مشاهدة النسخة كاملة : المثالية الزائدة دمرت شخصيتي


abomokhtar
21-09-2014, 12:02 PM
السؤال

♦ ملخص السؤال:
فتاةٌ ربيت منذ صِغَرِها على المثالية فيما تفعل، ثم خرجتْ إلى المجتمع فضعفتْ شخصيتها، وأصبحتْ قليلة الثقة بالنفس، وتسأل: كيف تتخطى دوامة الضعف التي تعيش فيها؟

♦ تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


أنا فتاةٌ لم أتم العشرين مِن عمري، أعيش وسط أسرةٍ ملتزمةٍ، ووالداي نشيطان في الدعوة والعمل الخيري.


أما أنا ففتاةٌ متميزةُ، ذات قدرات وكفاءات عالية، وكثيرًا ما يَصِفُني الناسُ بالصغيرة صاحبة العقل الكبير، تميزتُ كثيرًا منذ صغري، وشاركتُ في العديد مِن الحفلات، أُجيد الإلقاء والإنشادَ وترتيل القرآن، مُتدينة، لديَّ ثقافةٌ واسعة جدًّا في الدين والسياسة وعلم النفس، رغم صِغَر سني.


أبي يُدلنني، ولا يرفُض لي طلبًا، وأسمع كثيرًا من التشجيع مِن الناس على ما أُقَدِّمه، وقد نلتُ الشكرَ والتقديرَ حتى مِن أصحاب المناصب العالية، ولا يوجد أحدٌ إلا ويقارن أولاده وبناته بي.


أُعاني من العديد من المشاكل المتعلِّقة بالشخصية، وأقوم كثيرًا بتحليل شخصيتي ودراسة عيوبها، أُرَكِّز على نفسي كثيرًا، ولا أترُك صغيرةً ولا كبيرةً في نفسي إلا انتبهتُ لها وحلَّلْتُها، وهكذا الأمر في جميع الحالات.


تربيتُ منذ صغري على المثالية، وكنتُ أخشى الخطأ كثيرًا، ولم أتعلَّمْ أن أقول: لا، فدائمًا أقول: نعم.


عشتُ طفولتي دون أن أستطيع التعبير عن إرادتي؛ بسبب خجلي وخوفي مِن غضب أمي وأبي خاصَّة، وألا أرضي الناس عامة. مرَّتْ عليَّ مرحلةُ الابتدائية والمتوسطة وأنا في حالة كبتٍ وانعدام ثقةٍ وخوفٍ وخجلٍ وانغلاقٍ، وكانتْ زميلاتي يَصِفْنَنِي بالمُعَقَّدة، ومررتُ بأزماتٍ نفسيةٍ، ولم أكن أحب أن أخبرَ أمي، لأني كنتُ أخاف منها، وأخاف أن أُفْسِدَ صورتي أمامها.


كانتْ بيننا الكثيرُ مِن الحواجز، وهذا أحد أهم السلبيات الموجودة في أسرتنا؛ فنحن أسرةٌ كلُّ أفرادِها يفتقدون الذكاء العاطفيَّ، لا نُعَبِّرُ لبعضنا البعض، والعلاقاتُ بيننا غالبًا ما تكون عبارةً عن عرضٍ وطلبٍ، لا أحس بالأمان داخل أسرتنا!


أتت المرحلة الثانوية وبدأتُ أُطَوِّرُ نفسي قليلًا، وأتخلص مِن الانغلاق الذي أنا فيه، وتعرفتُ على صديقةٍ يُمكن أن أعتبرها صديقة سوء! صحيح أنها لم يكن لها علاقة بمواضيع (الصحوبية)، لكنها لا تشبهني في الأفكار، ولا يهمها شيءٌ، فهي تعيش لنفسها فقط، لكن المشكلة أني أسمع كلامها في كلِّ شيءٍ، وأشعر أني منقادةٌ لها، أطيع أوامرها، وأضعف أمامها، ولا أستطيع تركها، فهي تعرف كيف تسيطر على الناس بذكائها، وقد تعلمتُ منها الكثير مِن الأشياء، فقد أخرجتْني من القوقعة التي كنتُ فيها، وجعلتْني مُنفتحةً، ولكن ذلك كان على حساب مبادئي، فقد ضيعتُ الكثيرَ منها، وصرتُ لا أهتم بأمور ديني!


أحس بالنقص أمام صديقاتي، وأنقاد معهنَّ، وأحس بأنهنَّ لا يحترمنني ويحتقرنني، ويُلاحظْنَ ضعفي وخجلي واضطراباتي؛ حتى صارتْ إحداهن تقول لي مازحة: "يا مجنونة"، والأخرى: "يا موسوسة".


إنَّ المثالية التي نشأتُ عليها جعلتني لا أرضى بذاتي، ولم أعدْ أجيد إلا انتقادها، وخوفي مِن والدي ووالدتي واحترامي الشديد لآرائهما جعلني إمَّعَة؛ لا أعرف مَن أنا! ولا أملك شخصيةً، لقد صرتُ منعدمةَ التقدير لذاتي، وها أنا أعيش في حالةٍ مِن السلبية، ناهيك عن الوساوس في المزاجية.


أتعذَّب مِن الداخل، وقد نزل مستواي الدراسي، فبعدما كنتُ من الأوائل أصبحتُ من أضعف التلميذات في قسمي، ولا أستطيع التركيز على شيءٍ في حياتي، صرتُ لا أعيش سوى في أحلام اليقظة، ولا أتوقَّف عنها.


أعلم أنني أطلتُ في رسالتي، لكن عانيتُ حتى كتبتُ هذه الكلمات، فأرجو أن تساعدوني على تخطي دوامة الضعف التي أعيش فيها ليلَ نهار!

الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعدُ:
بدايةً أُحَيِّي فيك هذا العقلَ الراجحَ، وحُسن تقديرك للأمور، ونجاحك في تحليل شخصيتك، ومقدرتك على أن تَزِني تصرفاتك بميزان الشرع لا الهوى، فأنت بحقٍّ شخصيةٌ ذات مواهب متعددةٍ، وتمتلكين مِن القدرات الفائقةِ ما يجعلك في مصافّ المتميزين وأصحاب الإبداعات، أسأل الله تعالى أن ينفعَ بك دينك وأمتك، وأتنبأ لك - بإذن الله تعالى - بمستقبلٍ أكثر إشراقًا، وأفضل حالًا مما أنت عليه الآن.

أختي الكريمة، إن اتخاذك القرار بالكتابة إلينا هو - بإذن الله تعالى - الخطوة الأولى في الخلاص من الضعف الذي تُعانين منه، شريطةَ أن تمتلكي مِن الهمة والعزيمةِ ما يجعلك قادرةً على أن تُنَفِّذي ما سنتفق عليه معًا، وأكاد أجزم بأنك قادرةٌ على ذلك؛ فقد حباك الله تعالى عقليةً واعيةً، وحكمةً ورُؤيةً صائبةً.

مِن خلال قراءتي لرسالتك، وتحليلي لبعض الألفاظ التي وردتْ فيها، ووقوفي عند بعض المصطلحات التي ذكرتِها - أستطيع أن أُخْبِرَكِ بمسمى الحالة التي تعانين منها - وأحسبك تعلمينها جيدًا - وهي ما يُعرف في علم النفس بـ: "ضعف الشخصية".

وأَوَدُّ أن أخبرك بأن هذه مشكلة شائعة لدى كثيرٍ من الشباب، ولكن الخبر الجيد هنا والذي يدعو إلى التفاؤل، أنها مشكلة يُمكن التخلص منها، إذا امتلكت العزيمة الصادقة، والرغبةَ الأكيدة في أن تتخطيها وتكملي حياتك بشكل أفضل.

قد يصل الأمرُ بالإنسان نتيجةً لعدم ثقته بنفسه إلى أن يصدقَ أقوال الناس ويكذب ما تراه عيناه، وهناك قصةٌ طريفة حول ذلك المعنى ذكَرها ابنُ حَزْمٍ في كتابه "طوق الحمامة":

أنه كان في الأندلس تاجرٌ مشهور، وقع بينه وبين أربعة من التجار تنافُس، فأبغضوه وعزموا على أن يُزعجوه، فخرج ذات صباحٍ مِن بيته متجهًا إلى متجره لابسًا قميصًا أبيض، وعمامة بيضاء، ولقيه التاجرُ الأول فحياه، ثم نظر إلى عمامته، وقال: ما أجمل هذه العمامة الصفراء! فقال التاجر: أعميَ بصرُك؟! هذه عمامة بيضاء، فقال: بل صفراء، صفراء لكنها جميلة، فتركه التاجر ومضى!

فلما مشى خطوات لَقِيَهُ التاجرُ الثاني فحياه، ثم نظر إلى عمامته، وقال: ما أجملك اليوم! وما أحسن لباسك! خاصة هذه العمامة الخضراء، فقال التاجر: يا رجل، العمامة بيضاء، قال: بل خضراء، فقال بحَزْمٍ: بيضاء، واذهب عني!

ومضى المسكين يكلِّم نفسه، وينظر بين الفينة والأخرى إلى طرف عمامته المتدلي على كتفه؛ ليتأكَّد من أنها بيضاء، حتى وصل إلى دكانه، فأقبل إليه الثالث، وقال: يا فلان، ما أجمل هذا الصباح، خاصة لباسك الجميل! وزادت جمالك هذه العمامة الزرقاء، فنظر التاجر إلى عمامته ليتأكد مِن لونها، ثم فرك عينيه، وصرخ: يا أخي عمامتي بيضاء، قال: بل زرقاء، لكنها عمومًا جميلة، لا تحزن، ثم مضى!

فجعل التاجر يصيح: العمامة بيضاء، وينظر إليها، ويُقَلِّب أطرافها، فجلس في دكانه قليلاً، وهو لا يكاد يصرف بصره عن طرف عمامته، ثم دخل عليه الأخير، وقال: أهلاً يا فلان، ما شاء الله، مِن أين اشتريت هذه العمامة الحمراء؟ فصاح التاجر: عمامتي زرقاء، قال: بل حمراء، قال التاجر: بل خضراء، لا، لا، بل بيضاء، لا، زرقاء، وربما سوداء، ثم ضحك، ثم صرخ، ثم بكى، وقام يقفز!

قال ابن حزْمٍ: فلقد كنتُ أراه بعدها في شوارع الأندلس مجنونًا يحذفه الصبيان بالحصى!

وإليك خطوات العلاج:
• خصِّصي وقتًا يسيرًا كل أسبوع - وليكنْ ساعة مثلًا - للتأمُّل فيما مرَّ بك مِن أفعال وتصرفاتٍ يومية؛ ما سار سيرًا جيدًا، وما سار على غير ما يرام، وكيف كان بِوُسْعِك أن تُؤَدِّيه بشكل أفضل، وكيف ستستطيعين التحسن في الأسبوع المقبل؟ فمِثْلُ هذا الأمر يساعدك بشكل كبيرٍ على تعديل تصرفاتك.

• عليك بوصفة النجاح التي تُساعدك في ذلك: استمتعي بما تفعلينه، ومارسي التحسُّن حتى تجيديه، وضعي لنفسك درجةَ إنجازٍ مستهدفة.

• تعلَّمي أن تكوني أكثرَ ثقة بذاتك، وتذكري أنه لا يوجد إنسانٌ يشعر بالثقة في ذاته طوال الوقت، ومع ذلك فإن تحسين المرء ثقته بذاته، أو على أسوأ الفروض محاولة التظاهُر بالثقة بالنفس يجعله يشعر بدرجة أكبر مِن الرضا.

• جاهِدي نفسك حتى تمتلكي مفاتيح القوة؛ فحياةُ الناجحين مبنيةٌ على أساس ثابتٍ؛ لأن لديهم أساسًا قويًّا، وإذا لم يكن لديك قاعدةٌ أساسيةٌ فلن تتمكَّني من بناء حياةٍ مستقرة، فحياتُك تقوى فقط بقوة الأساس الذي تُبنى عليه، ويمكنك أن تفعلي ذلك مِن خلال مفاتيح القوة الثلاثة التي تتمثل في: التفكير، والعمل، والتصميم.

• اعرفي قدْرَ نفسك؛ فمَن عرف قدر نفسه صانها عن رخيص القدْر، وسما بها إلى مجالات التنافُس وقادها للمعالي، وما أروع ما قاله الطُّغرائيُّ في ذلك:

غَالَى بِنَفْسِيَ عِرْفَانِي بِقِيمَتِهَا فَصُنْتُهَا عَنْ رَخِيصِ القَدْرِ مُبْتَذَلِ
وَعَادَةُ النَّصْلِ أَنْ يُزْهَى بِجَوْهَرِهِ وَلَيْسَ يَعْمَلُ إِلَّا فِي يَدَيْ بَطَلِ
قَدْ رَشَّحُوكَ لِأَمْرٍ إِنْ فَطِنْتَ لَهُ فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ!


• غيِّري أفكارك تتغيرْ حياتك؛ يقول زيج زيجلار: "إن شخصيتك ومكانتك في الحياة تتشكَّل مِن خلال ما يدور في عقلك، ومن ثم يمكنك تغيير شخصيتك ومكانتك مِن خلال تغيير ما يدور في عقلك"، واعلمي أنك ستُصبحين أي شيء تفكرين فيه باستمرار حيال نفسك، سواء بالنجاح أو غيره، فلا تستسلمي للمشاعر السلبية، وكوني إيجابيةً في تفكيرك؛ فقد سُئِلَ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد يوم الخندق: بِمَ انتصرتَ على عمرو بن ودّ - هذا الرجل كان أكبر محاربي المشركين بسالةً وجرأة؟ فقال: كانتْ نفسي قد حدثتني أني سأغلبه، وأنه سيتقهقر أمامي، فلم أبالِ به في شيءٍ.

عندما تتعرضين لموقفٍ ما في حياتك، ابحثي عن العديد من البدائل التي يمكنك أن تختاري منها ما يُناسب ذلك الموقف، وفي كتابه الرائع Living Loving and Learning يروي "ليو بوسكاجليا" قصةً تراجيدية لسيدة شابةٍ جميلةٍ، كانتْ تنتظر الخروج في موعد مسائيٍّ مع خطيبها، وكانتْ هذه الشابةُ تشعر بالإثارة، لدرجة أنها كانتْ تستعد قبلها بثلاث ساعات، فكانتْ تنتظر وتنتظر، وبحلول الساعة المحددة كان قلبها يشعر بالإثارة، لدرجة أنها كانت بالكاد تتمالك نفسها، ولكنها كانتْ ما تزال تنتظر موعدها، ومرتْ ليلة بعد أخرى، ولم يحنْ موعدها المرتقَب أبدًا، ومن ثم فقد أصيبتْ تلك الفتاة بالانهيار، وعندئذٍ قطعتْ شرايين رسغيها في محاولة منها للانتحار، فهل كان هذا هو البديل الوحيد المتاح أمامها؟
بالطبع لا.

حاولي أن تذهبي لزيارة بعضِ المستشارين النفسيين في بلدك؛ كي يُساعدوك على أن تتخطي عقبة ضعف الشخصية.

أنصحك بقراءة بعض الكتُب التي ستُقَوِّي مِن عزيمتك، ومنها: أيقظ قُواك الخفية، وقدرات لا تنتهي؛ لأنتوني روبنز، وكذلك كتاب القوة المطلقة؛ لجيمس لي فالنتين، وكتاب: دعني أُقَدِّر ذاتي؛ لفيصل بن ناصر الشدوخي، وغير ذلك من الكتب التي تُعنى بالشخصية وتقدير الذات.

لا تنسَيْ أن تُقَوِّي صلتك بالله تعالى، فمنها يستمد الإنسانُ قوته، ويستعين بها على مُواجَهة صعاب الحياة.

في انتظار عودتك إلينا لتخبرينا بجديدك بعد الاستفادة مما قدمناه لك في الرد على رسالتك.


يَسَّرَ اللهُ لك أمركِ، ووفَّقك للخير دائمًا

مسلمة متفائلة
21-09-2014, 12:26 PM
موضوع رائع ونصيحة نافعة
جزاكم الله خيرًا

جمانة2
21-09-2014, 03:35 PM
جزاك الله خيرا