مشاهدة النسخة كاملة : درر من رسالة ابن القيم لأحد إخوانه


abomokhtar
22-11-2013, 09:10 AM
درر من رسالة ابن القيم لأحد إخوانه



جلستُ يومًا بعد صلاة الفجر أتصفَّح رسالةً للإمام ابن القيم لأحد إخوانه، وكانت بتحقيق الأستاذ محمد بن عبدالله المديفر، فوقفتُ فيها على دررٍ ولآلئَ قد ينتفعُ بها المرء في دنياه وآخرته، وقد يفوتُه الكثير بفواتها عليه.

فنجد المحقِّق قد بدأ مقدِّمته، واصفًا إياها بالرسالةِ اللطيفة في المعنى، السَّهلة في الأسلوب، والمترابطة المقاصد، الغزيرة العلوم والنصائح، رغم قلة وُريقاتِها.

وحثَّ فيها ابنُ القيم أحد إخوانه (علاء الدين) على تعليم الخير، والنصح لكل مَن اجتمع به، مبينًا الآثار المترتبة على ترك الدعوة والتعليم، ذاكرًا منها: محق البركة، وفساد القلب وغفلته، واقفًا على أهم آثار تلك الغفلة إذا اجتمعت مع اتِّباع الهوى، متحدِّثًا عن المُنعم عليهم، مُبينًا حاجةَ العبد إلى الهداية من تسعة أوجه.

وقد تحدَّث عن أشرف أنواع المهتدين، وهم الذين يسألون ربهم أن يجعلهم أئمة يُهتَدى بهم ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]، شارحًا السبل الأربعة التي تُنال بها هذه الإمامة.

وهنا نقف مع أهم هذه الدرر التي قد يخرج بها قارئُ الرسالة، وقد اخترتُ إبراز هذه اللآلئ في نقاطٍ حتى يسهُلَ عليك أيها القارئ الكريم الوقوفُ عليها بصورة سريعة، والخروج بالمفيد من قيم هذه الدُّرَر واللآلئ.

فإليها:
• إن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلَّ، ونصحه لكل مَن اجتمع به؛ قال الله -تعالى- إخبارًا عن المسيح - عليه السلام -: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ... ﴾ [مريم: 31]؛ أي: معلمًا للخير، داعيًا إلى الله، مُذكِّرًا به، مرغبًا في طاعته.

• كلُّ آفةٍ تدخُلُ على العبد فسببُها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظِّه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده.

• وصَّى بعض الشيوخ، فقال: احذروا مخالطة مَن تُضيِّعُ مخالطتُه الوقتَ وتُفسِد القلبَ، فإنه متى ضاع الوقت وفسَد القلبُ، انفرطَت على العبد أمورُه كلها، وكان ممَّن قال الله -تعالى- فيه: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

• الغفلةُ عن اللهِ والدارِ الآخرة متى تزوجت باتِّباع الهوى، تولَّد ما بينهما كلُّ شر، وكثيرًا ما يقترن أحدُهما بالآخر ولا يفارقه!

ومَن تأمَّل فساد أحوال العالَم عمومًا وخصوصًا، وجده ناشئًا عن هذين الأصلين.

• إنَّ العبد مضطر كل الاضطرار إلى أن يكون عارفًا بما ينفعه في معاشه ومعاده، وأن يكون مُؤْثِرًا مريدًا لما ينفعه، مجتنبًا لما يضره، فبمجموع هذين يكونُ قد هُدِي إلى الصراط المستقيم، فإن فاته معرفةُ ذلك، سلك سبيل الضَّالينَ، وإن فاته قصدُه واتِّباعُه، سلك سبيل المغضوب عليهم.

إنَّ العبد مفتقرٌ إلى الهداية في كلِّ لحظةٍ ونَفَسٍ، في جميع ما يأتيه ويذره، فإنه بين أمور لا ينفك عنها:
• أحدُها: أمور قد أتاها على غير وجه الهداية جهلاً، فهو محتاج إلى أن يطلب الهداية إلى الحق فيها.

• أو يكون عارفًا بالهداية فيها، فأتاها على غير وجهها عمدًا، فهو محتاج إلى التوبة منها.

• أو أمور لم يعرِف وجهَ الهداية فيها علمًا ولا عملاً، ففاتته الهدايةُ إلى علمها ومعرفتها، وإلى قصدها وإرادتها وعملها.

• أو أمور قد هُدِي إليها من وجهٍ دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها.

• أو أمور قد هُدِي إلى أصلها دون تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل.

• أو طريق قد هُدِي إليها وهو محتاج إلى هداية أخرى فيها، فالهداية إلى الطريق شيءٌ، والهداية في نفس الطريق شيء آخر.

• إنَّ الجزاء من *** العمل، فكلما هدى المسلم غيرَه وعلَّمه، هداه الله وعلَّمه، فيصير هاديًا مهديًّا، كما في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم زيِّنَّا بزينةِ الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مُضلِّين، سِلْمًا لأوليائك، حربًا لأعدائك، نحب بحبك مَن أحبك، ونعادي بعداوتك مَن خالفك)).

• المتَّقون كلهم على طريق واحد، ومعبودهم واحد، وأتباع كتاب واحد، ونبي واحد، وعبيدُ ربٍّ واحد، فدينهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ومعبودهم واحد، فكأنهم كلهم إمامٌ واحد لمن بعدَهم، ليسوا كالأئمة المختلفين الذين قد اختلفت طرائقُهم ومذاهبُهم وعقائدهم، فالائتمام إنما هو بما هم عليه، وهو شيءٌ واحد، وهو الإمام في الحقيقة.

أخبر - سبحانه - أن الإمامة إنما تُنال بالصبر واليقين، فقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، فبالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين:
• فقيل بالصبر عن الدنيا.
• وقيل بالصبر على البلاء.
• وقيل بالصبر عن المناهي.

والصواب: أنه بالصبر عن ذلك كله؛ بالصبر على أداء فرائض الله، والصبر عن محارمه، والصبر على أقداره.

• هذه أربعة أصول تضمَّنتها آيةُ: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].

• الصبر: وهو حبس النفس عن محارمِ الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره.

• اليقين: وهو الإيمان الجازم الثابت - الذي لا ريب فيه، ولا تردد، ولا شك، ولا شبهة - بالأصول الخمسة التي جمع بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)).

• هداية الخلق ودعوتهم إلى الله ورسوله.

• قوله: ﴿ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ﴾: فيه دليل على اتباعهم ما أنزل الله على رسوله، وهدايتهم به وحده دون غيره.

• ممَّا ينبغي الاعتناءُ به علمًا ومعرفة وقصدًا وإرادة: العلمُ بأن كل إنسان - بل كل حيوان - إنما يسعى فيما يحصل له اللذَّة والنعيم، وطِيب العيش، ويندفعُ به عنه أضداد ذلك، وهذا مطلوب صحيح يتضمن ستة أمور:
أحدها: معرفة الشيء النافع للعبد، الملائم له، الذي بحصوله لذَّتُه وفرحُه وسرورُه وطِيبُ عيشه.

الثاني: معرفة الطريق الموصلة إلى ذلك.

الثالث: سلوك تلك الطريق.

الرابع: معرفة الضارِّ المؤذِي المنافر الذي يُنكِّد عليه حياته.

الخامس: معرفة الطريق التي إذا سلكها أفضَت به إلى ذلك.

السادس: تجنُّب سلوكها.

فهذه ستة أمور لا تتم لذَّة العبد وسروره وفرحه وصلاح حاله إلا باستكمالها، وما نقص منها عاد بسوء حاله وتنكيد حياته.

• أين عقل مَن آثر لذًّة عاجلة مُنغَّصة مُنكَّدة - إنما هي كأضغاثِ أحلامٍ، أو كطيفٍ تمتَّع به من زائرِه في المنام - على لذَّةٍ هي من أعظم اللذَّات، وفرحة ومسرَّة هي من أعظم المسرَّات، دائمة لا تزولُ ولا تفنى ولا تنقطع، فباعَها بهذه اللذَّة الفانية المضمحلة التي حُشِيت بالآلام، وإنما حصلت بالآلام، وعاقبتها الآلام؟!

فلو قايس العاقل بين لذَّتها وألمها، ومضرَّتها ومنفعتها، لاستحيا من نفسه وعقله، كيف يسعى في طلبها، ويضيع زمانه في اشتغاله بها، فضلاً عن إيثارها على ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟!

• اللذَّة التامَّة، والفرح والسرور، وطيب العيش والنعيم، إنما هو في معرفةِ الله وتوحيده، والأنس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهم عليه، فإن أنكد العيشِ عيشُ مَن قلبُه مُشتَّت، وهمُّه مُفرَّق، فليس لقلبه مستقر يستقر عنده، ولا حبيب يأوي إليه.

• احرِص أن يكون همُّك واحدًا، وأن يكون هو الله وحدَه، فهذا غايةُ سعادةِ العبد، وصاحب هذه الحال في جنة معجَّلة قبل جنة الآخرة وفي نعيم عاجل.

• قال -صلى الله عليه وسلم-: ((وجُعِلت قُرَّة عيني في الصلاة))، وقُرَّة العين فوق المحبة، فإنه ليس كلُّ محبوبٍ تَقَرُّ به العين، وإنما تقرُّ بأعلى المحبوبات الذي يُحَبُّ لِذَاتِه، وليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو، وكل ما سواه فإنما يحب تبعًا لمحبته، فيحب لأجله ولا يحب معه، فإن الحب معه شركٌ، والحب لأجله توحيد، فالمشرك ﴿ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، والموحِّد إنما يحب مَن يحبه لله، ويُبغِض مَن يُبغِضه في الله، ويفعل ما يفعلُه لله، ويتركُ ما يتركه لله.

ومدار الدِّين على هذه القواعد الأربع؛ وهي الحب والبغض، ويترتب عليهما الفعل والترك، والعطاء والمنع، فمَن استكمل أن يكون هذا كله لله، استكمل الإيمان، وما نقص منها أن يكون لله، عاد بنقص إيمان العبد.

• المحب راحتُه وقُرَّة عينه في الصلاة، والغافل المُعرِض ليس له نصيبٌ من ذلك، بل الصلاة كبيرة شاقَّة عليه، إذا قام فيها كأنه على الجمر حتى يتخلَّص منها، وأحبُّ الصلاة إليه أعجلُها وأسرعُها، فإنه ليس له قُرَّة عين فيها، ولا لقلبه راحة بها.

مما ينبغي أن يُعلم أن الصلاة التي تَقَرُّ بها العين، ويستريح بها القلب، هي التي تجمَعُ ستَّة مشاهد:
الأول: الإخلاص: وهو أن يكون الحاملَ عليها والداعيَ إليها رغبةُ العبد في الله ومحبته له.

الثاني: الصدق والنصح: وهو أن يفرغ قلبَه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله.

الثالث: المتابعة والاقتداء: وهو أن يحرِصَ كلَّ الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ويصلي كما كان يصلي.

الرابع: الإحسان: وهو مشهد المراقبة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته.

الخامس: المنة: وهو أن يشهد أن المنة لله - سبحانه - كونه أقامه في هذا المقام وأهَّله له.

السادس: التقصير: وأن العبد لو اجتَهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه، فهو مُقصِّر.

• إذا كان خَدَمُ الملوك وعبيدُهم يعاملونهم في خدمتِهم بالإجلال لهم والتعظيم، والاحترام والتوقير، والحياء والمهابة، والخشية والنصح؛ بحيث يُفرِّغون قلوبَهم وجوارحَهم لهم، فمالكُ الملوك وربُّ السموات والأرض أولى أن يُعامَل بذلك، بل بأضعاف ذلك.

• إذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوفِّ ربَّه في عبوديته حقه، ولا قريبًا من حقه، عَلِم تقصيرَه، ولم يَسَعْه مع ذلك غيرُ الاستغفار والاعتذار من تقصيره وتفريطه.

• حظُّ العبدِ من القرب من الله على قدرِ حظِّه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد.

• نية صحيحة، وقوة عالية، يقارنهما رغبة ورهبة، فليتأمَّل اللبيب هذه الأربعة الأشياء، وليجعلها سيره وسلوكه، ويبني عليها علومه وأعماله، وأقواله وأحواله، فما نتج مَن نتج إلا منها، ولا تخلف مَن تخلف إلا من فقدها.

والله أعلم، والله المستعان، وعليه التكلان، وإليه الرغبة، وهو المسؤول بأن يوفِّقنا وسائر إخواننا من أهل السنة لتحقيقها علمًا وعملاً، إنه ولي ذلك والمانُّ به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.



جلال الشايب (http://www.alukah.net/Authors/View/Sharia/3075/)

الاستاذ عوض على
22-11-2013, 09:36 AM
جزاك الله خيرا

أبو إسراء A
24-11-2013, 10:15 AM
جعل الله ما تضعه من موضوعات فى ميزان حسناتك يوم تلقاه ، و هو بكل جميل كفيل ، و هو حسبنا و نعم الوكيل .