alaa 4
23-03-2014, 07:03 PM
بقلم: عصام تليمة*
أعلم يقينا أن الشهادة تتطلب ألا يشهد صاحبها إلا على ما رآه بأم عينه، عملا بمبدأ الإسلام في ذلك: "على مثل الشمس فاشهد"، وقد اهتم الإعلام في يوم الفض بمجـزرتي رابعة والنهضة، وغفلوا دون قصد عن مجـزرة ثالثة مهمة، في نفس اليوم والتوقيت، هي مجـزرة ميدان مصطفى محمود، وكذلك كل تقارير حقوق الإنسان التي صدرت، كان كل همها النقاش حول هل كان اعتصام رابعة والنهضة مسلحين أم لا؟ وهل أفرطت الشرطة والجيش في استخدام ال*** أم لا؟ وهل الاعتصام كان قانونيا أم لا؟ إلى آخر عجائب الانقلاب والانقلابيين، لكن ما لا يدع مجالا للنقاش ولا يمكن أن يجادل أو يماري أحد في مجـزرة ميدان مصطفى محمود عدة أمور مهمة:
أولا: لم يكن اعتصاما ولا فيه نصب خيام، حتى يستغلها الإعلام، فقد كانت تجمعا لمجموعة من الناس لم تتمكن من الوصول لرابعة أو النهضة.
ثانيا: لم يكن فيه أي اتهام لأي أحد بحمل سلاح سواء أبيض أو غيره، بل بشهادة الجميع لم يلتقط أحد صورة لمسلح سواء دسته الداخلية، أم كان من المتظاهرين، وليس هذا تسليما مني بأن رابعة والنهضة كانا مسلحين، بل لأن النقاش والجدل فيهما لا ينتهي، لكن في حالة ميدان مصطفى محمود التهمة غير موجودة أو مطروحة أصلا.
ثالثا: لم يكن هناك شكاوى من الجيران كما ادعى الإعلام في اعتصامي رابعة والنهضة، لأن الناس لم تجلس سوى ساعات النهار فقط.
رابعا: لم يكن هناك قرار من النيابة بالفض كما في اعتصامي النهضة ورابعة، كما ادعى بذلك أهل الانقلاب.
خامسا: لم يحدث أن أصيب رجل أمن أو جيش بأية إصابة، حتى (خربوش)، ولم تعلن الداخلية أو الجيش عن أي إصابات لها في ميدان مصطفى محمود، وهذا معناه: أن القتـل فيه لم يكن رد فعل لقتـل رجالهم كما ادعوه في رابعة والنهضة.
سادسا: أن من بقي من أهل النهضة حوصر في مبنى كلية الهندسة، أو في مسجد الاستقامة بالجيزة، فإذن المتواجدون هنا ليسوا متهمين من سلطة الانقلاب بتهمة الهروب من الاعتصام، بل هي مجموعة مختلفة تماما، من الشعب سمعوا بما جرى من فض فتضامنوا ونزلوا.
فما تم في ميدان مصطفى محمود جريمة مكتملة الأركان قامت بها الداخلية والجيش، بشكل بشع، غير متخيل أو متوقع وقتها طبعا، وإلا ما حدث في رابعة والنهضة جعل ما حدث في مصطفى محمود ليس مستغربا ولا مستهجنا.
ولأبدأ شهادتي إذن بما يمليه علي ديني وضميري، داعيا بقية من شهد الموقف إلى تدوين وتسجيل شهادته، لتكون كلمة أمام الله أولا، ثم أمام التاريخ والقانون المحلي والدولي، ثم لتكون تبرئة لساحة شهداء وجرحى أريقت دماؤهم الطاهرة في هذا الميدان على يد أنجس فئة في شعب مصر.
قمت من نومي في الصباح الباكر يوم الرابع عشر من أغسطس الماضي على اتصال هاتفي من صديق يسألني: هل فعلا تم فض رابعة والنهضة؟ قلت: لا علم لي، وإذ باتصال هاتفي يأتيني من أحد الإخوان أن بدأ فض اعتصامي رابعة والنهضة، فسألته وأين نتجمع؟ فأخبرني بالتجمع عند مجلس مدينة (أوسيم) بلدتي، فخرجت ووجدت عددا من الشباب وركبنا حافلة لنصل إلى ميدان النهضة أقرب الميادين إلينا، فأخبرنا أن النهضة قد تم فضه، وأن من فيه ذهبوا إلى مسجد الاستقامة، وأن علينا أن نتجه إلى ميدان مصطفى محمود، ليكون ميدانا بديلا، حيث إن رابعة صامدة حتى الآن، هكذا توهم الجميع أنه ميدان بديل عن النهضة، ولم نكن نعلم ما يخبئه القدر من جريمة ومجـزرة العصر في مصر.
ذهبنا إلى الميدان، ونحن في الطريق بعد النزول من كوبري أحمد عرابي، كنا طوال الطريق على تواصل فتوقفنا قريبا من مبنى (عمر أفندي) عند مسجد (المواساة)، ننتظر رسالة الأمان من الإخوة الموجودين في الميدان، حيث إن الطريق صار مملوءا بالبلطجية، وقاومهم الإخوة الموجودون وطاردوهم حتى أخلوا لنا طريقا معينا من اتجاه (سفنكس)، فدخلنا الميدان من هذا الاتجاه، ونزلنا وإذ ببلطجية من أماكن مختلفة استطاع الشباب دحرهم جميعا لمسافات بعيدة عن الميدان، بدأت الأعداد تتوافد على الميدان، وكان وقتها الساعة التاسعة صباح يوم الأربعاء 14 أغسطس، حاول الشباب إغلاق بعض مداخل الميدان قدر الاستطاعة، وبدأت الأعداد تزداد نوعا ما، حتى امتلأ الميدان بالشباب.
بعد قليل حاولنا تأمين الميدان وإبعاد البلطجية عنه، فوجئنا بشاب له لحية خفيفة، ومعه لاب توب، وأكثر من هاتف محمول، أمسك به الشباب، واكتشفنا أنه كان يتكلم بالهاتف يخبر البلطجية عنا وعن أعدادنا، وأننا عزل من السلاح، خفيفا كان أو ثقيلا، أبيض أو غير أبيض، وهنا حار الشباب بعد أن جردوه من الأجهزة، واعترف الشاب، أصر رجل في أواسط الأربعينيات من العمر يقترب من الخمسين على أن يضربه ضربا مبرحا يؤذيه، ولكن اجتمعت كلمة الجميع أنه لا تضربه وترك فعلا، وبعدها أمسك الشباب بمجند أمن مركزي من وسط مجموعة من الجنود اشتبكوا مع بعض الشباب، فأمسكوا به وجردوه مما معه من عصي ودرع وخوذه، ولم يكن معه سلاح، وهو في أيدي الشباب نادت علي امرأة تبيع الشاي عند الميدان، وقالت لي: قل لهم لا يقتـلوه يا عم الشيخ، فقلت لها: لن يقتـلوه ولن يضربوه، وبعد مدة قصيرة تركوه وسط توسلاته بلهجة تدل على أنه من الصعيد يقضي فترة التجنيد، وسط كلام المتظاهرين أنه جاهل ولا يعرف، وألقوا به لإيذاء المتظاهرين دون أن يفهم، وخاطبه البعض بأننا إخوانك ولن نؤذيك ولكن ماذا رأيت منا كي تشارك في إيذائنا؟! وتركه الشباب.
دقائق معدودة ووصلت قوات أخرى من الشرطة والجيش أكثر، وبدأ على الساعة العاشرة صباحا تقريبا ضرب بالخرطوش، وكان أول من أصيب على ما أذكر الأستاذ (رضوان سرج) في كتفه الأيسر بخرطوش، مشيت معه إلى مستشفى مصطفى محمود من مدخل جانب المسجد الأيمن، كانت الإصابة خفيفة وسالت بعض الدماء، ونحن في الطريق لعلاجه جيء برجل مسن ـ ربما فوق الستين ببضع سنوات ـ ضرب برصاصة في بطنه وكان دائم ترديد لفظ الجلالة: الله، الله، الله، مما جعل بعض الشباب الذي أصيب بالخرطوش يحتقر إصابته بجانب إصابة الرجل.
ثم بدأ ضرب قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة، وأحست النساء بالاختناق، أو أنهم يفضون المكان ليقتحموه، اضطرت النساء إلى دخول مسجد مصطفى محمود وقد كان مفتوحا، فأسرعت ومعي أخ لا أعرفه نصرخ فيهم: اخرجوا من المسجد، لو ظللتم فيه سيسهل عليهم محاصرتكم فيه، وسنضطر لحمايتكم بصدورنا العارية، فإما أن نقتـل وتقتـل النساء معنا، أو يمتن بالغاز الذي سيضرب داخل المسجد، وهؤلاء جربناهم لا تردعهم حرمة المساجد، ولا حرمة النساء، ولا دين لديهم يمنعهم من ذلك.
رأيت في أول اليوم: قناصة على مبنى بنك يسار مسجد مصطفى محمود، وكانوا ظاهرين لنا بشكل واضح، رغم ارتفاع وبعد المسافة نوعا ما. وفوجئت ببعض أهالي شارع خلف مسجد مصطفى محمود وقبل الشارع الذي فيه سفارة دولة قطر، يطلبون منا عدم إغلاق الشارع، رغم أنه لا يوجد مارة، فسألتهم: هل تأمنونا لو جاء البلطجية منه؟ وشعرت أنهم مدفوعون من الأمن بإفساح هذا الطريق، فقلت لهم: لن أعدكم بفتحه، أو عدم وضع حواجز أمامه، ما دمتم لا تتمكنون من حمايته، لن ندع طريقا في ظهرنا نؤتى منه دون تأمين.
حكى لي أحد المصابين في هذا اليوم، أن الضرب من شارع البطل أحمد عبد العزيز، أتاهم من مبنى جريدة اليوم السابع، فعقب عليه شاهد يقف معه ليسند المصاب بأن قوات خاصة تتحصن بأسحلتها في مبنى الجريدة نفسها، وهو كلام على عهدة من قاله، ليس لدي لدليل على نفيه أو تأكيده.
بدأ الجرحى والشهداء يتساقطون، ولا يتوافر مستلزمات طبية كافية، والإصابات كلها خطيرة، ولا يوجد (نقالات) نحمل عليها الجرحى، بل كنا نستخدم الكراسي نجلس عليها المصاب لنحمله، وينقل من موضع إصابته على (موتوسيكلات) ويجلس المصاب في المنتصف بين السائق، وخلفه شخص ليسنده حتى لا يسقط على الأرض، وحالات تحمل لمسافة طويلة من مكان الإصابة للمستشفى الميداني عن طريق الأشخاص أنفسهم، وهو عبء يصعب، ورأيت حالة مثلا (الشهيد. محمد فتحي شعبان) وقد أصيب بطلق في البطن من جانبه، حمله الشباب من مكان الإصابة للمستشفى الميداني على أيديهم، ولما لم تفلح معه الإسعافات الأولية البسيطة عاد الشباب ليحملوه لمستشفى السلام بنفس الطريقة.
كنت أرى الإصابات الخطيرة وأتعجب من عدم صراخ أو تألم أصحابها، فمن خرج مخه خارج رأسه أفهم أنه لا يصرخ لأنه فقد الوعي تماما، وربما مات أو في طريقه للموت، لكن من أطلقت رصاصة في بطنه بهذا الشكل كمحمد فتحي شعبان، وهو صامد لا يصرخ، ولا يتكلم، لدرجة أنك تشعر أنه ليس مصابا، بينما المسكين مصاب بإصابة موت، ومن يأتيك والرصاصة قد شقت فخذه وشطرته شطرين وكأن جزارا بسكين كبير شطرها، وأي نوع من الرصاص هذا الذي يفلق الجسد نصفين؟!! علمنا بعد ذلك أن هذه أسلحة مجرمة دوليا في الاستخدام.
لم أجد أي إعلاميين أو وسائل إعلام تنقل المأساة التي نعيشها، فتواصلت مع قناة الجزيرة برسالة أرسلتها لأحد كوادرها أننا نقتـل دون أي تغطية إعلامية من أحد، فاتصلوا بي، وأجريت مداخلة في وقت الظهيرة، نقلت فيها استغاثتي ومن معي، الرصاص يحيط من كل مكان، والإصابات الخطيرة ولا يوجد أدوات إسعاف، ولا خيط لعلاج المصابين والتئام جروحهم، وكان الرصاص قريبا من مكاني فاضطررت للدخول في مكان تحت سلم مستشفى مصطفى محمود.
أنهيت مداخلتي مع قناة الجزيرة الإخبارية، وإذ بوابل من الرصاص يقترب من المستشفى الميداني، فدخل الشباب الذين كانوا على بابها، ينذرونا باحتمال هجوم على المستشفى، يا الله، حتى أماكن العلاج حيث لا علاج يريد المجرمون اقتحامها، وبعد صلاة الظهر بقليل، بدأنا تسجيل أول حالة وفاة، وسط تأوهات وصراخ النساء، وبكاء الرجال، بحثنا عن مكان نضع في الجثث، واضطررنا آسفين أن نفتح حماما من الحمامات ونضع فيه أول جثة، ثم الجثث التي تلته، في حمامات المستشفى من الخارج، وجئنا بأدوات تنظيف ننظف مكان تواجد الحالات المصابة، فبلاط المكان لم يكن نظيفا بالمرة، وزاد عليه كمية الدماء المتساقطة والمتجلطة عليه، واستخدمنا كل أماكن المستشفى، على الأرض حيث لا نظافة ولا أي أمان يرقد المصابون، وإذ بشاب من بلدي أراه راقدا على الأرض مصابا برصاصة تحت إبطه، تعرفت على وجهه، وإذ بطبيبة تخرج له الرصاصة وتفتح ثم تخيط بلا أي مخدر، ثم حمله أحد إخواننا إلى مستشفى (الموظفين العام)، وتوالى سقوط الشهداء والجرحى بشكل مرعب، في خلال نصف ساعة فقط، سقط عشرات الشهداء، ومئات الجرحى، وبالطبع الجريح هنا نقصد به من ضرب برصاص في البطن أو الفخذ أو الكتف، المهم أنه لم يمت بعد، هذا نطلق عليه كلمة (مصاب)!!
كثير من الحالات كان يأتينا في النزع الأخير، وقليل منهم من كان يأتي فيه الرمق فيحاول الأطباء علاجه فيموت، ومنهم حالات ماتت سريريا، وحالات تأتينا منتهية، كانت أول حالة أتتنا لا نفس فيها، ولا حراك، الأخ (عاطف عبد الجيد) من قرية الكوم الأحمر، لم يتعرف عليه الحاضرون، ودققت فيه، وحاولت أن أسعف مع من يسعف، بعمليات الإنعاش باليد، ولكن بلا فائدة، كان رحمه الله قد أسلم الروح، وفارق الحياة، فبحثت عن بعض إخوانه فأخبرتهم، فاسترجعوا واحتسبوه شهيدا عند الله.
اتصلت بالجزيرة مرة أخرى أن يرسلوا لنا مراسل، فجاءنا مراسلها الأستاذ وليد العطار، إلى ما قبل صلاة المغرب، وكنا نتواصل معه ومع مراسلين أجانب أتوا بكاميراتهم وأدواتهم، ونمدهم بالمعلومات، وقد رأوا بأنفسهم رأي العين، وتعجبت فيما بعد: أين ذهبت هذه الوسائل الإعلامية الأجنبية؟ وهل بثت ما صورته ورصدته أم لا؟ وأين؟! ثم علمت بعدها، أن بعض هذه الجهات فتشتهم السلطات المصرية في المطار وصادروا منهم التسجيلات، وبعضهم تحدث على وسائل إعلام أجنبية بذلك، ولا أدري ما مصير ما سجلوه، وهل احتفظوا بنسخ أخرى، أو أرسلوها للبث؟!
ظللنا بقية اليوم نسعف في الجرحى، ونخرج الجثـث ليحصل أهلهم على تصريح الدفن، ليبدأوا معاناة أخرى بعد معاناة فقد الأحبة، والضغط عليهم بأن يكتب في سبب الوفاة (انتحار)، نعم انتحار، ولكن أصر كثير من أهلهم رفض استلام أي تصريح فيه سبب الوفاة انتحار، وبدأت تتوافد علينا تبرعات الناس من أدوات طبية، بعدما أجريت مداخلتي على قناة الجزيرة بأننا نموت ولا يوجد أدوات طبية نسعف بها المصابين، وبدأت تأتيني رسائل من أهل الخير نساء ورجالا، ماذا نستطيع أن نقدم؟ وهو ما يظهر معدن الشعب المصري الأصيل عندما يرى مظلوما أو من يحتاج الغوث، شعب مصر بالتأكيد لا شعب السيسي الشامت في الدماء.
أمام كثرة الحالات، وعدم تجاوب مستشفى مصطفى محمود معنا صرخنا في القائمين من رجال أمن المستشفى لفتح غرف العمليات، فنحن ليس معنا إلا أطباء فقط، ليس معنا أدوات، ولا خيط طبي لخياطة الجروح، ولا أدوات إلا القليل، ذهب من ذهب من الشباب يشتري من الصيدليات المطلوب، وكان البعض يذهب لمستشفى السلام فيرفض علاجه، أو يترك، والبعض كان يذهب لمستشفى الموظفين، وهو خائف من القبض عليه وهو مصاب برصاص.
كانت أول مرة في حياتي أرى مثل هذه الحالات بهذا الشكل البشع، حالات رأيت المخ وقد خرج من رأس المصاب، وأقداما مكسورة كسرا وكأنها ضرب بساطور كسرها، وأمعاء وأحشاء آخر خرجت من بطنه.
وعند اقتراب أذان صلاة العصر، وصل إلى الميدان الشيخان: محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب، وصعدا على المنصة لإلقاء كلمة قصيرة، تدل على التضامن مع المتظاهرين، والأسى لما يحدث من دماء، وليس لصرفنا كما زعم محمود حسان أخو الشيخ محمد حسان، وعند نزولهما كانت قد اتصلت بي قناة الجزيرة كي يقوما بمداخلة للجزيرة، ولكن مع شدة الزحام أصيب الشيخ حسان بإغماء، وحملناه لأقرب مكان لإسعافه، وذهبت للمستشفى الميداني لأستدعي أحد الأطباء لإسعافه، وأسعف ثم خرج من الميدان مع الشيخ محمد حسين يعقوب.
جلست أفكر مع نفسي وقد انتهى إطلاق الرصاص، فقد لاحظت أنه والحمد لله لم تصب امرأة واحدة، أو تستشهد، فيما أعلم، فلم أرى بين الجرحى ولا الشهداء امرأة واحدة والحمد لله، في المستشفى الميداني، لكني فوجئت بعدها بعدد خمس حالات، وكانوا من نساء غير مشاركات في التظاهرة، بل بعضهن كان مع عائلاتهن، وكانت تقتـ
ل أو تصاب، فينقلها زوجها في سيارته، وقد أصيبت وهي معه، وماتت في الطريق بل قبل أن ينتقل بها من المكان!
قبل المغرب بمدة زمنية، بدأت تتوافد علينا أنباء فض اعتصام رابعة، وقصف منصة رابعة بطائرات الجيش، وأعلن عن حظر التجوال، عندئذ بدأ يتشاور قيادات التظاهرة، ثم استدعاني من تشاوروا في الأمر، وقالوا لي: بحكم أنك رأيت الشهداء والمصابين، وتعرف العدد، ما تقييمك للموقف ورأيك؟ فقلت: أرى أن ينصرف الناس، لندفن الشهداء، فإذا كان المجرمون في أقل من ساعة أسقطوا عددا من الشهداء والجرحى، وميتين سريريا، وهذا في وضح النهار، ونحن نرى من يطلق الرصاص، فما بالنا والدنيا مظلمة، سنكون كعصافير تتساقط من على من شجرة في الليل، وقد تم فض رابعة فعليا، وحظر التجوال باقي عليه ساعة ويبدأ، أرى أن آليات إدارة الصراع يجب أن تختلف، وتكون بمنطق حرب الشوارع، لا حرب الاعتصامات والميادين الكبيرة، ففعالية الاعتصام أدت دورها ورسالتها، بقيت رسائل أخرى مهمة لم نستخدما بعد، إضافة إلى أن ميدان مصطفى محمود به ما يقرب من خمسة عشر مخرجا، كيف سنؤمنه، وهو أمر يصعب علينا، هذا إذا استمر معنا في الاعتصام نفس العدد الموجود بالنهار، فاقترحت أن ننصرف، ونلتقي في الغد في صلاة الظهر في نفس الميدان، اتفق جميع المتشاورين معي في نفس الرأي، وقد كانوا استقروا عليه فعليا، وتشاور الجميع من يعلن للناس هذا الأمر، وهو أمر شاق، من في ظل هذه اللحظة العصيبة يخرج ليقول للناس عودوا إلى بيوتكم الآن؟ واستقر رأي إخواني جميعا على أن يقوم العبد الفقير كاتب هذه الكلمات بالصعود إلى منصة متواضعة أقامها الشباب على برج اتصالات، وبعض الخشب، فصعدت لأقف أصعب موقف خطابي في حياتي، ولأعلن أصعب قرار على نفسي ونفس الثوار في ميدان مصطفى محمود، بدأت بالحمد لله والصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شكرت الحضور، والدعاء للجميع بأن يبارك جهودهم وجهودهن، وقلت كلاما فتح الله به، فأهيئ الناس للانصراف، لكني لم أقل انصرفوا، أو أننا سنفض الاعتصام الآن، بل قلت: أيها الإخوة، يحتاج المرء للوقوف برهة، ثم يقفز خطوات للأمام، سننصرف الآن، كي ننهي إجراءات دفن شهدائنا، ونلملم جراحنا، ثم نلتقي غدا إن شاء الله في صلاة الظهر في نفس المكان.
ونزلت من على المنصة المتواضعة لأجد بعض الحاضرين رافضا كلامي والانصراف، ومن أمرني بأن أخبر الناس بالانصراف، وشد البعض معي في الكلام، وأنا أقدر بلا شك عاطفتهم ورد فعلهم معي، فأخبرتهم أن هذا هو ما انتهى إليه من تشاوروا من الأحزاب والجماعات في الميدان، فقاطعني بعضهم لن نمشي، قلت له: كما تحب، كلامي لمن يسمعه، ومن يرفض فهذا حقه، وأخذت أشرح لبعضهم، فمن اقتنع بكلامي اقتنع، ولا زالت مجموعة مصرة على أن أصعد مرة أخرى وأتراجع عن كلامي دون جدوى مني، فأنا قلت للناس ما أنا مقتنع به، وما هو مبني على شورى من كثير من الناس، كانت كل مداخل الميدان غير مأمونة، إلا مدخل واحد كان هو الوحيد الذي لا يغلقه البلطجية وقوفا بأسلحتهم.
طلبت من مجموعة حولي من الإخوان أن نؤمن خروج الناس، وبخاصة من جاءوا فرادى، وأن نكون آخر من يمشي من الميدان ممن قرر العودة، وفعلا بدأنا في إخراج الجرحى من المستشفى الميداني، والأطباء في المستشفى، وخاصة النساء، ثم نؤمن خروج غير الإخوان، ثم من بقي من الإخوان والناس، ووجدت الناس تمشي في الطريق الوحيد الخالي، والذي بعد كيلو أو اثنين كيلو سيكون مملوءا ببلطجية باسم اللجان الشعبية يحملون السيف والأسلحة.
هذا مجمل شهادتي، بما تذكرته، رافعا نصب عيني قوله تعالى: (ما شهدنا إلا بما علمنا وكنا للغيب حافظين). والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
http://mubasher-misr.aljazeera.net/studies/2014/03/2014322103357256225.htm
أعلم يقينا أن الشهادة تتطلب ألا يشهد صاحبها إلا على ما رآه بأم عينه، عملا بمبدأ الإسلام في ذلك: "على مثل الشمس فاشهد"، وقد اهتم الإعلام في يوم الفض بمجـزرتي رابعة والنهضة، وغفلوا دون قصد عن مجـزرة ثالثة مهمة، في نفس اليوم والتوقيت، هي مجـزرة ميدان مصطفى محمود، وكذلك كل تقارير حقوق الإنسان التي صدرت، كان كل همها النقاش حول هل كان اعتصام رابعة والنهضة مسلحين أم لا؟ وهل أفرطت الشرطة والجيش في استخدام ال*** أم لا؟ وهل الاعتصام كان قانونيا أم لا؟ إلى آخر عجائب الانقلاب والانقلابيين، لكن ما لا يدع مجالا للنقاش ولا يمكن أن يجادل أو يماري أحد في مجـزرة ميدان مصطفى محمود عدة أمور مهمة:
أولا: لم يكن اعتصاما ولا فيه نصب خيام، حتى يستغلها الإعلام، فقد كانت تجمعا لمجموعة من الناس لم تتمكن من الوصول لرابعة أو النهضة.
ثانيا: لم يكن فيه أي اتهام لأي أحد بحمل سلاح سواء أبيض أو غيره، بل بشهادة الجميع لم يلتقط أحد صورة لمسلح سواء دسته الداخلية، أم كان من المتظاهرين، وليس هذا تسليما مني بأن رابعة والنهضة كانا مسلحين، بل لأن النقاش والجدل فيهما لا ينتهي، لكن في حالة ميدان مصطفى محمود التهمة غير موجودة أو مطروحة أصلا.
ثالثا: لم يكن هناك شكاوى من الجيران كما ادعى الإعلام في اعتصامي رابعة والنهضة، لأن الناس لم تجلس سوى ساعات النهار فقط.
رابعا: لم يكن هناك قرار من النيابة بالفض كما في اعتصامي النهضة ورابعة، كما ادعى بذلك أهل الانقلاب.
خامسا: لم يحدث أن أصيب رجل أمن أو جيش بأية إصابة، حتى (خربوش)، ولم تعلن الداخلية أو الجيش عن أي إصابات لها في ميدان مصطفى محمود، وهذا معناه: أن القتـل فيه لم يكن رد فعل لقتـل رجالهم كما ادعوه في رابعة والنهضة.
سادسا: أن من بقي من أهل النهضة حوصر في مبنى كلية الهندسة، أو في مسجد الاستقامة بالجيزة، فإذن المتواجدون هنا ليسوا متهمين من سلطة الانقلاب بتهمة الهروب من الاعتصام، بل هي مجموعة مختلفة تماما، من الشعب سمعوا بما جرى من فض فتضامنوا ونزلوا.
فما تم في ميدان مصطفى محمود جريمة مكتملة الأركان قامت بها الداخلية والجيش، بشكل بشع، غير متخيل أو متوقع وقتها طبعا، وإلا ما حدث في رابعة والنهضة جعل ما حدث في مصطفى محمود ليس مستغربا ولا مستهجنا.
ولأبدأ شهادتي إذن بما يمليه علي ديني وضميري، داعيا بقية من شهد الموقف إلى تدوين وتسجيل شهادته، لتكون كلمة أمام الله أولا، ثم أمام التاريخ والقانون المحلي والدولي، ثم لتكون تبرئة لساحة شهداء وجرحى أريقت دماؤهم الطاهرة في هذا الميدان على يد أنجس فئة في شعب مصر.
قمت من نومي في الصباح الباكر يوم الرابع عشر من أغسطس الماضي على اتصال هاتفي من صديق يسألني: هل فعلا تم فض رابعة والنهضة؟ قلت: لا علم لي، وإذ باتصال هاتفي يأتيني من أحد الإخوان أن بدأ فض اعتصامي رابعة والنهضة، فسألته وأين نتجمع؟ فأخبرني بالتجمع عند مجلس مدينة (أوسيم) بلدتي، فخرجت ووجدت عددا من الشباب وركبنا حافلة لنصل إلى ميدان النهضة أقرب الميادين إلينا، فأخبرنا أن النهضة قد تم فضه، وأن من فيه ذهبوا إلى مسجد الاستقامة، وأن علينا أن نتجه إلى ميدان مصطفى محمود، ليكون ميدانا بديلا، حيث إن رابعة صامدة حتى الآن، هكذا توهم الجميع أنه ميدان بديل عن النهضة، ولم نكن نعلم ما يخبئه القدر من جريمة ومجـزرة العصر في مصر.
ذهبنا إلى الميدان، ونحن في الطريق بعد النزول من كوبري أحمد عرابي، كنا طوال الطريق على تواصل فتوقفنا قريبا من مبنى (عمر أفندي) عند مسجد (المواساة)، ننتظر رسالة الأمان من الإخوة الموجودين في الميدان، حيث إن الطريق صار مملوءا بالبلطجية، وقاومهم الإخوة الموجودون وطاردوهم حتى أخلوا لنا طريقا معينا من اتجاه (سفنكس)، فدخلنا الميدان من هذا الاتجاه، ونزلنا وإذ ببلطجية من أماكن مختلفة استطاع الشباب دحرهم جميعا لمسافات بعيدة عن الميدان، بدأت الأعداد تتوافد على الميدان، وكان وقتها الساعة التاسعة صباح يوم الأربعاء 14 أغسطس، حاول الشباب إغلاق بعض مداخل الميدان قدر الاستطاعة، وبدأت الأعداد تزداد نوعا ما، حتى امتلأ الميدان بالشباب.
بعد قليل حاولنا تأمين الميدان وإبعاد البلطجية عنه، فوجئنا بشاب له لحية خفيفة، ومعه لاب توب، وأكثر من هاتف محمول، أمسك به الشباب، واكتشفنا أنه كان يتكلم بالهاتف يخبر البلطجية عنا وعن أعدادنا، وأننا عزل من السلاح، خفيفا كان أو ثقيلا، أبيض أو غير أبيض، وهنا حار الشباب بعد أن جردوه من الأجهزة، واعترف الشاب، أصر رجل في أواسط الأربعينيات من العمر يقترب من الخمسين على أن يضربه ضربا مبرحا يؤذيه، ولكن اجتمعت كلمة الجميع أنه لا تضربه وترك فعلا، وبعدها أمسك الشباب بمجند أمن مركزي من وسط مجموعة من الجنود اشتبكوا مع بعض الشباب، فأمسكوا به وجردوه مما معه من عصي ودرع وخوذه، ولم يكن معه سلاح، وهو في أيدي الشباب نادت علي امرأة تبيع الشاي عند الميدان، وقالت لي: قل لهم لا يقتـلوه يا عم الشيخ، فقلت لها: لن يقتـلوه ولن يضربوه، وبعد مدة قصيرة تركوه وسط توسلاته بلهجة تدل على أنه من الصعيد يقضي فترة التجنيد، وسط كلام المتظاهرين أنه جاهل ولا يعرف، وألقوا به لإيذاء المتظاهرين دون أن يفهم، وخاطبه البعض بأننا إخوانك ولن نؤذيك ولكن ماذا رأيت منا كي تشارك في إيذائنا؟! وتركه الشباب.
دقائق معدودة ووصلت قوات أخرى من الشرطة والجيش أكثر، وبدأ على الساعة العاشرة صباحا تقريبا ضرب بالخرطوش، وكان أول من أصيب على ما أذكر الأستاذ (رضوان سرج) في كتفه الأيسر بخرطوش، مشيت معه إلى مستشفى مصطفى محمود من مدخل جانب المسجد الأيمن، كانت الإصابة خفيفة وسالت بعض الدماء، ونحن في الطريق لعلاجه جيء برجل مسن ـ ربما فوق الستين ببضع سنوات ـ ضرب برصاصة في بطنه وكان دائم ترديد لفظ الجلالة: الله، الله، الله، مما جعل بعض الشباب الذي أصيب بالخرطوش يحتقر إصابته بجانب إصابة الرجل.
ثم بدأ ضرب قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة، وأحست النساء بالاختناق، أو أنهم يفضون المكان ليقتحموه، اضطرت النساء إلى دخول مسجد مصطفى محمود وقد كان مفتوحا، فأسرعت ومعي أخ لا أعرفه نصرخ فيهم: اخرجوا من المسجد، لو ظللتم فيه سيسهل عليهم محاصرتكم فيه، وسنضطر لحمايتكم بصدورنا العارية، فإما أن نقتـل وتقتـل النساء معنا، أو يمتن بالغاز الذي سيضرب داخل المسجد، وهؤلاء جربناهم لا تردعهم حرمة المساجد، ولا حرمة النساء، ولا دين لديهم يمنعهم من ذلك.
رأيت في أول اليوم: قناصة على مبنى بنك يسار مسجد مصطفى محمود، وكانوا ظاهرين لنا بشكل واضح، رغم ارتفاع وبعد المسافة نوعا ما. وفوجئت ببعض أهالي شارع خلف مسجد مصطفى محمود وقبل الشارع الذي فيه سفارة دولة قطر، يطلبون منا عدم إغلاق الشارع، رغم أنه لا يوجد مارة، فسألتهم: هل تأمنونا لو جاء البلطجية منه؟ وشعرت أنهم مدفوعون من الأمن بإفساح هذا الطريق، فقلت لهم: لن أعدكم بفتحه، أو عدم وضع حواجز أمامه، ما دمتم لا تتمكنون من حمايته، لن ندع طريقا في ظهرنا نؤتى منه دون تأمين.
حكى لي أحد المصابين في هذا اليوم، أن الضرب من شارع البطل أحمد عبد العزيز، أتاهم من مبنى جريدة اليوم السابع، فعقب عليه شاهد يقف معه ليسند المصاب بأن قوات خاصة تتحصن بأسحلتها في مبنى الجريدة نفسها، وهو كلام على عهدة من قاله، ليس لدي لدليل على نفيه أو تأكيده.
بدأ الجرحى والشهداء يتساقطون، ولا يتوافر مستلزمات طبية كافية، والإصابات كلها خطيرة، ولا يوجد (نقالات) نحمل عليها الجرحى، بل كنا نستخدم الكراسي نجلس عليها المصاب لنحمله، وينقل من موضع إصابته على (موتوسيكلات) ويجلس المصاب في المنتصف بين السائق، وخلفه شخص ليسنده حتى لا يسقط على الأرض، وحالات تحمل لمسافة طويلة من مكان الإصابة للمستشفى الميداني عن طريق الأشخاص أنفسهم، وهو عبء يصعب، ورأيت حالة مثلا (الشهيد. محمد فتحي شعبان) وقد أصيب بطلق في البطن من جانبه، حمله الشباب من مكان الإصابة للمستشفى الميداني على أيديهم، ولما لم تفلح معه الإسعافات الأولية البسيطة عاد الشباب ليحملوه لمستشفى السلام بنفس الطريقة.
كنت أرى الإصابات الخطيرة وأتعجب من عدم صراخ أو تألم أصحابها، فمن خرج مخه خارج رأسه أفهم أنه لا يصرخ لأنه فقد الوعي تماما، وربما مات أو في طريقه للموت، لكن من أطلقت رصاصة في بطنه بهذا الشكل كمحمد فتحي شعبان، وهو صامد لا يصرخ، ولا يتكلم، لدرجة أنك تشعر أنه ليس مصابا، بينما المسكين مصاب بإصابة موت، ومن يأتيك والرصاصة قد شقت فخذه وشطرته شطرين وكأن جزارا بسكين كبير شطرها، وأي نوع من الرصاص هذا الذي يفلق الجسد نصفين؟!! علمنا بعد ذلك أن هذه أسلحة مجرمة دوليا في الاستخدام.
لم أجد أي إعلاميين أو وسائل إعلام تنقل المأساة التي نعيشها، فتواصلت مع قناة الجزيرة برسالة أرسلتها لأحد كوادرها أننا نقتـل دون أي تغطية إعلامية من أحد، فاتصلوا بي، وأجريت مداخلة في وقت الظهيرة، نقلت فيها استغاثتي ومن معي، الرصاص يحيط من كل مكان، والإصابات الخطيرة ولا يوجد أدوات إسعاف، ولا خيط لعلاج المصابين والتئام جروحهم، وكان الرصاص قريبا من مكاني فاضطررت للدخول في مكان تحت سلم مستشفى مصطفى محمود.
أنهيت مداخلتي مع قناة الجزيرة الإخبارية، وإذ بوابل من الرصاص يقترب من المستشفى الميداني، فدخل الشباب الذين كانوا على بابها، ينذرونا باحتمال هجوم على المستشفى، يا الله، حتى أماكن العلاج حيث لا علاج يريد المجرمون اقتحامها، وبعد صلاة الظهر بقليل، بدأنا تسجيل أول حالة وفاة، وسط تأوهات وصراخ النساء، وبكاء الرجال، بحثنا عن مكان نضع في الجثث، واضطررنا آسفين أن نفتح حماما من الحمامات ونضع فيه أول جثة، ثم الجثث التي تلته، في حمامات المستشفى من الخارج، وجئنا بأدوات تنظيف ننظف مكان تواجد الحالات المصابة، فبلاط المكان لم يكن نظيفا بالمرة، وزاد عليه كمية الدماء المتساقطة والمتجلطة عليه، واستخدمنا كل أماكن المستشفى، على الأرض حيث لا نظافة ولا أي أمان يرقد المصابون، وإذ بشاب من بلدي أراه راقدا على الأرض مصابا برصاصة تحت إبطه، تعرفت على وجهه، وإذ بطبيبة تخرج له الرصاصة وتفتح ثم تخيط بلا أي مخدر، ثم حمله أحد إخواننا إلى مستشفى (الموظفين العام)، وتوالى سقوط الشهداء والجرحى بشكل مرعب، في خلال نصف ساعة فقط، سقط عشرات الشهداء، ومئات الجرحى، وبالطبع الجريح هنا نقصد به من ضرب برصاص في البطن أو الفخذ أو الكتف، المهم أنه لم يمت بعد، هذا نطلق عليه كلمة (مصاب)!!
كثير من الحالات كان يأتينا في النزع الأخير، وقليل منهم من كان يأتي فيه الرمق فيحاول الأطباء علاجه فيموت، ومنهم حالات ماتت سريريا، وحالات تأتينا منتهية، كانت أول حالة أتتنا لا نفس فيها، ولا حراك، الأخ (عاطف عبد الجيد) من قرية الكوم الأحمر، لم يتعرف عليه الحاضرون، ودققت فيه، وحاولت أن أسعف مع من يسعف، بعمليات الإنعاش باليد، ولكن بلا فائدة، كان رحمه الله قد أسلم الروح، وفارق الحياة، فبحثت عن بعض إخوانه فأخبرتهم، فاسترجعوا واحتسبوه شهيدا عند الله.
اتصلت بالجزيرة مرة أخرى أن يرسلوا لنا مراسل، فجاءنا مراسلها الأستاذ وليد العطار، إلى ما قبل صلاة المغرب، وكنا نتواصل معه ومع مراسلين أجانب أتوا بكاميراتهم وأدواتهم، ونمدهم بالمعلومات، وقد رأوا بأنفسهم رأي العين، وتعجبت فيما بعد: أين ذهبت هذه الوسائل الإعلامية الأجنبية؟ وهل بثت ما صورته ورصدته أم لا؟ وأين؟! ثم علمت بعدها، أن بعض هذه الجهات فتشتهم السلطات المصرية في المطار وصادروا منهم التسجيلات، وبعضهم تحدث على وسائل إعلام أجنبية بذلك، ولا أدري ما مصير ما سجلوه، وهل احتفظوا بنسخ أخرى، أو أرسلوها للبث؟!
ظللنا بقية اليوم نسعف في الجرحى، ونخرج الجثـث ليحصل أهلهم على تصريح الدفن، ليبدأوا معاناة أخرى بعد معاناة فقد الأحبة، والضغط عليهم بأن يكتب في سبب الوفاة (انتحار)، نعم انتحار، ولكن أصر كثير من أهلهم رفض استلام أي تصريح فيه سبب الوفاة انتحار، وبدأت تتوافد علينا تبرعات الناس من أدوات طبية، بعدما أجريت مداخلتي على قناة الجزيرة بأننا نموت ولا يوجد أدوات طبية نسعف بها المصابين، وبدأت تأتيني رسائل من أهل الخير نساء ورجالا، ماذا نستطيع أن نقدم؟ وهو ما يظهر معدن الشعب المصري الأصيل عندما يرى مظلوما أو من يحتاج الغوث، شعب مصر بالتأكيد لا شعب السيسي الشامت في الدماء.
أمام كثرة الحالات، وعدم تجاوب مستشفى مصطفى محمود معنا صرخنا في القائمين من رجال أمن المستشفى لفتح غرف العمليات، فنحن ليس معنا إلا أطباء فقط، ليس معنا أدوات، ولا خيط طبي لخياطة الجروح، ولا أدوات إلا القليل، ذهب من ذهب من الشباب يشتري من الصيدليات المطلوب، وكان البعض يذهب لمستشفى السلام فيرفض علاجه، أو يترك، والبعض كان يذهب لمستشفى الموظفين، وهو خائف من القبض عليه وهو مصاب برصاص.
كانت أول مرة في حياتي أرى مثل هذه الحالات بهذا الشكل البشع، حالات رأيت المخ وقد خرج من رأس المصاب، وأقداما مكسورة كسرا وكأنها ضرب بساطور كسرها، وأمعاء وأحشاء آخر خرجت من بطنه.
وعند اقتراب أذان صلاة العصر، وصل إلى الميدان الشيخان: محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب، وصعدا على المنصة لإلقاء كلمة قصيرة، تدل على التضامن مع المتظاهرين، والأسى لما يحدث من دماء، وليس لصرفنا كما زعم محمود حسان أخو الشيخ محمد حسان، وعند نزولهما كانت قد اتصلت بي قناة الجزيرة كي يقوما بمداخلة للجزيرة، ولكن مع شدة الزحام أصيب الشيخ حسان بإغماء، وحملناه لأقرب مكان لإسعافه، وذهبت للمستشفى الميداني لأستدعي أحد الأطباء لإسعافه، وأسعف ثم خرج من الميدان مع الشيخ محمد حسين يعقوب.
جلست أفكر مع نفسي وقد انتهى إطلاق الرصاص، فقد لاحظت أنه والحمد لله لم تصب امرأة واحدة، أو تستشهد، فيما أعلم، فلم أرى بين الجرحى ولا الشهداء امرأة واحدة والحمد لله، في المستشفى الميداني، لكني فوجئت بعدها بعدد خمس حالات، وكانوا من نساء غير مشاركات في التظاهرة، بل بعضهن كان مع عائلاتهن، وكانت تقتـ
ل أو تصاب، فينقلها زوجها في سيارته، وقد أصيبت وهي معه، وماتت في الطريق بل قبل أن ينتقل بها من المكان!
قبل المغرب بمدة زمنية، بدأت تتوافد علينا أنباء فض اعتصام رابعة، وقصف منصة رابعة بطائرات الجيش، وأعلن عن حظر التجوال، عندئذ بدأ يتشاور قيادات التظاهرة، ثم استدعاني من تشاوروا في الأمر، وقالوا لي: بحكم أنك رأيت الشهداء والمصابين، وتعرف العدد، ما تقييمك للموقف ورأيك؟ فقلت: أرى أن ينصرف الناس، لندفن الشهداء، فإذا كان المجرمون في أقل من ساعة أسقطوا عددا من الشهداء والجرحى، وميتين سريريا، وهذا في وضح النهار، ونحن نرى من يطلق الرصاص، فما بالنا والدنيا مظلمة، سنكون كعصافير تتساقط من على من شجرة في الليل، وقد تم فض رابعة فعليا، وحظر التجوال باقي عليه ساعة ويبدأ، أرى أن آليات إدارة الصراع يجب أن تختلف، وتكون بمنطق حرب الشوارع، لا حرب الاعتصامات والميادين الكبيرة، ففعالية الاعتصام أدت دورها ورسالتها، بقيت رسائل أخرى مهمة لم نستخدما بعد، إضافة إلى أن ميدان مصطفى محمود به ما يقرب من خمسة عشر مخرجا، كيف سنؤمنه، وهو أمر يصعب علينا، هذا إذا استمر معنا في الاعتصام نفس العدد الموجود بالنهار، فاقترحت أن ننصرف، ونلتقي في الغد في صلاة الظهر في نفس الميدان، اتفق جميع المتشاورين معي في نفس الرأي، وقد كانوا استقروا عليه فعليا، وتشاور الجميع من يعلن للناس هذا الأمر، وهو أمر شاق، من في ظل هذه اللحظة العصيبة يخرج ليقول للناس عودوا إلى بيوتكم الآن؟ واستقر رأي إخواني جميعا على أن يقوم العبد الفقير كاتب هذه الكلمات بالصعود إلى منصة متواضعة أقامها الشباب على برج اتصالات، وبعض الخشب، فصعدت لأقف أصعب موقف خطابي في حياتي، ولأعلن أصعب قرار على نفسي ونفس الثوار في ميدان مصطفى محمود، بدأت بالحمد لله والصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شكرت الحضور، والدعاء للجميع بأن يبارك جهودهم وجهودهن، وقلت كلاما فتح الله به، فأهيئ الناس للانصراف، لكني لم أقل انصرفوا، أو أننا سنفض الاعتصام الآن، بل قلت: أيها الإخوة، يحتاج المرء للوقوف برهة، ثم يقفز خطوات للأمام، سننصرف الآن، كي ننهي إجراءات دفن شهدائنا، ونلملم جراحنا، ثم نلتقي غدا إن شاء الله في صلاة الظهر في نفس المكان.
ونزلت من على المنصة المتواضعة لأجد بعض الحاضرين رافضا كلامي والانصراف، ومن أمرني بأن أخبر الناس بالانصراف، وشد البعض معي في الكلام، وأنا أقدر بلا شك عاطفتهم ورد فعلهم معي، فأخبرتهم أن هذا هو ما انتهى إليه من تشاوروا من الأحزاب والجماعات في الميدان، فقاطعني بعضهم لن نمشي، قلت له: كما تحب، كلامي لمن يسمعه، ومن يرفض فهذا حقه، وأخذت أشرح لبعضهم، فمن اقتنع بكلامي اقتنع، ولا زالت مجموعة مصرة على أن أصعد مرة أخرى وأتراجع عن كلامي دون جدوى مني، فأنا قلت للناس ما أنا مقتنع به، وما هو مبني على شورى من كثير من الناس، كانت كل مداخل الميدان غير مأمونة، إلا مدخل واحد كان هو الوحيد الذي لا يغلقه البلطجية وقوفا بأسلحتهم.
طلبت من مجموعة حولي من الإخوان أن نؤمن خروج الناس، وبخاصة من جاءوا فرادى، وأن نكون آخر من يمشي من الميدان ممن قرر العودة، وفعلا بدأنا في إخراج الجرحى من المستشفى الميداني، والأطباء في المستشفى، وخاصة النساء، ثم نؤمن خروج غير الإخوان، ثم من بقي من الإخوان والناس، ووجدت الناس تمشي في الطريق الوحيد الخالي، والذي بعد كيلو أو اثنين كيلو سيكون مملوءا ببلطجية باسم اللجان الشعبية يحملون السيف والأسلحة.
هذا مجمل شهادتي، بما تذكرته، رافعا نصب عيني قوله تعالى: (ما شهدنا إلا بما علمنا وكنا للغيب حافظين). والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
http://mubasher-misr.aljazeera.net/studies/2014/03/2014322103357256225.htm