abomokhtar
28-01-2015, 10:07 AM
"المعارج"
موضوع واحد!
تتَّخِذ سورة المعارج شكلاً بديعًا في موضوعها، وعرضه، وطريقة ترتيب المشاهد، والتعليق على الادعاءات وردها بالحجج البينة.
فالسورة التي تتناول موضوعًا واحدًا أجملته المقدمة، وردت عليه الخاتمة، عرضت بين المقدمة والخاتمة الموجزتين عرضًا مطولاً، ولكنه مكوَّن من مشاهد موجزة - في أغلبها - تناسب العرض الموجز لكلٍّ من المقدمة والخاتمة.
استعجال بعذاب واقع:
تبدأ السورة بداية مباشرة بالحدَث الذي تتناوله، خلافًا للأسلوب التكراري التهويلي في سابقتها "سورة الحاقة"، وللأسلوب السردي القصصي في لاحقتها "سورة نوح"، ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ ﴾ [المعارج: 1]، واختصارًا للرد، وتأكيدًا للمسؤول عنه تؤكد السورة حدوث هذا العذاب ووقوعه، فتعبر عنه بالاسمِ الدالِّ على الثبوت والدوام، وكأنه قد كان وخُلِّد الكافرون فيه للأبد ﴿ وَاقِعٍ ﴾، وليس هذا فقط، بل هو ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ [المعارج: 3].
ثم يأتي ذِكر المعارج التي حُرِمها المكذبون ونالها المقربون: (﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ﴾ [الأعراف: 40]، ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10])، وذكر يوم العذاب، وهو يوم طويل ﴿ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4].
ليلتفت الخطاب بعد ذلك التفاتة مزدوجة، ضرب بين مزدوجتيها بسورٍ ليس له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب؛ التفاتة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تأمره بالصبر المؤكد بمصدره "صبرًا"، وبوصفه: "جميلاً"، وإيحاء الالتفاتة للمكذب فيه له من العذاب ما فيه، فكيف يصبر من ينتظره يوم كهذا؟! ثم إن النبي صلى الله عليه ويسلم يسلَّى بكون العذاب قريبًا لهؤلاء ولو حسبوه بعيدًا، "وكلُّ آتٍ قريبٌ"، ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴾ [المعارج: 6، 7]، والكفَّار يهددون بقُرب تحقُّق الوعيد فيهم.
تعريض.. وتبديل:
ثم يأتي عرض بعض مشاهد هذا اليوم المَهُول الذي ينتظر "المجرم"، وهي صفة لنكرة، لكن كل كافر يدرك في قرارةِ نفسه أنه مَعْنيٌّ بها، داخل في معنى الوصف بها، وما عليه إلا أن ينتظر اليوم الموعود: ﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ﴾ [المعارج: 8 - 14]، إنه يومٌ يتغيَّر فيه كل شيء عن طبيعته؛ فالسماء غير السماء، والأرض غير الأرض؛ ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ﴾ [إبراهيم: 48]، وتكون الجبالُ القاسية الصَّلدة كالصُّوف اللين الذي تعبَث به الرياح! وكما تتغير المشهودات تتغير أيضًا النُّفوسُ؛ فـ: ﴿ لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴾ [المعارج: 10]، ﴿ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]، رغم أنه يراه ﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ [المعارج: 11]، ولا يكفي النفوس ذلك تبدلاً وتغيرًا، بل يُضحِّي المجرم بأحبِّ ما كان يحب من أجل سلامة نفسه، وتظهر الأنا في أعلى تجلياتها، وأبرز مظاهرها، ويستفدي بما يملِكُ وما لا يملِكُ! يود.. ولكنها وَدَادةٌ وتمنٍّ لا ينفعان!
لظى تدعو أهلها:
﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ﴾ [المعارج: 15]! إن بعد اليوم المَهُول والحساب الشديد والانتظار القاتل: لَظَى، إن بعدها عذابًا أليمًا مَهُولًا مُخزيًا؛ إنها ﴿ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴾ [المعارج: 16]، ت***ع جِلدة الرأس، أو لحم الجسم وعَظْمَه، أو عصبه، أو كل ذلك...! إنها لظى، فلا فِدية، ولا خُلَّة، ولا شفاعة، والكافرون هم الظالمون.
إنها لا تدعو إلا أهلها، لا تدعو إلا ﴿ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ [المعارج: 17، 18]، أو بمعنى آخر: إنها لا تدعو إلا من هجَر - في الدنيا - دعوةَ الأنبياء فأعرض واستكبر، وبِئْست دعايةُ لَظَى دعايةً، ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴾ [الفرقان: 12]، وشتان بين صورة هذه الدعوة، وصورةِ الداعي الذي رفضوا دعوته: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
هلع.. لولا الإيمانُ والاستقامة:
ثم تذكِّر السورة ببعض صفاتِ الإنسان الفطرية، بسُوء مزاجه، وبُعده عن الاعتدال ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21]، إن في هذه الإتباع مستوًى من ال***** النفسي رهيبًا؛ فحقيقةُ الإنسان الهلَعُ، وعدم الصبر عند الجزع، فكيف يصبِرُ في مثل هذا اليوم، وعلى مِثل هذا العذاب؟!
كأن سائلًا طرح هذا السؤال، فأجيب بأن الصفة ليست عامة على كل الناس، بل هناك صفات مَن تحلى بها لم يتَّصِف بهذا الهلع، أو بعبارة أخرى: كل إنسان "خُلِق هلُوعًا إلا المصلين"، والمُنفِقين، المؤمنين باليوم الآخر، الخائفين من العذاب، (ومقتضى الخوف: العملُ للنجاة من المَخُوف) ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴾ [المعارج: 28]، الحافظين لفروجهم - رغم بُعدِهم عن الرهبانية - المراعين لأماناتهم وعهودِهم في العقائد والأبدان والممتلكات، القائمين بشهادتهم الإيمانية والقضائية، المحافظين على الصِّلة الربانية، وكأن سائلاً سأل بعد هذا العرض لهذه الصفات: أين مصيرُ هؤلاء في هذا اليوم وعند الجزاء؟ فكان الجواب مختصرًا: ﴿ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 35]، ليحيل الذِّهن إلى المقابلة بين ﴿ لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴾ [المعارج: 15، 16]، وبين جنات وإكرام! ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ﴾ [فاطر: 19 - 21].
عمى عن نور الحق:
ثم يعود السياق مرة أخرى من عالَم الآخرة والجزاء إلى عالم الدنيا والتكليف، فيتساءل عن حال مشاهدة، حال الكَفَرة المسرعين في التكتل في وحدات صغيرة "عضين" مختلفة ومتمايزة، ولكنها متَّفقة في الإعراض عن الحق.. أيطمَعُ مِثل هؤلاء المعرِضين في جنات النعيم ودخولها - حتى لمجرد المشاهدة والسياحة؟! كلا...
والبعث حق.. والقادر يستطيعه:
كلا.. فالموضوع يحتاج اختصارًا لا يقومُ له غيرُ القرآن الكريم المنزل من الحكيم الخبير؛ فالبَعْث حق لا مِرية فيه، والدليل: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ [المعارج: 39]، ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [الإنسان: 2]، ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ [يس: 78].
ثم يضرب السياق عن الاستطراد في هذا الحديث ليترك للنفس البشرية السياحة في أصل الخَلْق والمنشأ والنظر في الأنفس: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، ليأتي بالنفيِ المؤكد للنفي السابق "كلا"؛ فـ: "لا" دخول لأيٍّ منهم الجنة إلا بعمل صالح وإيمان يقيني.
وبعد النفي القَسَم من رب الكون المتصرف فيه وحده: ﴿ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ﴾ [المعارج: 40، 41]، وسواء كان المقصود الإبدال الأخروي بمعنى البعث - وهو ما ترشد إليه الصيغة والسياق - أو الإبدال الإكرامي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بمن يتبعه مصدقًا مؤمنًا - وهو ما يشهد له التاريخ والسياق - فكل ذلك في قدرة الله سواء، فلا عجزَ في حق الله أبدًا ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ [المعارج: 41].
تهدئة وتهديد:
ثم يلتفتُ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مخففًا عنه مهوِّنًا عليه من ناحية، وموبخًا الكافرين ومهددًا إياهم بسوء المصير من ناحية أخرى فيقول: ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ [المعارج: 42]، فلن يجني سوءَ فعله غيرُهم، ولن يحصد سوء زرعه سواهم.
يوم العذاب:
ثم تأتي الخاتمة مركَّزة، مرصوصة اللَّبِنات، واضحة المعالم، متناسقة مع العرض، ملتحمة به التحام المقدمة بأوله، ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ [المعارج: 43، 44]، وشتان بين الخائض اللاعب الذي يجد فُسحة في الوقت، ومتنفسًا من المشاغل، وبين الخارج من جَدَثِه ذليلًا منكس العين، مسرعًا إلى حتفه، ساعيًا إليه بظَلْفِه، وقد كان من قبلُ يسأل عنه، فكيف يستعجل ما لا خير له فيه، ويسأل ما فيه هلاكه وعذابه؟!
إنه جمال القرآن، ووحدة موضوعات سوره، وانسكاب عِطرها على صفحات القلوب، ينبت الإجلال والإكبار لهذا النَّظْم البديع الذي لا يستطيع جِنٌّ أن يجاريه، ولا بشر أن يحاكيه، ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
سيد ولد عيسى (http://www.alukah.net/authors/view/home/1303/)
موضوع واحد!
تتَّخِذ سورة المعارج شكلاً بديعًا في موضوعها، وعرضه، وطريقة ترتيب المشاهد، والتعليق على الادعاءات وردها بالحجج البينة.
فالسورة التي تتناول موضوعًا واحدًا أجملته المقدمة، وردت عليه الخاتمة، عرضت بين المقدمة والخاتمة الموجزتين عرضًا مطولاً، ولكنه مكوَّن من مشاهد موجزة - في أغلبها - تناسب العرض الموجز لكلٍّ من المقدمة والخاتمة.
استعجال بعذاب واقع:
تبدأ السورة بداية مباشرة بالحدَث الذي تتناوله، خلافًا للأسلوب التكراري التهويلي في سابقتها "سورة الحاقة"، وللأسلوب السردي القصصي في لاحقتها "سورة نوح"، ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ ﴾ [المعارج: 1]، واختصارًا للرد، وتأكيدًا للمسؤول عنه تؤكد السورة حدوث هذا العذاب ووقوعه، فتعبر عنه بالاسمِ الدالِّ على الثبوت والدوام، وكأنه قد كان وخُلِّد الكافرون فيه للأبد ﴿ وَاقِعٍ ﴾، وليس هذا فقط، بل هو ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ [المعارج: 3].
ثم يأتي ذِكر المعارج التي حُرِمها المكذبون ونالها المقربون: (﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ﴾ [الأعراف: 40]، ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10])، وذكر يوم العذاب، وهو يوم طويل ﴿ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4].
ليلتفت الخطاب بعد ذلك التفاتة مزدوجة، ضرب بين مزدوجتيها بسورٍ ليس له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب؛ التفاتة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تأمره بالصبر المؤكد بمصدره "صبرًا"، وبوصفه: "جميلاً"، وإيحاء الالتفاتة للمكذب فيه له من العذاب ما فيه، فكيف يصبر من ينتظره يوم كهذا؟! ثم إن النبي صلى الله عليه ويسلم يسلَّى بكون العذاب قريبًا لهؤلاء ولو حسبوه بعيدًا، "وكلُّ آتٍ قريبٌ"، ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴾ [المعارج: 6، 7]، والكفَّار يهددون بقُرب تحقُّق الوعيد فيهم.
تعريض.. وتبديل:
ثم يأتي عرض بعض مشاهد هذا اليوم المَهُول الذي ينتظر "المجرم"، وهي صفة لنكرة، لكن كل كافر يدرك في قرارةِ نفسه أنه مَعْنيٌّ بها، داخل في معنى الوصف بها، وما عليه إلا أن ينتظر اليوم الموعود: ﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ﴾ [المعارج: 8 - 14]، إنه يومٌ يتغيَّر فيه كل شيء عن طبيعته؛ فالسماء غير السماء، والأرض غير الأرض؛ ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ﴾ [إبراهيم: 48]، وتكون الجبالُ القاسية الصَّلدة كالصُّوف اللين الذي تعبَث به الرياح! وكما تتغير المشهودات تتغير أيضًا النُّفوسُ؛ فـ: ﴿ لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴾ [المعارج: 10]، ﴿ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]، رغم أنه يراه ﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ [المعارج: 11]، ولا يكفي النفوس ذلك تبدلاً وتغيرًا، بل يُضحِّي المجرم بأحبِّ ما كان يحب من أجل سلامة نفسه، وتظهر الأنا في أعلى تجلياتها، وأبرز مظاهرها، ويستفدي بما يملِكُ وما لا يملِكُ! يود.. ولكنها وَدَادةٌ وتمنٍّ لا ينفعان!
لظى تدعو أهلها:
﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ﴾ [المعارج: 15]! إن بعد اليوم المَهُول والحساب الشديد والانتظار القاتل: لَظَى، إن بعدها عذابًا أليمًا مَهُولًا مُخزيًا؛ إنها ﴿ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴾ [المعارج: 16]، ت***ع جِلدة الرأس، أو لحم الجسم وعَظْمَه، أو عصبه، أو كل ذلك...! إنها لظى، فلا فِدية، ولا خُلَّة، ولا شفاعة، والكافرون هم الظالمون.
إنها لا تدعو إلا أهلها، لا تدعو إلا ﴿ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ [المعارج: 17، 18]، أو بمعنى آخر: إنها لا تدعو إلا من هجَر - في الدنيا - دعوةَ الأنبياء فأعرض واستكبر، وبِئْست دعايةُ لَظَى دعايةً، ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴾ [الفرقان: 12]، وشتان بين صورة هذه الدعوة، وصورةِ الداعي الذي رفضوا دعوته: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
هلع.. لولا الإيمانُ والاستقامة:
ثم تذكِّر السورة ببعض صفاتِ الإنسان الفطرية، بسُوء مزاجه، وبُعده عن الاعتدال ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21]، إن في هذه الإتباع مستوًى من ال***** النفسي رهيبًا؛ فحقيقةُ الإنسان الهلَعُ، وعدم الصبر عند الجزع، فكيف يصبِرُ في مثل هذا اليوم، وعلى مِثل هذا العذاب؟!
كأن سائلًا طرح هذا السؤال، فأجيب بأن الصفة ليست عامة على كل الناس، بل هناك صفات مَن تحلى بها لم يتَّصِف بهذا الهلع، أو بعبارة أخرى: كل إنسان "خُلِق هلُوعًا إلا المصلين"، والمُنفِقين، المؤمنين باليوم الآخر، الخائفين من العذاب، (ومقتضى الخوف: العملُ للنجاة من المَخُوف) ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴾ [المعارج: 28]، الحافظين لفروجهم - رغم بُعدِهم عن الرهبانية - المراعين لأماناتهم وعهودِهم في العقائد والأبدان والممتلكات، القائمين بشهادتهم الإيمانية والقضائية، المحافظين على الصِّلة الربانية، وكأن سائلاً سأل بعد هذا العرض لهذه الصفات: أين مصيرُ هؤلاء في هذا اليوم وعند الجزاء؟ فكان الجواب مختصرًا: ﴿ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 35]، ليحيل الذِّهن إلى المقابلة بين ﴿ لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴾ [المعارج: 15، 16]، وبين جنات وإكرام! ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ﴾ [فاطر: 19 - 21].
عمى عن نور الحق:
ثم يعود السياق مرة أخرى من عالَم الآخرة والجزاء إلى عالم الدنيا والتكليف، فيتساءل عن حال مشاهدة، حال الكَفَرة المسرعين في التكتل في وحدات صغيرة "عضين" مختلفة ومتمايزة، ولكنها متَّفقة في الإعراض عن الحق.. أيطمَعُ مِثل هؤلاء المعرِضين في جنات النعيم ودخولها - حتى لمجرد المشاهدة والسياحة؟! كلا...
والبعث حق.. والقادر يستطيعه:
كلا.. فالموضوع يحتاج اختصارًا لا يقومُ له غيرُ القرآن الكريم المنزل من الحكيم الخبير؛ فالبَعْث حق لا مِرية فيه، والدليل: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ [المعارج: 39]، ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [الإنسان: 2]، ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ [يس: 78].
ثم يضرب السياق عن الاستطراد في هذا الحديث ليترك للنفس البشرية السياحة في أصل الخَلْق والمنشأ والنظر في الأنفس: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، ليأتي بالنفيِ المؤكد للنفي السابق "كلا"؛ فـ: "لا" دخول لأيٍّ منهم الجنة إلا بعمل صالح وإيمان يقيني.
وبعد النفي القَسَم من رب الكون المتصرف فيه وحده: ﴿ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ﴾ [المعارج: 40، 41]، وسواء كان المقصود الإبدال الأخروي بمعنى البعث - وهو ما ترشد إليه الصيغة والسياق - أو الإبدال الإكرامي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بمن يتبعه مصدقًا مؤمنًا - وهو ما يشهد له التاريخ والسياق - فكل ذلك في قدرة الله سواء، فلا عجزَ في حق الله أبدًا ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ [المعارج: 41].
تهدئة وتهديد:
ثم يلتفتُ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مخففًا عنه مهوِّنًا عليه من ناحية، وموبخًا الكافرين ومهددًا إياهم بسوء المصير من ناحية أخرى فيقول: ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ [المعارج: 42]، فلن يجني سوءَ فعله غيرُهم، ولن يحصد سوء زرعه سواهم.
يوم العذاب:
ثم تأتي الخاتمة مركَّزة، مرصوصة اللَّبِنات، واضحة المعالم، متناسقة مع العرض، ملتحمة به التحام المقدمة بأوله، ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ [المعارج: 43، 44]، وشتان بين الخائض اللاعب الذي يجد فُسحة في الوقت، ومتنفسًا من المشاغل، وبين الخارج من جَدَثِه ذليلًا منكس العين، مسرعًا إلى حتفه، ساعيًا إليه بظَلْفِه، وقد كان من قبلُ يسأل عنه، فكيف يستعجل ما لا خير له فيه، ويسأل ما فيه هلاكه وعذابه؟!
إنه جمال القرآن، ووحدة موضوعات سوره، وانسكاب عِطرها على صفحات القلوب، ينبت الإجلال والإكبار لهذا النَّظْم البديع الذي لا يستطيع جِنٌّ أن يجاريه، ولا بشر أن يحاكيه، ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
سيد ولد عيسى (http://www.alukah.net/authors/view/home/1303/)