abomokhtar
22-05-2014, 06:33 PM
على خلاف كثيرين ممن أبدوا دهشتهم من رد فعل الإعلام المصري الرسمي والخاص على بقاء المخترع الصغير "عبد الله عاصم" في الولايات المتحدة وعدم رغبته في العودة إلى وطنه فيما يشبه طلبه اللجوء السياسي أو الإنساني هناك ، فإني تفهمت كثيرا مبررات ودوافع الإعلاميين المصريين الذين شنوا هجوما عنيفا على الشاب الصغير طالب الثانوية العامة ، وأعتقد أنهم صادقون جدا مع أنفسهم في الهجوم عليه والتأكيد بأنه هو الخاسر من عدم العودة إلى "الوطن" وأنه لا ضمان لمستقبله في أمريكا وإنما مستقبله الحقيقي في مصر !! ، ومبعث تفهمي لموقفهم إدراكي أن الوطن الذي يتحدثون عنه يختلف تماما عن الوطن الذي عاشه وخاف منه الشاب الصغير الذي ألقوا القبض عليه لأنه تظاهر وسجنوه على ذمة خمس اتهامات خطيرة ومنعه الأمن الوطني من السفر مع زملائه وأعادوه من المطار قهرا وإذلالا ، قبل أن يتدخل وزير الداخلية "ويتساهل" معه تحت ضغط فضيحة دولية ويطلب منهم السماح له بالمغادرة لحضور مؤتمر المخترعين الدولي الذي دعاه ، فالوطن الذي تقصده الزميلة لميس الحديدي أو زوجها عمرو أديب أو غيرهما من الإعلاميين هو ذلك الذي تعيشه نخبة صغيرة في رفاه وأمان مطلق وشبكة علاقات ضخمة مع أركان الدولة ، الوطن هنا هو نخبة تعيش في مدينتي أو مدينة الجولف أو مساكن الريف الأوربي على الطريق الصحراوي بمعزل تام عن العوام و"الناس الدون" ، أو في أسوأ الفروض في الزمالك والمهندسين ، وتقضي صيفها في فيلات مارينا إذا كانت الحال ضيقة أو في شواطئ فرنسا أو روابي سويسرا والنمسا إذا لم يكن هناك ارتباطات قهرية ، هو الوطن الذي يضخ في حسابهم البنكي مليون جنيه مصري كل شهر تقريبا (تسعة ملايين جنيه متوسط العقد السنوي) وذلك عن جهدهم الكبير الذي يبذلونه كل ليلة لمدة ساعتين وسط معاناة النسكافيه وأجهزة التكييف في خدمة الوطن على شاشات الفضائيات ، وهو الأمر الذي يستلزم إجازة أسبوعية لمدة يومين للراحة من المجهود الخرافي ، هو الوطن الذي يملكون فيه أحدث أجهزة الموبايلات مدججة بعشرات الأرقام لوزراء وقيادات أمنية واستخباراتية وقضائية ، جميعهم رهن الإشارة وتحت الطلب لقضاء أي مصلحة لهم أو لهن أو للأنجال والأقارب ، الوطن الذي يعرفونه هو الذي يتنقلون فيه بأحدث السيارات وأغلاها ثمنا في ظل حماية من عدد من الحراسات الخاصة مضافا إليها حراسات رسمية تتحمل تكاليفهم الخزانة العامة بوصفهم قيمة وطنية غالية ، وهذا الوطن يختلف تماما عن الوطن الذي يعيشه عبد الله عاصم وملايين المصريين الآخرين ، الذين لا يرون من وجه الوطن إلا "الحكومة" أي المؤسسة الأمنية الباطشة ، ويسكن الملايين منهم في منطقة "لعبة" بأحراش امبابة أو أدغال الكيلو 4.5 أو الكفور والنجوع المنسية من خريطة أي شيء يمكن وصفه بالبنية الأساسية للحياة الآدمية ، ملايين منتهى حلمهم "توكتوك" يعملون عليه باليومية فيوفرون خمسين جنيها أو مائة جنيه يعيلون به أحيانا أسرة من ثمانية أشخاص ، شتاؤهم بين البرك والمجاري الطافحة وصيفهم يقضونه غالبا سباحة في الترع الملوثة يتشبهون بصيف أبناء "الوطن الآخر" ، ويتنقلون عبر وسائل للنقل والمعيشة في محيط إنساني لا يصلح لحياة الحيوانات في دول أخرى ، الشاب الصغير عبد الله عاصم عندما بدأ يفتح علينه لم ير الوطن الذي هو مدينة الانتاج الإعلامي والاستديوهات المكيفة ، وإنما الوطن الذي هو سجون القمع والإهانة وسحق آدمية الإنسان وزنزانة قذرة في أحد أقسام الشرطة وقاض شامخ وجه له اتهامات كافية لوضعه في السجن بقية عمره حتى يموت فيه ، ولولا الضجة الكبرى وغضب تجاوز حدود الدولة لبقي في السجن بضع سنين نسيا منسيا ، الوطن الذي تقصده لميس وعمرو ليس هو الوطن الذي يعيشه طلاب الجامعة الباحثون عن حقهم في الكرامة والحرية والعدالة واحترام الإرادة السياسية ، وإن اختلف الآخرون معهم ، هؤلاء الشبان الذين يعيشون يومهم وليلهم على وقع قنابل الغاز ودخانها الخانق الذي يدمع العين ويحرق الصدر ويتلف الأعصاب ورصاص الخرطوش أو الذخيرة الحية والمطاردات الأمنية في محيط الجامعة وفي داخلها ويشيعون كل يوم زميلا لهم كان في الليلة السابقة يسامرهم ويحلم معهم حلما جميلا بعد تخرجه فإذا هم يوارونه جسده الغض التراب ويدفنون حلمه الجميل معه ، ويشعرون أن أحلامهم جميعا ستدفن غدا أو بعد غد معه ، ثم إذا عادوا إلى بيوتهم ينتظرون طارق الفجر أو الضحى ليلقي القبض عليهم بتهمة "التنغيص" على الوطن وتكدير السلم العام والتظاهر بدون رخصة ، هذا وطن مختلف تماما عن الوطن الذي تعيشه لميس وعمرو وأحمد ورولا وغيرهم ، لذلك من الطبيعي أن تتكلم لميس بمنطق لا يفهمه أبدا عبد الله عاصم ، ويتكلم عبد الله عاصم بمنطق لا تفهمه نهائيا لميس . إنه الوطن الذي يفقد معناه ورمزيته وحنانه ، إنه الكلمة التي تضيع دلالتها من جميع قواميس اللغة ، إنه المستقبل الذي يهرب من مصر ، الجذور التي تهاجر أرضها ، هي التغريبة الجديدة لجيل جديد من المصريين كتب عليه أن يعيش الغربة ، سواء الغربة في وطنه أو الغربة خارجه ، وغربة الأوطان أشد وطأة من الغربة خارجها ، ولا تملك أن تلوم شابا مثل عبد الله عاصم على مغادرته وهجرته من وطن لا يعرفه ولا يفهمه ولا يشعر به ، وطن تحول إلى كابوس في خياله ورحلة عذاب أبدية لا يعرف نهايتها لا يفهم حتى قواعدها ، وطن يقهره ويطارده ويسرق كل حلم جميل من خياله ولا يوفر له أي فرصة للأمل أو حضن حاني يحجبه عن المفارقة والهجرة ، وقد كان أبو الطيب المتنبي يقول قديما : إذا رحلت عن قوم وقد قدروا .. ألا تفارقهم فالراحلون هم .
اقرأ المقال الاصلى فى المصريون : http://almesryoon.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA/blog/11-%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86/476123-%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B7%D8%A7%D9%86
اقرأ المقال الاصلى فى المصريون : http://almesryoon.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA/blog/11-%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86/476123-%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B7%D8%A7%D9%86