مشاهدة النسخة كاملة : وقفة عابرة على عتبة تحقيق العبودية مع قول الله عز وجل: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي ﴾


abomokhtar
05-07-2014, 04:57 PM
وقفة عابرة على عتبة تحقيق العبودية

مع قول الله عز وجل: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي ﴾


الحمد لله الذي أظهر الحق وأوضحه، وكشف عن سبيله وبيَّنه، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وآله وصحبه وسلَّم، بعثه إلى الخلق كافة، وأمره أن يدعو الناس عامة؛ ليُنذر من كان حيًّا، ويَحقَّ القول على الكافرين.


أما بعد:
فإن تحقيق العبودية لله - عز وجل - وحده، بكل وجه، ومن كل وجه، وبكل درجة وتكميلها، مما يزيد العبد رفعةً وفخرًا، وعلوًّا وعزًّا، وكيف لا يكون الأمر على هذا، وتحقيق العبودية هي الدين الحق الذي بُعث به الرسُل عليهم الصلاة والسلام، وأُنزلَت من أجله الكتب، وخلَق الله - عز وجل - لها الخَلق؟! كما أن في تحقيقِها تحصيلاً لأحد أهمِّ الأسس التي تكون بها السعادة في الدارَين - كما هو معلوم - وسيتجلى لنا شيء من ذلك في هذه الوقفة.


ولذلك كان الجهاد والمجاهدة على تحقيق العبودية لله - عز وجل - والقيام بأعبائها، واحتمال فرائضها وواجباتها، وسننِها ومُكمِّلاتها، وأدائها على أتمِّ وجه، والدعوة إليها، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر في سبيلها، وتحمُّل الأذى في الله - عز وجل - ولله - عز وجل - في ذلك كله، وجهاد أعدائها: من أعظم - بل هو أعظم - ما يقوم به العبد، وكلَّما كان العبد أكثر تحقيقًا للعبودية لله - عز وجل - كان أكثر قربًا من الله - عز وجل - وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية لله - عز وجل - هبط وانحدر بقدر ذلك البُعد، والقرآن الكريم كله من أوله إلى آخره، يقرِّر هذا ويوكد على أهميته، وأنه بقدر تحصيله، يكون الجزاء.
ونحن نقف اليوم هذه الوقفة العابرة؛ لتأكيد هذا مع إحدى آيات القرآن الكريم، والتي أرشدت إليه من طرْف - شبه خفيٍّ - بأسلوب قرآني ماتع، مُنقطع النظير، وبصورة لن تجد لها - مع ما جمعتْه - مثيلاً.


وهذه الآية هي قول الله - عز وجل -: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50].


ومِن المعلوم أن الكلام عليها مَشهور منثور، وفي عقائدنا راسخ بين الظهور، وكُثرٌ هم من تكلموا في هذه الآية من المفسِّرين، ويَكاد الجميع يتَّفقون على تقرير المعنى الظاهر فيها، بين مختصِر وباسِط، وسائر ومحلِّق بكلام بديع، وبأسلوب رفيع متين، مُستنبِطين ومؤصِّلين، وهو حق لا مِريةَ فيه ولا لبس - أعني: من وافق منهم ما هو متقرِّر في عقائد أهل السنَّة - وكلٌّ يدور في كلامه - في هذه الآية - حول الجانب الذي يتكلم عن الترغيب والترهيب، والرغبة والرهبة، والرجاء والخوف، والرحمة والعذاب، وما يتعلق بها تأصيلاً وتفريعًا.


لكنْ قليل جدًّا هم من أشاروا إلى جانب آخر في الآية، وهو من الأهمية بمكان، ولا يقلُّ أهمية عن موضوع الترغيب والترهيب، إن لم يكن يفوقه بمراحل، بل هو كذلك، على أنه له صلة به، وقد عُرض فيها بأسلوب شائق وماتع، كما هو شأن أسلوب القرآن، ألا وهو جانب أهمية تحقيق العبودية.


ومن لطيف ما وقفتُ عليه - بل هو ألطفها - والذي كان سببًا في هذه الوقفة: قول الرازي في تفسيره[1]، فتأمله معي أخي القارئ وأنت أختي القارئة، ولتحكموا بعد ذلك، قال - رحمه الله -: "اعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب، مُشعر بكون ذلك الوصف علَّةً لذلك الحكم[2]، فهنا: وصفهم - عز وجل - بكونهم عبادًا له، ثم أثبت عقيب ذكر هذا الوصف، الحكم بكونه غفورًا رحيمًا، فهذا يدلُّ على أن كل مَن اعترف بالعبودية ظهر في حقه كون الله - عز وجل - غفورًا رحيمًا، ومن أنكر ذلك كان مستوجبًا للعقاب الأليم".


ثم قال: "وفي الآية لطائف؛ أحدها: أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: ﴿ عِبَادِي ﴾، وهذا تشريف عظيم؛ ألا ترى أنه لما أراد أن يشرِّف محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج لم يزد على قوله - عز وجل -: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1][3].


وثانيها: أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة، بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة؛ أولها: قوله - عز وجل -: ﴿ أَنِّي ﴾، وثانيها: قوله - عز وجل -: ﴿ أَنَا ﴾، وثالثها: إدخال حرف الألف واللام على قوله - عز وجل -: ﴿ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾.


ولما ذكر العذاب لم يقل: أني أنا المُعذِّب[4]، وما وصف نفسه بذلك، بل قال - عز وجل -: ﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾.


وثالثها: أنه أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلِّغ إليهم هذا المعنى؛ فكأنه أشهد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه في التزام المغفرة والرحمة.


ورابعها: أنه لما قال - عز وجل -: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي ﴾ كأن معناه: نبِّئ كل مَن كان معترفًا بعبوديتي، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع، فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي، وكل ذلك يدلُّ على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى.


وعن قتادة - رحمه الله - قال: بلَغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى، ما تورَّع من حرام، ولو علم قدر عقابه، لبخَع نفسه))[5]؛ أي: ***ها.


وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه مرَّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون، فقال: ((أتضحكون والنار بين أيديكم؟!))، فنزل قوله: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾[6]، والله أعلم".


فاللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح، واجعلنا ممَّن يُحقِّقون أسمى درجات العبودية، واجعلنا ممن لا يَشوبون توحيدهم بشرك، واجعلنا أهلاً لمغفرتك ورحمتك، وجنِّبنا سريع عقابك، واعفُ عنا، وتجاوز عن سيئاتنا؛ إنك أنت العفو الغفور، اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.

[1] (19/ 154).

[2] وعيه جمْع من أهل الأصول، وقال عنه الإسنوي بأنه المعروف؛ انظر: التمهيد في تخريج الفروع على الأصول (ص: 469)؛ للإسنوي.

[3] أرفع ما يوصف به العبد هو رتبة العبودية، فإذا زاد عليه وصف النبوة ووصف الرسالة، كان ذلك أعلى الكمال، ويستحق به أن يوصف بمقام العبودية، ولا سيما في أعلى المقامات؛ ولذلك ذكر الله - عز وجل - رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالعبودية في أعلى مقاماته، وأشرف أحواله، ومنها - كما ذكر علماؤنا -:
مقام الإسراء: كما ذكر؛ قال الله - عز وجل -: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ [الإسراء: 1].
ومقام الدعوة: قال الله - عز وجل -: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ﴾ [الجن: 19].
ومقام التحدي: قال الله - عز وجل -: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23].
ومقام الوحي: قال الله - عز وجل -: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10].
ومقام إنزال الكتاب: قال الله - عز وجل -: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وقال الله - عز وجل -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [الكهف: 1].
ومقام الكفاية: قال الله - عز وجل -: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36].
وبهذه العبودية التامة استحقَّ صلى الله عليه وآله وسلم التقدُّم في الدنيا والآخرة على جميع الخَلق؛ قال شيخ الإسلام: "فحصلت له تلك المرتبة صلى الله عليه وآله وسلم بتكميل عبوديته لله تعالى، وكمال مغفرة الله - عز وجل - له".
ولقد وصف الله - عز وجل - الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله بهذه العبودية؛ قال الله - عز وجل -: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ﴾ [ص: 17]، وقال الله - عز وجل -: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ ﴾ [ص: 41]، وقال الله - عز وجل -: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [ص: 45]، فجميعهم وُصفوا بهذه الصفة العليَّة، وانظر لهذه المقامات: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 103)، (3/ 29 - 439)، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 5)، وروضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 53)، طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 26)، لابن القيم، وغيرها من كتب أهل العلم.

[4] وفيه فائدة أخرى؛ انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (17/ 95).

[5] هذا الحديث ظاهره الانقطاع، وهو معلَّق، ولم أقف عليه، وقوله: بلغنا، هذا من البلاغات، ولا بد لها من مبلِّغ، وهو الواسطة بين من يذكر البلاغ، وبين مَن يَرويه عنه، وإذا لم نتمكَّن من الاطلاع على هذه الواسطة من طرق أخرى، فالبلاغ ضعيف؛ لأنه سقط من إسناده واحد، أو أكثر، لكن من المتقرِّر عند علماء الحديث: إن البلاغات لا تكاد توجد مسنَدة إلا على ندور، ومن أكثر من اشتُهر بها الإمام مالك - رحمه الله - في الموطأ، فما أراه يصح، والله أعلم.
على أن جملة من المفسرين قد ذكروه، ولكنهم لم يتكلموا عليه؛ ومنهم: ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (2/ 674)، ثم رأيت ابن جرير أخرجه (17/ 111)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 86) إلى: "عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم".

[6] أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (18/ 368)، وبنحوه أخرجه البزار رقم: (2216)، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب من الحديث الشريف" (4/ 247): "رواه البزار، وليس في إسناده مَن تُرك ولا اتُّهم"، قلت - بكر -: وهذا غير كافٍ في ثبوت الحديث، كما نصَّ على ذلك العلماء، وهو بيِّن ظاهر، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد" (6/ 415): "رواه الطبراني، وفيه: موسى بن عُبيدة - يعني: الربذي - وهو ضعيف"، وقال (11/ 221): "رواه البزار، وفيه موسى بن عُبيدة - بضم أوله - الربذي، وهو ضعيف"، قلت - بكر -: وقد جزم بضعف موسى هذا الحافظُ في التقريب، وقال عنه الذهبي في "الضعفاء والمتروكين": "ضعَّفوه، وقال أحمد: لا تحل الرواية عنه"، بل قد حكى بعضهم الاتفاق على تضعيفه، كما أن بعضهم قد ضعَّفه جدًّا، فالحديث لا يثبت، والله أعلم.






بكر البعداني (http://www.alukah.net/authors/view/sharia/7813/)

Only Forward
05-07-2014, 05:04 PM
الحمد لله اننا عباد له وحده