر،.. ودخلوا على العزيز، فعرفهم واحداً واحداً، وهم له منكرون.

وتقرب إليهم عزيزُ مصر، مستفسراً عن أحوالهم، وعن الجهة التي أتوا منها. فعرَّفوه بأنفسهم: فهم أبناءُ نبيِّ الله يعقوب إبن إسحق بن إبراهيم.. كان لهم أخٌ من أبيهم، أكلهُ الذِّئب في الفلاة، وبقي شقيقُهُ الصغير، واسمُهُ بنيامين، في عهدة أبيه..

ورحَّب بهم العزيز، ووعدهم بجزيل الإحسان.. وتظاهر أنه يريد التثبُّت من صحَّة دهواهُم، فطلب إليهم أن يأتوه بأخيهم الصَّغير، هذا..

ووجد إخوةُ يوسف في ذلك صعوبةً..

فليس من السَّهل أن يتنازل عنه أبوه، وذكرى يوسف، لاتزال تفعل في نفسه رغم ماانقضى عليها من دهرٍ طويلٍ..

ولكنّ عزيز مصر أصرَّ على طلبه. فتلبيةُ طلبهم من الحنطة مشروطةٌ بإحضار أخيهم بنيامين، فانصاعوا لأمره، مكرَهين!...

وأمدَّهم يوسف بكيل بعيرٍ من الحنطة، وردَّ إليهم ما دفعوه من مالٍ، جعلَهُ في رحالهم، تشجيعاً لهم على العودة، وإحساناً!..

وقفلوا راجعين!..

وعرضوا على أبيهم ما طلبه عزيزُ مصر، هذا الأريحيُّ الكريمُ، وما اشترطهُ عليهم من إحضار أخيهم بنيامين.

فاستعبر يعقوب باكياً، وتأوَّه كالملدوغ: {وا أسفى على يوسُفَ!..}

وبكى أبناؤه وهم يرون أباهم الشيخ قد ابيضَّت عيناه حُزناً على يوسف، وكمداً، وأسفاظص، وفارقت ثغره الإبتسامةُ، فهو في حزنٍ مقيمٍ!..

وأحاط الإخوة بأبيهم، فلم لايأمنهم على أخيهم بنيامين؟.. انهم عشرة حوله يُفدُّونه بالمهج والأرواح. فقال لهم يعقوب: {هل آمنكُمُ عليه إلاّ كما أمنتكُم على أخيه من قبلُ. فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الرّاحمين}.

فأطرقوا خجلاً، ولم ينبسوا ببنت شفةٍ، إنّ أباهم ليقول حقاً!..

وبعد لأي (أي: جهد) سمح يعقوب لأولاده باصطحاب أخيهم بنيامين إلى عزيز مصر فهبُّوا إلى رحالهم، فرحين..

واستوقفهم أبوهم: - "مهلاً!.. ولكن شرط أن تحافظوا عليه محافظتمك على أنفسكم، أو أشدّ، ولاتفرِّطا به أبداً" وأخذ عليهم بذلك ميثاقاً غليظاً!.

ثم نصحهُم بألاّ يدخلوا المدينة من باب واحد، فهم عشرةُ رهطٍ، يضافُ إليهم أخوهم بنيامين. يؤلّفون قافلة كاملة، فمن الممكن أن يجتاحهم أذىً، أو أن تُصيبهم عينٌ بسوء!..

وسارت القافلةُ على اسم الله، يُحيط بها دعاءُ يعقوبَ، وتكلأُها عين الله!..

يوسف وبنيامين

ها هي ذي القافلة تحطُّ في أرض مصر الرّحال .ويتوجَّهُ أبناء يعقوب العشرة بأخيهم بنيامني إلى عزيز مصر، فما كانوا في حديثهم السّابق، معهُ، الاّ صادقين!..

ويستقبلهم العزيز ببشاشة وجه طلقٍ، وترحابٍ نديٍّ!..

ويحين موعدُ الطّعام، فيجلسُ كلٌّ إلى أخٍ له، يشاطرُهُ الغداء.. ويومئ العزيز إلى بنيامينَ، فيأخذُه من يده، ويتغدّيان معاً.. ويرمُقُ أبناء يعقوب أخاهم بنيامين، وهو يؤاكلُ الملك، بطرفٍ حسودٍ!.

وفي غفلة عن أعيُنهم يهمسُ يوسفُ في أذن بنيامين:

{إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون}

ويوصيه بألاّ يبوح هذا السرِّ أمام إخوتِه، أبداً!..

ولمّا جهّزهم الملكُ بجهازهم، موفياً لهم الكيل، أمر بوضع صواع الملك (الصواع، أو الصاع: مكيال نصف مد) في رحل أخيه بنيامين.

وما أن ابتعدت القافلة قليلاً، حتى استوقفها صارخٌ:

- على رسلكم!.. تريَّثوا قليلاً!..

- ماالأمرُ، أيّها الحرسيُّ؟.

- لقد فقدنا صواعَ الملك، وهو كما تعلمون، من الذّهب الخالص. إنني كفيلٌ لمن يجئُ به، بكيل بعيرٍ من الحنطة، وما هذا الكيلُ بيسير!..

- والله ما كنا لنخون، وماكنّا لنسرقُ، ولالنعيثُ في الأرض فساداً، نحن، ياهذا، أبناءُ نبيٍّ ابن نبيٍّ، فاتّق الله في أمرنا!..

- مادمتم لتقولون ذلك، فهيّا إلى العزيز، ليرى رأيه في ماتقولون!..

ويعود أبناء يعقوب إلى عزيز مصر...

- مالخطبُ أيّها العزيز؟

- إننا نفقد الصُّواع الذهبيَّ الذي نكيلُ به الحنطة للنّاس، فلعلَّ أحدكُم سرقه!.

- سرقه؟.. أترى في وجوهنا سيماء لُصوصٍ، وسُرّاقٍ؟..

- لعلّه يكون في أحد أحمال هذه الحنطة التي على الإبل، فهيّا، وأنزلوا ماعليها من أحمالٍ!..

ويُسرع أبناء يعقوب ينيخون الجمال، وينزلون ما عليها من أحمال حنطةٍ، وهم يقولون: والله ماكنّا سارقين!..

ويقول لهم العزيزُ، وهم يفُكُّون أربطة رحالهم:

- ماجزاءُ من سرقه إن تبيَّن أنه في رحال أحدكُم؟..

فيجيبون: كما يقضي بذلك، عندكُم القانون.

-يتحمَّلُ وحده العقاب دون الآخرين.

- وهو كذلك!..

ويتقدم العزيز فيتحسَّسُ أحمال إخوته العشرة، وهم يبتسمون،.. فلا يجد شيئاً..

ثم يمدُّ يمينه إلى حمل بنيامين فيستخرج الصُّواع منه،.. ويرفعُه في وجوههِم!..

وتعقُلُ الدَّهشة ألسنةَ أبناء يعقوبَ، ويسطع الغضبُ من عيونهم، فتظهرُ وجوههم حمراء دكناء!.. فمتى كان هذا الحمل الوديع لصّاً خطيراً؟..

{قالوا: إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبلُ}

فيرمقهم عزيز مصر بنظرة كالصّاعقة؛ فما زال هؤلاء الرّجالُ على ضلالهم القديم!.. ويجيلُ نظراته في هؤلاء العشرة من الرجال، وقد اعتراهم خزيٌ كاسحٌ،

{ قال: أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلمُ بما تصفون}

وأمر عزيزُ مصرَ ببنيامينَ فأوقِفَ جانباً..

ولمّا رأى أخوتُه ذلك، ذكروا أباهم، والمواثيق الّتي أخذها عليهم، والعهود.. إنّه لآمرٌ، جدُّ فظيعٌ!..

ووقفوا أمام عزيز مصر مستعطفين...

{قالوا: ياأيّها العزيزُ إنّ له أباً شيخاً كبيراً، فخُذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخُذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذاً لظالمون}

فأطرقوا!.. إنّ العزيز ليقول حقّاً ويحكمُ عدلاً!..

يهمُّون بالإنصراف، وقد اكتسحهُم همٌّ ثقيلٌ، فبأيِّ وجهٍ سيُلاقون أباهم، وقد أخذ عليهم موثقاً من الله، غليظاً، وعاهدوه، فما قُدِّرَ لهم الوفاء؟

ويضرب كبيرُهُم الأرض بقدمه، قائلاً لإخوته:

- ويحكُم!.. أنسيتُم عهدكُم لأبيكم. بئس ماتعودون به إليه،.. أمّا أنا، {فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي، أو يحكُم الله لي وهو خيرُ الحاكمين}.

وعاد أبناء يعقوب إلى أبيهم، مطرقي الرؤوس، منكّسي الهامات، كأنّهم وراء جنازةٍ يسيرون.. ويخبرنه بالحدث، فيضربُ يعقوبُ رأسه بكلتا يديه!..

بالأمس فرّطوا بيوسف، واليوم ببنيامين،..

وأجهش الشيخ منتحباً.. ورماهم بغليظ القول، أشدّ من السّياط لسعاً، واتَّهمهم بالتَّفريط والتّقصير، سوؤ النيّة، والتّقدير!..

ولكنّ الشّيخ الكبير لايزالُ على عظيم ثقة ببقاء يوسف جيّاً يُرزق، وبأن بنيامين سيعود إليه يوماً!..

ولكن: أين يكونُ الأول؟... ومتى يعودُ الثاني؟..

وغالبهُ حزنٌ وقهرٌ قغلباه. فاستسلم لمشيئة الله، وكأنّ قبله تقطّعهُ المدى!.. وقال لأبنائه: {يابنيَّ اذهبوا فتحسسّوا من يوسفَ وأخيه ولاتيأسوا من روح الله إنّه لاييأسُ من روح الله إلاّ القوم الكافرون}.

خاصةً، وأنّ القحط والجفاف عادا يضربان أرض شماليِّ الجليل، فالسّنواتُ عجافٌ، شدادٌ، مهازيلُ.

المفاجأة

ويذكرُ أبناء يعقوب عزيز مصر، وعدله، وكرم يده، وشمائله الحسان، وأخاهُم لديه.. فيجمعون مابحوزتهم من مالٍ يسيرٍن ويتوجَهون به إلى بلاد العزيز..

ويدخلون عليه قائلين:

ياأيُّها العزيزُ، لقد ابتُلينا بأمورٍ عظامٍ، وخُطوبٍ جسامٍ إذ شحّت السّماءُ، وأجدبت الغبراءُ، فأصابت أهلينا البأساءُ والضّرّاء، وجئناك بما أبقت عليه الأيام النّكداءُ، والخطوب النّكراءُ، وهو مالٌ جدُّ يسيرٌ، وقليلٌ حقيرٌ، {فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجري المتصدّقين}

{ قال: هل علمتُم مافعلتُم بيوسُفَ وأخيه إذ أنمت جاهلون}.

ويستعيدون في أذهانهم صورة أخيهم يوسف، كفلقة القمر اشراقاً ولألاءً، إنّه، وربِّ ابراهيمَ- لهو!.. وقد القت النعماء عليه مسحةً من مزيد بهاءٍ وإشراقٍ..

فيا للمُفاجأة الصّاعقة!..

ويصرخُ بعضُ إخوته، وقد داهمتهُم المُفاجأةُ فأخرجتهُم عن طورهم، وتأدُّبهم أمام عزيز مصر، {قالوا: أإنّك لأنت يوسُفُ!}

ويجيبهم بكل هدوءٍ: {قال: أنا يوسفُ وهذا أخي قدْ منَّ الله علينا، إنّه من يتّق ويصبِر فإنَّ الله لايُضيعَ أجرَ المحسنين}.

فاعترفوا بخطيئتهم، وقد تطأطأت منهم الرُّؤوسُ، فلا يستطيعون النّظر إلى وجه إخيهم خجلاً من فعلتهم الشَّنعاء...

واستأذنُوه أن يعودوا إلى أبيهم بالبُشرى، فإذن لهم.. وجهّزهم بما ناءت به العيرُ، وبقميصٍ له، طلب إليهم أن يلقُوه على وجه أبيهم حينَ يصلون!..

وقفلت العيرُ، وئيدةً، بطيئةً، بما عليها من أحمالٍ ثقالٍ، وقد توجّه بها أبناء يعقوب إلى بلادهم في شماليِّ الجليل، وقد علا صوتُ الحادي، فأخذت العيرُ تجدُّ في المسير!..

وأخيراً،.. وصلت العير إلى مواطنها، وأشرف أبناءُ يعقوب على أبيهم، وقد حمل البشيرُ قميص يوسف، وأخذ يعدو نحو أبيه..

فصاح يعقوبُ: {إني لأجِدُ ريحَ يوسُفَ}

وطُرِحً قميصُ يوسفَ على وجه يعقوب المتغضِّن، الّذي لايبين منه إلاّ لحيةٌ كثّةٌ، مرسلةٌ على سجيّتها، تعلوها عينان غائرتان، غاض فيهما النّورُ، .. فارتدَّ بصيراً!... وسجد لله شكراً؟، وقد ردَّ إليه يوسفَ بعد طولِ غيابٍ..

فيا للبُشرى التي لايُحيطُ بها وصفٌ، وكأنّها لغرابتها، من عالم الخيال!..

وبعد عدَّة أيام تهيَّأ يعقوبُ، وأهلُ بيته جميعاً، للتوجُّهِ إلى مصر حيث العزيزُ، العزيزُ!..

وشهدت أرضُ كنعان قافلةً تحملُ خليطاً من رجالٍ ونسوةٍ، وصبيةٍ صغارٍ، وبعض مالٍ، ومتاعٍ،.. وفي مقدّمتها شيخٌ مهيبٌ وقورٌ، يحث راحلته إلى أرض الكنانة!.

رواية

ورد في إحدى الرّوايات، أنّ بعض أملاك السّماء استأذنوا الله أن يشهدوا لحظة لقاء يوسُفَ بأبيه يعقوبَ، فأُذن لهم، إنّها من اللّحظات النّادرة في التاريخ!..

وشاهدت الملائكةُ في هذا اللِّقاءِ عجباً:

الشيخ يفتحُ ذراعيه، صائحاً، ساعة شاهد إبنه، ويعدو نحوه، وكأنّه يطير.. وكذلك فعل يوسُفُ!..

ويصل كلٌّ منهما إلى صاحِبه..

ويرتمي كلٌّ منهما في حِضن الآخر..

ويتعانقان.. حتى يكادَ جسداهما يلتصف الواحدُ منهما بالآخر!.. وقد تحدّرت منهما دموع الفرح بسخاء، فتقطّرت على الأرض، غزاراً..

كما شهد هذا اللّقاء خلقٌ من المصريين، اصطفُّوا مرحّبين، وقد اغرورقت عيونهم بالدّموع..

وآوى يوسف أبويه وإخوته إليه في القصر، وقد أحاطوا به..

وانتظم عقدُ لقاء يوسُف بأبويه وإخوته أجمعين، وقد خرّوا له سُجّداً..

فالتفت يوسفُ إلى أبيه قائلاً: {ياأبت هذا تأويل رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربّي حقاًّ}

ويهزُّ الشيخ برأسه، وقد طفرت من عينه دمعةٌ حرَّى..

ويُردِفُ يوسف، قائلاً، بصوتٍ متهدِّج، وقد رفع كلتا يديه إلى السَّماء:

-{ربّ قد آتيتني من المُلك، وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السّموات والأرض، أنتَ وليِّي في الدُّنيا والآخروة، توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين}.

نهاية المطاف

كان موكبُ يوسُفَ يشقُّ المدينة، وحوله جندٌ وحرسٌ، وحشمٌ وخدمٌ.. وقد تجمهر الناسُ على جانبي الطريق ليحظوا بمشاهدة عزيز مصر، ومليكهم العادل المحبوب...

وكانت عجوزٌ شمطاءُ قد اقتعدت إحدى زوايا الطّريق، والنّاسُ حولها في هرجٍ ومرجٍ ووصخبٍ وضوضاء... فعزيزُ مصر، يشقُّ موكبُه الجماهير المحتشدة بعناءٍ، وقد تدافعت نحوهُ هاتفةً باسمِه، فهو بين مسلِّم عليه، ومسفِّق لهُ، وملوّحٍ من بعيدٍ..

وينعطف الموكبُ الملكيُّ بالقرب من العجوز، فتدعو بصوتٍ عالٍ كالهُتاف:

- سبحان من صيَّرَ العبيدَ ملوكاً بطاعته، والملوك عبيداً بمعصيتِهِ!..

ويصلُ الصَّوتُ إلى مسامع العزيز، فيأمر الموكبَ بالتوقُّفِ، ويسألُ عن صاحبة الهُتاف، .. فيؤتى بالعجوز إليه..

ويسألها عزيزُ مصر عن سبَبِ هُتافها، وعن اسمِها، وعن حاجتها...

ويقشعرُّ بدنُ العزيز، وقد عرف العجوز الّتي ذهبت بنضارتها السُّنون...

إنّها زليخا!.. وقد قلب لها الدَّهر ظهرَ المجنِّ!..

وكم لها في قلبه من ذكريات لاتزولُ، وكأنّها محفورةٌ على صخر أصمَّ... وكم لها في ماضية من تاريخٍ حافلٍ، ومزدحمٍ بالأحداث!...

ويطحبُها معه في الموكب الملكيِّ... ويُدخلُها القصر متوكِّئةً على عصاها، وقد احدودب ظهرها، واضمحلّت قواها..

ويراها يوسف كذلك، فتطفحُ عيناهُ بالدّمع.. فيدعو الله أن يُعيدَ إليها نضارةَ الصِّبا، وريعان الشَّباب، كما كانت أيّام تركُضُ خلفهُ في القصر وتُغلِّقُ الأبوابَ...

تقولُ الرواية: إن الله يستجيبُ لنبيِّه دعوتَه.. فإذا بزليخا تعودُ كما كانت أيّام زمان، تتألّقُ نضارةً، وتتفجَّر ***ُوانَ شبابٍ.

وينظرُ إليها يوسُفُ وقد عادت تميسً تيهاً، ودلالاً... ويطلبُ يدها للزواج فتقبلُ...

ويُسدَلُ السِّتار على زواج يوسف من زليخا، كما شاء الله لهما ذلك.. فهما سعيدان!.. وعلى عودة أهله إليه جميعاً فهم في النّعيم يتقلّبون!...

ويرى الناسُ ذلك، ويسمع به آخرون، فيعجبون عجباً شديداً.. فهم لايكادون يصدِّقون، فالقصَّة تكاد تدخُلُ في باب الأساطير!..

ولكنّها من أنباء الغيب، ووحي السماء..

{وما أكثرُ النّاس -ولو حرصت- بمؤمنين!...}

(صدق الله العلي العظيم)

صوت الحق
28-06-2008, 10:27 AM
النبي يوسف (ع) ذوالحسن

رؤيا يوسف

استفاق يوسف ذات صباحٍ متهلّل الوجه، منبسطَ الأسارير، تطفو على قسمات وجهه المشعِّ غبطةٌ وسعادةٌ..

وشاهد أبوه يعقوبُ في فتاهُ الوسيم، ذلكَ، فسُرَّ بدوره، وطابت نفسُهُ، وانشرح صدرُه فيوسُفُ أحبُّ أبنائهِ إليه، وأقربهم إلى نفسه وقلبه، وآثرهم لديه منزلةً ومكاناً!..

وتناول يوسف يد أبيه وهو يَهمُّ بالجلوس إلى جانب هذا الشيخ الصّالح، كي يُفضي إليه بالسِّرِّ الَّذي أشاعَ في نفسه كلّ هذا الرِّضا والسُّرور، قائلاً لَهُ: {يا أبت إني رأيتُ أحدَ عشَرَ كوكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين}.

ويلتفتُ يعقوبُ، منتفِضاً، إلى هذا الفتى الأغرِّ، كالأملود الريّان طراوةً، والّذي يسطعُ جبينُهُ بنورٍ سماويٍّ ساحرٍ، أخّاذٍ، وتلتمعُ على وجنتيه إشراقَةُ لألاءٍ، ويشيع منهما ألقُ ضياءٍ.. فيضمُّه إلى صدرِهِ، ويُقبِّلُهُ بعطفٍ وحنانٍ، ويُلقى في روعه بأن الله تعالى أخذَ يُعدُّ هذا الفتى الوسيم، البهيَّ الطَّلعةِ، لجلائل الأمور!..

وبنبرةٍ تنضحُ إشفاقاً يطلبُ الشيخُ الوقورُ من ابنه الفتى ألاّ يقص هذه الرؤيا الصالحة على إخوته الأحد عشر، فقد يؤدي ذلك إلى حسد منهم، وكيد.. خاصة، وأنّ يعقوب يعلم حقّ العلم تبرُّم إخوة يوسف من أبيهم الذي يؤثر عليهم أخاهم يوسف إيثاراً شديداً. فلهُ في نفسه، من دونهم، ماليس لهم جميعاً!..

وينصرف الفتى يوسف، وبنفسه تطوف آمال عذاب، وأحلام رطاب!...

المؤامرة

وذات مساء يحيط بيعقوب أبناؤه. وقد أجمعوا على أمرٍ، وانطوت جوانحهم التي تأكّلها الحسد، على خطبٍ جللٍ!.. فلم إيثارُ الأب يوسف عليهم أجمعين؟..

وتودّدوا إليه: {قالوا: يا أبانا مالكَ لاتأْمَنّا على يوسُفَ وإنّا لهُ لناصحون. أرسِلهُ معَناَ غداً يرتّع ويلعبْ وإنّا لهُ لحافِظونَ}.

ويشعُرُ يعقوبُ بما يشبِهُ الإنتفاضةَ تسري في أوصالِهِ، فترتعدُ فرقاً (أي: خوفاً) فهو، فعلاً، لايأمنهُم على يوسف، فجميعهم له حاسدون!..

ويحاول الشّيخُ ألاّ يستجيبَ لطلبِ أبنائه هؤلاء، متذرّعاً بخوفه على يوسف من ذئب عاد، أو أفعى ناهشة، في هذه البرّيّة الموحشة، حيث يسرح أبناؤه بقطعانهم، من صبحٍ لمساءٍ!.. ويتظاهر إخوة يوسف بالحرص على أخيهم، فهو، بينهم، سويداءُ القلب، وسوادُ العين!.. ومن أين للأذى أن يعتريهُ؟..

وأنّى للذّئب أن يصل إليه، وهم عصبةٌ أشّداءُ؟..

ومازالوا بأبيهم يستميلونه، ويستعطفونه، حتّى أذن لهم.. فأخذوه معهم في صباح اليوم التّالي.

وما أن ابتعدوا عن الحيِّ حتَّى وثبُوا على يوسُفَ: فهذا يَشُدُّه وثاقاً، وذلك يُمسِكُ بيديه، وذاكَ يُجَرِّدُه من قميصِهِ..

وائتمروا به.. ماذا يفعلون؟..

قال أحَدُهم: نَقتُله ونستريحُ..

وقال آخرُ: بل نبيعُه لبعض التُّجَّارِ العابرينَ على أنّه عبدٌ رقيقٌ..

وقال كبيرُهم يهوذا: من الحرام أن نقتُله، إذ لم يجترم جُرماً، ولم يقترف إثماً،.. بل نلقيه في غيابات جبٍّ قريبٍ، وليكُن بعد ذلك مايكون!..

واستحسنوا رأيه!..

فقادوا يوسف إلى جبٍّ قريبٍ، ألقوه فيه، ثمَّ قفلوا، بعد ذلك، راجعين..

لقد انتهَوا من يوسُفَ، دونَ أن تتَلطَّخَ بدمِهِ يدٌ!..

وعادُوا إلى أبيهم، مساءً، وهم يصفُقون كفاً بكفٍّ مُتباكينَ!.. ويَبتدِرُهُم أبوهُم يَعقُوبُ، وقد انخلعَ جِنانُه:

- ويحَكُم!.. ما الأمرُ؟

- {قالوا ياأبانا إنّا ذهبنا نستبقُ، وتركْنا يوسُفَ عند مَتاعِنا، فأكَلَهُ الذِّئبُ، وما أنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا، ولَو كُنَّا صادقين}.

ويَصفُقُ يعقوبُ كَفّاً بِكَفٍّ، أيضاً...

- أحقّاً، ماتَدَّعونَ؟..

- إي، وربِّ آبائِكَ الصَّالحينَ!..

ويشعُرُ يعقوبُ، شُعوراً، يكاد يكونُ يقيناً، بتآمر أبنائه، على أخيهم يوسُفَ الوضئ القسمات، الأبلج، كيداً منهم وحسداً..

ويطرح إخوة يوسف قميص أخيهم الممزَّقَ أمام أبيهم، وقد تلطَّخ بدمٍ كذبٍ.

ويُشيحُ يعقوبُ بوجهه عن أولاده الماكرين، وإنّ قسماتهم لتنضح بالكذب المبين، ويتولّى عنهم، وقد اسوَدَّ وجهُه حُزناً على يوسُف، وأسَفاً!..

{ قال: بل سوَّلَت لكُم أنفُسُكم أمراً، فصبرٌ جميلٌ، والله المستعانُ على ماتصفون}.

يوسف في الجُبِّ

ويتطلّع الفتى الوسيمُ تحتَه، فإذا بماءٍ ساكنٍ، رقرَاقٍ... ويتأمّلُ فوقَه، فلايرى إلاّ غتمةً حالكةً..

فتلُفُّهُ وحشةٌ خانقةٌ، وتطوفُ بخياله أفكارٌ سودٌ، فيرتعدُ..

إنّه مظلوم، وقد ألقي به في جوف هذا الجُبِّ الحالك، الموحش دون ذنب، أو جريرةٍ..

أمّا الظّالمون، فهم إخوتُه..

فيا لسُخرية الأقدار!.. ويشعُر بالألم يعتصر قلبه الصغير، اعتصاراً!.. ثم يشعُر وكأنّ نوراً رقيقاً، لطيفاً، ينسابُ إلى دخيلةِ نفسه شيئاً فشيئاً.. فيُبدّدُ ما علق بها من وحشة مكفهِرّةٍ، ومايلُفّه من ظلمات.. وخيّل إليه، كنقرٍ في أذنيه، صوتٌ يهتفُ بهدوءٍ:

- {لتُنَبِّئنَّهُمْ بأمرِهِم هذا، وهُم لايَشعرون}

فيطمئن، كالمستبشر خيراً، وترتاح إلى ذلك نفسه ارتياحاً غريباً.. ويُسلم أمرهُ لله!...

خلاصُ يوسف

وبعد حين، يسمع يوسف، وهو في غيابة الجبِّ، أصواتاً اختلط بعضُها ببعض، فيُصعي إلى الأصوات التي تترامى إلى مسمعه، من بعيد..

وإذا بها أصوات رجال، ووقع حوافر، وجلبة مسافرين.. إنّها قافلة، وقد حطّت عصا تُرحالها، قريباً من الجُبِّ..

ويسمع فوقه صوتاً، فينظر.. وإذا بدلوٍ يتدلّى فوق رأسه، يمتاح (أي: يطلب) به صاحبُه ماءً!.. فيتعلّقُ يوسُفُ بالدَّلوِ المتدلّي.. وماهي إلاّ لحظاتٌ، حتّى كان يوسُفُ خارج الجُبِّ..

وينظُر إليه صاحبُ الدَّلو، دَهشاً، فيصيح: {يابُشرى، هذا غلام!..}

وأخذهُ معه في القافلة المتوجّهة في تجارة إلى مصر، خادماً، مملوكاً!.. وفي مصر، بيع الفتى بالثّمن البخس، والسّعر الزّهيد!..

وكان الّذي اشتراه عزيزُ مصر، ورئيسُ شُرطتها "قوطيفار".

وتوَسّم عزيزُ مصر في الفتى محتداً شريفاً، وأصلاً كريماً.. إنّ وجهه ليُنبئ عن أرومةٍ طيّبة العناصر، عريقة الأصول!.. وأوصى به زوجه خيراً، فيوسفُ ليس عبداً كبقيّة العبيد!..

وأحسن يوسُفُ الخدمة في بيت سيّدِه، وأخلَصَ في ذلك... فهو بينَ أهليه حقّاً، فشتّان بينهم وبين الّذين خلّفهم وراءه في أرض كنعان!..

يوسف وامرأةُ العزيز:

وشبَّ يوسفُ، الغُلامُ اليافع، في بيت سيّده، على نعمةٍ، وخضيل عيش... واشتدّت فتُوّتُه، وظهرت نجابتَهُ، وتفجّرت وسامتُه، فكأنّه - لحسنِه وجمالِه- لامن طينَةِ البشرِ، بل ملاكٌ كريمٌ ‍‍‍!..

ولاحظت سيّدته فيه الشّباب الغضَّ المتألّق، فلا حقته بنظراتها،.. ثمّ أخذت تتراءى له، وتبتسمُ، وتمُدُّه بالغُنجِ والدَّلالِ!.

ويُطرقُ يوسفُ أمام ذلك كلّه، بخفر العذراءِ الحييَّة.. فليسَ لهُ إلاّ الإخلاصَ العفَّ الأمينَ، في بيت سيّده الجديد، ومولاه!..

ولكنّ سيّدة القصر مازالت تتقرَّبُ إلى يوسُفَ، فيُعرضُ عنها حيياًّ!.. فتزداد به تعلُّقاً، وله تعرُّضاً.. لقد شُغِفت به حُبّاً!..

وتتعرَّضُ له متصابيةً، وقد برّحت بها لواعج الشوق، وعصف بها الغرامُ!..

وتدنو منه، مراودةً أيّاه، فينفر، كالطّائر الفزع!. ويفرُّ أمامها،.. فتُلاحِقُهُ من غُرفةٍ، في القصر، إلى غرفةٍ، حتى الباب،.. وتشُدُّه من قميصِهِ فتشُقُّه!..

وإذ بعزيز مصر، في الباب، وجهاً لوجهٍ، وقد فغرَ فاهُ مدهوشاً!..

وقبلَ أن يستجمع العزيزُ شتات أفكاره، {قالت: ماجزاءُ من أرادَ بأهلِكَ سوءاً إلاّ أن يُسجَنَ أو عذابٌ أليمٌ}

ولايُطيق يوسفُ، مكراً من سيّدته، وكذباً، {قال: هي راودَتني عن نفسي}

ويظهر على عزيزي مصر الارتباك، فهو محتارٌ في أمره، لايدري مايفعل.. ويصل بعض أهل امرأة العزيز، فيُفاجأ، إذ الموقف فاضحٌ.. ينذرُ بعاصفةٍ وإعصارٍ!.. ويسكتُ الجميعُ، ويُطرقون، فمن يُحصحصُ صدقاً من كذبٍ، وحقاَّ من باطل؟..

ويهديه رُشدُهُ إلى اقتراحٍ، يقودُ إلى الحقيقة النّاصعة:

{ إن كان قميصُه قُدَّ (أي: شُقَّ) من قُبُلٍ، فصدَقَتْ وهُوَ من الكاذبينَ. وإن كان قميصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ، فكذَبَت وهُوَ من الصّادقينَ. فلمّا رأى قميصَهُ قُدّ من دُبُرٍ، قال: إنّهُ من كيدِكُنَّ، إنَّ كيدَكُنَّ عظيمٌ}.

وكان عزيزُ مصر حكيماً في موقفه، فلملم الموقف، محاذراً تفجيره،.. فليس للقُصور أن تنبعث منها رائحة فضيحة!.. وليس لهذا الأمر أن يتكرّر أو أن يشيع.. فيلتفت إلى يوسفَ المطرق برأسه، فيواسيه:

-{يوسف، أعرض عن هذا} لاعليك!... وانسَ ما حدث، وكأنّه لم يكُن!.. وينظرُ إلى زوجه، الّتي تكادُ تتهاوى من فرط حياءٍ وندمٍ وخجلٍ،.. فعليها أن تتُوبَ من فعلتها، وتندم على مابدر منها، ولاتعود لمثلها أبداً،..

- أما أنت، فتوبي {واستغفري لذنبِكِ إنّكِ كنتِ منَ الخاطئين}

يوسفُ ونسوةُ المدينة

ولم يكن لحادثٍ كهذا أن يمر ببساطة وسهولةٍ ويُسر،.. فألسُنُ الناس لاترحم!..

ووصل الخبر إلى إحدى سيّدات المدينة، فباحت به إلى إحدى صويحباتها،.. ومن ثم عمّ النبأ وشاع، فتناقلته السن سيدات المجتمع في كلّ محفلٍ ونادٍ!.. وسمعت زليخا بحديثهنَّ، فسُمعتُها أصبحت مضغةً في كلّ فمٍ!..

فأرسلت إليهنّ، وقد هيّأت لهُنَّ مجلساً وثيراً،.. فلما حضرن استقبلتهُن بحفاوةٍ وجميل لقاء، وأكرَمتهُنّ، وقد استقر بهن المجلس وقدمت لهن من الفاكهة صحاف البرُتقال، {وآتت كلّ واحدةٍ منهنَّ سكّيناً}

وكانت قبل ذلك، قد ألبست يوسُف فاخر اللّباس، وزيّنتهُ، فتألّق مشعشعاً!.. فلمّا انتظم عقد مجلسهنّ قالت: {اخرج عليهنّ. فلمّا رأينهُ أكبرنَهُ وقطّعنَ أيديهنَّ، وقُلن: حاشَ لله، ماهذا بشراً، إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ}.

وتعلّقت أنظار السيدات المجتمعات بهذا الفتى الأغرّ الوسيم، الوضئ المُحيّا، المشعِّ الطّلعة، فشهقن منبهرات.. وتمتمن:

- ليس على الأرض كهذا الجمال اليوسفيِّ السّاحر الأخّاذ!..

بينما كانت تسيلُ أيديهنَّ دماً، إذ قد حززن أسابعهُنَّ، دون أن يشعرن لمّا رأينه، وهنَّ، لدهشتهن، يحسبن أنّهن يحززن ماقدّم لهنَّ من برتقال!..

وتلتفت سيدة القصر إلىالنسوة، وقد طاشت عقولهنّ، فهنّ بما رأين، منبهرات، مأخوذات وتقول لهنّ بلهجة عتاب" {فذلكنَّ الّذي لُمتُنَّني فيه}، فما قولُكُنَّ بعدما رأيتُنَّ؟..

ويُجبنَ: لقد رأينا من الجمال مالا يوصفُ، ومن الحسن مالايُدركُ، ممّا تحارُ به الأفهام وتطيش به الألبابُ، وتنخلعُ له القلوبُ،..

وبالتالي، فلآلوم على سيدة مصر أن يتعلّق قلبُها بهذا الجمال الملائكيِّ المدهش.. وليس السّماع كالمعاينة!..

وتتابع زليخا، بجُرأة السّيِّدة الخطيرة الشأن، تبوح بدخيلة فؤادها، إلى من هُنّ دونها من سيّدات مجتمع مصر، دون حرج. فليس بين امرأتين سرٌ مكتومٌ..:

{وبقد راودتهُ عن نفسه فاستعصمَ، ولئن لم يفعل ما آمُرُهُ ليُسجننَّ وليكوناً من الصّاغرين}.

فأقبلت السَّيِّداتُ على يوسُف لائماتٍ، عاذلاتٍ،..

- يوسفُ، وأنت في ريعان الشّباب، وميعة الفتوّة، هلاّ رقَّ قلبُكَ لسيدتك الهائمة بك، فعطفت عليها بلفتة غرام تطفئُ ماتُعاني من الهوى المُمِضِّ، والوجد الملتهب؟.

وتناولته كلّ واحدةٍ منهنّ بالقول الخلوب، والاستعطاف الرقيق. والدَّلّ المغناج.. فأشاح بوجهه عنهُنَّ، يأبى الخيانة، وسُبُل الغواية والضّلال!..

ودعا ربّه أن يصرف عنه كيدهُن، فالسّجن أحبُّ إليه من دعوات الفُجور، وإلاّ فليس لهُ إلاّ أن يصبو إليهنَّ، وإن على كُرهٍ منه، بعد طويل تمنُّعٍ وإباءٍ!..

{فاستجاب له ربُّهُ فصرفَ عنهُ كيدَهُنَّ إنّهُ هو السّميعُ العليمُ}.

وأدخل يوسُفُ، بعد ذلك، السجن، بوشايةٍ ملفّقةٍ، واتّهامٍ كاذبٍ، حيثُ استقرَّ به المقامُ هناك، بضع سنين، وقد انقطعت أخبارُه عن العالمين!..

يوسف في السجن

ووجد يوسفُ في سجنه بعض متّسع من الوقت ليُبثَّ أفكاره بين هؤلاء السيئي الطّالع الذين تصمُّهم عتمةُ السجن فما من إلهٍ إلاّ الله الواحد القهارُ!..

فلا"رَعْ" -اي الشمسُ- بإلهٍ، ولا"إبيس"- أي العجلُ- بإلهٍ أيضاً،..

ولاهذه الأصنامُ جميعاً بألهةٍ. إنّها حجر منحوتٌ!.. فالله وحدهُ، خالقُ السموات وما فيهن، والأرضين، وما عليهن. وهو ربَّ العالمين!.. بذلك بشّر إبراهيمُ من قبلُ، وإليه دعا من بعده، جدُّ يوسفَ، إسحقُ، وأبوه يعقوبُ!..

{ودخل معه السجن فتيان} فأصغيا إلى دعوته، فوجداها حقاًّ.. إنّهما ساقي الملك، وخازن طعامه، سيقا الى السجن ليُحاكما بعد ذلك..

ووجد الفتيان في يوسف رجاحة عقل وشرف نفسٍ وعلوَّ همّةٍ، لم يجداها في غيره.. فأتياه يوماً ليُنبّئهُما بتأويل حلم رأياه:

قال الأول: لقد رايت فيما يرى النائم إني أقدّم للعزيز خمراً..

وقال الثاني: بينما رأيتُ أنا، أنِّي أحملُ على رأسي خبزاً، فتأتي الطيرُ، وتأكُلُ منه.

ويجد يوسفُ في المناسبة فرصة سانحة ليُبشّر بدينه، ودين آبائه: يعقوب وإسحق وإبراهيم.. فهو الدّين الحقُّ القيم {ولكنّ أكثر الناسِ لايعلمون}

ثم يلتفت إلى الأول منهما، قائلاً: لاأخالك إلاّ ناجياً، عمّا قريب، وستعود إلى بلاط الملك، ساقياًله، ونديماً، تقدّم له كؤوس الخمر. فإن كان ذلك، ولابدَّ من أنّه سيكون، فاذكرني عند سيّدك الملك".

ثم التفت الى الثاني، أما أنت، فستُصلبُ بعد خروجك من السّجن..

ويبتسم الثاني، وكأنه كان غير صادق في ما زعم من رؤيا، ويحاول الاعتراض فيرفع يوسف كلتا يديه بوجههما، قائلاً لهما: هذا أمرُ الله وقضاؤه فيكما، فقد {قُضي الأمرُ الذي فيه تستفتيان!..}.

ويكون مانبّأهُما به يوسف:

إذ سرعان مايستدعى الرجلان، فيخرجان من السجن، ويمثلان أمام القضاء، فتبرّأُ ساحة الأول، فيعود ساقياً للملك، ونديماً.. وتثبت على الثاني التُّهمة، فيُ*** صلباً..

وتمرُّ، بعد ذلك على يوسف في سجنه بضعُ سنين، وقد عانى فيها ما لايعلمُهُ إلا الله!..

رؤيا عزيز مصر

وخرج العزيزُ، صباح يومٍ، على العلماء المحتشدين في بلاطه، وقد تغيّر وجههُ، وكأنّ غمامةً من كآبةٍ تطوف على جبينه، لاتفارقُهُ.. فماذا تخبِّئُ لهُ الأقدار؟

ويسأله أحدهم، وقد بدا عليه اهتمامٌ:

- ماالأمرُ يامولايَ؟

- رؤيا، رأيتها البارحة، لاتزال ماثلة في وجداني.. ونصب عينيَّ، أبداً!..

- هاتها!.. وفينا كلُّ مفسِّرٍ، عليمٍ!..

_ {إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكُلهنَّ سبعٌ عجافٌ (ج.عجفاء: أي هزيلة) وسبعَ سُنبلاتٍ خضرٍ، وأُخرَ يابساتٍ، ياأيُّها الملأُ أفتُوني في رؤيايَ إن كنتُم للرُّؤيا تعبُرون}

ويطرق الكهنةُ في المجلس، والعلماءُ.. ولايجدون لرُؤيا الملك تأويلاً.. ويستغرقون في التفكير، ولايهتدون، إنّهم أمام طلّسم مستغلقٍ!.. وظهر عليهمُ العجزُ وبان الارتباكُ..

- {قالوا: أضغاثُ أحلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلامِ بعالمين}

وكان ساقي الملك يستمع إلى ذلك كلّه، فذكر رؤياه عندما كان سجيناً، وصاحبه، وذكر تأويل يوسُف للرُّؤيا. وطلب يوسف إليه أن يذكُرَهُ أمام عزيز مصر.. وها هي ذي المناسبةُ، فيصيحُ:

- سيّدي، سيّدي، في السّجن فتىً اسمُهُ يوسُفُ، عليمُ بتفسي الأحلام، وتأويل الرُّؤى، فلو شئت استدعيته، فتقعُ فيه على الخبير!..

ويأمره الملكُ: هيّا!.. اعرض عليه رؤياي، وهلُمّ إليَّ بما يقول!..

ويسرعُ ساقي الملك إلى السجن، ومعه بضعةُ رجال من الشُّرطة،.. فيدخلون على يوسف ويسلّم عليه ساقي الملك، ويعتذر إليه، فقد أنساه الشيطان أن يذكره أمام الملك وها هو ذا بابُ الفرج ينفتح على يوسف، فبعد اللّيل، فجرٌ وشمسٌ وضياءٌ!..

ثم يستمع يوسف، بعد ذلك، إلى رؤيا الملك، مليّاً ويقولُ للرسول، بلهجة الواثق، المطمئنِّ،: هاك تأويلها!..:

- تستقبلون سبع سنين فيها لين عيشٍ ورخاءٌ، وازدهار وعطاءٌ.. تتلوهنَّ سبعُ سنين - على نقيض سالفاتها- كوالحُ، شدادٌ، فيها ينقُصُ ماءُ النِّيل، وينحسرُ خيرُه، فلا يعودُ إلى سابق عطائه،.. وينقطعُ الغيثُ، فلا تغُلُّ الأرضُ، وتصابون بالدّواهي وعظائم الأمور، فيعُمُّ قحطٌ وجدبٌ، وتبتلون بشظف عيش وقسوة حياة.

وبعد ذلك، تقبل الأيام عليكم بوجهها من جديدٍ، بعد إدبارٍ، فيخصبُ وادي النّيل، ويُمرعُ، ويعُمَّ الخير أرض مصر كلّها..

وتغاثون حنطةً وشعيراً فتأكلون، وسمسماً وزيتوناً، وعنباً، فتعصرون!.. فإن كان ذلك- وهو كائنٌ لامحالة- فذروا ما حصدتم في سنبله، ودعوه في أهرائكم باستثناء ماأنتم بحاجة إلى أكله، حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً!..

ويعودُ الرّسول إلى قصر الملك، يهرولُ، مُسرعاً..

إن تفسير الرؤيا أعجبُ من الرؤيا ذاتها، وأغربُ!..

ويُنبِّئُ الملك، أمام العلماء المحتشدين في بلاط القصر، تفسير الرؤيا التي رآها.. فينبهرون جميعاً..

ويقول قائلهم: إن هذا لذو علمٍ عليمٌ.

ويقول آخرُ: بل، إنّ هذا من وحي السّماء!..

ويلتفت الملك إلى ساقيه، مُنتهراً إياه: ماذا تنتظرُ؟.. هيَّا!.. عليّ بيوسف سريعاً!..

ويُسرعُ ساقي الملك إلى يوسف، يزُفُّ إليه بُشرى اطلاق سراحه، داعياً إياه لمقابلة الملك.

ويقابل يوسف ذلك ببرودة أعصاب، فيُبهتُ الرَّسولُ!..

إنّ يوسُفَ يأبى أن يغادر السّجن دون إثبات براءته، ولو بعد حينٍ. فيقول للرّسول: -{ارجع إلى ربّك(بمعنى الملِك) فاسألْه ما بالُ النِّسوة اللاّتي قطّعن أيديهن، إنّ ربي ركيدهنّ عليمٌ}.

ويدعو عزيزُ مصر النّسوة، وفي طليعتهنّ زوجه زليخا، فلا يشهدن ليوسف إلا بكل مكرمة وخلقٍ رفيع..

وتجد السيدة زليخا الفرصة مؤاتية لتزيح عن نفسها همّاً طالما أقلق مضجعها، وأقضّه.. فتصرّح على رؤوس الأشهاد بأنّها هي التي راودته عن نفسه، فاستعصم وأبى!.. والكلُّ يعلم ذلك.. فلم مجانبة الحقيقة والقول الصّواب؟..

فما كان من عزيز مصر بعد ظهور الحقيقة ببراءة يوسف، إلاّ أن دعا يوسف إليه يستخلصهُ لنفسه رجلاً قوياً، بعد ما كان استخلصهُ لنفسه غلاماً فتياًّ!..

ويسلِّمه خزائن مصر، وهو الخبير العليم، يُشرف عليها، متصرّفاً في أمورها كما يرى.. إن يوسف وزير مال واقتصاد من طراز نادر، رفيع!.. وهو الجدير بأن تسلّم إليه مقاليد الأمور، وتُناط به المهمّاتُ، في حوالك الأيام!.. وينهض يوسف بالهمهمة الموكلة إليه، خيرُ نهوض.. فقد قرعت المجاعة أبواب الناس قاطبةً، وهجم عليهم الجوع فعضَّهم بأنيابٍ حِدادٍ!.. وتلاقي خُطَّتُه في خزن القمح والمؤن، وتوزيعها على الناس كلّهم، بالعدل والقسطاس، نجاحاً عظيماً!.. فهي التي خلَّصت شعب مصر من براثن مجاعة، وخطوبٍ عِظامٍ!..

يوسف وإخوته

وكما في مصر جدبٌ وقحطٌ، عامّان، كذلك في أعالي الجليل، حيث اجتاح الجفاف أرض كنعان، وضربها قحط أسود، كالحٌ!..

وتهيّأ إخوة يوسف ليمتاروا (أي: يجلبوا) حنطةً من مصر، حيث يقوم على ذلك ملكٌ حدت باسمه الرُّكبانُ!..

وساروا بقافلتهم متوجهين إلى أرض النيل، حتى وصلوا إلى مصر،.. ودخلوا على العزيز، فعرفهم واحداً واحداً، وهم له منكرون.

وتقرب إليهم عزيزُ مصر، مستفسراً عن أحوالهم، وعن الجهة التي أتوا منها. فعرَّفوه بأنفسهم: فهم أبناءُ نبيِّ الله يعقوب إبن إسحق بن إبراهيم.. كان لهم أخٌ من أبيهم، أكلهُ الذِّئب في الفلاة، وبقي شقيقُهُ الصغير، واسمُهُ بنيامين، في عهدة أبيه..

ورحَّب بهم العزيز، ووعدهم بجزيل الإحسان.. وتظاهر أنه يريد التثبُّت من صحَّة دهواهُم، فطلب إليهم أن يأتوه بأخيهم الصَّغير، هذا..

ووجد إخوةُ يوسف في ذلك صعوبةً..

فليس من السَّهل أن يتنازل عنه أبوه، وذكرى يوسف، لاتزال تفعل في نفسه رغم ماانقضى عليها من دهرٍ طويلٍ..

ولكنّ عزيز مصر أصرَّ على طلبه. فتلبيةُ طلبهم من الحنطة مشروطةٌ بإحضار أخيهم بنيامين، فانصاعوا لأمره، مكرَهين!...

وأمدَّهم يوسف بكيل بعيرٍ من الحنطة، وردَّ إليهم ما دفعوه من مالٍ، جعلَهُ في رحالهم، تشجيعاً لهم على العودة، وإحساناً!..

وقفلوا راجعين!..

وعرضوا على أبيهم ما طلبه عزيزُ مصر، هذا الأريحيُّ الكريمُ، وما اشترطهُ عليهم من إحضار أخيهم بنيامين.

فاستعبر يعقوب باكياً، وتأوَّه كالملدوغ: {وا أسفى على يوسُفَ!..}

وبكى أبناؤه وهم يرون أباهم الشيخ قد ابيضَّت عيناه حُزناً على يوسف، وكمداً، وأسفاظص، وفارقت ثغره الإبتسامةُ، فهو في حزنٍ مقيمٍ!..

وأحاط الإخوة بأبيهم، فلم لايأمنهم على أخيهم بنيامين؟.. انهم عشرة حوله يُفدُّونه بالمهج والأرواح. فقال لهم يعقوب: {هل آمنكُمُ عليه إلاّ كما أمنتكُم على أخيه من قبلُ. فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الرّاحمين}.

فأطرقوا خجلاً، ولم ينبسوا ببنت شفةٍ، إنّ أباهم ليقول حقاً!..

وبعد لأي (أي: جهد) سمح يعقوب لأولاده باصطحاب أخيهم بنيامين إلى عزيز مصر فهبُّوا إلى رحالهم، فرحين..

واستوقفهم أبوهم: - "مهلاً!.. ولكن شرط أن تحافظوا عليه محافظتمك على أنفسكم، أو أشدّ، ولاتفرِّطا به أبداً" وأخذ عليهم بذلك ميثاقاً غليظاً!.

ثم نصحهُم بألاّ يدخلوا المدينة من باب واحد، فهم عشرةُ رهطٍ، يضافُ إليهم أخوهم بنيامين. يؤلّفون قافلة كاملة، فمن الممكن أن يجتاحهم أذىً، أو أن تُصيبهم عينٌ بسوء!..

وسارت القافلةُ على اسم الله، يُحيط بها دعاءُ يعقوبَ، وتكلأُها عين الله!..

يوسف وبنيامين

ها هي ذي القافلة تحطُّ في أرض مصر الرّحال .ويتوجَّهُ أبناء يعقوب العشرة بأخيهم بنيامني إلى عزيز مصر، فما كانوا في حديثهم السّابق، معهُ، الاّ صادقين!..

ويستقبلهم العزيز ببشاشة وجه طلقٍ، وترحابٍ نديٍّ!..

ويحين موعدُ الطّعام، فيجلسُ كلٌّ إلى أخٍ له، يشاطرُهُ الغداء.. ويومئ العزيز إلى بنيامينَ، فيأخذُه من يده، ويتغدّيان معاً.. ويرمُقُ أبناء يعقوب أخاهم بنيامين، وهو يؤاكلُ الملك، بطرفٍ حسودٍ!.

وفي غفلة عن أعيُنهم يهمسُ يوسفُ في أذن بنيامين:

{إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون}

ويوصيه بألاّ يبوح هذا السرِّ أمام إخوتِه، أبداً!..

ولمّا جهّزهم الملكُ بجهازهم، موفياً لهم الكيل، أمر بوضع صواع الملك (الصواع، أو الصاع: مكيال نصف مد) في رحل أخيه بنيامين.

وما أن ابتعدت القافلة قليلاً، حتى استوقفها صارخٌ:

- على رسلكم!.. تريَّثوا قليلاً!..

- ماالأمرُ، أيّها الحرسيُّ؟.

- لقد فقدنا صواعَ الملك، وهو كما تعلمون، من الذّهب الخالص. إنني كفيلٌ لمن يجئُ به، بكيل بعيرٍ من الحنطة، وما هذا الكيلُ بيسير!..

- والله ما كنا لنخون، وماكنّا لنسرقُ، ولالنعيثُ في الأرض فساداً، نحن، ياهذا، أبناءُ نبيٍّ ابن نبيٍّ، فاتّق الله في أمرنا!..

- مادمتم لتقولون ذلك، فهيّا إلى العزيز، ليرى رأيه في ماتقولون!..

ويعود أبناء يعقوب إلى عزيز مصر...

- مالخطبُ أيّها العزيز؟

- إننا نفقد الصُّواع الذهبيَّ الذي نكيلُ به الحنطة للنّاس، فلعلَّ أحدكُم سرقه!.

- سرقه؟.. أترى في وجوهنا سيماء لُصوصٍ، وسُرّاقٍ؟..

- لعلّه يكون في أحد أحمال هذه الحنطة التي على الإبل، فهيّا، وأنزلوا ماعليها من أحمالٍ!..

ويُسرع أبناء يعقوب ينيخون الجمال، وينزلون ما عليها من أحمال حنطةٍ، وهم يقولون: والله ماكنّا سارقين!..

ويقول لهم العزيزُ، وهم يفُكُّون أربطة رحالهم:

- ماجزاءُ من سرقه إن تبيَّن أنه في رحال أحدكُم؟..

فيجيبون: كما يقضي بذلك، عندكُم القانون.

-يتحمَّلُ وحده العقاب دون الآخرين.

- وهو كذلك!..

ويتقدم العزيز فيتحسَّسُ أحمال إخوته العشرة، وهم يبتسمون،.. فلا يجد شيئاً..

ثم يمدُّ يمينه إلى حمل بنيامين فيستخرج الصُّواع منه،.. ويرفعُه في وجوههِم!..

وتعقُلُ الدَّهشة ألسنةَ أبناء يعقوبَ، ويسطع الغضبُ من عيونهم، فتظهرُ وجوههم حمراء دكناء!.. فمتى كان هذا الحمل الوديع لصّاً خطيراً؟..

{قالوا: إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبلُ}

فيرمقهم عزيز مصر بنظرة كالصّاعقة؛ فما زال هؤلاء الرّجالُ على ضلالهم القديم!.. ويجيلُ نظراته في هؤلاء العشرة من الرجال، وقد اعتراهم خزيٌ كاسحٌ،

{ قال: أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلمُ بما تصفون}

وأمر عزيزُ مصرَ ببنيامينَ فأوقِفَ جانباً..

ولمّا رأى أخوتُه ذلك، ذكروا أباهم، والمواثيق الّتي أخذها عليهم، والعهود.. إنّه لآمرٌ، جدُّ فظيعٌ!..

ووقفوا أمام عزيز مصر مستعطفين...

{قالوا: ياأيّها العزيزُ إنّ له أباً شيخاً كبيراً، فخُذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخُذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذاً لظالمون}

فأطرقوا!.. إنّ العزيز ليقول حقّاً ويحكمُ عدلاً!..

يهمُّون بالإنصراف، وقد اكتسحهُم همٌّ ثقيلٌ، فبأيِّ وجهٍ سيُلاقون أباهم، وقد أخذ عليهم موثقاً من الله، غليظاً، وعاهدوه، فما قُدِّرَ لهم الوفاء؟

ويضرب كبيرُهُم الأرض بقدمه، قائلاً لإخوته:

- ويحكُم!.. أنسيتُم عهدكُم لأبيكم. بئس ماتعودون به إليه،.. أمّا أنا، {فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي، أو يحكُم الله لي وهو خيرُ الحاكمين}.

وعاد أبناء يعقوب إلى أبيهم، مطرقي الرؤوس، منكّسي الهامات، كأنّهم وراء جنازةٍ يسيرون.. ويخبرنه بالحدث، فيضربُ يعقوبُ رأسه بكلتا يديه!..

بالأمس فرّطوا بيوسف، واليوم ببنيامين،..

وأجهش الشيخ منتحباً.. ورماهم بغليظ القول، أشدّ من السّياط لسعاً، واتَّهمهم بالتَّفريط والتّقصير، سوؤ النيّة، والتّقدير!..

ولكنّ الشّيخ الكبير لايزالُ على عظيم ثقة ببقاء يوسف جيّاً يُرزق، وبأن بنيامين سيعود إليه يوماً!..

ولكن: أين يكونُ الأول؟... ومتى يعودُ الثاني؟..

وغالبهُ حزنٌ وقهرٌ قغلباه. فاستسلم لمشيئة الله، وكأنّ قبله تقطّعهُ المدى!.. وقال لأبنائه: {يابنيَّ اذهبوا فتحسسّوا من يوسفَ وأخيه ولاتيأسوا من روح الله إنّه لاييأسُ من روح الله إلاّ القوم الكافرون}.

خاصةً، وأنّ القحط والجفاف عادا يضربان أرض شماليِّ الجليل، فالسّنواتُ عجافٌ، شدادٌ، مهازيلُ.

المفاجأة

ويذكرُ أبناء يعقوب عزيز مصر، وعدله، وكرم يده، وشمائله الحسان، وأخاهُم لديه.. فيجمعون مابحوزتهم من مالٍ يسيرٍن ويتوجَهون به إلى بلاد العزيز..

ويدخلون عليه قائلين:

ياأيُّها العزيزُ، لقد ابتُلينا بأمورٍ عظامٍ، وخُطوبٍ جسامٍ إذ شحّت السّماءُ، وأجدبت الغبراءُ، فأصابت أهلينا البأساءُ والضّرّاء، وجئناك بما أبقت عليه الأيام النّكداءُ، والخطوب النّكراءُ، وهو مالٌ جدُّ يسيرٌ، وقليلٌ حقيرٌ، {فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجري المتصدّقين}

{ قال: هل علمتُم مافعلتُم بيوسُفَ وأخيه إذ أنمت جاهلون}.

ويستعيدون في أذهانهم صورة أخيهم يوسف، كفلقة القمر اشراقاً ولألاءً، إنّه، وربِّ ابراهيمَ- لهو!.. وقد القت النعماء عليه مسحةً من مزيد بهاءٍ وإشراقٍ..

فيا للمُفاجأة الصّاعقة!..

ويصرخُ بعضُ إخوته، وقد داهمتهُم المُفاجأةُ فأخرجتهُم عن طورهم، وتأدُّبهم أمام عزيز مصر، {قالوا: أإنّك لأنت يوسُفُ!}

ويجيبهم بكل هدوءٍ: {قال: أنا يوسفُ وهذا أخي قدْ منَّ الله علينا، إنّه من يتّق ويصبِر فإنَّ الله لايُضيعَ أجرَ المحسنين}.

فاعترفوا بخطيئتهم، وقد تطأطأت منهم الرُّؤوسُ، فلا يستطيعون النّظر إلى وجه إخيهم خجلاً من فعلتهم الشَّنعاء...

واستأذنُوه أن يعودوا إلى أبيهم بالبُشرى، فإذن لهم.. وجهّزهم بما ناءت به العيرُ، وبقميصٍ له، طلب إليهم أن يلقُوه على وجه أبيهم حينَ يصلون!..

وقفلت العيرُ، وئيدةً، بطيئةً، بما عليها من أحمالٍ ثقالٍ، وقد توجّه بها أبناء يعقوب إلى بلادهم في شماليِّ الجليل، وقد علا صوتُ الحادي، فأخذت العيرُ تجدُّ في المسير!..

وأخيراً،.. وصلت العير إلى مواطنها، وأشرف أبناءُ يعقوب على أبيهم، وقد حمل البشيرُ قميص يوسف، وأخذ يعدو نحو أبيه..

فصاح يعقوبُ: {إني لأجِدُ ريحَ يوسُفَ}

وطُرِحً قميصُ يوسفَ على وجه يعقوب المتغضِّن، الّذي لايبين منه إلاّ لحيةٌ كثّةٌ، مرسلةٌ على سجيّتها، تعلوها عينان غائرتان، غاض فيهما النّورُ، .. فارتدَّ بصيراً!... وسجد لله شكراً؟، وقد ردَّ إليه يوسفَ بعد طولِ غيابٍ..

فيا للبُشرى التي لايُحيطُ بها وصفٌ، وكأنّها لغرابتها، من عالم الخيال!..

وبعد عدَّة أيام تهيَّأ يعقوبُ، وأهلُ بيته جميعاً، للتوجُّهِ إلى مصر حيث العزيزُ، العزيزُ!..

وشهدت أرضُ كنعان قافلةً تحملُ خليطاً من رجالٍ ونسوةٍ، وصبيةٍ صغارٍ، وبعض مالٍ، ومتاعٍ،.. وفي مقدّمتها شيخٌ مهيبٌ وقورٌ، يحث راحلته إلى أرض الكنانة!.

رواية

ورد في إحدى الرّوايات، أنّ بعض أملاك السّماء استأذنوا الله أن يشهدوا لحظة لقاء يوسُفَ بأبيه يعقوبَ، فأُذن لهم، إنّها من اللّحظات النّادرة في التاريخ!..

وشاهدت الملائكةُ في هذا اللِّقاءِ عجباً:

الشيخ يفتحُ ذراعيه، صائحاً، ساعة شاهد إبنه، ويعدو نحوه، وكأنّه يطير.. وكذلك فعل يوسُفُ!..

ويصل كلٌّ منهما إلى صاحِبه..

ويرتمي كلٌّ منهما في حِضن الآخر..

ويتعانقان.. حتى يكادَ جسداهما يلتصف الواحدُ منهما بالآخر!.. وقد تحدّرت منهما دموع الفرح بسخاء، فتقطّرت على الأرض، غزاراً..

كما شهد هذا اللّقاء خلقٌ من المصريين، اصطفُّوا مرحّبين، وقد اغرورقت عيونهم بالدّموع..

وآوى يوسف أبويه وإخوته إليه في القصر، وقد أحاطوا به..

وانتظم عقدُ لقاء يوسُف بأبويه وإخوته أجمعين، وقد خرّوا له سُجّداً..

فالتفت يوسفُ إلى أبيه قائلاً: {ياأبت هذا تأويل رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربّي حقاًّ}

ويهزُّ الشيخ برأسه، وقد طفرت من عينه دمعةٌ حرَّى..

ويُردِفُ يوسف، قائلاً، بصوتٍ متهدِّج، وقد رفع كلتا يديه إلى السَّماء:

-{ربّ قد آتيتني من المُلك، وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السّموات والأرض، أنتَ وليِّي في الدُّنيا والآخروة، توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين}.

نهاية المطاف

كان موكبُ يوسُفَ يشقُّ المدينة، وحوله جندٌ وحرسٌ، وحشمٌ وخدمٌ.. وقد تجمهر الناسُ على جانبي الطريق ليحظوا بمشاهدة عزيز مصر، ومليكهم العادل المحبوب...

وكانت عجوزٌ شمطاءُ قد اقتعدت إحدى زوايا الطّريق، والنّاسُ حولها في هرجٍ ومرجٍ ووصخبٍ وضوضاء... فعزيزُ مصر، يشقُّ موكبُه الجماهير المحتشدة بعناءٍ، وقد تدافعت نحوهُ هاتفةً باسمِه، فهو بين مسلِّم عليه، ومسفِّق لهُ، وملوّحٍ من بعيدٍ..

وينعطف الموكبُ الملكيُّ بالقرب من العجوز، فتدعو بصوتٍ عالٍ كالهُتاف:

- سبحان من صيَّرَ العبيدَ ملوكاً بطاعته، والملوك عبيداً بمعصيتِهِ!..

ويصلُ الصَّوتُ إلى مسامع العزيز، فيأمر الموكبَ بالتوقُّفِ، ويسألُ عن صاحبة الهُتاف، .. فيؤتى بالعجوز إليه..

ويسألها عزيزُ مصر عن سبَبِ هُتافها، وعن اسمِها، وعن حاجتها...

ويقشعرُّ بدنُ العزيز، وقد عرف العجوز الّتي ذهبت بنضارتها السُّنون...

إنّها زليخا!.. وقد قلب لها الدَّهر ظهرَ المجنِّ!..

وكم لها في قلبه من ذكريات لاتزولُ، وكأنّها محفورةٌ على صخر أصمَّ... وكم لها في ماضية من تاريخٍ حافلٍ، ومزدحمٍ بالأحداث!...

ويطحبُها معه في الموكب الملكيِّ... ويُدخلُها القصر متوكِّئةً على عصاها، وقد احدودب ظهرها، واضمحلّت قواها..

ويراها يوسف كذلك، فتطفحُ عيناهُ بالدّمع.. فيدعو الله أن يُعيدَ إليها نضارةَ الصِّبا، وريعان الشَّباب، كما كانت أيّام تركُضُ خلفهُ في القصر وتُغلِّقُ الأبوابَ...

تقولُ الرواية: إن الله يستجيبُ لنبيِّه دعوتَه.. فإذا بزليخا تعودُ كما كانت أيّام زمان، تتألّقُ نضارةً، وتتفجَّر ***ُوانَ شبابٍ.

وينظرُ إليها يوسُفُ وقد عادت تميسً تيهاً، ودلالاً... ويطلبُ يدها للزواج فتقبلُ...

ويُسدَلُ السِّتار على زواج يوسف من زليخا، كما شاء الله لهما ذلك.. فهما سعيدان!.. وعلى عودة أهله إليه جميعاً فهم في النّعيم يتقلّبون!...

ويرى الناسُ ذلك، ويسمع به آخرون، فيعجبون عجباً شديداً.. فهم لايكادون يصدِّقون، فالقصَّة تكاد تدخُلُ في باب الأساطير!..

ولكنّها من أنباء الغيب، ووحي السماء..

{وما أكثرُ النّاس -ولو حرصت- بمؤمنين!...}

(صدق الله العلي العظيم)

صوت الحق
28-06-2008, 10:52 AM
النبي أيوب (ع) ذوالبلاء

حديث أملاك

كان هذا حديث ملائكة في ملئهم الأعلى:

- لله هذا العبدُ الصَّالحُ، أيوبُ..

لقد أنعمَ الله عليه بالأموال الكثيرة، من قطعان إبل، وخيلٍ، وشياهٍ، وأُتُنٍ، تسرحُ في الفلاة ترعى، فتغطّ]،/ لكثرتها، الفلاة..

وتموج باعدادها الوهاد والهضابُ..

وعبيدٌ كثيرون يقومون برعايتها، والعناية بها.. وخدمٌ عديدون، يروحون، ويجيئون!..

ومع ذلك، فلم تُبطر النّعمةُ أيوب، ولم يبخل بما آتاه الله..

فبابه مفتوحٌ للرائح ولاغادين ويده مبسوطةٌ تعطي بلاكدرٍ (أي: منٍّ) ولاحسابٍ!.. لم يطرقه سائل إلاّ أغناه،.. ولم يقصده محتاجٌ إلاّ كفاه!..

شعاره: مال الله لعبيد الله.. وما جعلني الله على هذا المال إلاّ قيّما، لامالكاً له، ولاخازناً!.. إنّه أمانة عندي أؤديها إلى خلقه.. وليس لي في ذلك كلِّه حولٌ ولاطول، بل، بحولِ الله وقوّته، يتمُّ ذلك، ويكون!..

فتبارك الله: ماأطيبَ نفسَه، وأجملَ خُلُقَه، وأسمحَ يده!..

ويُردِفُ ملاكٌ آخرُ:

- وكان من تمام النّعمة عليه، أن رزقه الله أ,لاداً.. فكانوا سبع بناتٍ، ومثلهم من البنين!. فهم له قُرّةُ عينٍ، وعونٌ على المعروف يسديه، والإحسان يؤدّيه..

يراهم، بين يديه، كراماً بررةً، فيحمد الله ويشكرهُ على ماحباه من ولد صالحٍ!.. ويخاف عليهم الزّيغ، والعُجب، والتّكبُّر.. فيدهوهم إلى مراقبة الله في كل خطوةٍ، ومقالٍ، ويذكّرهم بأنّ عين الله ترى، وبأنه يعلم السرَّ وأخفى!.. ويطيبُ بهم خاطراً، وقد انتهجوا سبيل الهدى والرّشاد.. فيسجد لله شاكراً له وافرَ النّعماء، والحُسنى!..

ويتابع ملاك ثالث:

- وكان أن زاده الله من فضله، بأن رزقه صحّةً وفتُوَّةً.. فشبابه يتفجّرُ بالعزم والعافية..

وشكرَ الله أيوبُ، بأن اتّخذ من شبابه وسيلةً لمرضاة الله، وسبيلاً لطاعته، صارفاً ماعمر الله جسده من طاقةٍ، في سبيل الخير والإحسان،.. وإعانة الضعيف، وإغاثة المحتاج، آخذاً بيد هذا، مسدّداً خطو ذاك، فلم يعرف الكبرُ إلى نفسه سبيلاً، ولم تأخذه العزّة بما حباهُ الله من قوّةٍ. فقوّته من الله، وإليه..

ويتّفقون فيما بينهم:

ليس على وجه الأرض، عبدٌ، كأيوبَ، صالحٌ..

إنه نعمُ العبد،.. إنه أوّاب!..

وكان إبليسُ -يحيط به بعضُ أتباعهِ وجنده- قريباً من السّماء، يسترقُ السَّمع، فيسمع تحادث الأملاك، فيعجب من أيوب غاية العجب، ويقول في نفسه:

- يظهرُ أن زينة الدنيا، وبهرجها، وزُخرفها، لم تطغ أيوب، ولم تستطع إغواءه، فهلاَّ ابتلاه الله؟..

فمِمّا لاشكّ فيه أنّ زوال النِّعمة عن الإنسان، داعيةٌ للكفران بعد الإيمان!..

ابتلاء أيوب في ماله

ويرفعُ إبليس رأسه هاتفاً:

- إي ربَّ!.. لقد أعطيت أيّوبَ مالاً لاتغيبُ عنه الشّمسُ.. فلو قضى عمره في سجدةٍ واحدةٍ لك، لم يوفّك حقّك في ماحبوته إياه..

فهلاّ ابتليته في ماله؟.. وأصبته في ثروته؟.. إذاً، وحقّك، لتغيّر، وفترت عبادتُه، وقلّت طاعتُه، وانقطع إحسانُه..

ويأتيه الجوابُ من علِ:

- عبدي أيوب لم تُبطرهُ النّعمةُ حتى يجزع من النّقمة،..

فاصنع، وجندَك، مابدا لك في أمواله،.. قد أبَحنا لك ذلك، وسترى، بعد ذلك، صدق عبادة عبدي الصَّالح أيوب!..

وينطلق إبليس وجندُه إلى مال أيوب، وقد انتشر في البراري والفلوات إبلاً، وخيلاً، وشياهاً، وأتُناً، حتى غطّى وجه الأرض،.. وينقضُّون عليها، فإذا هي مجندلةٌ، على وجه الأرض، صرعى!.

وارتاع الرُّعاة لما رأوا..

وأخذهم العجبُ من هذا الوباء الوبيل الذي فتك بالقُطعان هذا الفتك الذّريع!..

وانطلقوا إلى سيّدهم أيوب، مهرولين، صائحين.. وأخبروه بمآل أمواله..

فأجابهم- وقد افترَّ ثغرُه عن ابتسامةٍ-: لاعليكم!.. مالُ الله، يفعلُ الله به مايشاء!..

وقعد أيوبُ في بيته، وكأنَّ شيئاً لم يكن!..

فلم تَفُتَّ في عزمه المصيبةُ، وقد تحوّل بين عشيّة وضُحاها من ثريٍّ كبيرٍ إلى مسكينٍ فقيرٍ،..

بل حمد الله على ماأصابه، كما كان يحمدُه على ما أعطاه!..

وظهر إبليسُ لأيوب، في هيئة شيخٍ حكيم، قد عجمت عودة الأيام (كناية عن تجاربه الكثيرة) وحنّكته التّحاريب.. فسلّم على أيُّوب بوفارٍ، وقال له:

- مافعل الله بك ياعبد الله؟..

فأجابه:- إنه الله الفعّالُ لما يريدُ!.

- أرأيت لو كان الله أثابك على ما دأبت عليه من الصّلاة وأعمال البرّ لما أصابك في مالك ما أصابك!.

- صه!.. أيها الشيخُ.. إنما تنطق بلسان الشَّيطان..

وخرَّ إبليس إليه، وهو كذلك، فقال في نفسه:

- واحسرتاه، سجدَ فرَشد، وأبيتُ فغويتُ!..

ثم تولّى على عقبيه، ندمان، حسران، خزيان!..

وهكذا لم يهن أيوبُ أمام مصيبته في ماله، بل تماسك، وتجلّد، صابراً محتسباً، ولم يفتُر لسانه عن تسبيح الله، وشكره على آلائه (أي: نعمة)، أبداً..

ابتلاء أيوب في أولاده وخدمه

واتّجه إبليسُ بنظره إلى السّماء، هاتفاً من جديد:

- إي ربِّ!.. لقد أصبتَ أيوبَ في ماله، فما انفكَّ عن ذكرك وما انقطع عن شكرك، وما ذلك، إلاّ لأن بين يديه أولاداً كثُراً، من بنين وبناتٍ، يفعلون بأمره، ويقومون بما يريد.. بالإضافة إلى خدم كثيرين، طوع إشارته.. فهم عُدّته إذا اشتدَّ الزمان، وعضّته المصيبة.. فهلاً ابتليته في من حوله من خدمٍ وأولاد؟.

ويأتيه النداء من فجاج الغيب:

- أنا الله السميع البصير، الخبيرُ بعبدي الصّالحِ أيوب، الذي لايعرفُ الجزعُ إلى قلبه سبيلاظً..

فأجلب على من عنده من أولادٍ وخدمٍ، بخيلك ورجلك، باستثناء زوجه "ليا".. واصنع ما بدا لك!..

وهبَّ إبليس، وبعضُ جنده من المردةِ العُتاة، والشياطين العصاة، يتربصون بأبناء أيوب، وخدمه، الدّوائر..

وماهي إلاّ سويعات، حتى أخذ أولادُ أيوب، والخدمُ، يتوافدون إلى القصر، للاجتماع فيه، وتمضيه جزء من النّهار، وتناول طعام الغداء، معاً..

وانتظر إبليسُ، ومن معه، حتى تكامل عقد المتوافدين، وتمَّ عددهم،..

وبينما هم كذلك..

وإذ بإبليس وجنده ينقضُّون على أسس القطر، وركائز أعمدته، فيزلزلونها زلزالاً شديداً،.. وماهي إلاّ لحظات، حتى تهاوى القصر على من فيه وتحوّل إلى ركامٍ وأنقاضٍ!..

وعلت الصّرخةُ..

وسُحبت الجثثُ من تحت الأنقاض أشلاءً، أشلاء..

وأتى الصّارخُ أيوب -وكان عنهم بعيداً-:

-:هلُمَّ ياأيوبُ.. لقد تداعى القصرُ على أبنائك وخدمك المجتمعين فيه.. فهم جميعاً، صرعى!..

عظَّم الله أجرك فيهم، جميعاً!..

ولم يصرخ أيوب.. ولم يجزع، ولكنه أطرق إلى الأرض قليلاً، وقد سالت على خدَّيه دمعة حرّى، أخذ يكفكفها بطرف كمِّهن وهو يقول:

إنّا لله، وإنّا إليه راجعون!.

وصرخت زوجَه ليا بنت يعقوب النبي، وولولت، وانتحبت.. فدعاها أيوبُ إلى التَّصبُّر،.. فما لبنات أنبياء نبي إسرائيل، والجزع؟..

وعاد أيوبُ إلى منزله، بعد ساعةٍ،.. بعد أن شيَّع أولاده وخدمه جميعاً إلى مثواهم الأخير.. وهو مايزال يذكرُ الله ذكراً كثيراً..

ولم يبق له من الدّنيا إلاّ هذه المرأةُ الصالحةُ، التي طفح وجهُها بالحزن والأسى..

وأتاه إبليس في زي شيخ وقورٍ، معزِّياً،... فالكلُّ إلى زوالٍ!..

والتفت الشيخ إلى إيوب، وكأنه يتساءل، موسوساً:

- تُرى، ...أما كان لصلاتك، وشدة تعبُّدك لله، أن يدفعا عنك هذا المُصابَ الجلل، والرُّزء الفادح؟..

أعانك الله على ماأنت فيه من الأمور العظام، والخطوب الجسام!.. ثم،.. أإلى هذا الحدِّ يتخلَّى الله عند عبده المؤمن الذي لايفتُرُ عن ذكره، في قيامٍ وفي قعودٍ، وفي جيئةٍ وفي ذهاب!..

ورمقهُ أيوب بنظرةٍ شزْرٍ، كملتهب الشّرر:

- إليك عني أيها الشيخ.. هلاَّ ذكرت الله في قولِك؟

وهل كان مالي إلاّ وديعةً استودعنيها الله؟

وهل كان أولادي إلاّ عاريةً (أي: وديعة) مستردَّة؟

فمن حقِّ الله المعطي، أن يستردَّ ماشاء متى شاء!..

ويخرُّ أيوبُ ساجداً لله، وهو يتمتم: -ربِّ.. لك الحمدُ والشكرُ، في الضرّاء، كما في السرّاء!..

فتولى عنه إبليس مغيظاً، محنقاً، وهو يكاد يتميَّزُ غيظاً!..

وأخذ إبليس يقلِّب كفيهِ..

فمن أين يأتي أيوب؟..

ابتلاء أيوب في بدنِه

وانتبه إلى صحة أيوب وما لهُ من نشاطٍ جمٍّ..

فأيوب ممتلئ الجسم صحةً وعافيةً.. له جسمُ الرِّجال الرِّجال، وعزمُهم الشديد!..

فتوجَّه إلى السماء قائلاً: - إي ربِّ.. لقد سلبتَ أيوبَ أمواله كلّها، فما لانت له قناةٌ، ولاوهنت له عزيمةٌ.. وحرمته أولاده وخدمه أجمعين، فما كان ذلك ليؤثر عليه من قريبٍ أو من بعيدٍ..

وإني أراه معتمداً على قوَّته، معتداً بفتوته.. فهو فارع الطُّولٍ، متينُه، عريضُ المنكبين، شديدُهما؛ مفتولُ السّاعدين، قويُّهما..

فهلاّ ابتليته في جسده وصحته، وأصبتَه في قوته وهمَّتِه؟..

ويأتيه الجوابُ من علٍ: إنَّ عبدي أيوبَ نِعم العبدُ الصَّابرُ على مايصيبُه..

لقد سلطتك على جسده، وأبحتك بدنه، فأجمع له ما استطعت من أمرك، وكد لهُ ماشئت من كيدك، فما أمرُك إلاّ في ثباتٍ!..

ويكرُّ إبليس وجندُه، على أيوب الفرد، الصِّفرِ اليدين، ويأتونه من كل جانبٍ، وينفخون في جسده من خبيثِ أنفاسِهم، فيقعُ عليلاً، منهوك القوى.. وتنتشر في بدنه العِللُ والأمراض، فيمتلئ قروحاً وجروحاً ملتهبات!.

ويبقى على هذا الحال سنين.. وتُبرِّحُ به الأوجاعُ والآلام، والعِللُ والأسقامُ.. ولا من طبيب، ولامن دواءٍ؟.. وهكذا أصبح بدنهُ مرتعاً لكلِّ علَّةٍ، ومسرحاً لكلِّ داءٍ خبيثٍ!..

ويعودُه بعضُ النَّاس..

- ماتشكو ياأيوب؟.

- إلى الله أبثُّ شكواي ونجواي، وهو وحدّه الخبيرُ بما أنا فيه..

وسرعانَ ماينفض عنه الناس، ويتحامونه.. فريحُهُ كريهٌ، لايُحتمّل،.. ومنظرُ جسده يبعث على الغثيانِ!..

ويودِّعونه، ويودعون زوجَهُ ليا بنت النبي يعقوب، التي كانت تتعهَّدُهُ، بعطفٍ وحنانٍ، وتقومُ على خدمتِه خيرَ قيامٍ!..

وأخيراً انقطع عنه الناسُ، وتحاشَوا لقاءه، وتجنَّبوا عيادته.. إذ قد امتدّت به المحنةُ، وأصابهُ الجهدُ، وأوغل في عروقه ومفاصله الدّاءُ العُضالُ..

وكان أيوب يعاني ذلك كلّه معاناة الصّابرين المحتسبين.

وظلّ، كعادته، منشغلاً بالله عمّن سواه من العالمين.. شاكراً إياه على كلِّ حال!..

أما إبليسُ فكان يرى ذلك كلَّه، فيشتدُّ غيظاً، ويستعِرُ حنَقاً،.. ويدمدم: لم أرَ في حياتي رجلاً مبتلىً كلَّ بلاءٍ، يصبُر، كأيوب!..

ويجمع حوله رهطاً من جنوده،..

- مالعملُ، بعدما رأيتم من أمر أيوب؟.

- لقد أُسقط في أيدينا (كنايةً عن العجز) بعدما رأينا أيوب يصبر هذا الصبر الذي لاحدود له..

- حقاً إن صبرَ إيوب لعجيبٌ.. لقد ابتُليَ البلاءَ تلو البلاء، لو أصاب بعضُها الجبال لدكَّها..

- إنه ليحزنني أن نفشلً كلُّنا في هذا الأمر، وقد نجحنا في ماهو أشدَّ منه، وأدهى..

- ولكن، قال لي، سيدنا،.. كيف أخرجت آدم من الجنَّة؟.

- بواسطة زوجه حوَّاءَ..

- إذاً، فلنحاول جُهدَنا، أن نأتيَ أيوبَ من قِبَلِ زوجِه ليا..

- وهو ماتقولُ..

وينصرفون..

إبليس وزوج أيوب

وفي الصباح الباكر، يظهر إبليسُ لزوج أيُّوبَ، ليا، بصورة طبيب..

ويسألها عن زوجِها..

فتجيب: لاهو حيٌّ فيُرجَى، ولاميِّتٌ فيُعزَّى به..

وتدعوه لمداواة أيوب..

فيجيبها: أداويه، ضامناً شفاءه ممَّا يكابدُ من داءٍ وسقمٍ، ولكن بشرط، لاأريد جزاءً سواه..

قالت: وماهو؟

قال: أداويه.. على أنه إذا برئ، يقول لي: أنتَ شَفيتَني!..

قالت: نعم!..

وأسرعت ليا إلى أيوب، قائلةً له، وكأنها تستَرحِمُه:

- ياأيوب.. لقد طال مرضُك، وامتدَّت معاناتك،.. وهذا طبيب يزعم أنه يشفيك من كلِّ ماتعاني منه، من أوصابٍ وأسقام!..

- عليَّ به، ياليا..

- ولكنه أخذ عليَّ عهداً، واشترطَ شرطاً..

- مايقول؟..

- يقول: إنه يداويك، فإذا برئت تقول له: أنتَ شفيتني.. لايريد جزاءً سواه..

ويحتقن وجهُ أيوب، فبدا رهيباً،.. ويصرخ بوجهها كالملسوعِ:

- أغربي عن وجهي.. قبَّحَ الله ماترين..

أولم تسمعي قول جدِّك إبراهيم خليل الرَّحمن:

{الّذي خلقني فهو يهدين. والّذي هو يُطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فهو يشفين. والّذي يُميتني ثمَّ يُحيينِ.}..

ويتابع قوله لها بصوتٍ هدَّار، وهو يتوعدها بأليم العِقاب:

- والله، إن منَّ الله عليَّ بالسّلامة ممّا ابتلاني به، لأجلدنَّك مائة جلدةٍ جزاء ما نفث الشيطانُ على لسانك، وما وسوس لك به إبليسُ، مزيِّناً لك الكفرَ بالله، والشِّرك بعبادته..

وتنصرف ليا من أمام وجه زوجها الذي اشتعل غضباً..

وترى الطبيب، وكأنه كان يسمعُ تحاوُرَهما،.. فما أن رآها عائدة، مكسوفةً، حتى نكَصَ على عقبيهِ، وتولَّى عنها، مدمدماً، غضِباً..

وماهي إلاّ ساعة، حتى تعود ليا لما فُطِرَت عليه من إيمان، فتستغفر الله، وتعتذرُ إلى زوجِها، وقد رقَّ قلبُها له، فهي لاتبغي من وراء ذلك كلِّه إلا شفاءه..

وتتودَّد إليه، وتتلطَّف، وتتعطَّف، فيُقبل عليها بوجهه،..

وتنظر إليه باهتمام عطوف، وحدبٍ حانٍ، وقد ترقرقت في عينيها جمعة، وتقول له، برقَّةٍ، وكأنَّها تهمسُ في أذنه:

- ماعهدتُك، ياأيوبُ، إلاّ صبوراً على الشَّدائدِ، جلداً على الأحداث والمِحَن.. وقد اصطفاك الله، من بين قومِك، نبياً،..

فهلاَّ سألتَ الله أن يمسَحَ ضُرَّكَ، ويكشفَ عنك هذا البلاءَ، ويُنقِذكَ من لُجَج هذه الأسقام؟

إني لأراه، إن فعلتَ، استجابَ!..

- وكم مضى عليَّ في مرضي ياليا؟..

- سبعُ سنين..

- وكم مضى عليَّ، قبلَ ذلك، من عمري الذي عشته معكِ، في نعمة عيشٍ وارفٍ، ودعةِ بحبوحةٍ، ورغد..؟..

- ثمانون..

- إني لأستحيي من الله، أن أسألَه كشفَ مابي من البأساء، ولم أصبر، بعدُ، على معشارَ ما حباني به من النَّعماء..

وتنصرف ليا شاردة النظرات..

وينطل أيوب سمجِّد الله، ويسبِّحه، ويقدِّسه، ويشكره، كثيراً..

بُرْءُ أيوب

وتجرُّ أيوبَ قدماه بجهدٍ، وإعياءٍ، شديدين، إلى ظاهر بيته، في البريَّةِ، يُسَرِّح نظره في الآفاق، وقد اكتست الطبيعة حلةً خضراء خضراء.. مرصَّعةً بالزهر من كلِّ لونٍ.. ويأخذ مجلسه على التراب النديِّ، فتباركَ الله أحسن الخالقين..

هناك: {نادى ربَّه أني مسّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الراحمينَ}

وألقى في روعِ الملتلى الصابر: أن اضرب بقدمِكَ الأرض.. ففعل.. فانفجرت منها عين ماءٍ دافقة، وقيل: بل نبعت عينان:

فاغتسل في إحداهما، وشرب من الأخرى..

وتمطَّى قليلاً، وتثاءب.. وكأنّه فُكَّ من عِقال..

ونظر إلى جسده، فإذا به قد عوفي من كلِّ داءٍ وسقم..

وإلى فتوته.. فإذا هو بعزيمةِ إيّام الشباب!..أيتم

فأسرع إلى منزله، وهو يكبِّر الله، ويحمده، وارتدى ثياباً كان قد خلعها منذ سنوات..

ولما عادت زوجه إلى البيت، ارتاعت.. ففي البيت رجلٌ غريب..

وحدَّقت النَّظر فيه مليَّاً، فناداها، .. فعرفته من صوته.. إنه زوجها أيوب..

فصرخت فرحاً، وقد ملأت عليها المفاجأة المذهلةُ كلَّ وجدانها.. وأسرعت إلى زوجها تعانق خدَّيه الملتمعين بالعزم، ورواء العافية.. إنها لتكاد تطير فرحاً.. فسبحان من يحيي العظام وهي رميم!..

وغفر الله لها زلَّة لسانها، في موقف ضعفٍ، جزاءَ حسنِ تعهُّدها أمور زوجها في الشَّدائد المهلكات..

وأوحى الله تعالى إلى أيوب: أن أجمع حزمةً من شماريخ العشب، وقضبانه الهشَّةِ، تبلغ مئةً، واضرب بها زوجك ليا، ضربةً ليِّنةً واحدةً، تبرَّ يمينُكَ.. ففعل!..

وشاء الله تعالى إلاّ أن سكاف~ أيوب بمزيد من الحسنى، ويجزيه الجزاء الأوفى.. فأحيا له جميعَ من هلَك من ولده وخدمه، ومثلَهم معهم، ممن كانوا قبل البليَّة وخلالها وأعاد له جميع ما فقد من مالٍ، مضاعفاً، مباركاً.. تكرماً منه وتحنُّناً.. وتذكرةً وموعظةً لأولي الألباب!..

ويذكر الله الصابرين الذين يزيدهم من فضله، ويوفيهم أجورهم بأحسن ماعملوا، بأن لهم عقبى الدار..

ويذكر الناسُ الصّابرين، فيقولون: صبرٌ.. ولاصبرُ أيوبَ!..

صوت الحق
28-06-2008, 10:55 AM
النبي داوُد(ع) صاحب المزامير

تولّى يوشَعُ بنُ نون قيادة قومه، بعد التحاق موسى(ع) بالملأ الأعلى.

وخرج بهم من أرض التيه، بعد أربعين سنةً تاهوا فيها، حيارى،.. إلى أرض فلسطين، لقتال أعدائهم، وما زال ينتقلُ بهم من نصرٍ إلى نصرٍ، حتّى دانَ لهم الأعداءُ وخضعت لهم الرقابُ، فحكموا بشريعة السماء!.

وكانوا يُقدِّمون أمامَهم، في كلِّ المعارك التي خاضوها، "تابوت العهد"،.. وفيه بقيةٌ ممّا ترك موسى وهرونُ: من عصا موسى، إلى الألواح المقدسة، إلى بعض دروعٍ وسلاحٍ.. وهكذا كانت بيارقُ النصر تُرفرف فوق هذا التابوت المقدس باستمرارٍ،.. الذي كان نعمةً أنعمها الله على بني إسرائيل!..

ولكنَّهم - كعادتهم- مالبثوا أن انحرفوا عن طريق الحقِّ، وجادّة الصواب.. فسلّط الله عليهم "الفلسطينيينَ" حتى ذلُّوا، وهانوا، وباؤوا بغضبٍ من الله وخذلان!..

صموئيل النبي

وأتى بنو إسرائيل نبياً لهم، وعبداً من عباد الله الصالحين، اسمه "صموئيل" وشكوا إليه، متبرِّمين، مايلاقون من مرارة الهوان، وتمزق الشمل والخذلان، وظهور أعدائهم عليهم ( أي: تفوُّقهم).

وهز "صموئيل" رأسه، فهو على وثيق الايمان بأنّ لعصاة الله سوء الدار، وبئس القرار.. وقومُه عصاةٌ فاسقون، مردُوا على الكفر والنِّفاق، فالله مجازيهم بما كسبت أيديهم وبما كانوا أنفُسهم يظلمون. وقال لهم بصوتٍ عميقٍ، وهو يتطلّع إلى آفاق السماء:

- دعوني استخر لكم الله في ماأنتم فاعلون!

وانصرفَ، كلٌ إلى شأنه!..

وأوحى الله إلى نبيه "صموئيل": إني قد اخترتُ "طالوت" ملكاً على بني إسرائيل، ولعلّ "صموئيل" لم يكن قد سمع بهذا الاسم من قبل.. فمن "طالوت" هذا؟.. وكيف الوصول إليه؟..

فأوحى إليه الله عزّوجلّ: لاعليكَ يا "صموئيل"، فطالوتُ آتٍ إليك عمّا قريب. إنه عبدٌ من عبادي الصالحين، قد آتيتهُ بسطةً من الجسم والعلم.. وبه يتمُّ صلاحُ أمر بني إسرائيل.

"طالوت" و"صموئيل"

"طالوت" في قرية من قرى الوادي، يُشرفُ على أغنامٍ وأُتُنٍ (جمع أتان: أنثى الحمار) يرعاها، فتنمو عدداً - ويتعهّد الأرض: رياً، وفلاحةً، وزراعةً، فيجني منها وافرَ المحاصيل.

وبينما كان يرعى قطيعاً، أخذتهُ سنةٌ من الكرى، فغفا ساعةً أو بعض ساعةٍ، ولما استفاق، طلبَ أُتُنهُ فلم يجدها، فسأل غلامه عنها. وإذا به، مثله، لايعلمُ عنها شيئاً، فنهضا، وتوجّها إلى أرض وعرةٍ ذات عشب وكلأ وشجر، فلعل الأُتن قصدتها.. وتوغَّلا عميقاً في الأرض الوعرة، حتى تورّمت منهما الأقدامُ، دون أن يعثُرا لها على أثر. وأرادا العودة خائبين، بعد أ، لقيا مشقةً وعسراً، على أن يعاودا البحث عنها غداً في المقلب الآخر للوادي. فلعلّها قصدت وعور الشِّعاب!..

ويتوقَّفُ الغلامُ لحظةً، وهو يفرُكُ جبهته، ويتوجَّهُ بالكلام مخاطباً سيِّده "طالوت":

- "سيدي، لعلَّنا لن نجوس خلال هذه الأرض مرةً أخرى. فنحن الآن في أرض "صوف" موطن النبي "صموئيل" الذي يهبِطُ عليه الوحيُ، وتتنزَّلُ الأملاكُ. فهيَّا بنا إلى هذا النبي الكريم، نستوضحه أمر ما افتقدنا من أُتُن، فلعلّ السماء تُنبئُنا بواسطته عن ضالّتنا.. وإلى ذلك كلّه، فلعلّنا نتبرّك بدعائه، ونُحرز رضاهُ.

وارتاح "طالوتُ" إلى هذا الرأي. فلا ضيرَ منه على أي حال!..

ويتوجّه "طالوت" يصحبه غلامُه إلى حيثُ يقيم النبي "صموئيل". ويلتقيان، في طريقهما إليه، فتياتٍ، خرجنَ يستقين الماء، فسألاهُنَّ كيف السبيل إلى لقاء "صموئيل"، فأخبرنهما بأنّ الناس يلاقونه خلف ذيَّاك الجبل، ولعلّه موشكٌ على المجئ.

وفيما هُما كذلك، وإذ بصموئيل بطلعُ عليهما، يشعُّ محيّاهُ بنور النبوّة، وتحفُّ به مهابةُ رسولٍ كريم!..

ونظر كلُّ منهما إلى الآخر.. فأوقع الله في قلب "صموئيل" أنه أمام "طالوت" الموعود.

ولم يتردّدْ "طالوت" في الإبانة عن نفسه، والهدف من مجيئه، فقال:

- "لقد أتيتك، يانبيّ الله، مستوضحاً، مسترشداً، لقد ضاعت لنا أُتُنٌ، ومازلتُ أطلبُها، مع غلامي، منذُ ثلاثة أيام، دون جدوى. وقد أتيناك مسترشدين: فهل إلى العثور عليها، من سبيلٍ؟..

فأجابه صموئيل باطمئنان الواثق:

"أمّا الأُتُن التي أنت في طلبها، فهي في طريقها إلى أبيك، فلا تنشغل بها نفساً، ولاتنزعج بها خاطراً..

وإني أدعوك إلى أمرٍ، ندبَكَ الله إليه (أي: كلَّفك به، ودعاك..)، وهو أمرٌ، وايمَ الله (أي: أقسم بالله) جدُّ جسيمٌ، وخطيرٌ!..

ويُحملِق "طالوت" في وجه صموئيل دهشاً، فإلى مَ يدعوه نبي الله "صموئيل"؟..

- ماالأمر يانبيَّ الله؟

- لقد اختارك الله على بني إسرائيل، ملكاً!..

- أنّى يكون لي ذلك، ومن أكون حتى أنهض بهذا الحمل العظيم، والأمر الجلل الخطير؟ إنني من أبناء "بنيامين" أخمل الأسباط ذكراً، وأوضعهم جاهاً، وأدناهم قدراً، وأقلّهم مالاً، وأبعدهم عن مواطن الحكم والسلطان!..

- لاعليك!.. فليس لأغنياء الناس، ووجهائهم، من النبوة، إلاّ الحظُّ الأقلُ، والنصيبُ الأدنى. وإنّ هذه مشيئةُ الله، أنقلُها إليك،.. فاشكُر الله الذي اصطفاك عليهم جميعاً، واجتباك (أي: اختارك)، واحمد نعماءه على تكليفك بما لاينهضُ به إلاّ رجالُ الله الأخيار، فهيَّا، واصدَع بما أُمِرتَ به!..

وأخذ "صموئيل" بيد"طالوت"، وسارا، وتبعهما الغلام الذي، لدهشته، لم ينبس ببنت شفةٍ.

ووصل الثلاثةُ إلى النادي، حيث يجتمع عليّةُ القوم من بني إسرائيل، وأشراف ساداتهم، فوقف عليهم "صموئيل"، وهو ممسكٌ بيد "طالوت"، وأعلنَ فيهم:

- إن الله قد بعثَ "طالوتَ" ملكاً عليكم، فاسمعوا له، وأطيعوا، وأعّدوا العُدّة لجهاد عدوكم، تفلحوا، وتظفروا إن شاء الله!..

فلووا بأعناقهم، منذهلين!..

فمن يكون "طالوتُ" هذا النكرةُ، بينهم، والسيّئ الحال، يؤمّرهُ الله عليهم، وفيهم كلُّ عظيم الشأن، خطير المُقام؟..

فلا ذكر له، وهو الخاملُ بين بني إسرائيل، ولامال له، وبينهم من بيده كنزٌ من الذهب، لايفنى!..

ولاهو من أبناء "لاوي"، فرع دوحةِ النبوّة السامقة في بني إسرائيل...

ولاهو من غصن "يهودا"، معدن الملك والرياسة والسلطان!..

وأدرك "صموئيل" مايدور في خلدِهم، وما تُحدِّثهم به نفوسُهم، فقال لهم:

- على رسلكم، ياقوم!.. فالسيادةُ لاتحتاجُ إلى نسبٍ، وما عساه يجدي النّسبُ إذا كان صاحبُه أخرق أحمق؟. وماذا يفعل المالُ - على كثرته- مع المتخلّف البليد، والجبان الرعديد؟.. وهذا طالوتُ، اختارهُ الله عليكم، وفضّله على من عداه من بني إسرائيل،. {إنّ الله اصطفاه عليكُم وزادهُ بسطةً في العلم والجسم}. وها هوذا، كماترون، أمامكم، سويُّ الخلق، جميلُه.. صلبُ الجسم، متينُه، يبعثُ على المهابةِ والجلال!..

ألا ترونَ، لو كان مهزولاً، ضعيفاً،.. لاقتحمتهُ إذن، عيونُكم، وازدرتهُ انفسكم..؟ وهو، إلى ذلك، محاربٌ عنيدٌ، وعلى الأعداء جسورٌ، شديدٌ، بصيرٌ بعواقب الأمور، وخبيرٌ بأساليب الحروب، وفوق ذلك كله، فليس الأمرُ مني، ولاهو بيدي.. ولكنّهُ أمرُ الله تعالى، ومشيئَتُه، عزوجلَّ، فهو الذي قد ملّكه عليكم،.. فأطيعوا الله، في أمرِه، وسلِّموا إلى مشيئته نفوسكم راضين،.. فإنني، والله، لكم من الناصحين!..

وكأنّه استمال قلوبهم،.. فأظهروا الإذعان!..

ولكنّهم، مالبثوا أن عادوا إليه يطالبونه بآية يعرفون بها صدق قوله، فيكونون بذلك من المصدّقين، المؤمنين،..

فقال لهم: إنني أعرف خبيئة نفوسكم التي جُبلت على اللّجاج، والعناد، والمكابرة، ونبذ الحق،.. واتّباع سبيل الهوى، وطريق الغيِّ، وسوء الظنِّ بالله، وتكذيب رسله،

{إنّ آية مُلكه أن يأتيكم التّابوتُ فيه سكينةٌ من ربّكم وبقيّةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هرون تحمِلُهُ الملائكةُ أنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين}.

فخرجوا إلى ظاهر المدينة، كما واعدهم "صموئيلُ"، فشاهدوا التابوتَ يتهادى إليهم في الفضاءِ، محمولاً على أكفِ الملائكة، فآمنوا، وبايعوا "طالوت"، وأقرُّوا له بالملك!..

وأظهر "طالوتُ" في ملكه، حزماً وعزماً. فأسرع إلى تجهيز جيشٍ لاتشغلُ أفرادهُ عن الحرب شواغلُ الدنيا، والتهالُكُ على حُطامها، وسار بهم لقتال الأعداء. وبينما هم، في طريقهم إلى الحرب، مرّوا على نهرٍ، وقد تلظّت أكبادُهُم عطشاً، فقال لهم طالوتُ:

- {إنّ الله مُبتليكُم بنهرٍ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمهُ فإنّهُ منّي إلا من اغترف غُرفةً بيده}

وشدّد عليهم بألاّ ينهلنَّ منه أحدٌ إلاّ بمقدار رشفات يبرّد بها كبدهُ الحرّى.

ولكنّ معظمهم لم يلتفتوا إلى طلب "طالوت" فأسلموا أنفسهم إلى هواها، فعبُّوا من ماء النهر الجاري حتى الارتواء، بينما ترشّف القليلُ منهم من الماء رشفاتٍ نزيرةٍ (أي:قليلة) برّد بها غليله.

ولمّا أشرفوا على أعدائهم، وجدوا فيهم قوّة عدةٍ وكثرة عدد، وقائدهم "جالوت" يجول بينهم ويصولُ، وقد غطّاهُ الحديد من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، على فرسٍ أدهم كأنّه قطعةٌ من ليلٍ حالكٍ، فانقسمَ أصحابُ "طالوت" عندما شاهدوا ذلك إلى فرقتين:

واحدةٍ: أصابها الوهنُ، ودبَّ فيها الضعفُ، فقالوا: {لاطاقة لنا اليومَ بجالوتَ وجُنودِهِ}.

وثانيةٍ: ثبتت على الإيمان، واستحبَّت الجهاد على النُّكول عن الحرب(أي: الانصراف عنها)، موقنةً بأن النصرَ من عند الله، فحثُّوا إخوانهم على الصدق في القتال، والله يفعلُ - بعد ذلك- مايشاءُ، هاتفين بهم {كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله؛ والله مع الصَّابرين!..}.

وانطلقت شرارةُ المعركة بالمبارزة!.. فبرز "جالوتُ" بين الصَّفين، فما بارزَهُ فارسٌ، إلاّ وجندلَه صريعاً، حتى تحامتهُ الفرسانُ، وأجحمت عن مبارزته الأقرانُ. وهو على جواده المحمحم صائلٌ جائلُ، وسيفُه يرعُفُ دماً، والقومُ واجمون، مطرقون.

داود يبارز جالوت

كان في "بيت لحم" رجلٌ من بني إسرائيل قد أحنت السنونُ صُلبَه، فغدا عودُهُ كالقوس انحناءً.. ولما دقَّ نفيرُ الجاد في بني إسرائيلَ، انتخبَ ثلاثةً من نبيه، قائلاً لهم:

- "هيَّا لمعاضدة إخوانكم، ونُصرة بني قومكم في القتال، وأخذ نصيبكم من الحرب".

والتفت إلى صغير أولاده، داود، الأبلج الغُرّة، الوضَّاء الجبين، المتوقِّد الخاطر، وقال لهُ:

- "أمّا أنتَ، فمُهمَّتُك إيصالُ الماء والطعام إلى إخوتك، وموافاتي بأخبارهم مساء كلِّ يومٍ، وإياك والحرب!.. فلست من رجالها، ولا ممَّن يخوضون لظاها!.."

وودَّع داودُ وإخوتُه أباهم الشيخ الكبير، الّذي دعا لهم بالنصر، والتَّأييد..

ولمّا وصلوا إلى ساح المعركة، راعَ داود فارسٌ طاغيةٌ، عملاقٌ، يخطُر على جواده بين الصَّفين مُتغطرساً، متجبِّراً، والقومُ عن مبارزتِه مُحجمونَ، بعد أن *** من صناديدهم عدداً كبيراً!.. وسمع الفتى داودُ طالوت، يبعثُ النخوة في نفوس جنده، ويثيرُ فيهم الحماس:

- من لهذا الطاغية يقيناً شرَّه، ويكفينا أمره، على أن يكون ملِكاً من بعدي، وزوجاً لابنتي؟..

ثارت الحميةُ في نفس داود، فاقترب من طالوت مستأذناً بمبارزة هذا الطاغية الجبّار. فنظر إليه "طالوتُ" كالمستصغر شأنه،.. إنه فتىً غرٌ، لايزالُ في ميعةِ الصِّبا، وطراوته، لم تحنِّكهُ الأحداثُ ولاوقائعُ الحروب، فأعرضَ عنهُ.

ولكنَّ الفتى ألحَّ على طلبه، وأصرَّ، فقال لطالوت:

- " لايخدعنّك مني ياسيدي، صغرُ الجسم، وحداثَةُ العُمر، وقماءةُ المظهر (أي: حقارته) فالشَّجاعة في جراءة النفس والجنان، لافي ضخامة الأجسام والأبدان.

بالأمس القريب عدا على إبل أبي أسدٌ ضارٍ، فما زلت أنازلُه حتى ضرعتُه. وبعد ذلك بأيامٍ اعترضَني دبٌّ هائلٌ، فما زلتُ به حتى أرديتُه.

ورأى "طالوتُ" في بيان الفتى صدقاً، وفي لهجته ماينمُّ عن تصميمٍ واندفاعٍ!.. فأذِنَ له،.. وأدناه منه، وألبَسهُ لأمةَ حربه، ودرعَه، وقلَّده سيفَه. ولكنَّ جسم الفتى النحيل، ناء بما أسبغ عليه من الحديد الثقيل. فخلع ذلك كلّه، وألقاهُ أرضاً وحمل عصاه ومقلاعهُ، واصطحب أحجاراً مُلساً، وتهيَّأ للخروج.

فقال له "طالوتُ": كيف القتالُ بالعصا والمقلاع، وهذا مقامُ السيف والنِّبال؟.

فأجابهُ داودُ: إنّ الله الذي نصرني على الأسدِ والدُّبِّ، كفيلٌ بنصري على هذا الطّاغية الكفّار!..

ومضى، لايلوي على شئٍ..، ولاحقتهُ عيونُ القوم، لهفى، بحذرٍ!.. فليس داودُ من أنداد جالوت الأكفاء!.. ومتى كان للحمل الوديع أن يبارز الضِّرغامَ الهصور؟.. (أي: الأسد الفتَّاك).

ونظر جالوتُ إلى هذا المتقدِّم نحوه،.. إنه فتىً غريرٌ، كالأملود الطريِّ، لم تتفتَّح منهُ البراعِمُ، بعدُ، وحدجهُ بنظراتٍ حدادٍ،.. فأين السِّلاحُ يحملُه؟..

وهزئ من هذه العصا، يحملها، وذلك المقلاع، أتُراهُ يرعى ضأناً في واد؟.. أم تُراه يروم لعباً؟.. والحرب جدٌّ، وموتٌ، لامجال فيها لعبث الصبيان ولهو الصِّغار!.. وصرخ جالوت بداود ينصحهُ، بالعودة، يلعبُ مع الصِّبية، من أترابه، ويَلهو،.. فللحرب رجالُها، قبل أن تُخطف منه قصارُ الأنفاس!..

فلم يُجبه داود بكلمةٍ. بل مدَّ يدهُ إلى كيسٍ، على جانبه، تدلّى،.. فتناول منه حجراً أملس، أصمَّ ،داكناً، ووضعه في مقلاعه الصُّوفيَّ، وأرسلَه على "جالوت"، فسُمِعَ له أزيزٌ في الهواء،.. وأصاب جالوت، فشجَّ جبينه، وخضَّب وجهه بالدَّم.. فاستشاط "جالوتُ" غضباً، وقد سال دمُهُ دافقاً، حاراً، وغلى دماغُه،.. وهجم على هذا الصبيَّ اللّعوب يريد اختطاف أنفاسه، فرماهُ داودُ بحجر ثانٍ صكَّ وجهه، وثالثٍ، أصابَ به أم رأسه، فخر جالوت، عن جواده، يتخبَّطُ بدمِه، كالثَّور المذبوح، وهو يخورُ!..

فلما رأى جندُ "جالوت" ماحلَّ بقائدهم، زاغت منهم القلوبُ والأبصارُ، فأركنوا للفرار، وتبعهُم جندُ "طالوتَ" يُعملون في قفاهم سيوفاً ورماحاً، وقد ولّى أعداؤهُم الأدبار!..

وأصبح داوُد محطَّ أنظار القوم، وموضع إعجابهم، فإليه تشيرُ كلُّ بنانٍ (أي: إصبع).

* داود وطالوت

وفي طالوت بعهده، وصدق بوعده، فزوّج داود ابنته (مكيالَ).

وشدَّت طالوتَ إلى صهرهِ الفتى المؤيَّد، المسدَّد، أواصرُ نسبٍ وقربى، وروابطُ مواطنِ صدقٍ وجهاد!..

ولكن طالوتَ، ضاقَ، بعد زمنٍ، بداود، ذَرْعاً!. وقد أصبح هذا الفتى مسموعَ الكلمةِ في قومه، نافذ الرأي، مُهاب الجانب، فهو بالنِّسبةِ لهم موئلُ أملٍ، ومعقد رجاءِ!.. إنه ينتقِلُ بهم في المعارك التي يخوضونها، من نصرٍ إلى نصرٍ، تحوطُه عنايةُ الله، وترعاهُ، فكأنَّ الأقدارَ طوعُ يمينِه يتصرَّفُ بها كيفَ يشاءُ!.

ويشعر داودُ بتغيُّر طالوتَ عليه.. فطالوتُ لايلقاه إلاّ عابس الوجهِ، مُقطِّبَ الجبين، مكفهرَّ المُحيَّا، فما الّذي دهاه؟.. وأين بسمته الأنوسُ، وحديثُه الودود، وطبعُه الصَّافي، كالماء الزُّلالِ؟..

ويُفضي داودُ إلى زوجه "مكيالَ"، بما يلاحِظهُ على أبيها من تجهم، وانقلاب وإعراضٍ،.. فتبوحُ له بالسرِّ: لقد داخَلَ أباها حقدٌ على داودَ وضغيتةٌ، فالحسدُ ينهشُ قلبّه، وقد أصبحَ صِهرُهُ قبلةَ الأنظار. وتنصحُه بأخذِ الحيطةِ، واتِّخاذ الحذرِ. فليس كمثلهِما واقٍ لمن أرادَ على نفسه الإبقاء.

استدعى طالوتُ داودَ إليه يوماً، فمثلَ بين يديهِ.

وبلهجةٍ لاتخلو من حقدٍ ينضحُ، قال طالوتُ لداوودَ:- إن كنعانَ قد قويَت شوكتَهُم، وعظُمَ خطرهُم، وتمادى اذاهم، وشرُّهم، ألّبوا جموعهم يريدون النَّيل من "شعب الله المختار"!... فسِر إليهم، على بركة الله، مع مَن تراهُ من قادةٍ وجندٍ لاستئصال شوكتِهم، وإيّاك أن تعودَ إلاّ وسيفُك يشخُبُ من دمائهم، أو محمولاً على أعناق الرجال!.

وأذعَنَ داودُ لأمرِ طالوتَ، سيِّدِهِ، ومولاه. وما كان له إلاّ أن يُذعنَ ويطيع!.. وظنَّ طالوتُ أنه كُفي أمرَ داود، فهو قد أرسله إلى المقبرة لا إلى المجزرة!..

وتقدَّم داودُ بجيشه زاحفاً على الكنعانيين في عُقر دارهم، فشتَّت جموعهم، ودمَّر مُلكَهم، وكان يرمي نفسَه في كلِّ مهلُكةٍ، لايبالي أوقع على الموت، ام وقع الموتُ عليه!.. ولكنّ الله كان له حفيظاً، وناصراً، ومسدِّداً، ومؤيِّداً- فعاد، منتصراً، ظافراًن ترفرفُ فوقه بيارق الفوز المبين.

ورأى طالوتُ ذلك، فَغُمَّ، واهتمَّ، وتكدَّر خاطرهُ، وثارت وساوسهُ وهواجسُه،.. لقد شاء أمراً، وشاءَ الله أمراً آخر. ولله مايشاء!..

ويزدحمُ رأسُه بأفكارٍ سود... فيقرِّر التخلُّص نهائياً من داود، ولايكون ذلك إلاّ ب***ه. فأضمر له كُلَّ سوءِ، وانطوت جوانحه المضطربة على قرارٍ أسود، خطيرٍ، ينتظر، لتنفيذه، الفرَصَ السَّانحات!.. فيخلو له الجوُّ عندئذٍ، وقد أصبح في بني إسرائيل فرداً أوحد، دون منافس، أو منازع، أو شريكٍ!..

وعلمت (مكيالُ) بما يُبيِّتُ أبوها، وما عزم عليه من فادح الشرِّ والبلاء.. فأطلعت زوجها على الأمر، فهتفَ بها:

- أإلى هذا الحدِّ، وصل الأمر بأبيك، ياابنةَ الكرام؟..

وفرَّ داودُ هارباً تحت جُنح الظّلام!.. ولحق بداود أنصارٌ وأعوانٌ. وافتُضح أمرُ طالوت، وانفضَّ عنه أتباعٌ وجندٌ. فلجأ إلى السيف، فلَه، وحدَه، فصلُ الخطاب!.. وثار عليه عُلماءٌ، وناصبه العداء قُرّاءُ، فأعمل في رقابهم السيف البتّار. وألقى الرُّعب في قلوب من حوله، وبدا لهم بطّاشاً، جبّاراً، دمويَّاً!..

والدّمُ يستتبعُ الدمَ!.. فليس لمعارضيه ومناوئيه إلاّ حدُّ الحُسام!.

فعلت الصّرخةُ،.. وباتت القلوبُ ترعدُ حقداً على هذا الطّاغية السفّاح، الّذي انقلب على من حوله من الرِّجال الأخيار!.

وخرج داودُ في ليلةٍ دكناءَ يتحسَّسُ أمر طالوت، فوجدهُ يغُطُّ في سباتٍ عميقٍ، وحوله ثُلَّةٌ من الجند يرقُدون.

فدنا منه على حذرٍ وترقُّبٍ، وئيدَ الخطو، رشيقَهُ، كالنَّملةِ في دبيبها على صفاةٍ. (أي: حجر أملس) فوجد الرمح إلى جانب طالوت، فاستلّه بخِفَّةٍ، وعاد!.

وأفاق طالوتُ بعد ساعةٍ، وتلمَّس رمحه فلم يجده، وتفقَّد جُنده فإذا هم نيام!.. فصاح بهم، فهبُّوا، وهم يفرُكون أعيُنهم، مذعورين.

وسألهم بصوتٍ هدّار: من المتجرِّئ على سلطان بني إسرائيل، فانتزع رمحه الذي كان إلى جانبه؟ فمطُّوا شفاههم، مستغربين، مُستنكرين، ونظر بعضُهم إلى بعضٍ، متسائلينَ، وقد قلقوا سيُوفهم في أغمادها،:

- الويل للمتجرِّئ الوقاح!..

وأرسلَ داودُ إلى "طالوت" رسولاً: إن رمحك معي. وقد أمكنني الله من نفسك ولكنَّني لم أبسُط إليك يداً بأذىً مخافة الله ربِّ العالمين. فلعلَّ في ذلك عبرةً لك واتعاظاً، لتُقلعَ عمّا أنت سادرٌ فيه من عماوةٍ وجهالةٍ، وغيٍّ وضلال!.. وكان لهذه الكلمات أثرُها الفعَّالُ في نفسٍ طالوت، فأصبح كمن بدأ يعودُ إليهِ رشدُه تدريجيَّاً، متلمِّساً سبيل هداه!.. وتحرَّكتْ نوازعُ الخير في نفسه، فأعلن أسفهُ على مافرَّطَ في جنب الله، وعضَّ أصابع النّدم على مااجترم من موبقاتٍ، وما أهدر من دماء الصالحين، وعلى مافتك بعلماءَ وقراءَ أخيارٍ!.. فهام على وجههِ فسي الصحراء، ينشُد (أي: يطلب) غفرانَ ربِّ الأرضِ والسَّماء، حتَّى وافاهُ الحِمام (أي: أدركه الموت).

وعلم بنو إسرائيل بهلاك الطّاغية، فهُرِعوا إلى داود مؤيدين، وتهافتوا عليه مُبايعين وشدَّ الله ملكه، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب!.. وآتاه الله أيداً (أي قوةً وسلطاناً) من لدُنه، وسُلطاناً مبيناً، وسخَّر له الجبال مسبِّحاتٍ معه صبحاً وعشياً. وحشد الطيرَ له، فهي طوعُ أمره بما يُريدُ ويشاء!..

وتحكي الرواياتُ قصة المزامير، فتنسُبُ إلى النبيِّ داودَ مجموعةً من مئة وخمسين نشيداً، تُعرفُ بمزامير داود، وتؤلِّفُ سفراً من التوراة.

داود والفتنــة

كان "أوريا بن حنان" من خيرة فتيان بني إسرائيل الصالحين.

فلما تاقت نفسُه للزواج، وجد في "سابغ بنت شائع" ضالّته المنشودة.

إنها على اوفر قسطٍ من الجمال والكمال والملاحة والصَّباحة، في فتيات بني إسرائيل. فطار إلى أهلها يخطُبها إليهم، فأجابوه مرحِّبين. وتوثَّقت بينهم وبين الفتى الوسيمِ وشائجُ (أي: روابط) قربى، وأواصرُ نسب.

ودعا داعي الجهاد. فهبَّ "أوريا" منخرطاً في صفوف الجند. وتقاذفتهُ المعاركُ من أرضٍ إلى إرضٍ. ومن ميدانٍ إلى ميدان. ومرَّت عليه، وهو يتنقَّل مقاتلاً، مجاهداً، بضعُ سنين. وقد أبلى في سبيل الله أحسن البلاء!..

وكان يمنِّي نفسه أن يمنَّ الله عليه بالعودة إلى أهله سالماً فيقضي حياته مع شريكةِ عمره، بسعادةٍ ونعيم!.

وفي إحدى المناسبات، وقع نظرُ داود على "سابغ"، فوقعت في نفسِه، وهامَ بها حبّاً!. لقد خلبَ لبَّه جمالُها الآسرُ الطاغي. وليس بين أزواجِه، وهن عشرات، يمتلئُ بهنَّ قصرهُ الرحيب، كسابغٍ جمالاً وحسناً، ووضاءة وجهٍ، ولألاء ابتسامةٍ!..

فتقدّم من أهلها يطلبها إليهم زوجاً له، تنزل في قصره على بحبوحةِ نعماء، وثراء.. فأسرعوا إلى تحقيق رغبة ما يبتغيهِ نبي الله، ومليكهم العظيم.

وأصبحت "سابغ" زوجَ داود الأثيرةَ عنده. وذاتَ الحُظوةِ، والَّدلِّ، والدَّالَّة، والشأن الرفيع. فقَّرِّ داودُ بها عيناً.

وكان داودُ، الملك - النبيُّ، يقسمُ وقتَه أرباعاً:

- فربعٌ لنفسه: يأخذ حظَّه من نعيم الدنيا، ومما آتاه الله من واسع الفضل، وعريض السلطان،...

- وربع لعبادة ربه: يتهجَّد، ويتعبَّد، فهو أمام مولاه جبّار السموات والأرضين، عبدٌ مسكينٌ مستكينٌ.

- وربعٌ للفصل بين الناس، والقضاء في ماهم فيه يختصمون، وللعدل أن يأخذ مجراه.

- وربع أخيرٌ لبني قومه، يعظهُم، ويُرشدهم إلى سواءِ الصِّراط!.

وكان على بابه جندٌ وحرسٌ. فداود قد أخذ نفسَهُ بنظامٍ، تعارف عليه، أيّامذاك، كلُّ الناس. فلكلِّ شئٍ إبّان! (أي: لكلٍ وقته).

وبينما كان نبي الله داود منصرفاً في قصره، إلى بعض شؤونه، وإذ برجلين قد انتصبا أمامه وكأنّهما هبط عليه من السماء. وسألهما داود عما يبغيان. فصرَّحا بأنّهما أتيا، مختصمين، إليه، فيحكُم بينهما بالعدل، دون شططٍ، ولا إسرافٍ!..

وتلفَّت داود حوله، فمن أين دخل الرجلان؟ وكيف غفلت عنهما أعينُ الحُرّاس؟.. فاحتكام الخصوم ليس هذا وقتُه. وابتلع ريقه بعد أن لم يجد بداً من الفصل في ماهما فيه مختلفان!..

قال أحدُهما: {إن هذا أخي له تسعٌ وتسعونَ نعجةً، ولي نعجة واحدة}- والعرب تكني عن المرأة بالنّعجة، فكأنه يقول، كما يراه بعض المفسِّرين، إن لأخي تسعاً وتسعين امرأة ولي أمرأةٌ واحدة- فما زال يغالبني في حجته وبيانه، ومنطقه وبرهانه، حتى غلبني، فأخذها مني.

فالتفت داود، نافراً مما يسمع، إلى الرجل الآخر، مستوضحاً

- أحقاً مايقول خصمُك؟

ويجيبُ الرجل: أجل، ياسيدي!..

- ولم؟.. يصيح داود مستغرباً.

فيجيبه: ليكمل عدد ماعندي إلى المائة!.

فاستشاط داود غيظاً، وانتفخت أوداجه حنقاً، أمام الظُّلم الصُّراح. فصرخَ متهدداً:

- والله، لايكون ذلك. فهذا ما لاحقَّ لك فيه، وإن وإن رمتَه، وأصررتَ عليه، ضربنا منك الجبهَة، والخيشومَ (أي: الأنف).

ويشيرُ الرجل بسبّابتِه إلى داود، قائلاً: من فمِك أدينُك يانبيَّ الله!..

فما بالك، وأنت الّذي يغصُّ قصرُه بتسعٍ وتسعين من النساء الحِسان، تنفَسُ (من المنافسة) على (أرويا) زوجتَه الوحيدة، ولاتحفظُ له، وهو يجاهد في سبيل الله، عهداً في أهله، ولاترعى له ذمام حرمة؟..

وشعر داودُ، وكأنَّ السيفَ صدَعَ رأسه، فأُصيب بالذهول، ولم يُحِر جواباً!.

وأطرق إلى الأرضِ لحظةً، ثم رفعَ رأسه ليردَّ على الرجل، فهو لايعلم من أمر خطبةِ "سابغ" على "أوريا" شيئاً.

ولكن الرَّجلين اختفيا، وكأن الارض ابتلعتهما!.. وحملق داود في أرجاء البهو، فلم يجد أحداً،.

وخانتهُ قواه، فلم تعد قدماه تحتملان النهوض بجسمه،.. فخرَّ إلى الأرضِ ساجداً، منيباً، مستغفراً، تائباً، ودموعه تنحدر على وجنيه كلاذع الجمر، فتبتلُّ بها كريمتُه (بمعنى لحيته) التي وخطها المشيبُ. وألقى في روعه أنه كان بحضرة ملكين كريمين، أتياه مؤدِّبين، فعلِّماه مالم يكن يعلم، تلميحاً منهما، ورمزاً!.. وغفر الله لداودَ زلَّته!..

ولنستمع إليه تعالى في هذه الحادثة الفريدة:

{وهل آتاك نبأُ الخصمِ إذ تسوَّرُوا المحرابَ. إذ دخلُوا على داود ففزع منهُم، قالوا: لاتخف. خصمان، بغى بعضُنا على بعضٍ، فاحكُم بيننا بالحقِّ ولاتشطُط، واهدِنا إلى سواء الصِّراط. إن هذا أخي لهُ تسعٌ وتسعونَ نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ، فقال: أكفلنيها. وعزَّني في الخطاب. قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإنّ كثيراً من الخُلطاء ليبغي بعضُهُم على بعضٍ، إلاَّ الّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات، وقليلٌ ماهُم. وظنَّ داودُ أنّما فتنّاهُ فاستغفرَ ربَّهُ، وخرَّ راكعاً وأناب} (صدق الله العلي العظيم).

عدوانُ أصحاب السبت

أقرَّ الله لبني إسرائيل، على أن يكون السبتُ يوماً ينقطعون فيه للصلاة، ويعتكفون للعبادة!.. واستمروا على هذا الحال، ردحاً من الزمن، طويلاً.

وكان نبيُّ الله داودُ يحُضًّهم على ماهم عليه من تقديس يوم السّبت،.. ويحثُّهم على الانقطاع فيه لعبادة الله، وأعمال البرِّ، والتقرُّب إليه تعالى بالدُّعاء والصلاة. فلا تجارة في هذا اليوم، ولاصيد، ولا صناعة.

وكان في "أيلة" - القرية الواقعة على شاطئ البحر الأحمر- جماعةٌ من بني إسرائيل، يعبدون الله تعالى، ويُسبتون (أي: ينقطعون لله في يوم السبت)، كبقيّة بني إسرائيل. وكان البحرُ مورد رزقهم الوحيد، فهم يعيشون على صيده..

وشاء الله امتحانَهُم: فكانت {تأتيهم حيتانُهم يوم سبتهِمُ شرَّعاً، ويوم لايُسبتونَ لاتأتيهم!}. وكانوا يرون ذلك، فيتنغصون..

الأسماكُ السِّمانُ، الكِبار، في مُتَناول أيديهم في كل سبتٍ، وفي ماعداه من أيام الأسبوع، فلا صيدَ، ولا أسماك!..

وحدثتهم أنفسُهم بالصَّيد، يوم السبت، وخرق العادة التي انتهجوها سنين طوالاً. واحتالوا على الأسماك، فاصطادوها في يوم سبتهم، الحرامِ!..

فذُعرَ من ذلك مؤمنو بني إسرائيل، وصُلحاؤهم الأبرار. ووجدوا في ماأقدم عليه قومهم، مروقاً (أي:خروجاً) من الدِّين، ومجاهرةً بالفسق والعصيان. فوعظوهم، وزجروهم، فلم يُغْنِ وعظٌ، ولم يُجدِ ازدِجارٌ!.. وأصرُّوا على الصَّيد في اليومٍ الحرام!..

ونهاهم نبي الله داودُ، وخوَّفهم عذابَ الله، وأليمَ عِقابِه، فلم يَرعووا..

واعتزلهم مؤمنو بني إسرائيل، فليس الكافرُ، المبارزُ الله بالمعصية، للمؤمن جاراً!.. وأقاموا بينهم وبين هؤلاء الفسقةِ جداراً: فهذا حيُّ المؤمنين الأطهار، وتلك ديار الكافرين الأشرار. وازداد الفسقة على ماهم عليه إصراراً، واستكباراً!..

ورفع نبي الله (ع) يديه الكريمتين إلى السماء داعياً عليهم بعذاب الله. فزلزل الله الأرض بالكافرين، فدُمِّروا تدميراً.

وقال لمن تبقى منهم على وجه الأرض، حياً: {كونوا قِردةً خاسئين!}.. فكانوا مسوخاص ولاأحقر!..

ومُسخ من كان في البحر، فكانوا "سمك الجري" الأملس، الذي لازعانف له ولاحراشف،.. بل جلدٌ أملسُ ناعمٌ، كجلد الحية الملساء!..

وهكذا حقَّت كلمة العذاب على القوم الكافرين!..

سليمان خليفة أبيه من بعده

بعد حادثة الغنم التي نفشت في حرثِ القوم (وقد وردت مفصلة في قصة النبي سليمان (ع)، ظهر أمرُ سليمان، وكان صبيّاً يافعاً، بعد أن أجرى الله على لسانه حكمةً، وفصلَ خِطابٍ.

و أخذ داودُ يتعهَّد ابنَه سليمان، وقد أوحى الله إليه، أنَّه الخليفةُ من بعدك، ونبيٌّ، ومن الصّالحين!.

ولكن، ها هوذا "أبشالوم" ابنُ داود، القويُّ العتيدُ، والجبّارُ العنيدُ، المقصيُّ عن حظيرةِ قدس النبوَّة، وسُدّةِ الحكم والسُّلطان،.. وقد أضمر لكلٍّ من أبيه داود وأخيه سليمان، شرّاً مستطيراً!..

فكيف تؤولُ (أي: تنتهي) الخلافةُ والنبوَّةُ من أبيه إلى سليمان، وهو الأقوى، والأشدُّ، والأمنعُ، والأعزُّ؟.. فتقرَّب "أبشالوم" إلى بني قومه، وأغدق عليهم كلّ عطفٍ وعطاء، حتى استرقَّ (أي: استعبد) قلوبَهم، وتمكَّن من نفوسِهم. فكثُرَت جماعتُه وأعوانُه فلما أطمأنَّ إلى ذلك، نادى فيهم بالثورة على أبيه وأخيه، فثاروا، واشتدّت الفتنةُ بينهم فكانت كالريح العاصف، واضطرب أمرهم. ونظر داودُ حواليه فلم يجد لنفسه إلاّ أن يفرَّ هارباً، فصعد جبل الزيتون بمن معه حافيا باكياً، وهنالك، تضرَّع إلى الله تعالى أن ينجِّيه مما حاق به من بلاء..

والتحق بداود قادةُ جيشه، وأنصارهُ، فطلب إليهم العودة، مشدّداً على أن يعالجوا الأمور مع ابنه "أبشالوم" بالحكمة، والحسنى، وأن يحافظوا على حقن الدّماء، ماوسعهم الأمرُ، لايدّخرون في سبيل ذلك جهداً.

وانتهى الأمر ب*** "أبشالوم" ووُئدَت (أي: دفنت حيّةً) الفتنةُ، وعادت الأمورُ إلى ماكانت عليه.

النهايـــة

وانصرفَ نبي الله داودُ إلى ابنه سليمان، فهو وريثُه، والنبيُّ من بعده، في بني إسرائيل، كما شاء الله وأراد.

وقرَّت عينا نبي الله وهو يرى ابنه يتدرَّج في مراتب النُّبُوَّةِ، ومقاليد الملك، ومعارج السلطان!.. كيف لا!.. وقد آتاه الله من لدنه، حكمةً، وفصل خطابٍ، وسيؤتيه من الملك والسلطانِ على طوائف الإنس، والجنِّ، وطير السماء، ووحش الأرض، وقد علّمه الله لُغاتها، ومنطقها، جميعاً فهو يأمرها بما يريد، وينهاها عمّا يشاء!..

وأخيراً،.. فقد آن للجنديَّ المحارب أن يأخذ حظَّهُ من الراحةِ، وقسطه من الهدوء.. وما ذلك إلاّ بانطلاق روحه الشريفة في رحاب الله اللامتناهي، وملكوته الأعلى اللاّمحدود.

فقضى،.. وقد شاعت على ثغره الوضئ إبتسامةُ سعادةٍ ورضى!..

صوت الحق
28-06-2008, 10:58 AM
النبي سليمان (ع) الحكيم

عندما بلغَ النّبي داودُ (ع) من العمر زمناً طويلاً- وكان يعيشُ مع أبنائه-، أوحي إليه:

"ياداودُ!.. عليك أن تختار خليفةً لك من بعدك فقد قضت مشيئتي بأن يلي كلّ نبيٍ خليفةٌ من آله هكذا كان الأمرُ الإلهي بالنسبة للأنبياء: نوحٍ وابراهيمَ واسحقَ ويعقوبَ وموسى(عليهم السلام)، وهكذا سيكونُ في مابعد ذلك.

إنّها سُنّتي (أي: عادتي) في خلقي. إذ لاأترُكُ أُمّةً سُدىً (أي: عبثاً وهملاً) دون إمامٍ، {إنما أنت منذرٌ ولكلِّ قومٍ هاد!...}

وبعد ماتلقّى داوُد الوحي الإلهي قرّر أن يختار أحد أبنائه خليفةً لهُ. وأطلع على ذلك إحدى نسائه، فاقترحت عليه أن يختار ابنَهُ الأكبر للخلافة. فقال لها داودُ:

"إنّني كذلك أفكّر في اختياره خليفةً من بعدي!.."

وعندما أراد النبّيُّ داودُ أن يعلن قرارهُ للآخرين القاضي باختيار ابنه البكر للخلافة هبط الوحيُ عليه:

- "ياداودُ، تمهَّل في اختيار الإمام والخليفة على عبادي ريثما تتلقّى أمري. فالإمامةُ عهد من الله عزّوجلّ، ونصٌّ وتعيينٌ. {ولاينالُ عهدي الظَّالمين}.

حكمة سليمان

وأتى في أحد الأيّام خصمان يحتكمان إلى النبي داود:

أحدُهُما صاحبُ بُستان كرمةٍ، والآخر صاحبُ غنمٍ.

قال صاحبُ البُستان: يانبيَّ الله، إنّ غنم خصمي أتلفتْ زرعَ بُستاني، وأكلت عنبي، فبم تحُكمُ؟..

وفكّر النّبيُّ داودُ في الأمر ملياًّ، واستمهل الرّجلين، وعيّن لحُكمه بينهما موعداً ونزل الوحي على داود ثانيةً، يُبلِّغُهُ:

"ياداودُ، استدع أبناءكَ واقصُص عليهم مسألة هذين الرَّجُلين كي تختار للخلافة من يحكُمُ بهذه القضيّةِ بالعدل والصَّواب. وعلى الآخرين اتِّباعُهُ، وتقديمُ الطّاعةِ لهُ.

عند ذلك استدعى النبيُّ داودُ ابناءهُ فوراً، وطرح أمامهُم مسألة الرَّجُلين، طالباً إليهم الحُكمَ بينهُما.

ولم يستطع أحدٌ أن يحكُمَ بالصَّواب في هذه القضيّة، بعدما أدلى (أي: قال ماعنده) كلٌ منهم بما لديه.

وأُذن لسُليمانَ بالكلام. وكان أصغرَ إخوته، ومن أمٍ ذات حسبٍ متواضعٍ ولكنَّ الله تبارك وتعالى علّمهُ من لدُنه (أي: من عنده) علماً، ووهبَهُ المعرفةَ، وفتح عليه نوافذ الإلهامِ الإلهي.

ويستقرُ سُليمانُ في جلستِهِ، ويسألُ:

- "قُل لي ياصاحِبَ الكرمَةِ، متى دخلتْ أغنامُ خصمِكَ كرمَكَ؟"

فأجابَ الرَّجُلُ:

- "لقد دخلت- سيدي- أثناء الّليل، وأكلت مافيه من أعنابٍ!.."

ونظر سُليمانُ إلى صاحب الغنمِ قائلاً: "الحُكمُ عليك يا صاحبَ الغنم".

ويسألُ سُليمانُ عند مستند حُكمه فيُجيبُ:

-" ماذاك إلاّ لأنَّ الغنم ترعى طليقةً في النّهار، والنّاس في يُحافظون على مالهُم من مزارع وبساتين. أمّا في اللّيل، فالنّاس نيامٌ، وعلى أصحاب الماشية والغنم ألاّ يسمحوا لها بدُخول مزارع الناس وبساتينهم. أمّا الآن، وقد قُضي على محاصيل العنب لهذه السّنة، فيجبُ أن تعُود فوائدُ الغنم- التي هي في مُقابل محاصيل الكرمة- إلى صاحب البُستان.

قال النبيُّ داودُ (ع): ولم لم تحكُم يابُنيَّ؛ بالتّعويض على صاحب البُستان بغنمٍ يُعادل ثمنُهُ ما أُتلف لهُ من عنبٍ؟.. أو ليس ذلك مايحكُمُ به عُلماءُ بني إسرائيل؟"

فأجاب سُليمانُ:

- بلى. إنّهم يحكمون مثل هذا الحكم. لأنّ الغنم لم تأكُل جُذوع أشجار الركمة، بل ثمارها فقط، وبقيت أشجارُ البُستان التي ستُثمرُ في العام القابل. فالخسارةُ أصابت الثمار لا الأشجار.

وعليه، فإنّني أحكُمُ أن يكونَ تعويضُ الخسارة من عوائد الغنم، لا الغنم، نفسه ولهذا وجب أن يكون التّعويضُ من صوفها وماتوَلّدُهُ وغير ذلك من العوائد.

عند ذلك أوحى الله إلى النبي داود:

- "ياداود، الحكمُ الصحيحُ هو الّذي نطقَ به سُليمانُ".

ويُقرّرُ الله تعالى صدقَ هذه الرواية في القُرآن الكريم حيثُ يقولُ تبارك وتعالى:

{وداود وسُليمان إذ يحكُمان في الحرثِ إذ نفشت(أي: رعته ليلاً) فيه غنمُ القوم وكُنّا لحُكمهم شاهدين. ففهّمناها سُليمان، وكلاً آتينا حُكماً وعلماً، وسخّرنا مع داود الجبال يُسبّحنَ والطيرَ وكُنّا فاعلين}

ويُتابع الله تعالى وحيَهُ لنبيّه داود: "ياداود، لقد أردت شيئاً وأردتُ غيرَهُ. {إنَّ الحُكمَ إلاّ لله!..}".

ولمّا رأى داودُ ذلك تراجع عن تصميمه السّابق، وعيَّن سُليمان لخلافته راضياً بما قضى الله تبارك وتعالى.

وهكذا أصبح سُليمانُ وارثَ مُلكِ داودَ.

وعرّفهُ داودُ لجميع النّأس وأمرهم بطاعته والإذعان لحُكمه وهكذا تمّت نعمةُ الله على سليمان فاختارهُ للنُّبوّة، ووهبهُ الحكمة، ومنحهُ فصل الخطاب، ليحكُم بالعدل وفقاً للشّرائع الإلهيَّة كما وردت في التّوراة. وماذاك إلاّ:

{ليجزيَ الله الصّادقينَ بصدقهِم، ويُعذِّبَ المُنافقينَ إن شاء أو يتوُب عليهم، إنّ الله كان غفوراً رحيماً!..}

لم يمض وقتٌ طويلٌ على انتقال النبي داود (ع) من الدّار الفانية والتحاقه بالملأ الأعلى، واعتلاء النبي سُليمان(ع) سُدَّة الخلافة حتّى شقَّ عصا الطّاعة (أي: تمرد) عليه جماعةٌ من المشاغبين، وتمرّدوا على حُكمه، خالعين طاعتَهُ، وأثاروا الإضطرابات الخطيرة في البلاد، وذلك بالتَّعاوُن مع إخوة النبي سُليمان، وبنيهم،.. وأوقدوا نيران الفتنة. وتصدَّى لهُمُ النبي سُليمان بحزمٍ وقوّةٍ، و*** جماعةً منهم وأخضع البقيّة لحُكمه، وألزمهُم طاعتهُ، وبعدما هزم الأعداء وشتّت شملهُم، وأثاب المُصلحين، وعاقب المفسدين وقضى على رؤوس الفتنة، توجَّهَ نحوَ الباري عزّوجلَّ شاكراً عنايتهُ الإلهيّة التي أمدّتهُ بالنّصر على الأعداء، راجياً إيّاهُ تعالى أن يمُنَّ على عباده بِشُكرِهِ، وعبادتهِ وحدهُ على كُلِّ حالٍ، والتزام طاعته:

{ربِّ أوزعني (أي: ألهمني) أن أشكُرَ نِعمتَكَ الّتي أنعمتَ عليَّ وعلى والِديَّ، وأن اعمل صالحاً ترضاهُ، وأدخلني برحمتك في عبادك الصّالحين}.

مُلك سليمان:

وخلال تلك الفترة فكَّر النبيُّ سُليمانُ بحُكمِ العالمِ حُكماً قائماً على العدل، ولذلك سألَ ربّهُ تعالى:

{قال ربِّ اغفر لي، وهب لي مُلكاً لاينبغي لأحدٍ من بعدي إنّك أنتَ الوَهّاب} فسمع الله دُعاءهُ واستجابَ لهُ.

وبالإضافة إلى ذلك كُلّه، فقد علّمهُ الله العُلومُ كُلّها... وسخّر لهُ جميع القُدرات ليؤسّس حكومةً عظيمةً طالما نادى بها، وعملَ بها، أولياءُ الله في أرضهِ.

وهكذا خضعت للنّبي سُليمان (ع) قُوىً خارقةٌ، وتمكّنَ بإذن الله تعالى من أن يسخِّرَ الشَّياطين والمردةَ لخدمته، فأنجزوا لهُ الكثير من المهام، كما تعلَّمَ منطق الحيوان والطير، وألسِنتها، فكان يتحدَّثُ إليها ويأمُرُها فتُطيعُ أوامره فهي من جُندِهِ.

وإذا لم يُكلِّم سُليمانُ الطّيرَ فتُجِيبُه، لما علِمَ النّاسُ بوجُودِ لُغاتٍ لها.

وسخَّرَ سُليمانُ جماعةً كبيرةً من الجنِّ والإنس لخدمته، فكانت جميعُها طوع أمره، يقومون ببناء البيوتِ الشَّاهقة وتشييد القُصور العالية، وينحتُون لهُ من الصَّخر الأصمِّ (أي: الصلب) القدورَ الرّاسيات (أي: الثابتات) ويغوصون في قيعان البحار يستخرجون لهُ منها الدّر والمرجان.

وكان يُلاقي الجزاء الصّارم، بإحراقِهِ بالنّار، كلُّ من تُسوِّلُ لهُ نفسُهُ معاندةَ سُليمان وعِصيان أوامره.

انظُر إلى قوله تعالى:

{وورث سُليمانُ داودَ، وقال ياأيُّها النّاسُ عُلّمنا منطقَ الطّير، وأوتينا من كلّ شئِ، إنّ هذا لهو الفضلُ المُبينُ. وحُشِرَ (أي: جُمِعَ) لِسُليمانَ جُنودُهُ من الجنِّ والإنسِ والطَّيرِ فهُم يُوزعُون}.

وإلى قولِهِ عزّوجلَّ:

{ومن الجنِّ من يعملُ بين يديه بإذن ربِّهِ، ومن يزغ منهم (أي: يتولى ويُعرضُ) عن أمرنا نُذُقهُ من عذاب السَّعير. يعملون لهُ ما يشاءُ من محاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجواب، (أي: كالبرك) وقُدورٍ راسياتٍ، إعملوا آل داود شُكراً وقليلٌ من عبادي الشَّكُورُ}.

لهذه الاسباب اتّسع مُلكُ النبي سُليمان فبسط سُلطانهُ على الجميع.

لقد بقي الشّعبُ يُعاني ومنذُ عهد النبي موسى(ع) وخُلفائه بعدَهُ، سنين قاسيةً نتيجة تيهه في الصَّحارى، وبعد أن ذاق النبيُ موسى وخلفاؤه مرارة الظُّلأم والضّيمن فقد تمكّن بنو إسرائيل من استعادة عزّتهم وكرامتهم واستقرارهم، في عهد كلٍ من داود وسُليمان، حيثُ اجتمعت النبوّة والمُلك معاً لكليهما. ونعمت المدُنُ والقُرى إبّان عهد سُليمانَ بالاستقرار والأمان والعدالة وبني النبيُ سُليمان معبداً كبيراً لبني قومه يتعبّدون فيه الله الواحد القهّار، وزيّن بوّاباته وجُدرانهُ بأجملِ النُّقوش وأزهاها، فأصبحَ قبلةً للمؤمنين.

كما شيَّدَ مبنىً خاصاً تُحفظُ فيه التّوراةُ والآثارُ الخاصَّةُ به وبالنَّبي موسى وأخيهِ هرونَ.

وكان النبيُ سُليمانُ يسعى دائماً في إقامة شعائر الله تعالى ويُعلِّمُ النّاسَ آياتِ الله الواحد الأحد، وذلك عكس ماكان يفعلهُ الكفَّارُ الذين يُبقون على آثار عبادة الأصنامِ إذا ماوُجِدَتْ، ويسعون إلى إزالة آثار أولياء الله..

وأمر النّبي سُليمانُ(ع) ببناء الأحواض والبرك والسُّدود والبُحيرات الإصطناعيَّةِ الكثيرةِ لتجميع مياهِ الأمطار والأنهار لري الأراضي الزراعيّة، واستصلاح الأرض الموات. كما تمَّ بناءُ السُفُن الكبيرة لتمخُر البحار في عهد النبي سُليمان فكانت عمليَّاتُ التّبادُلِ التِّجاريِّ مع الشُّعوب المُجاورةِ.

هاب مُلوكُ أشور وبابل عظمة النبي سُليمان وبسطة نفوذه كما أُعجبوا إعجاباً شديداً بعدلِهِ وإيمانهِ، فاعتبروا بلاد النبي سُليمان بلاد العدالةِ والدِّيانةِ الإسلامية.

سليمان (ع) والنملة

لقد كان جنود سليمان(ع) مما لاقبل لأحد بمقاومتهم، وهم من الإنس والجن والطير كما أخبر بذلك القرآن الكريم، ونظراً لكثرتهم وكثافتهم، فإنّ النمل على كثرته كان يخاف منهم كما حكى ذلك القرآن: {قالت نملة: ياأيُّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون}.

ويحكي القرآن الكريم أنّ سليمان(ع) عندما سمع قول النملة هذا، وكان قد علّمه، تبسّم ضاحكاً من قولها، ثم قال لجنوده: ائتوني بها، فلما أتى بها قال لها: ألم تعلمي أيتها النملة أنني نبي الله، وأنّ الأنبياء لايظلمون؟ قالت: بلى يانبي الله. قال: إذاً لماذا تخافين مني وتحذرين ظلمي، وتأمرين النمل بالإختباء في القرى؟. قالت: خفت أن يفتتن النمل والجنود إذا نظروا إليك، فينسوا عظمة الله، وبذلك يدوس الجنود والنمل بأقدامهم وهم لايشعرون.

سليمان(ع) وبلقيس

وهل آتاك حديثُ سُليمانَ وبلقيسَ ملكةِ سبأ؟...

ذات يومٍ بينما كان النبي سُليمان يتفقَّدُ قادة جُندِهِ من الجنّ والإنس والحيوان والطّير، الذين اصطفّوا أمامهُ، افتقد الهُدهُد الّذي كان حينذاكَ غائباً، فقال:

- "ماليَ لاأرى الهُدهُدَ؟.. أم كان من الغائبين. قسماً، إذا كان غيابُهُ دون عُذرٍ، فسوف أُعذِّبُهُ شديد العذاب بنتف ريشهِ، أو أذبَحُهُ.

لم يمض وقتٌ طويلٌ حتَّى رجع الهُدهُدُ وفرائصُهُ ترتعِدُ خوفاً، وقال:

- "مليكي وسيدي، لقد أتيتُكَ من سبأٍ بالخبر الصّادق إنّهم قومٌ يعبدون الشَّمس ويسجُدونَ لها من دونِ الله عزّوجلَّ، وتتزَعَّمُهُم امرأةٌ ذاتُ قوَّةٍ ودهاءٍ وعزٍ ومجدٍ، وقد شيَّدت لنفسِها عرشاً عظيماً!".

أُنظُر إلى التَّصويرِ القُرآني لهذا المشهَدِ:

{ وتفقَّدَ الطيرَ ما لي لا أرى الهُدهُدَ أم كانَ من الغائبين. لأعَذِّبَنَّهُ عذاباً شديداً أو لأ***نّهُ أو ليأتينِّي بسُلطانٍ مُبين (أي: بحجّة واضحةٍ). فمكثَ غيرَ بعيدٍ فقال: أحطتُ بما لم تُحط به وجئتُكَ من سبأٍ بنبأٍ يقينٍ. إني وجدتُ امرأةً تملكُهُم وأوتيت من كلِّ شئٍ ولها عرشٌ عظيمٌ. وجدتُها وقومَها يسجُدُون للشَّمس من دون الله وزيَّنَ لهُمُ الشَّيطانُ أعمالَهُم فصدَّهُم عن السَّبيل فهُم لايهتدون}.

أدرك النَّبيُ سُليمانُ بأنَّ الهُدهُد قد قام بإنجازٍ عظيمٍ، فأخذ يُلاطفُهُ، وحمّلَهُ رسالةً إلى هذه المرأة العظيمة، قائلاً لهُ:

- {اذهب بكتابي هذا فألقِه إليهم، ثُمَّ تولَّ عنهم فانظُر ماذا يرجعون}.

وحمَلَ الرَّسولُ -الطَّائرُ- الرِّسالةَ بمنقاره، وأطلق جناحيه في أجواز الفضاء، متوجِّهاً إلى بلاد اليمن. ولمّا وصل دار حول القصر عدَّةَ مرّاتٍ يُفتِّشُ عن سيّدةِ القصر، ولمّا لمحها طرفُهُ انطلق إليها كالسَّهمِ وهو يُرفرِفُ بجناحيه، فتطلَّعت إليهِ مُستغربةً فألقى الرِّسالةَ بين يديها، وانصرف.

وباندهاشٍ واستغرابٍ شديدين فضَّت الملِكَةُ الرسالةَ وفهِمَت مضمونها، عند ذلك عقدت اجتماعاً ضمَّ قادة قومها وزُعماءهُم، وقالتْ لهُم: يارؤساء عشيرتي وقادة جُندي أنّه لأمرٌ عجيبٌ وخطيرٌ حقاً، سوف أُطلِعُكُم عليه، لتروا فيه رأيكُم:

{لقد أُلقيَ إليَّ كتابٌ كريمٌ، إنَّه من سُليمانَ وإنَّهُ بسمِ الله الرحمن الرحيم. ألاّ تعلَو عليَّ وائتوني مُسلمينَ}.

ووزّعت الملكةُ بلقيسُ نظراتها بين قادة جُندها والزُّعماء لترى وقع (أي: تأثير) الخبر عليهم، وتابعت قائلةً: إنّني كما تعلمُونَ {لستُ قاطعةً أمراً (أي: ممضيةً أمراً) حتى تشهدون} فما الرأيُ لديكُم؟.

وأجابوا بما يُشبهُ الصَّوتَ الواحد: أنت سيّدَتُنا وملكَتُنا والمُطاعةُ عندنا، فالرأيُ رأيُكِ، أمّا نحن، فكما تعهديننا، رجالُ حربٍ ووغى. وعلى أتمِّ الاستعداد لتنفيذ ماتطلُبين. {نحنُ أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديدٍ، والأمرُ إليكِ فانظُري ماذا تأمُرين}.

وتُلفتُ بلقيسُ نظر المجتمعين إلى أنَّ جيش النّبي سُليمان ليس كبقيّةِ الجيُوش وبالتّالي، فلا طاقة لنا على الوُقوفِ في وجهِهِ والتصدي لهُ وأنتُم خيرُ من يعلمُ بما تفعلُهُ القُوى العُظمى في هُجُومِها على منطقة من المناطق، وبما تُحدِثُهُ من تدميرِ فيها لتُحيلها إلى أنقاضٍ ورُكامٍ.

وللتعاطي مع المُلوكِ ومصانعتِهِم أسلوبٌ نُجيدُهُ. اعلَموا:

{إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسَدوها وجعلوا أعزَّةَ أهلها أذلةً وكذلك يفعلون} فمن الرأي إذن، أن نُرسل إلى سُليمان بهديةٍ، وبمُناسبةِ ذلك يتقصَّى رُسُلُنا أوضاعَ جيشِهِ عُدَّةً وعدداً، ويكونُ قرارُنا -بالتالي- على ضوء تلك المعلومات.

{وإني مُرسلةٌ إليهم بهديةٍ فناظرةٌ بم يرجعُ المُرسلون}

وشرعت بلقيسُ بعد ذلك بتحضير أفخم الهدايا وأجملها وأروعها لتقديمها إلى ملك المُلوك وسُلطان الأرض دون مُنازعٍ، ثمَّ توجّهت في موكبٍ مهيبٍ يحملُ من الهدايا والنفائس مالا يُدَّرُ، متوجهةً نحو مملكةِ سُليمان.

وعند وُصول هذا الموكب إلى بلاط سُليمانَ انبهَرُوا، وأخذتهُم الدَّهشةُ؛ إنَّ مايحملونَ من هذايا لشئٌ جدُّ تافهٌ بالنسبة إلى عظمة هذا الملك، وجلاله. وساورهُم إحساسٌ بالخجل الشَّديد لهداياهُم البسيطة أمام هذا المُلكِ الباذخِ العريضِ. وقال النبيُ سُليمانَ لهذا الوفدِ:

" كان كلُّ مُرادي أن تُطيعوني وتسلِّموا وتُذعِنوا لأمر الله تعالى وشريعتِهِ، وعوض ذلك، أتيتُم لي بالهدايا. وما قيمتُها؟.. خُذُوها، فأنتُم تفرحُونَ بامتلاكِها وتفتَخِرون" وتابع قائلاً:

- {أتُمدُّونَنِ بمالٍ، فما آتاني الله خيرٌ مما آتاكُم بل أنتُم بهديَّتِكم تفرَحونَ} في العاجل سأوَجِّهُ عليكم جيشاً لجباً لا تستطيعون الوقوف بوجهه حتّى تُسلِّموا لي القياد وتطيعو أمري.

لم تجد بلقيسُ ووفدُها حلاًّ سوى الاذعان والاستسلام لحُك النبي سُليمان وهي المرأةُ العاقلةُ الحكيمةُ ذاتُ القطرة السَّليمةِ. لقد أرادت أن ترى هذا الملكَ- النبيَّ، وتخبِرَهُ، وتتعرَّف إلى شرعِ الله، وما أنزلَ من التوراةِ على أنبياء بني إسرائيلَ.

وكانت بلقيسُ -كجميع النّاس- قد سمعت بأخبار النّبي سُليمان في تلك الأيام، وما شرّع الله على يديه من أحكام. لذا، كانت رغبتُها شديدةً في رؤيةِ النبي سُليمان هذا، والتَّعرُّفِ إلى شخصيَّتِهِ عن كثبٍ (أي: عن قربٍ).

كما كانت تحفظُ- كجميع النّاس كذلك- قصّة النبي موسى وفرعون، رُغم مرور السّنوات الطّوال، إذ ما يزالُ النذاسُ يتناقلُونها مُشافهةً وكتابةً، ذاكرين مُعجزات الله وآياته وما أُنزل في التَّوراة من قصص العديد من الأنبياء والرُّسُل.

وفي ساعةٍ أراد النبيُ سُليمان فيها أن يُظهر قوّةَ سُلطانِهِ وبينما كان مُعتلياً عرشَهُ العظيم، يحُفُّ به كبارُ القادةِ وعُظماءُ الوزراء التفت إليهم قائلاً:

" إنّ لبلقيسَ في بلاد سبأٍ عرشاً عظيماً، فخماً، ومُهيباً، فمن منكُم يستطيع أن يأتيني به قبلَ وُصُولِها مُستسلمةً؟.

ونظر الجنُّ بعضُهُم إلى بعضٍ. فما يطلُبُهُ النبيُّ سُليمانُ لأمرٌ جدُّ عظيمٌ، ومن يستطيعُ ذلك؟.. وانبرى عفريتٌ من الجنِّ ذو قوَّةٍ وعزمٍ، قائلاً: سيدي {أنا آتيكَ بهِ قبلَ أن تقومَ من مُقامِكَ}.

فَصَمتَ النبيُ سُليمانُ، مُفسحاً المجال أمام غيرِهِ من عُتاة الجنِّ (أي: الجبارين منهم) والعلماء الرّاسخين في العلم. وتقدَّمَ إليه كبيرُ وُزرائِهِ "آصفُ" -وكان عندهُ علمٌ من الكتاب- (أي: يعلم اسم الله الأعظم) قائلاً: سيِّدي، بل، {أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليكَ طرْفُكَ!..} وبلحظةٍ، كطرفةِ عينٍ، كان العرشُ أمام النبيِّ سُليمانَ مُسْتَقرّاً.

عند ذلك تملّكَت الدَّهشةُ والاستغرابُ الحاضرين جميعاً، وتساءلوا عن كيفيَّة إحضار هذا العرش العظيم بهذه السُّرعة الفائقة، ومن أين؟.. من أقاصي بلاد اليمن، إلى القدس!..

وسجد النبيُ سُليمانُ لربِهِ شاكراً لهُ هذه النَّعماء، قائلاً أمام الجميع:

- {هذا من فضلِ ربي ليبلُوَني أأشكُر أم أكفُرُ. ومن شكرَ فإنّما يشكُرُ لِنفسهِ، ومن كفر فإنّ ربي غنيٌ كريمٌ.}.

وأمرَ النبيُ سُليمانُ بإجراء تغيير طفيفٍ على العرش لمعرفة ما إذا كانت بلقيسُ تُنكِرُ عرشها أم تتعرَّفُ عليه. فقال (عليه السلام): -{نكِّروا لها عرشَها ننظُرْ أتهتدي أم تكونَ من الذين لايهتدون}.

وعندما دخلت بلقيسُ، فاجأها النبيُ سليمانُ بقولِهِ: -{أهكَذا عرشُكِ؟..}

{قالت: - كأنّهُ هُوَ وأوتينا العلمَ من قبلِها وكُنّا مُسلمينَ}.

وطلب إلى الملكةِ - وهي تعيشُ ساعاتٍ مفاجآتٍ- أنْ تدخُلَ القصرَ فلمّا همّت بالدُّخول، تراءَتْ لها أرضُ القصر، وكانت من صافي البِّلَّور النقيِّ، كَلُجَّةِ ماءٍ. وخُيلَ إليها أنّها تخُوضُ ماءً. فرفعَت عن ساقيها خشيةَ البلل، فقيل لها: مهلاً، ليس ما ترينَهُ ماءً. {ولكِنَّهُ صرحٌ مُمرَّدٌ من قواريرَ}. (أي: مسوَّى).

فقالت بلقيسُ عندئِذٍ، وقد امتلأ قلبُها رهبةً وفاض خُشوعاً:

- {رَبي، إني ظلمتُ نفسي، وأسلمتُ مع سُليمانَ لله ربِّ العالمين!..}

تباركت اللّهمَّ ربّنا، وتعاليتَ، يامن أعطى سليمانَ كُلَّ هذه العظمةِ والسُّلطان!..

وهكذا اتّجَهَت حُكومَةُ سُليمانَ- وهي تتعاظَمُ يوماً بعد يومٍ-، نحو مزيدٍ من عُلُوِّ الشَّأنِ والسُّلطانِ. وعاش شعبُ يعقوب. الذي أخلصَ لله عبادتَهُ، حياةً ملؤُها الرَّفاهيَّةُ والسَّعادةُ، ينعمُ بالأمنِ والاستقرارِ بعد أن عاشَ نموذجاً حياً من الحكم الإلهي.

حقاً، إذا عمل النّاسُ بِحُكم الله، أفاضَ عليهم الخيراتِ والنِّعمِ الوافرةَ واضعاً في تصرُّفهم قُدُراتٍ عجيبةً، وبين أيدهم مفاتيح العلم، فيعيشون حياةً رغيدةً وآمنةً ومُباركةً.

لقد كانت سُلطةُ سُليمان على الريح {تجري بأمره رُخاءً حيثُ أصاب}، (أي: ريح مطيعة حيث أراد) وعلى الشَّياطين {كلَّ بنّاءٍ وغوّاصٍ} وعلى الأنس والجن جميعاً في بر وفي بحرٍ يأمرهم بيطيعون، وهذا نموذجٌ رائعٌ لنعمٍ إلهيَّةٍ وقُدُراتٍ غيبيَّةٍ سماويَّةٍ. {وإن تعُدوا نعمة الله لاتُحصوها!..}.

كان النّاسُ في ذلك الزّمن السّحيق يستخدمون السُّفن لسفرهم بحراً وكذلك الدّوابَّ لقطع البراري.

ولكنّ الله تبارك وتعالى سخَّرَ لسُليمانَ الرّيحَ، لتحملَهُ ومن يشاءُ على بساطِها إلى البُقعةِ التي يُريدُ. فكان باستطاعتِهِ أن يقطع عليها في يومٍ واحدٍ مسافة تستلزمُ شهرين لاجتيازها، ذهاباً وإياباً. {غُدُوُّها شهرٌ ورواحُها شهرٌ}.

وكان النبيُّ سُليمانُ يملِكُ آداةً خاصَّةً كان بواسطتها يُقلعُ بسُرعةٍ من على وجه الأرضِ، ويستقرُّ بهُدوءٍ في الفضاء، ثُمّ يتوجّهُ أنّى شاء. ألا ترى أنّهُ بواسطة هذه الريح نفسِها الّتي سخّرها الله لنا، كانت هذه المناطيدُ والطائراتُ والصّواريخُ التي تعبُرُ أرجاءَ الفضاء؟

إنّ الله عزّوجلّ الذي بيّن للناس جميعاً آياته وأظهر لهُم آثارهُ، إنَّما ابتغى من وراء ذلك إنقاذهُم من ظُلمةِ الجَّهلِ إلى نورِ العلمِ، ومن ذُلِّ الفقر وعبادة الأصنام إلى عزِّ التَّوحيد وعبادة الله الواحد القهّار. ويُذكِّرُ الله تعالى نبيّهُ سُليمان بذلك جميعاً وقد وضع في تصرُّفه هذه القُدُرات، فهُو حرُّ التصرُّف بها، ويُخاطبُهُ بقولهِ عزّوجلّ: ياسُليمانُ- {هذا عطاؤنا فامنُن أو أمسِك بغيرِ حسابٍ}.

ونحنُ، إذ نُفكِرُ بهذا الكونِ الرَّحيبِ ألا نراهُ أعمقَ وأرحبَ من أن يطولُه فكرٌ أو يُحيط به خيالٌ؟.. وهكذا ارتقى النَّبيُّ سُليمانُ(ع)، أعلى درجات المجد والعظمة، ومُنتهى مايطمحُ إليه إنسانٌ.

ورُغمَ هذا السُّلطان الواسعُ الذي كان يمتلِكُهُ، بما فيه من دورٍ وقُصورٍ، وحشمٍ وخدم، وجُندٍ هائلٍ، فإنّهُ (ع) ذكر الله وعبادتَهُ وشكرهُ أبداً، لقد كان حقاً كأبيه داود {عبداً شكوراً}.

أمّا الصَّلاةُ فكان لها الأفضليّةُ عندهُ- وقصَّهُ استعراضِهِ للخيل، في يومٍ مضى، تُظهرُ ذلك- فالصَّلاةُ تفُوقُ كُلَّ ماعداها. هي الكبيرةُ وما دونها صغيرٌ. إنّها أكبرُ من كلِّ شئٍ.

{ولذكرُ الله أكبرُ!..}

ورُغم عظمتِهِ ومهابتِهِ وجلاله فإنّهُ كان يتدبَّرُ أمر معيشتهِ بنفسه، ويأكُلُ من جني يديه. فكان يعملُ ويأخذُ على ذلك أجراً. دون أن يُفكّر بمدِّ يدهِ إلى الأموال العامّة، وكُلِّها تحت يده.

المجدُ والخُلودُ لمثال العبد الصّالح، الذي امتلأ قلبُه من حبِّ الله وخوفه فكان يدعوهُ دائماً، ويسغفرهُ أبداً، ويشكُرُهُ على عظيم نعمائه وجزيل آلائه {إنّهُ نعم العبدُ إنّهُ أوَّابٌ!...} (أي: يعود إلى الله في كل أموره).

سليمان(ع) يبني الهيكل

كان داود والد سليمان(ع) قد شرع ببناء بيت المقدس، ولكن الأجل وافاه قبل أن يتم بناءها. فأراد سليمان(ع) إكمال ما كان قد بدأه والده، فجمع العمال من الجن والشياطين، وأمرهم بجمع الحجارة من الرخام، والصفائح وأن يبنوا المدينة ويقسموها اثني عشر قسماً حتى ينزل كل سبط من أسباط بني إسرائيل الإثني عشر في قسم منها.

وهكذا كان، فلما تمَّ له ما أراد، وبنيت المدينة، سعى لبناء هيكل للعبادة (المسجد الأقصا) حتى يكون مقراً يُعبد فيه الله. فبعث فرقة من الشياطين يأتون بالذهب والياقوت والأحجار الكريمة، وأمر فرقة أخرى أن تُزيِّن الأحجار والياقوت بالذهب، ثم أمر جماعة أن يجلبوا المسك والعنر والأطياب، وآخرين يأتون بالدر واللآلئ من البحار. ولما اجتمع له من هذه الأشياء الكثير أمر الصنّاع والمهرة أن يرصّعوا الأحجار بالمعادن الثمينة والجواهر والدرر، وأن يعلقوا تلك الأحجار في أماكن حددها لهم.

وتمّ بناء الهيكل بالرخام الملون: الأبيض والأصفر والأخضر، ونصبت أعمدته وأسطواناته، وكلها من اللؤلؤ الأبيض، وركب سقفه وطلي بالفضة، ونقش بالجواهر واللآلئ واليواقيت، ثمّ فرضت أرضه بالفيروزج، حتى صار وليس على وجه الأرض يومها بيت أبهى منه ولاأحسن، يضئ في الظلام كما البدر في ليلة تمه.

وبقي هذا الهيكل بيتاً للعبادة، يؤمه المؤمنون بالله، حتى غزا بخت نصّر العراقي، مدينة القدس فخرّبها، وهدّم الهيكل، وحمل مافيه من الدرّ والياقوت والمعادن الثمنية إلى بلاده.

ويذكر أنّ نبي الله سليمان(ع) كان يجول على الناس من أهل مملكته يتصفح وجوههم، حتى يصل إلى المساكين، فيقعد معهم ويقول: مسكين مع المساكين.

ومع ماله من الملك والجاه، فقد كان سلام الله عليه يلبس من الشعر، وإذا حلّ عليه الضلام، ظلّ قائماً وقد عقد يديه على عنقه حتى يصبح باكياً حزيناً من حشية الله تعالى.

وكان طعامه من سفائف الخوص، وهو نبات بري، يصنعه بيديه، ولم يسأل الله الملك للعلو في الأرض والفساد، وإنما سأل ربه أن يعطيه ذلك الملك، ليكون مؤمناً عابداً داعياً إلى عبادة الله الواحد الأحد، وليقهر ملوك الكفر والطغيان، فاستجاب له ربه لعلمه سبحانه بعاقبة الأمور.

وفاة سليمان(ع)

ويلتفتُ النبيُ سُليمانُ ذات يومٍ إلى بعض أعوانه، وقد ظهرت عليه علاماتُ الإعياء والإرهاق، ويقولُ لهُم بصوتٍ خافتٍ: "منذُ زمنٍ طويلٍ، وأنا أقضي جُلَّ أيّامي في خدمة النَّاسِ وقضاء حوائجهِم، بكُلِّ ما يتطلّبُهُ ذلك من جُهدٍ وعزيمةٍ لذلك، فقد عزمتُ اليوم على الإخلاد للرّاحة والسّكينةِ والهُدوء فلا تدعوا كائناً من كان بالدخول عليَّ.

وإنّ أمرَهُ لَمُطاعُ!.. فأوصدت الأبوابُ ووقفَ الحُجّابُ في أماكنيهم حرساً، وتوجّه النبيُ سليمانُ إلى مُرتفعٍ صغيرٍ لمُراقبة العُمّال الذين كانوا من الجنِّ في خدمتِهِ.

وإن كان هذا الأمرُ في عُرفنا لايكادُ يُصدِّقُ لخُرُوجهِ عن المألوف وغرابته، وصُعوبة تحقيقه، ولكنّه معجزةٌ حقاً. إذ لكلِّ نبيٍّ معجزةٌ أو معجزاتٌ، وهذه إحدى معجزات النبي سُليمان(ع).

لم يكُن قد مضى وقتٌ طويلٌ على أمر سُليمانُ بمنع الدُّخول عليه، حتى شعر بشخصٍ يقتربُ منهُ، تُرى من أينَ أتى؟ هل انشَقَّت عنهُ الأرضُ؟.. أم هبَطَ من السَّماءِ؟.. كيف دخل دون إذنه، غير مُتحسبِ لهيبتهِ وعظمتِهِ ورهبتِهِ؟..

- إنَّهُ ملاكُ الموتِ الّذي لايَخشى أحداً، ولايقفُ حاجزٌ دُونهُ، ورويداً رويداً يقتربُ الملاكُ من النّبي- الملك، الذي مازال متَّكئاً على عصاهُ، دون حراكٍ. وبارتعاشٍ لطيفٍ تُغادِرُ روحُ سليمانَ الطاهرةُ جسدَهُ الشَّريف، إلى عالم الأرواح، لتلتحق بالملأ الأعلى، ويبقى الجسدُ متَّكئاً على العصا، دون اهتزازٍ، يُراقبُ، ومجموعات الجنِّ جادَّةٌ في عملها، منهمكةٌ في مهمّاتها، ومن منهم يستطيعُ النَّظر إلى وجه النبيِّ سُليمانَ العظيم؟..

وظلّ الأمرُ على هذا الحال شُهوراً طوالا،كان السُّوسُ خلالها قد أخذ بنخر العصا من الدّاخل، وفجأةً، تنكسرُ العصا، ويخرُّ الجسدُ الشّريفُ إلى الأرض.

عند ذلك أدرك الجِنُّ الذين تحقَّقوا من موته، ولكن بشكلٍ جدُّ متأخرٍ، أنهم لو كانوا يعلمُون الغيب حقاً، لعلِمُوا بموت سيّدهم النبيِّ سُليمان مُنذُ مات، ولما بقُوا، بالتَّالي، طوال هذه المدَّةِ بعد موته، وهُم على عملهم دائبون، يكدحون في عناءٍ وفي شقاءٍ.

{فلمّا قضينا عليه الموت مادلّهم على موته إلاّ دابّةُ الأرضِ تأكُلُ منسأتهُ، (أي: عصاه) فلمّا خرَّ تبيّنت الجنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المُهين}.

(صدق الله العلي العظيم)

صوت الحق
28-06-2008, 11:01 AM
النبي عيسى (ع) روح الله

ولادة عيسى :

العذراءُ مريمُ تعتكفُ (أي: تعتزل الناس للعبادة). فهي منصرفةً ألى صلاتها وتنسُّكها وخشوع وجهها لله بابتهال ودعاء! لقد اعتزلت أهلها، واتّخذت من دونهم ستراً، فلا تراها عين.

وفجأة، تضطرب نفسها الصافية، برهبةٍ وخوفٍ لم تجد لهما تفسيراً، ولاتأويلاً!. وإنها كذلك، وإذ بملاكٍ كريمٍ، في هيئة إنسان سويٍّ، يقتحم عليها خلوتها، فيكر عليا صفاء وحدتها، ويقطعها عما هي فيه من عبادة وصلاة!.

فترتاع... وتحاول الفرار بنفسها، وهي البتول الطهور!.

ويومئُ إليها الملاكُ بألاّ تخاف ولاترتاع. ويقترب منها وئيداً، فتستعيذ منه بالرحمن، وقد استطارت نفسها شعاعاً! (أي خافت خوفاً شديداً)

وهدأ روعُها بعد قليل، ولكن الحيرة عصفت بها من جديد، عندما أفصح الملاك عمَّا أرسل إليه: {.. إنّما أنا رسول ربك لأهب لكِ غُلاماً زكياً}.

- غلام؟... ياللفضيحة، والعار!.. وماذا سيقول عنها قومها، وهي الشريفة النفس، الكريمة الأصل، الطيبة الأرومة، الطاهرة أباً وأماً!؟..

ثم، أنّى يكون لها غلام وهي الناسكة المتعبدة، البتول العذراء، لاتعرف من وجوه الرجال إلاّ زوج خالتها النبي زكريَّا، وكان قد كفلها عندما كانت بعدُ صغيرةً، وبعض الأخيار الأبرار، الذين نذروا أنفسهم لله وعبادته وخدمة المؤمنين!..

وتعود إليها رباطةُ جأشها، فهي أمام رسول ربِّها إليها، فلم الارتياع؟

وتسألُ: {.. أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟..}

قال الملاكُ: {كذلك قال ربُّك هو عليّ هيِّن. ولنجعله آية للناس، ورحمة منا..}

وتمت كلمةُ ربك! ويختفي الملاك عن الانظار، بعد أن قام بما أمر به، {.. وكان أمراً مقضيا!}.. ويعود القلقُ والاضطرابُ يتأكّلان نفس العذراء البتول، تأكُّلاً!.

وتتصور ألسنة الناس تلوك سمعتها، وعفافها، وطهرها، وهم يقذفون بفاحش القول، وبهتان وافتراء، فينعصر قلبُها، ويغلي دماغها،.. فكيف ستُدافع عن نفسها، وتثبت للناس براءَتها؟..

وتعود إلى منزلها، وقد ضاقت عليها آفاق الدنيا بما رحُبت..

وتقبع العذراء في منزلها، لاتغادره إلاّ لماماً (أي: قليلاً).

وتجد في العبادة سلوى تخفف ماينتابُها من مقلقات الهموم، وعزاءً ينسيها ما ينمو في أحشائِها من "كلمة الله" الذي إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون!.. وهكذا تقبل مريم على عبادة ربها إقبال الغريق على خشبة الخلاص، وتستغرق في عبادتها استغراقاً ينسيها نفسها، والعالمين،.. ولكن، إلى حين!..

فها هي ذي الأيام تمر مرّ السحاب!.. وها هو ذا اليوم الموعود. فمريم تعاني آلام المخاض!.. وتفرُّ العذراء بنفسها من قريتها إلى البريّة، بعيداً عن الناس، وأعين الرقباء، وألسنة السوء.. فلعلّ الله يجعل لها من أمرها فرجاً ومخرجاً!..

ويُلجئها المخاض إلى جذع نخلة يابسة، فتضع غلاماً يتلألأ جبينه نوراً!..

وتعاودُها الوساوس والهواجس، فما العمل؟. وكيف ستُقابل قومها بهذا المولود الجديد؟.

فتتمتم بالتياع وحرقة: {.. ياليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً!} ويدركها مايدرك النفساء من وهن، بعد ان تضع..

إن جسمها الطريَّ ليذوي، كنديِّ النبت الغضِّ في لافح الهجير... فقواها في اضمحلال، ونفسُها في شتات.. وتحاول البكاء، فلا تقطر من مقلتها دمعة واحدة. إن دموعها لم تجف، ولكنها أصيبت بما يشبهُ الاحتراق.. وفجأةً، تعود إليها نفسُها عندما تسمعُ صوتاً يناديها من تحتها، بأنسٍ رقيقٍ، وحنانٍ رفيق:

- {.. ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً. وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. فكُلي واشربي، وقري عيناً!..}

وتمتد يد البتول الى النخلة، وقد كانت قبل سويعة جرداء يابسة لاتصلح إلا للنار، فإذا هي الآن مونعة مورقة، تحمل يانع الثمر، فتهزّها، فيتساقط أمامها الرطبُ(التمر في أوله)، فتأكلُ منه، وتمدُ يدها الى الماء الذي تفجر من تحتها، سلسبيلاً عذباً فتغترف منه وتشرب، وتحمدُ الله، وتشكره، مسلمةً اليه أمرها، قائلة في نفسها:

أليس هذا دليلاً على عصمتي من كل ريبة، وآية من آيات الله البينات؟..

وتحمل وليدها، ويعاودها التساؤل كالسوط يلسع منها العقل والوجدان، فيهتز خاطرها اهتزازاً عنيفاً،..

- كيف ستقابلين قومك بهذا المولود العجيب الولادة حقاً؟.. وهل هم من البساطة لدرجة تصديق دعواك بالسهولة المتوخاة؟

وهل في الدنيا كلها، من قبل ومن بعد، أمٌ دون زوج، وولد دون أب؟

ولكن الله تعالى كفاها مؤونة الجواب: فما عليها إلا أن تلوذ بالصمت، وفاء بنذر صيام عن الكلام:

- {.. فإما ترين من البشر أحداً فقُولي: إني نذرتُ للرحمن صوماً فلن أُكلِّم اليوم إنسيَّاً!}.

واطمأنت إلى هذا الموقف بعض اطمئنانٍ، وارتاحت إليه راحةً يسيرةً.

المعجزة :

{فأتت به قومها تحمله..} متعثرة الخُطى، مضطربة، وجبينها الطهور يندى عرقاً بارداً، فالخطبُ جلل!.. ورماها قومُها بنظرات استهجانٍ واستغراب، وصاحوا مندهشين:

- ماهذا يامريم؟.. لقد جئت شيئاً فريّاً، وأنت الطاهرة المطهرة أصولاً وفروعاً!..

وكاد لسانها يتحركُ، ليدفع عنها تهمة السوء، وفرية الفحشاء. ولكنها استدركت ذلك، فهي صائمة عن الكلام، لا تلكمُ إنسيّا!

وبالتالي، فهي ليست على استعداد للخوض في نقاش وجدل، لايجلبان لها نفعاً، ولايدفعان عنها ضراً!. فأشارت إلى الوليد في مهده. يلفه قِماط، وكأنها تقول لهم: اسألوه!.

فجحظت عيونهم، وتساؤلوا ساخرين: {.. كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟}

وتقع المعجزة:..

فإذا بالوليد ينطق في مهده، ولكنه لايدفع عن امه تهمة، ولا يثبت لها براءة، ولايرد عليهم سوء مقال، بل يخبرهم بلسان طلق مبين، بأنه من عباد الله المكرمين، وأنبيائه المجتبين، ورسله المباركين، أوصاه الله بالصلاة وبالزكاة، وببر أمه الصديقة الطاهرة.

قال: {إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركاً اين ماكنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا. وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً. والسلام عليّ يوم ولدت، ويوم أموت ويوم أُبعثُ حيَّا!..}

فحق عليهم القولُ، ولزمتهم الحجة البالغة، والبرهان الدامغ، يدحضان (أي: يدفعان ويبطلان) كل بهتان، ويصفعان كل اجتراء!..

ولكن،.. هل آمنوا وصدَّقوا؟..

ويأتي الجواب بالنفي، بطبيعة الحال - فبنوا إسرائيل طبعوا على اللجاج والسفاهة، والمكابرة والعناد. لاتقنعهم الحجة، مهما بلغت من إعجاز لايكون إلاّ سماوياً!..

أولم يلاق موسى، من قبل، كل مكابرة منهم، وتعنت وضلال؟..

فلم يؤمنوا بإعجاز هذا الوليد الذي أنطقهُ الله في المهد، ولما يرتو من لبن أمه، بعد، كما أنهم لم يؤمنوا بطهارة أمه الصديقة البتول، فانطلقت السنتهم ببهتان وافتراء، وسوء قيل وقال!..

النبوّة :

وشبَّ عيسى، كما يشب بقية الفتيان، ولكن مخايل النجابة، وسيماء الكرامة (أي: مظاهرها ودلائلها) بدتا عليه، فظهر مهاباً!..

وكان أثناء لعبه مع أترابه، ومخالطته إيّاهم، يحدثهم بما لا تقوى على فهمه عقولهم، وينبئهم بما يأكلون، ومايدّخرون في بيوتهم.

وعندما كان يجلس أمام استاذه في الكتّاب، كان يلحظ كل شاردة وواردة، ويحفظ كل حاضرة وغائبة. فيجد فيه استاذه فتى خارقاً!..

وعندما بلغ الثانية عشرة من سنيّه، صحبته أمّه الى بيت المقدس، حيث استهوته مجالس العلم والعلماء. فكان يحرص على شهودها حرصاً شديداً، مصغياً، متأملاً، مفكّراً... ثم مناقضاً وكأنه يغترف العلم، من البحر، اغترافاً!.. فكان يرد على أحبار اليهود مسفّهاً ما كانوا يعلّمونه عامّة الناس من زخرف القول وزوره، ومبهرج الكلام وباطله، اللذين يخفيان خلفهما ضلالاً كبيراً، وغيّاً عظيماً.. فيقارعهم، ويحجهم،.. فيصمتون مبهورين، وقد علت وجوههم علائم الانكسار..

ويتطلع الناس إليه،... وإليهم، مستغربين!. فيالهذا الفتى في حكمة أجلاء الشيوخ وعلمائهم الأفذاذ!.. وكثيراً ما كان ينسى عيسى كل ماحوله، حتى نفسه، ينساها، فهو في حجاج، مع هؤلاء الاحبار، مستمر، قلّما يهدأ، أو ينقطع، حتى أنه نغص عليهم مجالسهم، فكادوا أن يعافوها!.. وتمضي عليه، وهو في هذا الحال، أيام كثيرة، وشهور..

وتفتقده أمه في كل مكان فلا تعثر له على أثر. فيجن صوابها!..

وبينما هي كذلك، وإذ بابنها بين زمرة علماء، علت صدورهم لحىً كثّة بيضاءُ بيضاء، وهو يناقشهم، بصوت يشيع فيه صادق البرهان، وساطع الحجة والبيان،.. وقد اصفرت منهم وجه. واحمرت عيون، فتخاف عليه سوء العواقب، وتحذر عليه يداً أثيمة تناله بسوء... فتضمه اليها، وتعود به إلى "الناصرة"، مدارج طفولته، وملاعب صباه، بعيداً عن مكامن الخطر والأذى، والعثرات!..

ولما بلغ عيسى الثلاثين من سنّيه المباركة، صدع بأمر الله عزوجلّ، معلناً نبوّته في بني اسرائيل... مفنّداً (أي: مظهراً باطل..) ماهم عليه من كفرٍ وضلال، داعياً إياهم إلى العودة الى الأصول الأولى، والينابيع الصافية، في مصادرها.. والى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

وأخذ يُبيّن لعامة الشعب ماقام به كبار أحبارهم من تزييف لشريعة موسى السمحاء، وتحريف لها. ابتعاء عرض الحياة الدنيا، وتهافتاً على الذهب يكنزونه في خزائنهم، دون أن يعطوا فقراء خلق الله منه شيئاً، بل يسلبون منهم الدينار والدرهم باسم الدين، وخدمة الهيكل!.

وجنّ جنون أحبار بني اسرائيل!.. فما لهذا المبعوث يرميهم بكل فضيحة ونقيصة تقصمان (أي: تقطعان) الظهور؟.. واجمعوا على تكذيبه، ومناوأته.. وألبوا عليه أوغادهم وجهالهم، فما استطاعوا أن ينالوا منه، ويحطوا من شأنه،.. بل كان الأمر على النقيض من ذلك، فلقد ازداد سموّاً وعلوّاً وتحلّق حوله أشياع وأتباع، وتلامذةٌ ومريدون.

آيات ومعجزات :

ويطالب أحبار بني إسرائيل عيسى بالآيات والمعجزات، فلكل نبي أياته ومعجزاته وبيّناته!.. وينهض عيسى لما يطلبون:

- فكان يخبرهم بما يأكلون، ومايدّخرون..

- وكان يصنع لهم من الطين كهيئة الطير، (تمثال طير من طين)، ثم ينفخ فيه،.. فإذا به طائر، من لحم ودم، يطير، محلقاً في الأجواء!..

- وكانوا يأتونه بالرجل منهم، يكون أعمى منذ ولادته، فيمسح على عينيه، فيرتد بصيراً...

- وبالأبرص قد شوّه البرص وجهه، فيمسح على وجهه، فإذا به وسيمُ الوجه، جميل الصورة...

- وكانوا يأتون به إلى الميت، منذ ساعات، أو أيام،.. فيدعو فوق رأسه، فينهض حيّاً!..

- وكان يمشي، أمام بعضهم، أو بعض تلامذته، على الماء، وكأنه يتجول في بستان، ويعود اليهم دون ان تبتل له قدم!.

يفعل ذلك كله، أمام من حضر، مؤكداً أمام الجميع بأن ذلك بأمر الله، وباسمه،.. داعياً إيّاهم إلى الايمان برب السموات والارض، والإقلاع عن كل غيٍّ وفساد!. فآمنت به طائفة، هم حواريّو المسيح، وأنصاره، وتلامذته، وأتباعه، وسمّوه "المعلم" وأطلقوا عليه لقب "المسيح" إشارة إلى أنه كان يمسح بيده المباركة على الضرير والأبرص، كما مر، فيشفيان. وكفرت به طائفة أخرى، وقد أعمى الله البصائر منهم والأبصار، فأطلقوا عليه نعوتاً كاذباتٍ واختلقوا حوله إشاعاتٍ وافتراءاتٍ، فأثيرت حوله زوبعة من صخبٍ وضجيج.

وقضى الله بنصرة نبيّه عيسى(عليه السلام)، وردِّ كيد كل خائنٍ كفار!...

الحواريون والمائدة :

وكان اسلوب عيسى (عليه السلام) في دعوته، الاّ يستقرّ في مكان.. فأرض الله واسعة،... وفيها من خلقه من لم يسمع باسمه، فلم تصله رسالة السماء.

فكان دائماً في حل وترحال، لايهدأ في مدينة حتى يغادرها الى ثانية،.. وما أن يصلها حتى لايمكث فيها طويلاً، فيغادرها إلى قوم آخرين، وهكذا..

وكان يصحبه حواريون وتلاميذ، ارتدوا خشن الصوف، وخلقوا وراءهم الدنيا ظهرياً (أي: جعلوها وراء ظهورهم) فانطلقاو مع "معلمهم" يتصفحون صحائف الكون، والطبيعة، وخلق الله وآياته الباهرات!..أي: جعلوها وراء ظهورهم) فانطلقوا مع "معلمهم" يتصفحون صحائف الكون، والطبيعة، وخلق الله، وآياته الباهرات!..

وبينما كانوا يخلدون للراحة، بعد وعثاء السفر، في أرض قفر، جدباء، وقد أخذ الاعياء والجوع منهم مأخذاً عظيماً، تساءلوا فيما بينهم عن الطعام، ولاطعام لديهم، فتوجهوا بالسؤال إلى "معلمهم" الأكبر عيسى: فقالوا: {.. ياعيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء؟..}.

وظهرت على محيّا النبي الكريم، علائم استغراب، وخوف، وحذر، فأسرع يجيبهم:

- {.. إتقوا الله ان كنتم مؤمنين!} "ألم تؤمنوا بربكم، بعدما شاهدتم كل هذه المعجزات والبيّنات؟..."

- حاشا لله أن نكون من المكذبين، أو المفترين، أو الشاكّين!.

_ أخاف عليكم الفتنة واللَّجاج المؤديين إلى المكابرة والعناد، وما جزاء ذلك إلاّ خزيُ الدنيا، وعذاب الآخرة المقيم!.

- حنانيك يامعلم!.. ألم تر الينا، وقد انهكنا الجوع، وعضّنا بناب ناهشٍ؟. إننا إذ نطلب اليك ذلك فلكي نطعم منها، فنزداد إيماناً على إيمان، ويقيناً على يقين، وتسليماً على تسليم. وبذلك تشريف لنا، وتخصيص بفضل وكرامة، يفرضان علينا ثابت اليقين والإيمان، بالإضافة إلى مايُتاح لنا من فرصة لنشر الدعوة وتبليغ الرسالة، فلا العنت نبغي ولا اللجاج، ولا المكابرة والعناد، ونحن الذين آمنا، وأشهدنا الله على إيماننا، وكنت انت شهيداً ايضاً، منذ أول ماعرفناك، فعرفنا الحق، وصدقّنا دعوتك، واتّبعناك ولازلنا، وسنبقى إن شاء الله من المهتدين...

فلما تبيّن لعيسى (عليه السلام) صدقُ مقصدهم، وظهر له صحيح ماانطوت عليه دخيلتهم (أي: باطنهم، وسرهم) رفع يديه ووجهَه الى السماء قائلاً بصوت يتفطّر استعطافاً:

- "اللهمّ!.. ربّ السموات والارضين، وما بينهما،... ياباسط اليديد بالرحمة، ياموسع الخلق بالعطاء والرزق، يامن لاتغيض خزائنه، ولاتنقطع مواهبه، يامالك الملك، ياذا الجلال والاكرام: {أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وانت خير الرازقين}.

فاستجاب الله تعالى لنبيّه دعوته، ومنحه طلبتهُ:

{قال الله إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم فإني أُعذّبُهُ عذاباً لاأُعذبه أحداً من العالمين}.

وما لبث القوم أن سمعوا حفيف أجنحة، ورأوا مائدة تتهادى من عل، لتستقر فيما بينهم، وهي تفيض بالرزق الوفير، والخير العميم!..

وقبل أن تمتد اليها يد، دعا عيسى أن تكون رحمة لهم ونعمة، وأن يزيدهم الله من فضله...

ثم أومأ بيده اليها، وإليهم، فائلاً، كلوا، واشكروا!

فطعموا منها كفايتهم، وقاموا وقلوبهم تطفح بشراً وايماناً، وهدىً نوراً.

وسمع بذلك خلق كثير، توافدوا إلى عيسى مؤمنين، فتكاثروا، وازداد المؤمنون يماناً!.. وانتشرت رسالة عيسى، وعمّت.. فلها في كل بيت مؤيد ونصير.

وكان عيسى يعلن في كل مشهد ومحفل وناد: {يابني إسرائيل إنّي رسول الله اليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي، اسمُهُ أحمد!..} وهكذا فدعوته تصديق بماضٍ وتبشير بمستقبل آت!..

ويجمعون، أخيراً، كيدهم ومكرهم، مقرّرين القضاء على عيسى. وليكن مايكون!

فرفعوا أمرهم الى حاكم "بيت المقدس" ملصقين بالمسيح كل تهمة شنعاء،..

وترصّدوا عيسى، فأين يكون؟. وأين المفرُّ؟

واجتهدوا في بث عيونهم وأرصادهم، وكان عيسى قد علم بمكرهم، فلم يهتدوا إليه ولم يعثروا له على أثر. وبينما كان رجال الدين يبحثون في بيت المقدس أمر عيسى، وقد استعصى، واستشرى وحيّرهم أمر اختفائه عن العيون، فاهتّموا واغتمّوا،.. وإذ بيهوذا الاسخريوطي يدخل عليهم، ويا للبشرى!.. إنّ مطّلع على كل تحرّك يقوم به هذا النبي الجديد، في ليل وفي نهار. فيصيحون فرحاً، ويهتزون طرباً، فأين الذي يكذّب كهّان الهيكل ويسفّه الأحبار؟ ويتّصلون بوالي المدينة المقدسة، فيرسل معهم جنداً لإلقاء القبض على هذا المبعوث الجديد. فلعل الفتنة تنقطع، ولعل الناس يهدأون!.

الله يرفع عيسى اليه :

وفي ليلة ليلاء، بينما كان عيسى (عليه السلام) وتلامذته مختبئين في بستان، وإذ بالجند يُداهمهم، فيفر الأتباع مولّين الأدبار. وتتحرك مشيئة الله سريعاً، على غير ما ينتظره أعداء الله، فإذا بعيسى لاتراه عين، وقد كان منذ لحظات بين أيديهم. فكأن الارض ابتلعته، أو رفعته إليها السماء!. ويساهدون رجلاً مقبلاً نحوهم، ويتأمّلونه جيّداً، إنه يشبه عيسى كثيراً، فيتصايحون:

- هذا عيسى، هذا عيسى؟..

فانقضّوا عليه، وأمسكوا بتلابيبه، ساقوه أمامهم مخفوراً.

اما الرجل، فقد أخذته المفاجأة، فما استطاع كلاماً..

وانهالت عليه حشود الجماهير تتقاذفه أمامها صاغراً ذليلاً!.

عند ذلك أخذ الرجل يصرخ بأعلى صوته: أنا لستُ عيسى، بل أنا الذي دلّكم عليه. أنا يهوذا الإسخريوطي!..

فهزئوا منه مقهقهين. ووصلوا به إلى وسط الساحة وهم يجذبونه جذباً عنيفاً، ويجرّونه جراً شديداً، بعد أن ساروا به على درب الجلجلة، زيادة منهم في العذاب الأليم، والنكال المهين.

وفي وسط الساحة، رفعوه بين الصخب والضجيج، وصلبوه، بعد أن جرّعوه كأساً من علقم، وتوّجوا رأسه بالشوك إكليلاً!..

{.. وما ***وهُ، وماصلبوهُ، ولكنْ شُبّه لهم، وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه، مالهم به من علم إلا اتباع الظنّ، وما ***وه يقيناً. بل رفعه الله اليه، وكان الله عزيزاً حكيماً!}.

(صدق الله العلي العظيم)

صوت الحق
28-06-2008, 11:04 AM
النبي هود (ع) القائم

الوصية إلى هود (عليه السلام)

بعد أن استكمل نوحٌ (عليه السلام) أيامه، وانقضت نبوته أنزل الله عليه سبحانه جبرائيل (عليه السلام) يأمره بأن يدفع ميراث النبوة والعلم إلى ابنه سام، وأن يبشر الذين آمنوا معه بنبوة هود(ع) ويأمرهم باتباعه.

وهود(ع) هو ابن عبد الله بن رباح بن خلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح(ع)، وهو من قبيلة يقال لها الخلود، من أوسطهم نسباً وحسباً، وأصبحهم وجهاً في مثل أجسامهم، أبيض بادي ال***قة طويل اللحية، آدم كثير الشعر، وكان أشبه ولد آدم بآدم(عليه السلام).

كان هود مزارعاً يسكن مع قومه عاد في مايعرف اليوم بالأحقاف، في البادية بالدهناء ويبرين وعالج إلى اليمن وحضر موت، وهي اليوم رمال ليس فيها أنيس بعد ذلك العمران والنعيم العظيم.

اتصف هود(عليه السلام) بالوقار والهيبة والرزانة، وسعة الصدر والحلم، كما اتصف بالعقل وعزة النفس، وكان مع هذا وذاك عابداً زاهداً عفيفاً أبياً غيوراً، صلب الإيمان، رحيماً عطوفاً ليناً.

{وإلى عادٍ أخاهم هودا}

كانت قبيلة عاد تسكن كما ذكرنا في الأحقاف باليمن شمالي حضرموت، في أرض يقال لها الشحر في وادٍ يُسمى مغيث، في أخصب بلاد العرب وأكثرها أنهاراً وجنانا.

وكانوا كأنهم النخل الطوال، قد زادهم الله بسطةً في الجسم والقوة، إذ كان الرجل منهم يضرب الجبل فتنهدم منه قطعة، وينزع الصخرة فيقلعها بيده، وكانوا يعبدون الأوثان، وقد اتخذوا لهم أصناماً ثلاثة أموها آلهة، وهي: صمدا وصمودا وهرا.

سميت عاد بذات العماد. كما ورد في القرآن الكريم {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد} لأن الله سبحانه كان قد سخر لهم من قطع الجبال والصخور، مايعملون منه العمد والأبنية، وكان لهم من القوة على ذلك والعمل به شيئاً لم يسخِّره لأحد كان قبلهم ولا بعدهم.

ولما رأوا قوتهم ومقدرتهم استكبروا بغير الحق، وأصابهم الصلف والغرور، وجحدوا آيات الله وكفروا نعمه: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق، وقالوا من أشدُّ منا قوة}.

وأخذ أبناءُ عاد والمترفين منهم خاصة، يبنون في كل مكان مرتفع من الأرض بناءً عالياً يطلعون منه على الناس ليسخروا منهم ويهزأوا بهم.

وكان هود (عليه السلام) قد أتم الأربعين من عمره، فبعثه الله فيهم، نبياً وهادياً إلى سبيله ومرشداً، وهو منهم أوّل نبيّ عربي يبعثه الله، فدعاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام، وإلى عدم الاستعلاء في الأرض والفساد، قائلاً لهم: {ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون} {أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأموالٍ وبنين، وجنات وعيون}.

ولكن عاداً راحوا يسخرون من هود (ع)، ويقولون له: أتريد منا أن نترك آلهتنا صمدا وصمودا وهرا التي كان يعبدها آباؤنا قبلنا ونعبد إلهك الواحد الذي لانراه؟!

{قالوا أجئتنا لنعبد الله وحدة ونذر ماكان يعبد آباؤنا}.

هذا أمرٌ غريب بعيد، لن نؤمن لك، وأنت واحدٌ منا، ولايمكنك أن تقنعنا أو تجبرنا على ذلك، وقال بعضهم: {ماهذا إلاّ بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} وقالوا: {إجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا}؟... {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين}.

وأخذ هود(ع) يسرد لهم الأدلة والبراهين، على صدقه وعلى وحدانية الله، وعلى أن تلك الأصنام التي يعبدونها لاتنفعهم، وراح يذكرهم بأن ما ينعمون به من القوة والحياة الكريمة، إنما هو من اله خالقهم ومدبر شؤونهم، وأنه سيزيدهم إن هو آمنوا وشكروا، وتركوا الإفساد في الأرض والاستكبار، وأن الله سيغضب عليهم ويعاقبهم إن هم أصروا على ماهم عليه من عبادة الأصنام والإفساد والسخرية بالناس والهزء منهم: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون}.

واستكبر قوم عاد وأصروا على كفرهم وقالوا: {ياهود ماجئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن وقولك ومانحن لك بمؤمنين} أما هود(ع) فاستمر في دعوته ورفض عبادة الأصنام رغم أنهم خرفوه وهددوه، ولم تفتر له همة وقال لهم: {إني أشهد الله واشهدوا أني برئٌ مما تشركون.. فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولاتضرونه شيئاً}.

وتابع هود(ع) دعوته لهم ووعده وعيده، ووعظهم وتذكيرهم أنهم بعد الموت سيبعثون من جديد، ليحاسبهم الله على كل ماكانوا يفعلونه، من الإثم والعدوان، مذكراً إياهم بأنه لايطلب منهم أجراً على مايقوم به، وأنه أمين على رسالة بعثه بها الله إليهم ليبلغهم إياها، وأنه لهم من الناصحين:

{إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تتقون إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلا على رب العالمين.. إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم}.

ولم تنفع مع قوم عاد كل محاولات هود(ع) لإنقاذهم ونقلهم من الضلالة والجهل، من عبادة الأصنام والفساد، إلى الهدى والرشاد والصلاح، إلى عبادة الله الواحد الأحد وطاعته. ليس هذا فحسب بل إنّ بعض السفهاء منهم راح يهزأ بهود(ع) ويستخف قومه قائلاً لهم: {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنّكم إذاً لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون، هيهات هيهات لما توعدون، إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمعوثين، إن هو إلاّ رجلٌ افترى على الله كذباً وما نحن له بمؤمنين}.

وقال بعضهم: إن هوداً خالف آلهتنا، وترك عبادتها وقد أصابته الآلهة بالجنون لأجل ذلك: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} وأصروا على تكذيبه وعدم الإيمان بما جاءهم به وهو يكرر قوله: {ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي، وأنا لكم ناصح أمين} {ياقوم لاأسألكم عليه أجراً إن أجري إلاّ على الذي فطرني أفلا تعقلون}.

بطش عادٍ بهود (عليه السلام)

فلما رأوا ثباته في دعوته، واستمراره فيها بطشوا به وخنقوه وتركوه كالميت، فبقي يومه وليلته مغشياً عليه، فلما أفاق ناجى ربه قائلاً: يارب إني قد عملت وقد ترى مافعل بي قومي، فجاءه جبريل(عليه السلام) فقال: ياهود إنّ الله تعالى يأمرك ألاّ تفتر عن دعوتهم، وقد وعدك ربك أن يلقي الرعب في قلوبهم فلا يقدرون على ضربك مرة ثانية، فأتاهم هود وقال لهم: ياقوم قد تجبرتم واستكبرتم في الأرض بغير الحق وأكثرتم الفساد، أفلا تنتهون. فقالوا ياهود أترك هذا القول، فإنا إن بطشنا بك الثانية نسيت الأولى، فقال (عليه السلام): دعوا هذا الفساد والغرور، وتوبوا إلى الله واعبدوه، فما كان منهم إلاّ أن حاولوا ضربه مرة ثانية فلبسهم الرعب فاجتمعوا بقوتهم، فصاح بهم هود (عليه السلام) صيحة فسقطوا لوجوههم، ثم قال لهم: ياقوم لقد تماديتم في الكفر كما تمادى قوم نوح من قبل وحق لي أن أدعو عليكم كما دعا نوح (عليه السلام) على قومه.

ورغم ما أسابهم من الخوف والرعب، استمروا في طغيانهم وغرورهم، وقالوا: ياهود إن آلهة قوم نوح كانوا ضعفاء وآلهتنا أقوياء مثلنا وقد رأيت قوة أجسامنا وشدتنا وبطشنا.

دعوة هودٍ وعذاب عاد

وبعد سبعمائة وستين عاماً يئس هود(ع) من اهتداء قوم عاد، وهم في كل مرة يكذبونه ويقولون له: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} فرفع يديه بالدعاء إلى ربه قائلاً {رب انصرني بما كذبون. قال عما قليل ليصبحن نادمين}.

وبدأ العذاب الذي وعدهم هود، فكفت السماء عنهم سبع سنين بأمر الله، حتى قحطوا وأجدبت الأرض ثلاث سنين، ولم يرجعوا عن كفرهم واستكبارهم وغرورهم، وبعثوا وفداً منهم إلى جبال مكة، وكانوا لايعرفون موضع الكعبة، فمضوا واستسقوا فرفعت لهم ثلاث سحابات، فقالوا عن الأولى: هذه حفا ليس فيها ماء، وقالوا عن الثانية: هذه فاجيا ماؤها قليل، واختاروا الثالثة وكانوا يظنون أن فيها مطراً كثيراً، بينما كانت في الواقع هي التي تحمل لهم العذاب، وقد ساقتها الريح نحو أوديتهم، {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، بل هو مااستعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شئٍ بأمر ربها} ورأت امرأة منهم يقال لها "مهد" تلك الريح، فصاحت وأغمي عليها، فلما أفاقت وقد اجتمعوا عليها قالوا لها: مارأيت يامهد؟ قالت: رايتُ ريحاً فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها.

وبدأت الريحٍ ت*** من تصادفه منهم، وهم يرون وينظرون، فراحوا يسألون هوداً (ع) عن سرِّ تلك الريح: إذا أقبلت أقبل معها خلق كثير كأمثال الأباعر، معها أعمدة، هم الذين يفعلون بنا الأفاعيل؟ فقال لهم (ع): أولئك الملائكة. فقالوا أترى ربك أن يغلبنا عليهم إن نحن آمنا به؟ فقال(ع): إن الله تعالى لايغلب أهل المعاصي على أهل الطاعة، قالوا أو ننجو إن نحن آمنا؟ قال: نعم، قال زعيمهم وكان اسمه الخلجان: وكيف لي بالرجال الذين هلكوا؟ قال هود(ع) يبدلك الله بهم خيراً منهم، فقال الخلجان: لاخير في الحياة بعدهم، فكان مصيره كمصيرهم.

هلاك عادٍ ونجاة المؤمنين

أما هود(ع) ومن آمن معه من أحفاد سام بن نوح(ع) فقد لجأوا إلى حضيرة في مكة، مايصيبهم إلاّ ماتلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس، وبدأت الريح تدمغ عاداً بالحجارة، فراحوا يختبئون في القصور والبيوت، وفي المغاور والكهوف، ولكن الريح كانت تدمر عليهم قصورهم والبيوت وتطحنها طحنا حتى تحولها إلى رمال، وتدخل عليهم المغاور والكهوف فتلفهم رجالاً ونساءً وتخرجهم وترفعهم صعداً في الجو ثم ترمي بهم فيقعون على رؤوسهم منكسين فت***هم: {وقالوا من أشد منا قوة، أولم يروا أنّ الله الذي خلقهم أشد منهم قوة، وكانوا بآياتنا يجحدون، فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لاينصرون}.

وهكذا استمرت تلك الريح عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتالية: {ريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فترى القوم كأنهم أعجاز نخل خاوية}.

ويقال إن تلك الريح سميت بالريح العقيم، لأنها عقمت عن الرحمة، وتلقحت بالعذاب، وأنها هي التي تسميها العرب بأيام العجوز، لأنّ عجوزاً اختبأت في أحد الدهاليز فدخلت إليها تلك الريح وأخرجتها وأهلكتها: {وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ماتذر من شئ أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم} {فأصبحوا لايرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين} {فأصبحوا لايرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم الظالمين} {فهل ترى لهم من باقية} {فكيف كان عذابي ونذر} {إن في ذلك لآية وماكان أكثرهم مؤمنين وإنّ ربك لهو العزيز الرحيم}.

أما هود(ع) ومن آمن معه وصدق برسالته وعمل بها، فقد أنجاهم الله برحمته وقدرته: {فأنجيناه والذين آمنوا معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} {ألا بعداً لعادٍ قوم هود}.

وفاة هود (عليه السلام) وقبره

تروي كتب السيرة والتاريخ، أن هوداً(ع) بعدما أصاب عاداً ما أصابهم، انتقل إلى العراق وعاش هناك إلى أن وافاه الأجل وحانت منيته وانقضت أيامه، وأنه (ع) دفن هناك في وادي السلام عند مرقد الإمام علي(ع) وقبري آدم ونوح(ع) وإلى جانبه مرقد النبي صالح(ع) الذي جاء بعده إلى قبيلة ثمود.

ويروي المؤرخون وأصحاب السير أن أمير المؤمنين علياً(ع) سأل شيخاً من أهل مهرة: مايقول قومك في الجبل الذي عليه الصومعة قرب مهرة؟ فقال: يقولون هو قبر ساحر. فقال (ع) كذبوا أنا أعلم به منهم، ذلك هو قبر هود(ع).

ومهما يكن من أمر فإنَّ هوداً(ع) قد بلغ رسالات ربه، وقصد إلى حج بيت الله الحرام ماراً بوادي عسفان كما جاء ذلك في حديث عن رسول الله محمد(ص): "لقد مرّ بهذا الوادي [يعني عسفان] نوح وهود وإبراهيم... يحجون البيت العتيق".

ويُذكر أيضاً أنّ هوداً(ع) عندما أحسّ بدنو أجله، أوصى من بعده، وبشر قومه بنبي الله صالح(ع) يأتي بعده، وأمرهم باتباعه والإيمان به.

فسلام الله على هود إنّه كان من المرسلين.

والحمد لله رب العالمين.

صوت الحق
28-06-2008, 11:07 AM
النبي لوط (ع) صاحب السجيل

نسب لوط(ع) وأحواله

هو لوط بن هاران أخ إبراهيم(ع) لأبيه تارخ أي آزر بن ناحور بن ساروغ بن راغو بن فالغ بن شالح بن أفخشذ بن سام بن نوح عليهم السلام.
ولد لوط(ع) في العراق في قرية من قرى الكوفة يقال لها "كوثار" أو "فدّان آرام" وأمه أخت أمّ إبراهيم(ع) وهي ابنة لاحج، وكان نبياً منذراً لم يرسل إلى أحد.
ولوط(ع) هو أخو سارة زوجة إبراهيم(ع) لأمّها.
وكان متحلياً بالتقوى والصبر على المحن وطاعة الله تعالى والشكر له على كل نعمة ودفع النقم، كما كان في غاية الكرم والإستمساك بالذمام وحفظ الجار والضيف، غنياً ذا ثروة من الذهب والفضة وصاحب إبلٍ وغنمٍ وبقرٍ كثير، وله عبيدٌ وإماءٌ كثرٌ.
عاش لوط(ع) في زمن إبراهيم(ع) وولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، ولما بُعث إبراهيم(ع) نبياً رسولاً آمن لوط(ع) بنبوَّته ودعا إليه وإلى شريعته، كما ذكر ذلك الله تعالى في كتابه العزيز حيث قال عز من قائل في قصة إبراهيم(ع): {فآمن له لوط}.
ولمَّا اضطرّ إبراهيم(ع) إلى الخروج من وطنه العراق بسبب مضايقة الكافرين له، هاجر لوط(ع) معه كما ورد في القرآن الكريم: {وقال إني مهاجرٌ إلى ربي}.
وتبع لوط(ع) إبراهيم(ع) في رحلاته، وقد ورد ذكره(ع) في أربع عشرة سورة من سور القرآن الكريم هي على التوالي: سورة الأنعام، سورة الأعراف، سورة هود(ع)، سورة الجحر، سورة الأنبياء، سورة الحج، سورة الشعراء، سورة النمل، سورة العنكبوت، سورة الصافات، سورة ص، سورة ق، سورة القمر، وسورة التحريم.
إلى سدوم

خرج لوط(ع) مع إبراهيم(ع) في رحلته من العراق إلى الشام وفلسطين، حيث استقرَّ لوط(ع) في سدون بالقرب من عاموراء، على شاطئ البحر الميت، في مايعرف اليوم بالأردن.
كان أهل سدوم قوماً بخلاء يستثقلون الضيف ويسعون للتخلص منه بشتى الوسائل، وكانوا يسمَّون "أهل المؤتفكة" لأنّهم كانوا أهل إفكٍ ولهوٍ ولغوٍ ودجلٍ وباطلٍ وفساد، لايستحيون من فعل القبيح، يأتون المنكرات بمحضر النساء والبنات كما وصفهم الله تعالى حيث وجّه الخطاب إليهم على لسان نبيِّه لوط(ع): {وتأتون في ناديكم المنكر}.
ليس هذا فحسب، بل كان أهل سدوم أهل ظلم وجور، حتى أن القاضي عندهم كان يحكم لهم على الغرباء، بحقٍ وبغير حق، حيث يُروى أن سارة زوجة إبراهيم(ع) بعثت إلى سدوم رسولاً من قبلها ليستطلع لها أخبار أخيها لوط(ع) ويأتيها بها. فلما وصل الرسول إلى تلك البلاد لقيه رجل من أهلها وضربه بحجر على رأسه، فسال دمه على وجهه وثيابه، ثم أن ذلك الرجل تعلَّق برسول سارة وأخذ يطالبه بأجر على فعلته تلك، بحجة أنَّ الدم الذي سال لو بقي لأضرَّ بجسم الرسول. وبعد مشاحنات ومجادلات دعاه رسول سارة إلى القضاء وهو لايعرف ماذا ستكون النتيجة...
وتوجها إلى قاضي سدوم فما كان منه إلا أن حكم على الرسول المضروب للرجل المعتدي... فعمد رسول سارة إلى حجر وضرب به راس القاضي فشجّه وأسال دمه وولى هارباً وهو يقول له: "ادفع إلى ضاربي هذا مايتوجب لي عليك لقاء ضري إياك".
ومهما يكن من أمر صحة هذه الرواية وطرافتها سواء أكانت صحيحة أم مروية على سبيل التندّر والتهكم والمبالغة في التدليل على ظلم أهل سدوم، فإنها تبقى دليلاً على أن أهل تلك البلاد كانوا يتجاوزون الحدود في أعمالهم وتصرفاتهم.
ويحدثنا المؤرخون أن أهل سدوم كلهم باستثناء أهل بيت واحد هو بيت لوط(ع) كانوا يتضارطون في مجالسهم ونواديهم، ويجتمعون على نكاح الرجل الغريب، ويتوالون على ذلك حتى في محضر نسائهم وبناتهم، كما كانوا يخذفون الغرباء الذين يمرون في ديارهم بالحجارة، فأيهم أصابه حجر أخذوا ماله ونكحوه، وكان لهم قاضٍ يفتي لهم بذلك، بلاحشمة أو حياء، حتى أنهم قطعوا الطريق على المارة خشية هذه الفاحشة المنكرة.
لوط(ع) ينصح أهل سدوم

رأى لوط(ع) عمل أهل تلك البلاد، فساءه ذلك منهم، خصوصاً وأنه كان يعيش بين ظهرانيهم وقد تزوج امرأة منهم، وحاول (ع) إصلاح حالهم، فدعاهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ونهاهم عن الفواحش والمحرمات والمنكرات التي كانوا يرتكبونها. وقد قصَّ القرآن الكريم قصّة تلك الدعوة فقال: {ولوطاً إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء! بل أنتم قوم مسرفون}.
أما أهل سدوم فكانت ردة فعلهم على هذه الدعوة معاكسة، فراحوا ينهون لوطاً عن استقبال الضيوف ويهددونه بالإخراج من بلادهم إن هو أصر على دعوته وملاحظاته وتأنيبه لهم، ومازادتهم دعوته إلاّ إصراراً على منكرهم، واستمروا في كفرهم وفجورهم، كما حكى ذلك القرآن الكريم: {وماكان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}.
واستمر لوط(ع) في نصحة وإرشاده، فما كان منهم إلا أن اشترطوا عليه ألاَّ يضيف أحداً من الناس، وإلا طردوه من ديارهم، ولكنه(ع) راح يكرر دعوته لهم، رغم مضايقاتهم له، محاولاً ثنيهم وردعهم عن ارتكاب المحرمات والفواحش، ولكن برفقٍ ولينٍ هذه المرَّة قائلاً لهم: {أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم؟ بل أنتم قوم عادون}!
ولكن الشيطان كان قد استحوذ عليهم وطمس على قلوبهم وأبصارهم وعقولهم، حتى أن لوطاً(ع) كاد ييأس من إصلاح حالهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وراح يتطير بالضيوف ويتحاشى استقبالهم، خشية معرفة هؤلاء القوم بهم وسعيهم لارتكاب الفاحشة فيهم.
فقد حدث أن بعث الله الملائكة الذين أمرهم بإنزال العقوبة بأهل سدوم، بعثهم ضيوفاً على لوط(ع) ولوط لايعرف مَنْ هم ولاماذا يريدون، فاستاء من حضورهم وارتبك كما قال تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطاً سئ بهم، وضاف بهم ذرعاً، وقال هذا يوم عصيب} وبات لايدري ماذا يفعل حتى يصرفهم، قبل أ، يعلم أهل سدوم بقدومهم.
زوجة لوط(ع) لاتحفظ سره

ورد الملائكة(ع) على لوط عليه السلام وهو في أرض له يسقي زرعها، ويعمل فيها، وهو لايعرفهم، فطلبوا منه أن يضيفهم عنده فاستحيا ألا يجيبهم إلى طلبهم، رغم ما كان يخشاه عليهم من أهل سدوم، فانطلق أمامهم وراح يلمح لهم في كلامه عن فعل أهل تلك البلاد وسوء تصرفهم، علَّ الضيوف يعلمون فيغيرون رأيهم وينطلقون إلى قرية أخرى يستضيفون أهلها، ولكن الملائكة كانوا يعلمون كل شئٍ عن أفعال أهل سدوم. وكانوا على يقين أنه لن يصيبهم منهم أذى ولا حتى لوط(ع)..
وعرف الملائكة الضيوف مقصد لوط(ع)، ولكنهم قالوا له: نحن أبناء سبيل، أفلا تضيفنا هذه الليلة عندك؟.
قال لوط(ع): إن أهل هذه القرية قوم سوء يأتون المنكر، فهم ينكحون الرجال ويأخذون أموالهم..
فقال الملائكة: لقد تأخرنا فأضفنا الليلة فقط.. وظل يحادثهم في الحقل حتى أرخى الليل سدوله، وهو يقصد أن يذهب بهم إلى بيته دون أن يشعر أهل سدوم بهم.
ثم إن لوطاً(ع) انطلق أمامهم إلى منزله، وأخبر زوجته واهله بأمرهم، قائلاً لها: إنه قد أتانا أضياف هذه الليلة فاكتمي أمرهم ولاتعلمي أهلك بهم، ولكِ عليَّ أن أسامحك بكل مابدرَ منك تجاهي من أذى إلى اليوم.. فقالت: أفعل.
كانت امرأة لوط(ع) على دين قومها، وكانت بينها وبينهم علامة تدلهم ما إذا كان لوط(ع) قد ضيّف أحداً أم لا... وكانت تلك العلامة أن تدخن فوق السطح نهاراً، وأن تشعل فوقه النار ليلاً.
وما أن دخل الملائكة الضيوف منزل لوط(ع) وهو معهم، حتى قامت زوجته وأوقدت ناراً فوق سطح المنزل، ليعلم قومها بضيوف لوط(ع). وهكذا أفشت أمرهم.
لوط (ع) يدافع عن ضيوفه

رأى أهل سدوم النار فوق سطع منزل لوطٍ(ع) وكانت علامة على وجود الضيوف، فتوافدوا إليه يريدون الأضياف ويتهددون لوطاً(ع) قائلين: {أولم ننهك عن العالمين}.
وقد حكى الله ذلك عنهم في كتابه الكريم فقال: { وجاء أهل المدينة يستبشرون. قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون}. وقال: {وجاء قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات. قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولاتخزون في ضيفي}.
وأصر أهل سدوم على طلبهم وفعلتهم، فتعجب لوط(ع) من أمرهم وتحير، ولكنه راح يدفعهم ويحول بينهم وبين الوصول إلى ضيوفه، ويجادلهم محاولاً إقناعهم بالإقلاع عن هذه الفاحشة المنكرة، وأنه ما من إنسان عاقل رشيد يقدم على ارتكاب فاحشة اللواط التي يقدمون عليها: {أليس منكم رجل رشيد}؟ تحترمون رأيه لينهاكم عن مثل ذلك؟!
ولكن القوم، وقد أعمى الشيطان بصائرهم، ظلوا يتدافعون للوصول إلى الضيوف.. فراح لوط(ع) يلفتهم إلى أن الله قد أحل لهم النساء وفيهن غنى عن إتيان الرجل وارتكاب تلك الفاحشة المخزية المردية. قائلاً لهم: {ياقوم هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين. هن أطهر لكم فاتقوا الله ولاتخزون في ضيفي... قالوا: لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم مانريد}.
ولما لم ينفع معهم أسلوب اللين والإغراء وتحقيق مطلبهم دون ارتكاب المحرم... أدرك اليأس لوطاً(ع) وعلم أنه يستحيل إصلاحهم وقد فسدت فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فقال(ع): {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد}.
ولم يكن له بهم قوة فآوى إلى ركن شديد... لجأ إلى الله يبثه شكواه ومعاناته من أهل سدوم وهو يتهددهم بعذاب الله الشديد.. ولكنهم هزئوا به وسخروا منه وقالوا له: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين}.
الضيوف رسل العذاب

ولم ينفع الوعد والوعيد في ثني أهل سدوم عن ضلالتهم، فراح لوط(ع) يدعو ربه أن يخلصه منهم ومما يعملون، وقد ازداد خوفه وقلقه على ضيوفه، وهو يرى قومه يتدافعون إلى المنزل وهو لايقوى على ردعهم بأي وسيلة و{قال: رب انصرني على القوم المفسدين}.
وجار الرد الإلهي سريعاً وعلى لسان الضيوف الملائكة، فقالوا: {يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، فأسر بأهلك بقطع من الليل ولايلتفت منكم من أحد إلا امرأتك إنها مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب}.
وخاف لوط وحزن ولكن الملائكة طمأنوه: {وقالوا: لاتخف ولاتحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين. إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون}.
وبدأت نذر العذاب تظهر بينما القوم يراودون لوطاً(ع) عنضيفه: {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر}.. فما هي إلا لحظات حتى أصيب القوم بالعمى، وراحوا يتحسسون الحيطان ليهتدوا إلى الطريق، ومع ذلك لم يرعووا عن غيهم وضلالهم ولم يعتبروا بما حدث لهم، فأخذوا ستهددون لوطاً(ع) ويتوعدونه قائلين: إذا كان الغد كان لنا وله شأن.
وخرج لوط(ع) من سدوم دون أن يلتفت ومعه ابنتاه ولم يخرج معه منهم إلا امرأته.. وتوجه إلى حيث أمره الله تعالى... إلى صوعر وبينا هم في الطريق إذ جاءت الصيحة تعلن نزول العذاب بأهل سدوم. فصرخت امرأة لوط: واقوماه فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها وقد {صبحهم بكرة عذاب مستقر} وجعل الله عالي بلادهم سافلها وأمطر عليها {حجارة من سجّيل منضود. مسومة عند ربك}.
وكانت سبع مدن يسكنها أربعة آلاف أو أربعمئة ألف، وقد أخرج الله من كان فيها من المؤمنين وماكان فيها {غير بيت من المسلمين} هو بيت لوط(ع) {فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزاً في الغابرين ثم دمرنا الآخرين}. ذلك أن الله سبحانه أمر جبرائيل فا***ع تلك البلاد بطرف جناحه، ورفعها حتى بلغ بها عنان السماء. ثم قلبها بمن فيها وما فيها، فجعل عاليها سافلها، وجعل الله مكانها بحرة منتنة لاينتفع بمائها ولابما حولها من الأراضي المحيطة بها، فصارت عبرة لمن اعتبر وآية على قدرة الله وعذابه: {وإنها لبسبيل مقيم} {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} وكما قال تعالى: {ولقد تركناها آية بينة لقوم يعقلون... وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}.
وهكذا لم تنج إلا قرية صوعر التي لجأ إليها نبي الله لوط(ع).. يقول تعالى: {كذبت قوم لوط بالنذر. إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجّيناهم بسحر. نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر. ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر. ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر. ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر. فذوقوا عذابي ونذر. ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}.
{ والمؤتفكة أهوى فغشاها ماغشى فبأي آلاء ربك تتمارى} {إن في ذلك لآية وماكان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.
وفاة لوط(ع)

لبث لوط بين أهل سدوم حوالي ثلاثين عاماً، يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن ارتكاب الفواحش، وينصح لهم كما أمره الله بذلك إلى أن حق عليهم العذاب ودمر الله عليهم بلادهم بعد أن لم يرتدعوا ولم يؤمنوا بلوط(ع).
ويذكر المؤرخون أنَّ لوطاً(ع) لما أمره الله بترك سدوم. توجه إلى صوعر. يحث نجاه الله برحمته، فظل يدعو إليه ويتعبد له إلى أن وافاه الأجل.
وظلت قصته مع قومه عظة وعبرة لمن {خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}.
فسلام على لوط {وإن لوطاً لمن المرسلين}.

صوت الحق
28-06-2008, 11:14 AM
النبي موسى كليم الله

بنو اسرائيل في مصر :

هاجر ابناء يعقوب واحفاده ـ كما يقص علينا القران الكريم في سورة يوسف ـ من بلاد كنعان الى مصر ، حيث نزلوا على يوسف مكرمين . كيف لا ، ويوسف ايام ذاك ؛ كان امين فرعون على مصر كلها ؟ … وهكذا شاء الله تعالى ان يسكن ارض مصر قوماً يعبدونه ، ولا يشركون به احدا . انهم ذرية يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ، وكلهم انبياء ، ورسل ، وهداة ! …

والى جانب هؤلاء كان اتباع ابراهيم ولوط ، يؤمنون بالله الهاً واحداً لا شريك له ، وبنبوة ابنائه ، الذين يدعون الى الهدى ، ودين الحق ، وسبيل السلام ! … وعندما شعر النبي يوسف ، ( عليه السلام ) ، بدنو اجله ، جمع حوله اهل بيته ، وقومه الاقربين ، وقال لهم بصوت متهدج ، ونبرة مفعمة بعميق الايمان : " يا ال يعقوب … انتم بقية الله على ارضه . وصفوته من صالحي المؤمنين" !… لقد ارسل الله تعالى ابوكم يعقوب ، ومن قبله اسحق وابراهيم ، دعاة لعبادة الله وحده . واتباع سبيل الحق والخير ، والهدى والرشاد ، …فكان جدكم ابراهيم ، خليل الله ، وصفيه ، واباً للانبياء جميعاً ، من بعده !…

وها انتم اولاء تعيشون في ارض مصر ، مكرمين ما زلت بين ظهرانيكم ( أي بينكم ومعكم ) وانبي موشك على لقاء ربي ، والالتحاق بآبائي وآبائكم الصالحين . فاذا كان ذلك ، وانه لكائن لا محالة ، فسوف تتعرضون من بعدي للظلم و الطغيان ، والاذى والعذاب ، فما عليكم ، والله ، الا الاعتصام بالصبر ، والتمسك بدينكم الذي انتم عليه الان ،… وبعد زمن ، ليس بالطويل ، سياتي من بعدي نبي يخلص بني اسرائيل من جبروت فراعنة مصر ، وطغيانهم ، وعتوهم ، به ينصر الله الحق ، ويقيم الدين ، ويذل الطغاة المتجبرين ، فاصبروا صبراً جميلاً ، وانتظروا فرجاً من الله ، ومخرجاً مما ستؤولون اليه ، ولاتنهوا ، ولاتحزنوا ، ولاتياسوا، واعلموا ان الله مع الصابرين !… واغمض النبي يوسف " عليه السلام " عينيه الكريمتين ، وشهق شهقة لطيفة ، فاضت بها روحه الشريفة ، ملتحقاً بجوار ربه الاعلى ، حيث ابائه الانبياء والاولياء ، والاوصياء ، والشهداء ، في جنان الخلد ، ونعيم لا يفنى !…

جبروت فرعون :

وتهضي اربعة قرون : ويتكاثر ابناء يعقوب ، فيصيرون آلافاً قد توزعوا على اقاليم مصر يعملون ويكدحون ، ويلاقون ـ كما عهد اليهم ، من قبل ، يوسف ـ من العذاب والتنكيل ، صنوفاً والواناً !… ويشتد الاذى عليهم ، ويتضاعف ، ايام رمسيس ،طاغية فراعنة مصر ، الذي ادعى ، دون وجه حق ، انه اله ، .. متخذا الشمس شعاراً!.. فكما ان الحياة لاتستقيم بدون الشمس ، كذلك ، لاتكون مصر ، وشعبها ، الابه !.. ويامر الطاغية ببناء هرم له ،لا يضاهى ، فيعمل شعب مصر كله في تشييد الهرم ، سنين طوالاً ، وليل نهار ، وتزهق في هذا العمل المضني آلاف الانفس ، في سبيل عزة فرعون وجبروته . وعندما ينتهون ، يأمر ببناء معبد له في اسوان ، محاذياً مجرى النيل الذي يهب ارض مصر الخصب والحياة . وعندما ينتهبي العمل من بناء المعبد ، يامر بنصب التماثيل ، فتنصب التماثيل نحتاً في صخور الجبال !.. ويأتي يوم الافتتاح !.. فيخرج فرعون على قومه في زينته ، وفي منتهى الابهة والجلال ، يحف به عظماء مملكته ، ويحيط به سادة الكهنة ، والاشراف !.. فتتعالى صرخات الاف المصريين ، وهتافاتهم ، وقد اصطفوا لتحية مليكهم العظيم وما ان اطل عليهم حتى خروا له سجداً !.. فتمتلئ نفس فرعون غروراً وشمخ بانفه عاليا استكبارا في الارض ، وعتوا، .. وينظر ناحية ،.. فيرى جماعة من الناس لم يكونوا من الساجدين . فيسأل عن شانهم ، فيقال له : " انهم بنو اسرائيل ، لا يدينون بما يدين شعب مصر ، ويعبدون إلهاً غيرك ، يا مولاي !.."

فيمتقع لونه ، ويدمدم غاضباً :" متى كان في مصر قوم يعبدون غيري ؟ .. " ويتابع الموكب المهيب طريقه ، وقد امتلأت نفسه عليهم حقدا !… وما ان وصل فرعون الى قصره ، حتى استدعى رئيس الكهنه ، مستوضحاً منه امر بني اسرائيل ، هؤلاء . فانباه حقيقة امرهم : فهم يؤمنون باله واحدا ، هو رب السموات و الارض ، الناس جميعاً عباده ، انه خالقهم ، ورازقهم ، ومميتهم ، ومحييهم !.. فيصرخ فرعون غضباً : يعيشون في مملكتي ، ويعبدون غيري ؟.. الويل لهم مما يصنعون !… ويتابع رئيس الكهنة : عفوا يا مولاي ، فهنالك ما هو اخطراً !… وهل هناك اخطر من هذا يا كاهن فرعون ؟ …نعم يا سيدي !. وما هو ؟ .. قل !.. وعزة فرعون سينالهم عذاب اليم !.. انهم ، مولاي ، ينتظرون نبي ينقذهم ، وينقذ اهل مصر ، كما يزعمون ، من حكامهم ، وسيكون مخلصهم مما هم فيه من اضطهاد .. وهل تعتقد ان هذا النبي الذي لم يظهر امره ، وقد ولد ، فدعوته قريبة ، ام ان امره لايزال بعيداً ؟.. لا، يا مولاي !. فولادته ، على ما يظهر ، وشيكة الوقوع ، كما تقول بذلك النجوم . وهل عندكم انتم معشر الكهنة والمنجمين ، علم بذلك ؟ أجل يا سيدي ، فسيولد عما قريب في ارض مصر غلام ، ليس بمصري ، وما اظنه الا من بني اسرائيل ، وسيكون له شان كبير ، وخطر عظيم على حاكم مصر ، وعلى ملكه ، معاً ، هكذا انباتنا مواقع النجوم . الويل لهم !.. يعيشون بيننا ، وينتظرون يوما يدمرون فيه ملكنا ؟ ..وعزة فرعون لن يصلوا الى ذلك ابداً . ويصرخ فرعون ، وقد انتفخت اوداجه غيظا وحنقا ، : اين رئيس الشرطة ؟.. وبطرفة عين ، يمثل رئيس الشرطة امامه ، وينحني ، حتى ليكاد يصل رأسه الى قدميه ، امر مولاي !.. لقد شرفناكم بتسليمكم امن هذه البلاد ، وانتم عما يحصل غافلون ؟ الا ترى الا بني اسرائيل ، هؤلاء ، يدبرون لنا كل شر ، ينتظرون الفرصة السانحة ليدمروا ملكنا تدميرا !.. ولكننا يا مولاي ، لا ندعهم يرتاحون . فسياستنا العامة بشانهم تقضي بوضعهم تحت السياط، كالماشية ، فهم في قهر دائم ، وذلة وامتهان !.. آمرك ان تتشدد في مراقبتهم ، وتحول بين الرجال منهم والنساء ، فتحتفظ بالنسوة بعيدات عن ازواجهم! ، امر مولاي ، فانا عبده المطيع !. لاتقاطعني ، وهناك امراً آخر : عليك بمراقبة الحوامل من نساء بني اسرائيل ، ومن سيحمل من هن . امر مولاي ، وطاعة . وعليك ان يكون رجالك حاضرين عند ولادة كل مولود صبي منهم ، افهمت ؟.. كل مولود صبي ، فت***ون المولود فور ولادته واياكم ان يفوتكم مولود واحد مهما كانت الظروف ، فتستحقون اذ ذاك عذابي ، نفذ ما امرك به فورا ؟…انني ، ورجالي ، عبيد مولاي ، وسننفذ امرك على الفور يا سيدي ؟..

وينحني رئيس الشرطة انحناءة شديدة ، ثم ينصرف ويتبعه رئيس الكهنة منصرفاً ، بعد الاستئذان …ويتنفس فرعون الصعداء ، وهو يسأل نفسه : ماهذا الهم الجديد ؟… احقا ما ينتظره بنو اسرائيل ، ويفقهم عليه كهان واد النيل ؟...ويجيب صوت من السماء : { ان فرعون على في الارض ، وجعل اهلها شيعاً ، يستضعف طائفة منهم ، ي*** ابناءهم ، ويستحيي نساءهم ، انه كان من المفسدين * ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ، ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون }

ولادة موسى "ع" وتربيته :

" يوكابد " في احدى زوايا منزلها تعاني المخاض وتستدعي قابلة ، وسرعان ما تضع غلاماً ، يلتمع جبينه بنور ساحر اخاذ فتسميه " موسى " …وتخاف عليه عيون فرعون وجواسيسه ، وقد بثهم فرعون في كل مكان يترصدون كل صغيرة وكبيرة في بني اسرائيل ...وتتامل " يوكابد " وجه الغلام ، وكانه قطعة من نور ، وتتمتم بحزن غامر : اليس حراماً ان تنتهي الى ال*** ، يا هذا الوجه الكريم ؟

وبقيت ام موسى الى جانب وليدها لا تفارقه ، ملتزمة بيتها لاتغادره، فهي بطفلها مشغولة . وظلت كذلك ثلاثة شهور ، ترعاه بحذر ، وتحفظه من كل سوء …ولكن اعين رقباء فرعون ، وجواسيسه مفتوحة على كل حدث جديد ، مهما صغر شانه…وتشعر ام موسى بالخطر يزحف على وليدها الوسيم الطلعة ، فترتاع لذلك وتضطرب . وترفع وجهها الى السماء متضرعة : ربي ورب اسرائيل وابراهيم ، واسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، اليك اتوجه بهذا الغلام وعليك اتكل في حفظه فكن له حفيظاً ، يا ارحم الرحمين !..

ويلقي في روعها شئ كالالهام :{ ان ارضعيه ، فاذا خفت عليه فالقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني …} وتلتفت الى ناحية في منزلها ، فاذا بصندوق .. وبيدين مرتعشتين تحمل وليدها ، فتضعه فيه ، وتخرج به ، ترافقها ابنتها ، على حذر وخشية من ال فرعون ورجاله متجهة الى شاطئ النيل ، وما هو عنها ببعيد ، ويصلون ، وقد صرف الله عنهم عين كل رقيب يترصد !..

وبرفق وحذر .. تضع الام الصندوق ، وفيه موسى على صفحة مياه النيل الهادئ الرقراق ، وتطفر من عينها دمعة حرى ، ومن صدرها اهة حزن وشجن ، وتكاد الابنة ان تصرخ خوف على اخيها الصغير ، فتمنعها الام ، فتشهق بهلع مكتوم . وتشيع الام وابنتها الصندوق بنظراتهما الولهى ، وقد حملته مياه النهر ، متنقلاً من موجة رقيقة الى ثانية والى ثالثة ، متهادياً بين طياتها ، وكانه على راحات ايد حانيات !… ويقترب الصندوق من بعض البساتين المحيطة بقصر فرعون ، حيث كانت اسية زوجة فرعون ، تتنزه ، وبعض جواريها . ويلاحظن النهر يحمل على صفحته الهادئة صندوقاً ، وتامر سيدة القصر من ياتيها بالصندوق ، وعندما فتحته ، فوجئت بما فيه فشهقت دهشة . وتتناول السيدة الغلام بين يديها فخيل اليها انها تحمل فلقة قمر !.. والقي في قلبها حبه وكأنه ابنها حقاً . يجري ذلك بمرأى من ام موسى وابنتها ، اللتين كانتا تراقبان ما يحدث من مكان بعيد !… وتحمل اسية الطفل في حضنها ، وتشده الى صدرها بحنان غامر ..

وعندما بدا لها زوجها بعد آن قصير ، توجهت اليه باستعطاف رقيق ، قائلة له : اظن بان هذا الغلام الجميل احد ابناء بني اسرائيل ، ارجوا ان تكرمني بالابقاء عليه ،{ عسى ان ينفعنا ، او نتخذه ولدا }…وكيف تطلبين مني الابقاء على حياة من امرت ب***ه ؟

انه غلام صغير جميل ، ولم يتمكن من الحاق اذى بك ، خاصة ، اذا اقمنا على تربيته عندنا في القصر بعيداً عن العامة والدهماء ( اوباش الناس ) ، فيشب بيننا وكأنه احد ال فرعون طبعاً وتطبعاً …وينظر فرعون الى وجه الغلام الطفح بالنور ، فيبتسم ، ويومئ براسه موافقا فليست اسية ممن يرد لهن طلبا … وتسلم امرأة فرعون الغلام الى المراضع ، فيابى الرضاعة ، وقد حرم الله عليه ذلك !.. ويعلوا صوته بالبكاء فتحتار اسية ، ما العمل ؟… واصبح الجميع حائرين في امر هذا الغلام ، الذي لا ينقطع عن الصراخ …وتحين من اسية نظرة من احدى نوافذ القصر ، فتقع عينها على فتاة غريبة متجهة نحو القصر ، وهي تتعثر باطراف ثوبها ، فماذا تريد ؟…وتنزل السيدة الى حديقة القصر ، حيث فرعون ، والجواري ، والغلام الذي عكر هدوء القصر بصراخه المتواصل ، … وتصل الفتاة فتحيي سيدة القصر ومن حولها ، وتنظر ، من طرف خفي ، الى اخيها ، وقد علا صراخه ، والى السيدة وقد احتارت في امر هذا الغلام البكاء ، وتقول لها ، بتودد ورقة : سيدتي ، {هل ادلكم على اهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون ؟ .. } وتسرع اسية في جوابها دون ابطاء : أجل ، ايتها الفتاة ، هل لديكم من يرضع هذا الغلام ويكفله ؟ وتجيب الفتاة بفرح : اجل سيدتي ، أجل ! .. هنالك امرأة بوسعها ان تقوم بهذا العمل خير قيام !.. وتنطلق الفتاة الى امها ، فتأتي بها الى القصر ، وما ان ترى ( يوكابد ) الغلام بين يدي فرعون الذي كان يهدهده ، حتى خفق صدرها ، .. وبلهفة تتناول الطفل منه ، وتضمه الى صدرها ، وتنتحي به جانباً ، وتلقمه ثديها فيلتقمه بفرط نهمة ، وعندما انتهى من الرضاعة ، علت ثغره الطيف ابتسامة ، ونشوة فرح وأخذ يناغي امه ، وقد طفحت على وجهها السعادة ، كالكنار تغريداً ... ويعجب فرعون من ذلك ، وتعتري الدهشة وجه آسية وجواريها . فالجميع واجم مأخوذ بما يرى ويتساءلون من تكون هذه المرأة التي ارتاح اليها الغلام ، وسكن سكوناً مطمئناً ؟... فتجيب : انني امرأة طيبة الريح ، طيبة اللبن ، يرتاح الي كل رضيع !... فيسلمها فرعون الغلام ترضعه وترعاه ، وتأتي به الى القصر كل يوم ، ان استطاعت ، ويجري لها رزقاً وعطاءً . ويرد الله الى ( يوكابد ) ابنها لتنشرح به صدراً ، وتقر به عيناً ، وتطيب به نفساً ! فتعود به ، وبالمال الوفير !...

وهكذا يشب الغلام بين يدي امه ، وفي قصر فرعون ، حيث الحياة اسطورة ، لا كبقية الاساطير . وينشأ في كنف فرعون ، ويبلغ مبلغ الرجال ، وقد آتاه الله ما لم يؤت مثله احداً من الرجال : صلابة جسم ، وسداد فهم ، وغزارة علم …فمن كموسى فتى ، من الفتيان اودع الله فيه فتوةً وحكمةً ، على ايمان و تقىً ، { فتبارك الله احسن الخالقين!..} .

موسى والمجتمع المصري :

وكان لموسى ان يتعرف على طبقات المجتمع المصري ، وهي يومئذ : طبقة فرعون وحاشيته ، تليها طبقة الكهنة والاشراف ، فطبقة المقدمين من مدنيين وعسكريين ، ثم طبقة عامة الشعب : عمالاً وفلاحين ، وفي النهاية طبقة العبيد و الارقاء ، وهي ادنى الطبقات درجة . وكان قلبه يعتصره الالم لما تلاقيه هذه الطبقة الكادحة من عمال مصر ، وفلاحيها من مذلة وهوان ، وكان لا يغمض له جفن وهو يفكر بهذه الطبقة الدنيا من المجتمع المصري ، وطبقة العبيد والارقاء ، والتي كانت تحيا كما الحيوان ، و تعامل كما يعامل ، ويقول في نفسه : أو ليس هؤلاء بشراً ، فلم كل هذا الاذلال والتعسف والاحتقار ، يحيط بهم ، فيطحنهم طحناً ؟ .. وفرعون هذا المدعي الالوهية كفراناً ، وطغياناً ، وبهتاناً ، اليس انساناً عادياً ، يولد ويعيش ويموت ، كما الناس ، كل الناس ، يولدون ، ويعيشون ويموتون؟ … ويتأمل موسى واقع مصر ، فهو فاسد برمته ، ولن يتم اصلاحه الا با***اع كل هذه المفاسد والاوهام التي علقت بأذهان الناس ، فتاصلت في نفوسهم ، فأحلوها محل التقديس ، اما وقد بلغ رشده فلن يكون الا للمظلومين نصيراً !..

موسى والرجلان يقتتلان :

وبينما كان موسى متوجهاً الى عاصمة الفراعنة ، لبعض شؤونه ، { وجد رجلين يقتتلان ، هذا من شيعته ، وهذا من عدوه ، فاستغاذه الذي من شيعته على الذي من عدوه } فتصدى موسى له ، وضربه ضربة قضت عليه ، وما كان موسى ، يشهد الله ، يريد ***ه ، ولكن ، هكذا جرت مشيئة الله ، فندم على ما جنته يداه ، واستغفر الله ، فغفر الله له ذلك ، وعاهد موسى الله على الا يكون ، بعد للظالمين ظهيرا !..

واصبح موسى بالمدينة خائفا ، يترقب ، خشية افتضاح امره ، بانكشاف فعلته ، واذا هو في اليوم الثاني امام المشهد نفسه ، يتكرر مرة ثانية ، كما في الامس : فهذا اليعقوبي ، الذي من شيعته ، في عراك جديد ممع رجل فرعوني ، عدو لهما ، ويشاهد اليعقوبي موسى من بعيد ، فيناديه مستنصراً اياه ، .. وينطلق موسى ، بعفوية صادقة لينصر اليعقوبي ، فهو نصير المظلومين ، وظن هذا الاخير انه يريد ***ه ، كما *** خصمه بالامس ، فتضرع اليه مسترحما ، يا موسى { اتريد ان ت***ني كما ***ت نفس بالامس ؟..}

ويسمع خصمهما هذا القول ، فيسرع الى قومه الحائرين في امر قتيل الامس ، وقاتله ، .. فاخبرهم انها فعلة موسى ، فتعجبوا ، متى كان يقوم موسى بمثل هذه الفعلة الشنعاء ؟ واجمعوا على النيل من موسى ، وقد *** منهم ، ظلما ، رجلاً ! .

ويتصل بموسى واحداً من جماعته المؤمنين ، فيحذره قائلاً : {.. ان الملأ ياتمرون بك ل***وك ، فاخرج اني لك من الناصحين } فيتوارى موسى عن الانظار !.ويطلب فرعون موسى ، فلا يعثر له على اثر .

ويتساءل في قرارة نفسه : اتراه يكون نبي بني إسرائيل الموعود ؟ فيعض على اصابعه ندما ! ..

ويتسلل موسى من ارض مصر ، خائفاً يترقب ، وقد اتخذ الليل له جملاً (أي : متستراً بظلمة الليل في مسيره ) متجهاً نحو بلاد قدامي الاجداد ، وقد اسلم وجهه لله ، فعلى الله قصد السبيل ، وهو الاخذ بيد الحياري المساكين في مدلهملت النوازل والخطوب ( أي : عند اشتداد المصائب ) .

وتقوده قدماه شمالاً ، في متاهات صحراء سيناء ، فيجتازها ، وهو الجلد ، الصبور ، … مبتعداً ، وما امكن ، عن المدن ، وعن الناس ، فالبراري مأواه !..

وتمضي على ذلك ثمانية ايام ، لامعين له ، ولا نصير ، ولادليل ، سوى رحمة الله ، ونوره وهداه ، وكان يقطع الفيافي حافياً ،بعد ان تقطعت نعلاه ، فشققت قدماه ، يقتاب بعشب الارض وبقلها ، حتى كان يبدو صفاق بطنه ( عضلة الحجاب الحاجز ) لشدة ضعفه ، وضموره ، وهزاله ، وكان طيف فرعون ورجاله يلاحقه ، فيجد السير ، ويحث الخطى ، حتى وصل اخـيراً الى الارض " مدين " في الجه الشمالية الغربية من ارض كنعان ، فيتنفس الصعداء ! ..

لقد اصبح بمامن من فرعون ، ومنجاة من كيده ، وضلاله ، وجبروته .

اتصال موسى بشعيب :

ويشاهد موسى من بعيد ازدحام ناس وقطعان اغنام ، فيقصد هذا الجمع ؛ واذا به امام رعاة انهمكوا بسقيا قطعانهم ، وقد علا ضجيجهم ولغطهم ، وكان الاشداء منهم يتقدمون لسقاية اول الناس ثم بعد ذلك ، ينصرفون .

وتلفت نظر فتاتان تذودان غنمهما ، كي لا يختلط بغيره من اغنام القوم ، وقد وقفتا بذلة ومسكنة ، تنتظران صدور الرعاء ( انصراف الرعيان ومواشيهم بعد السقاية ) وتتحرك فيه طبيعة نصره المظلوم ، المقهور ، فيتقدم منهما مستفسراً : ما شانكما ؟ . فقالتا :{.. لانسقي حتى يصدر الرعاء ، وابونا شيخ كبير .. }

وتثور نفسه لمساعدتهما ، فتقدم من البئر ليسقي لهما ، متخطياً اليه الرجال ، حتى وصل الى فوهته ، فوجد صخرة تحول دون تدفق الماء غزيراً ، فا***عها زندين قويين ، وكانهما اصول سنديانة عتيقة فانبهر الجميع لقوة هذا الغريب واندفاعه ، رغم ما يبدو عليه منمظاهر الاعياء ، وعلائم الهزال ؛ فتركوه ، والبئر ، وشانه ، فسقى للفتاتين {.. ثم تولى الى الظل ، وقال : رب اني لما انزلت الي من خير فقير }

فالجوع ، الى جانب ما كابد من اعياء ، يكادان يهدان عزيمته هدا ؟ وما هي الا ساعة ، .. واذا باحدى الفتاتين تتجه مقبلة نحوه استحياء وخفر ، وتقول له : { .. ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا .. }

فيقبل الدعوة موسى ؟ .. ويتبع الفتاة الى دار ابيها . وفي الطريق يطلب موسى من الفتاة ان يتقدمها وتسير هي خلفه ، فهكذا تقضي العفة ، وواجب الوفاة ! .

وعندما وصل موسى الى البيت نزل على ترحاب واطمئنان ، بعد ان استقبله الشيخ بالحفاوة والاكرام . وبعد ان اخذ حظهمن الراحة ، وتناول نصيبه من الطعام ، قص على مضيفه قصته ، فتعجب الشيخ ايما تعجب ، وربت على كتف الفتى قائلاً له بصوت يشيع فيه الوقار ، وهو يهز رأسه : { لا تخف . نجوت من القوم الظالمين }

ويسأل موسى الشيخ الجليل عن اسمه ، فيقول له الشيخ وهو يعبث بلحيته الكثة : " انني شعيب ! .. ارسلني الله تعالى الى اهل هذه القرية المجاورة واسمها " الايكة " ولكنهم قوم يجهلون ، وسفهاء لا يعقلون ، يطفطفون ( أي : ينقصون ) الكيل والميزان ، ويبخسون الناس اشيائهم ! … "

ويصمد الشيخ قليلاً وقد سرح نظره بالافق المتـرامي البعيد . ويصـمت موسى . فالله الحكمة البالـغة ، ان امره كان حتماً مقضيا !.

وتحدثنا بعض الرويات بان"الايكه"هذه،هي،قريه"بليدا" في جنوبي لبنان ،وان البئر التي سقي منها موسى،هي " بئر بليدا " القريبه منها، جنوبا شرقا …وتتقدم احدى الفتاتين من ابيها ،لتهمس في اذنه ، عاى حين غفله من موسى : {..يا ابت ،استاجره، ان خير من استاجرت القوي الامين !}.

وتقص الفتاه على مسامع ابيها كيف ا***ع موسى الصخره من على فوهه البئر ،على هزاله وضعفه فتفجر الماء غزيرا ،..وكيف اطرق الى الارض وهى تدعوه الى منزل ابيها ، وكيف طلب اليها في الطريق ، ان يتقدمها ، وتتبعه ،كي لاتقع عينه على مالا يجوز لها ان تقع عليه ..ويطرق الاب الى حديث ابنته ، فيا لهذا العف، الشهم ،الكريم !.

ويدعو موسى ، ويجلشه على جانبه ، ثم يتوجه اليه بوجهه ، وطيف ابتسامه ياتمع على ثغره الوضئ ، ويقترح الشيخ على فتاه اقتراحاً مفاجئاً :

ما تقول يا موسى في ان ازوجك احدى ابنتي هاتين ، على ان تقوم بمناصرتي وعوني ورعاية اغنامي ثمانية اعوام ، وان اتممتها عشراً اكن لك من الشاكرين .. ، وما اريد ان اشق عليك !…وذلك بمثابة مهر العروس ، كما تعارف على ذلك الناس ؟

فيشرق وجه موسى . وتؤوب اليه نفسه مطمئنة ، اسعد واهنا ما تطمئن اليه نفس انسان !.. لقد وجد في هذا المنزل الكريم ضالته المنشودة ، وفي هذا الشيخ الوقور اسمي درجات الوقار والايمان ، فانجذب اليه ،وشبه الشئ منجذب اليه !..

ولم يطل تفكير موسى ، اذ ما لبث ان وافق ، فتعاهد الرجلان علىذلك ، وكان الله على تعاهدهما شهيداً !..

ويتزوج موسى احدى الفتاتين ، ويبقى عند سيده عشر سنين ، موفياً بما عاهد ، ومتماً اوفى الاجلين ، يناصره ويعينه ، ويرعى له اغنامه التي تكاثرت بشكل مطرد !… ورد في احدى الروايات ، على هذا الصعيد ـ ، نادرة تقول :

بينما كان موسى يرعى قطيع سيده ، اذ فر تيس ماعز في ارض وعرة ، مصعداً في هضاب عالية ، واكام ، وتلال .. ولحق به موسى ، متتبعاً اياه ، لاهثاً ، حتى ادركه بعد عناء شديد ،وجهد جهيد . فاوقفه ، وجلس موسى يستريح ، وقد كادت تنقطع انفاسه الاهثة ، ثم جذبه اليه من قرنيه برفق ، وقبله بين عينيه ، واخذ يمسح جبهته بحنان ، مخاطبا اياه ، وقد تحدرت دمعة على خديه الكريمين :


والله لم الحق بك هذه المسافة الطويلة خوفا من احد ، ولا طمعا بك ، ولكن ، حرصاً عليك من ان يفترسك الذئب !.
وكانت اطلاعة له تعالى على قلب موسى ، فاذا كالذهب الخالص صافياً ، او اشد صفاء ونقاء .. فيقضى ساعتئذ لموسى بالنبوة احسانا لقلبه السليم ، ونفسه الطهور ، وتكريماً !…
تحرك الحنين في نفس موسى بالعودة الى الديار التي درج فيها ايم طفولته وصباه . فما1ا حدث لها بعد هذه السنين العشر الطـوال ، وكانها دهر مديد ؟ .. ويحدث زوجه بالامر ، فلا تمانع ، وويرضى بذلك شعيب .. ويتحول الحنين الى عزم ، وتصميم ، فقرار !.
فيجمع موسى امتعته البسيطة ، ويزوده شعيب بقطيع من الاغنام ، صغير ، ويدعو لهما برحلة سعيدة ، فيودعانه وداعاً حسنا ، ويتجهان في رحلتهما جنوباً ، والله الهدي سواء السبيل !.
ويقطعان ارض كنعان وفلسطين من شمال الى جنوب ، ولايجدان في اجتيازها مشقة تذكر ، او كبير عناء ، .. ففيها الـماء ، والكلا ، والخصب الوفير ..
واليها انشداد روحي عميق عميق ، ففي زايتها الشمالية الغريبة ، عاش اباء له واجداد ، صلحاء واتقياء ً.. وتطوى لموسى وزوجه الارض طياً !.
فاذا بهما بعد بضعة ايام في سيناء ، الارض التي سيكون لـها في تاريخ بني اسرائيل ، بعد حين ، شان جد خطير !.. ويهبط الظلام ، فتمحي الحدود والمسافات ، والابعاد ، والجهات ، .. وتهب ريح باردة .. وياتي زوجه الحامل المخاض ..
فيتلفت موسى الى عل ، والى امام ، وذات اليمين وذات الشمال ، تلفت الحيران في امره ، المضطرب في مسيره ، وقد ضل السبيل ، والتوت عليه الطريق ، فما يدري ماذا يفعل . فيصفق كفاً بكف ، قائلاً : رباه ، ما العمل ؟ ويتلفت موسى الى طور سيناء ، وقد عميت عليه الجهات ، فلا يدري شرقاً من غرب ، ولا يميز شمالاً من جنوب … فلعله يجد في هذا الجبل ، المتواضع بعلوه ، بعض دليل ، واذ به يرى ناراً من الجهة التي تليه .
انها لمفاجأة سعيدة حقاً ، ويفرك عينيه ، وكانه لا يكاد يصدق ما تشاهدان ، احقيقة ما يراه ام طيف منام ؟ ولكن النار ما زالت تظطرم . وما زال لهيبها يسطع في الاجواء بنور ابيض ، لطيف ..
ويقول موسى لزجه التي تعاني ، وقد اخذ يفرك يديه ، بانفعال :
{ امكثوا اني انست نارا ، لعلي اتيكم منها بخبر ، او جذوة من النار لعلكم تضطلون .. }
ويحث موسى خطوه الى النار الملتهبة ، بسرعة الولهان ، وسرعان ما يصل الى { شاطئ الواد الايـمن في البقعة المباركة من الشجرة } وينظر الى النار . انها لنار عجيبة حقاً ، فيغفر فاه دهشاً !..

ويكرر موسى الى النار النظر ، ويعيد ، .. انها تلتهم من العوسجة الاغصان والاوراق ، اما الجذع فمخضوضر يانع ، وكأن بينه وبين النار المشعشعة حائلاً !. ويتأملها برهة ، كالمصعوق ، .. فهي ، بالاضافة الى ذلك لا تتغير ابداً ، فلا لهيبها يخبو ، ولا اضطرامها يزداد . انها على حال واحد لا يتغير ، .. فهي اشبه ما يكون بالنور بال هي نور لا نار !..

وتتعلق بهذا النور الشفاف ، عينا موسى ، مأخوذ !.. ويقطع دهشته صوت ، لا كالاصوات ، ينبعث من قلب هذ العوسجة الغريبة ، بناديه باسمه : { اني ربك فاخلع نعليك ، انك بالواد المقدس طوى } فيتمثل للامر موسى ، وقد ارتعدت فرائصه لهول المفاجأة

التحدي العظيم، وتفوّق موسى :

ونزل فرعون بعظيم أبّهته وجلاله، يحيط به سادة المملكة وأشرافها، ويتبعه السحرة أفواجاً، وهم يحملون عصيّاً لهم، وحبالاً!.. وتتجه بهم العربات الموشاة بالذهب إلى الساحة الكبرى في المدينة التي أعدّت لاستقبال فرعون مصر، فرفرفت حولها رايات كثيرةٌ، وزينة ذات ألوان... واحتشد حولها خلقٌ من المصريّين، عظيمٌ. توافدوا من كل أقاليم مصر، وأطرافها.. إنّها لمناسبة يضن (أي:يبخل) بمثلها الزمان. فهي حدث العصر الضخم، وحديث الدنيا كلها!..

ويصل فرعون ورهطه..

وكان موسى وهرون لهم بالانتظار!. إنّ لهذا اليوم ما بعده!..

وانتهى إلى مسامع موسى وأخيه تهامس السحرة فيما بينهم، كالنجوى:

- مالهذين الساحرين العالمين، يريدان إخراجنا من أرضنا بسحرهما، والذهاب بطريقتنا التي تعارفنا عليها أسلوب حياة، ونظام عيش. والتي هي بالنسبة لنا، الفُضلى والمثلى؟!..

فيحذّرهم موسى: {.. ويلكم، لاتفتروا على الله كذباً، فيُسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى!}.

ويلتفت كبيرهم إليه، قائلاً: مالهذا جئناك ياموسى، أنلقي نحن، أم تكون أول من ألقى؟

فأجابهم: {بل ألقُوا!..}.

وتقدم كبير السحرة فألقى عصاً كانت بيمناه، فإذا هي {يخيّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى،..} وأتبع ذلك بحبل كان على كاهله، فألقاه، فإذا هو حيةٌ أعظم من الأولى، وأدهى!.

ثم أشار كبير السحرة إليهم، أن ألقوا!.. فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا بالساحة تموج بالحياة، من كل شكل، وبالثعابين، تتحوى، وتتلوّى!...

فتهلّل وجه فرعون، وقد ترنّح عطفاه، فاهتز طرباً، وصفق بيديه مستبشراً!.. وصاحت الجماهير المحتشدة، وهتفت لفرعون، ومادت الارض بالجموع النسوى (أي السكرانة).

شاهد ذلك كلّه موسى،.. فأوجس خيفة مما رأى!.

وأوحى الله الى نبيِّه في غمرة المفاجأة:

{.. لاتخف انك أنت الاعلى!. وألق مافي يمينك...}

فانتفض، كمن أفاق من سهوته، وألقى عصاه،.. فاذا هي حيّة، لاكالحيّات، وقد أخذ جسمُها ينتفخ ويتعاظم، حتى صارت ثعباناً مهولاً، تقدح عيناه بعظيم الشرر، ولفحيحه صوت هادر، وقد تدلّى لسانه من بين شدقيه الهائلين، متحرّكاً يمنةً ويَسرة، وكأنه يتوعّد بالخطب الجلل. وانبرى إلى الحيّات الساعيات أمامه، وهي مئات، فبدت أمامه، لضخامة هيكله، وكأنها الديدان الحقيرة... وأخذ بالتقامها الواحدة تلوَ الأخرى!..

وكان الثعبان يتلفَّتُ، هائجاً، إلى المتحلّقين حوله، فتمتلئ قلوبهم رعباً.

ويدمدمُ فرعون، وقد أخذ الخوف منه مأخذاً عظيماً، يالهذه الداهية النكراء!..

ويلتفت كبير السحرة، وكان أعمى، إلى ساحرٍ آخر بجانبه قائلاً:

- ويحك!.. ماالخطب في ماترى؟..

فوصف له مايحدث، وقد بان الخزي على وجوه السحرة، فهم لما يشاهدون منكرون، وقد ظهر موسى وأخوه عليهم ظهوراً بيّناً!..

- ثكلتك أمُك لما أسمع!.. تأمّل جيداً هذا الثعبان، فهل يكبر جسمه ويعظم حجمه عند التقامه الحيات، أم أنه يبقى على حاله، لايتغير أبداً؟.

- بل يبقى على حاله، أبداً!.

إيمان السحرة وآخرين :

فأطرق كبير السحرة برأسه قليلاً، ثم رفع رأسه، متوجّهاً الى السحرة، صارخاً بهم:

- ويحكم ياسحرة مصر!.. إن ماترون، ليس بسحر كسحركم، ولكنّه الحق أتاكم من ربكم،.. فتوبوا إلى بارئكم، وأقلعوا عمّا انتم عليه من الضلالة والغواية، وعبادة فرعون، وآمنوا بالحق الذي أتاكم به موسى.

{فألقى السحرة سُجّداً، قالوا: آمنّا بربّ هارون وموسى!}.

وكان الثعبانُ قد أتى على الحيّات جميعاً!.

ومد موسى يده إليه، فتناوله، فإذا هو، كما كان، عصا!.

ونظر القوم بعضهم الى بعض محملقين، وكأنهم كانوا تحت وطأة كابو رهيب!.. فثارت، عند ذلك ثائرة فرعون، وتغيّرت سحنته (اي: هيئته) فبدت دكناء،.. وعلا صوته، كالعاصفة المجلجلة، متهدّداً السحرة، ومتوعّداً أياهم، فهم، بزعمه، قد تواطأوا عليه، وعلى حكمه، مع موسى،..

وأمر بالقاء القبض عليهم، وخاطبهم، فأسمعوه من القول مالايرضى!.. ثم امر بهم، فصلبوا، بعد أن عذّبوا عذاباً نكراً!..

وانصرف موسى.. وتبعه خلق كثير ممن آمن به واهتدى.. ولم يهنوا، ولم يضعفوا، بل صبروا على ماأصابهم من فرعون من عظيم الكيد والأذى!..

وبدأ موسى يسُنّ لجماعته سنن الدين القويم،.. وكان أول ماقام به التوجه لعبادة الله وحده، والإيمان به خالق كل شئ، بيده الملكُ، وهو على كل شئٍ قدير...

وأمر جماعته بالصلاة!.. فبالصلاة يعرف مؤمن من غوي!.. على أن يتوجه المؤمن منهم لجهة منزل أخيه المؤمن، يتخذه قبلة له، يصلي اليها. وكان قصر فرعون قبل ذلك كعبة المصلين، وقبلتهم، إليه يتجهون في صلواتهم، فحرم ذلك عليهم موسى!.. وازداد أذى فرعون، وعظم كيده، وعمت بلواه المؤمنين، فلا طاقة، بعد، ولااحتمال. وأقبل إلى موسى رهط من بني اسرائيل يتذمرون، - فإلى متى هذه المحنة السوداء؟.. - وأسمعوه من القول مالايحب، عندما {قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عيسى ربكم أن يُهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الارض..}.

ويأمركم أن يستعينوا بالصبر، وبالصلاة، وبالتوجه الى الله تعالى دائماً!..

ويبقى المؤمنون من بني إسرائيل وبعض المصريين المستضعفين، يحتملون من العذاب والأذى مالايطاق! ويبقى فرعون سادراً في غيّه، وعلى ضلاله القديم، عتوّاً وطغياناً..

ويصل به الأمر أن يأمر هامان -وكان له وزيراً- ببناء صرح، له، عظيم، يناطح أعالي الأجواء، لعلّه يطلع إلى إله موسى، ونادى في جمع كبير من انصاره المصريين: {ياقوم:.. أليس لي ملك مصر، وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم انا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين!.}.

واتبع فرعون من أساليب ال***** وفنونه، والتنكيل وضروبه، مالم يخطر ببال!.. وصبر جماعة موسى على ذلك كله صبراً عجيباً، ابتغاء رضوان الله ومثوبته، واحتساباً!. فما ازدادوا إلاّ إيماناً وتسليماً!..

بطش فرعون بخصومه :

ويطفح الكيل بالنسبة لفرعون، أخيراً.. بعد أن لم تجد كل أساليبه نفعاً!. فيعزم على أمر خطير، يحسم الأمور، ويضع لها حداً نهائياً!.. فيقرر *** موسى!...

ويشيع الخبر بين الخاصة من رجالات البلاط، فيتكتّمون. ويسمع بذلك أحدُهم، فيقبل عليهم وهم مجتمعون صارخاً فيهم بلاذع التأنيب.

{.. أت***ون رجلاً أن يقول ربي الله؟..}.

ويحذرهم مغبّة ماهم عليه مقدمون، ويخوّفهم عذاب الله، وأخذه الشديد. مذكراً إياهم بأيام الله الماضيات، وبأقوام قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرّس، وطسم، من قبل، وجديس، عتوا عن آيات ربهم، واستكبروا، فأخذهم الله بذنوبهم، ودمّرهم تدميراً، فتلك ديارهم خالية منهم، فهي قفر بلاقع!. (ج، بلقع: لاحياة فيه).

ويدعوهم إلى نبذ ما هم عليه من عبادة فرعون، الذي أضلّهم، فما اهتدى، ولاهدى، والايمان بالله وحده الذي {له مافي السموات ومافي الارض ومابينهما وما تحت الثّرى!..}.

فترتفع أصوات المجتمعين ثائرة بوجهه، ويامر به فرعون، في***ه شر ***ة!.

إنّه مؤمن آل فرعون، على رأس قافلة الشهداء أيّامذاك!..

وتعلم آسية بالأمر، فتثور، معلنة براءتها من ظلم زوجها، وطغيانه وعتوه، وإسرافه على نفسه وعلى الناس الذين حوله أجمعين، وتتوب إلى الله خالقها، كي يغفر لها خطاياها، كما تاب قبلها سحرة فرعون فغفر الله لهم خطاياهم، وما أكرههم عليه فرعون من السحر. وجعلهم من عباده المكرمين. ويمسك بها فرعون، ويأمر بها الى أشد العذاب.. ويتلوى جسدها الغض تحت سياط ال***** المبرّح. فتتمتم: {.. رب ابن لي عندك بيتاً في الجنّة، ونجّني من فرعون وعمله..}.

وتُغمض عينيها، وقد أغمي عليها، ثم تفتحهما، وتنظر إلى السماء، فتبتسم سعيدة بما ترى: لقد استجاب الله لها دعاءها، فأراها قبل انطفاء أنفاسها، قصراً يتلألأ في العُلى.

ويجن فرعون، مما يرى، جنوناً.. ويقول لأصحابه:

- أترون؟.. إنّها مجنونة، فهي تبتسم تحت العذاب الشديد!.

ثم لاتلبث أن تلتحق بركب أمراء أهل الجنة، الشهداء السُعداء، الأبرار الأخيار!..

ويزداد فرعون تصميماً!.. فبقطع الرأس، يتلاشى الجسد.

وموسى رأس هذه الحركة، وهو المخطط والمدبّر والمنفّذ معاً!.

فب***ه، ينتهي كل ماقام به وكأنه عاصفة في فنجان. وتعود بعد ذلك الأمور الى سابق عهدها القديم. ولكن،.. هيهات، هيهات، {.. إنّ أجل الله لآت} و{إنّه لايُفلح الظالمون!}.

آيات وإنذارات :

ولايترك نبي الله موسى مناسبة تمرُّ دون أن يدعوَ فرعون وملأه إلى الإيمان بالله، بالحسنى، والقول الطيِّب، ويرغب موسى فرعون، كالمكافئ له إن آمن، فهو يضمن له، على الله، دوام ملكه لاينقُصُ منه شئ، وصحته، لايصيبها شئ، وأن ينسأ بأجله (أي يطيل عمره) إلى الضعفين، ولامن مجيب!.. بل لجاجة في الطغيان، وفي العمى.. {فإنّها لاتعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فيحذرهم موسى سوء المصير، ووخيم العواقب، فلايرعوون، بل يزدادون عتواً ونفوراً.

وتكرّ سبحة العذاب :

وكان أول إنذار من الله لهم، نقص في الاموال، والانفس، والثمرات.. فلم يعُد نهر النيل، كما كان يفيض خيراً عميماً، وبركة وعطاء جمّاً، بل شحّ ماؤه، ونضب عطاؤه. فعمّ القحط والجدب البلاد. ثم لاتلبث السماء أن تفيض عليهم بالمطر الغزير يهطل مدراراً دون انقطاعٍ، فيأتي الطوفان، ويعمُّ ضررهُ البلاد والعباد..

ويرتفع إذ ذاك صوت آل فرعون، والمصريين، ويُقبلون على موسى مستصرخين، مستنجدين، مولولين، يجأرون مستغيثين:

- {.. ياموسى.. ادعُ لنا ربُّك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا الرجز (أي: العذاب). لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل}.

- أحقاً ذلك، وعهداً؟..

- إي وربِّ بني إسرائيل!

فيرفع موسى يديه الكريمتين إلى السماء داعياً، فيستجيبُ له الله الدعاء.

وتمضي أيام، وتكُرُّ أعوامٌ،.. فيتدفَّقُ نهرُ النيل، كما كان، يحملُ الخِصبَ لأرض مصر، ويهب لها الحياة فمصر هبة النيل!. وتخضوضرُ الأرض، وتزهو بيانع النبت والثمر، وتضحك الجنائن عن متألّق الزهر، وكأنَّ شيئاً لم يكن!.

ويُطالب موسى القوم بالوفاء بوعودهم، فيستهزئون به، وهم ناكثون!.

{فلما كشفنا عنهم الرجز الى أجل، هم بالغوه، إذا هم ينكُثون}. ويزدادون كفراً.

ويغضب موسى. ويغضب لغضبهِ اللهُ!..

فأرسل الجراد عليهم، يأتي على الأخضر واليابس. فإذا بأرضهم يباب موات!. ثم سلط عليهم القمل، فلم يهنأوا في رُقاد، وقد أقضَّ مضاجعهم، وهو ينهش بجلودهم نهشاً. ثم نغَّص الله عليهم حياتهم بالضفادع، فكانت تمتلئ بها بيوتهم، وأماكن تواجدهم، وأواني طعامهم وشرابهم، حتى أنها كانت تتغلغل بين ملابسهم..

وكانوا في كل مرة، كما في الأولى، يستصرخون موسى فيصرخهم (أي: يلبّي نداءهم وينجدهم) فيعدونه ويعاهدونه، وكانوا، عندما يرفع الله عنهم الرجز بدعوة موسى، ويبعد عنهم العذاب، يعودون لغيّهم، وضلالهم وقد نكثوا عهودهم وأخلفوا وعودهم!. ويُختم هذا البلاء بالدم الرعاف من أنوفهم، فاصفرت ألوانهم وبهتت هيئاتهم..

ثم، بالدم يلاحقهم عند كل مشرب هم واردوه!..

يكون الماء في الكأس، أو غيره، أمام أحدهم صافياً زلالاً، كالفضّة السائلة، وما أن يرفعه ويقدمه إلى فيه ليشرب، حتى يتحول الماء دماً عبيطاً!.. فيعافه، ويبقى على ظمئه عطشاناً..

حتى أن المرأة من بني اسرائيل، كانت تتناول الماء بفيها، وتزقّه فم المرأة الفرعونية، كالطير يزق فرخه، فيتحول في الفم الآخر دماً،...

ومرة أخيرة يستصرخون، مظهرين الندم، قاطعين الوعود، مشهدين إله موسى وبني إسرائيل على صدق دعواهم، هذه المرة، فيصرخهم موسى، ويرفع الله عنهم هذا الرجز المرير، وهو الذي يُمهل ولايهملُ!.. ولكنّ نزعة الشرِّ كانت قد تمكنت في نفوسهم، وتأصّلت، وتجذرت حتى عميق الأعماق. فلم يحاولوا الإقلاع عمّا أدمنوا عليه من السجايا القباح!. بل عادوا لما كانوا عليه من نكثٍ ونُكرانٍ، وجحودٍ، وتكذيب بآيات الله واستهزاءٍ برسله وبالمؤمنين...

{وقالوا: مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين!}

ويعود موسى فينذرهم إنذاراً نهائياً، لاعودة منه، فذهبت صرختُهُ أدراج الرياح. فييأس منهم موسى، ويقطع من إصلاحهم كل أمل ورجاء.

ولشدة مالاقى منهم من عنت ومن قهر، يدعو الله أن يطمس على اعينهم ويشد على قلوبهم، {فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم}.

فيستجيب الله لنبيّه دعوته!...

- {أفبعذابنا يستعجلون؟}.

خروج موسى وجماعته من مصر وغرق فرعون وقومه :

ويهبط الوحي على موسى، يأمره وقومه، أن يتأهبّوا لمغادرة ارض مصر، فليس لهم بعد اليوم فيها مقام. فخرج معه نفر من المؤمنين، وتخلّف آخرون!...

وسخّر الله على مدينة فرعون ريحاً عاتية، ألزمتهم منازلهم ثلاثة أيام لم يستطيعوا الخروج منها. وفي اليوم الرابع تفقّد جند فرعون بني إسرائيل، فوجدوهم قد غادروا المدينة، لم يتخلف منهم إلاّ القليل. وعلم فرعون بالأمر فاستشاط غضباً وحنقاً، مقسماً على الانتقام منهم، فستنالهم يداه، مهما بعدوا عنه، هرباً!.

- فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون. وإنّهم لنا لغائظون. وإنّا لجميعٌ حاذرون}..

واتّبع بني إسرائيل، فأنّي لهم أن يُعجزوه طلباً!... وأمر الله موسى أن يتبع اتّجاه الرياح، ففعل!.. وعجب بنو إسرائيل من هذه الطريق الغريبة يسلكها بهم موسى، وهي بمنأى عن دُروب القوافل والمسافرين.

وماهي إلاّ ساعات، حتى كانوا أمام البحر وجهاً لوجهٍ. فعلا صراخهُم، واحتجاجهُم، وتذمُّرُهُم، وقد دخل الشكُّ قلوبهم، فلم يغادرها، ولن!.. فاستمهلهم موسى، داعياً إياهم -كما في كل مرة- إلى الصبر والأناة. فإلى الله الرجعى!..

وتراءَت لهم جيوش فرعون من بعيد، يملأون الأفق عدّة وعدداً.. فأيقنوا بالهلاك، وساد صفوفهم هرج ومرج، وذعُر وصخب. وأحاطوا بموسى، يلومون:..

- أإلى الهلاك تقودُنا ياموسى، هانحنُ أولاء بين البحر وفرعون، فأين سدادُ رأيك،؟.. بل أين ماوعدّك ربُّك يا موسى؟..

ويعود يدعوهم إلى مزيد من الصبر والتوكُّل على الله، فهو منجيهم، ولن يروا، بعد اليوم، من فرعون وجنده أحداً!..

ويرتفع صوت ظريف منهم، بخبثٍ: الحقَّ تقول ياموسى. فبعد هلاكنا على أيديهم لن نرى منهم أحداً أبداً

ويجيبه موسى: بل الله مهلِكهُم جميعاً!..

{ فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون. قال كلاّ إنّ معي ربي سيهدين}.

وعندما غربت الشمس، أرسل الله مايشبه السحابة المضيئة، وكأنها تلتهب. فانتصبت في الجو كعمود من نار ونور آضاء كل شئٍ. فبدّد غياهب الظلام، وموسى وقومُه واقفون أمام البحر حيارى. بوجومٍ وذهول!..

{ فأوحينا إلى موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}.

وكانت المعجزة.. وقد انشق البحر عن اثني عشر طريقاً!..

وعلت مياه البحر المتجمّدة فكانت كالجبال الثوابت، وتقدّم موسى قومه يسلُكُ بهم هذه السبل العجيبة، عابرين إلى الضّفّة الثانية، وقد جعل الله في هذه المياه المتجمدة العالية مايشبه الكوى (جمع. كوّة). فكانوا يشاهدون بعضهم بعضاً، وهم يعبرون، وكانوا يتحادثون مستأنسين!..

وتبعهم فرعون بجنوده مقتفياً آثارهم في البحر المنشقّ لهم، وقد علت أهازيج جنده وصيحاتهم. ظناً منهم بأنّ البحر انشق لفرعون بقدرته!. وكان بنو إسرائيل قد اتمّوا عبورهم إلى الضفة الثانية. وإذا بصوت كالرعد القاصف، فالتفتوا خلفهم، فإذا بالبحر قد أطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين! ولما أيقن فرعون بالغرق، قال {.. آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي لآمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}. ويجيبه صوت: آلان؟.. بعدما فات الأوان، فلا إيمان لمن فاته- في ماسلف من عمره- الإيمان!.. واتجه موسى ببني إسرائيل، وجهه الديار المقدسة، مشرقين، مخلِّفاً وراءه جيش أعدائه في اليم غرقى. وقد قاء البحر جثة فرعون إلى الشاطئ. فهذه نهاية كل متكبر جبار لا يؤمن بيوم الحساب!.

ويشاهد الخلقُ جثة فرعون ملقاةً على الشاطئ، سليمةً، وقد بدأ يدب فيها الفساد ويسرع إليها النتن، فيقول قائلهم:

- أين ألوهيتك يافرعون مصر؟ وأين عزتك القعساء؟ وأين سلطانك والكبرياء؟ إنها حكمة الله التي أبت إلاّ أن يظهر الحق جلياً كفلق الصبح.

{فاليوم نُنجِّيك ببدنك لتكون لمن خلّفك آية}.

ويحملون الجُثة عائدين بها إلى عاصمة الفراعنة. ويحنطونها، كي تبقى أبد الدهر شاهدة على وحدانية الله الواحد القهار، وأخذه مدعي الربوبية أخذة رابية!. بالمناسبة. فقد اختلف بعض المؤرخين حول شخصية فرعون مصر، فرآه بعضهم أنه فرعون آخر غير رمسيس، الذي نحن بصدده،... ويأبى الله إلاّ إظهار ساطع برهانه فهاهي ذي جثة الفرعون الآخر هذا، لازالت محفوظة بالتحنيط، ومسجاة إلى جانب جثة رمسيس، آية من الله لأولي النهى، وعبرةً لمن أبصر فوعى.

مما دعا بعض كبار علماء الآثار الغربيين إلى الإسلام انطلاقاً من الآية السالفة.. فأياً كان منهما، صاحب موسى، الذي ادّعى الألوهية... فها هي جثته معروضة لكل ذي عينين، أو ألقى السمع وهو منيب!..

ميقات موسى وردّة بني إسرائيل :

ومر بنو إسرائيل على قوم يعكفون على أصنامهم (يحيطون بها) يعبدونها من دون الله. فانقدح الشك في قلوبهم، وحنّوا إلى قديم وثنيّتهم، وقالوا لنبيّهم موسى:

- {.. ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ. قال: إنّكم قومٌ تجهلون. إن هؤلاء متبّرٌ (أي: مدمّر) ماهم فيه وباطل ماكانوا يعملون}.

والحّوا عليه، فصاح بهم: {أغير الله أبغيكم ربّاً وهو فضّلكم على العالمين؟..}.

وسأل موسى ربّه كتاباً يكون نوراً لبني اسرائيل، وهدى. لهم، لقلقهم، وما فطروا عليه، من العناد والعصيان لايكادون يستقرّون على الرأي الحق، ولمّا يدخل الايمان قلوبهم، بعدُ!.. فيأمره ربُّه بالطهور والصيام، ويواعده أربعين ليلة، يكلّمه بعدها، ويناجيه.

ولكن موسى كان على عجلة من أمره فقبل أن يتم أربعين ليلة كما واعده ربُّه اختار من قومه سبعين رجلاً صالحاً، وسبقهم إلى طور سيناء، بعد أن استخلف أخاه هارون على قومه، موصياً إيّاه بالصلاح فيما بينهم والإصلاح، مشدداً عليه: {اخلفني في قومي، ولاتتبع سبيل المفسدين}.

ويسأل الله نبيّه عن سبب استعجاله دون قومه:

- {وما أعجلك عن قومك ياموسى؟.}

فيجيب: -{هم أولاء على أثري. وعجلت إليك ربِّ، لترضى}.

ويأبى الله إلاّ أن يُتم ميقاته (أي: ميعاده) فعاد موسى، فأتمَّ عشر ليالٍ أخريات، حتى تصرّمت (أي مضت وانقطعت) أربعون ليلةً تماماً، كما قدّر الله لذلك وقضى!. وعاد موسى إلى ميقات ربِّه مسرِعاً، وقدماه تنهبان الأرض نهباً، لفرط حنينه للقاء مولاه، وولهه، وشدة شوقه وشغفه.

ويستبدُّ بموسى الشوق الشغوف، ومبرّح التوقِ، والوجدِ، والانجذاب،.. فيسأل ربّه شيئاً عظيماً، أليس هو أقرب خلقِه إليه، يحادثه، ويكلِّمه، ويناجيه، بصفاءِ محبةٍ، ومحضِ وَدادٍ؟..

لنستمع إليه تعالى يقصُ علينا هذه الطُّرفة:

{ ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلّمه ربه، قال: رب أرني أنظر اليك. قال: لن تراني. ولكن انظر الى الجبل فان استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربُّهُ للجبل جعلهُ دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال سبحانك، تبت إليك، وأنا أول المؤمنين}..

ويتوب الله على موسى، وقد تجرأ على طلب ماليس له بحقٍّ، وما لاقُدرة له عليه، ولا احتمال!.. ويُناوله الألواح فيها أحكام كل شئٍ مفصّلاً، وموعظةٌ، وهدىً، ورحمةً لبني إسرائيل. ثم يخبرهُ بأنّ قومه ضلُّوا، وقد فتنهُم "السَّامري"، {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً!}. وإذا بهم متحلِّقون حول عجلٍ من ذهبٍ، يهزجون حوله، طربين، متعبِّدين. فعلم أنهم بالفتنة سقطوا وأقبل عليهم موبخاً ومؤنّباً، وثار غضبه، وفار.. وألقى الألواح المقدَّسة التي كان يحملها إليهم، أرضاً، فتحطَّمت، فاشتعل غضباً، وتميَّز غيظاً،. {فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً؟..}.

ووقعت عينُه على أخيهِ هرونَ، فأسرعَ إليه معنِّفاً، ممسكاً بشعره الكثِّ، ولحيتِه الطويلة، يجرّه بها إليه جراً عنيفاً، فصرخ هرون من فرط جزع وفزع:

{.. قال ابنَ أُمَّ، إن القوم استضعفوني وكادوا ي***ونني، فلا تُشمت بي الاعداء ولاتجعلني مع القوم الظالمين}.

فرجع موسى إلى نفسه، {قال: ربّ اغفر لي، ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحمُ الراحمين}.

وأيقن من جليّة الأمر، فقد عصى القومُ هارون الذي حذّرهم من مغبّة الوقوع في الفتنة، وعصيان خالقهم، وماكان بقاؤه فيهم على ماهم عليه من التمرد، والنفاق، والزيغ (أي: الميل إلى الباطل) إلا حفاظاً على وحدتهم، ولمِّ شعثهم.

والتفت موسى إلى "السامريِّ": فما الأمرُ؟..

ويجيب السامري: لقد شاهدتُ مالم يتسنَّ للقوم أن يشاهدوه، فقبضتُ حفنةُ تراب من أثر الملاك جبريل، وجمعتُ ما يحملُ بنو إسرائيل من حليِّ الذهب، وقذفتُ ذلك كلّه في حفرة، أجّجتها ناراً، وصنعت من ذلك {عجلاً جسداً له خوار}، اتّخذه بعضُ بني إسرائيل إلهاً!..

ورمقهم موسى بعين غضبى، فأطرقوا ندماً وخجلاً!..

ويهبُّ موسى لمعالجة الأمر سريعاً. ويأمرُ بالعجل، فتُرسلُ عليه النار، فتحرُقُهُ، وتفتِّتُهُ تفتيتاً، وتهب ريح تذروه في البحر، هباءً منثوراً..

وأمر بالسامري منبوذاً، لايدنو من الناس، ولايقربُه الناس، ولايمسُّه أحدٌ أبداً.

وأمر قومه بالتوبة، و*** أنفسهم، ولعلَّ المقصودُ بذلك كسرَ حدَّتها، وكبتَ شهواتِها، وكبح رغائبها، وتطهيرها وتزيكتها، ففعلوا ماأُمرُوا به، وتاب الله عليهم جميعاً!..

وعاد موسى إلى ميقات ربّه، من جديد، بعد أن اختار من قومه - كما فعل آنفاً- سبعين رجلاً ولما وصلوا الى الجبل، زلزلت الارض بهم زلزالاً شديداً. فصاح عندئذ موسى متضرعاً وجلاً:

- {.. رب، لو شئت أهلكتهم من قبل، وإيّاي. أتُهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟..}.

فتشملهم رحمة الله،.. وتستقر الارض تحت أقدامهم، وتهدأ، فيهدأون!..

وعاد موسى يدعو قومه الى اجتماع ليبين لهم ما أنزل الله من أحكام إقامة صلاة وتأدية زكاة، وكانت الدعوة أمام سفح الجبل، فلم يسمعوا له قولاً. فتزلزل الجبل فوقهم، وتناثرت حجارته عليهم، فسمعوا عندئذ قول موسى!..

التيـــه :

ويقود موسى قومه إلى أرض الميعاد في فلسطين، لعلهم يلقون فيها عصا ترحالهم، بعد عنائهم الطويل ويصيبهم في الطريق الظمأ، فيصرخون: ياموسى.. الماء، الماء!..

{وأوحينا الى موسى إذ استسقاه قومه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم!}. فارتووا!..

وكان هجيرٌ قائظ، فأرسل الله فوقهم الغمام، يظللهم من لفح الشمس، ويكسر حدة الرمضاء. ثم أدركهم الجوع، فصاحوا: ياموسى.. الطعام، الطعام، فأرسل الله لهم المنّ والسلوى، {كلوا من طيبات ما رزقناكم}، دون طغيان، ولا جحود ولاكفران!..

وتابع طريقه موسى، ووجهة سيره "أريحا" لمواجهة من فيها من عتاة الكنعانيّين والحثّيّين. فاستسلم بنو إسرائيل إلى خور العزيمة، ودبّ فيهم الوهن، وقالوا:

- {.. إنّ فيها قوماً جبّارين. وإنّا لن ندخلَ حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون!}.

فهاله ماهم عليه من التقاعس، والجبن. وأخذ يحبب إليهم القتال في سبيل الله ويرغّبهم بالجهاد، فكان كمن ينفخ في رماد، أو، كمن يصرخ في وادٍ!..

ثم صارحوه بجليّ أمرهم، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ، ولؤم طباعٍ:

- {.. ياموسى، إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، أنّا ها هنا قاعدون}.

فأيقن عندئذٍ موسى بأن قومه قد غرقوا في بحر الضلالة والخذلان، والعصيان، والغيّ الموفي بأهله على النار، فرفع بصره الى السماء، وقلبه يكاد يتفطّر قائلاً: {ربّ، إنّي لاأملك إلا نفسي وأخي}. نافضاً يديه منهم أجمعين!..

وكان جزاء تقاعسهم، وخور عزيمتهم، أن ظلّوا يتيهون في (أرض التيه)، حيارى، لايهتدون إلى معالم طريق، مدة أربعين سنة، هلك خلالها كل هذا الجيل المتهاوي، المتهالك على نفسه، الذي ما أن يؤمن حتى يعود إلى الكفر من جديد،.. لينهض على أنقاضه جيل منيع عزيز،.. لايسأم الجهاد، وركوب متون (أي: ظهور) الحرب والقتال!..

وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد :

ولما شعر موسى(عليه السلام) بدنّو أجله، نظر في أمور قومه، فأحسن تنظيم أوضاعهم، خاتماً فيهم رسالته ناظراً بعين الغيب إلى نبيٍّ جديد، يرسله الله إلى أهل مكة ومن حولها فيخرجهم من الظلمات الى النور!..

ثم غادرهم، وهم عنه غافلون، تجرّهُ قدماه في عمق الصحراء، وخيالهُ يلتهب بذكريات، وما أكثرها.. ومعظمها لاسع كالجمر المتّقد. وفيها كل غريب وطريف، فهي لاتبرح خياله أبداً.

وإن نسي، فلن ينسى منها ثلاثاً:

- الأولى: قصته مع الخضر: وسبب ذلك، أن نفس موسى حدّثته يوماً بأنه أعلم من على وجه الأرض، إنساناً! فصدّقها، وجاراها في دعواها. أليس هو نبيّ الله، وكليمه، ورسوله. فمن أقرب إلى الله من موسى؟. فاوحى الله تعالى إليه: إنّ من عبادي من هو أوسعُ منك إحاطةً، وعلماً!..

ويسأل موسى ربّه مستغرباً، من هو ياسيّداه؟

فيجاب: أنه عبدي الصالح، عند (مجمع البحرين).

فيشدُّ إليه موسى عصا الترحال، يبتغي مقابلته، والتعلُّم منه. وقد اصطحب معه فتاه، ويجتمع موسى بالعبد الصالح هذا،.. ويرى على يديه خوارق ومعجزات لا يستطيع الانسان العاديّ إلاّ إنكارها. وكذلك فعل موسى!..

وفي نهاية المطاف -(كما ورد في سورة الكهف، الآيات: 60-82)- يشرح الخضر لنبي الله موسى حكمة الله من كل ماقام به من تصرفات. إنّه التأويل لبواطن الأمور، لاتفسير ظاهرها!... ويشعر موسى بضآلة علمهن وهو النبي المجتبى، أمام ما أوتيه العبد الصالح حكمةً وعلماً!..

- الثانية: قصة بقرة بني إسرائيل: وكان ذلك عند ماقُتل أحد رجالهم، ولم يعرفوا قاتله. فأمرهم الله أن ي***وا بقرة -(كما ورد في سورة البقرة. الآيات: 77-83)- وأخذ بنو إسرائيل يستقصون من نبيّهم موسى عن ماهيتها، وصفاتها، ولونها.. لجاجاً منهم وعناداً! واهتدوا بعد لأيٍ (أي: جهد ومشقة) إليها، ولم يستطيعوا ابتياعها، إلاّ بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب، كبيراً... يُضاف إلى ذلك جدهم في طلبها، حيرتهم، حتى اهتدوا إليها، بعد شهور طوال، من التفتيش والتنقيب، ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله، وسلّموا إليه إمورهم، وتخلّوا عن لجاجهم وعنادهم، لوجدوا في أي بقرة تقع عليها أيديهم، مايفي بالغرض المطلوب!.. ولكنه العناد الحرون، والفطرة على الشقاق والنفاق، وسيّئِ الأخلاق!.

- الثالثة: قصته مع قارون:

وهي الأدهى، والأمرُّ! فقارون، تربطه بنبيّ الله موسى وشائجُ دمٍ، وقربى رحم. وكان قارون أغنى أغنياء بني إسرائيل. فله من كنوز الذهب ماتنوءُ بحمل مفاتيح خزائنه عصبة من الجمال شديدة القوى، فكفر برسالة موسى، وجاهره العداء، وألَّبَ عليه الأعداء، باذلاً في سبيل ذلك الأصفر الرنان!: (كما تقص علينا سورة القصص. الآيات: 76-83) وتمنَّى بنو إسرائيل أن يؤتوا مثل ماأوتي قارون، فكأن الله قد أفاض عليه من الذهب نهراً لاينضب. ونسُوا، وهم دائماً ينسون، أنّ رحمة الله خير من كل ذلك وأبقى!

وانتظر بنو إسرائيل قارون، حتى خرج عليهم، يوماً، في زينته، فانبهرت أبصارهم بها، وانشدهت بصائرهم، {إنّ هذا لشئٌ عُجاب!..}. ونسوا كل شئ، فهم مأخوذون بهذه الفخامة من الزينة، والبهرج، يملآن عليهم الأفئدة، والأبصار، والأسماع!..

وبينما هم كذلك، وإذ بزلزالٍ يضرب دار قارون، وإذ بالأرض وكأنها تثور تحت قدميه، فتسيخ، وتخسف بقارون وبداره الأرض، فهو لاينفك متغلغلاً في باطنها كل يوم قامةً، إلى يوم القيامة، فاعتبروا ياأولي الألباب!.. وما أكثر العبر في بني إسرائيل، وأقلّ الاعتبار!..

وقد حال الله بين قلوبهم، وثابت الايمان واليقين، فهم في ريبهم، أبداً، يترددون!

* * *

وتكلُّ قدما موسى، وقد ضرب (أي: مشى) في عمق الصحراء، بعيداً... ولطالما قطعتا به مفاوز، وأراضي ذات آماد، وأبعاد!، وغرائب الذكريات ماانفك يتلو بعضها بعضاً!.

ويتوسد حفنه من رمل!..

فقد آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح، ولهذه الروح الشريفة أن تنطلق في عالمها العلويِّ الرحب، الشريف، اللطيف!..

ويظهر بعد ذلك في بني إسرائيل نبيٌ جديد. إنه يوشع بنُ نون. وكان من مقرَّبي موسى. فيخرجُ بهذا الجيل الجديد منهم، الفتيِّ، المجاهد، من أرض التيهِ، إلى أرض الميعاد في فلسطين، حيث المدنُ، والمزارعُ، والخيراتُ الحسانُ!..

صوت الحق
28-06-2008, 11:18 AM
النبي صالح (ع) صاحب الناقة

ثمود وارثة عاد

اندثرت عاد بالريح الصرصر العاتية، ولم ينج منهم إلاّ من أنجاه الله تعالى. وأورث سبحانه الأرض قوم ثمود أخي جديس بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح(ع)، وهم من العرب العاربة، كانوا يسكنون في وادي القرى بين الحجاز وتبوك، قريباً من شواطئ البحر الأحمر، شمالي مكة المكرمة.

وثمود هؤلاء هم أبناء عم عاد، وكانوا ذوي شأن وتأثير في الحياة داخل الجزيرة العربية، ولاتزال آثارهم أو بعضها إلى اليوم في مايعرف بديار ثمود، أو مدائن صالح، غربي المدينة المنوّرة وجنوبيها حيث توجد البئر المعروفة ببئر الناقة.

عبدت ثمود الأصنام كعادٍ، وكان لهم مايقارب الأربعين صنماً، جعلوا لها بيوتاً يدفعون الناس إليها، ليقدّموا لها القرابين التي كانت تؤمِّن لهم زيادة أموالهم وتنمية ثرواتهم، وكان أكبر تلك الأصنام هو الصنم "ود"، يليه "هبل" و"اللات".

وعمرت ثمود وادي القرى تماماً كما فعلت عاد قبلهم، وقد هبهم الله بسطة في الأجسام وطول الأعمار، ولكنهم كانوا شرسي الطباع، قساة القلوب، خصوصاً بعدما كثرت أموالهم واتسع سلطانهم. إذ أصابهم البطر والغرور، كما أصاب قبلهم قوم عاد، فأفسدوا في الأرض، وبطشوا بالناس، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها عليهم.

وكان لثمود ملك ظالم اسمه جندع بن عمرو، سيِّئ الطباع، قاسي القلب مثلهم جباراً، فجاء إليه جماعة ممن أنجاهم الله من بقايا عاد، وراحوا يعظونه، ويذكرون له ماحلَّ بقومهم إثر كفرهم وطغيانهم، وتجبرهم، وراحوا يصفون له غضب الله الذي حلَّ عليهم، بعد دعوة نبيهم هود(ع) لأنهم رفضوا عبادة الله، كل ذلك وهم يظنون أن جندع سيتعظ بمن سبقه، ويرعوي، ويرتدع عن غيِّه وبطشه، ولكن جندع قال لهم بصلف وغرور أكبر: إنما هلك قوم عاد لإنَّهم لم يكونوا يحسنون بناء البيوت، كما نفعل نحن، فقد كانوا يجعلونها على الرمال، ونحن نبني بيوتنا في الجبال وننحتها في الصخور، وكانوا لايحسنون عبادة أصنامهم والاهتمام بها، وها نحن نعبد أصنامنا كما يجب ونبني لها البيوت ونعيّن لها الخدم، كما أننا نحن أشدّ من عادٍ قوة، ولذلك لايمكن أن تُهلكنا الريح مهما كانت صرصراً عاتية.

رسول الله صالح(ع)

واستخف الملك جندع بن عمرو وقومه ثمود فتابعوه في غيِّه وغروره، ولم يتعظوا بما حلّ بأبناء عمومتهم من عاد، وأصروا على فسادهم وكفرهم، فبعث الله فيهم نبياً منهم هو صالح(ع): {وإلى ثمود أخاهم صالحاً}، فراح(ع) ينهاهم ويعظهم ويجادلهم، ويعدهم ويتوعدهم للرجوع عن ضلالتهم ويدعوهم إلى عبادة الله الخالق المنعم {قال: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}.

وصالح(ع) هو ابن ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح(ع) نشأ وترعرع بينهم في بيت شريف من بيوتات ثمود، وكان أبوه خادماً للصنم "ود" كبير أصنام القبيلة، وتعلَّم(ع) حتى وصل إلى درجة عالية فنمت شخصيته ووهبه الله تعالى من الذكاء والفطنة والحكمة والشجاعة، ماجعله محترماً بينهم مسموع الكلمة سديد الرأي، وهيَّأه ليكون مرجعاً لثمود في الملمات يستشيرونه ويطيعونه فيما يشير به عليهم في معظم أمورهم.

رأى صالح(ع) ماكانت عليه ثمود من الضلال والكفر والطغيان، وفساد التصرف وسوء الأخلاق والمعاملة، والإنحراف في العبادة، فراح يفكر في طريقة لتخليصهم مما هم فيه، فهداه الله سبحانه وأوحى إليه وبعثه رسولاً إليهم: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وراح يذكِّرهم بنعم الله عليهم إبتداءً من نعمة الخالق حتى ماهم فيه من النعيم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوَّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون فاذكروا آلاء الله ولاتعثوا في الأرض مفسدين}.

بعد هذه الدعوة التذكيرية، آمن جماعة من قوم ثمود برسالة صالح(ع) لأنهم عرفوا أنه إنما كان رسولاً نبياً يتمتع بكل صفات النبوة، فهم يعرفون أنه لايكذب، وقد خبروه وهو يعيش بين ظهرانيهم، وهو الحكيم العالم الحصيف، صاحب الرأي السديد الرشيد، الذي كانوا يرجعون إليه في الملمات، ولكن جماعة منهم وهم الكثرة الغالبة، لم يؤمنوا بل غيّروا رأيهم في صالح (ع) ومقتوه بعد أن كانوا يحبونه، واحتقروه وكذبوه بعدما كانوا يصدقونه ويحترمونه، وقالوا: {ياصالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا} أي قبل أن تأمرنا بعبادة الله، وترك عبادة الأصنام، وقبل أن تنهانا عمّا نحن فيه من الإفساد في الأرض والتجبر أما وقد أمرتنا اليوم بترك عبادة الأصنام، ودعوتنا إلى عبادة إلهٍ واحد فإننا أصبحنا نشك في مكانتك التي كانت لك عندنا: {أتنهانا أن نعبد مايعبد آباؤنا وإننا لفي شكٍ مما تدعونا إليه مريب}.

وأخذ صالح (ع) يسرد لهم الأدلة والبراهين على وحدانية الله الخالق ويسوق الحجج على أنه نبي مرسل إليهم من ربهم وأنه لايطلب منهم أجراً على مايقوم به من التعليم وتبليغ الرسالة لهم: {إذ قال أخوهم صالح ألا تتقون. إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وماأسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين}.

ورغم ماكانوا يعرفونه من أن صالحاً صادق في دعوته وأنه كان ذا مكانة مرموقة فيهم نظراً لاستقامته، قبل أن يصبح رسولاً إليهم ورغم إصرار صالح(ع) وجهده في تبليغهم رسالة ربه، رغم كل ذلك، فإن ثمود استكبروا واتهموه بالكذب، ورفضوا اتّباعه وتصديقه: {فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر. أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر}.

ولم يكتفِ المفسدون المستكبرون من ثمود بذلك، بل تمادوا في طغيانهم وغرورهم، وكما اتّهمت عاد نبيها هوداً(ع) بأنه كاذب وساحر، كذلك اتّهم الثموديون نبيهم صالحاً(ع) بأنه كاذب وساحر: {قالوا إنما أنت من المسحَّرين. ما أنت إلاّ بشر مثلنا} فلماذا تكون نبياً ويختارك الله ليبعثك رسولاً إلينا، هذا محض افتراء وكذب.

أما الطيبون العاقلون من ثمود فقد عرفوا صدق صالح(ع) ونبوته، فآمنوا به ودعوا الآخرين إلى الإيمان برسالته. وهكذا انقسم الثموديين فريقين فريق يدعو إلى اتباع صالح(ع) وعبادة الله الخالق، وفريق دعا إلى محاربته و***ه، وأخذ يدبِّر له المكائد، ويحاول تعجيزه وتهزيئه وتعزيره هو ومن آمن معه ويقولون: {اطّيّرنا بك وبمن معك... وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولايصلحون. قالوا تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله ثم لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون}.

وألهم الله نبيّه صالحاً الجواب المنطقي المقنع لو كانوا يعقلون: {قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون}، وتابع المفسدون المستكبرون من ثمود محاولاتهم لصدّ الناس عن الإيمان بدعوة صالح(ع)، فحاولوا تطويقه إعلامياً ومحاصرته إجتماعياً، فلجأوا إلى الإستهزاء به وبمن آمن برسالته وقد استضعفوهم وقالوا لهم: {أتعلمون أن صالحاً مرسلٌ من ربه!؟ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون. قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتم به كافرون}.

وباءت هذه المحاولات كلها بالفشل الذريع، إذ أنجاه الله وحفظه من كيد المفسدين {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لايشعرون}، فتابعوا مكرهم وكيدهم، والله سبحانه يهيئ لهم العذاب، حتى إذا حق عليهم نزل بهم وهم عنه لاهون.

الناقة المعجزة

لم يكترث نبي الله صالح(ع) بأساليب المستكبرين ولم تؤثر فيه أساليبهم الخبيثة الملتوية، وراح يتهددهم ويتوعدهم بعذاب الله الأليم، إن هم أصروا على استكبارهم وكفرهم، وأن الله لن يتركهم هكذا وإن طال بهم الزمن، ومدَّ لهم في الوقت، فإن الله يمهل ولايهمل، وراح ينصح الجماعة إن هم أطاعوا المفسدين منهم اتقاءً لعذاب الله، مذكِّراً إياهم بأنّهم لن يتركوا ليفسدوا في الأرض وهم مطمئنون مرتاحون: {أتتركون في ماها هنا آمنين. في جنّات وعيون. وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيم. وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين. فاتّقوا الله وأطيعون. ولاتطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولايصلحون}.

وأبى قسمٌ كبير من ثمود طاعة نبي الله صالح(ع)، وأصروا على فسادهم وعبادتهم للأصنام، ولم يقفوا عند هذا الحد بل وصلت بهم الوقاحة إلى أن دعوا صالحاً(ع) إلى ترك عبادة الله الخالق، ليعبد الأصنام مثلهم فينزل على رأي الجماعة، ورفض(ع)، دعوتهم قائلاً لهم: {ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير}.

ولما رأى المفسدون المستكبرون إصرار صالح(ع)، وعناده في دعوته الحق، راحوا يسألونه المعجزات قائلين: {ما أنت إلاّ بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصادقين}. فقال لهم(ع): وماذا تطلبون حتى تؤمنوا وتعودوا إلى رشدكم؟...

واجتمع الثموديون في ناديهم وصالح بينهم ثم إنهم أشاروا إلى صخرة قريبة وقالوا: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء حمراء وبراء، لاتشبه النوق، ولها ضرع أكبر من القلال يشخب منه اللبن غزيراً صافياً، ويخرج منها إبن لها مثلها ويصوت أمامنا كما تصوت، إن أنت أتيت بتلك الناقة صدقناك وآمنا بأنك رسول الله.

وراحوا يحدّدون ويدققون في الوصف ظناً منهم أن صالحاً(ع) سيعجز عن الإتيان بهذه الناقة التي يصفون، وبذلك يظهرونه بأنه كاذب فيتفرّق الناس عنه، وتبطل رسالته.

وأدرك صالح (ع) بوحيٍ من الله، أدرك سوء نواياهم، فما كان منه إلاّ أن رجع إلى ربه يسأله، فانتحى ناحية فصلّى ودعا ربه وهو الصادق المخلص، فأوحى الله تعالى إليه، أن سأعطيهم ماسألوا: {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر}.

عندها وقف صالح(ع) وقال لهم: وهل ستؤمنون إن جئتكم بالناقة؟ قالوا نؤمن إذا كان لبنها ألذّ من الخمر وأحلى من العسل، فقال لهم: سخرجها ربي أفتؤمنون... فأخذوا في كل مرة يزيدون صفة أصعب من الصفات التي ذكروها، وهم يخافون أن تخرج فيظهر صدق صالح(ع) ويبين كذبهم هم وفسادهم، تماماً كما فعل اليهود عندما سألهم موسى(ع) أن ي***وا بقرة، وصفها لهم، فتغابوا عنها فراح (ع) يحدد في الصفات وفي كل مرة يأتي بصفة أصعب من الأول حتى ***وها وماكادوا يفعلون.

ظن الثموديون أن صالحاً(ع) لايمكن أن يأتي بالناقة التي وصفوا لأنه لس بمقدور مخلوق أن يأتي بمثلها، ومن الصخرة التي أشاروا إليها، فقالوا لصالح(ع): نؤمن إذا جئت بالناقة كما وصفنا، فقال(ع) شرط ألا يركبها أحد منكم، ولا ترمونها بالحجارة ولابالسهام، ولاتمنعوها من الشرب من بئركم هي وفصيلها، فقالوا لك ذلك..

وماهي إلاّ لحظات حتى كان أمر الله مفعولاً، فاضطربت الصخرة واهتزت، فإذا هي تنشق عن ناقة عظيمة فيها كل الصفات التي وصفوا.. ثم يخرج منها فصيل كأنّه هي، فقال صالح(ع): {هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}.. {هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولاتمسوها بسوءٍ فيأخذكم عذاب أليم}.

ونظر الثموديون إلى الناقة العظيمة، فبهتوا وأخذتهم الدهشة.. بأي قدرة استطاع صالح أن يأتي بهذه الناقة التي تتحرك، من الصخرة الجامدة التي لاحياة فيها!! هذا ليس سحراً ولاكذباً.. ولاشك أن هناك قوة قادرة هي التي خلقت من الصخرة الميتة ناقة حية حقيقية.. وهذه القوة قادرة، بلا شك، على الإفناء كقدرتها على الإحياء.

عقر الناقة وعذاب ثمود

بعد معجزة الناقة، انفسهم الثموديون ثلاثة فرقاء: فريق آمن وأيقن أن صالحاً(ع) نبي مرسل من الله سبحانه وتعالى وفريق أحب الإيمان، أو قُل أراد أن يؤمن لمّا رأى ذلك، ولكنهم خافوا على أنفسهم بطش المفسدين المستكبرين، فآمنوا سراً وكتموا إيمانهم، أما الفريق الثالث، فأصروا على كفرهم، ولم يستطيعوا إدراك كنه المعجزة... وهؤلاء راحوا يتحينون الفرص ليضربوا ضربتهم، بعد أن أسقط في أيديهم وأخرستهم الحقيقة، وشلتهم قدرة الله الخارقة.

وانقضت أيام وأيام، وثمود تشرب من الناقة لبنها الصافي.. فيما تشرب الناقة يوماً من البئر التي كانوا يستقون منها، فتأتي على كل مافيها من ماء، لكنها لم تكن لتقرب البئر في اليوم التالي إذ تترك الماء لهم ليشربوا ويغتسلوا آنيتهم وثيابهم.

ولما كان فريق منهم لم يؤمنوا، وسكتوا على مضض، فقد ظلوا يتحينون الفرص للتخلص من صالح ومعجزته ودينه، وهؤلاء أخذوا يظهرون امتعاضهم وسخطهم، ولم يكن أمامهم إلاّ الناقة، فراحوا يحتجون بحجج واهية وهم يكيدون ويمكرون: فمرة يقولون إن الناقة تشرب البئر كلها ولاتترك لنا ماءً، ومرة يقولون إنها ضخمة تنفر أغنامهم وأبقارهم، وثالثة يقولون إنها ترعى الوادي فلا تترك لمواشيهم ماترتعيه ولذلك ضعفت ماشيتهم وضمرت، كل ذلك في محاولة منهم للتخلص من الناقة، ففي التخلص منها كما يظنون تخلصاً من المعجزة التي ظهر بها صدق نبوة صالح(ع)، فإذا غابت المعجزة كان بمقدورهم تكذيب صالح من جديد والقضاء على الرسالة التي بعثه الله بها.

وقرر المستكبرون من ثمود عقر الناقة سراً، فأوحى الله إلى نبيِّه بقرار ثمود، فجاءهم ووعظهم، وحذّرهم وبيَّن لهم أن الناقة رحمة من الله لهم، فهم يشربون لبنها حتى يرتوون، ولكنهم أنكروا ذلك وجحدوا وراحوا ينظرون بعضهم إلى البعض الآخر باستغراب ودهشة.. كيف عرف صالح بما يبيِّتون.. خصوصاً وأن صالحاً(ع) قد وصف لهم الشخص الذي سيعقر الناقة.

ولم يرتدع المفسدون، بل شكّلوا فرقة منهم ل*** الناقة، وكانوا تسعة هم قدار بن سالف، ومصدع، وأخاه، وحراباً، ورعيناً، وداود خادم الأصنام، والمصرد ومفرج وكثير: {.. تسعة رهط يفسدون في الأرض ولايصلحون}.

رصد هؤلاء التسعة الناقة وكمنوا لها في مكان قريبٍ من البئر، حتى إذا جاءت لتشرب تقدم قدار منها، بعد أن فشل الآخرون في ***ها، وأهوى بسيفه على قائمتيها الأماميتين قسقطت إلى الأرض وهي تصوّت بصوت تجاوبت به أطراف الوادي، ثم وضع مصدع سهماً في قوسه ورماها به في نحرها، فتخبطت بدمائها، وتقدم الباقون فأجهزوا عليها: {كذبت ثمود بطغواها. إذ انبعث أشقاها. فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها. ولايخاف عقباها}.

واجتمع الثموديون فرحين بما آتوا، وكان بينهم رجل مؤمن، فانسلَّ من بينهم، وتوجَّه إلى صالح(ع) وأخبره بالأمر، فتوجّه(ع) إلى مكان الحادث والثموديون مجتمعون هناك، فقال لهم: سيصيبكم عذاب عظيم بما فعلتم إلاّ أن تتداركوا ولد الناقة عسى أن يرحمكم الله، وتراكضوا نحو قمة الجبل، وهناك وجدوا الفصيل مقتولاً.. فما كان منهم إلاّ أن سحبوه إلى جانب أمّه وأشعلوا ناراً وراحوا يشتوون من لحيمهما، فقال لهم صالح(ع): {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} يحل عليكم بعدها غضب الله...

ولم يصدقوا وعيد صالح(ع) لهم بل قالوا: {ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين}.

ليس هذا فحسب، بل راحوا يأتمرون ل*** صالح(ع) وقرروا أن يتخلصوا منه، بأن يضربوه ضربة واحدة حتى لايعرف قاتله ويطلب بثأره، وكمن له جماعة منهم فيهم: قدار بن سالف ومصدع، قريباً من مسجده واستعدوا جميعاً لضرب صالح(ع) ولكن الله كان لهم بالمرصاد فزلزل بهم المكان الذي كمنوا فيه، فانهارت عليه الصخور ف***تهم جميعاً: {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين}.

بعد هذا أمضى الثموديون ليلتهم في خوف وقلق، خصوصاً وأنهم رأوا ماحلَّ بأصحابهم، وكيف نجا صالح(ع) من كيدهم، وأصبحوا ووجوههم مصفرة، فزاد خوفهم وقلقهم، وباتوا ليلتهم الثانية فأصبحوا ووجوههم محمّرة، فأيقنوا أن تهديد صالح لهم سيتحقق وأن العذاب واقع لامحالة، فاحتفروا الحفر ي دورهم ليموتوا فيها وباتوا ليلتهم الثالثة فأصبحوا ووجوههم مسودة، فراحوا يعولون ويصيحون، وصفرت الريح، وتزلزلت الأرض فدمرت البيوت على من فيها وصدرت أصوات تصم الآذان: {فأخذتهم الصيحة مصبحين} {صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر}.. إنّها الصيحة التي قضت على الكافرين المستكبرين من ثمود: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إنَّ في ذلك لآية لقوم يعلمون. وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}.

وفاة صالح (عليه السلام)

يقول المسعودي في مروج الذهب: "ورممهم باقية، وآثارهم بادية في طريق من ورد الشام، وحجر ثمود في الجنوب الشرقي في أرض مدين، وهي مصاقبة لخليج العقبة".

أما صالح والجماعة الذين اتبعوه فقد توجهوا إلى مسجد صالح (ع) فانجاهم الله جميعاً من الصيحة التي قضت على المستكبرين الكافرين من ثمود، وماكان من نبي الله صالح(ع) إلاّ أن رحل من الأرض التي حلَّ عليها غضب الله مصطحباً معه جماعته، وتوجهوا شمالاً باتجاه فلسطين، وحطوا رحالهم في مدينة الرملة...

ويذكر أن نبي الله صالحاً(ع) حجَّ بيت الله ملبيّاً وقد مرَّ بوادي عسفان، الذي مرَّ فيه قبله النبي هود(ع).

ويروى أنه (ع) ترك بلاد فلسطين ماراً بأرض الشام قاصداً إلى مكة المكرمة، فوصلها، وظلَّ فيها يعبد الله حتى وافاه الأجل.

ويقال: إنه ذهب إلى حضرموت من أرض اليمن إذ إنَّ أصله من هناك، وتوفي فيها عن عمر يناهز الثامنة والخمسين، وفيها دفن، فسلام الله على صالح إنه كان من المرسلين.

والحمد لله رب العالمين

صوت الحق
28-06-2008, 11:23 AM
النبي شعيب (ع) خطيب الانبياء

شعيب في قومه

قلَّما اختلف المؤرخون والمفسِّرون في شخصيَّة نبيٍّ ونسبه، اختلافهم في النبي شعيب.

فهو شعيب ابنُ توبَةَ، عند بعض المفسرين...

وشعيب ابنُ أيوبَ، عند بعض المؤرِّخين...

وشعيب ابن ميكيلَ، عند قومٍ آخرين...

قيل: أُرسِل مرَّةَ،... وقيلَ: بل مرَّتين: إلى أهلِ مَدْينَ، وإلى إصحاب الأيكة.. وأهلُ مدين عربٌ، كانوا يقيمون في أرضِ معانَ من أطرافِ الشَّام.

أما الأيكة، ففيها اختلاف أيضاً، ويرجَّحُ بأن تكون بلدةَ (بليدا) في جنوبي لبنان،- كما مرَّ معنا، آنِفاً، في قصة النبيِّ موسى(عليه السلامُ)-.

وكان أهلُ مدينَ يعتمدونَ التِّجارة موردَ رزقٍ لهم، وسبيلَ عيش وحياةٍ، فكانت تدر عليهم خيراً وفيراً ولكنَّهم، لم يُراعوا حقوقَ الله في تجارتِهم، هذه، إذ كانوا لايوفون كيلاً ولا ميزاناً، وكانوا يبخَسونَ الناسَ أشياءَهم، ويعيثون في الأرضَ فساداً..

فتبرَّأ شُعيب من هؤلاءِ المفسدين.. فما هَكذا أمَرَ الله الناسَ به في معاملاتٍ فيما بينهم، وفي عباداتٍ!..

إنْ هؤلاءِ القومُ إلاَّ في ضَلاَلٍ مبين!..

واعتزَلَ شعيبُ قومَه متأمِّلاً خلق السموات والأرضِ، فهدتْه الفِطرَةُ إلى إلهٍ واحدٍ فآمنَ به، وأسلم إليه وجهَهُ، بعيداً عن قومِهِ الذينَ يَظْلمون الناس، وأنفسَهم، معاً...

وقذفَ الله النورَ في قلبِهِ فملأهُ إيماناً ويقيناً.. ثم، ما لبثَ أن أرسلَه إلى قومِهِ، نبيّاً، يدعوهم إلى صراطِ العزيز الحميد!..

ويروي بعضُ كبارِ المفسرينَ بأن شعيباً كان كثيرَ الصَّلاةِ، فهي السَّبيلُ إلى الله، وهي حبلُه المتين، وهي الصِّلة الوثقى بين أرضٍ وسماءٍ!.. وكثيراً ماكان يقول:

- "إن الصَّلاةَ رادعةٌ عن الشرِّ، ناهيةٌ عن الفحشاءِ والمنكَرِ، والصَّلاة هي الدين!.."

وبهذا المعنى ذاتِه، حتى الألفاظ نفسها، تَتَالَتْ آياتُ جَمَّةٌ من القرآنِ الكريمِ..

يضافُ إلى ذلك، أنَّ شعيباً كان في عزٍّ من قومِهِ وعشيرته،... فما من نبيٍّ، بعدّ لوطٍ، إلاَّ وهوَ عزيزٌ في قومِهِ، منيعٌ في عشيرتِهِ...

شعيب النبي

ابتدأ شعيب دعوته بالتقرُّب إلى قومه، محاولاً استمالةَ قلوبِهم، مذكِّراً إيَّاهم بما تربطه بهم من أواصرِ قربى، وروابطِ دمٍ!. فتلطَّف إليهم بالقول الجميلِ، والحوارِ اللَّطيف،... ولمَّا أنِسَ منهم ميلاً إليه، أعلنَ فيهم نبوَّتَه، وشَهَرَ بينهم دعوتَه،...

أما عنوان هذه الحركة المباركة، فكان: الإصلاح!. فهو لايبتغي عن الإصلاحِ بدلاً، ولايرضىَ عنه حِولاً!..

وأخذ يذكِّرهم بأنْعُمِ الله عليهم:

فهم في غنىً بعد فقر، وفي كثرةٍ بعد قلَّةٍ، وفي قوَّةٍ بعد ضعفٍ، وفي عزٍّ بعد وهنٍ، وفي أمنٍ بعد خوفٍ، كما كان يخوِّفُهم عذابَ الله وانتقامَه، وبطشَه الشَّديد.. فلم يجد أذناً- لِمَا يقولُ- صاغيةً، ولاعقولاً- لما يعرضُ عليهم- واعيةً.. بل أنكروا عليه دعوتَه، وامتلأت قلوبهم حسداً له، وَوَجْداً (أي: حقداً) عليه..

فما لهذا النبي ينهاهم عن الرِّبح السريع، لايكاد يحسُّ به أحدٌ، في تطفيف مكيالٍ وميزانٍ.. ويدعوهم إلى عبادة إلهٍ، لاعهدَ لهم، ولا لآبائِهم، بهِ، من قبل؟.. إنْ يقولُ إلاَّ افتراءً وبُهتاناً.. وما هو -بزعمِهم- إلاَّ ساحرٌ كذَّابٌ!..

وهذه -كما نرى- مقولةُ من سبقَهم، ومن تلاهم، من الكفرةِ الملحدين، الَّذين أعمى الله أبصارهم، وجعل في آذانهم وقراً (أي: ثقلاً في السمع، كالصمم)، وعلى قلوبهم أكنَّةً (أي: أغشيةً، ج. غشاء)، فهم لايفقهون!..

شعيب يُحَاجُّ قومهُ، وينذرهم

ولجأ شعيبٌ إلى الحجَّةِ يقارع قومه بها. ويدحضُ افتراءاتِهم، ويُبطِلُ دعاواهم..

وكان نبيُّ الله شعيبُ خطيباً بارعاً، ومُفَوَّها بليغاً، يتفجَّرُ لسانُه بالحكمِة، تصدُرُ عن قلبٍ يفيضُ بها، كالينبوع الدافق، لاينضبُ له معينٌ، ولاينقطعُ عن عطاءٍ!.

فقد "كان شعيبٌ خطيبَ الأنبياءِ" كما ينعتُهُ بذلك خاتمُ الرسل والأنبياء، محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولنتأمَّل هذا الحوار الطَّويل، يدورُ بينَ شعيبٍ وقومِهِ، على امتداد ساعاتٍ طوالٍ.، في نادي مدين، وقد ازدحم فيه خلقٌ كثيرٌ..

ولَعمري، إنه لَحوارٌ يجعلنا نُلمُّ بدعوة شعيبٍ جملةً وتفصيلاً،.. ويلقي الضوءَ على فكرٍ له نيِّرٍ، وقلبٍ، له، كبيرٍ، فهو مسدَّد في قوله، مصيب دائماً، وهو محاورٌ بارعٌ، ومناقشٌ لَبِقٌ، له في الحوارِ، أخذاً وعطاءً، باعٌ طويلٌ!..

- ياقومُ!.. لقد أرسلني الله تعالى إليكم، داعياً إياكم إلى عبادتهِ.. فهو الذي خلَقَكم وخَلَق آباءَكم الأوَّلين، وهو المُحيي والمميت، والمبدئُ والمعيد. ربُّ العرشِ العظيم.. فآمنوا به، ودعوا ما أنتم فيه من ضلالٍ مبين!..

أنظروا إلى خلق السّموات والأرض،.. وانظروا إلى خلقِ أنفسكم،.. تجدوا أنّ وراء ذلك خالقاً قديراً، ومدبِّراً عليماً.. فإيّاه اعبدوا، وعليه توكّلوا، ولاتدعو إلاّ إيّاه إن كنتم مؤمنين!..

- وبم جئتنا به، غيرَ ذلك، في شريعتك، ياشعيبُ؟.

- ياقومُ!.. إني أراكم بخيرٍ: مالٌ وفيرٌ، وزينةُ دنيا، ورخص أسعار!. فأوفوا الكيل والميزان، وأدّوا حقوق الناس على التّمام، في المعاملات، ولاتبخسوهم أشياءهم،..

ألا ترون أنكم أذ تطفّفون (أي: تنقصون) الكيل والميزانَ، على النّاس كأنّكم تسرقون ماليس يحلُّ لكم.. وتخونون ما أنتم عليه مؤتمنون؟ أو ترضون لأنفسكم، من تطفيف كيلٍ وميزانٍ، مارتضيتموه لغيركم؟..

- لا، ياشعيب!..

- فلم الظلم إذاً، وأكلُ حقوق النّاس بالباطل؟

- إنّها التجارة، ياشعيب، والرّبح- أو ليست التجارة باباً من أبواب الرِّبح الوفير؟

- بلى، إنها لكذلك،.. ولكن، ضمن مبدأين: صدقِ المعاملةِ، والأمانةِ.. فإن كذبتم، في تجارتكم، وخنتم في معاملاتكم، تحوَّلَت تجارتكم إلى لصوصيَّة وغدرٍ.

- أو لاترى ياشعيب، بأنّنا إن تحوّلنا عمّا نحن فيه، في معاملاتنا التجاريّة، مع الآخرين، إلى ماتدعونا إليه، قلَّ حظُّنا من الرّبح، وشحَّ رزقُنا؟..

- هذا ظن الذين كفروا بربَّهم، واستحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة.. فالله هو الرزَّاقُ ذو القوّة المتينُ، وهو الكفيل - وأنا بذلك زعيم (أي: ضامن)- بأن يمدَّكم، إن اتّبعتم سبيله، بخير الدنيا ونعيم الآخرة... بقيَّةُ الله خيرٌ لكم، إن كنتم تعلمون!.

- لانفهمُ ياشعيب ماتقول!.

- أقول: اتَّقوا الله يؤتكم من لدنْهُ رزقاً حسناً، وابتغوا عند الله الرِّزقَ، ولاتكونوا من المطفِّفين.

ثم، إنّ التجارة بابٌ من أبواب المعاملات، عريضٌ، كما تعلمون،.. والمعاملةُ أخلاقٌ قبل أي شئٍ آخر!.

ويقطع الحوارَ صوتُ شيخٍ مهيبٍ، أجشُّ، وقد ضاق بهذا الحوار ذرعاً:

- أصلاتُك تأمرك بذلك ياشعيب؟ أو تريدُنا أن نترك ما كان يعبدُ آباؤنا من قبلُ، وما نشأ عليه، من بعدِهم، صغارُنا،.. ونَغُلَّ أيدينا عن حرِّيَّة التصرُّف بأموالنا، نفعلُ بها مانشاء؟..

الصلاةُ: هي الدين، وهي عبادةُ ربِّ العالمين.. وما أعبدُ إلاَّ الله فاطِرَ السَّموات والأرضٍ والخلقٍ أجمعين.. وما عدا ذلك فكفرٌ وبهتان.. وضلالٌ وخسران..

أما المال، الحق فهو مانالته أيديكم من وجهٍ طيّبٍ، ورزقٍ حلال.. أمّا ماطالته أيديكم بالمكر والخديعة، والكذب والخيانة، فهو سحتٌ وحرام.. فاتّقوا الله، واعلموا أن الحياة لاتدوم، وكلنا إلى الموت صائرون!..

والمالُ ظلٌ زائلٌ، وبهرجٌ حائلٌ..

فكم من غني ممسٍ أصبح مفتقراً!..

وكم من فقير مصبحٍ أمسى ثرياً!..

- كنَّا نَعُدُّك بيننا الحليمَ الرَّشيد، ومانراك الآن كذلك يا شعيب!..

- ياقوم!.. أرأيتم إن آتاني الله النبوَّةَ، والهدايَة، ووسّع عليّ من لدنه رزقاً كثيراً،.. فهذا من عميم فضله، وواسع رحمته.

وأنا - كما ترون- أطلب من نفسي ما أطلبه منكم.. آمراً إيّاها بما آمركم به، وناهياً إياها عمّا أنهاكم عنه...

فمن جرّب عليَّ، منكم، قولاً لم أفعله، أو دعوةً لم ألزم بها نفسي، أوّلاً،..؟

{إن أُريدُ إلاّ الإصلاحَ ماستطعتُ وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلتُ وإليهِ أنيبُ}

وإنّ أخوفَ ماأخافُ عليكم، أن تُمعنوا في شقاقكم، وتسدُروا في غيِّكم وضلالكم، وتحملكم عداوتي على مخالفة ربّكم، فيصيبكم مثل ما أصابَ الّذين من قبلكم:

فهؤلاء قومُ نوحٍ- كما تواترت عنهم الأنباء والأخبارُ- قد أخذهم الطوفانُ فأصبحوا غرقى..

وقومُ هودٍ، وقد أرسلَ الله عليهم الرّيح العقيم فأصبحوا في ديارهم جاثمين..

وقوم صالحٍ، زلزل الله الأرض بهم، فأصبحوا أثراً بعد عين..

وما لي أذهبُ بعيداً في التّاريخ السحيق.. فهؤلاء قوم لوطٍ، أقربُ الأمم إليكم داراً ومكاناً، وأحدثهم بكم عهداً وزماناً، وقد جعل الله عالي أرضهم سافلها، فلا تُرى لهم أوطانٌ!..

ويتدخَّلُ في الحوار بعضُ الفتيان، وقد بانت سواعدُ لهم مفتولة..

{قالوا: ياشيعبُ مانفقهُ كثيراً ممّا تقول، وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز}

وينتفضُ شعيب في وجوه هؤلاء الفتيان الحَمقى..

لقد انقطعت حجَّة الشيوخ المحنَّكين، فقطع هؤلاء الأغرار. الجهّالُ بعنجهيّتهم، وغرورهم نقاشاً مفيداً، وحواراً يوضح الحقائق، ويجلو الشُّبُهات..

- ويحكم.. أعشيرتي وقومي، أعظمُ حرمةً لديكم من الله الذي {اتَّخذتموه وراءكم ظهريَّا}؟ أو لأجل عشيرتي تمتنعون عن أذاي؟ فهلاَّ كان ذلك ابتعاءَ وجه الله؟ فانتظروا أمر الله، {وارتقبوا إني معكُم رقيبٌ}.

[قال علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "ماأحسن الصبر وانتظار الفرج!.. أما سمعتَ قولَ العبدِ الصالح: "وارتقبوا إني معكم رقيب"؟]

وتعلو أصوات كالهدير:

- {قالوا إنّما أنت من المسحّرين. وما أنت إلاّ بشرٌ مثلنا وإن نظنُّك لمن الكاذبين. فأسقط علينا كسفاً من السّماءِ إن كنتَ من الصّادقين}

{قال ربّي أعلمُ بما تعملون}.

وهكذا لم تغن بلاغةُ شعيب، وفصاحةُ منطقِه، وبيانُ حُجَّتِهِ، عنهُ، شيئاً!.. فقد انتهى وقومّهُ إلى ما ابتدأوا به من حوار.. فكلٌّ على موقفه ثابت لايتزحزحُ عنه قيد أنملة.. وليت الأمرَ توقف عند هذا الحد.. وليتَ السِّتارَ أُسدل على هذا المشهد!..

شعيب يُخرجه قومه

لقد تأكّد لقوم شعيب مايمثّله عليهم نبيُّهم المرسَلُ إليهم، من خطرٍ.. فدعوته تقلبُ في حياتهم الموازين والمقاييس كلّها!..

يضافُ إلى ذلك، نفرٌ من بينهم، مالوا إلى شعيبَ، مؤمنين برسالته، مصدِّقين دعوتَه فأحاطوا به، ونصروه، ومنعوه..

والأدهى من ذلك مايمكنُ إن يستميلَ شعيبُ من أناسٍ، فيتعاظمُ شأنُهم، فيما بعدُ، ويتفاقَمُ خَطرُهم،.. وفي ذلك زوالُ سلطانِهم وجبروتِهم، واستكبارهم في الأرض، بغير الحقِّ!.. فليضايقوه، والّذين معه، إذاّ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً...

- {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخرجنَّك يا شعيبُ والّذين آمنوا معك من قريتِنا أو لتَعودُنَّ في ملَّتنا}

إنّه الأسلوب الذي يلجأ الكافرون إليه دائماً عندما ينهزمون أمام نور الحقِّ، ودعوة الإيمان..

القوّةُ!.. القوَّةُ!.. فالقوهُ معقِلُهم الأخيرُ، ونهايةُ المطاف، عندما يبطل عمل العقل، وتبيان المنطق، والحجّة المشرقة، على الحوار السليم!..

وهكذا، فالحلُّ كما ارتآه قومُ شعيب، أحّدُ اثنين:

- إمّا أن يخرج شعيبٌ من بين أظهرهم، فيستريحون من هذا الدَّاعية الذي لايَفترُ له لسانٌ، ولاينقطعُ له برهان..

- وإمّا أن يعود شعيب، والذين آمنوا، معه، في ملّتهم، ودين آبائهم وأجدادهم...

ولكن، هيهات.. هيهات...

فهم يعلمون جيداً بأن شعيباً لايمكن له أن يعود إلى حظيرة الكفر، بعد أن أُترع قلبُه إيماناً، وبصيرتُهُ نوراً.. فمتى كان الّذي يحيا في لُجج الضياء يرضى بالانقلاب إلى غياهب الظّلماء؟..

- أتُكرهوننا على العودة إلى ماأنتم في حمأته، من زور وضلال، وبهتانٍ وكفرانٍ؟.. فمتى كان أنبياءُ الله، ورسلُه، ينصاعون لمطالب السُّفهاء الفاسقين، والعُتاة المتجبِّرين؟ أو سمعتم بنبيٍّ أرسله الله إلى قومه مبشراً ونذيراً، ثم انكفأ، مُنقلباً على عقبيه، نابذاً رسالة السَّماء، متنكراً لما أوحى الله تعالى به، إليه؟..

- ياشعيب، لقد جادلْتَنا فأطَلتَ جدالنا، ومالك علينا من سبيلٍ.. فاختر أحد ما عرضناه عليك، ولاتطلبنّ منا سواهما شيئاً:

فإما أن تخرج، ومن اتّبعك، من قريتنا، أو أن تبقى بيننا، على ملّة آباءٍ لنا وأجدادٍ..، وبذلكَ نحافظ على وحدةِ كلمتِنا، ولمِّ شعثِنا، بعد أن فرَّقتَ جماعتَنا، وبلبَلْتَ مُجتمعَنا، بما بثَثْتَ فيه من آراء فاسدة، وفكر غريب!..

- ياقوم، اتّقوا الله، ولاتأخذكم العزَّة بالإثم، والإصرار على الضَّلال.. ولايكن ضعفي، وقلَّةُ أنصاري سبباً لتجبُّركم، وبغيكم، واجتماعكم على باطلكم.. إنّ الرسول لايفتري على الله كذباً، بعد أن نجّاه الله، خاصة، من مهاوي الضَّلال، ومزالق الفساد، والغيِّ الأثيم!..

- ياشعيبُ، إنّك لتقول ذلك، على ما أنتَ فيهِ من ضعفٍ، وقلّة حيلةٍ، وأنصارٍ،.. فكيف يكون شأنُك لو كنت فينا عزيزاً مُهاباً، مُؤيّداً، منصوراً؟..

{وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز. قال ياقوم أرَهطي أعَزُّ عليكم من الله واتّخذتموه وراءكم ظهريَّاً إنّ ربّي بما تعملون محيطٌ}

ويتابعُ شعيب:

أو ماكان الأجدر بكم أن تراقبوا الله في ما تعملون وما تقولون؟

فلله العزة جميعاً.. وله الكبرياءُ في السَّموات والأرض،.. ولكنّكم قومٌ لاتفقهون!..

وينفضُّ المجلسُ عن شعيبَ ومن اتَّبعه، وهم قليل... وأهل مدينَ الّذين جمعوا كيدّهم، وأتوا به شعيباً... وأتمروا فيما بينهم:

ما العملُ حتى يخرجَ شعيبُ من بيننا، بهدوء...؟..

قالوا: ضيّقوا عليه، وحولوا بينه وبين قاصديه من أنصار وأتباع، واقطعوا عليهم كلّ سبيلٍ!..

وهكذا ضيّقوا على شعيبٍ كلَّ مجالٍ، وأخافوا أنصاره، وتهدّدوا أتباعه، فلم يثبت على الحقِّ، منهم، إلاّ القلّةُ، ممّن امتحنَ الله قلوبهم للإيمان، فصبروا، وقاوموا باصرار المستميت، فلم يهنوا، ولم يتخاذلوا.. وهم يقولون: حسبُنا الله، هو مولانا، نعم المولى، ونعم النَّصير!..

ورأى شعيبُ أنَّ من واجبِه أن ينهى قومه عمّا أزمعوا عليه من كيدٍ وأذىً، معذرة إلى الله، لعلّهم ينتهون...

فوقف فيهم- كعادته- خطيباً، فليس بعد اليوم لمعتذرٍ عذرٌ:

- ياقوم.. لاتغرَّنّكم كثرة عددكم، فإنّها لن تغني عنكم من الله شيئاً... وتفرُّقَ الناسِ عني، فالنَّاسُ أعداءُ ما جهلوا..

ولاتصرُّوا على ماأنتم عليه من اعوِجاجٍ، تبغون إفسادَ من أراد الله إصلاحه، فتحولوا بيني وبين المؤمنين، وتقطعوا عليهم الطريق إلى الله،... تبغون السبيل عوجاً عن الحقِّ، وزيغاً عن الهدى،.. فلا تستقيمون.. ولاتدعون لغيركم أن يختار لنفسه أن يستقيم!.. فاتّقوا الله، ولاتصُدُّوا عن سبيله من آمن... واعلموا أن كيد الله متينٌ، وأخذه شديدٌ... فهو الذي أهلك من قبلكم، وكانوا أشدَّ منكم قوةً، وأكثر أموالاً، وأطول آجالاً.. فهل أنتم منتهون؟..

وانهالَ قومُ شعيبٍ على نبيِّهم تكذيباً.. وهبُّوا في وجهه يسفِّهون رأيه، وينعتونه بكل إفك وبهتانٍ..

فانصرف عنهم وهو يقول:

- { على الله توكّلنا، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقِّ وأنت خيرُ الفاتحين}

ونفض نبيُّ الله شعيب، كلتا يديه، من إصلاح هؤلاء القوم الفاسقين، الّذين ركبوا هواهم، فكان أمرُهم شططاً..

ودعا عليهم بالعذاب الأليم، بعد أن كذَّبوا بآيات الله، واستحلّوا ماحرّم الله، وصدّوا عن سبيله، وقد زيّن الشيطان لهم أعمالهم، فتنكبُوا عن السبيل الأقوم والتمسوا لأنفسهم الزّيغ، واستحبُّوا العمى على الهدى!.

وأوحى الله تعالى إلى نبيِّه، أن قد سمع الله دعاءك.. فاخرُج بمن اتّبعك من ديار الفاسقين، إنّه آتيهم غداً، عذابٌ غيرُ مردود!..

وخرجَ شعيبُ والذين آمنوا، معه،..

وخُيِّلَ للقوم المفسدين بأن شعيباً اختارَ لنفسه السَّلامة، فأزمعَ على الهجرةِ بمن اتَّبعه، وظنوا - واهمين- بأنهم قد استراحوا، وإلى الأبد، من هذا الدّاعية الملحاح، والخطيب المفوَّه الّذي لايُشقُّ له في مضمار البلاغة، غبارٌ... فتنفّسوا الصُّعداء!..

العـــذاب

وماهي إلاّ ليلة حتى دهمهم العذابُ..

فابتلاهم الله بالحرِّ الشديد، فكادت تزهق منه أنفاسهم.. فدخلوا، يُهرعون، إلى أجواف بيوتهم، وسراديبِ منازلهم، فلاحقهم الحرُّ إلى بيوتهم، والسّراديب..

وظمئوا ظمأً شديداً... فخرجوا إلى ظلال الأشجار، وضفاف الأنهار.. فلم يمنعهم الحرّ ظلٌّ وارفٌ.. ولم يرو ظمأهم ماءٌ دافقٌ.. فللشمس أشعّة كسهامٍ من لهب.. وكأنّها فوق رؤوسهم قدرُ باع.. فيتململون تململاً شديداً ويضطربون كلَّ اضطرابٍ، فأينَ المفرّ؟.. وقد برَّحت بهم الرمضاءُ تبريحاً..

ويذكرون نبيَّهم شعيباً،.. ويستعيدون صورته، وصوتَه، بينهم خطيباً مرشداً،.. فها قد أتاهم، من العذاب، ماكانوا به يستهزئون!. فيندمون، ولات ساعة مندم!..

ويطلبون شعيباً، لعلَّه ينجّيهم مما هم فيه من *****.. فلا يقعون له على أثر.. ويهرولون مذعورين في كلّ اتجاه.. يطلبون لأنفسهم النّجاة.. فكأنّ السّماء تصبُّ فوقَ رؤوسهم حِمَماً، أو ترجمهم بشواظٍ من نارٍ، وسعيرٍ ليشوي جلودَهم، والوجوه...

وبينما هم كذلك، في العذاب، لايستقرّون،.. وإذا بسحابةٍ بعثها الله إليهم، فيها ريح طيِّبة،.. وقد أخذت تنبسطُ في الجوِّ، وتمتدُّ طولاً وعرضاً..

فوجدوا فيها ضالّتهم المنشودة، فلعلّها تنجّيهم ممّا وقع بهم.. وتنادُوا فيما بينهم: هلمُّوا إلى البرَّيَّة، حيث السَّحابة، فاستفيئوا ظلّها.. فتداعوا إلى ظل الغمامة، لاهثين، من كلّ صوبٍ يُهرعون..

ولمّا اجتمع شملُهم في البرِّيَّة،.. وتكاملَ عددُهم تحت الغمامة،.. الهبّها الله عليهم ناراً.. وأتتهم صيحةٌ من السَّماء انخلعت لها أفئدتهُم.. وزُلزلت الأرض تحت أقدامهم زلزالاً عظيماً.. فأصبحوا على وجه الثرى خامدين!..

وكان شعيبُ والّذين آمنوا معه، يشاهدون ماحلَّ بقومهم، من بعيد.. فحمدوا الله، إذ لم يكونوا معهم، في العذاب، مشتركين!.

وعاد شعيب، إلى قومه، بعد حين، مثقلاً بالحزن المبرّح، والأسى المُمضِّ، الشديد،.. فإذا بهم صرعى، خامدون!..

{فتولِّى عنهم، وقال: ياقومِ لقد أبلغتُكُم رسالات ربّي، ونصحتُ لكم فكيف آسى على قومٍ كافرين}

صدق الله العلي العظيم

صوت الحق
28-06-2008, 11:27 AM
النبيان: يحيى البكّاء وزكريا الكفيل (عليهما السلام)

إنه زكريّا، كبيرُ أحبار بني إسرائيل، وأحدُ أنبيائهم العظام...

يرجعُ نَسَبهُ إلى هرون، أخي موسى بن عمران.

فهو، إذاً، من دوحة نبوّاتٍ، وسلالة رسالات..

كان الهيكلُ يستأثر بجُلِّ اهتمامه، حيث يقضي فيه سحابةَ نهاره، واعظاً، مرشداً داعياً إلى الله، آمراً بالمعروف وناهياص؟ عن المنكر، مفصِّلاً لقومه آيَ التوراة، شارحاً لهم ماخفيَ منها، مبيِّنا ما دقَّ من مسائلها.. ثمّ ينصرفُ عنهم، إلى الله، يتعبَّده، ويتبتَّلُ إليه تبتيلاً!..

وكان يعود، عندما يتصرَّم النَّهارُ، إلى بيته، حيث زوجُه العجوزُ، يقضي فيه ليله، حتّى يأذن اللهُ له بصباحٍ جديدٍ!...

ومازال على هذا النّهج حتّى خارت قواه، واضمحلَّت همّتهُ، فأضحى شيخاً عجوزاً، فانياً..

وكان قد بنى في الهيكل الّذي لايُبارحه إلا لماماً(أي: قليلاً)، غرفةً لمريم، هذه الفتاة القدِّيسة، الربَّانيّة، التي بذّت كبار الأحبار في تبتُّلها، وتعبُّدها، وتسُّكها... وكان زكريَّا، وحده يصعد إلى غرفتِها بِسُلَّمٍ.. فهو المشرفُ على شؤون هذه الفتاة الّتي كانت تصومُ النّهار، وتقومُ اللّيل، وتعبد الله، عبادةً، ينقطع دونها الأحبارُ الربّانيّون، ولمّا تتجاوز من سنيها التِّسعُ سنواتٍ!..

وكان زكريّا راضياً عن هذا كلّه تمام الرضا، طيِّب النَّفس به، مثلوج الفؤاد، فالإشرافُ على هذه الفتاة المبكّرةِ النموِّ، في مأكلٍ لها، ومشربٍ، جزءٌ من العبادة، والتقرُّب إلى الله بخالص الأعمال!..

وإنّ زكريّا ليعلمُ حقَّ العلم بأنَّ الله تعالى، جلَّت قدرتُه، وعَظُمت مشيئتُه، شاء أن يكون هو لاغيره، لمريم كفيلاً..

أو لم يأتِكم حديثُ كفالةِ زكريَّا مريم؟..

في صباح يومٍ، دخلت الهيكلَ امرأةٌ متَّشحةٌ بالسّواد، بسكينةٍ ووقارٍ، وفي حضنها طفلةٌ رضيعةٌ ملفوفةٌ بخرقةٍ... واتّجهت إلى أحبار الهيكل، - وكان بينهم زكريَّا-، وقائلةً لهم:

- دونكم النَّذيرة!..

إنّها حنَّة، زوجُ عمران، رأسِ الأحبارِ في زمانه، والكهَّانِ!..

وكان لعمران في قلوب عارفيه جميعاً، منزلةٌ عظيمةٌ، وشأنٌ رفيعٌ، لما آتاه الله تعالى من فضلٍ، وحباهُ من كرامةٍ، وأودع صدرَه من دين..

وكانت حنّة قد نذرت، في حملها، إن آتاها الله ولداً ذكراً ،أن تودعه الهيكل، يقومُ على شؤونه، وخدمةِ الأحبار فيه، والرُّهبانِ، تقرُّباً إلى الله تعالى، واحتِساباً..

فوضعت مريمَ... وهاي هي ذي زوج عمران تتعجَّلُ الوفاء بنذرها، على حياءٍ، ولكم تمّنَّت حنه ان يؤتيها الله ولداً ذكراً، يكونُ به تمامُ نذرها،.. وشاء الله أن تكون أنثى.. {وليسَ الذَّكرُ كالأنثى}..

فليس لها - والحالة هذه- إلاّ أن تقدِّمُ مريمَ الرَّضيعةَ إلى الهيكل، لتستنشق، منذ نعومةِ أظفارِها، هواء رحابهِ العابقةِ بأريج السَّماء... ففي هذا الهيكل القدسيّ، ستقضي الفتاةُ الطريَّةُ العودِ، النديَّةُ البراعم، من عمرِها المباركِ، ماشاء الله لها ذلك!...

وتنافس الكهَّان كلٌ يبغي أن يضم إليه مريم... أو ليست هذه الرَّضيعةُ بنت عمران الذي كان لهم إماماً، وكان بينهم صاحب القربان؟

وانبرى زكريَّا قائلاً:

- أنا أحقُّ بها لأن خالتَها عندي...

فقد كانت اليصابات زوجُ زكريَّا أختَ حنَّة زوجِ عمران..

ورفع الأحبارُ أيديهم عن كفالةِ مريم... فزكريَّا أحقُّ الناسِ أن يتكفَّلَها، من دونهم، أجمعين!..

والتفت الى زكريَّا حبر كهل، تقوَّس ظهره، واحدودبَ، كالقوس المشدود، وارتخت جفونه على عينيه حتى أطبقتهما، فلا يستطيع فتحهما إلاَّ بعناءٍ، وقال لزكريا:

- يازكريا، لو تُركَتْ مريمُ لأحقِّ النَّاسِ بها. لكانت من نصيب أُمّها الّتي ولدتها.. وصاح الأحبار والرهبان:

- وأيْمَ الله، أنَّه لحقٌّ ماتقول.. فأمّها أحقُّ الناس، إن شاءت، بتربيتها، وتنشِئتها..

وفُتَّ في عضد زكريَّا. (كنايةً عن التراجع مغلوباً).

فأيّهم يكفلُ مريم؟.. وضربوا أخماساً بأسداسٍ... وفكَّروا ملياً..

وقال الشيخ المرتعش الأطراف: ولكن، نَقتَرعُ عليها، فتكونُ عند من خرجَ سهمهُ... وانطلقوا، وكانوا تسعةً وعشرين، إلى النهر- ولعلَّه نهرُ الأردنِّ- ليُلقوا فيه أقلامهم...

فأيُّهم طفا قلمهُ، يكون لمريمُ كفيلاً!...

وألقوا في الماء أقلامهم... فحملت المياه بعضاً، وأغرقت بعضاً... وتقدَّم زكريا، بقلمه، وألقاه في النهر، وهو يذكر الله... فطفا قلمه، واستقرَّ على صفحةِ الماء، ثابتاً، كأنه عالقٌ في الطين..

فهتفوا بصوتٍ واحد: أنت كفيلُ مريمُ يازكريَّا.. بارك الله عليك، هذه الكفالة الطيِّبة، والمكفولة الطاهرة، معاً!...

فضمَّ زكريَّا مريم إلى نفسه، وإلى خالتِها اليصابات... وتعهَّداها خير ما يتعهَّدُ أبوان، ولداً،... حتى انتهى بها الأمرُ، إلى اعتكافِها في غرفةٍ مفردةٍ، في الهيكل، وكان يقوم على أمُورِها كلِّها، زكريَّا!..

آية معجزة

زكريَّا يدلُفُ (أي: يدخل) إلى غرفة مريم، كعادَتِهِ، وبين يديه شئٌ من طعامٍ وبعضُ ماء... ويَدخلُ عليها، بعد استئذان... فيجدها في محرابها تصلِّي.. ويضع إلى جانبها رزقَها لِيومها هذا. ويهمُّ الإنصراف...

ولشدِّ ما كانت دهشتُه عندما وجد إلى جانبها الآخر طعاماً طيِّباً، وفاكهة شتاء والوقت صيفٌ قائظٌ...

ولايُلقي زكريَّا إلى ذلك، كبيرَ بال...

ويتكرَّرُ المشهدُ أمام زكريَّا في ما تعاقب من أيَّام وشهور..

وتتبدَّلُ أمامَ ناظريه، الفاكهةُ، وقد تقدَّم من عمر الزمان فصلٌ...

فالفاكهةُ اليومُ فاكهةُ صيف، والأيام تُرعدُ برداً، وتجتاحُها عواصف أمطارٍ، هوجٌ..

إنّ رزق مريم ماله من نفاد... والفاكهة لاتنقطع من حجرتها، تأتيها في غير مواسمها.. فمن أين لها كلُ هذا الرِّزق الطيب، والفاكهةِ النضِرةِ، الريَّانة؟...

ويسأل زكريَّا مريم:

{قال: أنّى لكِ هذا يامريم؟}.

- {قالت: هوَ من عند الله}.

أستيقظُ ياعمُّ، في الصباح، بعد تهجُّدٍ، وتعبُّدٍ، ونومٍ يسيرٍ، فأرى طعامي أمامي، فآكلُ منه نصيباً...

وأعود لعبادة ربي، أصوم له نهاري، واستغرقُ في تنسُّكي، وتَّبتُّلي، وأنظر، وقد غربت الشّمس،.. وإذا بطعامي يُبسَطُ أمامي، عشيِّاً، فآكل منه، ماشاء الله لي أن آكُلَ...

ولم أطلب من أحدٍ طعاماً... ولم أدعُ ربي أن يرزقني منه، ولكنّه أكرمني برزق منه وفير، وخيرٍ كثيرٍ!... وما أراه إلاّ من طعام الجنَّة، ويانع ثمارها...

ويحملق زكريَّا، في وجهِ مريم، مدهوشاً لما يسمع...

وتتابع مريم: إني اراكَ، ياعمُّ، تعجبُ من قولي، ألم تعلم بأنَّ الله يرزقُ من يشاءُ بغير حسابٍ؟

ويهزُّ زكريَّا برأسه، متمتماً: بلى!...

ويُلقى في روعه بأنّه أمام قدّيسةٍ، جسدها على الأرض، يتحرك أمّا روحها فتجوب أعالي السماء... وإنّ لها لشأناًعند الله، عظيماً..

زكريَّا يدعو ربَّه

ويشطحُ الخيالُ بزكريا...

فالله قد رزق مريم. من الغيب، طعاماً لذيذاً طيِّباً،.. وفاكهةً يانعةً، شتّى،... وشراباً عذباً سلسبيلاً،.. وما كان رزقهُ إيَّاها، ذلك كلَّه، إلاّ آيةً من آياته البيِّنات، ومعجزةً من معجزاتهِ، الظَّاهرات!...

وتحدِّثه نفسه، فيصرفها عمّا ليس لها، ولكن حديث نفسه كان يملأ أحناءه كالصُّراخ.

- لو أن الله تعالى حباني (أي منحني) منه آيةً. وآتاني من لدنه معجزةً، تُدخلان على قلبي الفرحَ، وتعيدان إلى نفسي إشراقهُ الأمل، وبسمةَ الرَّجاء، فيرزقني غلاماً زكيَّاً، يملأ عليَّ حياتي الخاويةَ، إلاّ من الإيمان، ويحفظ الله به النبوَّة، وآثارها، من بعدي..

آيةٌ بآيةٍ!...وأعجوبةٌ

بأعجوبةٍ..</B>

أو ما قالت مريم آنفاً: إن الله يرزق من يشاءُ بغير حساب!...

وهكذا أنارت مريمُ في قلب زكريَّا جانباً كانت تلفُّه الظَّلماء...

وأثارت في نفس هذا النبيِّ الكريم، حنيناً وشوقاً إلى ولدٍ، يخلُفُه، ويرثُه، ويتابعُ سيرتَه، يرثُ الكتاب، فتُحفظ في عقب زكريا النبوةُ والكتاب وبقيَّةٌ من آثار أنبياء بني إسرائيل،... وما أكثر الأنبياء في بني إسرائيل؟...

عند ذلك، توجَّه زكريا إلى محرابه، للإعتكاف فيه، والتنسُّك، وعبادة ربّه والإفضاء اليه، في هذا المسجد الطَّهور، بما يجيشُ في حناياه من خواطر، وما تضطرب به نفسه من مشاعر... خاصةً وأن لزكريَّا أولاد عمٍّ، كانوا من شرار بني أسرائيل،... وهم، دون غيرهم، المؤهّلون لوراثة مايخلفه زكريا من مال، ومن آثار نبوَّةٍ عريقةٍ، تجمّعت في آل يعقوب، فتوارثوها نبيّا عن نبيِّ، ووصيّاً عن وصيٍّ، ووليَّاً عن وليٍّ!... فدعا ربه بصوتٍ خافت متهدِّج، ولسان متلجج، وجنان مضطرب:

-{ربِّ لاتذرُني فرداً وأنتَ خيرُ الوارثين}.

فأوحى الله تعالى بصوت جبريل. أو رهطٍ من الملائكة:

- {يازكريّا إنّا نُبشِّرُكَ بغُلامٍ اسمُه يحيى لم نجعل له من قبلُ سميّاً}.

وكان عمرُ زكريَّا اذ ذاك فوق التِّسعين.

ويذهبُ عبد الله بن عباس إلى أنّ زكريَّا كان يومٍ بُشّر بيحيى إبن مائةِ وعشرين سنةٍ وكانت امرأتُه بنتَ ثمان وتسعين سنةً.

وينتصبُ شعرُ زكريّا، وقد اشتعل شيباً، وتلألأ بياضاً...

فيا للبشارة تزُفُّها إليه الملائكة، وهو قائم يصلِّي، في المحراب!..

{قال ربّ أنى يكون لي غُلامٌ وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكبر عتيّاً}.

ويأتيه النداء، وكأنه يدعوه لمزيدٍ من التأدُّب أمام أمرِ الله، والتسليم لمشيئته تعالى:

{قال كذلك قال ربُّك هو عليَّ هيِّن وقد خلقتُك من قبلُ ولم تكُ شيّئاً}.

ويهد قلب زكريّا، بعد اضطراب، ووجيف، وقد رانت عليه رهبة الله، فامتلأ خشوعاً، وطفح يقيناً...

ألم يبشر الله نبيّه إبراهيم من قبله بإسحق ولداً، ومن وراء إسحق يعقوب، حفيداً؟.. فلا عجب، إذاً، أن يبشّرَه اللهُ بغلامٍ تبتسم به كهولتُه المضناةُ... وتطيب به زوجُهُ، اليصابات اليائسةُ، نفساً!...

فلله في خلقه شؤون!..

{إنّما أمرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقولَ لهُ: كن!... فيكون!..}.

ويطلب زكريَّا من ربِّه آيةً تطمئنُّ إليها نفسه، ويصدّقه، بها، قومُه..

{قال: آيتُك ألاّ تُكلّم النّاس ثلاث ليالٍ سويّا...}.

عند ذلك شعر زكريّا بالبرد يدبُّ في قلبه، فيملأه اطمئناناً، ونوراً يشعشع في أحنائه كلّها.. فسجد لله شاكراً!..

ثمّ خرج زكريّا على قومه، من المحراب، يحمل إليهم بُشرى السماء...

وأراد أن يخاطبَهم، فما استطاع أن يحرِّك لسانه، أو أن ينبس ببنت شفةٍ، لقد أخذت المعجزة طريقِها إلى التنفيذ!.. فاعتُقل لسانه، كما أوحى الله إليه بذلك، منذ لحظاتٍ قِصارٍ، إنه ليس خرَساً، ولكن حصرَ لسانٍ وعجزاً عن الكلام..

وخاطب زكريّا قومه بالإشارة والرّمز، أن إدأبوا على ذكر الله، وتمجيده، وتسبيحه، وتقديسه، بُكرةً، وعشِيّاً!..

وأدرك قومه جليَّة الأمر،...

فهذه معجزةً أُخرى، تُضافُ إلى المعجزات الكُثُر، الّتي تمّت على أيدي أنبياء بني إسرائيل!..

وزيادةً في الإعجاز، فقد كان زكريَّا يقرأ الزبور، ويرتِّل التوراة، ويسبِّح الله، ويقدِّسه، بطلاقة لسان..

مكالمةُ الناس وحدَها كانت محظورةً على لسانه. فكان يشير إليهم بيديه ويُومئ إليهم برأسِه، من بعيد...

وظلَّ على ماكان عليه، يؤمُّ قومه في صلواتهم، في العشيِّ والإبكار... وظل لسانُه محصوراً، لايستطيع أن يكلِّم أحداً ثلاثة أيَّام متتالياتٍ... فلا يَفُكُّ له عقالٌ إلاّ عندما يتوجَّه إلى ربِّه في صلاةٍ، أو دعاءٍ ومناجاةٍ...

وبعد خمسِ سنين من بشارة زكريَّا، ولِدَ يحيى...

وهكذا أنعم الله على نبيِّه زكريَّا بهذا الغلامِ النَّجيب، وحباه هذا الأسم الذي لم يكن لأحدٍ من قبله...

[عن الصادق عليه السلام: وكذلك الحسينُ لم يكن له من قبلُ سميُّ.. ولم تبك السَّماء إلا عليهما، أربعين صباحاً..

قيل له: وما كان بكاؤها؟...

يحيى خذ الكتاب بقوّةٍ وآتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنّا وزكاةً وكان تقياً وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً}. ويروى أنه مرّ بصبيان يلعبون، فدعوه ليلعب معهم، فقال لهم ماللّعب خلقت.

كذلك يروي عن يحيى عليه السلام أنه أتى ذات يوم إلى بيت المقدس، فرأى جماعة من العبّاد وقد لبسوا مدارع الشعر وبرانس الصوف، وهم يتعبدون ربهم، فعاد إلى أمه وطلب منها أن تنسج له مدرعة من شعر وبرنساً من صوف، حتى يعبد الله كما يعبد، أولئك الذين رآهم في بيت المقدس، فاستأذنت أمه أباه زكريا(ع) فاستدعاه وسأله لماذا تريد مدرعة الشعر وبرنس الصوف، وأنت ما زلت صبياً صغيراً؟ فأجابه بقوله: ياأبت، أما رأيت من هو أصغر مني سناً وقد مات وذاق مرارة الموت؟ عندها أذن زكريا(ع) لأمّ يحيى أن تصنع له ماطلب، فقامت بنسج المدرعة والبرنس.

وتدرع يحيى(ع) المدرعة ووضع البرنس على رأسه وتوجّه إلى بيت المقدس وراح يعبد الله مع العابدين، وظلَّ كذلك حتى أكلت المدرعة لحم بدنه، فنظر يوماً إلى جسمه الناحل، فبكى، فأوحى الله تعالى إليه أن يايحيى أتبكي من نحول جسمك، وعزّتي وجلالي لو ألقيت نظرة واحدة إلى النار للَبِستَ مدرعة من الحديد لامن الشعر، فازداد بكاء يحيى(ع) حتى أنّ الدموع حفرت في خديه مجاري وبانت أضراسه للناظرين.

وعرفت أُمّ يحيى بما جرى عليه، فجاءت إليه، وكذلك زكريا(ع) والأحبار والرهبان، وراحوا يطلبون منه أ، يخفف من عبادته ويرحم نفسه، وقال له والده زكريا(ع): يابني لماذا فعلت هذا بنفسك وأنا إنما دعوت ربي أن يهبني إياك لتقرّ بك عيني وترثني؟ فقال يحيى(ع) أما أمرتني أنت بذلك ياأبت يوم قلت لي: إنّ بين الجنة والنار لعقبة لايجتازها إلا البكّاؤون من خشية الله.

سكت زكريا(ع) ثم قام وقال له: إذا كان كذلك فجِد واجتهِد وشأنك وماتفعله، فقامت أم يحيى وصنعت لابنها ماينشف دموعه ويستر أضراسه.

وكيف لايفعل يحيى(ع) ذلك، وقد تعطّف الله تعالى عليه، وتلطّف به، وآتاه النبوة وهو ابن ثلاث سنين، فكان للناس آية، شأنه في ذلك شأن ابن خالته المسيح ابن مريم(ع) وقد ولد وإيّاه في عام واحد، وإن كان يحيى يكبر عيسى بستة أشهر.

اليهود ي***ون زكريا(ع)

ويحكى أنّ زكريا(ع) وكان يكفل مريم، قد اتهم من قِبَل السفلة بأنه وراء حمل مريم(ع)، فلما بان حملها تمكّن هذا الإتهام وثبت في نفوسهم، وأشاعوا بين الناس، أنّه لايعقل أن تحمل امرأة دون زواج من رجل، فاضطرّ زكريا(ع) إلى الخروج من القدس، وراح السفلة من اليهود يلاحقونه، والشيطان يزيِّن لهم ذلك.

وعمّت الفوضى، وتفاقم الشر بعد خروج زكريّا(ع) من المدينة المقدسة، وشاعت الفاحشة بحق زكريا(ع) فلحقه شرار اليهود يريدون ***ه.

ويُروى أنه(ع) هرب منهم، حتى إذا وصل إلى وادٍ رأى شجرة فقصدها ليختبئ فيها، فانفجرت له من جذعها فدخل في جوفها ثم عادت كما كانت، فتحيّر اليهود ولم يعرفوا مكانه، حتى جاءهم إبليس اللعين بصورة واحدٍ منهم ودلّهم على مكانه، وأمرهم أن ينشروا الشجرة بالمناشير، وهكذا كان، فنشروها حتى قطعوها وقطعوا معها زكريا(ع) من وسطه، ثم تركوه وقفلوا راجعين، فبعث الله سبحانه ملائكة غسّلوا زكريا(ع) وصلّوا عليه ثلاثة أيام حتى إذا جاء خيار بني إسرائيل أخذوه ودفنوه -سلام الله عليه- فكان على رأس الأنبياء الشهداء الذين ***هم اليهود بغير حق.

يحيى(ع) يرث زكريا

كان م*** زكريا(ع) من أشد المحن وأقساها على قلب نبي الله يحيى(ع) فعظم الأمر عليه، خصوصاً وأنّ أباه ناله ما ناله من السفهاء، بتلك التهمة المنزّه عنها يقيناً.

وقام بالأمر بعد أبيه، فكان يخطب الناس معلناً أنّ مايصيب الصالحين من المِحَن والرزايا، إنّما يكون من جانب السفهاء والفسقة الذين لادين لهم ولايقين ولاورع، ثمّ يبشرهم بقيام المسيح عيسى ابن مريم(ع) من بعده ويعدهم الفرج على يديه.

ويروي أنّ يحيى(ع) كان بارعاً من الشريعة الموسوية، وكان مرجعاً معروفاً يرجع إليه كل من أراد أن يستفتي في أحكام تلك الشريعة، خصوصاص وأنه نُبِّئَ وهو صبي صغير، فراح يدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده والتوبة من ذنوبهم وخطيئاتهم، ويأمرهم بالإغتسال في نهر الأردن قبل التوبة، فكان (ع) ظاهر الزهد والنسك منذ الصبا، على أكمل أوصاف الصلاح والورع متعلقاً بالعبادة كما ذكرنا.

وقد ورد عن الإمام الرضا(ع) أنه قال: إنّ أوحش مايكون على هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها،ويوم يُبعَثُ (للحساب) فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا، وقد سلّم الله عزّوجل على يحيى (ع) في هذه المواضع الثلاثة وآمن روعته، فقال عزّ من قائل: {وسلامٌ عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعثُ حيّا}.

لقد كان يحيى(ع) كعيسى ابن خالته آية من آيات الله البينات ومعجزة من معجزاته الباهرات، وهبه لأبيه زكريا ليرثه، بعد أن خاف زكريا(ع) الموالي أن يغيّروا ويبدّلوا في دين الله، وهبه إياه على كبر، وبعد أن غزا الشيب مفرقه، ويئست زوجته من اإنجاب، وفي وقت لايعقل فيه أن ينجب زكريا أو امرأته، تماماً كما وهب سبحانه عيسى لمريم(ع) بطريقة لايعقلها الناس العاديون.

ثورة يحيى على هيرودوس وهيروديا

في زمن يحيى(ع) كان هيرودوس حاكماً على فلسطين، من قبل قيصر بيزنطية... وكان فاجراً فاسقاً دنيئاً زانياً، حيث كانت إحدى بغايا بني إسرائيل تأتيه دائماً فيرتكبا الزنى المحرم...

وكبرت تلك البغي وأصبحت عجوزاً شمطاء، فلم يعد هيرودوس يرغب بها، وكانت لها إبنة رائعة الجمال، فابتغاها هيرودوس زوجة له..

وعلم يحيى(ع) بالأمر، فأنكر ذلك عليه وعلى ابنة البغي، فثار وراح يحرّض الناس ويؤلبهم على هيرودوس، جاهراً بالحق، صادعاً بالصدق، فلا يجوز لهيرودوس أن يتزوج من فتاة كانت أمها تحته، وإن في علاقة غير مشروعة.

وشاع أمر يحيى(ع) بين الناس وذاع.. وماكان نبي الله إلاّ مجاهراً برأيه على رؤوس الأشهاد، وفي كل محفل وناد، لأنّ الدين لايبيح ذلك ولايسمح به، إضافة إلى أنّ العقلاء يستنكرون ذلك وأنفس الشرفاء تمجه، وتعافه أذواق الصلحاء.. وهكذا وصل رأي يحيى إلى كل مكان.. إلى محاريب العباد والعلماء، وإلى أماكن الفجور والفسق، حيث الفجار والفسقة...

وعرفت تلك البغي بأمر يحيى ورأيه، فغضبت وحقدت عليه، وراحت تمكر به، وإن مكرهن لعظيم..

لقد خافت أن يغير هيرودوس رأيه، متأثراً بموقف يحيى(ع) وهو رأس العبّاد والربّانيين المتألّهين، نبي الله وابن نبيّه.. فلجأت إلى الغواية، والخديعة.

هيّأت ابنتها وزيّنَتها وقالت لها: إني أريد أن آخذك إلى هيرودوس، فإذا واقعك، فسيسألك ماذا تطلبين، فإياك أن تطلبي منه شيئاً سوى الزواج منه على أن يكون المهر رأس يحيى بن زكريا.

م*** يحيى(ع)

دخلت ابنة البغي على هيرودوس، وهي تتلوى بغنج وتختال بدلال، وقد تزيّنَت بأجمل زينة، وأبهى بهرج ولألاء..

إنبهر هيرودوس بجمالها الغوي، فراحت تتثنى أمامه، بأناقتها الفائقة، فظنّ أنه في مهرجان حسن وضّاء وعرس جمالٍ وبهاء، فاستجاب لداعي الفتّان، ونزع عن مفرقه التاج، وكلّل به رأس من تمثّل الحسن بها والجمال، وهتف أمامها صاغراً متذللاً، قد أخذته الشهوة، وأعمت بصيرته الفتنة:

-سيدتي.. مُرِي بما تشائين، يطع ما تأمرين.. فإنما أنت لي ولن يفرق بيننا إلاّ الموت..

وتلوّت الأفعى ثانية، وتثنّت، وقالت بصوتٍ مغناج يشبه الفحيح:

- أنا لك شرط أن تأتيني برأس يحيى بن زكريا، فإنّه يعكر علينا صفو الحياة إن بقي على قيد الحياة، وينغّص علينا هناءة العيش، ويؤلّب الناس علينا وينفرهم عنّا.

قالت ذلك وانصرفت ولم يطل الوقت: ساعة أو بعض ساعة، حتى أتي بيحيى(ع) وجئَ بطشت من ذهب ف*** ووضع رأسه في الطشت وأرسل به إلى تلك البغي..

وإنّه لمن هوان الدنيا على الله سبحانه، أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.. وهو النبي الذي لم يكن له من قبل سمي.. وكذلك الحسين(ع) فيما بعد، لم يكن له سمي.. وكان حقاً على الله أن تهون عليه الدنيا..

فعن الصادق(ع) قال: لم تبكِ السماء إلا عليهما (الحسين وزكريا(ع)) أربعين صباحاً.

قيل له: وماكان بكاؤها؟

قال عليه السلام: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء!...

وما أشبه اليوم بالأمس..

وما أشبه الباغي بالبغي..

فبعد أجيال كان رأس الإمام الحسين(ع) ريحانة رسول الله(ص) وسبطه وسيد شباب أهل الجنة، موضوعاً في طشت أمام الباغي يزيد بن معاوية، طاغية عصره، ينكث ثناياه الشريفة بقضيب كان في يده، تشفيّاً كما تشفّت البغي برأس يحيى(ع).

إنهما، وحق الله، مناسبتان متشابهتان متماثلتان، بكت فيهما السماء دماً عبيطاً، فكان حقاً على الله أن تهون عليه الدنيا، في هاتين المناسبتين، هواناً مابعده هوان... وها نحن نرى نتائج ذلك في واقع الأمة الإسلامية...

فسلام الله على الحسين(رضى الله عنه) وسلام الله علىيحيى وإنّا لله وإنّا إليه لراجعون

صوت الحق
28-06-2008, 11:30 AM
النبي يونس (ع) ذو النون

يونس يدعو قومه:

قامت دولةُ الأشوريِّين في بلاد "مابين النَّهرين"، وكانت عاصمتُها "نينوى" بأرضِ الموصلِ.

وكانوا يهتمُّونَ بزراعةِ الأرضِ، اهتمامَهم بالعزوِ والتوسُّعِ، شأنهم في ذلك شأنُ جميعِ شعوب تلك الحقبةِ من التَّاريخ.

وإلى جانب ذلك، فقد كانوا وثنيِّيين، يعبدونَ الأصنامَ. وارتفعت الأصنامُ في بيوتِ عبادّتِهم، وفي مدينة نينوى بشكلٍ خاصٍّ وتقرّبوا إليها بالعبادة والطّاعة، متّخذين منها آلهةً من دون الله تعالى.

وأباحوا لأنفسهم كلَّ حرامِ.. فكانوا لايتورعون عن ارتكاب المعاصي والموبقات، ولايتناهون عن كبائر الفواحش، والآثام!.

فأرسل الله تعالى إليهم نبيَّهم "يونس" يدعوهم إلى عبادةِ الله وحدِهِ:

- ياقومُ!.. ماهذه الأصنامُ التي أنتم عليها عاكفون؟..

إنَّ ربَّكم الله خالقُ كلِّ شئٍ، فتوبوا إليه، واعبدوهُ، يمتِّعكم متاعاً حسَناً..

- ماهذا الهذرُ يايونس، وما هذا البهتانُ الذي تأتينا به؟

أنعبدُ إلهاً لانعرفُه، ولانراهُ، ونذرُ آلهتنا التي نشأنا على عبادتها نحنُ وآباؤنا الأقدمون؟

فمن ينجِّينا إذاً من سخط "أشور"، عظيم آلهتنا، إن آمنّا بك واتّبعناك؟

- إنني ياقومُ إليكم بشيرٌ ونذيرٌ.. أرسلني الله إليكم كي أدعوكم إلى ما أوحيَ إليَّ به من الله العزيز الحكيم، أن اعبدوه وحده لاشريك له، ولاتُعرضوا عن هذا الدّين الّذي أتيتكم به.

فإن آمنتم وصدَّقتم برسالةِ ربكم كنتم من الفائزين.. وإلاّ، فانتظروا سخط الله عليكم، وعذابه، فلا تُقبلُ عندئذٍ توبةُ التَّائبين، ولاينفعُ ندمُ النّادمين. إنّ أجلَ الله لآتٍ لو كنتم تعلمون!..

- مانراك يايونس على شئٍ مما تدعوننا إليه، ولسنا لدعوتك بمستجيبين، {فائتنا بما تعدنا غن كنت من الصّادقين}.

ويكرّر يونس دعوته قومه إلى دين الحقِّ، فلعلَّهم يؤمنون.. فلا يزدادون إلاّ غيّا، وإصراراً على ما هم سادرون فيه من ضلال.. فيضيق بهم ذرعاً.. إنهم قومٌ عمون!..

وأخيراً، يُنذرُهم: إنّكم مُنظرون (أي: مُمهَلون) ثلاثة أيّامٍ كي تتوبوا، وتُقلعوا عمَّا أنتم عليه من الكفر، وتعودوا إلى الله؛ ربَّكم، وإن لم تفعلوا، فائذنوا بالعذاب الأليم!..

وينصرف يونسُ عن محاجَّتهم ومحاولة إقناعهم...

ونيظر قومُ يونسُ، بعضُهم إلى بعضٍ، متسائلين:

- أحقاً ماينذرُنا به يونس؟

ويُردفُ أحدّهم:

- أو عهدتم عليه، قبلَ ذلك، كذباً؟...

- لا، إنه بيننا الصَّدوقُ الأمينُ!..

- الرأيُ أن تأخذوا قوله على أنه الصدق، ولمزيدٍ من التأكيد، علينا أن نراقب مبيته، فإن بات فليس بشئٍ، وإن لم يبت، فاعلموا أنَّ العذابَ مُصبِحُكم..

فلمّا كان في جوف الليل خرجَ يونسُ من بين أظهرهم، وانطلق في أرض الله... مرتحلاً عن قومِهِ، مغاضباً، يائساً من هؤلاء القوم الفاسقين..

وهكذا لم تكن لنبيِّ الله يونسُ أناةُ نوحٍ، ولاصبرُ أيوبَ، ولاعزمُ موسى وإبراهيم!

نُذُرُ العذاب

وما أن ابتعدَ يونسُ عن نينوى حتّى لاحَتْ نُذُرُ العذاب...

فقد غشيَ المدينة غيمٌ أسودُ ينبعثُ منه دخانٌ عظيمٌ،.. فاسودت سطوح منازلهم، وخيَّم العذابُ فوقَ رؤوسهم أجمعين!.. وتغيَّرت هيئاتُ قومِ يونس، واكفهرَّتْ وجوههُم، واربدَّت!..

ونظر بعضُهم إلى بعضٍ، فإذا بهم مكفهرُّون!..

ونظروا إلى علٍ فإذا بالجو أسود قاتمٌ.. فداخلَهم خوفٌ ورعبٌ شديدان، وامتلأتْ قلوبهم هلعاً.. فأيقنوا بالهلاك، ووشيك العذاب الأليم!..

وتوجَّهوا بجموعهم إلى "مليخا" كبير زهّادهم،.. وإلى "روبيل" عظيم علمائهم،.. يستفتونهما:

ماالعملُ؟.. وقد غشيَنا العذابُ.. فالأمرُ عصيبٌ، شديدٌ..

فأشار عليهم بأن يلبسوا المسوح (وهو لباسُ الزهَّاد من الرهبان)، وأن يتفرّقوا بين قمم الجبال، وبطون الأودية، ومنبسطات السُّهول.. وأن يُفرِّقوا بين الأمّهات وأولادها، من بشرٍ وحيوانٍ.. وأن يتوبوا إلى الله..

ففعلوا ذلك:

وفزعوا إلى الله، يجأرون بالاستغاثة والدعاء:

- ياحيَّ،.. ياقيُّوم، يامحييَ الموتى،.. لاإله إلا أنت!..

وعلا بكاء الأطفال الرُّضَّع، وحنينُ البُهم الصِّغار الرُّتَّع، ودعاءُ الشيوخ الرُّكَّع.. وتابوا إلى الله توبةً نصوحاً!..

قال ابن مسعود:

"بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادُّوا المظالم بينهم،... حتّى أن الرّجل كان ليأتي بالحجر، وقد وضع عليه أساسُ بنيانه، في***عُه، ويردُّه!.."

فما زالوا على ذلك،... حتّى نظر الله تعالى إليهم، وهم على هذا الحال، فبسط عليهم رحمته، وقد تقبَّل منهم توبتهم.. فلم يؤاخذ الصغيرَ بظلمِ الكبير، ولاالضعيفَ بجريرةِ القويِّ، ولاالحييَّ بفسوق الفاجر الكفّار.. بل شملهم جميعاً برحمةٍ منه. ورفع عنه العذاب، وقد كاد يحيطُ بهم جميعاً!..

يونسُ يذهب مغاضباً

أمّا يونسُ فقد تابع انطلاقه، مغاضباً، دون أن يأمره الله بذلك. أو يوحي به، إليه، بل، تأوّلاً منه، وترخُّصاً، وصدوراً عن رأيه هو.. وهو فعل ذلك،... فيتحمّل إذاً التّبعات!...

وكان يظنُّ ظناً شديداً بأنْ لن يقدرَ الله عليه...

سواء كان معنى هذا "القدر" تقتيراً في الرِّزقِ، كما يراه بعضُ أجِلاَّئنا المحقِّقين، أو، تقديراً من الله تعالى، كما يراه بعضهُم الآخرُ.

وأمعن يونسُ يضربُ في طولِ الفضاءِ، وعرضِه، (كنايةً عن الجدِّ في السير) حتى حطَّت به عصا التَّسيار أمام شاطئ البحر،... فتوقَّف مُضنىً، تعباً!..

يونس في السفينة

وشاهد سفينةً شُحِنت بحّارةً ومسافرين، ومتاعاً كثيراً.. وقد أخذت أشرعتُها ترتفعُ، مؤذنةً بالإبحار!..

فاقتربَ يونسُ من الرُّبَّان، وبعضِ النوتيَّة، يسألهم أن يصطحبوه معهم، في رحلتهم هذه، فقبلوه بينهم،.. وأنزلوه كواحدٍ منهم، عزيزاً، مكرَّماً،.. وقد أُخذوا بسيماء هذا العبد الصّالح الوقور، الكريم خلقاً وخُلُقاً!..

وأقلعت السَّفينةُ متهاديةً على صفحة اليِّم،.. فالبحرُ ساجٍ (أي: هادئ ممتد) والريحُ طيِّبةٌ، رُخاءُ!..

وفي قلب البحر هبَّ على السَّفينةِ إعصارٌ عاصفٌ، فتلاعب بها ذات اليمين وذات الشمال.. وأخذها الموج من كلّ جانبٍ، حتى أشرفت على الغرق.. فدعو الله مخلصين، أن يُنجّيهم من هذا الكرب الشديد..

وبينما هم كذلك، يغالبون الأمواج العاتية،.. وإذا بحوتٍ يشقُّ طريقه إلى السَّفينة، وكأنه قطعةُ جبلٍ،.. ويأخذُ بالدّوران حولها، والإلتفاف عليها،.. يبتغي رزقاً يطعمه!.. فاحتار الربّان في أمره، لايدري ماذا يفعلُ.. ووجمَ النوتيّة، مضطربين.. وعلت الأصواتُ بالاستغاثة والدُّعاء.. فهم بين بحر هائجٍ. تتعالى أمواجُه كالجبال، وحوتٍ ضخمٍ لايبرُح جانبي السّفينة، شاخصاً بعنقه إلى من فيها من ركّاب!..

جزاي العبد الآبق

وتشاور ركّابُ السّفينة فيما بينهم،.. ماالعمل؟

واستقرّ رأيُهم على أنّ بينهم عبداً آبقاً من مولاه (أي: هارباً من سيده) ولذلك كانت هذه العاصفةُ المجنونةُ،.. وهذا الحوتُ المنكر، الذي يأخذُ على سفينتِهم كلَّ طريقٍ!. وأجمعَ رأيَهم على إلقاءِ رجلٍ منهم في البحر.. فلعلّهم يتخلّصون من هذا النَّحسِ الذي يصاحبُهم، فيصفو الجوُّ.. ولعلَّ الحوتَ يقنعُ به، فيدعُ السَّفينةَ، وشأنها.. وتعاهدوا على ذلك.. ولجأوا إلى القُرعة: أيُّهم يكونُ نصيبَ الحوت؟.. وأجالوا القرعة فيما بينهم، فوقعت على يونس..

فاستعظموا أن يقذفوا بهذا العبد الصّالحِ في لجَّةِ البحر، لقمةً شائغةً لهذا الحوت الشرس، العنيد..

وأجالوا القرعةَ ثانيةً، فوقعت على يونس..

فأبوا..

وأجالوها ثالثةً، فأصابت يونسَ أيضاً!..

فعلم الجميعُ أن في الأمر سراًّ..

ونظروا إلى يونس كالمعتذرين، فمشيئة الله تأبى غيرَه.. فما كان من يونس إلاَّ أن رضي، قانعاً بما قسم الله له،.. وقد أوحيَ إليه:

- "عبدي... إن إردتَ أن تهربَ من قضائي، فاخرج من أرضي وسمائي!.."

وأسلم نبيُّ الله أمرَه ووجهَه لجبّار السّموات والأرض، وتوجَّه إلى حافّة السّفينة، واضعاً كلتا يديه على رأسه، وألقى بنفسه في لجّة الماء المزبد، وهو يصرخ: ياالله!..

وشاهد الحوتُ جسماً يتحرَّكُ في الماء، يغالبُ الأمواجَ العاتيةَ.. فاتَّجَهَ إليه، والتقمَه ابتلاعاً، دون أن يمزِّق منه لحماً، أو يهشم له عظماً.. وقد أوحى الله تعالى إليه:

"إني لم أجعل عبدي لك رزقاً، ولكني جعلت بطنكَ له مسجداً،.. فلا تكسرنَّ له عظماً ولاتخدشنَّ له جلداً.."

ومضى الحوتُ في طريقِهِ، لايلوي على شئ..

وتابعت السفينة طريقها.. وقد ساد رُكّابها حزنٌ طفح على وجوههم جميعاً، وقد كان صاحبُهم بينهم منذ لحظات..

ثم لبثوا أن أخذهم العجبُ الشّديدُ: إذ سرعان ما عادت الريح طيِّبة، رخاءً،.. وعادَ الجو إلى صحوهِ وإشراقِهِ،

بينما انصرف الحوتُ وشأنَه.. وكأنَّ شيئاً لم يكن!.

واستقرّ يونس في جوف الحوت،.. وكأنّه في جوف قبرٍ مظلمٍ، تتحرك فيه مياهٌ جيئةً وذهاباً..

وعصفت به وحشةٌ رهيبةٌ قاسيةٌ، كادت تقطع أنفاسَه..

فذكر الله، مسبِّحاً له، مقدِّساً إياه، وهو سجين ظلماتٍ ثلاثٍ: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة جوف الحوت.

أما المدَّة التي بقيها يونسُ في جوف الحوت، فقد اختلف العلماء والمفسِّرون فيها: فمن قائلٍ: ثلاثة أيام،.. إلى قائلٍ: بل، سبعة. وقيل: عشرون يوماً. وقيل: أربعون.

ويلقي القرآن الكريم على ذلك ضوءاً، بقوله، عزّوجلَّ: {وذا النّون (أي: صاحب الحوت، والمقصود به يونس)، إذ ذهب مغاضباً فظنَّ أن لنْ نقدِرَ عليه، فنادى في الظُّلُماتِ أن لا إله إلاّ أنتَ سُبحانكِ إنّي كنتُ من الظّالمين. فاستجبنا لهُ ونجّيناهُ من الغمِّ وكذلك نُنجي المؤمنين}.

[ونحنُ نعلم بأنّ لهاتين الأيتين الكريمتين، قدراً عند الله تعال، خاصّاً.. بحيث أُثبتت قراءتُهما في الرّكعة الأولى من صلاة الغُفيلة، بين فرضي المغرب والعشاء].

ويشاء الله تعالى أن يشمل عبده اللاّهج باسمه، برحمته.. وهو حيثُ هو.. في هذا القبر الحيِّ.. المتنقِّلِ به في قيعان بحار الدُّنيا!. فأوحى إلى الحوت: أن الفِظ عبديَ على الشاطئ الأمين.. ففعل!.

وخرج يونسُ - وقد قاءه الحوتُيتلمَّس طريقَه على الشاطئ، كالفرخِ الأزغب.. وقد رقَّ جلدُه بسبب ملوحةِ مياه البحر التي كان يقبع فيها، وهو في جوف الحوتِ.. ووَهنت قواه لفَرطِ ماعاناه، حتّى لكاد يُشرِف على الهلاك.

واقتعد ناحيةًمن الشَّاطئ، مفترشاً الرَّملَ.. فآذته حرارةُ الشَّمسِ.. فأنبتَ الله عليه شجرةً من يقطينٍ، فاستظَلَّ فَيْأها، وتناول منها ما اقتات به بعض الشئ..

وأخذت تسري الحياةُ في أوصاله شيئاً فشيئاً.. حتى تماسك على نفسهِ واستعادَ بعض قواه الخائِرةَ.

يونس يعود إلى قومِهِ

أمّا قومُ يونسَ، فقد علموا بما أصابَ صاحبَهم النبي، الذي غادرهم وهو يتفجَّر غضباً، لِماهم سادرون فيه من غيِّ، وضلال.. وأيقنوا أنّه تحوَّل طُعمةً لحيتان البحار، ووحوش قيعانها النَّواهشِ.. فصرفوا النظرَ عنه.. وقطعوا الأملَ من عودته، ثانيةً، إليهم.. وكانوا ياسفون لموقفِهم السَّابق منه، أسفاً شديداً.. ويندمون ندماً مريراً..

وكانوا، فيما بينَهم، يقولون:

- ياليت يونسَ يعودُ إلينا،.. لوجدنا، إذاً، من المؤمنين، وبرسالته من المصدِّقين، بعد أن منَّ الله علينا، فهدانا إلى صراطه المستقيم، واتَّبعنا دينَه القويمَ!..

ولشدَّ ما كانت دهشةُ قوم يونس، عندما رأوا نبيَّهم عائداً إليهم وفي مدينتهم نينوى ذاتها.. حيث كثُرَ أتباعه، وغمَّ أشياعهُ، فهم مئة ألفٍ أو يزيدون...

ووجدوا في عودته إليهم معجزةً سماويَّةً كبرى!..

ولشَدَّ ماكانت دهشةُ يونسَ عندما وجد قومَه مسلمين مؤمنين، بعد أن تركهم، في أمسهم القريب، كافرين فاسقين!..

وأحاطت نينوى بنبيِّها العائدِ إليها، مكرِّمةً إياه، رسولاً كريماً، ونبيَّاً أميناً.. وأدرك يونسُ أنَّهُ قد استعجلَ أمر ربِّه..

وليس للنبي المصطفى أن يستعجل أمر مولاه، فلله الحكمة البالغةُ،.. وهكذا كان ليونس ماكان!..

ولوطالت أناتُه قليلاً لتوصَّل إلى حمدي العُقبى، وجميلِ المال، ولوفَّر على نفسه عناءً كثيراً، وابتلاءً عظيماً..

{إنّ الله بالِغُ أمرِهِ قد جعل الله لِكُلِّ شئٍ قدراً}

ولنُصغ خاشعين إلى الله تعالى يوجز لنا قصة يونسَ، هذه، بالكلم المعجز، المتجلِّي في هذه الآية من الذّكر الحكيم:

بسم الله الرحمن الرحيم

{ وإنّ يونُسَ لمن المُرسلين. إذ أبق الى الفُلكِ المشحون. فساهم فكان من المدحضين. فالتقمهُ الحوتُ وهو مُليمٌ. فلولا أنّهُ كان من المسبِّحين. للَبِثَ في بطنهِ إلى يومِ يُبعثُون. فنبذناهُ بالعراءِ وهو سقيمٌ. وأنبتنا عليه شجرةً من يقطينٍ. وأرسلناه إلى مئة ألفٍ أو يزيدون. فآمنوا به فمتّعناهُم إلى حينٍ}.

صدق الله العلي العظيم

صوت الحق
28-06-2008, 11:34 AM
وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد

ولما شعر موسى(عليه السلام) بدنّو أجله، نظر في أمور قومه، فأحسن تنظيم أوضاعهم، خاتماً فيهم رسالته ناظراً بعين الغيب إلى نبيٍّ جديد، يرسله الله إلى أهل مكة ومن حولها فيخرجهم من الظلمات الى النور!..

ثم غادرهم، وهم عنه غافلون، تجرّهُ قدماه في عمق الصحراء، وخيالهُ يلتهب بذكريات، وما أكثرها.. ومعظمها لاسع كالجمر المتّقد. وفيها كل غريب وطريف، فهي لاتبرح خياله أبداً.

وإن نسي، فلن ينسى منها ثلاثاً:

- الأولى: قصته مع الخضر: وسبب ذلك، أن نفس موسى حدّثته يوماً بأنه أعلم من على وجه الأرض، إنساناً! فصدّقها، وجاراها في دعواها. أليس هو نبيّ الله، وكليمه، ورسوله. فمن أقرب إلى الله من موسى؟. فاوحى الله تعالى إليه: إنّ من عبادي من هو أوسعُ منك إحاطةً، وعلماً!..

ويسأل موسى ربّه مستغرباً، من هو ياسيّداه؟

فيجاب: أنه عبدي الصالح، عند (مجمع البحرين).

فيشدُّ إليه موسى عصا الترحال، يبتغي مقابلته، والتعلُّم منه. وقد اصطحب معه فتاه، ويجتمع موسى بالعبد الصالح هذا،.. ويرى على يديه خوارق ومعجزات لا يستطيع الانسان العاديّ إلاّ إنكارها. وكذلك فعل موسى!..

وفي نهاية المطاف -(كما ورد في سورة الكهف، الآيات: 60-82)- يشرح الخضر لنبي الله موسى حكمة الله من كل ماقام به من تصرفات. إنّه التأويل لبواطن الأمور، لاتفسير ظاهرها!... ويشعر موسى بضآلة علمهن وهو النبي المجتبى، أمام ما أوتيه العبد الصالح حكمةً وعلماً!..

- الثانية: قصة بقرة بني إسرائيل: وكان ذلك عند ماقُتل أحد رجالهم، ولم يعرفوا قاتله. فأمرهم الله أن ي***وا بقرة -(كما ورد في سورة البقرة. الآيات: 77-83)- وأخذ بنو إسرائيل يستقصون من نبيّهم موسى عن ماهيتها، وصفاتها، ولونها.. لجاجاً منهم وعناداً! واهتدوا بعد لأيٍ (أي: جهد ومشقة) إليها، ولم يستطيعوا ابتياعها، إلاّ بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب، كبيراً... يُضاف إلى ذلك جدهم في طلبها، حيرتهم، حتى اهتدوا إليها، بعد شهور طوال، من التفتيش والتنقيب، ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله، وسلّموا إليه إمورهم، وتخلّوا عن لجاجهم وعنادهم، لوجدوا في أي بقرة تقع عليها أيديهم، مايفي بالغرض المطلوب!.. ولكنه العناد الحرون، والفطرة على الشقاق والنفاق، وسيّئِ الأخلاق!.

- الثالثة: قصته مع قارون:

وهي الأدهى، والأمرُّ! فقارون، تربطه بنبيّ الله موسى وشائجُ دمٍ، وقربى رحم. وكان قارون أغنى أغنياء بني إسرائيل. فله من كنوز الذهب ماتنوءُ بحمل مفاتيح خزائنه عصبة من الجمال شديدة القوى، فكفر برسالة موسى، وجاهره العداء، وألَّبَ عليه الأعداء، باذلاً في سبيل ذلك الأصفر الرنان!: (كما تقص علينا سورة القصص. الآيات: 76-83) وتمنَّى بنو إسرائيل أن يؤتوا مثل ماأوتي قارون، فكأن الله قد أفاض عليه من الذهب نهراً لاينضب. ونسُوا، وهم دائماً ينسون، أنّ رحمة الله خير من كل ذلك وأبقى!

وانتظر بنو إسرائيل قارون، حتى خرج عليهم، يوماً، في زينته، فانبهرت أبصارهم بها، وانشدهت بصائرهم، {إنّ هذا لشئٌ عُجاب!..}. ونسوا كل شئ، فهم مأخوذون بهذه الفخامة من الزينة، والبهرج، يملآن عليهم الأفئدة، والأبصار، والأسماع!..

وبينما هم كذلك، وإذ بزلزالٍ يضرب دار قارون، وإذ بالأرض وكأنها تثور تحت قدميه، فتسيخ، وتخسف بقارون وبداره الأرض، فهو لاينفك متغلغلاً في باطنها كل يوم قامةً، إلى يوم القيامة، فاعتبروا ياأولي الألباب!.. وما أكثر العبر في بني إسرائيل، وأقلّ الاعتبار!..

وقد حال الله بين قلوبهم، وثابت الايمان واليقين، فهم في ريبهم، أبداً، يترددون!

* * *

وتكلُّ قدما موسى، وقد ضرب (أي: مشى) في عمق الصحراء، بعيداً... ولطالما قطعتا به مفاوز، وأراضي ذات آماد، وأبعاد!، وغرائب الذكريات ماانفك يتلو بعضها بعضاً!.

ويتوسد حفنه من رمل!..

فقد آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح، ولهذه الروح الشريفة أن تنطلق في عالمها العلويِّ الرحب، الشريف، اللطيف!..

ويظهر بعد ذلك في بني إسرائيل نبيٌ جديد. إنه يوشع بنُ نون. وكان من مقرَّبي موسى. فيخرجُ بهذا الجيل الجديد منهم، الفتيِّ، المجاهد، من أرض التيهِ، إلى أرض الميعاد في فلسطين، حيث المدنُ، والمزارعُ، والخيراتُ الحسانُ!..

صوت الحق
28-06-2008, 11:36 AM
النبي إدريس (ع) الخيــاط

إسمه وصفاته:

{واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صدِّيقاً نبيّا} سورة مريم: الآية56.

توفي نبي الله آدم(ع) أبو البشر، فأوصى لولده شيث الذي قام بأعباء النبوة من بعده حتى وافاه الأجل فأوصى لإبنه أنوش بسياسة المملكة.. وولد لأنوش كثير من الأبناء، من بينهم إبنه قينان الذي خلف أباه.

ولد لقينان إبنه مهلائيل الذي صار إليه الملك بعد قينان، ولمهلائيل هذا إبن إسمه يارد حكم بعد أبيه ورزقه الله بإدريس النبي(ع).

في بابل من أرض العراق ولد إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر(ع)، وفي بابل نشأ وترعرع، في أسرةٍ كريمة الحسب والنسب، فتعلّم علم جدِّ جدِّ أبيه، شيث بن آدم (ع)، وأقام في السَّهلة.

ومن أرض العراق إنطلق إدريس يجوب البلاد مبشّراً برسالة آدم وشيث، فوصل إلى مصر، وبقي فيها، حيث كان اليونانيون أهل علم وفلسفة، فعرفوه، وقدّروا علمه وتعرفوا إلى رسالته فسموه هرمس الهرامسة، أي حكيم الحكماء.

ويذكر بعض المؤرخين، أنّ إدريس هو إلياس الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، ويذكر آخرون أنّ إدريس(ع) مذكورٌ في التوراة العبرية وإسمه أخنوخ، وفي التوراة العربية وإسمه خنوخ.

ويُروي أنّ إدريس(ع) كان رجلاً مديد القامة، حسن الوجه، براق العينين أكحلهما، كثّ اللحية، عريض الصدر والمنكبين، ضخم البطن، متقارب الخطو، يمشي ونظره إلى الأرض، كثير الصمت قليل الكلام بطيئهُ إذا تكلم، كثير التفكير، عبوساً يحتدّ إذا ما غضب، ولكنه كان محتسباً صبوراً: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلُ من الصابرين} سورة الانبياء: الآية 85.

ويُذكر أنّه (ع) كان يسبّح النهار ويصومه، ويبيت حيثما جنّه الليل، وأنّه كان يصعد له من العمل الصالح إلى السماء، مثلما يصعد لأهل الأرض كلهم. وقد سمي إدريس بهذا الإسم، لكثرة مدارسته الكتب السماوية وما فيها من الحكم والأحكام.

علم إدريس وعمله:

يذكر المؤرخون أنّ إدريس(ع) كان أوّل من خطّ بالقلم، وأنّ الله سبحانه علّمه الكثير من العلوم، ذلك أنّ الناس كانوا في زمانه يتحدثون باثنتين وسبعين لغة، علّمه الله إياها، ليعلِّم كلّ أناس بلغتهم.

وكان(ع) عالماً بالنجوم والحساب وعلم الهيئة، وكانت هذه معجزته(ع) وقد بالغ بعضهم، فذكر أنّ جميع العلوم التي كانت قبل طوفان نوح(ع) كانت من تعليم إدريس(ع).

ويحكى أنّ إدريس(ع) كان يعمل خياطاً، ويذكر إنّه أول من خاط الثياب بالإبرة ودرزها، وقد كان الناس قبله يلبسون جلود الحيوانات التي يصطادونها أو ي***ونها.

وقد ولد له(ع) على مايذكر المؤرخون إبنه متوشالح أبو لامك، ولامك هذا هو أبو نبي الله نوح(ع). فيكون إدريس جداً لأبي نوحٍ(ع).

نبوة إدريس(ع):

يحكى أنه كان في زمن إدريس(ع) ملك ظالم جبار، وكانت له زوجة من الأزارقة. وذات يوم خرج ذلك الملك للتنزه في الحقول والبراري، فمرَّ بأرضٍ خضرة نضرة، فأعجبته خضرتها ونضرتها، فسأل عن صاحبها فقيل له: إنها لفلانٍ من الناس.

وأرسل الملك الجبار إلى صاحب الأرض، فجاءهُ، وهو على خير دينه. قال له الملك الجبار: أترك لي أرضك أتمتع بها؛ قال صاحب الأرض: إنّ عيالي أحوج إليها منك. فقال له: بعني إياها. فأبى الرجل ورفض أن يبيع أرضه.

وعاد الملك الجبار إلى قصره غاضباً مقهوراً، وراح يفكر كيف يأخذ الأرض من صاحبها، فأصابه همٌّ وغمٌّ كبيران. فلما رأته زوجته على تلك الحال، سألته عن السبب، فحكى لها قصته مع الرجل صاحب الأرض، وما كان من أمره.

قالت زوجة الملك الجبار: لماذا لات***ه وتأخذ أرضه؟ فإن كنت تكره أن ت***ه بغير سبب، فاترك الأمر إليّ وأنا أتدبره، وأصيِّر أرضه لك..

وبعثت زوجة الملك إلى جماعة من الأزارقة فجاؤوها، فأمرتهم أن يشهدوا على صاحب الأرض أنّه على غير دين الملك، فشهدوا عليه بذلك، ف***ه الملك وأخذ أرضه.

وغضب الله سبحانه لذلك الرجل، فأوحى إلى إدريس، فكان بدء نبوته(ع): أن إذا لقيت عبدي ذلك الملك الجبار، فقل له: أما رضيت أن ***ت عبدي المؤمن، حتى أخذت أرضه وأحوجت عياله من بعده.. أما وعزتي وجلالي لأنتقمنَّ له منك في الآجل، ولأسلبنّك ملكك في الحياة الدنيا، ولأخربنَّ مدينتك، ولأطعمنّ الكلام لحم امرأتك، فقد غرّك حلمي عنك وأناتي.

ذهب إدريس (ع) إلى ذلك الملك، بأمر ربه، وأبلغه رسالته إليه، فما كان من الملك الجبار إلاّ أن طرد إدريس، وهدّده بال***، بعد ما زينت له امرأته ذلك، وهوَّنت عليه أمر إدريس ورسالته قائله له: لايهولنّك رسالة إله إدريس... أنا أرسل إليه من ي***ه فتبطل رسالة إلهه.

وكان لإدريس(ع) أصحاب مؤمنون يأنس بهم، فأخبرهم بخبر رسالة الله إلى الملك الجبار، وبردّه عليها. فأشفقوا على إدريس، وخافوا عليه ال***، وحذروه من الملك وزوجته.

وفعلاً، بعثت امرأة الملك الجبار جماعة من قومها الأزارقة، لي***وا إدريس(ع)، فتفرقوا يبحثون عنه فلم يجدوه، وعرف أصحاب إدريس(ع) بالأمر، فقالوا له: خذ حذرك يا إدريس، واخرج من هذه المدينة، فإن الملك قاتلك إن لم تفعل.

جمع إدريس(ع) في المدينة رهطاً من أصحابه، ولما كان السحر ناجي ربه قائلاً: يارب، إنّ الملك الجبار توعدني بال***، فماذا أفعل؟ فأوحى الله إليه: أن أخرج من مدينته، وخلني وإياه، فوعزتي لأنفذنَّ فيه أمري.

فقال إدريس(ع): إنّ لي إليك ياربّ حاجة؟ فقال الله جل وعلا: سلها، تُعطها يا إدريس. قال إدريس(ع): أسألك ياربّ أن تمسك السماء على أهل هذه المدينة وماحولها، فلا تمطرهم حتى أسألك ذلك. قال الله سبحانه وتعالى: إذن تخرب المدينة ويجوعَ أهلها. فقال إدريس(ع): وإن خربت، وإن جاعوا.. قال تعالى: إني أعطيتك ياإدريس ماسألت..

وأخبر إدريس إصحابه بحبس المطر عن المدينة، وخرج وخرجوا معه وهم عشرون رجلاً، ثم تفرقوا في القرى، وآوى إدريس(ع) إلى كهفٍ في الجبل، وقد وكّل الله به ملكاً يأتيه بطعامه وشرابه عند كل مساء.

وخربت المدينة، وأنهار مُلكُ الملك الجبار، إذ سلّط الله عليه جباراً آخر، سلبه مُلكه و*** زوجته وأطعم الكلاب لحمها.

وظلّت السماء محبوسة القطر عشرين سنة لاتمطر، حتى صار أهل تلك المدينة يجمعون الطعام من القرى المجاورة، ويتمنون أن يرجع إدريس إليهم، ليدعو ربه أن يبعث المطر. ثم إنهم أجمعوا أمرهم على أن يتوبوا إلى الله، ويسألوه أن يُرسل السماء عليهم مدرارا...

وهكذا كان، فقاموا على الرماد، ولبسوا المسوح، وحثوا التراب على رؤوسهم... فتاب الله عليهم، وهو التواب الرحيم.

وأوحى الله إلى إدريس(ع)، أن قد تاب قومك، وقبلت أنا توبتهم، وكنت أنت قد سألتني أن أمنع المطر عنهم، وألا أرسله إلاّ إذا سألتني ذلك، فسلني ياإدريس... فقال إدريس(ع): أللهم إني لاأسألك. فأوحى الله عزوجل إلى الملك الذي كان يأتيه بطعامه وشرابه، أن يمتنع عن ذلك. فلما أمسى إدريس لم يؤت بطعام ولاشراب، فجاع وحزن.. وكذلك في اليوم التالي، فلما اشتد جوعه ناجى ربّه قائلاً: يارب، حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي... فأوحى الله إليه: ياإدريس، جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام ولياليها، ولم تجزع ولم تنكر جوع أهل مدينتك وجهدهم عشرين عاماً، وقد سألتك لجهدهم ورحمتي إياهم، أن تسألني أن أمر السماء عليهم، فلم تسألني وبخلت عليهم بمسألتك إياي، فأذقتك الجوع فقلَّ اصطبارك، وظهر جزعك، فاهبط من موضعك، واطلب لنفسك المعاش، فإني قد وكلتك في طلبه إلى حيلك.

وهبط إدريس(ع) من كهفه، وراح يطلب أكلة من جوع، فرآى الدخان يتصاعد من احد منازل المدينة، فقصده فإذا فيه امرأة عجوز تقلي قرصين على مقلاة. فقال لها: أطعميني أيتها العجوز، فإنني جائع مجهود. قالت العجوز: ياعبد الله، ماتركت لنا دعوة إدريس فضلاً نطعمه أحدا... وحلفت له أنها لاتملك شيئاً غير القرصين، ثم قالت له: إذهب واطلب المعاش من غير أهل هذه المدينة.

وكان إدريس(ع) لايقوى على المشي من شدة الجوع، فقال لها: ياأمة الله.. أطعميني ماأُمسك به روحي، وتحملني به رجلاي حتى أطلب... قالت: إنما هما قرصان: واحد لي والآخر لابني، فإن أطعمتك قرصي مِتُّ من الجوع، وإن أعطيتك قوت ابني مات هو الآخر. فقال لها: إنّ ابنك صغير يكفيه نصف قرص فيحيا به، وأنا يكفيني النصف الآخر فأحيا به.. فأكلت العجوز قرصها، وقسمت الآخر نصفين، فأعطت إدريس نصفاً وابنها النصف الآخر.

وما أن رأى ابن العجوز إدريس يأكل من قرصه، حتى اضطرب ومات.. فقامت أمه: ياعبد الله، ***ت ولدي جزعاً على قوته... قال إدريس(ع): فأنا أحييه لك بإذن الله، فلاتجزعي.

وأخذ إدريس بعضدي الصبي ثم قال: أيتها الروح الخارجة من جسم هذا الغلام، بإذن الله تعالى، إرجعي إلى بدنه بإذن الله.. أنا إدريس النبي. فرجعت الروح إلى بدن الصبي بإذن الله..

سمعت المرأة كلام إدريس، ورأت ابنها وقد عادت إليه الحياة بعد موته، فقالت: أشهد إنك لأنت إدريس... وخرجت من بيتها تصرخ بأعلى صوتها: أبشروا بالفرج، فقد عاد إدريس إلى مدينتكم.

ومضى إدريس(ع) حتى وصل إلى موضع مدينة الملك الجبار الأول، فتهافت الناس عليه، من أطراف المدينة، تهافت الفراش على النور، وراحوا يرجونه أن يرحمهم، ويدعو الله لهم، حتى يأتيه الملك الجبار الثاني، الذي سلب ملك الجبار الأوّل، ماشياً حافياً مع أهل مدينته، ليتأكد أنهم تابوا إلى الله، ولن يؤذوه من جديد.

وعرف الجبار بأمر إدريس(ع)، فبعث أربعين رجلاً ليأتوه به، فلما وصلوا إليه، أخبروه أنهم بمعوقون ليأخذوه إلى الملك، فدعا إدريس عليهم، فماتوا جميعهم.

وأرسل الملك الجبار بعدهم خمسمئة رجل، عسى أن يأتوه بإدريس(ع). فلما وصلوا إليه، وعلم أنهم جاؤوا ليأخذوه إلى الملك، قال لهم: أما ترون مصارع أصحابكم، فإياكم أن تفعلوا ما أمركم به الملك الجبار، فيكون مصيركم كمصيرهم.

فقالوا: ياإدريس، أما عندك من رحمة... أهلكتنا بالجوع والعطش عشرين عاماً، وتريد أن تدعو علينا بالموت؟ أفلا تدعو الله أن يمطر السماء؟ قال إدريس(ع): لن أفعل حتى يأتيني ملككم، وأهل مدينتكم مشاة حفاة.

ورجع الرجال إلى الملك الجبار، وراحوا يرجونه أن يمشي معهم حافياً إلى إدريس(ع)، وإلا هلكوا جميعاً، فسار الملك الجبار ومن خلفه أهل المدينة إلى إدريس، حتى ركعوا بين يديه، فقال إدريس(ع): أمّا الآن، فسأدعو ربي أن يرسل السماء عليكم مدرارا.

دعا إدريس(ع) ربه أن تمطر السماء عليهم وعلى نواحيهم، فما هي إلا لحظة حتى ظللتهم غمامة من السماء، فأبرقت وأرعدت، ثم هطلت عليهم حتى ظنوا أنه الغرق.

وأقام إدريس(ع) يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، كما في شريعة آدم وشيث(عليهما السلام) فكان الناسُ يجيبونه واحداً تلو الآخر، حتى صاروا ألف رجل.

ولم تكن لإدريس(ع) طريقة خاصة في العبادة، فاختار سبعة من أصحابه وقال لهم: تعالوا يدعو بعضنا ويؤمن البعض الآخر. ورفعوا أيديهم إلى السماء بالدعاء، فنبّأ الله سبحانه إدريس، ودلّه على طريقة عبادته، وكانت مكة هي القبلة التي يتوجه إليها في صلاته وعبادته.

وأخذ إدريس(ع) يعلِّم أصحابه وأتباعه كيف يعبدون ربهم سبحانه، فكانوا يطيعونه، ويطبقون تعاليمه، حتى أ، الملائكة كانوا في زمانه (ع) يصافحون الناس، ويسلمون عليهم، ويكلمونهم ويجلسون إليهم، لصلاح ذلك الزمان وأهله.

صحف إدريس(ع):

علّم إدريس(ع) قومه كيف يبنون المدن، فبنوا مئة وثماني وثمانين مدينة. ثم جعل لكل مدينة علماء ومرشدين يعلّمون الناس، ويهدونهم إلى طاعة الله وعبادته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ثم إنه(ع) وقد أتباعه بأنبياء يأتون من بعده، ووصفهم لهم، وعرّفهم أن النبي يكون معصوماً من الخطأ، خالياً من العيوب الأخلاقية، والأفعال السيئة، كامل الفضائل، لايعجز عن الإجابة على أي سؤال يتعلق بأمر الدنيا والآخرة، وأنّه مستجاب الدعوة في كل مايطلبه من الله.

وعن النبي محمد(ص): أن الله أنزل على إدريس ثلاثين صحيفة. وقد أُثرت عنه(ع) العلوم والحكم والنصائح والأدعية الكثيرة، ويذكر المؤرخون أنه كانت له(ع) مواعظ وآداب تجري مجرى الأمثال. وقد مرّ معنا أن كلّ العلوم التي عرفت قبل طوفان نوحٍ(ع) كانت من تعليم إدريس(ع).

وقد نسبت إلى إدريس أمور وأحداث وأعمال، أقلُّ مايُقال فيها: إنها خرافية، ولايمكن أن تصدر عن نبي من أنبياء الله، ولا يقرّها عقل بشري سويّ.

ومّما جاء في الصحف التي أنزلها الله تعالى على إدريس(ع) قوله: "كأنك بالموت وقد نزل بك، فاشتدّ أنينك، وعرق جبينك، وتقلّصت شفتاك، وانكسر لسانك، ويبس ريقك، وعلا سواد عينيك بياض، وأزبد فوك، واهتزّ جميع بدنك، وعالجت غصص الموت وسكرته ومرارته وزعقته، ونوديت فلم تسمع، ثم خرجت نفسك وصرت جيفة بين أهلك؛ إنّ فيك لعبرة لغيرك، فاعتبر في معاني الموت. إنّ الذي نزل بغيرك نازل بك لامحالة"...

ومن مواعظه وأدبه (ع) قوله: لن يستطيع أحد أن يشكر الله على نعمه، بمثل الإنعام على خلقه.. وقوله(ع): من أراد بلوغ العلم وصالح العمل، فليترك من يده أداة الجهل وسيّئ العمل... فحبّ الدنيا وحبّ الآخرة لايجتمعان في قلبٍ أبداً.

ومن الأدعية المأثورة عن النبي إدريس(ع)، دعاء السحر المشهور، الذي يقرأ في أسحار شهر الله تعالى، شهر الصيام المبارك، وهو يحتوي أربعين إسماً من أسماء الله الحسنى، وأوله: سبحانك لا إله إلاّ أنت يارب كل شئٍ ووارثه.

كما أثر عنه الدعاء المعروف بدعاء التوسل، وفيه توسل إلى الخالق جلّ ذكره، بذكر أربعين إسماً من أسمائه جلّ وعلا، وابتهالٌ إليه، وطلب الأمان من بلاء الدنيا وعقوبات الآخرة.

{ورفعناه مكاناً عليّاً} سورة مريم: الآية57

يروى أنّ ملكاً من الملائكة غضب الله عليه وطرده من السماء الى الأرض، فجاء إلى إدريس(ع) وطلب منه أن يشفع له عند ربه، فصلّى إدريس(ع) ثلاث ليالٍ، لايفتر، وصام أيامها لايفطر، ثم طلب إلى الله في السحر أن يرضى عن ذلك الملك، فرضي الله عنه وسمح له بالعودة إلى السماء.

قال الملك: يانبيّ الله، إنني أريد أن أشكرك فاطلب إليَّ حاجة.. فقال إدريس(ع): أريد أن تريني ملك الموت، لعلني لا أستوحش، بعد ذلك من ذكره. فإنني ما ذكرته إلا فارقني الهناء.

بسط الملك جناحيه وقال لإدريس(ع): إركب، فركب إدريس وصعد به الملك إلى سماء الدنيا، فلم يجدا ملك الموت، فظلَّ يصعد به حتى وجدا ملك الموت بين السماءين: الرابعة والخامسة.

كان ملك الموت متجهما عابساً، فساله الملك الذي يحمل إدريس(ع): مالي أراك مقطباً؟ فردّ ملك الموت قائلاً: إنني كنت تحت ظِل العرش، فأمرت أن أقبض روح نبي الله إدريس، بين السماءين الرابعة والخامسة، فتعجبت لذلك.

وسمع إدريس(ع) كلام ملك الموت، فانتقض من جناح الملك، ولكن ملك الموت قبض روحه حيث هو، وكان عمره(ع) على مايذكر الرواة والمؤرخون مايقارب الثلاثمئة سنة.

ويُروي أن ملك الموت طلب إلى الله سبحانه أن يأذن له بزيارة إدريس(ع) حتى يسلّم عليه ويصحبه، فأذن الله له، فنزل ملك الموت إلى إدريس. وإدريس لايعرفه، فقال له: إني أريد أن أصحبك؛ فوافق إدريس(ع)، فكانا يسيحان النهار ويصومانه، فإذا حلّ الظلام جاء إدريس طعامه فأفطر ودعا ملك الموت للإفطار فيقول: لاحاجة لي فيه، ثم يقومان فيصليان.

واستمرا على هذه الحال أياماً، إلى أن مرّا بكرم عنب قد أينع ثمره، وقطيع غنم قد سمنت خرافه، فقال ملك الموت إدريس(ع): خذ من هذا القطيع حملاً، ومن هذا العنب وافطر عليه. فقال إدريس(ع) سبحان الله! أدعوك إلى مالي فتأبى، ثم تدعوني إلى مالِ غيرك وتريدني أن أقبل به؟.

ثم قال إدريس(ع): ياهذا قد صحبتني وأنا لاأعرفك، فمن أنت؟. قال: أنا ملك الموت. فقال إدريس(ع): لي إليك حاجة. قال ملك الموت: وما حاجتك؟. قال إدريس(ع): تصعد بي إلى السماء.

واستأذن ملك الموت ربّه في ذلك، فأذن له، فحمل إدريس على جناحه وصعد به إلى السماء. فقال إدريس(ع): إنّ لي إليك حاجة أخرى. قال ملك الموت: وماهي؟ قال: بلغني أنّ الموت شديدٌ على الإنسان، فأحبّ أن أجرّبه فأعرف كيف هو.

وعاد ملك الموت إلى استئذان الله في ذلك، فأذن له، فأخذ روح إدريس وأماته ساعةً ثم ردَّ روحه إليه وقال له: كيف رأيت الموت؟ قال إدريس(ع): لهو أشدُّ مما كنت أعتقد... ولكن لي إليك حاجة ثالثة: أريدك أن تريني النار والجنة.

إستأذن ملك الموت ربه للمرة الثالثة، فأذن له، وأمر زبانية جهنم ففتحوها، فلما رآها إدريس أغمي عليه. ولما أفاق حمله ملك الموت إلى الجنة، وقد فتحها خزنتها لأمر الله لهم، فدخل إدريس إليها، ونظر إلى جمالها وبهائها ثم قال: ياملك الموت: إنَّ الله تعالى يقول: {كل نفس ذائقة الموت}سورة آل عمران/آية185 وقد ذقته، ويقول في جهنم: {وإن منكم إلاّ واردها}سورة مريم/آية 71، وقد وردتها، ويقول في الجنة: {وما هم منها بمخرجين}سورة الحجر/آية 48، فما كنت لأخرج منها.

فقال الله لملك الموت: إنّ إدريس إنما حاجّك فحجّك بوحي، وأنا الذي هيأت له تعجيل دخول الجنة، فإنه كان يتعب نفسه وجسده في طاعتي، فكان حقاً عليّ أن أعوِّضه، من تعبه، الراحة والطمأنينة، وأن أجعل له، بتواضعه لي وصالح عمله، مكاناً علياً في جنتي.

{أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم}سورة مريم/آية 58.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): إنّ الله رفع إدريس مكاناً علياً، وأطعمه من تحف الجنة بعد وفاته؛ ويقول الله عزّ من قائل: {وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين} سورة الأنبياء/آية 86.. فسلام على

صوت الحق
28-06-2008, 11:38 AM
<H2 align=center>صموئيل النبي (ع)</H2>وأتى بنو إسرائيل نبياً لهم، وعبداً من عباد الله الصالحين، اسمه "صموئيل" وشكوا إليه، متبرِّمين، مايلاقون من مرارة الهوان، وتمزق الشمل والخذلان، وظهور أعدائهم عليهم ( أي: تفوُّقهم).
وهز "صموئيل" رأسه، فهو على وثيق الايمان بأنّ لعصاة الله سوء الدار، وبئس القرار.. وقومُه عصاةٌ فاسقون، مردُوا على الكفر والنِّفاق، فالله مجازيهم بما كسبت أيديهم وبما كانوا أنفُسهم يظلمون. وقال لهم بصوتٍ عميقٍ، وهو يتطلّع إلى آفاق السماء:
- دعوني استخر لكم الله في ماأنتم فاعلون!
وانصرفَ، كلٌ إلى شأنه!..
وأوحى الله إلى نبيه "صموئيل": إني قد اخترتُ "طالوت" ملكاً على بني إسرائيل، ولعلّ "صموئيل" لم يكن قد سمع بهذا الاسم من قبل.. فمن "طالوت" هذا؟.. وكيف الوصول إليه؟..
فأوحى إليه الله عزّوجلّ: لاعليكَ يا "صموئيل"، فطالوتُ آتٍ إليك عمّا قريب. إنه عبدٌ من عبادي الصالحين، قد آتيتهُ بسطةً من الجسم والعلم.. وبه يتمُّ صلاحُ أمر بني إسرائيل.
<H3 align=center>"طالوت" و"صموئيل"</H3>"طالوت" في قرية من قرى الوادي، يُشرفُ على أغنامٍ وأُتُنٍ (جمع أتان: أنثى الحمار) يرعاها، فتنمو عدداً - ويتعهّد الأرض: رياً، وفلاحةً، وزراعةً، فيجني منها وافرَ المحاصيل.
وبينما كان يرعى قطيعاً، أخذتهُ سنةٌ من الكرى، فغفا ساعةً أو بعض ساعةٍ، ولما استفاق، طلبَ أُتُنهُ فلم يجدها، فسأل غلامه عنها. وإذا به، مثله، لايعلمُ عنها شيئاً، فنهضا، وتوجّها إلى أرض وعرةٍ ذات عشب وكلأ وشجر، فلعل الأُتن قصدتها.. وتوغَّلا عميقاً في الأرض الوعرة، حتى تورّمت منهما الأقدامُ، دون أن يعثُرا لها على أثر. وأرادا العودة خائبين، بعد أ، لقيا مشقةً وعسراً، على أن يعاودا البحث عنها غداً في المقلب الآخر للوادي. فلعلّها قصدت وعور الشِّعاب!..
ويتوقَّفُ الغلامُ لحظةً، وهو يفرُكُ جبهته، ويتوجَّهُ بالكلام مخاطباً سيِّده "طالوت":
- "سيدي، لعلَّنا لن نجوس خلال هذه الأرض مرةً أخرى. فنحن الآن في أرض "صوف" موطن النبي "صموئيل" الذي يهبِطُ عليه الوحيُ، وتتنزَّلُ الأملاكُ. فهيَّا بنا إلى هذا النبي الكريم، نستوضحه أمر ما افتقدنا من أُتُن، فلعلّ السماء تُنبئُنا بواسطته عن ضالّتنا.. وإلى ذلك كلّه، فلعلّنا نتبرّك بدعائه، ونُحرز رضاهُ.
وارتاح "طالوتُ" إلى هذا الرأي. فلا ضيرَ منه على أي حال!..
ويتوجّه "طالوت" يصحبه غلامُه إلى حيثُ يقيم النبي "صموئيل". ويلتقيان، في طريقهما إليه، فتياتٍ، خرجنَ يستقين الماء، فسألاهُنَّ كيف السبيل إلى لقاء "صموئيل"، فأخبرنهما بأنّ الناس يلاقونه خلف ذيَّاك الجبل، ولعلّه موشكٌ على المجئ.
وفيما هُما كذلك، وإذ بصموئيل بطلعُ عليهما، يشعُّ محيّاهُ بنور النبوّة، وتحفُّ به مهابةُ رسولٍ كريم!..
ونظر كلُّ منهما إلى الآخر.. فأوقع الله في قلب "صموئيل" أنه أمام "طالوت" الموعود.
ولم يتردّدْ "طالوت" في الإبانة عن نفسه، والهدف من مجيئه، فقال:
- "لقد أتيتك، يانبيّ الله، مستوضحاً، مسترشداً، لقد ضاعت لنا أُتُنٌ، ومازلتُ أطلبُها، مع غلامي، منذُ ثلاثة أيام، دون جدوى. وقد أتيناك مسترشدين: فهل إلى العثور عليها، من سبيلٍ؟..
فأجابه صموئيل باطمئنان الواثق:
"أمّا الأُتُن التي أنت في طلبها، فهي في طريقها إلى أبيك، فلا تنشغل بها نفساً، ولاتنزعج بها خاطراً..
وإني أدعوك إلى أمرٍ، ندبَكَ الله إليه (أي: كلَّفك به، ودعاك..)، وهو أمرٌ، وايمَ الله (أي: أقسم بالله) جدُّ جسيمٌ، وخطيرٌ!..
ويُحملِق "طالوت" في وجه صموئيل دهشاً، فإلى مَ يدعوه نبي الله "صموئيل"؟..
- ماالأمر يانبيَّ الله؟
- لقد اختارك الله على بني إسرائيل، ملكاً!..
- أنّى يكون لي ذلك، ومن أكون حتى أنهض بهذا الحمل العظيم، والأمر الجلل الخطير؟ إنني من أبناء "بنيامين" أخمل الأسباط ذكراً، وأوضعهم جاهاً، وأدناهم قدراً، وأقلّهم مالاً، وأبعدهم عن مواطن الحكم والسلطان!..
- لاعليك!.. فليس لأغنياء الناس، ووجهائهم، من النبوة، إلاّ الحظُّ الأقلُ، والنصيبُ الأدنى. وإنّ هذه مشيئةُ الله، أنقلُها إليك،.. فاشكُر الله الذي اصطفاك عليهم جميعاً، واجتباك (أي: اختارك)، واحمد نعماءه على تكليفك بما لاينهضُ به إلاّ رجالُ الله الأخيار، فهيَّا، واصدَع بما أُمِرتَ به!..
وأخذ "صموئيل" بيد"طالوت"، وسارا، وتبعهما الغلام الذي، لدهشته، لم ينبس ببنت شفةٍ.
ووصل الثلاثةُ إلى النادي، حيث يجتمع عليّةُ القوم من بني إسرائيل، وأشراف ساداتهم، فوقف عليهم "صموئيل"، وهو ممسكٌ بيد "طالوت"، وأعلنَ فيهم:
- إن الله قد بعثَ "طالوتَ" ملكاً عليكم، فاسمعوا له، وأطيعوا، وأعّدوا العُدّة لجهاد عدوكم، تفلحوا، وتظفروا إن شاء الله!..
فلووا بأعناقهم، منذهلين!..
فمن يكون "طالوتُ" هذا النكرةُ، بينهم، والسيّئ الحال، يؤمّرهُ الله عليهم، وفيهم كلُّ عظيم الشأن، خطير المُقام؟..
فلا ذكر له، وهو الخاملُ بين بني إسرائيل، ولامال له، وبينهم من بيده كنزٌ من الذهب، لايفنى!..
ولاهو من أبناء "لاوي"، فرع دوحةِ النبوّة السامقة في بني إسرائيل...
ولاهو من غصن "يهودا"، معدن الملك والرياسة والسلطان!..
وأدرك "صموئيل" مايدور في خلدِهم، وما تُحدِّثهم به نفوسُهم، فقال لهم:
- على رسلكم، ياقوم!.. فالسيادةُ لاتحتاجُ إلى نسبٍ، وما عساه يجدي النّسبُ إذا كان صاحبُه أخرق أحمق؟. وماذا يفعل المالُ - على كثرته- مع المتخلّف البليد، والجبان الرعديد؟.. وهذا طالوتُ، اختارهُ الله عليكم، وفضّله على من عداه من بني إسرائيل،. {إنّ الله اصطفاه عليكُم وزادهُ بسطةً في العلم والجسم}. وها هوذا، كماترون، أمامكم، سويُّ الخلق، جميلُه.. صلبُ الجسم، متينُه، يبعثُ على المهابةِ والجلال!..
ألا ترونَ، لو كان مهزولاً، ضعيفاً،.. لاقتحمتهُ إذن، عيونُكم، وازدرتهُ انفسكم..؟ وهو، إلى ذلك، محاربٌ عنيدٌ، وعلى الأعداء جسورٌ، شديدٌ، بصيرٌ بعواقب الأمور، وخبيرٌ بأساليب الحروب، وفوق ذلك كله، فليس الأمرُ مني، ولاهو بيدي.. ولكنّهُ أمرُ الله تعالى، ومشيئَتُه، عزوجلَّ، فهو الذي قد ملّكه عليكم،.. فأطيعوا الله، في أمرِه، وسلِّموا إلى مشيئته نفوسكم راضين،.. فإنني، والله، لكم من الناصحين!..
وكأنّه استمال قلوبهم،.. فأظهروا الإذعان!..
ولكنّهم، مالبثوا أن عادوا إليه يطالبونه بآية يعرفون بها صدق قوله، فيكونون بذلك من المصدّقين، المؤمنين،..
فقال لهم: إنني أعرف خبيئة نفوسكم التي جُبلت على اللّجاج، والعناد، والمكابرة، ونبذ الحق،.. واتّباع سبيل الهوى، وطريق الغيِّ، وسوء الظنِّ بالله، وتكذيب رسله،
{إنّ آية مُلكه أن يأتيكم التّابوتُ فيه سكينةٌ من ربّكم وبقيّةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هرون تحمِلُهُ الملائكةُ أنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين}.
فخرجوا إلى ظاهر المدينة، كما واعدهم "صموئيلُ"، فشاهدوا التابوتَ يتهادى إليهم في الفضاءِ، محمولاً على أكفِ الملائكة، فآمنوا، وبايعوا "طالوت"، وأقرُّوا له بالملك!..
وأظهر "طالوتُ" في ملكه، حزماً وعزماً. فأسرع إلى تجهيز جيشٍ لاتشغلُ أفرادهُ عن الحرب شواغلُ الدنيا، والتهالُكُ على حُطامها، وسار بهم لقتال الأعداء. وبينما هم، في طريقهم إلى الحرب، مرّوا على نهرٍ، وقد تلظّت أكبادُهُم عطشاً، فقال لهم طالوتُ:
- {إنّ الله مُبتليكُم بنهرٍ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمهُ فإنّهُ منّي إلا من اغترف غُرفةً بيده}
وشدّد عليهم بألاّ ينهلنَّ منه أحدٌ إلاّ بمقدار رشفات يبرّد بها كبدهُ الحرّى.
ولكنّ معظمهم لم يلتفتوا إلى طلب "طالوت" فأسلموا أنفسهم إلى هواها، فعبُّوا من ماء النهر الجاري حتى الارتواء، بينما ترشّف القليلُ منهم من الماء رشفاتٍ نزيرةٍ (أي:قليلة) برّد بها غليله.
ولمّا أشرفوا على أعدائهم، وجدوا فيهم قوّة عدةٍ وكثرة عدد، وقائدهم "جالوت" يجول بينهم ويصولُ، وقد غطّاهُ الحديد من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، على فرسٍ أدهم كأنّه قطعةٌ من ليلٍ حالكٍ، فانقسمَ أصحابُ "طالوت" عندما شاهدوا ذلك إلى فرقتين:
واحدةٍ: أصابها الوهنُ، ودبَّ فيها الضعفُ، فقالوا: {لاطاقة لنا اليومَ بجالوتَ وجُنودِهِ}.
وثانيةٍ: ثبتت على الإيمان، واستحبَّت الجهاد على النُّكول عن الحرب(أي: الانصراف عنها)، موقنةً بأن النصرَ من عند الله، فحثُّوا إخوانهم على الصدق في القتال، والله يفعلُ - بعد ذلك- مايشاءُ، هاتفين بهم {كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله؛ والله مع الصَّابرين!..}.
وانطلقت شرارةُ المعركة بالمبارزة!.. فبرز "جالوتُ" بين الصَّفين، فما بارزَهُ فارسٌ، إلاّ وجندلَه صريعاً، حتى تحامتهُ الفرسانُ، وأجحمت عن مبارزته الأقرانُ. وهو على جواده المحمحم صائلٌ جائلُ، وسيفُه يرعُفُ دماً، والقومُ واجمون، مطرقون.

صوت الحق
28-06-2008, 11:42 AM
بفضل من الله تمت الموسوعة والحمد لله
تم النقل من شبكة القراءن الكريم لكى تعم الفائدة للجميع ويصبح لدينا موسوعة لمن يحتاج اى معلومة منها
ربنا تقبل هذا العمل خالص لوجهك الكريم
وبارك فى صاحب المجهود الأصلى الذى نفعنا بيه أكبر نفع (http://quran.al-shia.com/ar/id/23/)
شبكة القراءن الكريم (http://quran.al-shia.com/ar/id/23/)

الاسطورة
01-07-2008, 04:29 PM
والله مش عارف نعجز عن الشكر يا استاذ عصام
بارك الله فيك وجعل هذا العمل الاكثر من رائع فى ميزان حسناتك

مروج البحر
01-07-2008, 08:09 PM
جزاكم الله كل الخير وجعله الله في ميزان حسناتك يارب

بجد مجهود رائع سلمت يداك

صوت الحق
16-07-2008, 08:59 AM
ربنا يتقبل من الجميع يارب
وينفعنا بما علمنا
ألف شكر على المرور العطر

خالد عبده
19-07-2008, 10:40 AM
جزاكم الله خيرا على هذا العمل الرائع و المجهود الكبير وادعو الله ان يكون فى ميزان حسناتك يوم القيامه

Mr. Medhat Salah
10-05-2009, 11:08 AM
بارك الله فيكم

محمد على ابوزياد
11-06-2009, 12:56 PM
بارك الله فيك اخى الكريم
صوت الحق
وجعلة الله فى ميزان حسناتك

محمد على ابوزياد
11-06-2009, 12:59 PM
بارك الله فيك اخى الكريم
وجعلة الله فى ميزان حسناتك

account closed
17-07-2009, 10:48 PM
جزاك الله كل خير

Mr. Medhat Salah
08-08-2009, 10:30 AM
جزاك الله خيرا

ابو يقين
22-08-2009, 10:06 PM
و الله مجهود عالى الا حبزا يوضع فى ملف ورد او ريدر لسهولة التداول

**تسابيح**
22-08-2009, 10:24 PM
بجد موضوع تحفه
جزاك الله خيرا

Nefert
20-09-2009, 07:31 PM
بارك الله فيك استاذنا الكريم

mad62
20-09-2009, 10:18 PM
طططططططططططططططططططططططططططططططططططططططططططططططططط طططططططططططططططططططططططططططط

account closed
22-09-2009, 03:59 PM
ما شاء الله استاذ عصام


ربنا يجعله في ميزان حسناتك

الأستاذ / فولي سيد محمد
04-12-2014, 01:52 PM
اللهم اشرح بالقرآن صدورنا، وفرج به همومنا، وازح ببركته ونوره وهداه ظلام قلوبنا .. آمين

دودو دول
15-12-2014, 02:24 PM
جزاكم الله خيرااا

Prof. Mohamed Mekhamer
03-01-2015, 11:57 PM
بارك الله فيكم وجزاكم خيرا

بارك الله فيكم وجزاكم خيرا

bido.bido
07-02-2016, 03:21 AM
بارك الله فيك

سميحة خالد
19-02-2016, 03:18 AM
جزاكم الله خيرا
طرح رائع

نيو نيو
03-03-2016, 10:29 AM
جزاك الله خيرا

على العربى
09-08-2016, 05:25 PM
جزاك الله خيرًا ونفع بك