abomokhtar
25-05-2014, 05:01 PM
ديناميكية البعد الزماني والحركة الكونية
في القرآن الكريم
هنالك بعدان لأي حدث، بعد زماني وبعد مكاني، وقد تعامل معهما القرآن بمستوى معجز، ونبدأ بالحديث في هذا المبحث عن البعد الزماني، وأول ما يلحظه المرء أن للقرآن منهجا عجيبا في التعامل مع عنصر الزمان فهو يتحرك في سائر الأزمنة دون كلل أو خلل، وينقل الأحداث من الماضي إلى المضارع وكأنها شاخصة أمام العين تتحرك، ومن المستقبل إلى الماضي وكأنها قد تحققت، وهذا من روعته وجلال أسلوبه، وسنتناول في هذا المبحث الفقرات التالية:
أولا: ما جاء ذكره من مفردات الزمان:
في القرآن الكريم ذكر للوقت وأجزائه ابتداء من الساعة ومروا باليوم والشهر والسنة وانتهاء بالدهر، ونظرة فاحصة لما ورد في القرآن الكريم في هذا الصدد نجد عجبا، حيث وردت مفردات الوقت جميعا، فقد ورد معنى الثانية [كلمح بالبصر] مرتين، ووردت مادة ساعة [48] مرة، ومادة يوم [474] مرة، وليل ومشتقاتها [93] مرة، ونهار ومشتقاتها: [57] مرة، والفجر: [6] مرات، والصبح[5] مرات، والظهيرة مرة واحدة، والعصر مرة واحدة، والغروب: مرتين، والعشاء ومشتقاتها: [13] مرة، وذكر السبت [7] مرات، والجمعة مرة واحدة، وكلمة شهر [21] مرة، وكلمة سنة[7] مرات، وسنين [12] مرة، وعام [8] مرات، وعامين مرة واحدة، ودهر مرتين[1].
ثانيا: تحديد أوقات العبادات:
للصلاة أهمية خاصة كونها عماد الدين من جهة، وكونها عمل يومي يتكرر خمس مرات في اليوم والليلة من جهة أخرى، وقد رد التنبيه على أوقات الصلاة مجملة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ﴾ [النساء: من الآية 103]، ووردت أوقات الصلاة على التفصيل كما أشرنا مسبقا، كما ذكر وقت زكاة المزروعات وهو عند الحصاد، قال تعالى: ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: من الآية141] وذكر وقت الصوم، قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. وورد ذكر أشهر الحج، قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: من الآية197]، والأشهر الحرم منصوص عليها أيضا، قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].
ثالثا: ما جاء ذكره مصحوبا بالعدد:
قد تذكر الأيام والشهور والسنين مصحوبة العدد وهذا من دقة أسلوب القرآن، وسنقدم بعض النماذج التي تثبت هذا، فمن الأيام على سبيل المثال ورد ذكر ثلاثة وعشرة، وذلك عند قوله تعالى في شأن المتمتع الذي لا يجد هديا: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة ﴾ [البقرة: من الآية196]، وورد ذكر ثلاثة مستقلا عند قوله تعالى في شأن كفارة الأيمان: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ [المائدة: من الآية89]، وورد ذكر ستة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ﴾ [الأعراف: من الآية54]، وجاء ذكر أربعين ليلة في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ﴾ [البقرة: من الآية51]. ومن الشهور جاء ذكر شهرين في كفارة ال*** الخطأ، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾ [النساء: من الآية92]، وجاء ذكر ثلاثة في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ﴾ [الطلاق: من الآية4]، وجاء ذكر أربعة في قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 226]. وجاء ذكر ثلاثين شهرا وأربعين سنة في آية واحدة، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإ ِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ] [لأحقاف: 15]، كما ورد ذكر الأربعين في قوله تعالى: [قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ [المائدة: من الآية26]، وورد ذكر الألف في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ﴾ [البقرة: من الآية96]، وقال أيضا: ﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: من الآية47]، وورد ذكر خمسين ألف سنة، وهو أكبر رقم يذكره الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4]، وورد ذكر الدهر، قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾ [الإنسان: 1]، والدهر في اللغة: [اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه].[2]
وورد ذكر العام، قال تعالى في قصة يوسف: ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 49]. وورد ذكر مئة عام، قال تعالى في قصة العزير: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه ﴾ [البقرة: من الآية259]، وورد ذكر العام والسنة معا في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 14]، والفرق بين العام والسنة أنه [كثيرا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة والجدب، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام بما فيه الخصب والرخاء]. [3]
هكذا يدور الزمان بأجزائه الصغير والكبيرة في آيات القرآن الكريم، وكأنه تقويم أبدي للعالم كله، وما قدمناه مجرد نماذج، والتفصيل يحتاج إلى مجلدات.
رابعا: دقة الوقت كما عبر عنها القرآن:
لدقة الوقت عناية قرآنية فائقة، تبدأ عندما ذكر الله عز وجل أن للأمم آجالا كما للأفراد، وهي ذات توقيت لا تتخلف عنه ولا تغادره، قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [لأعراف: 34]، ولذلك ينبغي الامتثال لأمر الله وحكمته، وعدم الاستعجال لقدره، قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35]، والله تعالى يصرف أمور عباده من خلال دورة الأيام، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، وهو لا يغفل ولا ينام عن كونه وعباده، ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: من الآية255]، وقد ضبط حركة الجرام السماوية فهي تسير بانتظام، قال تعالى: ﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يّـس: 40]، وقد اختص سبحانه بعلم الساعة فلا يعلم وقتها إلا هو، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 187].
وقد بلغ من دقة القرآن في ذكر الوقت أن ذكر الفرق بين التوقيت الشمسي والقمري، قال تعالى في ذكر أهل الكهف: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ﴾ [الكهف: 25]، والمعنى أنه [كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مئة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة وازدادوا تسعا] [4]، كما أشار القرآن إلى التنافس في الوقت وسرعة الإنجاز في مملكة سليمان عليه السلام في قصة إحضار عرش بلقيس، حيث حصلت منافسة شديدة بين عفريت من الجن وبين من عنده علم من الكتاب، قال تعالى: ﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 39-40].
خامسا: خصوصية بعض الأوقات:
ذكر الله عز وجل أوقات بعينها في القرآن الكريم، وسجلها تخليدا لذكراها، فمن ذلك قوله تعالى عن معركة بدر: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ [الأنفال: من الآية41]، وقال تعالى يذكر معركة حنين: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾ [التوبة: من الآية25].
وقد وقعت لإشادة بأوقات معينة، من ذلك ليلة القدر، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1-3]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]. كما أقسم الله عز وجل بأوقات معينة تنبيها لفضلها وجلالها، فمنها الفجر، وليالي العشر الأولى من ذي الحجة، قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1-2]. ومنها الضحى والنهار والليل مبتدئا بذكر مسبباتها وهما الشمس والقمر، قال تعالى: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [الشمس: 1-4].
سادسا: ما ورد بذكر اليوم الآخر:
اليوم الآخر هو يوم الخلود الذي لا ينتهي، وبالتعبير الرياضي هو يوم اللانهاية، ولما كانت الدنيا محدودة، فإن قسمة المحدود على اللانهاية تساوي الصفر رياضيا، وهكذا تكون الدنيا لاشيء قياسا للآخرة، وهذا ما يقرره البشر أنفسهم يوم البعث مشيرين إلى ضآلة الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، قال تعالى: ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّين ﴾ [المؤمنون: 113]، وقال أيضا: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ﴾ [طـه: 104].
وعليه ينبغي أن يكون الحديث عن الآخرة والاهتمام بها هو محور حياة الإنسان، ولكن الحاصل هو العكس، بسبب سذاجة الإنسان وتمسكه بالمحسوس المباشر، قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 20-21].
وقد سميت القيامة بأسماء كثيرة، فهي القيامة حيث يقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى: ﴿ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [القيامة: 1]، وهي الواقعة التي لا واقعة مثلها لما فيها من الشدة والمكروه، قال تعالى: ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ [الواقعة: 1]، وهي الغاشية أي النائبة التي تغشى الناس جميعا، قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية: 1]، وهي يوم التغابن، حيث يظهر الغبن وهو [أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الخفاء] [5]، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: من الآية 9] ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، وهي يوم الوعيد بالعذاب الشديد، قال تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴾ [قّ: 20]، وهي القارعة، والقرع: [ضرب شيء على شيء] [6]، فهي تقرع الأسماع والقلوب، قال تعالى: ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ [القارعة: 1-3]، وهي الحاقة التي يحق فيها الجزاء، قال تعالى: ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴾ [الحاقة: 1-3]. وهي يوم النشور بعد الموت، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]
وهي يوم البعث بعد الموت، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]. وهي أيام الله تعالى لما فيها من مشاهد مختلفة وعوالم متباينة كعالم العرض وعالم الحشر وعالم الميزان وعالم الصراط، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [إبراهيم: 5]، وهي يوم الفصل الذي يحكم فيه بالعدل، قال تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الصافات: 21].
وقد حذر الله سبحانه من أهوالها التي تشيب لها الولدان، قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ﴾ [المزمل: 17]، ودع المؤمنين للاستعداد لها فهي المستقبل الذي يوجد غيره، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، وفيها الجنة التي وعدهم، قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وفيها الخلود، قال تعالى: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [قّ: 34]، وأما النار فهي مثوى الخارجين عن منهج الله في الأرض، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 28]، وطالما كانت النار موعدهم فلا فائدة لهم في ما هم فيه من قوة وسطوة، قال تعالى: ﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196-197].
سابعا: التعبير بالماضي عن المستقبل:
من بلاغة العربية التعبير بالماضي عن المستقبل، وقد أشار إلى ذلك الخطيب القزويني في حديثه عن خروج المسند إليه عن مقتضى الظاهر، فذكر من صور الخروج: [التعبير عن المستقبل بلفظ المضي تنبيها على تحقق وقوعه، وأن ما هو للوقوع كالواقع] [7]، ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [النمل: 87]، فقد عبر بفزع ولم يقل سيفزع، وقال أتوه ولم يقل سيأتوه، وكأن الأمر قد قضي وتحقق، ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [الكهف: 47]، فقال: وحشرناهم وكأن الحشر قد تم وهو يخبر عنه لا على أنه آت، ومن هذا الباب أيضا: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [لأعراف: 48]، فعبر بنادى لا بسينادي، لأن ما يعد الله به متحقق لا محالة فصار بمنزلة الماضي الذي تحقق، والأزمان عند الله جميعا وأمام قوته سواء.
ثامنا: التعبير عن المستقبل باسمي الفاعل والمفعول[8]:
وهذا أيضا من بلاغة العربية، فقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الذريات: 6]، فقد قال واقع ولم يقل يقع، والجملة الاسمية تفيد الثبوت، وكأن يوم الدين قد وقع فعلا، ومنه قوله تعالى:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: 103]، فقال مجموع ولم يقل يجمع وكأن حدوث الجمع ثابت لا ريب فيه.
تاسعا: الإخبار عن القرون الماضية:
وهذا أحد وجوه الإعجاز، وقد ذكره السيوطي فقال: [الوجه التاسع عشر من وجوه إعجازه: إخباره بأحوال القرون السالفة، والأمم البائدة، والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، الذي قطع عمره في تعلم ذلك] [9]، ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أميا، فمن أين له هذا العلم لولا أن الله علمه؟ والقرآن في الإخبار عن الماضي سجل حافل لتجارب البشرية في الخير والشر من خلال قصص الأنبياء مع أقوامهم، وهو يتحرك في الماضي من أجل بناء المستقبل، لا رغبة في السرد والإمتاع، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
عاشرا: الإخبار عن المستقبل:
وهذا أحد وجوه الإعجاز، وقد ذكره السيوطي فقال: [الوجه الثامن عشر من وجوه إعجازه: انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر][10]، والقرآن الكريم كتاب مستقبلي بالكامل، تحدث عن المستقبل البعيد ممثلا بيوم القيامة، والمستقبل القريب، ممثلا بالدنيا، وذكر نبوءات عن مستقبل الأمم والشعوب مما يندرج ضمن البشارات المستقبلية، قال تعالى مبشرا بنصر قريب للروم بعد هزيمتهم: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ [الروم: 2-3]، وقال مبشرا بفتح مكة: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ﴾ [الفتح: 1]، وقال مبشرا بغلبة هذا الدين وتمكينه في الأرض: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، وقد تحقق كل ما وعد الله به. كما تحدث القرآن عن مستقبل العمل والسعي، قال تعالى: [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى] [النجم: 39]، وحث على العمل والمبادرة، قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وكان حديثه عن قصص الأنبياء والأمم السابقة بقصد الإفادة من تجاربهم في صناعة المستقبل، قال تعالى: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 134]، وليس حديثه عن قصص الطواغيت والجبارين إلا بقصد العبرة والاتعاظ، قال تعالى في قصة غرق فرعون وحكمة بقاء بدنه: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾] [يونس: 92]
إحدى عشرة: ديناميكية الزمان:
ونعني بها حركته بين الأزمنة الثلاثة [الماضي، الحاضر، المستقبل]، مما يثير الشعور بوحدة الزمان، فكأن المرء يعيش في كل الأزمنة في وقت واحد.
بداية لنتأمل قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً ﴾ [النساء: 102]. إن الفعل كنت ماض، ولكن إذا أخلصته للاستقبال، ثم عطف بالفاء التي تفيد التعقيب مع الترتيب فقال: [فأقمت]، ولم يقل فأقم، فسارت الجملة الثانية في إطار الخبر؛ لتتحول بعد ذلك للإنشاء: [فلتقم] وهو أمر للمستقبل، ومثله [فليأخذوا]، ثم تعود الآية إلى ذكر الماضي الذي يراد به المستقبل: [فإذا سجدوا]، ثم إلى الأمر الذي يراد به المستقبل: [فليكونوا]. ثم تأتي الأفعال: [ولتأت] وهو أمر، و [لم يصلوا] وهو مضارع مجزوم، و[فليصلوا] وهو مضارع مجزوم بلام الأمر، ومثله: [وليأخذوا] ثم عودة للماضي: [ودَّ] الذي يفيد أن هذه الرغبة قديمة وباقية لدى الكافرين، ثم يعقب ذلك الفعل[كفروا] وهو ماض، ثم: [لو تغفلون] وهو مضارع يجعل المرء يتيقظ لما هو قائم حوله، ثم أعقبه [فيميلوا] وهو مضارع أيضا واقع في جواب التمني، ثم عودة إلى الماضي المشروط: [إن كان بكم] ويعقبه جوابه وهو المضارع المنصوب: [أن تضعوا]، ثم يلي ذلك الأمر الجامع: [وخذوا حذركم]. ثم تختم الآية بالجملة الاسمية: [إن ال أعد للكافرين عذابا مهينا] وهي هنا خبر يفيد ثبوت العذاب للكافرين، وقد تضمنت الجملة الاسمية جملة فعلية وهي [أعد] وهي خبر [إن] وجاء بصيغة الماضي الذي يراد به الوعيد... عملية بناء لغوية معقدة، تتداخل فيها الأزمنة جميعا في سياق آية واحدة، وهذا هو السحر الحلال الذي لم يجتمع قط لغير كلام السميع العليم.
ولنتأمل أيضا قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3] ابتدأ بالماضي المبني للمجهول: [حرمت] وعطف عليه: [وما أهل]، ثم ذكر الماضي: [أكل] و [ذكيتم]، ثم الماضي المجهول: [وما ***] ثم ذكر المضارع المنصوب بأن [وأن تستقسموا]، ثم ذكر الفعل الماضي [يئس]، ومثله [كفروا]، ثم ذكر المضارع المجزوم بلا الناهية: [فلا تخشوهم] ثم الأمر: [واخشون]، ثم الماضي: [أكملت] و [أتممت] و [رضيت]، ثم الماضي [اضطر]، وختم بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت ولاستمرار: [فإن الله غفور رحيم]. فتنقل بين أزمنة مختلفة في سياق آية واحدة!
ولنتأمل كذلك قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. فقوله [سبحان] علم للتسبيح نزل منزلة الفعل، ثم جاء [أسرى] و [باركنا] بصيغة الماضي، وقوله: [لنريه] مضارع منصوب بلام التعليل، وقوله: [إنه هو السميع البصير] جملة اسمية ختمت بها الآية.
وهكذا نجد عملية ديناميكية في استخدام الأفعال في أزمنتها المختلفة بما يجعل النص حيا شاخصا يفيض بالتجدد والحياة.
والخلاصة هي أن الزمان كله مسخر للإنسان، وكذلك أدواته من أجرام نيرة، قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [إبراهيم: 33]، وعلى المرء أن يتوب ليمحو الماضي وينطلق إلى المستقبل، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39].. وعليه أن يبادر هذا العمر قبل أن يضيع وينتهي، قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وقد وظفت كل الآيات التي ذكر فيها الوقت لهذا الغرض العظيم الذي ذكرناه.
[1] انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه محمد فؤاد عبدالباقي، المواد: [سوع، يوم، ليل، نهر، سبت، جمع، شهر، سنن، عوم، دهر] ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، 1984م.
[2] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، مادة [دهر]، دار المعرفة، بيروت.
[3] المصدر السابق، مادة [عوم].
[4] مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، [2/415].
[5] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، مادة [غبن].
[6] المصدر السابق، مادة [قرع].
[7] الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، [1/164].
[8] المصدر السابق، المصدر السابق، [1/165].
[9] معترك الأقران في إعجاز القرآن، صححه أحمد شمس الدين [1/181].
[10] المصدر السابق، [1/180].
د. محمد رفعت زنجير (http://www.alukah.net/Authors/View/Sharia/3011/)
في القرآن الكريم
هنالك بعدان لأي حدث، بعد زماني وبعد مكاني، وقد تعامل معهما القرآن بمستوى معجز، ونبدأ بالحديث في هذا المبحث عن البعد الزماني، وأول ما يلحظه المرء أن للقرآن منهجا عجيبا في التعامل مع عنصر الزمان فهو يتحرك في سائر الأزمنة دون كلل أو خلل، وينقل الأحداث من الماضي إلى المضارع وكأنها شاخصة أمام العين تتحرك، ومن المستقبل إلى الماضي وكأنها قد تحققت، وهذا من روعته وجلال أسلوبه، وسنتناول في هذا المبحث الفقرات التالية:
أولا: ما جاء ذكره من مفردات الزمان:
في القرآن الكريم ذكر للوقت وأجزائه ابتداء من الساعة ومروا باليوم والشهر والسنة وانتهاء بالدهر، ونظرة فاحصة لما ورد في القرآن الكريم في هذا الصدد نجد عجبا، حيث وردت مفردات الوقت جميعا، فقد ورد معنى الثانية [كلمح بالبصر] مرتين، ووردت مادة ساعة [48] مرة، ومادة يوم [474] مرة، وليل ومشتقاتها [93] مرة، ونهار ومشتقاتها: [57] مرة، والفجر: [6] مرات، والصبح[5] مرات، والظهيرة مرة واحدة، والعصر مرة واحدة، والغروب: مرتين، والعشاء ومشتقاتها: [13] مرة، وذكر السبت [7] مرات، والجمعة مرة واحدة، وكلمة شهر [21] مرة، وكلمة سنة[7] مرات، وسنين [12] مرة، وعام [8] مرات، وعامين مرة واحدة، ودهر مرتين[1].
ثانيا: تحديد أوقات العبادات:
للصلاة أهمية خاصة كونها عماد الدين من جهة، وكونها عمل يومي يتكرر خمس مرات في اليوم والليلة من جهة أخرى، وقد رد التنبيه على أوقات الصلاة مجملة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ﴾ [النساء: من الآية 103]، ووردت أوقات الصلاة على التفصيل كما أشرنا مسبقا، كما ذكر وقت زكاة المزروعات وهو عند الحصاد، قال تعالى: ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: من الآية141] وذكر وقت الصوم، قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. وورد ذكر أشهر الحج، قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: من الآية197]، والأشهر الحرم منصوص عليها أيضا، قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].
ثالثا: ما جاء ذكره مصحوبا بالعدد:
قد تذكر الأيام والشهور والسنين مصحوبة العدد وهذا من دقة أسلوب القرآن، وسنقدم بعض النماذج التي تثبت هذا، فمن الأيام على سبيل المثال ورد ذكر ثلاثة وعشرة، وذلك عند قوله تعالى في شأن المتمتع الذي لا يجد هديا: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة ﴾ [البقرة: من الآية196]، وورد ذكر ثلاثة مستقلا عند قوله تعالى في شأن كفارة الأيمان: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ [المائدة: من الآية89]، وورد ذكر ستة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ﴾ [الأعراف: من الآية54]، وجاء ذكر أربعين ليلة في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ﴾ [البقرة: من الآية51]. ومن الشهور جاء ذكر شهرين في كفارة ال*** الخطأ، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾ [النساء: من الآية92]، وجاء ذكر ثلاثة في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ﴾ [الطلاق: من الآية4]، وجاء ذكر أربعة في قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 226]. وجاء ذكر ثلاثين شهرا وأربعين سنة في آية واحدة، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإ ِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ] [لأحقاف: 15]، كما ورد ذكر الأربعين في قوله تعالى: [قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ [المائدة: من الآية26]، وورد ذكر الألف في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ﴾ [البقرة: من الآية96]، وقال أيضا: ﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: من الآية47]، وورد ذكر خمسين ألف سنة، وهو أكبر رقم يذكره الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4]، وورد ذكر الدهر، قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾ [الإنسان: 1]، والدهر في اللغة: [اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه].[2]
وورد ذكر العام، قال تعالى في قصة يوسف: ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 49]. وورد ذكر مئة عام، قال تعالى في قصة العزير: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه ﴾ [البقرة: من الآية259]، وورد ذكر العام والسنة معا في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 14]، والفرق بين العام والسنة أنه [كثيرا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة والجدب، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام بما فيه الخصب والرخاء]. [3]
هكذا يدور الزمان بأجزائه الصغير والكبيرة في آيات القرآن الكريم، وكأنه تقويم أبدي للعالم كله، وما قدمناه مجرد نماذج، والتفصيل يحتاج إلى مجلدات.
رابعا: دقة الوقت كما عبر عنها القرآن:
لدقة الوقت عناية قرآنية فائقة، تبدأ عندما ذكر الله عز وجل أن للأمم آجالا كما للأفراد، وهي ذات توقيت لا تتخلف عنه ولا تغادره، قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [لأعراف: 34]، ولذلك ينبغي الامتثال لأمر الله وحكمته، وعدم الاستعجال لقدره، قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35]، والله تعالى يصرف أمور عباده من خلال دورة الأيام، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، وهو لا يغفل ولا ينام عن كونه وعباده، ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: من الآية255]، وقد ضبط حركة الجرام السماوية فهي تسير بانتظام، قال تعالى: ﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يّـس: 40]، وقد اختص سبحانه بعلم الساعة فلا يعلم وقتها إلا هو، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 187].
وقد بلغ من دقة القرآن في ذكر الوقت أن ذكر الفرق بين التوقيت الشمسي والقمري، قال تعالى في ذكر أهل الكهف: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ﴾ [الكهف: 25]، والمعنى أنه [كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مئة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة وازدادوا تسعا] [4]، كما أشار القرآن إلى التنافس في الوقت وسرعة الإنجاز في مملكة سليمان عليه السلام في قصة إحضار عرش بلقيس، حيث حصلت منافسة شديدة بين عفريت من الجن وبين من عنده علم من الكتاب، قال تعالى: ﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 39-40].
خامسا: خصوصية بعض الأوقات:
ذكر الله عز وجل أوقات بعينها في القرآن الكريم، وسجلها تخليدا لذكراها، فمن ذلك قوله تعالى عن معركة بدر: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ [الأنفال: من الآية41]، وقال تعالى يذكر معركة حنين: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾ [التوبة: من الآية25].
وقد وقعت لإشادة بأوقات معينة، من ذلك ليلة القدر، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1-3]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]. كما أقسم الله عز وجل بأوقات معينة تنبيها لفضلها وجلالها، فمنها الفجر، وليالي العشر الأولى من ذي الحجة، قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1-2]. ومنها الضحى والنهار والليل مبتدئا بذكر مسبباتها وهما الشمس والقمر، قال تعالى: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [الشمس: 1-4].
سادسا: ما ورد بذكر اليوم الآخر:
اليوم الآخر هو يوم الخلود الذي لا ينتهي، وبالتعبير الرياضي هو يوم اللانهاية، ولما كانت الدنيا محدودة، فإن قسمة المحدود على اللانهاية تساوي الصفر رياضيا، وهكذا تكون الدنيا لاشيء قياسا للآخرة، وهذا ما يقرره البشر أنفسهم يوم البعث مشيرين إلى ضآلة الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، قال تعالى: ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّين ﴾ [المؤمنون: 113]، وقال أيضا: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ﴾ [طـه: 104].
وعليه ينبغي أن يكون الحديث عن الآخرة والاهتمام بها هو محور حياة الإنسان، ولكن الحاصل هو العكس، بسبب سذاجة الإنسان وتمسكه بالمحسوس المباشر، قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 20-21].
وقد سميت القيامة بأسماء كثيرة، فهي القيامة حيث يقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى: ﴿ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [القيامة: 1]، وهي الواقعة التي لا واقعة مثلها لما فيها من الشدة والمكروه، قال تعالى: ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ [الواقعة: 1]، وهي الغاشية أي النائبة التي تغشى الناس جميعا، قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية: 1]، وهي يوم التغابن، حيث يظهر الغبن وهو [أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الخفاء] [5]، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: من الآية 9] ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، وهي يوم الوعيد بالعذاب الشديد، قال تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴾ [قّ: 20]، وهي القارعة، والقرع: [ضرب شيء على شيء] [6]، فهي تقرع الأسماع والقلوب، قال تعالى: ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ [القارعة: 1-3]، وهي الحاقة التي يحق فيها الجزاء، قال تعالى: ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴾ [الحاقة: 1-3]. وهي يوم النشور بعد الموت، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]
وهي يوم البعث بعد الموت، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]. وهي أيام الله تعالى لما فيها من مشاهد مختلفة وعوالم متباينة كعالم العرض وعالم الحشر وعالم الميزان وعالم الصراط، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [إبراهيم: 5]، وهي يوم الفصل الذي يحكم فيه بالعدل، قال تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الصافات: 21].
وقد حذر الله سبحانه من أهوالها التي تشيب لها الولدان، قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ﴾ [المزمل: 17]، ودع المؤمنين للاستعداد لها فهي المستقبل الذي يوجد غيره، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، وفيها الجنة التي وعدهم، قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وفيها الخلود، قال تعالى: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [قّ: 34]، وأما النار فهي مثوى الخارجين عن منهج الله في الأرض، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 28]، وطالما كانت النار موعدهم فلا فائدة لهم في ما هم فيه من قوة وسطوة، قال تعالى: ﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196-197].
سابعا: التعبير بالماضي عن المستقبل:
من بلاغة العربية التعبير بالماضي عن المستقبل، وقد أشار إلى ذلك الخطيب القزويني في حديثه عن خروج المسند إليه عن مقتضى الظاهر، فذكر من صور الخروج: [التعبير عن المستقبل بلفظ المضي تنبيها على تحقق وقوعه، وأن ما هو للوقوع كالواقع] [7]، ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [النمل: 87]، فقد عبر بفزع ولم يقل سيفزع، وقال أتوه ولم يقل سيأتوه، وكأن الأمر قد قضي وتحقق، ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [الكهف: 47]، فقال: وحشرناهم وكأن الحشر قد تم وهو يخبر عنه لا على أنه آت، ومن هذا الباب أيضا: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [لأعراف: 48]، فعبر بنادى لا بسينادي، لأن ما يعد الله به متحقق لا محالة فصار بمنزلة الماضي الذي تحقق، والأزمان عند الله جميعا وأمام قوته سواء.
ثامنا: التعبير عن المستقبل باسمي الفاعل والمفعول[8]:
وهذا أيضا من بلاغة العربية، فقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الذريات: 6]، فقد قال واقع ولم يقل يقع، والجملة الاسمية تفيد الثبوت، وكأن يوم الدين قد وقع فعلا، ومنه قوله تعالى:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: 103]، فقال مجموع ولم يقل يجمع وكأن حدوث الجمع ثابت لا ريب فيه.
تاسعا: الإخبار عن القرون الماضية:
وهذا أحد وجوه الإعجاز، وقد ذكره السيوطي فقال: [الوجه التاسع عشر من وجوه إعجازه: إخباره بأحوال القرون السالفة، والأمم البائدة، والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، الذي قطع عمره في تعلم ذلك] [9]، ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أميا، فمن أين له هذا العلم لولا أن الله علمه؟ والقرآن في الإخبار عن الماضي سجل حافل لتجارب البشرية في الخير والشر من خلال قصص الأنبياء مع أقوامهم، وهو يتحرك في الماضي من أجل بناء المستقبل، لا رغبة في السرد والإمتاع، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
عاشرا: الإخبار عن المستقبل:
وهذا أحد وجوه الإعجاز، وقد ذكره السيوطي فقال: [الوجه الثامن عشر من وجوه إعجازه: انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر][10]، والقرآن الكريم كتاب مستقبلي بالكامل، تحدث عن المستقبل البعيد ممثلا بيوم القيامة، والمستقبل القريب، ممثلا بالدنيا، وذكر نبوءات عن مستقبل الأمم والشعوب مما يندرج ضمن البشارات المستقبلية، قال تعالى مبشرا بنصر قريب للروم بعد هزيمتهم: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ [الروم: 2-3]، وقال مبشرا بفتح مكة: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ﴾ [الفتح: 1]، وقال مبشرا بغلبة هذا الدين وتمكينه في الأرض: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، وقد تحقق كل ما وعد الله به. كما تحدث القرآن عن مستقبل العمل والسعي، قال تعالى: [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى] [النجم: 39]، وحث على العمل والمبادرة، قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وكان حديثه عن قصص الأنبياء والأمم السابقة بقصد الإفادة من تجاربهم في صناعة المستقبل، قال تعالى: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 134]، وليس حديثه عن قصص الطواغيت والجبارين إلا بقصد العبرة والاتعاظ، قال تعالى في قصة غرق فرعون وحكمة بقاء بدنه: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾] [يونس: 92]
إحدى عشرة: ديناميكية الزمان:
ونعني بها حركته بين الأزمنة الثلاثة [الماضي، الحاضر، المستقبل]، مما يثير الشعور بوحدة الزمان، فكأن المرء يعيش في كل الأزمنة في وقت واحد.
بداية لنتأمل قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً ﴾ [النساء: 102]. إن الفعل كنت ماض، ولكن إذا أخلصته للاستقبال، ثم عطف بالفاء التي تفيد التعقيب مع الترتيب فقال: [فأقمت]، ولم يقل فأقم، فسارت الجملة الثانية في إطار الخبر؛ لتتحول بعد ذلك للإنشاء: [فلتقم] وهو أمر للمستقبل، ومثله [فليأخذوا]، ثم تعود الآية إلى ذكر الماضي الذي يراد به المستقبل: [فإذا سجدوا]، ثم إلى الأمر الذي يراد به المستقبل: [فليكونوا]. ثم تأتي الأفعال: [ولتأت] وهو أمر، و [لم يصلوا] وهو مضارع مجزوم، و[فليصلوا] وهو مضارع مجزوم بلام الأمر، ومثله: [وليأخذوا] ثم عودة للماضي: [ودَّ] الذي يفيد أن هذه الرغبة قديمة وباقية لدى الكافرين، ثم يعقب ذلك الفعل[كفروا] وهو ماض، ثم: [لو تغفلون] وهو مضارع يجعل المرء يتيقظ لما هو قائم حوله، ثم أعقبه [فيميلوا] وهو مضارع أيضا واقع في جواب التمني، ثم عودة إلى الماضي المشروط: [إن كان بكم] ويعقبه جوابه وهو المضارع المنصوب: [أن تضعوا]، ثم يلي ذلك الأمر الجامع: [وخذوا حذركم]. ثم تختم الآية بالجملة الاسمية: [إن ال أعد للكافرين عذابا مهينا] وهي هنا خبر يفيد ثبوت العذاب للكافرين، وقد تضمنت الجملة الاسمية جملة فعلية وهي [أعد] وهي خبر [إن] وجاء بصيغة الماضي الذي يراد به الوعيد... عملية بناء لغوية معقدة، تتداخل فيها الأزمنة جميعا في سياق آية واحدة، وهذا هو السحر الحلال الذي لم يجتمع قط لغير كلام السميع العليم.
ولنتأمل أيضا قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3] ابتدأ بالماضي المبني للمجهول: [حرمت] وعطف عليه: [وما أهل]، ثم ذكر الماضي: [أكل] و [ذكيتم]، ثم الماضي المجهول: [وما ***] ثم ذكر المضارع المنصوب بأن [وأن تستقسموا]، ثم ذكر الفعل الماضي [يئس]، ومثله [كفروا]، ثم ذكر المضارع المجزوم بلا الناهية: [فلا تخشوهم] ثم الأمر: [واخشون]، ثم الماضي: [أكملت] و [أتممت] و [رضيت]، ثم الماضي [اضطر]، وختم بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت ولاستمرار: [فإن الله غفور رحيم]. فتنقل بين أزمنة مختلفة في سياق آية واحدة!
ولنتأمل كذلك قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. فقوله [سبحان] علم للتسبيح نزل منزلة الفعل، ثم جاء [أسرى] و [باركنا] بصيغة الماضي، وقوله: [لنريه] مضارع منصوب بلام التعليل، وقوله: [إنه هو السميع البصير] جملة اسمية ختمت بها الآية.
وهكذا نجد عملية ديناميكية في استخدام الأفعال في أزمنتها المختلفة بما يجعل النص حيا شاخصا يفيض بالتجدد والحياة.
والخلاصة هي أن الزمان كله مسخر للإنسان، وكذلك أدواته من أجرام نيرة، قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [إبراهيم: 33]، وعلى المرء أن يتوب ليمحو الماضي وينطلق إلى المستقبل، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39].. وعليه أن يبادر هذا العمر قبل أن يضيع وينتهي، قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وقد وظفت كل الآيات التي ذكر فيها الوقت لهذا الغرض العظيم الذي ذكرناه.
[1] انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه محمد فؤاد عبدالباقي، المواد: [سوع، يوم، ليل، نهر، سبت، جمع، شهر، سنن، عوم، دهر] ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، 1984م.
[2] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، مادة [دهر]، دار المعرفة، بيروت.
[3] المصدر السابق، مادة [عوم].
[4] مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، [2/415].
[5] المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، مادة [غبن].
[6] المصدر السابق، مادة [قرع].
[7] الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، [1/164].
[8] المصدر السابق، المصدر السابق، [1/165].
[9] معترك الأقران في إعجاز القرآن، صححه أحمد شمس الدين [1/181].
[10] المصدر السابق، [1/180].
د. محمد رفعت زنجير (http://www.alukah.net/Authors/View/Sharia/3011/)