مشاهدة النسخة كاملة : دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها


abomokhtar
25-01-2014, 08:53 PM
ليس من الطبيعي أن يتوجَّه إنسان إلى حجر أو شجر أو قبر أو أي مخلوق آخر بأشكال التقديس والتقرُّب، ولذا: فإن الصورة الساذجة المباشرة لهذه الأعمال لا يتصور أنها تنطلي من أول وهلة وبصورتها الساذجة على المخلوق المكرم بعقله، المميز بفطرته؛ إذ لا بد من وجود حجج وحيثيات تزين هذا الانحراف وتسوغه له، أي: لا بد من وجود (فلسفة) لهذا الأمر حتى ولو لم تظهر مصاحبة له، فهي في كثير من الأحيان تظهر في صورة أشبه ما تكون بالاتجاه النفسي[1] لدى المبتلين بهذا الداء، وهنا تكمن الصعوبة في هذا الجانب من البحث؛ لأننا نريد دخول منطقة (اللاوعي) عند القبوريين للخروج بالوعي الكامن الذي يحركهم ويدفعهم إلى هذه الأفعال التي من المفترض ألا يقبلها عقل راشد، ولا تستسيغها فطرة سليمة، ولا تسمح بها شريعة منزلة.. فكيف فعلها هؤلاء؟ بل كيف تمسكوا بها ودافعوا عنها؟

عودة إلى الوراء:

الأمر يستدعي مِنَّا أن نعود إلى الوراء لننظر: كيف كان يُدعى الناس من خلال (الحكمة والفلسفة) إلى الانحراف العقدي؟


في البدء كان التوحيد، ولم يكن شرك على وجه الأرض، وكان في الناس بعض المميزين بصلاحهم المبرزين بعبادتهم، ثم طالت فترة الناس عن نور الوحي فقلّ فيهم عدد هؤلاء المميزين، ولكن يبقى الناس مجلين هؤلاء الصالحين، متمسكين بشعاع التقوى والعبادة يريدون عدم الانسلاخ منه، وهنا يبرز الشيطان مزيناً بداية خط الانحراف: (لو صوّرتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم)، و(أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكون في ناديكم فتذكرونه به)، فقط اتخاذ (الرمز)؛ للتذكرة بالعبادة والصلاح! فصوروا، ثم ماتوا... فنشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: (إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها) فعبدوها. إنه (التقليد).

فباتخاذ (الرمز) واحترامه وتعظيمه، ثم بـ (التقليد) الذي قاد إلى التقديس حدث أول شرك، وهذا ما حدث في قوم نوح عليه السلام (انظر: ما أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، سورة نوح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح من الآية:23]، وانظر: تفسير الطبري، ج29، ص: [62]، وإغاثة اللهفان، لابن القيم، ج1، ص: [184]).


فكيف كانت (فلسفة) الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام؟!

نشأت عبادة الكواكب عندهم من التعلق بالملائكة، واعتقاد أنهم (وسطاء) بين الله وخلقه، وأنهم موكول إليهم تصريف هذا العالم، ثم اعتقدوا أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى، وزعموا أنها أحياء ناطقة مدبرة للعالم، وأنها بالنسبة للملائكة كالجسد للروح، فهي الهياكل، والملائكة الأرواح، وأنها متصفة بصفات مخصوصة، ولوجود هذه الصفات استحقت أن تكون آلهة تُعبَد... فكانوا يتقرَّبون إلى الهياكل تقرُّباً إلى الروحانيات، ويتقرَّبون إلى الروحانيات تقرباً إلى الباري تعالى، وهؤلاء يُسمَّون (أصحاب الهياكل).

ولما كانت هذه الكواكب يختفي أكثرها في النهار وفي بعض الليل لما يعرض في الجو من الغيوم والضباب ونحو ذلك رأوا أن ينصبوا لهذه الكواكب أصناماً وتماثيل على هيئة الكواكب السبعة (الشمس، والقمر، والزهرة، والمشتري، وعطارد، والمريخ، وزحل) حينما تصدر أفعالها عنها كما يزعمون، كل تمثال يقابل هيكلاً... واعتقدوا أن التقرُّب إلى هذه الأصنام هو (الوسيلة) إلى الهياكل التي هي وسيلة إلى الروحانيات، التي هي وسيلة إلى الله تعالى... وهؤلاء يُسمَّون (أصحاب الأشخاص) (بتصرُّف عن: التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام، لعبد المجيد بن سالم بن عبد الله المشعبي، ص: [43-45]. وانظر: تفسير ابن كثير، ج2، ص: [140-141]).

مرة أخرى: إنه (الرمز)، ولكن يظهر هنا جليّاً دور قدسية (الأرواح) التي نسبوها إلى الملائكة، وعقيدة (الواسطة) و(الوسيلة).

ويعيد إبراهيم عليه السلام إرساء عقيدة التوحيد صافية نقية، وينشر إسماعيل عليه السلام ملة أبيه إبراهيم بين العرب، ويظل أبناؤه على ذلك التوحيد، معظّمين أول بيت وُضِعَ للناس الذي جدَّده خليل الله مع ابنه إسماعيل عليهما السلام... إلى أن بعدت الفترة بين العرب ونور النبوة، ثم اندرس كثير من آثار العلم، فقلّت حصانتهم ضد الانحراف، وأصبحت الفرصة مواتية للتحريف، وهنا برز عمرو بن لحيّ الخزاعي آتياً بالأصنام إلى مكة، فنصبها وأمر الناس بعبادتها وتعظيمها[2]، فعبدوها، ولكنهم لم يعبدوها لمجرَّد كونها حجارة أو أخشاباً، بل عبدوها -معتقدين أنها منازل الأرواح كما بيّن الإخباريون-[3].

مرة أخرى: إنه (الرمز) و(الأرواح)؛ ثم بسبب (التقليد) وبسبب ضعف تمثل تعاليم الملة الحنيفية في نفوس الناس بل ربما كانت تفاصيل هذه التعاليم قد ضاعت استمرت فيهم هذه الوثنية مع شعائرها وعاداتها واعتقاداتها عقوداً متتابعة (انظر السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري، ج1، ص: [83-84]).

ووصل الولع بـ (تقديس الرمز) إلى هاوية سحيقة، حيث روى أبو الرجاء العطاردي: "كنا نعبُد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير! ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..." (أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة)؛ ومع ذلك قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر من الآية:3]، وقالوا أيضاً: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه} [يونس من الآية:18]... إنها: (الواسطة) و(الوسيلة).

ونفترض هنا سؤالاً مهماً: لو كان عمرو بن لحي خرج في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الأوثان تقرُّباً إلى الرحمن، أكان يجد من يتبعه منهم؟


بداهةٌ: لا، وإذا كان الأمر كذلك: فلماذا لم يرفض العرب ما جاء به عمرو من تحريف دين إبراهيم وعبادة الأصنام من أول وهلة؟

يوضِّح الإجابة على مثل ذلك كلام لابن القيم رحمه الله حيث يقول: "قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع... وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبقَ فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته..." (الفوائد، ص: [44-45]).

لم يكن عمرو بن لحيّ أول من ألقى إلى العرب مفهوم تقديس الرمز وإن كان هو أول من جسده في صورة أوثان وأصنام، لقد كان العرب بسبب ضعف آثار علم النبوة الذي أشرنا إليه، وبذريعة (تقديس الرمز) وصلوا إلى ما يمكن أن نطلق عليه: (حالة القابلية للشرك).


فلقد ذكر ابن الكلبي في كتابه (الأصنام) وابن إسحاق في سيرته: "أنهم كانوا لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم؛ تعظيماً للحرم وصبابة به، فحيثما حل وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة؛ تيمناً منهم بها، وصبابة بالحرم، وحبّاً له" (السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة؛ د. محمد محمد أبو شهبة، ج1، ص: [71]).

فتقديس (الرمز) ذريعة إلى الشرك، "وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي التي أوقعت كثيراً من الأمم: إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب، ونحو ذلك، فلأن يُشْرَك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه؛ أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله؛ ولهذا تجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها، ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد، بل ولا في السّحَر..." (ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص: [334]، وانظر: حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد، لمحمد بن سلطان المعصومي).

حقيقة القبورية:

وهنا نأتي إلى القبوريين: كيف تبدأ علاقتهم بالقبر أو الضريح؟ وكيف تنتهي بهم إلى الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك حسب تعبير ابن تيمية رحمه الله؟

"تبدأ العلاقة بتقديس (الرمز)؛ رمز الصلاح والتقوى والمنزلة الرفيعة عند الله، ومن ثم: تستحب زيارة تلك البقاع، ليس لتذكر الموت والآخرة، بل لتذكر (الرمز) والاعتبار به، ولأن هذه الأماكن (مباركة)، ولأن الملائكة و(الأرواح) تنتشر حولها كما يزعمون، فإن دعاء الله يحسن عندها، فهو أرجح منه في البيت والمسجد وأوقات السّحَر، كما أن البركة (تفيض) على كل شيء حول القبر، فمن أراد التزود منها فليلمس، ويقبّل، ويتمسح، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة تالية: من دعاء الله عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، أي: اتخاذه (واسطة) و(وسيلة) للاستشفاع به عند الله؛ فصاحب الضريح طاهرٌ مكرَّمٌ مقرَّبٌ له جاه عند الله، بينما صاحب الذنب أو الحاجة يتلطخ في أوحال خطيئته، غير مؤهل لدعاء الله، فإذا تقرَّر ذلك هبط إلى دركة أخرى: فما دام هذا المقبور مكرَّماً فليس بممتنع أن يعطيه الله القدرة على التصرُّف في بعض الأمور التي لا يقدر عليها طالب الحاجة، فيُدعى صاحب القبر، يُرجى ويُخشى، يستغاث به، ويطلب المدد منه، ولِمَ لا؟!

فهو صاحب (السر) الذي توجل منه النفوس، وترتجف له القلوب، وتتحير فيه العقول! فإذا تقرَّر ذلك هبط دركة ليست أخيرة، حيث (يتخذ قبره وثناً، يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به، وتقبيله، واستلامه، والحج إليه، وال*** عنده، ثم ينقله [الشيطان] درجة أخرى: إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم..." (ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ج1، ص: [217]).

هذا هو الواقع: ليست المسألة مظاهر وطقوساً مجردة، بل هي أعمال جوارح، نتجت عن أعمال قلوب، تُحرِّكها تصورات واعتقادات رسخت في النفوس وتخللتها وذابت فيها إلى الحد الذي لم تعد فيه بارزة منفصلة عن تلك المظاهر والطقوس... هذا هو التصور المقنع لما يعمله أي إنسان عاقل؛ فـ "مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها" (ابن القيم، الفوائد، ص: [236]).

فالحقيقة أن: "من يدعو الأموات ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، لا يصدر منه ذلك إلا عن اعتقاد كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم، هذا إن أراد من الميت الذي يعتقده ما كان تطلبه الجاهلية من أصنامها من تقربهم إلى الله، فلا فرق بين الأمرين. وإن أراد استقلال من يدعوه من الأموات بأن يطلبه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا أمر لم تبلغ إليه الجاهلية..." (الإمام محمد بن علي الشوكاني، رسالة وجوب توحيد الله عز وجل، ت: د. محمد بن ربيع هادي المدخلي، ص: [80]).

فالمسألة في حقيقتها: تقديس (الرمز) واتخاذه (واسطة) أو (وسيلة) لقضاء الحاجات وللشفاعة عند الله.

هكذا هي في أدبيات القبوريين: جاء في (الرسالة: [42]؛ من رسائل إخوان الصفا: [4/21]) قولهم[4]: "من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقرَّبين والتعظيم لهم ومساجدهم... فإن قصُر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل بوصاياهم والتعلُّق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك، طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه..." (عن: هذه مفاهيمنا، للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ص: [32]، ص: [102]).

ومما نقله الشيخ محمد رشيد رضا عن كتاب لأحد دعاة القبور: "وكل ما في الأمر أنه -أي: المتوسّل بغير الله- يرى نفسه ملطخاً بقاذورات المعاصي، أبعدته الغفلات عنه -أي: عن الله- أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه وقضاء حاجاته، وله الحق في هذا الفهم..." (مجلة المنار، ج3، م33، ص: [216]).

وهكذا؛ هي في مكنون تراثهم الشعبي، فإذا استطلعنا الأمثال الشعبية المصرية كنموذج لهذا التراث في العالم الإسلامي نجد منه قولهم: [من زار الاعتاب ما خاب] أي: من زار الأضرحة والأعتاب (المقدسة) قضيت حاجته ونال مراده، "فالاعتقاد الشعبي في الأولياء يتلخص في أن الله قد منح بعض عباده المقربين (امتيازات) لا حدود لها... يكوّنون حول الرسول ديواناً سماوياً ينشر قدرته" (موالد مصر المحروسة، عرفة عبده علي، ص: [85]).

ونجد في هذا التراث أيضاً: (يوضع سره في أضعف خلقه)، والمفهوم من كلمة (سره) أنها القدرة المستندة إلى أسباب غيبية ومحيرة، وأضعف خلقه مقصود بهم: المجانين والمجاذيب والأطفال...

ولعل من دقيق فقه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في دين الله، وإحاطة فقهه بواقع الناس وحالهم؛ ما جاء في معرض تعريفه للألوهية والإله؛ حيث قال: "فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا: السر، والولاية. والإله معناه: الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ، وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلجأ إليهم، ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله" (رسالة: هدية طيبة، ضمن مجموعة التوحيد، ص: [152]).

ويقول أيضاً: "...هذا الذي يسميه المشركون في زماننا: الاعتقاد، هو الشرك الذي نزل فيه القرآن..." (رسالة: كشف الشبهات، ضمن مجموعة التوحيد، ص: [102]، ص: [113]).

وكذلك هي في واقعهم؛ يقول أحدهم: "إن الوهابيين يقولون: إن أولياء الله لا يستطيعون دفع الذباب عن قبورهم، ولكنهم لا يعلمون أن لهم قدرة أن يقلبوا العالم كله، ولكنهم لا يتوجهون إلى ذلك"، ونقلوا عن محمد الحنفي أنه قال في مرض موته: "من كانت له حاجة فليأت إلى قبري، ويطلب حاجته أقضها له" (عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي الأفغاني، ص: [1083]، وانظر: البريلوية، عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير، ص: [74]، ص: [59]).

"فالاعتقاد السائد: أن البركة إنما تسري من الولي إلى الضريح إلى المناديل والملابس التي مسحت بها، والأغرب من ذلك: ما يحدث عند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي الخاصة، هنا يسعى الجميع للحصول على قطع من هذه الكسوة أو العمامة مع استعدادهم لسداد أي مبلغ يطلب منهم..." (هيام فتحي دربك؛ مقال بعنوان: موالد الأولياء في مصر، المجلة العربية، عدد: [131]، ذو الحجة 1408هـ، ص: [43]).

وذكر المؤرخ الحضرمي صلاح البكري: "أن بعض المرضى يأكلون من تراب بعض تلك القبور طلباً للشفاء" (انظر: الانحرافات العقدية، ص: [335]).

وتقول إحدى الفرق في قبر شيخها: "إن قبره ومزاره دار الشفاء للمرضى، وأنه حلاّل المشاكل، ومسهّل الأمور، وقاضي الحاجات"، و"إن المرضى كانوا يستشفون من عيسى، ولكن أحمد رضا يحيي الأموات!" (البريلوية، ص: [75]).

والمسألة في حقيقتها: اعتقاد في تأثير (الأرواح)؛ "فإنهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به وأدناه منه: فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوهما على الجسم المقابل له" (محيي الدين البركوي الحنفي، زيارة القبور الشرعية والشركية، ص: [48]).

ويقول الشيخ أخلاق حسين القاسمي، أحد أبناء طائفة الديوبندية الصوفية: "إن أرواح المؤمنين وخاصة أرواح الأولياء والصالحين قادرة على التصرُّف في هذا الكون بعد مفارقة الأجساد..." (الديوبندية تعريفها، عقائدها، سيد طالب الرحمن، ص: [78]).

وهذا ما يشهد به واقعهم: فأعراب شرق الأردن يسمّون المقام ولياً؛ لأن أرواح الصالحين تقطن في ذلك البناء، بل يزعمون: "أن أرواح الأولياء تسكن في القبور حيث يرقد جثمانها، وهي كالبشر في جميع احتياجاتهم من أكل وشرب، فيدّعون أن الرياح والثلوج تؤثر بهم، والجوع يفنيهم" (الخوري بولس سلمان، المزارات في شرقي الأردن، مجلة المشرق، 11/11/1920م، ص: [901]).

وينقل الشيخ محمد رشيد رضا عن أحد دعاة القبورية قوله: "إن الدعاء والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم أحياء في قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها وفي خارجها" (المنار، ج3، م33، ص: [216]).

ويقول آخر: "إن تصرف الأولياء يزداد بعد وفاتهم" (البريلوية، عقائد وتاريخ، ص: [74]).

فالقبوريون: "أمام قبر الولي يركعون ويبكون ويتوسلون إليه، معتقدين أن الولي ينظر إليهم ويراهم، وأن روحه الطاهرة تحوم حولهم" (هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص: [43]).

ومما يؤكد اعتقاد القبوريين في تأثير أرواح (الأولياء) بالتصرُّف أن كثيراً من هؤلاء المقبورين كانوا في معظم حياتهم (غير فعالين) في الخوارق، ووجد القبوريون فيهم ذلك بعد مماتهم؛ فالشيخ عبد الله في معان بالأردن عاش بالصلاح والتقوى وكان خطيباً ينذر القوم بالوعد والوعيد، فلم يجد في عشيرته من يعي كلامه ويحفظه، فلما استوفى أيامه أظهر الله كراماته بشفاء كثير على ما زعموا (المزارات في شرقي الأردن، مجلة المشرق، ص: [908]).

بل وصل الأمر إلى حد "أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً مر عليهم في سفره، ولحبهم فيه أرادوا ***ه ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها" (د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص: [23]، هامش: [1]).

وهكذا هي في التراث الشعبي، فمن الأمثال الشعبية المصرية: "بعد ما راح المقبرة بقى سكّره" أي: أصبح مرغوباً فيه مثل السكر... فما الفرق بين الحياة والممات إلا في انفصال (الروح) عن الجسد؟!

والمسألة في حقيقتها: تعلق القلوب بالضريح وصاحبه والتوجُّه إليه بمشاعر الإجلال والمهابة.

هكذا يشهد حالهم: "فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع ورقّة القلب والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه" (ابن القيم، إغاثة اللهفان، ج1، ص: [198]).

ولعل السبب في ذلك أن: "غرّهم الشيطان، فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً، وأشد فيهم غلوّاً، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد" (ابن القيم، إغاثة اللهفان، ج1، ص: [189]).

وهذا ما يُقرِّره أحد مشائخ القبوريين، الذي يقول: (إن صاحب هذا القبر شيخنا محمد إلياس يوزع النور الذي ينزل من السماء في قبره بين مريديه حسب قوة الارتباط والتعلق به) (الديوبندية، ص: [132]).

فكلما توغل القبوري في غيّه كلما حرص على إبراز قوة الارتباط والتعلق بالضريح وشدة تعظيمه وغلوه فيه، وفي ذلك قال ابن الرومي في (شرح المختار): "قد قرَّر الشيطان في عقول الجهال أن الإقسام على الله بالولي والدعاء به أبلغ في تعظيمه، وأنجح لقضاء حوائجه، فأوقعهم بذلك في الشرك" (حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد؛ لمحمد بن سلطان المعصومي الحنفي، ص: [25]).

وعلى ذلك: "فقد يُقسِم الأعرابي بالله دفعات متوالية على أنه يخشى أن يذكر اسم (شعيب) بالكذب مرة واحدة؛ لأنه: مظهر الأسرار وموضح الخفيّات" (مجلة المشرق، المزارات في شرقي الأردن، ص: [905]).

وعندما سُئِل أحد التجار: لماذا يُقسِم بصندوق ضريح القرية، ولا يُقسِم بالله عندما يُحاسِب زبائنه؟

أجاب: "إنهم هنا لا يرضون بقَسم الله، ولا يرضون إلا بقَسم صندوق نذور الضريح أو سور الضريح لسيدنا فلان" (د. عبد الكريم دهينة: الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص: [117]).

فهل هذا إلا للتعظيم والإجلال والرهبة وتعلُّق القلب بالضريح وصاحبه؟

وأحوالهم في ذلك عديدة: "فمقام (النبي هارون) بالأردن: يهجع الزائر (المؤمن) تحت ظله فيشعر بما لا يوصف من المسرة والحبور، وتزور المرأة العاقر مقام (النبي يوشع) حافية خاشعة، وتجثو أمام الضريح وتقبله بدموع وتضرع... ومنهن من يرقدن الليالي الطويلة بين أسواره بالصوم والصلاة ثم يغادرنه وفي أنفسهنّ الآمال والمسرات" (مجلة المشرق، ص: [906]، ص: [903]، ص: [913]).

ويُلخِّص هذا التعلُّق أبو الثناء الآلوسي عندما يصف موقفاً مرَّ به في إحدى زياراته للأضرحة والمزارات، فيقول: "حتى أتينا قرية يقال لها [قارحين] وهناك قبر عليه قبة ثلجية قد زرناه فلم نحس منه بروحانية" (الانحرافات العقدية، ص: [347]).

ويقول البريلوي أحمد رضا المُسمِّي نفسه بعبد المصطفى: "إنني لم أستعن في حياتي بأحد ولم أستغث بغير الشيخ عبد القادر، وكلما أستغيث أستغيث به، ومرة حاولت أن أستغيث وأستعين بولي آخر، وعندما أردت النطق باسمه للاستغاثة والاستعانة ما نطقت إلا بـ (يا غَوْثاه)، فإن لساني يأبى أن ينطق الاستعانة بغيره" (عن: البريلوية عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير، ص: [58] [10]، مجموع الفتاوى، ج27 ص: [164]).

وهذا الموقف النفسي يرصده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما يتحدث عن تفرُّق القبوريين حسب تمسك كل منهم بالضريح الذي تتوق نفسه إليه، فيقول: "ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من الشرك ما فيهم قد فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم، ويقولون: الدعاء عند قبره يستجاب، وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه، كما أن عباد الكواكب والأصنام كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد ما يألهه وإن كان غيره أفضل منه" (موالد مصر المحروسة، ص: [81-82]).

وهكذا هي في تراثهم الشعبي، فيقول المثل الشعبي: "الشيخ البعيد سره باتع"، أي: صاحب الضريح البعيد سره مؤكد مقطوع به، والبعد: مسألة نسبية، فالبعيد بالنسبة إلى هؤلاء قريب لغيرهم، والقريب إليهم الذي لا يرغبونه بعيد عن غيرهم، فما الذي يجعل الضريح البعيد مرغوباً أكثر من غيره؟


إنه شوق القلب وحنينه الذي يساعد البُعد في تولده، وهذا ما يُعبِّرون عنه في مثل آخر يقول: (ابعد حبة -بعض الشيء- تزيد محبة)... فتعلُّق القلب رغبة ورهبة ومحبة تجعل "آمال وآلام الزائرين لا تمضي إلى أي ضريح بالمصادفة، ولكن شهرة الولي واختصاصه بالشفاعة، والبعد المكاني، لهم تأثير كبير في قصد الزيارة؛ فالضريح الذي نتكبد إليه مشاق السفر يصبح أكثر جذباً ورهبة من ذلك الضريح القريب المتاح زيارته في أي وقت" (رسالة العبودية، ت: محمد بشير عيون، ص: [65-66]، وانظر: مجموع الفتاوى، ج10، ص: [216]).

وتبقى التساؤلات:

- ما الذي يدفعهم للاعتقاد في الأضرحة أنها قوة قاهرة وسلطة نافذة وإن اعتبروها (واسطة) و(وسيلة)؟

- وما الذي يدفعهم لإسناد ذلك إلى الأرواح، أو بتعبير أدق إلى سرّ غيبي محيّر؟

- وما الذي يدفعهم إلى التوجه بمشاعر قلوبهم نحوها لجلب رضاها أو دفع مضرتها، أو للتمتع بالمسرة والحبور في أنفسهم؟

- لماذا تحوَّلت العلاقة بالرمز من ذكرى واحترام إلى تقديس واعتقاد إلى تعلق وانجذاب؟

إن الذي حملهم على كل ذلك وحمل غيرهم على نظيره هو إشباع (التألُّه) لدى قلوبهم المحرومة من التألُّه للإله الحق؛ وهذا ما يُقرِّره الإمام ابن تيمية رحمه الله حين يقول: "ومن لم يكن محبّاً مخلصاً لله، عبداً له، قد صار قلبه معبّداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين... وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه؛ فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه، كان مشركاً" (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، تحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، ص: [277]).

ويُقرِّر ذلك أيضاً تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله، حين يقول: "العبد لا يترك ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة" (د. محمد محمد عودة، ود. كمال إبراهيم مرسي، الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام؛ ص: [103]).

وهذا ما تُقرِّره أيضاً الدراسات الإنسانية الحديثة، فقد "أيدت دراسات الأنثربولوجيا [علم الإنسان] وعلم الأديان أن الحاجة إلى الدين موجودة عند جميع الناس في كل العصور وفي جميع المجتمعات، فالإنسان منذ القِدم وهو يبحث عن إله يعبده، ويتوسل إليه، يعتقد أنه قوي مسيطر على الكون، خالق كل شيء، حي لا يموت" (د. يوسف القرضاوي، الإيمان والحياة، ص: [99]).

"هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، حتى قال أحد كبار المؤرخين: لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا قصور، ولا مصانع، ولا حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد" (حسين أحمد أمين، تأملات في حقيقة أولياء الله الصالحين، مجلة العربي، عدد: [226]، رمضان 1397هـ، ص: [131]).

وهذه الغريزة هي التي أضفت على (الرمز) حتى عند أهل الإلحاد أشكال المهابة و(القداسة)، فـ "في ظل نظام كالنظام الشيوعي الذي لا مكان للدين في فكره العلمي، اصطبغ الإيمان بالمادية الديالكتيكية بصبغة الحماس الديني، واتخذت الاجتماعات والاستعراضات سِمة الاحتفالات والمواكب الدينية، وأحيط واضعو النظرية ومؤسسو الدولة بهالة دونها هالة القديسين والرسل؛ فهم يوصفون بالخالدين، أو بالشمس التي لا تغرب، وها هي تماثيلهم الضخمة وصورهم وقد حلت مكان التماثيل الدينية والأيقونات تطل على الجماهير في الساحات وكافة المباني العامة، وعلى الأفراد في مساكنهم الخاصة، وها هي قبورهم وقد تحوَّلت إلى مزارات مقدسة تحج إليها الملايين، وتصطف الصفوف خارجها لساعات من أجل إلقاء نظرة، أما كتبهم فهي بمثابة الكتب المقدسة، من قبيل التجديف أن ينسب إلى فكرة فيها الخطأ، بل ويبيت البعض ليلهم (كالحرس الأحمر في الصين) وهي إلى جوارهم أو تحت وسائدهم حتى تصرف الشرور عنهم!" (د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص: [128]).

ويؤيد القول بأن دافع إشباع التأله هو الذي يحرك القبوريين عدة أمور، منها:

أولاً: إن بعض طقوس القبوريين تُعتبَر امتداداً لعادات وثنية كانت سائدة في أجدادهم قبل الإسلام، "وأول هذه العادات: تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ، ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة..." (انظر موالد مصر المحروسة، ص: [69]، والصوفية والسياسة في مصر، ص: [50]، ومقال: تأمُّلات في حقيقة أولياء الله، ص: [137]، ص: [136]).

وعلى ذلك نرى أن الطقوس التي كانت تقام داخل معبد الأقصر للإله (آمون) في عصر الفراعنة هي الطقوس ذاتها التي تتبع في مولد (أبي الحجاج الأقصري) والذي يقع ضريحه داخل معبد الأقصر نفسه، وأهم ظاهرة في هذا المولد: تلك المراكب التي يجرها جموع المريدين وسط صيحات التكبير والتهليل، مما يلقي بظلاله على ما كان يحدث في المهرجانات الدينية في عصور الفراعنة؛ حيث كان لمعظم الآلهة عدد من القوارب التي تلعب دوراً رئيساً في طقوس الاحتفالات الدينية، وإلى الآن يستمر هذا التقليد في مولد (أبي الحجاج الأقصري)، على الرغم من تأكيد أهالي الأقصر على أن هذه القوارب مرتبطة بمجيء أبي الحجاج من مكة، أو بحجه إليها، كما يتماثل أيضاً في مولد (عبد الرحيم القنائي) الذي أقيم قبره على طلل معبد إله من آلهة قدماء المصريين (انظر مقال: تأمُّلات في حقيقة أولياء الله الصالحين؛ ص: [135]).

ولعل منشأ كل ذلك عائد إلى التقديس الخاطئ للرموز الإسلامية إضافة إلى القياس الفاسد على من كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فقد يبدأ الأمر بالرغبة في تعظيم الرمز الإسلامي والزعم بأن الأولياء ليسوا بأقل من الذين كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فيعظمونهم بمِثل ما كانوا يمارسونه مع معبوداتهم الوثنية.

"ومن أمثلة ذلك أيضاً: ضريح الشيخ (هلال) المقام على قبر مزعوم قرب دمشق، حيث كان القدماء يعبدون (القمر)... وكذلك: فإن عبادة الأشجار معروفة في الوثنيات القديمة و(الحديثة)، وقد ظهر التأثر بهذا الانحراف الوثني عند القبوريين إما في صورة شجرة قائمة إلى جوار الضريح، وإما بزعم أن روح الولي المقبور تسكن فيها، وكثيراً ما يحظر قطع الأشجار المحيطة بقبر الولي" (مجلة المنار، ج3، م33، ص: [216-218]).

ثانياً: إن بعض هذه الطقوس تُعتبَر طقوساً مشتركة بين القبوريين وأصحاب الديانات الأخرى، يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: "هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله تعالى عنهم... وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين"، ويقول أيضاً: "ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأوَّلون لهم بدعهم الوثنية كما تأوَّل هذا العالِم الأزهري... واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين، ليس لأحدهم أن يتقرَّب إلى الله تعالى بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء المعتقدين ليُقرِّبه إليه زلفى" (عن: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ؛ لمحمد عبد الرؤوف القاسم، ص: [780]).

ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: "وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تُنجَز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومدّ يدِّ الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم..." (مجلة المنار، ج3، م33، ص: [220]).

ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: "في بنارس [في الهند] قبر أبي البشر آدم عليه السلام وقبر زوجه وقبر أمه! ويقال: إنهم يُعبِّرون بأمه عن الطبيعة، وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره... وجميع هذه القبور تُعبَد بالطواف حولها والتمسُّح بها وتلاوة الأدعية والأوراد عندها كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد المِلل والنِّحل أو التعبدات فيها أن علماء وثنيي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في عبادتها" (انظر الانحرافات العقدية، ص: [304]).

ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى أن شريف مكة -الشريف عون- عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز، اعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، بحجة أن حواء أم لجميع الناس وليست أمّاً للمسلمين فقط (تطهير الاعتقاد، للإمام الصنعاني، ص: [18-19]).

فحقيقة الأمر؛ أن ما يفعله القبوريون عند القبر والضريح هو بعينه الذي تفعله الجاهلية الوثنية: "وإنما كانوا يفعلونه لما يُسمُّونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يُسمُّونه ولياً وقبراً ومشهداً، والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني" (مجموع الفتاوى، ج27، ص: [461]).

ثالثاً: إن الاهتمام بالقبور والتوجُّه إليها تجاوز حواجز المِلل والمذهبيات والفِرق ليُشكِّل طقساً مشتركاً من طقوس التدين (الباطل) يجتمع عليه القبوريون مع إخوانهم في التأله للمقبورين؛ ففي كثير من الأحيان يمارس القبوريون هذه الطقوس بالاشتراك مع غيرهم ممن أشرنا إليهم.

ولأن النصارى يعيشون بين المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى فقد ظهر هذا الاشتراك جليّاً منذ القِدَم، فقد ثبت أن منشأ الأضرحة الموهومة والمكذوبة كان واحداً عند النصارى والقبوريين، وهو (أضرحة الرؤيا)، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أخذ شكل الاشتراك العملي في ممارسة الطقوس والعبادات؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر أن كثيراً "من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم" (موالد مصر المحروسة، ص: [73])

وكثير من موالد النصارى ليست مقصورة عليهم، بل يشارك فيها كثير من جهلة المسلمين "وهذا أمر ليس بمستغرب، فهم يذهبون أيضاً لبعض القساوسة ليخلصوهم من الأرواح الشريرة! وكما تتردَّد بعض القبطيات على أضرحة الأولياء؛ لتحقيق أمنية بالحمل، وتنذر نذراً إن تحققت أمنيتها..." (الصوفية والسياسة، ص: [50]).

وأيضاً فإن بعض النصارى يُشارِك جهلة المسلمين في الاعتقاد في ضريح الشيخ أبي الحجاج الأقصري (انظر موالد مصر المحروسة، ص: [72-75]).

ومثل ما توضَع الرسائل في أضرحة الأولياء وخاصة ضريح الإمام الشافعي توجد أوراق وأقلام على قبر البابا كيرلس السادس وغيره، لمن يرغب في تحقيق أمنية أو رجاء منه، ويوضع في مدخل الكنيسة أو الدير صندوق للنذور؛ كذلك توهب الأضاحي التي تُذبَح هناك (انظر مجلة المشرق، مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص: [902-904]).

والأهالي على اختلاف مِللهم ومذاهبهم وطبقاتهم يزورون مقام (النبي يوشع) في أكبر الأعياد الإسلامية وأيام المصائب والنكبات (اعترافات كُنتُ قبورياً، ص: [30]).

ويحكي الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربة شخصية له كيف أن إحدى قريباته عندما مرِضت أصرَّ أهلها على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس أيضاً (الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص: [159]).

فما الذي جعل هؤلاء يُشارِكون أولئك إلا أنهم جميعاً وجدوا في القيام بتلك المظاهر إشباعاً لدافع واحد يجمعهم هو: التدين، أو (التأله)؟

رابعاً: من أوضح الأمور التي تدل على أن الدافع لدى القبوريين هو إشباع التأله في قلوبهم: تعلُّقهم بمشخصات لا علاقة لها بالأولياء مطلقاً، بل هي أنصاب وأوثان صريحة، يصرفون إليها مشاعر المحبة والخوف والرهبة والرجاء... فإضافة إلى ما زعمه القبوريون من القبور المكذوبة على أصحابها، والقبور المنسوبة إلى صحابة وأولياء مزعومين ليس لهم وجود في السيرة والتاريخ، هناك القبور الموهومة التي ليس بها أي دفين، فلقد "وُجِدت بعض الأضرحة الوهمية التي لا يوجد بها جثمان لأحد المشايخ، بل عبارة عن هيكل أو كوم من الطوب تحت قبة توارث الناس الاعتقاد فيها، وتفيد محافظ المجلس الصوفي عن حالة كهذه، واتضح أنه ليس هناك شيخ، بل هناك كوم تراب يدعونه الناس سيدي فرج" (البريلوية، ص: [138]).

ولأن أمر هذه القبور المكذوبة والموهومة أصبح شائعاً، ولأن الأمر ليس في حقيقته إلا إشباع التألُّه في القلوب، فقد قرَّروا ذلك في صراحة، فقال أحدهم: "ولا يحتاج أن يطلب دليل وسند لصحة نسبة هذه الآثار إلى أصحابها، ويكفي أن تكون نسبتها مشهورة بين الناس" (الانحرافات العقدية، ص: [285]).

وقال الآخر: "وعلى كل حال؛ فلا بأس من زيارته -أي: القبر- على من توهَّم من وجوده" (الانحرافات العقدية، ص: [293]).

فالمهم أنه "يجب علينا التسليم في ذلك كله، واعتقاد تعظيم القبور المذكورة بما يُعد تعظيماً، وبكل ما يليق من الاحترام، ولو على تقدير توهم الصحبة..."، ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى أَضْرَحة (دواب الأولياء)، ففي اللاذقية بسورية حضرة يقال إنها مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي، لا تزال حتى اليوم تزار وتُبخَّر (الانحرافات العقدية، ص: [300]).

فالقبوريون؛ عُبَّاد كل ضريح حتى لو ثبت عدم صحة نسبة الضريح إلى صاحبه أو كان الضريح لدابة أو ثبت عدم وجود قبر أصلاً.

وما دام الأمر كذلك، فما الفرق بين كوم تراب وحجارة أو أخشاب أو نحاس... أو أي شيء من المخلوقات؟ لا فرق.. المهم وجود (السر) والتوجه إلى صاحبه!

وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا خفاء فيها ولا مواربة.

ففي الهند "يأخذون قليلاً من التراب من مكان ما، ويعطونه حكم نعش الإمام الحسين، ويضعونه على مكان مرتفع كصُفّة وغيرها، ثم يُقدِّمون له كل يوم أنواعاً من الشراب والحلاوة، والزهور والعطور وغيرها، ولا يسمحون لأحد أن يمرّ بتلك الصفة متنعلاً، ويسجدون لذلك التراب الذي أعطوه حكم قداسة جنازة الحسين، ويطلبون منه المال والأولاد..." (رسالة في تحريم اتخاذ الضرائح، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ص: [21]).

ولقد شاهد الشيخ محمد رشيد رضا بعض الرجال والنساء من العامة في مسجد (الحسين) بالقاهرة (يطوفون بعمود من الرخام، ويتمسَّحون به التماساً للبركة وتقرُّباً إلى (السيد البدوي)! معتقدين بأنه يجلس بجانب هذا العمود عند زيارة جده الحسين، ومنهم من يزعم أن روح السيد ترفرف دائماً هناك..." (عن: السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعة والدينية، لمحمد أحمد درنيقة، ص: [222]).


وفي نابلس بفلسطين عمود حجري كان مقدساً قبل الإسلام فوجد من يُطلِق عليه بعد انحراف الناس عن دينهم الحق: قبر الشيخ العمود (انظر مقال: تأمُّلات في حقيقة أولياء الله الصالحين؛ ص: [315]).

وفي أوزبكستان أوقع الفراغ الروحي الذي خلَّفته الشيوعية الناس هناك في التعلُّق بأي شيء مقدس، وهذا ما دعاهم إلى ترتيب عملية سطو منظمة للظفر بقطعة من كسوة الكعبة، ومن ثم: جلبوها إلى بلادهم ووضعوها في إطار زجاجي علق في فناء المسجد؛ ليأتي الناس للتمسُّح والتبرُّك بها، كما يتبرَّكون ويتمسَّحون هناك أيضاً بصورة الكعبة! (انظر مقال: مسلمو أوزبكستان؛ د. عبد الرحمن محمد عسيري، مجلة: دراسات إسلامية، عدد: [1]، ص: [218]).

بل ويتزاحم الناس في مولد البدوي بمصر "حول حِمار يأتي به دراويش الطريقة الشناوية إلى قبر السيد، فيتسابقون لنزع شعرات من جسمه يصنعون منها الأحجبة، وهذا بالضبط ما كان قدماء المصريين يفعلونه بهذا الحيوان!" (حسين أحمد أمين، مقال: تأمُّلات في حقيقة أولياء الله الصالحين؛ ص: [136]).

إلى غير ذلك من مظاهر لا يقبلها عقلٌ رشيد، ولا دينٌ صحيح.

هذا ما تيسَّر ذِكره حسب المصادر المتاحة لي، وهي تُعتبَر عينة عشوائية لما يُحدِثه القبوريون في معظم أنحاء العالم الإسلامي.

فما الذي دعاهم إلى هذا الاعتقاد وتقديم هذه القرابين والطقوس غير إغواء الشيطان لهم بالتألُّه لغير الله؟

وإلى أي مدى تأخذ الخرافة والوهم والدجل من يريدون أن يُضيئوا حياتهم بقبسٍ من الظلمات؟


ـــــــــــــــــــــــــــــــ


المراجع:


[1]- (الاتجاه النفسي: ميل عام مكتسب، نسبي في ثبوته، عاطفي في أعماقه، يؤثر في الدوافع النوعية، ويوجِّه سلوك الفرد، انظر أُسس علم النفس الاجتماعي، للدكتور مختار حمزة، ص: [244]).


[2]- (روى القصة بتفاصيلها ابن إسحاق: [1/76] عن أبي هريرة مرفوعاً، وصحَّحها محمد بن رزق بن طرهوني في السيرة الذهبية: [1/65]، وانظر : فتح الباري، ج6، ص: [634]، وصحيح مسلم، كتاب: كسوف الشمس، باب رقم: [9]، [60]، والمسند: [3/353]، [5/137]).


[3]- (السيرة النبوية الصحيحة؛ د. أكرم ضياء العمري، ج1، ص: [84]).


[4]- (تُعتبَر "رسائل إخوان الصفا" مَرجِعاً مُهماً في تسويغ عقائد الباطنية الشركية، وقد ألَّفها مجموعة من الفلاسفة أشياع الفاطميين العبيديين في القرن الرابع الهجري).

خالد أبو الفتوح

abomokhtar
25-01-2014, 09:01 PM
عندما أطلق ماركس عبارته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" لاقت رواجاً بين كثير من الشعوب الأوروبية؛ حيث كانت تتلطخ في أوحال النصرانية المحرفة المشبعة بالوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية التي آلت إلى طغيان كنسي شامل سيطر على عقول الناس وأرواحهم وأموالهم ونظم حياتهم، صاحبه فساد خلقي واسع لرجال الكنيسة واستعباد لأتباعهم وصل إلى حد توزيع قسائم حجوزات في الجنة (صكوك غفران) مقابل أموال يدفعها الراغبون، مستغلين في ذلك شيوع الخرافة والدجل بين هذه الشعوب.

جدت مقولة ماركس رواجاً بين هذه الشعوب التي أرادت أن تنعتق من طاغوت الكنيسة، فكفرت بما ينبغي الكفر به، ولكنها -بدلاً من الإيمان الصحيح بالله- انتقلت إلى عبادة طاغوت جديد قديم شعاره: تقديس المادة والعقل.

وما كان للإسلام أن تطوله هذه الشطحات أو تلك الخزعبلات، فهو من جهة يعلي قيمة التفكر والتدبُّر ويراعي الحاجات الطبيعية التي غرزها الله في بني الإنسان والتي تُمثِّل عوامل الدفع للاستخلاف في الأرض وعمارتها، ومن جهة أخرى: فإن العروة الوثقى في دين الله تعني بكل وضوح: الإيمان بالله والدخول في عبوديته وحده لا شريك له، وذلك لا يتم إلا بالخروج من عبادة كل مخلوق أو الخضوع له، حياً كان أو ميتاً، تقياً كان أو فاجراً، عظيماً أو حقيراً، غنياً أو فقيراً: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]: "جئنا لنُخرِج من شاء الله من العباد من عبادة العباد -كل العباد- إلى عبادة ربِّ العباد".

وعلى الرغم من وضوح هذه القيم في النصوص الشرعية وممارسات الرعيل الأول وأتباعهم، إلا أنه في غفلة من أهـل الإسلام تسلل رويداً رويداً انحراف عقدي وشذوذ فكري أخذ ينخر في جسد الأمة، فعشش في عقول كثير من أبنائها وتربع على قلوبهم حتى أفرخ وثنية سافرة حيناً ومستترة أحياناً... أعني بذلك: داء تقديس القبور والأضرحة والمزارات! ذلك الداء الذي فعل في أمة الإسلام -أو كاد- ما فعلته خرافات الكنيسة وطغيانها بأمة النصارى، أفيون اجتماعي مدمِّرٌ للشعوب تماثل آثاره أفيون المخدرات المدمر للأفراد مع تغييبهم وتخديرهم -إن لم تزد عليها-.

فما هو حصاد السنين من نتائج وآثار تقديس القبور والأضرحة؟ أصل الانحرافات وأخطرها:

من الصعب على الباحث أن يحصر آثار تقديس القبور والأضرحة، ولكن هناك آثاراً يمكن إبرازها، لخطورتها، ولكونها تُعتبَر أمهات لانحرافات أخرى نتجت عن هذا الداء، ويقف على رأس هذه الآثار: أظلم الظلم: الشرك بالله تعالى، فالراصد لأحوال القبوريين يلحظ بوضوح انتشار الشرك بينهم بجميع أنواعه وصوره ودرجاته شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في الأسماء والصفات شرك أكبر، وشرك أصغر، وما أدراك ما يحدثه الشرك من آثار نفسية واجتماعية على الفرد والمجتمع!

فمن شرك الربوبية ظهر واضحاً اعتقاد القبوريين في الأضرحة وأصحابها: أنهم يسمعون ويبصرون ويجيبون من يتوجه إليهم، وأنهم يعلمون الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وأن لهم قدرة في التصرف والتأثير في الكون بما ليس في طاقة البشر: كالخلق والإفناء، والإحياء والإماتة، وشفاء الأمراض، والنفع والضر، والعطاء والمنع، والإغناء والإفقار، وتحويل الأشياء عن حقيقتها... كما زعم القبوريون أن في الأضرحة وأصحابها القدرة على الرفع والوضع في الدنيا والآخرة، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، ومحو الذنوب وغفرانها.

وبناءً على هذا التصور المنحرِف في الربوبية نشأ شرك الألوهية، حيث توجه القبوريون إلى الأضرحة وأصحابها بالعبادات والتقربات التي لا يصح صرفها إلا لله عز وجل، ففضلاً عن تبركهم بها على وجه غير مشروع وجعلهم إياها عيداً ومنسكاً حتى إنهم ليحجون إليها... فإنهم عظموها كما لو كانوا يعظمون الله سبحانه، فاقسموا بها، واستشفوا، واستنصروا، ولاذوا. وأيضاً: فإنهم دعوها، واستغاثوا بها، و***وا لها، ونذروا، وطافوا حولها، وسيّبوا لها السوائب، وساقوا إليها الهدي.

فإذا بدأنا بأقل الصور الشركية، وهو ما يحتمل أن يكون ذريعة إلى الشرك أو يكون شركاً أكبر نجد أن التبرك بالقبور والأضرحة من أبرز هذه الصور؛ فلقد اعتاد القبوريون على "أنهم بزيارتهم لهذه الأضرحة ستأتيهم البركة ويشفون من مرضهم أو يفكون عقم نسلهم... وكانوا يَمَسُّون عمامة صاحب الضريح -بعد الولائم- أملاً في شفاء أوجاع الرأس، ويَمَسّون قفطانه للعلاج من الحمى، ولحس الحجر لفك عسر اللسان، وتقديم العرائض طلباً لرفع الظلم، وتمسح النساء في الضريح أملاً في إنجاب الذكور..." (د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر، ص: [129]).

ولم يستحي القبوريون في طلبهم المنهوم للبركة المزعومة أن يستسيغوا المعاشرة الزوجية في هذه الأضرحة، فهذا الشعراني صاحب أكبر سجل لخرافات القبوريين يذكر من كرامات البدوي أنه دعاه إلى فض بكارة زوجته فوق قبة قبره "فكان الأمر!"[1]، وفي السودان: "وصل الأمر -في العصر الحاضر- عند بعض الرجال المخرفين إلى مجامعة زوجاتهم عند أضرحة الأولياء، بدعوى نيل البركة" (د. ناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع، التبرُّك - أنواعه وأحكامه، ص: [473-474]).

وبالطبع فإن هذا التبرُّك يفتح باب الرقى والتمائم الشركية على مصراعيه.

من الأصغر إلى الاكبر:

فإذا ما تركنا التبرُّك وقصدنا بيان الشرك الصريح في أقوال المعتقدين في الأضرحة وأفعالهم، فإننا نكاد ألا نستطيع الفصل بين أنواع الشرك في هذه الممارسات؛ فالشرك في الربوبية مصاحب للشرك في الأسماء والصفات، وينبني عليه باعتباره نتيجة حتمية: الشرك في الألوهية.


وإليك بعض نماذج لهذا الشرك أو ذاك:

من النماذج الصارخة التي تحوي أنواع الشرك كله (ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات) ما أورده أبو بكر العراقي عن أحد القبوريين "وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالى المهمة، يقول: دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أُرزَق، وذهبت إلى شيخي مصطفى النقشبندي في أربيل فما أن استغثت به وطلبت منه الولد حتى رُزِقت بطفلين توأمين!" (حوار مع الصوفية، ص: [56])؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

فهذا (الإمام) أشرك في الربوبية لاعتقاده أن لشيخه النقشبندي القدرة على التصرُّف والتأثير في الكون بالنفع والعطاء من دون الله، ومن ثم فإنه: أشرك في أسماء الله الحسنى: النافع الضار، والوهاب، والرزاق. وأشرك في الألوهية لصرفه عبادة لغير الله؛ وذلك بدعائه لشيخه النقشبندي أن يرزقه الذرية.

فالانحراف في توحيد الربوبية عند القبوريين يتبعه دوماً انحراف في توحيد الألوهية، وإليك إيضاحاً آخر:

يقول عرفة عبده علي: "وقد احتشدت مؤلفات مناقب السيد البدوي بكرامات أسطورية غريبة لا تحصى، منها -على سبيل المثال-: إحياء الموتى، وانقاذ الأسرى في بلاد الفرنجة، وقوله للشيء كن فيكون بإذن الله!".

فماذا ترتَّب على هذا الاعتقاد في البدوي؟


يقول الكاتب نفسه: "وكثير من أتباعه يجعلونه في منزلة أسمى من مرتبة الأنبياء![2] فما هذه المنزلة؟ استمع إلى شهادة أحد العلماء: فقد رأى الشيخ رشيد رضا جماعة من هؤلاء القبوريين" تطوف حول قبر السيد البدوي، الذي تحول إلى كعبة ثانية، وكانت هذه الجماعة تطلب من السيد، لما شاع بينها من القصص والحكايات حول مقدرته العجيبة في قضاء الحوائج[3]، فإذا كان ذلك في أحد القبور، فهل يختلف الحال في الأضرحة الأخرى؟

تفشى الداء:

إذا شملنا واقع الأضرحة بنظرة عامة وجدنا أن الطقوس التي يمارسها المعتقدون في القبور تعدَّت إلى كثير من الصور التي تجسد أنواع الشرك بدرجاته المختلفة، وهذا هو واقع القبوريين:

* فبالأضرحة والقبور أقسموا: يقول الإمام الصنعاني: "...ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه" (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، ص: [26]).

"...ولن يُصدِّق أحد من الحالف إلا إذا حلف بواحد منهم، وهذا كان شيئاً طبيعياً كُنَّا نراه في القرى ونحن صغار، ولا زال يجري للآن" (د. عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص: [89]).

وهذا الانحراف العقدي أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله تعالى: العظيم*، والرقيب، والشهيد، والعليم.

* وبها لاذوا واحتموا: فكما جعل الله سبحانه البيت الحرام ملاذاً من دخله كان آمناً، جعل سدنة الأضرحة "تلك الأضرحة الوثنية حرماً آمناً يهرع إليها المجرمون والفارون، ويلجأ إليها الخائفون، ليأمنوا في رحابها، ويستريحوا في ظلالها،... وكثيراً ما عفي عن اللائذين بالأضرحة من المجرمين إكراماً للمدفونين أو خشية ورهبة من انتقامهم وبأسهم" (الانحرافات العقدية، ص: [339]).

وقد يدخل ذلك في الإلحاد في أسمائه تعالى: الكافي، والولي، والنصير، والعزيز.

* واليها توجهوا بالطلب والدعاء: وهذه بدأت بأن "بث بعض المتصوفة فكرة أن الدعاء عند قبور الأولياء والصالحين مستجاب"، وانتهت بأن "أخذ العوام يطوفون بقبور الصالحين، يستعينون بهم، ويخاطبونهم، ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ" (محمد أحمد درنيقة، السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص: [217]).

حتى أصبح الواقع "أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان، أغثني..." (روح المعاني، م3، ج6، ص: [128]).

ولا شك أن من الدعاء: الاستغاثة والاستعانة: ومن المفارقات أن تلك العبادة تتجلى واضحة عند القبوريين في المواطن التي كان المشركون يخلصون فيها الدعاء لله وحده؛ لأنهم يعلمون أن آلهتهم لا تجيبهم ولا تنفعهم في تلك المواطن، ويحكي محمد السنوسي أنه "حين كان راكباً في البحر، وهاجت الرياح، وتلاطمت الأمواج حتى كادت السفينة أن تغرق، أخذ يستجير -كما يقول- بكل ما يستحضره من الأولياء كي يكشفوا كربته!" (الانحرافات العقدية، ص: [321]).

وليس هذا حالة خاصة، بل إن "من المشاهد اليوم أن كثيراً من الناس يستغيثون بالمشائخ والأنبياء والأئمة والشهداء" (جهور علماء الحنفية، ص: [416]، نقلاً عن أبي الحسن الندوي في رسالته: تقوية الإيمان).

فأمثال تلك المشاهدات المستقاة من الواقع الشركي للقبوريين دعت كثيراً من العلماء إلى التصريح بأن شرك الأولين من عباد الأصنام أخف وطأة من شرك القبوريين، وذلك من عدة وجوه بينوها في كتبهم (انظر على سبيل المثال: رسالة: كشف الشبهات؛ للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورسالة: أربع قواعد له أيضاً، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، لمحمد بشير السهسواني الحنفي، ص: [166]، وغاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الألوسي: [1/295]).

ومن الدعاء أيضاً: الاستشفاء، ولعلنا نوضح هذا الجانب لاحقاً عند الحديث عن الآثار الاجتماعية للاعتقاد في القبور والأضرحة.

ولا شك أن هذا الانحراف في الدعاء أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله تعالى الحسنى، ومنها:

السميع، المجيب، المعطي، الرزاق، القادر، النافع، الضار، النصير، العليم، الشافي.

* ولها ***وا ونذروا: وهذه أيضاً من الشعائر اللازمة للاعتقاد في القبور والأضرحة، "فالرعاة في شرقي الأردن يطوفون بالأغنام حول مقام النبي يوشع" في أزمان الأوبئة ويختارون خير النعاج، ويصعدونها إلى سطح المقام وينحرونها فيسيل دمها على عتبته (مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص: [903]).

فـ "غاية الزيارات لمقامات الأولياء هي تقديم الذبائح" (مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص: [914]).

وكثيراً ما يقترن ال*** بالنذر، ولا شك أن ال*** والنذر "سواءً أكان ***اً، أو إهداء زيت، أو إعطاء نقود..." من العبادات التي لا تجوز إلا لله تعالى، لذلك يقول الإمام الصنعاني رحمه الله: "والنذر بالمال على الميت ونحوه، والنحر على القبر، والتوسل به، وطلب الحاجات منه، هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما كانوا يفعلونه لما يُسمُّونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يُسمُّونه ولياً وقبراً ومشهداً. والأسماء لا أثر لها ولا تُغيِّر المعاني، ضرورة لغوية وعقلية وشرعية، فإن من شرب الخمر وسمَّاها ماءً، ما شرب إلا خمراً..." (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، ص: [18-19])

ابحث عن الضريح!

وكل ذلك لا يخص ضريحاً دون آخر، بل هو عام في جميع الأضرحة المقصودة بالتوجه والاعتقادت فحيثما كان ضريح يعتقد فيه؛ كان الشرك بجميع صوره وأنواعه ودرجاته؛ فهذا قبر ابن عربي بدمشق، يحكي عبد الله بن محمد بن خميس مشاهداته عنده، فيقول: "لقد ذهبت إلى قبر ابن عربي في دمشق فوجدت فئاماً من الناس يغدون إليه ويروحون، وجدتهم يطوفون حوله، ويتوسلون به، ويُعلِنون دعاءهم له من دون الله. وجدت المرأة تضع خدها على شباك الضريح وتمرغه وتنادي: اغثني يا محيي الدين. وجدت الصبايا البريئات يجئن إليه، ويمددن أمامه الأكف، ويمسحن الوجوه، ويخشعن، ويتضرعن" (شهر في دمشق، ص: [64]).

باختصار: "عند قبر أبن عربي في دمشق يُمارَس القبوريون شتى ألوان الشرك الأكبر" (علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العقدية، ص: [327]).

وفي الهند: أصبح قبر الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني "مرجع الخلائق في العصر الأخير، ويطوفون حوله، ويعملون ويصنعون على قبره جميع الأعمال اللائقة بالمعبود، كالسجود، والنذور، وما أشبه ذلك، وضريح الشيخ علي الهجوري في لاهور في باكستان، وهو من القبور العظيمة، والناس يزورونه كل سنة، بل كل يوم، ويطوفون حوله، ويسجدون له، ويُقدِّمون النذور، ويستغيثون به، ويطلبون العون والمدد" (علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العقدية، ص: [327]).

و"عند القبر المنسوب إلى هود في حضرموت يحدث من الشرك الأكبر ما يعجز القلم عن وصفه، شأنه في ذلك شأن كل الأضرحة في البلاد الأخرى. وقد بولغ في تقديس هذا الضريح، فتراهم يشدون الرحال لزيارته وعندهم شيء من بقايا الشعور الوثني الذي كان يشعر به العرب للات والعزى، يستعينون به ويتوجهون إليه، ويولون وجوههم شطره لقضاء الحاجات، واستنزال البركات، ودفع الكربات" (علي بن بخيت الزهراني، الانحرافات العقدية، ص: [326]).

بل لقد اعترف أحد كبار منظِّري القبورية وهو الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري بوجود الشرك الأكبر والكفر الصراح في القبورية، فقال: "إن كثيراً من العوام بالمغرب ينطقون بما هو كفر في حق الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء، فيسجد له، ويُقبِّل الأرض بين يديه في حال سجوده، ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية، ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله تعالى وإن عندنا بالمغرب من يقول في ابن مشيش: إنه الذي خلق الابن والدنيا، ومنهم من قال -والمطر نازل بشدة-: يا مولانا عبد السلام، الطف بعبادك! فهذا كفر" (عن: جهود علماء الحنفية، ص: [479-480]، نقلاً عن: إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد على القبور، للغماري).

بين الفرد والمجتمع:

كان هذا عرضاً لأهم صور الشرك، الذي هو أخطر مساوئ الاعتقاد في القبور والأضرحة على دين الإنسان ودنياه، فهو يناقض أساس الاسلام ويهدم الركن الأول منه، كما أنه يحمل في طياته مما يحمل: "التمزق النفسي والتفكير الخرافي، فإذا أمعنا النظر إلى أثر هذا الشرك في المجتمعات وجدنا آثاراً لا يستهان بسوئها، اقترنت بهذه المظاهر الشركية، ومنها:

شرك في التوحيد وشرك فى التشريع:

لا شك أن التشريع مرتبط بالتألُّه والتعبُّد، فهو أحد أقسام التوحيد، لذا: رأينا دائماً أن الانحراف في توحيد العبادة والنسك يصاحبه انحراف في توحيد التشريع والتحاكم، "فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف من الآية:26]، وقال في الإشراك به في عبادته: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالأمران سواءً كما ترى إيضاحه" (الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أضواء البيان، ج7، ص: [162]).

وعلى هذا يرتبط التحليل والتحريم التشريع بالمعبود ارتباطاً وثيقاً، حتى لقد توافقت وتزامنت دعوة العرب للشرك بالله في عبادته وتغيير دين إبراهيم عليه السلام، مع إدخال تشريعات لم يأذن بها الله، بل أمر بها الطواغيت، فعمرو بن لحي الذي كان أول من غير دين إبراهيم عليه السلام وأدخل عبادة الأصنام في العرب، كان هو نفسه أول من سيَّب السوائب وشرع لهم الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها (بتصرُّف عن: أضواء على ركن من التوحيد، لعبد العزيز بن حامد، ص: [16]، وحديث أن عمراً بن لحي: "أول من سيَّب السوائب" في البخاري، كتاب: التفسير، باب: [13]).

وفي هذا يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "{وَأَكثَرُهُم لاَ يَعقِلُونَ} [المائدة من الآية:103]، أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرَّموا على أنفسهم، وأن ذلك من أعمال الكفر به، بل يظنون أنهم يتقربون إليه ولو بالواسطة، لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب... ليست بزعمهم إلا وسائط بينهم وبين الله تعالى... وهكذا شأن كل مبتدع في الدين بتحريم طعام أو غيره، وتسييب عجل للسيد البدوي أو سواه" (تفسير المنار، ج7، ص: [204]).

وتعدَّى أمر التشريع عند القبوريين تسييب عجل للضريح، إلى التلاعب في بعض العبادات المفروضة، ويمثل الحج أبرز مثال لهذا التلاعب، الذي بدأ بسن آداب وطقوس معينة لزيارة تلك الأضرحة، "فالزيارة ليست مجرد مرور عابر، ويجب أن تؤخذ بمعناها الدقيق، فعملية الاستقبال داخل الضريح هي لقاء بين الولي -الداعي- والزائر -الضيف-" (موالد مصر المحروسة، ص: [83]).

"لذلك لم يقتصر القبوريون، على إقامة المباني والأضرحة عليها فحسب، بل صنعوا في آداب زيارتها وترتيبها المصنفات الطوال، منها: كتاب شمس الدين محمد بن الزيات المعروف الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة" (د. سعاد ماهر فهمي، مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ج1، ص: [47]).

ومن (آداب للزيارة) إلى (مناسك للحج)، فقد "آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسمَّاه: مناسك حج المشاهد مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عُبَّاد الأصنام" (إغاثة اللهفان، لابن القيم، ج1، ص: [197]).

ولم يكتفوا بتصنيف الكتب في ذلك، بل أشاعوا ذلك التشريع في جمهورهم، فالدكتور عبد الكريم دهينة يذكر عن قريته التي بها أكثر من ثلاثين ضريحاً تقام لها موالد ونذور ونسك، أنه "قد أفتى بعضُ الفسقة بأن الحج ينفع إليهم" (الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص: [128]).


كما "أن شطراً من العامة في صعيد مصر يرى أن الطواف سبع مرات بقبر الشيخ القناوي بقنا، فيه غناء عن أداء الحج إلى بيت الله الحرام..." (حسين أحمد أمين، مقال: تأمُّلات في حقيقة أمر أولياء الله الصالحين، ص: [137]).

وعلى ذلك فليس بمستغرب أن يقول السخاوي: "جاء الحُجاج هذه السنة لسيدي أحمد البدوي من الشام وحلب ومكة، أكثر من حجاج الحرمين!" (نقلاً عن: بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص: [268]).

فهذا باب من التشريع، وهو أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله الحسنى: الحكيم، والحكم، والعليم، والعزيز، والملك، والعظيم.


وكل ذلك أدَّى إلى الاستهانة بأوامر الله عز وجل، واستبدالها بتعظيم شعائر الأضرحة وأوامر سدنتها، وبذا كانت القبورية أحد الأسباب التي هيأت شعوب العالم الإسلامي لقبول العلمانية الوافدة وتشريع ما لم يأذن به الله.

شرك في التوحيد، ونكوص عن مجاهدة الأعداء:

ولست هنا بصدد تقييم علاقة أهل التصوف بمقاومة الأعداء -سلباً وايجاباً-، ولكننا نريد بيان أثر الأضرحة في جهاد أعداء الأمة، ضمن تأثيرها على حياة الشعوب الإسلامية في شتى المناحي. والمتتبع لأثر الأضرحة في هذا المجال يجد أن الأضرحة والقبور هيمنت على هذا الجانب ضمن هيمنتها على الحياة كلها، فأصبحت الأضرحة والمزارات تُمثّل بحق (أفيون الشعوب الإسلامية)!

فقد اتخذتها الشعوب مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، باعتبار أنها الرموز المقدسة التي لا ينبغي أن تمس، "ففي ريف المغرب الذي كان يحتله الإسبان قامت القبائل هناك بثورة عارمة ضدهم، حين بنى الإسبانيون مركزاً للحراسة بقرب ضريح تقدسه القبائل" (الانحرافات العقدية، ص: [305]).

وقد فطن الأعداء لهذا الأمر، فحرصوا على عدم المساس بهذه القبور والأضرحة لعدم إثارة الذين يقدسونها، بل ساهموا في الترويج لها ولطقوسها، بينما كانوا يبدلون منهج حياة المسلمين تبديلاً كاملاً، وينهبون ثروات البلاد نهباً منظماً، "ويرحل بنا المؤرخ العظيم عبدالرحمن الجبرتي إلى زمن الحملة الفرنسية، يوم تقلد الشيخ خليل البكري نقابة الأشراف... وفيه سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟! فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقُّف الأحوال، فلم يقبل، وقال: لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمئة ريال فرنساوية معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم..." (عرفة عبده علي، موالد مصر المحروسة، ص: [14]).

وكما مثَّلت القبور والأضرحة لدى المعتقدين فيها مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، فإنها شكَّلت عندهم بديلاً لأي جيش يناهض هؤلاء الأعداء.

فهي عندهم (هيئة المستشارين) التي تُقرِّر قتال الأعداء أو لا تقرِّره، يقول الدكتور عمر فروخ: "لا ريب في أن الأوروبيين قد عرفوا ذلك واستغلوه في أعمالهم الاستعمارية".

ذكر مصطفى كامل بطل الوطنية المصرية في كتابه (المسألة الشرقية) قصة غريبة في أذن القارئ العادي، قال: ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان في تونس: أن رجلاً فرنسياً دخل في الاسلام وسمَّى نفسه سيد أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعُيِّن إماماً لمسجد كبير في القيروان، فلما اقترب الجنود الفرنساويون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل (سيد أحمد) الضريح، ثم خرج مهولاً بما سينالهم من المصائب، وقال لهم: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم؛ لأن وقوع البلاد صار محتماً، فاتبع القوم البسطاء قوله ولم يدافعوا عن مدينة القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881م" (نقلاً عن: التصوف بين الحق والخلق، لمحمد فهر شقفة، ص: [211]، وانظر: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص: [171]).

وهي عندهم (حرس الحدود) الذي يقوم على صد الأعداء، بل ومنع الفتن والأوبئة! فـ"كل مدينة كبيرة أو صغيرة محروسة بولي من الأولياء، فهو الذي يحميها من العين ومن الغارات ومن نكبات الطبيعة، ومن طمع الطامعين" (الانحرافات العقدية، ص: [324]).

وبناء على ذلك الاعتقاد يذكر الكوثري "أن أرض الشام يحرسها من الآفات والبلايا أربعة من الأولياء الذين يتصرَّفون في قبورهم!" (عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي الأفغاني، ص: [461]).

وبخلاف الأضرحة الكبرى التي (تحرس) المدن المهمة والمراكز الحيوية، يشيع هذا الاعتقاد أيضاً عند القبوريين في القرى والنجوع، ففي "مركز مغاغة بالمنيا، وعلى وجه التحديد بقرية بني واللمس على البحر اليوسفي، يشتهر مقام سيدي حسن أبو رايتين، ويعتقدون أنه يحرس القرية ويحفظها من السرقة وعداوات الدم، ويلجؤون إليه لرفع المظالم..." (موالد مصر المحروسة، ص: [53-54]).

وهي عندهم وسائل دفاع جوي! فضريح علي الروبي بالفيوم بمصر "أنقذ المدينة من الدمار خلال الحرب العالمية الثانية، ببركته التي حولت مسار القنابل إلى بحر يوسف!" (موالد مصر المحروسة، ص: [53]).

وهي عندهم مُعين المدد والذخيرة، فأثناء الثورة العرابية روَّج القبوريون إشاعة قوية مفادها "أن كبار الأولياء الدسوقي -البدوي- عبد العال أهدوا أحمد عرابي ثلاثة مدافع ليستعين بها على منازلة الإنجليز" (الصوفية والسياسة، ص: [120]).

وعندما يستدعي الموقف الإمداد بـ (قوات خاصة) لمنازلة عدو شديد البأس يطلب القبوريون المدد من الأضرحة وأصحابها أيضاً، فعندما أغار التتار على بلاد الشام "كان القبوريون يخرجون يستغيثون بالموتى عند القبور، ولذا قال بعض شعراء القبورية":


ياخائفين من التتر *** لوذوا بقبر أبي عمر
(جهود علماء الحنفية، ص: [458]).


وحين أغار جنود الفرنسيين والإفرنج على مصر "صاح المحاربون في المسلمين وصرخوا مستغيثين بغير الله مع الله: يا ربّ يا لطيف، ويا رجال الله، ونحو ذلك" (جهود علماء الحنفية، ص: [460]).

وذكر الشيخ رشيد رضا "أنه عندما زحفت روسيا على مدينة بخارى فزع الناس إلى الاستغاثة بحامي بخاري! -كما يُسمِّيه أهلها- شاه نقشبند، فلم يغنِ عنهم شيئاً" (عن: الانحرافات العقدية، ص: [320]).

وذكر أيضاً أنه "انتشر بين أهل مراكش، عند حلول النوائب بهم، وتعدي الأجانب عليهم، الاجتماع حول قبر الشيخ إدريس في فاس، طالبين أن يكشف ما نزل بهم من الشدة، تاركين ما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم والإعداد العسكري للأعداء" (محمد أحمد درنيقة، مصدر سابق، ص: [218]).

- وهي عندهم (جيوش متكاملة)، فلماذا الإعداد، والقبور والأضرحة عند المعتقدين فيها بمثابة جيوش متكاملة تفعل ما لا يستطيعه المحاربون؟! فقد قال أحد كبار الصوفية في زمن احتلال الإنجليز لمصر، ما معناه: "لو أراد إبراهيم الدسوقي خروج الإنجليز من مصر ما بقي إنجليزي واحد، وقال بعضهم في نكسة سنة 1967م ما يدور حول هذه الفكرة" (د. عبد الكريم دهينة، الأضرحة وشرك الاعتقاد، ص: [120]).

وذكر الدكتور سيد عويس في كتابه المهم (رسائل إلى الإمام الشافعي) أن إحدى الرسائل الموجهة إلى ضريح الإمام الشافعي، والمؤرخة في أكتوبر سنة 1955م، يطلب صاحبها فيها عقد جلسة شريفة يحضر فيها معه سيدنا الحسين وسيدنا الحسن، والست زينب أم هاشم، وجميع أهل بيت النبي! ويطلبون من الله مسح إسرائيل اليهود، وإزالتها من على وجه الأرض المقدسة في الأسبوع، ويكون -إن شاء الله- آخر ميعاد يوم الثلاثاء القادم! (نقلاً عن مقال: الأضرحة - مدخل تاريخي واجتماعي، للأستاذ. وليد فكري فارس، مجلة التوحيد المصرية، السنة: [24]، العدد: [4]، وانظر : الصوفية والسياسة، ص: [51]).

ولها تعقد احتفالات النصر، فمما يذكره الجبرتي أنه عند "مغادرة الفرنسيين للقاهرة سنة 1216هـ هرع قائد الجيش العثماني حسين باشا القبطان إلى زيارة المشهد الحسيني، و*** فيه خمس جواميس وسبعة أكباش، واقتسمتها خدمة الضريح" (عن: بدع الاعتقاد، لمحمد حامد الناصر، ص: [269]).

فهل أضر مؤثر بقوة الأمة أعظم من هذا التخدير الذي سرى في جسدها بفعل أفيون تقديس القبور والأضرحة؟

شرك في التوحيد وتخلُّف في المجتمع:

وترتفع الخرافة إلى ذروتها حينما يعمد القبوريون إلى إضافة التخصصات للأضرحة بعد تقسيم درجاتها إلى كبرى وصغرى، فمثلما كان للإغريق -ومن بعدهم للرومان واليونان- إله لكل شيء. إله للحرب، والهة للحب، وإلهة للخصب، إله للخمر... وجدنا عند القبوريين أضرحة ومزارات تشتهر بتخصصها في حاجات مختلفة، يخصونها بالتوجه إليها لطلب هذه الحاجة منها.

ولعل من هذا القبيل: الأضرحة والمزارات النسائية، كمقام "الشيخة مريم التي يحتفل بمولدها مرتين: مرة في شم النسيم**.

والأخرى في ذكرى مولد النبي، وقد اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم" (موالد مصر المحروسة، ص: [53]).

وكذلك يطلب القبوريون "من ضريح الشيخة صباح في طنطا إبراء النساء من العقم" (الانحرافات العقدية، ص: [336])، ومزار (بنات عين) في معان بالأردن: "انتشر ذكره بين العواقر، يفدن إليه بالقرابين والمصابيح لنيل البرء والشفاء، وهو مختص بالنساء فقط ويدعونه بالمستشفى النسائي!" (مجلة المشرق، 11/11/1920 م، مقال: المزارات في شرقي الأردن، ص: [907]).

وإضافة إلى تلك الأضرحة والمزارات التي اشتهرت بتخصصها النسائي، هناك ضريح (النبي شعيب) في وادي السلط الجنوبي بالأردن "وهو ولي! مرهوب مختص بالأقسام الكبرى، إذا أشكلت الدعاوى واستعجمت مذاهبها، ويطلب القاضي البدوي القسم الرهيب في بركة شعيب..." (مجلة المشرق، 11/11/1920م، مقال : المزارات في شرقي الأردن، ص: [903]).

وفي حلب بسورية اعتاد بعض الناس هناك أن يسافروا إلى ضريح الشيخ ريح زاعمين أنهم يشفون من ريحهم... وللناس في قبر أبي العلاء المعري [بمعرَّة النعمان بسورية أيضاً] اعتقاد عظيم، يبيِّتون على قبره شربة ماء ويستعملونها للبرء من الحمى، وفي مدينة طنطا [بمصر] يطلب الناس هناك من ضريح عِزَّ الرجال -وهو أحد تلاميذ البدوي- شفاء الأطفال، ومن ضريح محمد الحدري المعروف بالعمري شفاء أمراض الروماتيزم!" (الانحرافات العقدية، ص: [336]).

فإذا كان هذا الاعتقاد الناشئ عن الانحرافات في اسم الله تعالى: الشافي، دعا المعتقدين في الأضرحة إلى التوجه إليها بالقربات والعبادات لنيل مرادهم، فإنه أثمر أيضاً تخلفاً اجتماعياً مريعاً؛ حيث استغنى الناس بالأضرحة عن الطب وعلومه، فما حاجتهم إلى طب (الكفار!) وعندهم أضرحة المسلمين التي تشفيهم -وبأيسر السبل- مما يعجز عنه الأطباء؟! وذلك صرف الناس عن تعلم الطب، فأثر ذلك بدوره في تدني مستوى الطب في المجتمع، مما كان يدفع الناس نحو الأضرحة مرة أخرى لطلب الشفاء منها.

وإضافة إلى إهمال تعلُّم الطب فقد أهملت العلوم الأخرى، بل أهملت الخدمات الاجتماعية للأحياء لانشغال الناس بإعمار مراقد الأموات!

"شرك فى التوحيد، وفساد في الأخلاق إضافة إلى المفاسد الأخلاقية التي تحدث حول الأضرحة" (انظر على سبيل المثال: الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، للدكتور زكريا سليمان بيومي، ص: [133-137]).

هناك أشكال من هذه المفاسد ارتبطت بها أيضاً، وفي ذلك تضرب (الموالد) بنصيب وافر، حيث يشيع فيها الفساد الأخلاقي مقترناً بالشرك الأكبر والأصغر.

ويجدر بالذكر هنا الإشارة إلى الأثر النصراني واليهودي في هذه الموالد، حيث تكاد تتطابق أشكال طقوس احتفالات أعياد الميلاد والموالد للقديسين و(الأولياء) النصارى واليهود مع ما يحدث في موالد الأولياء المسلمين (انظر: موالد مصر المحروسة، ص: [17]).

حتى إن مولد (أبي حصيرة) اليهودي في قرية (ميتوه) بدمنهور في مصر -والذي كان يُحتفل به قبل التطبيع مع اليهود على أنه ولي مسلم، ويعقد مولده كل عام على هذا الأساس- يأتي إليه اليهود من أنحاء شتى ليُقيموا مولده، وفيه: "تقاد الشموع وتسكب زجاجات الخمر على القبر، ويرقص النساء والرجال عرايا أو شبه عرايا على أنغام شرائط الكاسيت، وفي نهاية الليل يتمددون وهم سكارى فرادى ومتزاوجين في ظل حراسة جنود الشرطة والأمن المركزي!" (جريدة الوفد القاهرية، 4/8/1416 هـ، ص: [6]).

هذه صورة من موالد (اليهود)، فماذا عن موالد (المسلمين)؟

في صدر مقالها عن موالد الأولياء في مصر، تعرف هيام فتحي دربك (المولد) بأنه: "الاحتفال بيوم ميلاد ولي من أولياء الله، والاحتفالات بالموالد تمارس في المنطقة التي فيها قبر الولي، وهي حفلات فولكلورية شعبية من غناء ورقص وتسلية، والاستماع إلى الموسيقى الصاخبة وألعاب الأطفال والمراجيح وحلقات الذكر الذي يتخذ مظهر الرقص أحياناً ومظهر الشعوذة أحياناً أخرى، ففيها يقوم الرجال بعمل حركات من قيام وقعود والى الشمال وإلى اليسار وهم يذكرون لفظ الجلالة... الله، الله، حي، حي... وقد يندمج بعضهم في حلقات الذكر فيشد شعره ويتمرغ على الأرض!" (هيام فتحي دربك، مصدر سابق، ص: [41]).

ولكن ماذا عن حالة المولد فيما مضى؟


يصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي أحد الموالد على عهده منذ حوالي مئتي عام، فيقول: "ينصبون خياماً كثيرة، وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس، وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي والملاعب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة، فيملؤون الصحراء والبستان، فيطؤون القبور، ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً..." (نقلاً عن: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، ص: [161]).

فالموالد ما هي إلا فرصة للتحلل من كل الضوابط والتفلت من كل القيود سواءً أكانت أخلاقية أو شرعية أو حتى تنظيمية، حتى أصبحت كلمة (مولد) تطلق على المواقف التي تشيع فيها الفوضى وعدم الانضباط.

فالمولد فرصة لأن "تُنتهك فيه حرمات النساء، وتُشرب الخمور"، حتى إنه "أصبح مجال حياة الناس في الترويح عن أنفسهم ومكاناً للهو والرقص والغناء الساقط" (د. زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص: [131]).

وفي أيام الربيع في الأردن يفد الزائرون إلى مزار (جعفر الطيار) "فترى الفتيات يرقصنَ حول المزار بأغاني مطربة ونغمات رقيقة..." (المزارات في شرقي الأردن، ص: [906]).

فليس هذا خاصاً ببلد دون آخر، بل هو موجود حيثما كانت قبورية وأينما كانت موالد أو (احتفالات) أو (أعراس) للأضرحة.

وبعد:

فقد كانت هذه صورة لبعض نتائج تفشي داء تقديس القبور والأضرحة في العالم الإسلامي، والملاحظ أن هذه الصورة ما كانت إلا تعبيراً عن الهيمنة السلبية على حياة الناس كلها، وليس هذا الحال خاصاً بمحلة دون أخرى، بل وصل الحال إلى أن أصبح "أكثر المسلمين في العالم قد عبدوا القبور بأنواع من العبادات، بل عبدوا الأشجار والغارات، وقد ارتكبوا أنواعاً من الشرك بالله تعالى!" (الشيخ مسعود الندوي، نقلاً عن: جهود علماء الحنفية، للدكتور شمس الدين السلفي، ص: [472]).

ولم يقتصر ذلك على الجهال والطغام، بل شمل جمهرة من المنتسبين إلى العلم الشرعي أو من يُسمَّون أنفسهم بالمثقفين والمتحضرين! لا ينجو من ذلك إلا المتحصِّن بعقيدته، المستحضر توحيد ربه، الذي امتلأ قلبه بمحبة الله عز وجل وخشيته ورجائه.

إن تقديس القبور والأضرحة داء يعمل في أعز مشخصات هذه الأمة وأبرز ما يميزها، وهو التوحيد، وإن من علامات صحة الجسد إحساسه بالألم؛ فالجسد الميت أو الواقع تحت تأثير مخدر لا يحس بالألم رغم وجود مقتضاه، وهذه الأمة لا تموت ولا تنتهي إلا عند الإيذان بانتهاء الحياة في هذه الدنيا، ولكنها قد تدخل في غيبوبة عن أمر دينها أو أمر دنياها، إما بسبب غفلة من أبنائها أو بسبب كيد من أعدائها، أو بكليهما، وعند ذاك فإن كل من يساهم في إزالة أثر المخدر عنها، وكل من يساعد في إيلامها أو إظهار ألمها، فإنه يضرب بسهم في معافاتها، لأنها عندما تحس بالألم تعرف أنه أصابها داء، وعندما تدرك أنها مريضة تبحث عن الداء الذي أصابها لتقضي عليه وتفيق من رقادها.

فهل يبذل الدعاة -بل كل مسلم موحِّد- جهودهم ويجردون سيوف دعوتهم لإنقاذ الغارقين في غيبوبة الخرافات والأوهام الشركية، الذين أوشكوا على الهلاك؟

هذا ما نرجوه ونأمَله، وندعو الله العلي القدير أن يوفقنا وإياهم لما يحب ويرضى.

ــــــــــــــــ

المراجع:

[1]- (عن: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، د. شمس الدين السلفي الأفغاني، ص: [744]، نقلاً عن الطبقات الكبرى للشعراني).

[2]- (موالد مصر المحروسة، ص: [80]).

[3]- (محمد أحمد درنيقة، السيد محمد رشيد رضا، إصلاحاته الاجتماعية والدينية، ص: [207]).

*- (نلاحظ أن الإلحاد في اسمه تعالى: العظيم، يدخل فيه معظم الشركيات، لأنها ناتجة عن تعظيم القبوريين لهذه الأضرحة واصحابها).

**- (أصله عيد فرعوني، ويراد له الانتشار الآن مزاحمة لأعياد المسلمين).


خالد أبو الفتوح