مشاهدة النسخة كاملة : الدعوة قبل الدولة


abomokhtar
19-01-2014, 07:32 AM
الدعوة قبل الدولة


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد شاع بين الخاص والعام، وذاع على ألسنة كثير من أبناء الإسلام ترديد تِلْكُم المقولة الرائقة الشائقة "الإسلام دين ودولة"، ويبدو لي أن هذه الجملة بهذه الصياغة، إنما ظهرت بعد بدعة علي عبدالرازق التي ضمَّنها كتابَه "الإسلام ونظام الحكم" على إثر نكبة سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924م، ثم شاع استعمالها ردًّا على الدعوى العلمانية: "لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين"، ذات الجذور النصرانية: "دعْ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".

"الإسلام دين ودولة".. هذه الجملة يُعَدُّ مدلولُها مسلَّمًا بَدَهِيًّا بين كافة أبناء الحركة الإسلامية والعاملين في ساحتها، وهي تعني أن الإسلام جاء بنظام سياسي محكم، لا يفصل بين الدين والدنيا، بل يَسُوس الدنيا بالدين، ويعمِّر الدنيا بالعمل للآخرة، بَيْدَ أن المدلول الآخر من هذه الجملة الذي يجب ترسيخه وتأكيده، أن الدين في الإسلام قبل الدولة، بمعنى أنه لا دولة للإسلام، إلا بعد تحقيق الإسلام، وتحقيق الإسلام بمفهومه الواسع الشامل علمًا وعملاً، لا يكون إلا بالدعوة، والنتيجة من هاتين المقدمتين أن "الدعوة قبل الدولة"، والعمل بالقرآن قبل إقامة السلطان، يؤكد هذا ويقرره ما عُلِمَ من سيرته صلى الله عليه وسلم من أنه صلى الله عليه وسلم لم يُقِمْ دولة الإسلام بالمدينة إلا بعد ثلاثة عشر عامًا، ربَّى فيها خير أمة أُخْرِجت للناس، كانوا هم ثمرة الرسالة القرآنية والدعوة المحمدية.

عدم إدراك هذه الحقيقة من قِبَل بعض أبناء الحركة الإسلامية، قد يدفعهم - في خِضَمِّ التدافع الشرس والصراع الكبير مع الحركات اللادينية - إلى أن يجعلوا من السياسة أصلاً، ومن الدولة هدفًا، وهذا الظن الخاطئ يؤدي إلى أن تكون غاية الدعوة تَدَيُّنَ الدولة، لا تَدَيُّنَ الأفراد والمجتمعات، وأن يكون منطلق الدعوة المواقفَ السياسية لا المنهجيةَ الربانية الشمولية، فتفقد الدعوة خصيصتها، وتتحول إلى مجرد وسيلة لإضفاء الشرعية على المواقف السياسية، وهو ما أجاد الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله، صياغته في هذه العبارة النقدية اللاذعة: "الموقف السياسي يقود إلى الصلاة، والصلاة تقود إلى الموقف السياسي!" [الفجور السياسي صـ113].

وإذا كانت الغاية من الإمامة - كما يقول الإمام الماوردي -: "خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" فهذا بالضرورة يقتضي السعي في إقامة الدين بين العالَمين أولاً، ثم السعي إلى إقامة من يحميه ويحفظ بيضته ثانيًا.

إن غاية الدعوة تعبيد الناس لله رب العالمين، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وتحقيق هذه الغاية لا يقاس بانتشار مظاهر التدين في المجتمع بمقدار ما يقاس باندحار واضمحلال مظاهر الفسوق والفجور فيه، فشيوع مظاهر التديُّن مع تفشي المنكرات وشيوع المحرمات، لا يعني أن الدعوة حققت أهدافها، وانتصرت في صراعها، بل يعني أن دعاة الفجور يحاربون انتشار الفضيلة بالمزيد من نشر الرذيلة، ويواجهون انتشار العفة بالمزيد من إشاعة الفاحشة، والذي يعني بالضرورة أن الفضيلة والرذيلة لا يزالان في صراع الوجود كفرَسَي رِهانٍ.

وتعليق إسلامية الدولة على وضع مادة في الدستور تجعل الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسًا للتشريع، أو على وصول حزب يرفع لواء الشريعة إلى سُدَّة الحكم، هو - في رأيي- بداية السقوط، وأول طريق الهزيمة، فلا تزال جوْلات الصراع بين الحق والباطل على أَشُدِّها، ولا تزال الدعوة في حاجة إلى تحقيق أهدافها، وهو ما أجاد الشيخ فريد الأنصاري صياغته أيضًا في هذه الجملة الموجزة: "أعطني مجتمعًا متدينًا؛ أعطك دولة إسلامية، بالمعنى السياسي لكلمة (دولة)" "البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي صـ207"، وهذا يعني ضرورة أن يصطبغ المجتمع بصبغة الإسلام اعتقادًا وقولاً وعملاً.

وعليه، فالمسار الصحيح لضبط العلاقة بين الدعوة والسياسة، يكمن في أمرين:
الأول: أن يكون هدف الدعوة الأول والأخير تعبيدَ الدنيا بالدين، وتعمير الدنيا بالعمل للآخرة، وتحقيق العبودية الخالصة لله قلبًا وقالبًا، وتطبيق الإسلام بشموله وكماله قولاً وعملاً.

والثاني: أن توجِّه الدعوةُ السياسةَ نحو هذه الوجهة، فتقوِّم انحرافها وتصوِّب أخطاءها وتزن عملها بمنهج علمي دَعَوي شامل مبني على برامجَ واضحةٍ، وخطط مدروسة – تَجَنُّبًا للعشوائية والفوضوية - يقوم عليها المتخصصون الأكْفَاء، كلٌّ في مجاله وحَسَب موقعه.

لست أعني بهذا هجرَ المشاركة السياسية؛ وإنما أعني وضعها في الموضع اللائق بها، وهو أن تكون المشاركة السياسية وسيلةً لا غاية، وفرعًا لا أصلاً، خشية أن تُستَنفد الجهود لفرع يشغل عن الأصل، وتُستَنْفر القوى لوسيلة تلهي عن الغاية.

وفي الختام تدبَّرْ معي آية الاستخلاف والتمكين الجامعة: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]، وما تقدم غَيْضٌ من فَيْضِ معانيها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.