abomokhtar
14-12-2014, 12:21 PM
بين السنة والبدعة والتقليد
كثيرًا ما يقع الالتباس على كثير من الناس بين مفاهيم السنَّة (http://www.alukah.net/sharia/0/72513) والبدعة (http://www.alukah.net/sharia/0/23261) والتقليد، حتى لَيتحرَّجُ الورِعون منهم من التقاليد خوفًا من أن ترجعهم إلى البِدَع المَحظورة، أو يتهيَّبون بعض السنن حذرًا من الانزلاق إلى هوَّة الابتداع؛ إذ إن الفروق بينها دقيقة بالغة الدقة، قريبة شديدة القرب، لا يتأتَّى إدراك دقائقها وخفايا مضامينها إلا لمن أوتي حظًّا موفورًا من سعة الأفق وغزارة العلم، وعمق النظرة؛ إذ قد يقصد من السلوك على مقتضى البدعة المبالغة في التعبُّد لله تعالى؛ لأن المبتدِع يقوده السرف في فهم العبادة إلى ظنِّ أن ما وضَعه الشارع الحكيم من القوانين المحدَّدة، والحدود المقنَّنة، غير كافٍ في بلوغ أهدافها وإصابة مراميها، فيتدخَّل بفهمه القاصر، وخياله الجامح، إلى أعمال غير مُنضبطة، ومفاهيم بدون حدود، للوصول بأية وسيلة إلى كمال العبادة، التي مِن أجلها خلق الله العوالم، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
هذا فضلاً عمَّا يَعتلِج في الصدور من حب الظهور، والظفَر بالزعامة أو الغنيمة، وما إلى ذلك من أغراض مريضة، وأهداف دُنيا، وفي ذلك يقول الشاطبي في الاعتصام (1: 36): "فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدِّد لها أمر لا تعهده، حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول؛ ولذلك قالوا: (لكل جديد لذَّة)".
وفي حديث العرباض بن سارية الذي أورده النووي في الأربعين وأخرجه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح: وعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجِلت منها القلوب، وذرفَت منها العيون، فقلنا: "يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع فأوصِنا"، فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإن مَن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)).
لذلك أحببت في هذا المقال الموجز أن أضع الفواصل الواضحة بين تلك المفاهيم، وأن أميِّز بعضها عن بعض، مع الاستعانة بضرب الأمثال لكلٍّ منها على حِدَة بالقدر الذي لا يضيق به القارئ، ولا يَختلُّ به المقصود، حتى لا يتحرَّج الناس مِن فعل السنن والعادات، ولا يَنحدِروا إلى اقتراف البدع فعلاً أو تركًا، وسأبدأ ببيان السنَّة:
أولاً - يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقال - جلَّ مِن قائل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]، وقال - جلَّ وعلا -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31].
هذه أقوال صريحة، واضحة لا لَبْس فيها، مستقيمة لا اعوجاج بها، تدلُّ على أن القرآن الكريم دعا إلى العمل بالسنن (http://www.alukah.net/library/0/29356)، والاهتداء بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعماله، وأفعاله، وتركه، ومتى ثبتَت ثبوتًا صحيحًا، وبلغَت بلوغًا واضحًا أصبحَت حجة مُلزمة، وشريعة مُحكمة، وطريقة متَّبعة، والسنَّة في اصطلاح علماء أصول الفقه هي: "ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن، قولاً أو فعلاً أو تقريرًا، من غير الأمور الفِطرية أو ما تَقتضيه عادة البيئة، أو ما يكون من خصائصه، أو ما سها عنه".
ولذلك قسَّم الحنفية السنَّة إلى قسمَين؛ سنة الهدى، وسنَّة الزوائد، فالأولى: ما يُوجِب فعلُها ثوابًا، وتركها كراهة وإساءةً؛ كالجماعة، والأذان والإقامة، والثانية: ما لا توجب ذلك؛ كسُنَنه صلى الله عليه وسلم في لباسه وقيامه وقعوده.
ومثال السنَّة القولية قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرة إلى دنيا يصيبها أو امرأة يَنكِحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
ومثال السنَّة الفعلية: ما وقع منه من أفعال الصلاة، والوضوء، والحدود، ومناسك الحج...
ومثال السنة التقريرية - وهي ما ثبَت بسكوته عن إنكار فعل أو قول صدر من أحد من أمته في حضرته أو غيبته مع عِلمه به وقدرته على الإنكار - حديث: أكل الضَّب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل: ثبوت النسب بالقيافة حين ظهر السرور على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن قال القائف: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وذلك حين طعن المنافقون في نسب أسامة بن زيد؛ لأن أسامة كان شديد السواد، وأباه كان شديد البياض، فوضَعا عليهما غطاءً لم يظهر منه إلا أقدامهما، فقال ما قال.
ويُشترَط فيمَن يَنقُل السنَّة:
الإسلام، والعقل، والعدالة، والضبط، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام مُبلِّغًا عن ربه، ومفتيًا يُبيِّن للناس أحكام ما يسألونه عنه، وقاضيًا يَفصِل في خصوماتهم ويلزمهم بالحقوق، وإمامًا مُتَّبعًا، وقائدًا ومُرشِدًا، ومثلاً أعلى للإنسان الكامل، وقدوة صالحة للأولين والآخرين على السواء، وحسْبُنا في ذلك قوله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 1 - 4].
ثانيًا - أما البدعة (http://www.alukah.net/sharia/0/1803): فهي كل طريقة أُنشئت في الدين على غيرِ مثال سابق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها شبه بالمشروعات، ويُقصَد منها ما يُقصد بالمشروعات من التعبُّد، ونلاحظ هنا أمورًا هامة:
(1) أن العلوم الخادمة للشريعة؛ كالنحو والصرف والفقه وأصول الفقه والتوحيد ونحو ذلك ليست بِدَعًا مُستحدثة في الدين؛ لأنها وإن لم توجَدْ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بهيئاتها الجديدة، فإنَّ أصولها التي انبثقَت عنها موجودةٌ في عموميات الشريعة وكلياتها؛ إذ الأمرُ بإعراب القرآن منقول، وخاصة النحو والصرف وعلوم اللغة كلها؛ لأنها ضالعة في الإعراب وفهم المراد من ألفاظ الكتاب والسنَّة، وهما أصلاَ الدِّين وجوهر الشريعة، وكذلك أصول الفقه تعني استقراء كليات الأدلة ليُحيط بها المُجتهِد، وأصول الدين ومحصلتها تقرير أدلة القرآن والحديث لإفادة التوحيد الخالص وما يتعلق به، وعلم الفقه تقرير لأدلة الأحكام الفرعية، وهو متعلِّق بالاستنباط المطلوب من أهله بنصِّ القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83].
وكل هذا يُمكن أن ينطوي تحت قاعدة المصالح المرسلة (http://www.alukah.net/culture/0/45568/)، وهي تُشبه إلى حدٍّ كبير كَتْب المصحف، وجمع القرآن، مع أنه لم يكن في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام على هذا النمط، ولا على تلك الصورة، ومع ذلك فهو ليس بدعة حقيقية، ومَن سماه بدعة فهو على التجوز لا على الحقيقة، كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قيام الناس في ليالي رمضان في جماعة وعلى إمام واحد وبعشرين ركعة: "بِدعةً"، من حيث إنها لم توجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، وإن كانت من حيث قولُه صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي)) سُنَّةً، لكنها على أي حال لا تُسمَّى سنَّة في الاصطلاح.
(2) أنَّ البدع (http://www.alukah.net/sharia/0/60083) لها وجهُ مماثلة وتَشابُه مع المشروعات، ومع ذلك فهي مضادة لها.
مثل: مَن ينذر لله الصوم قائمًا لا يَقعد، ضاحيًا لا يَستظل، وكمَن يَلتزم نوعًا واحدًا من الملابس؛ كالبيضاء، أو المأكل؛ كاليَقْطين، ويُقاطع بقية الأصناف، ومثل ذلك التزام هيئة محددة للذكر أو العبادة أو التلاوة على أنها جزء من الدِّين، والواقع أن الدين لم يأتِ بها بأشكالها تلك، فأما إذا لم يكن لها شبه ومماثلة بالمشروعات فإنها مِن قَبيل العادات لا البِدَع.
(3) أن البدعة قسمان؛ أفعال، وتروك، فكما يقع الابتداع بما هو فعل وعمل إيجابي، يقع كذلك بما هو ترك وابتعاد؛ لأن ترك الأمور المباحة إن كان لمبرِّر كان جائزًا؛ كترك أكل لحم الجزور في هذه الأيام، فهو مِن الجائز المشروع إذا لم يكن معه قصد تحريم، أما إذا كان معه قصدُ تحريم، أو كان بدون مُبرِّر - فإنَّ هذا التركَ بِدعة، والمبرِّر هنا لترك لحم الجزور في كثير من حواضر الوجه البحري في مصر، هو تفضيل لحْم غيره عليه، من حيث الاستمراء، وتيسُّر النُّضج، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [المائدة: 87]، فنهى أولاً عن تحريم الحلال، ثم أشعر ثانيًا بأن ذلك اعتداء، وأنَّ مَن اعتدى لا يُحبُّه الله.
ثالثًا - أما التقاليد: وهي العادات المتَّبعة بين الناس على طريقة المُواظَبة والاستمساك بحُكم التأثُّر بالبيئة، أو الانسجام مع الناس، أو الخضوع لقواعد العمران والحضارة، أو الانتفاع بآثار التجرِبة الخاصة أو العامة للالتزام ببعض الأمور دون البعض، وكانت طريقةً مُخترَعة في الدنيا وللدنيا، ولا دخلَ فيها لعقيدة دِينية أو إضافة شرعية - فهذه وأمثالها أمورٌ جائزة شرعًا وعقلاً وعُرفًا، وليسَت مِن البِدَع المحظورة في شيء، بل هي من تمام التمتُّع بالطيبات واستعمال العقل للإفادة بما تَحتويه الحياة مِن مضامين مُفيدة، ونتائج مُثمرة، وهي تدخُل تحت قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]، وقد مثل لها الشاطبي في الاعتصام (1: 31) بإحداث الصنائع وإقامة البلدان التي لا عهد بها، وكتابة شتى العلوم.
والعلَّة في إباحة العادات كلها: انتِفاء قصد التعبُّد بها، وعدم إضافتها إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، قولاً أو فعلاً، تقريرًا أو اعتقادًا، ومِن أمثلتها أيضًا كما جاء في صحيفة: 37: المغارم المالية بأقدار مُتفاوتة مما يُشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة، وكذلك اتخاذ المناخل لغربلة الدقيق، وغسل اليد بالأشنان، وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل، فإنها لا تُسمَّى بِدَعًا، وكذلك الأبنية المَشِيدة المختلفة، والتمتُّع بها أبلغ ما يكون التمتُّع بدلاً من الخرائب والحشوش، وقد أباحت الشريعةُ التوسُّعَ في التصرُّفات، ويُمكننا القول أخذًا مما ذكره الشاطبي آنفًا: إن الدِّين هو محور الارتكاز الأهم في الفصل بين المفاهيم الثلاثة، من السنَّة والبِدعة والتقليد، فما نُسب بطريق صحيح أو حسن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتروك والتقريرات، فهو السنَّة التي يُؤجر فاعلها، ويُعاقب تاركها، وما ابتُدِع مِن الأعمال ولم يُضَفْ إلى صاحب الشريعة، ولا اعتُبِر جزءًا من الدِّين، فهو قسمان؛ أحدهما: بدعة محرَّمة إن اعتقد فاعلها أنها من الدين، والدِّين منه بَرَاء، وثانيهما: بدعة حسنة إن حققت الصالحَ العام أو الخاص في إطار من قواعد الشريعة ومبادئها العامة؛ مثل: جمع القرآن في مصحف، وطبعه، وشكله، وتحزيبه، وما يتَّصل بالدين من إقامة دور المؤلفات والمُحاضَرات والمناظرات وتصنيف العلوم والفنون والآداب، والأخذ من الحياة الدنيا بمعالي أمورها، وأحدث أنظمتها؛ لإعزاز الدِّين، وتقوية شوكته، وإشاعة الحضارة والعمران والرخاء بين أهله، فإن استُبعِد اعتبار الدِّين مِن الأفعال والأقوال وتناوَلَها أصحابها على أنها نظام دُنيويٌّ محض لا دخل له بالشريعة، ولا انتساب له بصاحبها، فهذه هي العادات المُباحة التي لا إثم في فعلها ولا في تركها، كما لا ثواب في الأخذ بها أو النأي عنها.
محمد الشرقاوي (http://www.alukah.net/authors/view/home/3393/)
كثيرًا ما يقع الالتباس على كثير من الناس بين مفاهيم السنَّة (http://www.alukah.net/sharia/0/72513) والبدعة (http://www.alukah.net/sharia/0/23261) والتقليد، حتى لَيتحرَّجُ الورِعون منهم من التقاليد خوفًا من أن ترجعهم إلى البِدَع المَحظورة، أو يتهيَّبون بعض السنن حذرًا من الانزلاق إلى هوَّة الابتداع؛ إذ إن الفروق بينها دقيقة بالغة الدقة، قريبة شديدة القرب، لا يتأتَّى إدراك دقائقها وخفايا مضامينها إلا لمن أوتي حظًّا موفورًا من سعة الأفق وغزارة العلم، وعمق النظرة؛ إذ قد يقصد من السلوك على مقتضى البدعة المبالغة في التعبُّد لله تعالى؛ لأن المبتدِع يقوده السرف في فهم العبادة إلى ظنِّ أن ما وضَعه الشارع الحكيم من القوانين المحدَّدة، والحدود المقنَّنة، غير كافٍ في بلوغ أهدافها وإصابة مراميها، فيتدخَّل بفهمه القاصر، وخياله الجامح، إلى أعمال غير مُنضبطة، ومفاهيم بدون حدود، للوصول بأية وسيلة إلى كمال العبادة، التي مِن أجلها خلق الله العوالم، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
هذا فضلاً عمَّا يَعتلِج في الصدور من حب الظهور، والظفَر بالزعامة أو الغنيمة، وما إلى ذلك من أغراض مريضة، وأهداف دُنيا، وفي ذلك يقول الشاطبي في الاعتصام (1: 36): "فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدِّد لها أمر لا تعهده، حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول؛ ولذلك قالوا: (لكل جديد لذَّة)".
وفي حديث العرباض بن سارية الذي أورده النووي في الأربعين وأخرجه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح: وعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجِلت منها القلوب، وذرفَت منها العيون، فقلنا: "يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع فأوصِنا"، فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإن مَن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)).
لذلك أحببت في هذا المقال الموجز أن أضع الفواصل الواضحة بين تلك المفاهيم، وأن أميِّز بعضها عن بعض، مع الاستعانة بضرب الأمثال لكلٍّ منها على حِدَة بالقدر الذي لا يضيق به القارئ، ولا يَختلُّ به المقصود، حتى لا يتحرَّج الناس مِن فعل السنن والعادات، ولا يَنحدِروا إلى اقتراف البدع فعلاً أو تركًا، وسأبدأ ببيان السنَّة:
أولاً - يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقال - جلَّ مِن قائل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]، وقال - جلَّ وعلا -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31].
هذه أقوال صريحة، واضحة لا لَبْس فيها، مستقيمة لا اعوجاج بها، تدلُّ على أن القرآن الكريم دعا إلى العمل بالسنن (http://www.alukah.net/library/0/29356)، والاهتداء بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعماله، وأفعاله، وتركه، ومتى ثبتَت ثبوتًا صحيحًا، وبلغَت بلوغًا واضحًا أصبحَت حجة مُلزمة، وشريعة مُحكمة، وطريقة متَّبعة، والسنَّة في اصطلاح علماء أصول الفقه هي: "ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن، قولاً أو فعلاً أو تقريرًا، من غير الأمور الفِطرية أو ما تَقتضيه عادة البيئة، أو ما يكون من خصائصه، أو ما سها عنه".
ولذلك قسَّم الحنفية السنَّة إلى قسمَين؛ سنة الهدى، وسنَّة الزوائد، فالأولى: ما يُوجِب فعلُها ثوابًا، وتركها كراهة وإساءةً؛ كالجماعة، والأذان والإقامة، والثانية: ما لا توجب ذلك؛ كسُنَنه صلى الله عليه وسلم في لباسه وقيامه وقعوده.
ومثال السنَّة القولية قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرة إلى دنيا يصيبها أو امرأة يَنكِحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
ومثال السنَّة الفعلية: ما وقع منه من أفعال الصلاة، والوضوء، والحدود، ومناسك الحج...
ومثال السنة التقريرية - وهي ما ثبَت بسكوته عن إنكار فعل أو قول صدر من أحد من أمته في حضرته أو غيبته مع عِلمه به وقدرته على الإنكار - حديث: أكل الضَّب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل: ثبوت النسب بالقيافة حين ظهر السرور على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن قال القائف: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وذلك حين طعن المنافقون في نسب أسامة بن زيد؛ لأن أسامة كان شديد السواد، وأباه كان شديد البياض، فوضَعا عليهما غطاءً لم يظهر منه إلا أقدامهما، فقال ما قال.
ويُشترَط فيمَن يَنقُل السنَّة:
الإسلام، والعقل، والعدالة، والضبط، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام مُبلِّغًا عن ربه، ومفتيًا يُبيِّن للناس أحكام ما يسألونه عنه، وقاضيًا يَفصِل في خصوماتهم ويلزمهم بالحقوق، وإمامًا مُتَّبعًا، وقائدًا ومُرشِدًا، ومثلاً أعلى للإنسان الكامل، وقدوة صالحة للأولين والآخرين على السواء، وحسْبُنا في ذلك قوله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 1 - 4].
ثانيًا - أما البدعة (http://www.alukah.net/sharia/0/1803): فهي كل طريقة أُنشئت في الدين على غيرِ مثال سابق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها شبه بالمشروعات، ويُقصَد منها ما يُقصد بالمشروعات من التعبُّد، ونلاحظ هنا أمورًا هامة:
(1) أن العلوم الخادمة للشريعة؛ كالنحو والصرف والفقه وأصول الفقه والتوحيد ونحو ذلك ليست بِدَعًا مُستحدثة في الدين؛ لأنها وإن لم توجَدْ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بهيئاتها الجديدة، فإنَّ أصولها التي انبثقَت عنها موجودةٌ في عموميات الشريعة وكلياتها؛ إذ الأمرُ بإعراب القرآن منقول، وخاصة النحو والصرف وعلوم اللغة كلها؛ لأنها ضالعة في الإعراب وفهم المراد من ألفاظ الكتاب والسنَّة، وهما أصلاَ الدِّين وجوهر الشريعة، وكذلك أصول الفقه تعني استقراء كليات الأدلة ليُحيط بها المُجتهِد، وأصول الدين ومحصلتها تقرير أدلة القرآن والحديث لإفادة التوحيد الخالص وما يتعلق به، وعلم الفقه تقرير لأدلة الأحكام الفرعية، وهو متعلِّق بالاستنباط المطلوب من أهله بنصِّ القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83].
وكل هذا يُمكن أن ينطوي تحت قاعدة المصالح المرسلة (http://www.alukah.net/culture/0/45568/)، وهي تُشبه إلى حدٍّ كبير كَتْب المصحف، وجمع القرآن، مع أنه لم يكن في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام على هذا النمط، ولا على تلك الصورة، ومع ذلك فهو ليس بدعة حقيقية، ومَن سماه بدعة فهو على التجوز لا على الحقيقة، كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قيام الناس في ليالي رمضان في جماعة وعلى إمام واحد وبعشرين ركعة: "بِدعةً"، من حيث إنها لم توجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، وإن كانت من حيث قولُه صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي)) سُنَّةً، لكنها على أي حال لا تُسمَّى سنَّة في الاصطلاح.
(2) أنَّ البدع (http://www.alukah.net/sharia/0/60083) لها وجهُ مماثلة وتَشابُه مع المشروعات، ومع ذلك فهي مضادة لها.
مثل: مَن ينذر لله الصوم قائمًا لا يَقعد، ضاحيًا لا يَستظل، وكمَن يَلتزم نوعًا واحدًا من الملابس؛ كالبيضاء، أو المأكل؛ كاليَقْطين، ويُقاطع بقية الأصناف، ومثل ذلك التزام هيئة محددة للذكر أو العبادة أو التلاوة على أنها جزء من الدِّين، والواقع أن الدين لم يأتِ بها بأشكالها تلك، فأما إذا لم يكن لها شبه ومماثلة بالمشروعات فإنها مِن قَبيل العادات لا البِدَع.
(3) أن البدعة قسمان؛ أفعال، وتروك، فكما يقع الابتداع بما هو فعل وعمل إيجابي، يقع كذلك بما هو ترك وابتعاد؛ لأن ترك الأمور المباحة إن كان لمبرِّر كان جائزًا؛ كترك أكل لحم الجزور في هذه الأيام، فهو مِن الجائز المشروع إذا لم يكن معه قصد تحريم، أما إذا كان معه قصدُ تحريم، أو كان بدون مُبرِّر - فإنَّ هذا التركَ بِدعة، والمبرِّر هنا لترك لحم الجزور في كثير من حواضر الوجه البحري في مصر، هو تفضيل لحْم غيره عليه، من حيث الاستمراء، وتيسُّر النُّضج، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [المائدة: 87]، فنهى أولاً عن تحريم الحلال، ثم أشعر ثانيًا بأن ذلك اعتداء، وأنَّ مَن اعتدى لا يُحبُّه الله.
ثالثًا - أما التقاليد: وهي العادات المتَّبعة بين الناس على طريقة المُواظَبة والاستمساك بحُكم التأثُّر بالبيئة، أو الانسجام مع الناس، أو الخضوع لقواعد العمران والحضارة، أو الانتفاع بآثار التجرِبة الخاصة أو العامة للالتزام ببعض الأمور دون البعض، وكانت طريقةً مُخترَعة في الدنيا وللدنيا، ولا دخلَ فيها لعقيدة دِينية أو إضافة شرعية - فهذه وأمثالها أمورٌ جائزة شرعًا وعقلاً وعُرفًا، وليسَت مِن البِدَع المحظورة في شيء، بل هي من تمام التمتُّع بالطيبات واستعمال العقل للإفادة بما تَحتويه الحياة مِن مضامين مُفيدة، ونتائج مُثمرة، وهي تدخُل تحت قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32]، وقد مثل لها الشاطبي في الاعتصام (1: 31) بإحداث الصنائع وإقامة البلدان التي لا عهد بها، وكتابة شتى العلوم.
والعلَّة في إباحة العادات كلها: انتِفاء قصد التعبُّد بها، وعدم إضافتها إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، قولاً أو فعلاً، تقريرًا أو اعتقادًا، ومِن أمثلتها أيضًا كما جاء في صحيفة: 37: المغارم المالية بأقدار مُتفاوتة مما يُشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة، وكذلك اتخاذ المناخل لغربلة الدقيق، وغسل اليد بالأشنان، وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل، فإنها لا تُسمَّى بِدَعًا، وكذلك الأبنية المَشِيدة المختلفة، والتمتُّع بها أبلغ ما يكون التمتُّع بدلاً من الخرائب والحشوش، وقد أباحت الشريعةُ التوسُّعَ في التصرُّفات، ويُمكننا القول أخذًا مما ذكره الشاطبي آنفًا: إن الدِّين هو محور الارتكاز الأهم في الفصل بين المفاهيم الثلاثة، من السنَّة والبِدعة والتقليد، فما نُسب بطريق صحيح أو حسن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتروك والتقريرات، فهو السنَّة التي يُؤجر فاعلها، ويُعاقب تاركها، وما ابتُدِع مِن الأعمال ولم يُضَفْ إلى صاحب الشريعة، ولا اعتُبِر جزءًا من الدِّين، فهو قسمان؛ أحدهما: بدعة محرَّمة إن اعتقد فاعلها أنها من الدين، والدِّين منه بَرَاء، وثانيهما: بدعة حسنة إن حققت الصالحَ العام أو الخاص في إطار من قواعد الشريعة ومبادئها العامة؛ مثل: جمع القرآن في مصحف، وطبعه، وشكله، وتحزيبه، وما يتَّصل بالدين من إقامة دور المؤلفات والمُحاضَرات والمناظرات وتصنيف العلوم والفنون والآداب، والأخذ من الحياة الدنيا بمعالي أمورها، وأحدث أنظمتها؛ لإعزاز الدِّين، وتقوية شوكته، وإشاعة الحضارة والعمران والرخاء بين أهله، فإن استُبعِد اعتبار الدِّين مِن الأفعال والأقوال وتناوَلَها أصحابها على أنها نظام دُنيويٌّ محض لا دخل له بالشريعة، ولا انتساب له بصاحبها، فهذه هي العادات المُباحة التي لا إثم في فعلها ولا في تركها، كما لا ثواب في الأخذ بها أو النأي عنها.
محمد الشرقاوي (http://www.alukah.net/authors/view/home/3393/)