مشاهدة النسخة كاملة : هل يُعد هذا كفرا؟


abomokhtar
26-12-2014, 11:10 AM
السؤال
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قريبةٌ لي اختلفَتْ مع إحدى الأخَوات اللاَّتي يعمَلْن في مجال الدَّعوة، ووصَل الخِلاف إلى أن قالَتْ قريبتي: "لو كان الإسلامُ لا يُؤخَذ إلاَّ مِن فلانة - أيِ: المختلفة معها - لَمَا أخذتُه"، فهل هذا يعدُّ كفرًا؟ لأَنِّي أُريد نصيحتَها، لكنَّني لا أعرِفُ حُكمَ ما قالت، وقد سمعتُه منها أكثرَ من مرَّة؛ لذا أرجو بيانَ الحكم؛ لأكونَ على بيِّنة في نُصحِها.

وجزاكم الله خيرًا، وباركَ الله في جهودِكم، وفي موقعِكم الرَّائع.


الجواب
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقد حثَّ دينُنا الإسلاميُّ عَلَى حفظِ اللِّسانِ عن النُّطق بِما لا يَسُوغُ شرعًا، ولا حاجةَ للمتكلِّم به؛ ففي "الصَّحيحين" عن أبي هريرة - مرفوعًا -: ((مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخِر، فلْيَقُلْ خيرًا، أو لِيَصمُتْ))، بل حذَّر النبيُّ الكريم مِن كل كلمة سيِّئةٍ يقولها صاحبُها لا يبالي بها، ولا يلتَفِت إلى معناها، ولا يعيها بِقَلبه، ولا يتفكَّر في عاقبَتِها، ولا يَظنُّ أنَّها تُؤثِّر شيئًا؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ العبد ليَتكلَّمُ بالكلمةِ من رِضْوانِ الله لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعُه الله بها درجاتٍ، وإنَّ العبد ليَتكلَّم بالكلمةِ من سَخَطِ الله لا يُلْقِي لَها بالاً، يَهْوِي بِها في جهنَّم))؛ متَّفقٌ عليه عن أبي هريرة، وفي روايةٍ لِمُسلمٍ: أنَّه سَمِع رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ العبد ليتَكلَّم بالكلمة يَنْزلُ بها في النَّار أبعَدَ ما بين المشرِق والمغرب))، وفي روايةٍ - من حديث بلالِ بن الحارث المُزَني الذي رواه مالكٌ وأصحابُ السُّنن وصحَّحه التِّرمذي -: ((إنَّ أحدَكم ليتَكلَّم بالكلمة مِن رضوان الله ما يظنُّ أن تَبْلُغ ما بلغَتْ، يَكْتب اللهُ له بِها رِضْوانَه إلى يوم القيامة)).
بل قد جَعَلَ جزاءَ حِفْظِ اللِّسانِ عن الشرِّ الجنةَ؛ فقال: ((مَن يَضمنْ لي ما بين لَحْيَيْه وما بين رِجْلَيه، أضمَنْ له الجنَّة))؛ متَّفَقٌ عليه عن سَهْلِ بن سعد، وأرشَدَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى هذا جُملةً؛ كما قال لِمُعاذ: ((...ألاَ أُخْبِرك بِمِلاك ذلك كُلِّه))، فقلت له: بلى يا نبِيَّ الله، فأخَذَ بلِسانه، فقال: ((كُفَّ عليك هذا))، فقلتُ: يا رسول الله، وإنَّا لَمُؤاخَذون بِما نتَكلَّم به؟ فقال: ((ثَكِلتْك أمُّك يا مُعاذ، وهل يُكِبُّ الناسَ على وجوههم في النار - أو قال: على مَناخِرهم - إلاَّ حَصائدُ ألسنتهم؟!)).
وكلُّ ذلك؛ لأنَّ من تكلَّم في حال غضَبِه بِما لا يجوز، متَّبِعًا لهواه، وغَضَبًا لِنَفسه، ربَّما أحبط اللهُ عملَه؛ كما روى أبو داود عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كان رَجُلان في بني إسرائيل متآخِيَيْنِ، فكان أحَدُهما يُذْنِب، والآخَرُ مجتهدٌ في العبادة، فكان لا يزال المجتهِدُ يرى الآخر على الذَّنب، فيقول: أقْصِرْ! فوجدَه - يومًا - على ذنبٍ، فقال له: أقْصِرْ! فقال: خَلِّني وربي، أبُعِثْتَ عليَّ رقيبًا؟ فقال: واللهِ لا يَغفِرُ اللهُ لك، أو لا يُدخِلُك الله الجنة، فَقَبَضَ أرواحَهما، فاجتمَعا عند رَبِّ العالَمين، فقال لهذا المجتهد: أكنتَ بي عالِمًا؟! أو كنت عَلَى ما في يدي قادرًا؟! وقال للمذنب: اذهبْ، فادخُل الجنَّة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار))، قال أبو هريرة: "والذى نفسى بيده، لتَكلَّم بكلمٍة أوبقَتْ دنياه وآخرته".
هذا؛ والقولُ المذكور في الاستِشارة وهو: "لو كان الإسلام لا يُؤخذ إلاَّ مِن فلانة، لَمَا أخذتُه"، من الأقوال الكفريَّة بلا شك؛ لأنَّه فيه رغبة عن الإسلام، عند تَحقُّق ما ذكرته، وقد نبَّه العلماء على بعض الألفاظ التي يقولها النَّاس، وتُعَدُّ من الكفر الأكبر.
قال في "كفاية الأَخْيار في حَلِّ غاية الاختصار" (2 / 200): "الرِّدَّة في اللُّغة: الرجوعُ عن الشيء إلى غيره، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ﴾ [المائدة: 21].
وفي الشرع: الرُّجوعُ عن الإسلام إلى الكُفْر، وقَطْعُ الإسلام، ويَحْصُل تارةً بالقول، وتارةً بالفعل، وتارةً بالاعتقاد، وكلُّ واحدٍ من هذه الأنواع الثلاثة، فيه مسائل لا تكادُ تُحصَر، فنَذْكر كلَّ نبذةٍ ما يُعرف بها غيرُه: أمَّا القول: فكما إذا قال شخصٌ عن عدوِّه: لو كان رَبِّي ما عبدتُه، فإنه يكفر، وكذا لو قال: لو كان نبيًّا ما آمنتُ به".

وقال الإمام الذهبي في "الكبائر" (ص: 153):
"فائدة: فيها من كلام النَّاس ما هو كفرٌ صرَّحَتْ به العلماءُ؛ منها: ما لو سَخِرَ باسمٍ من أسماءِ الله، أو بأمره، أو وَعْدِه، أو وعيده، كَفَرَ، ولو قال: لو أمرَنِي اللهُ بكذا، ما فعلتُ، كَفَرَ، ولو صارت القبلةُ في هذه الجهة، ما صلَّيتُ إليها، كَفَرَ، وَلَو قيل لَهُ: لا تتركُ الصَّلاة؛ فَإِن الله يؤاخذُك، فَقَالَ: لَو آخَذني بهَا مَعَ مَا فِيَّ من الْمَرَض والشدة لظلمني، كَفَرَ، وَلَو قَالَ: لَو شهد عِندِي الأَنبِيَاء وَالملائِكَة بِكَذَا، مَا صدَّقتُ، كَفَرَ، وَلَو قيل لَهُ: قلِّم أظافرك؛ فَإِنَّهَا سُنةٌ، فَقَالَ: لا أفعلُ وَإِنْ كَانَت سنةً، كَفَرَ، وَلَو قَالَ: فلان فِي عَيْني كاليهودي، كَفَرَ، وَلَو قَالَ: إِن الله جلس للإنصاف، أَو قَامَ للإنصاف، كَفَرَ، وَجَاء فِي وَجهٍ: مَن قَالَ لمُسلم: لا خَتَمَ الله لَك بِخَير، أَو سلبك الإِيمَان، كَفَرَ، وَجَاء - أَيْضًا - أَنَّ مَن طلب يَمِين إِنسَان، فَأَرَادَ أَن يحلف بِالله، فَقَالَ: أُرِيد أَن تحلف بِالطَّلاق، كَفَرَ.
وَاخْتلفُوا فِيمن قَالَ: رؤيتي لَك كرؤية الْمَوْت، فَقَالَ بَعضهم: يكفُر، وَلَو قالَ: لَو كَانَ فلانٌ نَبيًّا، مَا آمَنتُ بِهِ، كَفَرَ، وَلَو قَالَ: إِن كَانَ مَا قَالَه صدقًا، نجَوْنا، كَفَرَ، وَلَو صلَّى بِغَيْر وُضوء استهزاءً أَو استحلالاً، كَفَرَ، وَلَو تنَازع رجلانِ؛ فَقَالَ أَحدهما: لا حول وَلا قُوَّة إِلاَّ بِالله، فَقالَ لَهُ الآخر: "لا حول وَلا قُوَّة إِلاَّ بِالله" لا تغني من جوع، كَفَرَ، وَلَو سمِع أَذَان الْمُؤَذِّن، فَقَالَ: إِنَّه يكذِبُ، كَفَرَ، وَلَو قَالَ: لا أَخَاف الْقِيَامَة، كَفَرَ، وَلَو وضع مَتَاعه، فَقَالَ: سلَّمته إِلَى الله، فَقَالَ لَهُ رجلٌ: سلمتَه إِلَى من لا يتَّبِع السَّارِق، كَفَرَ، وَلَو جلس رجلٌ على مَكَان مُرْتَفع؛ تَشْبِيهًا بالخطيب، فَسَأَلُوهُ الْمسَائِل - وهم يَضْحَكُونَ - أَو قَالَ أحدهم: قَصْعَة ثريدٍ خيرٌ من الْعلم، كَفَرَ، وَلَو ابتُلي بِمَصائبَ، فَقَالَ: أخذتَ مَالِي وَوَلَدي، وماذا تفعل، كَفَرَ، وَلَو ضرب وَلَده أَو غُلامه، فَقالَ لَهُ رجل: أَلَسْتَ بِمُسلم؟! فَقَالَ: لا؛ مُتَعَمِّدًا، كَفَرَ، وَلَو تمنَّى أَن لا يُحرِّم الله الزِّنَا، أَو الْقَتْل، أَو الظُّلم، كَفَرَ، وَلَو شدَّ على وَسَطِه حبلاً، فَسُئلَ عَنهُ، فَقَالَ: هَذَا زنَّارٌ، فالأكثرون على أَنه يكفُر، وَلَو قَالَ معلِّمُ الصبيان: الْيَهُودُ خيرٌ من الْمُسلمين؛ لأَنهم يُعْطون معلِّمي صبيانِهم، كَفَرَ، وَلَو قَالَ: النَّصرَانِي خيرٌ من الْمَجُوسِيّ، كَفَرَ، وَلَو قيل لرجل: مَا الإِيمَان؟ فَقَالَ: لا أَدْرِي، كَفَرَ، وَمن ذَلِك أَلْفَاظٌ مستكرهَةٌ مستنكرةٌ، وَهِي: لا دينَ لَك، لا إِيمَان لَك، لا يَقِين لَك، أَنت فَاجرٌ، أَنت مُنَافِقٌ، أَنت زنديقٌ، أَنت فَاسقٌ، وَمن ذَا وأشباهه، كُلُّه حرَامٌ، ويُخشَى على العَبْد بِها سَلْب الإِيمَان، وَالْخُلُود فِي النَّار، فنسأل الله المَنَّان بِلُطْفِهِ أَن يتوفَّانا مُسلِمين على الْكتاب وَالسُّنة؛ إِنَّه أرحم الرَّاحمِينَ".
وبِناءً على ما بيَّناه لك، فالواجب عليك القيامُ بالنُّصح لهذه المرأة، وحَثُّها على التوبة النَّصوح، وأَطْلِعيها على تلك الاستِشارة، وسأذكر لك بعضَ أقوال علمائنا؛ لِتَكون مفتاحًا لها للخير، وعِظَة في المستقبل؛ فتحصيلُ الجنَّةِ سَهْلٌ بتصحيحِ القَصْدِ، وفعلِ الطَّاعةِ، والنارُ كذلك بِمُوافَقَةِ الهوى، وفعلِ المَعْصِيَةِ".

قال الحافظ ابنُ حجر في "فَتْح الباري":
"... فَينبَغِي للمَرءِ أنْ لا يَزهَدَ في قليلٍ من الخَيْرِ أن يأتِيَهُ، ولا في قليلٍ من الشرِّ أن يجتَنِبَهُ؛ فإنَّه لا يَعلَمُ الحَسَنةَ التي يَرْحمه الله بها، ولا السيِّئةَ التي يَسخَطُ عليه بها".

وقال ابن بَطَّال في "شرح صحيح البُخاري":
"ما أحقَّ مَن عَلِمَ أنَّ عليه حفظةً موكَّلين به، يُحصُون عليه سقط كلامه، وعثراتِ لسانِه، أن يُحزِنه، ويقلَّ كلامُه فيما لا يعنيه! وما أَحْراه بالسَّعي في أنْ لا يرتفع عنه ما يطولُ عليه ندَمُه؛ من قَوْل الزُّور، والخوض في الباطل، وأن يُجاهد نفْسَه في ذلك، ويستعين بالله، ويستعيذ من شرِّ لسانه! وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيقُلْ خَيرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ))؛ يَعْني: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِر الإيمانَ التامَّ، فإنَّه ستبعَثُه قوَّةُ إيمانِه عَلَى مُحاسبة نفْسِه في الدُّنيا، والصَّمتِ عمَّا يعودُ عليه ندامةً يوم القيامة، وكان الحسَنُ يَقول: ابنَ آدمَ، نَهارُك ضيفُك، فأحسِنْ إليه؛ فإنَّك إنْ أحسَنْتَ إليه، ارتحَلَ يحمَدُك، وإن أسأتَ إليه، ارتحَلَ يذُمُّك".

وقال النوويُّ في "شرح صحيح مسلم" تعليقًا على حديث: ((إنَّ الرَّجُل ليتَكلَّم بالكلمة ما يَتبيَّن ما فيها يَهْوي بها في النَّار)):
"معناه: لا يتدبَّرها ويفكِّر في قبحها، ولا يَخاف ما يترتَّب عليها، وهذا كالكلمة عند السُّلطان وغيره من الوُلاة، وكالكلمة تقذف، أو معناه: كالكلمة التي يترتَّب عليها إضرارُ مُسلِم، ونحو ذلك، وهذا كلُّه حثٌّ على حفظ اللِّسان؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو لِيَصمت))، وينبغي لِمَن أراد النُّطق بكلمة، أو كلام، أن يتدبَّره في نفسه قبل نُطْقِه، فإن ظهرَتْ مصلحتُه، تكلَّم، وإلاَّ أمسَك".