مشاهدة النسخة كاملة : التعليم القرآنيُّ ومراتب القراءة


abomokhtar
16-04-2014, 06:35 AM
التعليم القرآنيُّ ومراتب القراءة


الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولَّى الصالحين، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده المصطفى ونبيُّه المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:
فقد رغَّب الله عزَّ وجلَّ قرَّاء القرآن الكريم في ترتيله؛ فقال تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4].

وللترتيلِ ثلاثُ مراتبَ حدَّدها العلماء؛ هي: الحدرُ والتحقيقُ والتوسُّط بينهما.

فالحدرُ: عبارةٌ عن إدراج القراءة مع المحافظة على أحكام التجويد.

والتحقيقُ: هو إعطاءُ الحروفِ كاملَ حقِّها، وتبيينُ مخارجها، وإكمالُ صفاتها اللازمة والعارضةِ، والوفاء بالمقادير الكيفيَّة والكميَّة؛ على تؤدةٍ وتأنٍّ.

والتدوير: توسُّطٌ بين الحدر والتحقيق، ولذا يُسمَّى (التوسُّط).

والترتيل ينتظمُ المراتبَ الثلاثَ، فهو ليس مرتبةً منها، وليس قسيمًا لها، بل كلٌّ منها يصدقُ عليها أنَّه ترتيلٌ[1].

وقراءةُ القرآن خيرٌ كلُّها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن قَرَأ حَرْفاً مِن كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، لاَ أقول: الـم حَرفٌ؛ وَلكِنْ: ألِفْ حَرفٌ، وَلاَمْ حَرفٌ، وَمِيمْ حَرفٌ»[2].

وكيفما قرأ القارئُ: حادرًا أو مُحقِّقًا؛ صَدَقَ عليه وصفُ القارئ.
والقراءة الموصوفةُ بذلك هي التي لا تخرج عن حدِّ الترتيل إلى التمطيط والإفراط في المدِّ والإشباع، ولا تقصُر بالهذِّ عن إكمال الحركات وتفكيكِ الحروف وإبانتِها، ولا خلافَ في أنَّ القراءة بأيِّها خيرٌ من الهذِّ؛ وهو الإفراطُ في السرعة، وخيرٌ من التمطيط، وهو الإفراطُ والتعسُّف في التحقيقِ، والتكلُّفُ في التجويد.

ويُعبَّر - في عامَّة كلام العلماء - عن الإفراط في الإسراع حال القراءة بلفظين: الهذِّ، والهذرمة؛ أمَّا الهذُّ؛ بالذال المعجمة مشدّدة؛ فهو سرعة القراءة يقال: هذَّ القرآن هذًّا، ويهُذُّ الحديث هذًّا أي: يسردُه[3].

قال النوويُّ: وقد نُهيَ عن الإفراط في الإسراع، ويُسمى الهذُّ[4].

وأمَّا الهذرمة فهي كثرة الكلام، وهَذْرَمَ الرجل في كلامه هذرمة: إذا خلَّط فيه، ويقال للتخليط الهذرمة، ويقال: هو السرعة في القراءة والكلام والمشي[5].

وعلى ذلك يمكنُ حمل الهذِّ على الإسراع الذي يُفهم معه الكلام، ولكن يُفرِّط فيه القارئ في تحقيق أحكام التجويد، ولا يأتي بها على وجهها؛ فيترك الغننَ والمدود، ويختلس الحركات دونَ موجبٍ، ويُدغم ما لا يصحُّ إدغامه... ونحو ذلك.

والهَذْرَمَةُ تُحمل على الإسراع المفضي إلى التخليط في الكلام؛ بحيث لا يفهم السامعُ ما يقول القارئ، وهذا منهيٌّ عنه دون شكٍّ.

وقد يُطلقون الهذَّ ويُريدون به - تجوُّزًا - الحدرَ[6].

ولمَّا كان المرادُ من الذكر عمومًا، وقراءة القرآن خصوصًا؛ حضورَ القلب= فينبغي للقارئِ أن يحرص على تحصيله، ويُروِضَّ نفسه عليه؛ ويتدبَّر ويتعقَّل[7]؛ حادرًا كان أو مترسِّلًا مُحقِّقًا، ولا يكون همّه آخر السورة ولا آخر الركعةِ. والعادةُ والمعاينة تقضي بأنَّ ذلك يحصل بالترسُّل منه ما لا يحصلُ بالحدرِ فضلًا عن الهذِّ والهذرمةِ.

قال الله تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]؛ قال الشافعي: وأقلُّ الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة. وكلما زاد على أقلّ الإبانة في القراءة كان أحبَّ إليَّ ما لم يبلغ أن تكون الزيادة فيها تمطيطًا، وأحبّ ما وصفتُ لكل قارئ في صلاة وغيرها، وأنا في الـمُصلِّي أشدُّ استحبابًا منه للقارئ في غير صلاة[8].

ولهذا المعنى كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مُفسَّرة حرفًا حرفًا، يُقطِّعُها آيةً آيةً، ولهذا المعنى عَينِه؛ نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث.

وقد كان السَّلف رضي الله عنهم يُفضِّلون الترتيلَ مع التدبُّر - ولو كان المقروءُ آيةً واحدة يكرِّرها - على كثرة القراءة المتحصَّلة بالإدراج والإسراع، وهم يختارون قراءة سورة بتدبُّر على قراءة سورتين في قَدْرِ الوقتِ نفسه.

وكره الإمام أحمد السرعة في القراءة؛ إلا أن يكون لسانُ الرجل كذلك، أو لا يقدر أن يترسَّل. قيل: فيه إثم؟ قال: أما الإثم فلا أجترئ عليه[9].

قال الآجري: «والقليل من الدرس للقرآن؛ مع الفِكر فيه وتدبُّره؛ أحبُّ إليَّ من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبُّر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك والسنة وقول أئمة المسلمين»[10].

وقال نصير الدين السامريُّ: «والتفهُّم له والاعتبار به مع قلة القراءة أفضلُ من إدراجه بغير تفهُّم ... وليجلَّ كتاب الله تعالى العزيز أن يتلى إلا بسكينة ووقار وترتيل وحضور الهمة وما يوقن أنَّ الله يرضى به، ويقرِّب منه؛ مع إحضار الفهم لذلك»[11].

وقال النووي: «واتَّفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، ويسمى الهذُّ؛ قالوا: وقراءة جزء بترتيلٍ أفضل من قراءة جزءين في قدر ذلك الزمن بلا ترتيل. قال العلماء: والترتيل مُستحبٌّ للتدبر، ولأنَّه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشدُّ تأثيرًا في القلب، ولهذا يستحب الترتيل للأعجميِّ الذي لا يفهم معناه»[12].

وقال ابن الجزريّ: «والصحيح؛ بل الصواب؛ ما عليه معظم السلف والخلف، وهو أنَّ الترتيل والتدبُّر مع قلَّة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها؛ لأنَّ المقصود من القرآن فهمُه والتفقُّهُ فيه والعملُ به، وتلاوتُه وحفظُه وسيلةٌ إلى معانيه»[13].

ولكن إذا أدرج قراءته، وأسرع فيها بدون إفراط يُفضي إلى إسقاط الحروف والحركات أو إدغامٍ في غير مواضعه وتركِ إبانةٍ؛ فهو مأجورٌ إن شاء الله، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالكٍ؛ في الهذِّ في القراءة، قال: من الناس مَن إذا هذَّ كان أخفَّ عليه، وإذا رتَّل أخطأَ، ومن الناس من لا يحسن يهذُّ، والناس في هذا على قدر حالاتهم وما يخفف عليهم، وكلٌّ واسعٌ[14].

وسُئل الإمام أحمد عن الرجل يقوم من الليل؛ أيُّما أحبُّ إليك: الترسُّل أو السرعة؟ فقال: أليس قد جاء بكلِّ حرفٍ كذا وكذا حسنة؟ قالوا له: في السرعة؟ قال: إذا صوَّر الحرف بلسانه، ولم يسقط من الهجاء[15]. وهذا ظاهرٌ في أنَّه يَعني الحدرَ لا الهذَّ.

قال ابن الجزري: «وأحسن بعض أئمتنا - رحمه الله - فقال: إنَّ ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجلُّ وأرفعُ قدرًا، وإنَّ ثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأول كمن تصدَّق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًّا، والثاني كمن تصدَّق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة»[16].

وقال ابن حجر: «والتحقيق أنَّ لكلٍّ من الإسراع والترتيل جهة فضل؛ بشرط أن يكون المسرع لا يخلُّ بشيءٍ من الحروف والحركات والسكون الواجبات؛ فلا يمتنع أن يفضل أحدهما الآخر وأن يستويا، فإنَّ من رتَّل وتأمَّل كمن تصدَّق بجوهرة واحدة مثمنة، ومن أسرع كمن تصدَّق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة. وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون بالعكس»[17].

ويستوي في ذلك القارئُ والمُصلِّي، ولكنَّ إمام الجماعة قد يتقطَّعُ بين تَطلابِ الخشوع والتدبُّر، وخوفِ التطويل المنهيِّ عنه؛ فيقال: قراءته لمقطع قصير تامٍّ - والأوْلى أن يكون سورةً يسيرةً- مع التدبُّر والتفكُّر والخشوع وحضور القلب = أفضلُ من قراءته لمقاطعَ وسُوَرٍ طويلةٍ هذًّا أو هذرمةً. وعلى سبيل التمثيل: إن علِمَ أنَّ عادةَ الأئمة والمصلِّينَ جَرَتْ بقراءة وجهٍ من الصفحة في الركعتينِ هذًّا أو قريبًا منه؛ فلْيَجعلْها عشرة أسطرٍ بتدبُّر وترسُّل في قَدْر الوقت نفسه، على أن يتحرَّى المقاطع التامَّة، والله أعلم.

قال ابن عقيل: «وتكون قراءته [أي الإمام] مُرتَّلة محققة؛ لِيفهمَ السامع معاني القرآن»[18].

مراتب القراءة والتعليم القرآنيُّ:
وبعد هذا العرضِ يُصبح لدينا أرضٌ صلبةٌ لبحثِ مراتب القراءة من وجهة نظرِ المعلِّمين القرآنيين، وما مدخل كلِّ مرتبةٍ مما وُصِفَ في أعمال جلسة تحفيظ القرآن الكريم.

ولْيُعلمْ أنَّ جِلسة القرآن الكريم - على اختلاف أساليب التحفيظ ومدارسه - لا تخرج في الغالب عن قراءة النصِّ الجديد من المصحف، وعرض النَّصِّ الذي قُرئَ بالأمسِ عن ظهر غيبٍ، وعرض المحفوظ السابق (الماضي) للمراجعة والتعاهُدِ؛ حتَّى لا يُنسى.

أوَّلًا: قراءة النصِّ الجديد = القراءة التأسيسيَّة:
وهي قراءة النصِّ (اللوح) الذي يجب أن يحفظه الطالب، ولها عدَّة أنواع:
(1) القراءة النموذجيَّة:
أن يقرأ المعلم الآيات المطلوب حفظُها قراءةً متأنيةً مُراعيًا تطبيق آداب التلاوة وأحكام التجويد دون ترديد الطلاب خلفه. ويمكن استخدام الجهاز السمعيِّ بَدَلَ قراءة الشيخ في حالات معينة، وإن كان الأصل أن تكون بقراءة الشيخ؛ حتى يتأدَّب الطلاب ويتأسّوا بسمته الظاهر.

وسُمِّيت نموذجيَّة؛ لأنَّ الشيخ يأتي فيها بنمُوذج يستطيع الدارسُ أن يحذوَ عليه: ليس في طريقة القراءة والأداء فحسب؛ وإنَّما في آداب التلاوة وسَمتِ التَّالي.

ولمَّا كان النصُّ المقروء يطرق سمعَ الحافظِ للمرَّة الأولى؛ فإنَّ الأوْلى في حقِّ المعلِّم أن يستخدم مرتبة التحقيقِ في قراءته النموذجيَّة؛ لما فيها من التبيين الكاملِ، والتحقيق الشاملِ.

ولا يعني ذلك أنَّ الحدرَ أو التوسُّط لا يؤديانِ المقصود؛ ولكنَّ الكمالَ يقتضي التحقيق.

وليستخدمْ المعلِّمُ - كذلك - القراءة بالتدبُّر، وما ينتجُ عنه من آثارٍ ظاهرة وباطنةٍ، فلا بأسَ أن يقف متفكِّرًا في آية المثل ويسأل عند آية الرحمة، ويستعيذ عند آية العذاب، ويُسبِّحَ يكبِّر ويُجيب ويشهد ويبكي ويسجد لموجب السجود .. ونحو ذلك؛ مما دلَّت عليه الآثارُ[19].

ولا شكَّ أن هذه المعاني ينضحُ باطنها على ظاهره فيتأثَّر به الـمُقتدي، وينفعل به، فينطبع في وجدانه، وذلك مقصود الحفظِ: حفظ الرعاية لا مجرَّد حفظ الروايةِ والدراية.

(2) القراءة الجماعية:
هي قراءة المعلم وترديد الطلاب مُتَّبعين قراءته.وليس الترديد هدفًا مقصودًا في نفسه؛ وإنَّما هو وسيلةٌ لضبط الكلمة على قراءة الشيخ أو المعلِّم. وتكون بعدَ القراءةِ النموذجيَّة. وقد يُستغنى عنها إذا كان الطالب مُجيدًا ويستطيع أن يقرأ قراءة صحيحةً بمجرَّد استماعه للقراءة النموذجية من شيخه.

ويؤدَّى المقصود بأيّ مرتبة من مراتب الترتيل، والتحقيق أجودُ، والحدرُ أنسبُ للوقتِ المتاحُ، والتوسُّط خيرٌ.

(3) القراءة الزُّمَرِيَّة:
في الصفوف كثيرةُ العدد؛ يُقسَّم المتعلِّمون إلى مجموعات صغيرة (زُمَرٍ)، تقرأ واحدة بقراءة الشيخ ثمَّ تقرأ الثانية ثمَّ الثالثة..حتَّى الأخيرة.

والحدرُ أنسبُ في مثل تلك الصفوف؛ لمراعاة الوقتِ.

(4) القراءة الفرديَّة:
تُعدُّ القراءة الفردية أهمَّ خُطوات درس القرآن الكريم؛ لأنَّ الحافظَ إذا استطاع أن يقرأ وحده من المصحف قراءةً نموذجيةً بمسمعٍ من شيخه، فسيستطيعُ - بإذن الله - أن يحفظ وحده دون انتظارِ مُساعدة.

وفي القراءة الفرديَّةِ يتلو الـمُتعلِّمُ الآياتِ التي سمعها، ويُنصتُ له المعلِّمُ مُقوِّمًا قراءته. ولا يخفى أنَّ القدرَ المسموحَ به من الأخطاء أثناء القراءة الفردية يكون قليلًا جدًّا، وإلا فإنَّ على المعلِّم أن يزيد عدد مرَّات القراءة الجماعية؛ حتى يطمئنَّ إلى قدرة الحافظ على الحفظ دون انتظار مُساعدة ومعاضدة.

ولأنَّ القراءة الفردية انعكاسٌ للقراءة النموذجية؛ فالأوْلَى أن يُستخدمَ فيها التحقيقُ، ويَحسُنُ أن يَحملَ المعلِّمُ طلّابَه على التحقيق، فإن استطاعوا الوفاءَ به؛ فهم على الحدر والتوسُّطِ أقدرُ؛ إن شاء الله.

وإن كان عدد الطلَّاب في الصفِّ كثيرًا؛ فيمكن استخدام الحدر أو التوسُّط؛ حتى يستطيع جميعُ الطلَّاب العرض على الشيخ المحفِّظ، فعرضُهم قراءتَهم جميعًا - ولو بالحدرِ - أولى من عرضِ بعضهم دون بعضهم تحقيقًا.

ثانيًا: تسميع اللوح الجديد:
المقصود به عرض النصّ الجديد (اللوح) بعد حفظه عن ظهر غيبٍ على الشيخ؛ ويكون في الجلسة التالية للجلسة التي قُرئَ فيها، وبأيِّ مرتبةٍ عَرَضَ الحافظ محفوظه على شيخه فلا بأسَ، والأوْلى أن يَعرضَ تحقيقًا إن كان الوقتُ والطَّوْقُ يُوفي بعرضهم جميعًا.

ثالثًا: تسميع المحفوظ السابق (الماضي):
في المدارس والحلقات النموذجية؛ يُخطَّطُ تسميعُ قدرٍ معيَّن من المحفوظ السابق للطلَّاب، يتناسبُ مع قدر محفوظهم الكُليِّ؛ بحيثُ يعرض الطالبُ ما حفظه من بداية حفظه مُقسَّمًا بطريقةٍ مدروسةٍ على دورةٍ تتراوح من أسبوعين إلى أربعة أسابيع.

فلو فرضنا مثلًا أن الطالب قد انتهى في حفظه إلى سورة (الإسراء) ابتداءً من سورة (الناس)؛ فهذا يعني أنَّه قد حفظ ستة عشر جزءًا تقريبًا، فإن كان تخطيط دورة تسميع المحفوظ السابق وعرضه على ثلاثة أسابيع؛ فهذا يعني أنَّ الطالب يعرضُ ما يقرب من جزءٍ يوميًا (لاحظ أنَّ أيّام الدراسة الفعلية في الأسابيع الثلاثة هي خمسة عشر يومًا أو ثمانية عشر يومًا؛ لأنَّ هناك يومًا أو يومينِ للراحة الأسبوعية).

فلو كان بالصفِّ خمسة عشر دارسًا، فهذا يعني أنَّ على المحفِّظ أن يراجع لطلّابه سماعًا منهم خمسة عشر جزءًا تقريبًا، فإن عرضوا عليه حدرًا استغرقوا خمس ساعاتٍ على أقلِّ تقدير، بفرض أنَّ عرضَ الجزء الواحد وتسميعه يستغرقُ حدرًا عشرين دقيقة.

ولا يخفى أنَّ الواقع لا يجودُ بهذه الساعات الخمس ولا بنصفها، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ هناك فقراتٍ أخرى في جلسة القرآن، والواقع يقضي بأنَّ قراءة النصِّ الجديدِ تحتاج من الوقت أكثر مما يحتاجه تسميع المحفوظ السابق.

وباستخدام تقنيات التعليم التعاونيّ، وتعليم الأقران، وتمكين التقنيات المساعدة، مع بعض الأنشطة التعليمية الأخرى؛ كلُّ لك يُسهم بتوفير جزءٍ كبير من هذا الوقت الافتراضي، ولكن ما بقيَ منه لزامًا على المحفِّظ ما زال أكثرَ من طاقته ووقته.

وهنا يلجأ جلُّ المحفِّظين إلى التسامح في مرتبة القراءة التي يقرأ بها الحافظ أثناء المراجعة، فهي تقصرُ عن مرتبة الحدر في الالتزام بمقادير المدود والغنن، وإن كانت تربو على الهذِّ في ضرورة تفكيك الحروف وتبيينها، وتحقيق المخارج والصفات اللازمة. ولـمَّا كان الهاذُّ قد يُدغم في غير موضع الإدغامِ، ويُبهمُ فيعجمُ المعربَ؛ فإنَّ تلك المرتبة لا يمكن أن نسميَّها هذًّا، ولـمَّا كانت تقصرُ عن الحدر جاز أن نصطلح عليها بمصطلح (الحدر المفهم). وهي مرتبة خاصَّةٌ بالتعليم القرآنيِّ؛ لتسميع المحفوظ السابق وعرضه.

وهي وسطٌ بين الحدر والهذِّ.

ولاستخدام هذه المرتبة معالم؛ يجدر على المحفِّظين والمعلمين القرآنيين إدراكها:
1- أنَّ الحدر المُفهِمَ ضرورةٌ؛ فلا يلجأ إليه مَنْ جادَ وقتُه وطَوْقُهُ بالحدرِ فما فوقَه.

2- أنَّ الحدر المُفهِم لا يصلح لشيءٍ من أعمال جِلسة القرآن الكريم؛ إلا لِعرضِ المحفوظ السابقِ؛ لأنَّ المحفوظ السابقَ قد سبق عرضُه حين كان نصًّا جديدًا: عُرِض نظرًا من المصحف، ثمَّ عُرِضَ غَيْبًا. وكلا العرضينِ أدنى مراتبِه الحدرُ. وعليه؛ فالمحفِّظُ على طلّابه من اللَّحن في مأمنٍ.

3- أنَّ استخدام الحَدْرِ المُفهم لا يعني التسامُحَ في الهذِّ؛ فعلى سبيل المثال: يكثر أن يُسكِّنَ بعض الطلَّاب أواخر الكلمات المتحركةِ وصلًا، وخصوصًا تاء التأنيث في نحو: ﴿ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ﴾ [النور: 35]، وهذا لا يجوزُ، والحدر المفهمُ شرطُه عدم الإخلال بالمخارجِ؛ فلا يُتسامح في نطق الثاء سينًا والذَّال زايًا والظاء زايًا مفخَّمة، ونحو ذلك، ولا يعني -كذلك - نطق الخاء في نحو (خالدون)، (خبير) مرقَّقة، ولا يعني إدغام ما لا يدغمُ؛ كإدغام لام التعريفِ في الجيمِ، فينطقها كأنها لام شميسيَّةٌ في نحو(الجبال) و(الجنّة)، وهو لحنٌ مسموعٌ مستفيضٌ. فإن أفضى الحدرُ المفهمُ إلى ما وُصِفَ صار هذًّا وهذرمةً، وذلك قبيحٌ على كلِّ حال.

4- يجب على المحفِّظ المتمرِّسِ أن يُخصِّصَ جزءًا من وقت المراجعة لسماع بعض الطلَّاب حدرًا وتوسُّطًا وتحقيقًا، بما يتيحه وقت الجلسة ونظام الدراسة، ذلكَ أنَّ الإدمانَ على التسامُحِ قد يستسهلُ معه بعض الطلَّاب؛ فلا يهتمُّ بالترتيل في خلواتِه، بل ينطبعُ على نوعٍ من الإسراعِ يُخرجُه إلى اللحنِ مع طول العهد. فإذا علِمَ الطالبُ أنَّه قد يُطلبُ منه العرضُ ترتيلًا بإحدى مراتبه؛ درَّبَ لسانه عليه، فسمحتْ به نفسه طبعًا إن طلبَ منه فعلًا.

5- ومن تجويد المقال أن يُقال: إنَّ المحفِّظَ المتمرِّس البصيرَ يستطيع أن يميِّز البيانَ عند استماعِ قدر يسيرٍ من الكلام، فَلِبَعضِ الطلّاب نطقٌ مستقيمٌ، يحدرونَ فيَرْبُون على تحقيقِ غيرهم وإن تكلَّفوه وتجشَّمُوه، ويتكلَّمون في معهود القولِ بما لا يأتي به سواهم في مَصنُوعِه ومُدبَّجه، ويُوضع في منطقهم حلاوةٌ تلتذُّ بها القلوب والآذانُ، ويُيسَّر لهم القرآنُ فيقرؤون في الدقائق ما لا يقرؤوه أندادُهم في الساعاتِ. وَهُم ارتاضوا بالصوابِ حتى إن طُلِبَ منهم اللحنُ قصدًا شقَّ عليهم بمثل ما يشقُّ الإعرابُ على بعض الأعاجم! فصارَتْ هذه المرتبةُ - من هذا الوجه - كاشفًا عن ذوي الـمَلكات السماعية واللسانية، وهم - بحقٍّ - مَنْ يجبُ على المربِّينَ وكاشفي المواهبِ ومتعهّديها أن يُولوهم اهتمامَهم، وييمِّمُوا آلاتِهم التربويةَ شطرَهم. وما صارت تلك المرتبة كذلك إلا من حيثُ إنَّ سهولة السيرِ في السبيل النَّاهجةِ على وُفور السَّارِجَة؛ لا يدلُّ على مهارةِ السائرِ بما يدلُّ عليها ركوبُ الوَعْر على انقطاع الظَّهْرِ.

[1] هذا هو الراجحُ الذي تدلُّ عليه ظواهر النصوص وبواطنها، وجعلها بعض العلماء أربع مراتب فأضاف إليها الترتيلَ، وذلك مرجوحٌ. والله أعلم.

[2] رواه الترمذي (ح2910)، وصحّحه الألباني: تخريج الطحاوية (139)، ومشكاة المصابيح (ح2137).

[3] ينظر: لسان العرب: (9/65) مادة هـ ذ ذ.

[4] التبيان (ص 89).

[5] ينظر: لسان العرب: (9/67) هـ ذ ر م.

[6] ينظر: تعسُّف القرَّاء؛ صوره، ومضاره، وأسبابه، وعلاجه؛ للباحث؛ منشور بمجلة تبيان للدراسات القرآنية، العدد الرابع عشر: (ص 399-405).

[7] ينظر: الأذكار (ص12).

[8] الأم (2/250-251).

[9] الآداب الشرعية (1/317).

[10] أخلاق أهل القرآن (ص 169).

[11] المستوعب (1/202). وبنحوه مُختصرًا لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ انظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (3/105)، والآداب الشرعية (2/318).

[12] المجموع (2/190-191)، وانظر: التذكار (ص 157 )، والإتقان (2/675-678).

[13] النشر (1/165).

[14] النوادر والزيادات (1/532).

[15] الآداب الشرعية (2/317).

[16] النشر (1/166).

[17] فتح الباري (8/719).

[18] التذكرة في الفقه (ص50).

[19] للباحث: وقف التدبُّر معناه وأنواعه وأحكامه؛ بحث قيد التحكيم.






د. محمود عبدالجليل روزن (http://www.alukah.net/Authors/View/Sharia/6303/)

محمد محمود بدر
19-04-2014, 02:03 AM
جزيل الشكر والتقدير لحضرتك على الموضوع
جزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم

mahmoudhh
23-04-2014, 01:39 AM
الف شكر وجزاك الله خيرا