مشاهدة النسخة كاملة : من تشديدات القرآن - ( لَيُبَطِّئَنَّ، لَيُبْطِئَنَّ )


abomokhtar
26-08-2014, 06:50 AM
قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}[ النساء (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A1%22)[ ] :72-73].
وكعادتنا في هذا البحث نقصد الكلمات التي تعددت فيها القراءة بالتضعيف (التشديد) والتخفيف، فيتعدد المعنى أو يزداد.
فأكيد ظهر للقارئ أن المقصود هنا هو كلمة: {لَّيُبَطِّئَنَّ}، ومع ذلك لا نستطيع تجاوز بعض اللطائف واللفتات الملتصقة بها.
فهذه الكلمة {ليبطئنَّ} فيها قراءتان:
ففي قراءة الجمهور بفتح الباء وتشديد الطَّاء: {لَّيُبَطِّئَنَّ}.
وقرأها مجاهد والنخعي والكلبي: {لَيُبْطِئَنَّ}؛ بإسكان الباء وتخفيف الطاء(1).
وفي قراءة شاذّة بضم الهمزة: {لَّيُبَطِّئُنَّ}(2)، والقراءة الشاذة إذا صح سندُها ولم يتواتر فإنها تؤخذ من باب أنها تفسير، لا من باب أنها قرآن يُتلى.
فنناقشها على القراءتين الأوليين، بالتخفيف والتضعيف، وقد تناول المفسرون الآية من عدة حيثيات:
1- دلالة الفعل ومعناه من حيث التعدِّي واللزوم.
2- دلالة الشدة والتخفيف في الطاء على المعنى التربوي.
3- دلالة اللامات وتعدُّد التأكيدات في: {إنَّ} و{لَمن} و{ليبطئن}.
4- في دلالة {منكم}؛ أهي في المؤمنين أو في المنافقين؟
أولا: دلالة الفعل معنًى ومبنى:
أ‌- دلالة معنى الفعل على التعدِّي واللزوم:
أعني هل فعل {ليبطئن} لازم، ولا يحتاج إلى مفعولٍ به، فيكون الفاعل فَعل بنفسه وفي نفسه، بمعنى أنه بطَّأ نفسه، ووتباطأ وتثاقل وقعد عن العمل والجهاد والعبادة والدعوة، وركن إلى الدعة والراحة والسكون، واستبدل المكرمات بعيش الدون والسُّفول والصّغار.
أم إن الفعل في {ليبطئن} متعدٍّ إلى مفعول به، والمفعول بهم هم الذين يقع عليهم تثبيط المثبِّطين؛ فيكون هذا الشخص لم يكتفِ بأن قعد واثَّاقل في نفسه، وإنما راح يقيم دعوةً لتثبيط الناس عما ينبغي ويجب، فتحمَّل وزره وأوزارهم؛ لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا!
قال أبو حيان: "والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازما، لأنهم يقولون: أبطأ وبطأ في معنى بطؤ، ويحتمل أن يكون متعديًا بالهمزة أو التضعيف من بَطُؤ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد، وعلى التعدي يكون قد ثَبَّط غيره وأشار له بالقعود، وعلى التعدي أكثر المفسرين"(3).
ب‌- دلالة التشديد والتخفيف على تعدِّي الفعل أو لزومه:
الحقيقة أن تشديد الطاء في قراءة الجمهور يلازمه فتح الباء قبلها: {لَّيُبَطِّئَنَّ}، أما تخفيف الطاء في قراءةِ مجاهدٍ وغيره فيلازمها إسكان الباء قبلها: {لَيُبْطِئَنَّ}.
ولعل إشكال التعدِّي واللزوم ينحل بصياغة الفعل نفسه، فعلى قراءة التضعيف {لَّيُبَطِّئَنَّ}، تعني التعدِّي، فيكون الفاعل أو اسم الفاعل منها، مُبَطِّئ، كمُسَرِّع، ومُفَسِّر، ومُبَدِّل، ومُعَرِّف، ومُعَطِّل ومُثَبِّط، ونحوها... وأفعالها: ليُبَطَّئَنَّ؛ كليُفَسِّرَنَّ، ولَيُبَدِّلَنَّ، ولّيّعَرِّفَنَّ، ولَيَيُعَطِّلَنَّ، ولَيُثَبِّطَّنَّ، ولَيُسَرِّعَنَّ غيره، وظاهرٌ أنها بهذا أفعال متعدية.
وفي الحديث: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»(مسلم؛ في صحيحه، برقم:[ 2699]). وفي رواية: «ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه»(أحمد؛ المسند، برقم:[ 7427]).
وبطَّأ وأبطأ بمعنى واحد، هو ضد الإسراع، وهو واضح أنه بطَّأ بالرجل عملُه، وأبطأ به، وصياغتها على نحو التالي يوضحها؛ فنقول: بطَّأ العملُ بصاحبه، وأبطأ العملُ بصاحِبِه؛ أي: بطَّأ العملُ صاحبَه، وأبطأ العمل صاحبَه، كأسمعَ الشيخُ التلميذَ، فالفعل (بطَّأ) بتشديد الطاء متعدٍّ. ولم يقل: بطأ الرجلُ، أو أبطأ الرجلُ، فليس لازمًا.
فعلى هذه القراءة يكون هذا المبطِّئ بطَّأ غيره وثبَّطه، ولا يُنتظر منه أن ينفر بعد ذلك، فسبق البطْءُ التبطئةَ.
وعلى قراءة التخفيف {لَيُبْطِئَنَّ}، كَيُسْرِعَنَّ، مِثْلًا في الوزن، وضِدًّا في المعنى. فأسرع الرجل، فعل لازم، ولم يُسَرِّع غيره.
فهنا {منكم لمن يُبْطِئَنَّ}، ويثَّاقلنَّ، أي يتباطأ ويتثاقل، فلا يخرج لجهاد ولا دعوة ولا عبادة، كما يفعل المنافقون الذين لا يقومون للصلاة إلا كسالى، ولا يقيمهم إلا مراءاة الناس، والرغبة فيما أيديهم، أو الرهبة منهم.
فاستفدنا من القرائتين أن هذا الفريق متباطئ في نفسه، ولم يكتفِ، بل ذهب يُشرك الناس في فعاله ويُبِّطهم، وكما قيل: ودت الزانية لو أن كل الناس زَنَوْا!!
ثانيًا: دلالة التشديد والتخفيف على المعنى التربوي التوجيهي:
استفدنا مما سبق ومن خلال القراءتين أن هذا المبطِّئ تباطأ هو واثَّاقل، ثم هو يسعى في الناس يُبَطِّئهم ويقعدون بكل صراط يَعِدُون ويتوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن يبغونها، وقد نهى الله عنه بقول: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:86].
ومن خلال قراءة التشديد، ترتسم لك صورة أولئكم الناس، وتتجسد فِعالهم، وهم يشْتَدُّون في الناس ويشتطُّون، يُخذِّلونهم عن الخير، في كل مجال بِحَسَبِه، فإن كان الجهاد (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%22)[ ] في سبيل الله، تراهم لا يَدَّخرون جهدًا في صدِّ الناس عنه، بالتخويف من الموت (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA%22)[ ] مرة، ومن العدو أخرى، وتخويفٍ على الأهل والمال تارة، والمناصب والوظائف أخرى.. أو يثبطونهم ببث الشبهات والأراجيف، أو بالقدوة السّيئة فيدخلون في الصف ثم يخرجون منه، ليأخذوا معهم قطاعًا من الضِّعاف، ويفتنوا قلوبهم، ويَفُتُّوا عضدهم، ويشُقُّوا صفَّهم، كما كانوا يتآمرون في الصدر الأول: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[آل عمران:72].
وإن كانت هذه قد نزلت في الجهاد، ولكنها تعمُّ وتشمل كل بابٍ من أبواب الخير؛ من طلب العلم (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%22)[ ] أو إقامة درس أو إنشاء منبر تُبَلَّغ فيه الدعوة (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B9%D9%88%D8%A9%22)[ ] ، أو الإنفاق المالي في سبيل الله على اليتيم والفقير، وفي مشاريع المسلمين الخيرية، أو إغاثة ملهوف، وكل باب خيرٍ، من تجهيز غازٍ إلى سقي قطٍّ عطشان.
قال المفسرون: "وفائدة هذا التشديد تكرر الفعل منه"(4)، فسبحان الله؛ بعض الناس من أهل التثبيط والتبطئة يتوفرون على بعض ما ذكر الحديث من صفات: «إن الشيطان (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%8 6%22)[ ] قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل؟! فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%22)[ ] والمال، فتقاتل فت***، فتنكح المرأة (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9%22)[ ] ، ويقسم المال؟! فعصاه فجاهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك كان حقًّا على الله عز وجل أن يدخله الجنة (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A9%22)[ ] . ومن *** كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة. وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصَتْهُ دابتُهُ كان حقا على الله أن يدخله الجنة»(الألباني (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D8%A8%D8%A7%D9%8 6%D9%8A%22)[ ] ؛ السلسلة الصحيحة، برقم:[2979]). فانظر إلى كثرة الطرق التي يقعدون فيها، وكثرة سُبُل الخير التي يصدون عنها، وشدة الجهد المضني الذي يبذلونه، وتعدد الشبهات والشهوات والمخاوف التي يطلقونها ويبثونها، من أجل التثبيط، ولو أنهم اتقَوْا وبذلوا معشار هذا في طريق واحد من طرق الخير لها لكان خيرًا لهم حالا ومآلا.
ففائدة هذا التشديد لبيان شدة التثاقل كما مرة معنا في حلقة: {اثَّاقلتم (http://ar.islamway.net/article/34643/-2-%D8%A7%D8%AB%D8%A7%D9%82%D9%84%D8%AA%D9%85)}، وشدة الحرص والسعي في تثبيط الناس عن الخير، لأن الضعيف قوي في شيء واحد، والكسول نشيط في شيء واحد فقط، هو إخماد جذوة النشاط في النشطاء، ليكونوا سواء، ولا يتحرك السُّكوني إلا لتسكين الحركي؛ لأن نشاطهم بجانب كسله حجة عليه وإحراج له، فلا يجد إلا أن يشرعن قعوده، ويُفلسف كسَلَه، ويَتَمَنْهَج بتثاقله في نفسه وتثبيطه لغيره وتبطئتهم، واختراع الطرق وافتعال الأسباب، وإثارة الأحداث، واصطناع الأدلة وتوليدها من عقيم، ولَيّ أعناق النصوص ليتحَكَّم فيها لا ليتحاكم إليها!
والآية نزلت في الجهاد، لكنها عامة بعموم لفظها، حتى أن الله تعالى لم يذكر لفظ الجهاد فيها، لتعم كل أنواع العمل الصالح وأبواب الخير.
فكم نرى أناسًا يُحَذِّرون إخوانَهم حتى مِن إقامة درس في مسجد، أو تعليق ورقة في حائط مسجد فيها نصيحة للمسلمين، بينما إذا تمرَّد الأخ عن تثبيطهم ورأوْا لفعله قَبولًا حسنًا وأثرًا طيبًا إذا هم يقعون في نحو قوله تعالى: {ياليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا}، بل قد يذهب بعضهم يسترق جهد الناس، ويتعرض لمحامد الناس بأنه من هذه الطائفة، وأنه أبٌ فيها مُرَبٍّ، أو ابنٌ لها بار، وكما قال تعالى في بعض الناس: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:188].
أمَّا إن أصابك شيء من العنت أو مسَّك البلاء فإذا هم يقولون:ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من هذا أو ذاك؟!
سبحان الله، بعض الناس أخلاقهم القرآن فيما أمر به، وبعضهم أخلاقهم فيما نهى عنه!
يقول سيد قطب (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%B3%D9%8A%D8%AF%20%D9%82%D8%B7%D8%A8%2 2)[ ] : "ولفظة {ليبطئن} مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثّر، وإن اللسان (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%B3%D8%A7%D9%86%22)[ ] ليتعثر في حروفها وجرسها، حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شدًّا، وإنها لتُصَوِّر الحركةَ النفسية المصاحبة لها تصويرًا كاملًا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها. وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة"(5).
ويقول سيد طنطاوي: "والتعبير بقوله {لَيُبَطِّئَنَّ} تعبير في أسمى درجات البلاغة (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%BA%D8%A 9%22)[ ] والروعة، لأنه يصور الحركة النفسية للمنافقين وضعاف الإيمان (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%8 6%22)[ ] وهم يشدون أنفسهم شدًّا، ويقَدِّمون رِجلًا ويؤخرون أخرى عند ما يدعوهم داعي الجهاد إلى الخروج من أجل إعلاء كلمة الله"(6).
ويتبع إن شاء الله تعالى
---------هوامش---------
(1). انظر: القرطبي؛ الجامع لأحكام القرآن:5/276، وأبا محمد مكي بن أبي طالب؛ الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره:2/ 1385].
(2)- أبو حيان: البحر المحيط في التفسير (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B 1%22)[ ] :1/704.
(3)- أبو حيان؛ البحر المحيط في التفسير:1/91]
(4)- الرازي؛ مفاتيح الغيب:10/138-139.
(5)- سيد قطب؛ في ظلال القرآن: 2/706.
(6)- محمد سيد طنطاوي؛ التفسير الوسيط:3/205.

أبو محمد بن عبد الله (http://ar.islamway.net/scholar/3435/%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D9%86-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87)

abomokhtar
26-08-2014, 06:52 AM
كُنَّا في الجزء الأول من هذا المقال قد تناولنا أمرين:
الأول: دلالة معنى الفعل {ليبطئن} ببنائه وبتشكيلَيْه التخفيف والتشديد على التعدِّي واللزوم. والثاني: دلالة التشديد والتخفيف على المعنى التربوي التوجيهي، والآن نستكمل بقية الدلالات.
ثالثًا: في دلالة اللامات وتعدد التأكيدات في:{إنَّ} و{لمن} و{ليبطئن}.
نلاحظ لبيان شدة هذا التثاقل والتثبيط والتبطئة، جاءت مؤكدة بعد تأكيدات:
فالحرف {إنَّ} للتأكيد.
ثم التأكيد باللام التأكيد المفتوحة في {لَـمن}.
ثم التأكيد باللام في {ليبطئن}، فقيل هي لام تأكيد أيضًا(6)؛ فيكون تأكيد بعد تأكيد باللام.
وقيل هو تأكيد بالقَسم، الذي يدلُّ عليه اللام في {ليبطئن}، فهي عند الجمهور لام قسَم، تقديره: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ والله لَيُبَطِّئَنَّ. واللهُ سبحانه إنما يقسم لبيان عِظم الأمر وتأكيده، لا لمجرد التصديق، وإلا فمن أصدق من الله قيلًا، ومن أصدق منه حديثًا سبحانه.
ثم التأكيد ينون التوكيد المثقلة في آخر الفعل، كما جاء مثلها في القرآن: {لأُقَطِّعَن أيدكم} و{لأ***َنَّك}..
قال الطبري: "ودخلت اللام في قوله: {لمن}، وفتحت؛ لأنها (اللام) التي تدخل توكيدًا للخبر مع {إنَّ}، كقول القائل: "إنّ في الدار لَمَن يكرمك". وأما "اللام" الثانية التي في {ليبطئن}، فدخلت لجواب القسم، كأن معنى الكلام: وإن منكم أيها القوم لمن والله ليبطئن"(7).
فكل هذه التأكيدات الخمس لتأكيد {ليُبَطِّئَنَّ}، قال: "فقد جاء التأكيد بإنَّ وبلام التأكيد التي يسميها النحاة المزحلقة ونون التوكيد الثقيلة، وفي استعمال الفعل المضعّف(المشدَّد)، وزيادة الحروف زيادة في المعنى. وفي مجموع هذه المؤكدات تخويفٌ رهيب لمن ثبّط نفسه أو ثبّط غيره"(8)؛ لذلك وجب تأكيد الحذر من هذا الصنف بقدر هذه التأكيدات نفسها.
رابعًا: في دلالة {منكم}؛ أهي في المؤمنين أو في المنافقين؟
كلُّ المفسرين على أن الخطاب في هذه الآية بقوله {منكم} موجَّهٌ للمؤمنين مُحذِّرًا لهم، لأنهم هم الذين تعنيهم توجيهاتُ القرآن وتحذيراتُه، فهم المستفيد الأول مما جاء فيه من أمر ونهي وتوجيه وتحذير وتعليم وتربية.
لكن هل خاطبَهم وحذَّرهم من جماعة من المؤمنين متواجدة معهم، أو جماعة من المنافقين مندسة فيهم وليست منهم؟
الواقع أن المفسرين اختلفوا، ولكلٍّ وجهته وتبريره لاختياره(9):
القول الأول: أنها في المؤمنين: فظاهر الآية يقول: {منكم}، ولم تقل "فيكم"، فهي تخاطب المؤمنين باتفاقهم، فيكون هؤلاء مؤمنين من المؤمنين، لكنهم مؤمنون ضعاف الإيمان (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%8 6%22)[ ] ، وضعفُ إيمانهم تركهم يشاركون المنافقين بعض صفاتهم لضعف إرادةٍ وقلةِ علمٍ، لا لنفاقٍ في قلوبهم! وهذا اختيار جماعة من المفسرين كعبد الرحمن السعدي وغيره(10).
القول الثاني: أنها في المنافقين، لأن تكملة الآية اشتملت على أفعال وأقوال لا تصدر إلا عن منافقين! منها: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A1%22)[ ] :72-73]. وقد كان رأس النفاق (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%A7%D9%82%22)[ ] ابن سلول يفعل هذا، وهو الذي رجع بثلث الجيش يوم أحد، بعد أن كان يُثَبِّطُهم عن الخروج. وهو قول مجاهد واختيار الطبري وغيره.
القول الثالث: أنها في المنافقين وفي ضعاف الإيمان من المؤمنين، وهو اختيار جماعة من المفسرين(11)، وهذا أعدل الأقوال وأوفقها فيما نحسب والله أعلم، ولأن النفاق ليس كله كفرًا، فقد يتصف المؤمن بعض صفات المنافقين ويُسمَّى منافقًا لذلك؛ من غير تكفيرٍ كما في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»(البخاري (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D9%8 A%22)[ ] ؛ في صحيحه، برقم:[33]، ومسلم؛ صحيح مسلم (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%AD%20%D9%85%D8%B3%D 9%84%D9%85%22)[ ] ، برقم:[59]).

ثم إن {منكم} تشمل ضعاف الإيمان من المؤمنين، وتشمل المنافقين باعتبار ظاهرهم للناس، فهم باختلاطهم مع المؤمنين وتشابههم في الظاهر، يحسبونهم منهم.
وبالتالي فزيادة الثقة إلى جميع المسلمين غير صحيح، وإنما نثق في عقدهم ونحسن الظن بهم، ولكن نأخذ حذرنا مما يصدر منهم ولو عن حسن نية، نتيجة لقلة علم وفهم، أو قلة صبر أو تحت حماسة اندفاعية غير واعية ولا محسوبة العواقب، أو تأَثُّرًا بمنافقين مندسين، أو دعاة ضلالة مُفوَّهين، أو إعلاميين مأجورين، وقد مرَّ معنا في حلقة: { وفيكم سَمَّاعون لهم (http://ar.islamway.net/article/35039/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-3-%D9%88%D9%81%D9%8A%D9%83%D9%85-%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%88%D9%86-%D9%84%D9%87%D9%85)}.
تعقيبات إجمالية جميلة:

يقول الخطيب: "وفى قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} إشارة فاضحة لجبن الجبناء، ونفاق المنافقين، من الذين يحشرون أنفسهم في زمرة المجاهدين، ويضافون إليهم.. فهناك أفراد يغلبهم الحرص على أنفسهم، كما يغلب عليهم الطمع فيما يقع لأيدي المجاهدين من غنائم.. فإذ جاء النفير إلى الجهاد (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%22)[ ] ، تلبّثوا، وتعللوا بالعلل والمعاذير، حتى يفوتهم الركب المجاهد، وهم لا يزالون في موقف من يتأهب للقتال، ويتجهز للّحاق بالمجاهدين.. ثم لا يزالون على هذا الموقف حتى تنتهي المعركة، وينفضّ سوقها..
وهنا ينكشف أمر هؤلاء الجبناء، ويفتضح نفاقهم حتى مع أنفسهم.. فإذا كانت الهزيمة في المجاهدين، أظهروا الفرحة، وحمدوا لأنفسهم هذا الموقف المتخاذل الذي كان منهم، وقال قائلهم: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} .. لقد نجا بنفسه، وسلم من التلف، وما درى أنه من الخاسرين، حيث فاته ثواب الشهداء (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D8%AF%D8%A7%D8%A 1%22)[ ] ، وأجر المجاهدين..
وإن كانت الغلبة للمجاهدين، نظر إلى ما في أيديهم من أسلاب ومغانم، فامتلأت نفسه حسرة وأسى وندمًا، وتمنّى أن لو كان في هذا الركب الظافر الغانم، وقال ونفسه تتقطع كمدًا وحسرة: {يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}.
وفى قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} تنديد بهذه الخسّة وذلك الجبن، الذي قطع أواصر الأخوّة والتناصر بينه وبين أصحابه.. فما على هذا الأسلوب الخسيس تقوم الصحبة بين الجماعة، التي من شأنها أن تتقاسم السرّاء والضرّاء، وأن تذوق الحلو والمرّ.. أمّا أن تقف لتتحيّن الفرصة لتشارك في السّرّاء، ولا تشارك في الضراء، فذلك هو اللؤم الدنيء الذي تترفع عنه أدنى الحيوانات، التي إذا هاجمها عدوٌّ، لقيته يَدًا واحدة، وقوة مجتمعة!"(12)..

ويقول سيد قطب (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%B3%D9%8A%D8%AF%20%D9%82%D8%B7%D8%A8%2 2)[ ] : "وكذلك يشي تركيب الجملة كلها: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} ، بأن هؤلاء المبطئين- وهم معدودون من المسلمين- {منكم} يزاولون عملية التبطئة كاملة، ويصرون عليها إصرارًا، ويجتهدون فيها اجتهادًا.. وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة! مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة، وشدة أثرها في الصف المسلم وشدة ما يلقاه منها! ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم، وعلى دخيلة نفوسهم ويرسم حقيقتهم المنفرة، على طريقة القرآن التصويرية العجيبة:
فها هم أولاء، بكل بواعثهم، وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم.. هاهم أولاء مكشوفين للأعين، كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر، يكشف النوايا والسرائر ويكشف البواعث والدوافع.
ها هم أولاء- كما كانوا على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلّم- وكما يكونون في كل زمان وكل مكان.
ها هم أولاء. ضعافاً منافقين ملتوين صغار الاهتمامات أيضاً: لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر، ولا أفقاً أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة. فهم يديرون الدنيا (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A7%22)[ ] كلها على محور واحد. وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة! إنهم يبطئون ويتلكأون، ولا يصارحون، ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال! وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار:
يتخلفون عن المعركة.. فإن أصابت المجاهدين محنة، وابتلوا الابتلاء (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A8%D8%AA%D9%84%D8%A 7%D8%A1%22)[ ] الذي يصيب المجاهدين- في بعض الأحايين- فرح المتخلفون وحسبوا أن فرارهم من الجهاد، ونجاتهم من الابتلاء نعمة:
{فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً} ..
إنهم لا يخجلون- وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة- أن ينسبوها لله. الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا! والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبداً. فنعمة الله لا تنال بالمخالفة. ولو كان ظاهرها نجاة! إنها نعمة! ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله. عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله. ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة. نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطىء الأقدام في هذه الأرض.. كالنمال.. نعمة عند من لا يحسون أن البلاء- في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله- هو فضل واختيار من الله، يختص به من يشاء من عباده ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري، ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة، يملكونها ولا تملكهم. وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة.. في منازل الشهداء..
إن الناس كلهم يموتون! ولكن الشهداء- في سبيل الله- هم وحدهم الذين يستشهدون .. وهذا فضل من الله عظيم."(13).
ولا أخال أحدًا يتأمل في هذه الآية، ثم ينظر مِن حوله إلا وجد من هؤلاء أعدادًا، ولتبطئتهم أشكالًا، ولأساليبهم ألوانًا حِربائية، وقد أقام الله تعالى عليه الحجة بهذه الآية.

والله أعلم، وأحسب أنها تحتاج إلى ضغط واختصار، حيث إنها طالت، فعذرًا.
-------------------------------------
(6)- ابن عطية: المحرر الوجيز:2/77
(7)- الطبري؛ جامع البيان في تأويل القرآن:8/539، وانظر: الأخفش: معاني القرآن:1/261 وابن عطية: المحرر الوجيز:2/77. أبو محمد مكي بن أبي طالب؛ الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره:2/ 1385.
(8)- محيي الدين درويش؛ إعراب القرآن وبيانه:2/259
(9)- انظر:الرازي؛ مفاتيح الغيب:10/138-139، والثعلبي: الكشف والبيان عن تفسير القرآن (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1%20%D8%A7%D 9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86%22)[ ] :3/343.
(10)- انظر: الرازي؛ مفاتيح الغيب:10/138-139، والمراغي، التفسير (http://ar.islamway.net/search?domain=default&query=%22%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B 1%22)[ ] :5/88-89، وتفسير عبد الرحمن السعدي:186.
(11)- كما ذكر المراغي في تفسيره [5/88].
(12)- عبد الكريم يونس الخطيب (المتوفى: بعد 1390هـ)؛ التفسير القرآني للقرآن:3/834.
(13)- سيد قطب؛ الظلال:2/706.