مشاهدة النسخة كاملة : شرح حديث " صنع النبي أمرا فترخص فيه "


مواطن بسيط
18-03-2014, 09:51 PM
شرح حديث صنع النبي أمرًا فترخص فيه


إنَّ الحمد لله تعالى، نَحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يَهْد الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].

أمَّا بعدُ:
فإن أصْدَق الحديث كتاب الله تعالى، وخَيْر الهَدْي هَدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشَر الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أتحدَّث في هذا المقال عن شرح حديث: "صنَع النبي أمرًا، فترخَّص فيه".

حدَّثنا زهير بن حرب، حدَّثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة، قالت: "صنَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا، فترخَّص فيه، فبلَغ ذلك ناسًا من أصحابه، فكأنهم كَرِهوه وتنزَّهوا عنه، فبلَغه ذلك، فقام خطيبًا، فقال: ((ما بال رجال بلَغهم عني أمر ترخَّصت فيه، فكَرِهوه وتنزَّهوا عنه، فوالله لأنا أعلمُهم بالله، وأشدُّهم له خشية))؛ رواه مسلم، باب عِلمه بالله تعالى.

هذا الحديث يُشير إلى أنَّ الدين يُسْر، ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلاَّ غلَبه، وقد قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].

وقد أمَرَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نُيَسِّر، فقال: ((يسِّروا، ولا تعسِّروا)).

يقول الدكتور وجيه الشيمي في كتابه "الوسائل التربوية في السُّنة النبوية": "الحديث الذي بين أيدينا يوضِّح لنا منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأَخْذ بالأيسر؛ قالت عائشة: "ما خُيِّر النبي بين أمرين إلاَّ اختَار أيْسَرهما ما لَم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعد الناس منه".

وجاء تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إفادةً من خطأ وقَع فيه بعض أصحابه، فبيَّن وجْه الخطأ فيه؛ ليتعلَّم الجميع الحكم الشرعي، ولا يقعوا في مثل هذا الخطأ، وكانت عادته ألاَّ يُسَمِّي أحدًا، بل كان يُعمِّم، فيقول: ((ما بال أقوام))؛ حفاظًا على شعور الآخرين؛ لأن النصيحة على الملأ فضيحة".

قال النووي: في شرحه على صحيح مسلم (9 / 176):
"إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَمِد الله تعالى وأثنى عليه، فقال: ((ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا))، هو موافق للمعروف من خُطَبه - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا؛ أنه إذا كَرِه شيئًا، فخَطَب له، ذكَر كراهيته ولا يُعَيِّن فاعله، وهذا من عِظَم خُلقه - صلى الله عليه وسلم - فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يَبلغه ذلك، ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ".

وقال أيضًا:
"الحديث فيه الحثُّ على الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - والنهي عن التعمُّق في العبادة، وذَمِّ التنزُّه عن المباح؛ شكًّا في إباحته، وفيه الغضب عند انتهاك حُرُمات الشرع، وإن كان المُنتهك متأوِّلاً تأويلاً باطلاً، وفيه حُسن المعاشرة بإرسال التعزير والإنكار في الجَمْع، ولا يُعَيَّن فاعله، فيقال: ما بال أقوام ونحوه، وفيه أنَّ القُرب إلى الله تعالى سببٌ لزيادة العلم به وشِدَّة خشيته، وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فوالله لأنا أعلمُهم بالله وأشدهم له خشية))، فمعناه أنهم يتوهَّمون أن سُننهم عمَّا فَعَلت أقربُ لهم عند الله، وإن فعل خلاف ذلك، وليس كما توهَّموا، بل أنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية، وإنما يكون القُرب إليه - سبحانه وتعالى - والخشية له على حسب ما أمَر، لا بمُخَيَّلات النفوس، وتكلُّف أعمالٍ لَم يأمر بها، والله أعلم".

قال ابن حجر في فتح الباري:
"ولَم أعرفْ أعيان القوم المشار إليهم في هذا الحديث، ولا الشيء الذي ترخَّص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم وجَدت ما يمكن أن يُعْرَفَ به ذلك، وهو ما أخرَجه مسلم في كتاب الصيام من وجْهٍ آخرَ عن عائشة: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إني أُصبح جنبًا وأنا أُريد الصيام، فأَغْتسل وأصوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا تُدركني الصلاة وأنا جُنبٌ، فأصوم))، فقال: يا رسول الله، إنك لستَ مثلنا، قد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، فغَضِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((إني أرجو أن أكونَ أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتَّقِي))".

وقال أيضًا:
"لأن المشدِّد لا يأْمَن من المَلل بخلاف المقتصِد، فإنه أمْكَنُ لاستمراره، وخير العمل ما داوَم عليه صاحبُه، وقد أرشَد إلى ذلك في قوله في الحديث الآخر: ((المُنْبَتُّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى))، وتقدَّم في كتاب العلم شيء منه، قوله: ((لكني)): استدراكٌ من شيء محذوف دلَّ عليه السياق؛ أي: أنا وأنتم بالنسبة إلى العبوديَّة سواء، لكن أنا أعمل كذا، قوله: ((فمَن رَغِب عن سُنَّتي، فليس مني))، المراد بالسُّنة: الطريقة، لا التي تُقابل الفرض، والرغبةُ عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: مَن تَرَك طريقتي، وأخَذ بطريقة غيري، فليس مني، ولَمَّح بذلك إلى طريق الرهبانيَّة، فإنهم الذين ابتدَعوا التشديد كما وصفَهم الله تعالى، وقد عابَهم بأنهم ما وفَّوه بما الْتَزَمُوه، وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنيفيَّة السَّمحة، فيُفطر ليتقوَّى على الصوم، وينام ليتقوَّى على القيام، ويتزوَّج لكسْر الشهوة وإعفاف النفس، وتكثير النَّسْل".

يقول الدكتور وجيه الشيمي:
"وعلى الرغم من أنَّ الله نهى أن نُزكِّي أنفسنا، فإنه يجوز تزكيتها إذا دَعَت الضرورة لذلك؛ كما فعَل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث، فبيَّن أنه أعلم الناس بالله وأشدهم له خشية، وكذلك يوسف - عليه السلام - قال تعالى على لسان يوسف: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]".

قال ابن الجوزي في زاد المسير:
"فإن قيل: كيف مدَح نفسه بهذا القول، ومن شأن الأنبياء والصالحين التواضُعُ؟ فالجواب: أنه لَمَّا خلا مدحُه لنفسه من بَغْي وتَكَبُّر، وكان مرادُه به الوصول إلى حقٍّ يُقيمه، وعَدْلٍ يُحييه، وجَوْرٍ يُبْطِله، كان ذلك جميلاً جائزًا.

وقد قال نبيُّنا - عليه السلام -: ((أنا أكرم ولدِ آدمَ على ربِّه)).

وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: والله ما من آية إلاَّ وأنا أعلم أبليلٍ نزَلَت، أم بنهار، وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدًا أعلمَ بكتاب الله مني تَبلغه الإِبل، لأَتَيْتُه.

فهذه الأشياء خرَجت مخرجَ الشكر لله، وتعريف المستفيد ما عند المفيد؛ ذكَر هذا محمد بن القاسم.

قال القاضي أبو يعلى:
في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يَصِفَ نفسه بالفضل عند مَن لا يَعرفه، وأنه ليس من المحظور في قوله: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النجم: 32]".

فالحديث يَجعلنا نقف على الجادة دون إفراطٍ أو تفريط، فليس في الإسلام تطرُّف ولا تشدُّد، ولا تسيُّب ولا انحلال؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143].

وقد قال علي: "عليكم بالنمط الأوسط؛ فإليه يَصعد النازل، ولَه يَنزل الصاعد".

يقول الدكتور وجيه الشيمي:
"ويا ليتَ شباب المسلمين اليوم يعون؛ حتى لا يَميلوا إلى جهة التطرُّف أو جهة التسيُّب، وكلا الأمرين مذمومٌ".







محمود حسن عمر (http://www.alukah.net/Authors/View/Sharia/3363/)