مشاهدة النسخة كاملة : الملحد ودعواه نسبية الأخلاق


abomokhtar
13-03-2015, 02:08 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد (http://www.alukah.net/sharia/0/37819)، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلاً، ومن الحق باطلاً ومن الباطل حقًّا.


ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهلُ بالدين، وضعفُ العقيدة واليقين، والاسترسالُ في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد، دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصَّل.


وشبهات أهل الإلحاد (http://www.alukah.net/sharia/0/71368) ما هي إلا أقوالٌ بلا دليل، وادعاءات بلا مستنَد، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين، ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد؛ شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم.

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله دعوى يرددها الكثير من الملاحدة (http://www.alukah.net/sharia/0/35802) واللادينيِّين؛ ألا وهي نسبية الأخلاق، وحسَب كلامهم أن الأخلاق أمور اعتبارية نسبية، لا ثبات لها؛ فهي تختلف من شعب إلى شعب، ومن أمة إلى أمة، ومن زمان إلى زمان... فبعض الأمور تعتبر منافية لمكارم الأخلاق عند شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، في حين أنها غير منافية لمكارم الأخلاق عند شعب آخر أو أمة أخرى، وبعض الأمور كانت في زمان مضى أمورًا منافية لمكارم الأخلاق، ثم صارت بعد ذلك أمورًا غير منافية لها؛ وهذا يدل على أن الأخلاق مفاهيمُ اعتبارية تتواضع عليها الأمم والشعوب، وليس لها ثبات في حقيقتها، وليس لمقاييسها ثبات.


ويقول بعض الملاحدة واللادينيِّين: من المستحيل أن تعمَّم على جميع البشر، نعم قد يتَّفق مجموعة من الأشخاص على مفاهيمَ أخلاقية معينة، ولكن هذا لا يعني أن التعميم في الأخلاق مستساغ من قِبل جميع الناس؛ لأنه بكل بساطة عادات الناس وطبائعهم مختلفة بعضها عن بعض... فماذا نقول عن بعض المجتمعات التي من عادتها في استقبال الضيوف جلوسُ الضيف على حضن المستضيف كنوع من التكريم أو التعبير عن المحبة، ونجد أن هناك عاداتٍ غربيةً قد يستهجنها الشرقيون، وهذا أمر طبيعي، ونستطيع أن نطلق إذًا صفة النسبية على الأخلاق.


ويقول بعضهم: كل الأخلاق أخلاق نسبية، قد تكون صحيحة هنا وخطأً هناك.


ويقول بعضهم: الأخلاق مبنية على المنفعة، ومنفعة الإنسان هي بالطبع السعادة أو البعد عن الألم على أقلِّ تقدير، ولهذه السعادة متطلبات تختلف من مجتمع لآخر بناءً على اختلاف الاحتياجات والخبرات والثقافات، وبالتالي تصبح الأخلاق على إطلاقها نسبية، ولكن تقوم بدور في غاية الأهمية؛ لأنها تضع القوانين التي يستطيع أفراد المجتمع أن يحققوا بها سعادتهم من خلال البناء الاجتماعي، وبدون القلق من تعرُّض أمانهم للاعتداء من الآخرين.


ومن هنا تتطور الأخلاق، فكل ما يَهدم هذا البناء الاجتماعيَّ ويجعل الفردَ في حالة انعدام للأمان هو لا أخلاقي؛ لأنه يعود بالإنسان (ولو في لحظة) إلى حالة العشوائية وقانون الغاب، الذي هجَره الإنسان ليصل إلى ما هو أفضل منذ أزمان بعيدة.


ويقول بعضهم: لما كان لكلِّ ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن المرغوب فيه يَختلف - تبعًا لذلك - من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة.


ويقول بعضهم: المبادئ الأخلاقية نسبية ومتغيرة ومتطورة؛ لأنها ترتبط بعجلة التطور الاجتماعي، وتخضع لتأثير العوامل الاقتصادية والدينية، والثقافية والتاريخية، وهذه كلها متطورة ومتغيرة من عصر إلى عصر، وعليه تتطور الأخلاق بتطور هذه المؤثرات.


ويقول بعضهم: إن الخير والشر والمرغوب فيه أو غير مرغوب فيه هو ما تُقرِّر الثقافة (والثقافة وحدَها هي الحكَم) أنه كذلك، فالحربُ والأخذ بالثأر، و***ُ أسرى الحرب، واحتكار الأقلية لأرض، والديكتاتورية... كل هذه أمور تكون مرغوبًا فيها وذات قيمة إذا قرَّرت الثقافة ذلك، فالقيم إذًا نسبية إلى طبيعة الإنسان، كما تتضح هذه الطبيعة في فعله وتفاعله الاجتماعي والثقافي.

وقبل الرد على هذه الدعاوي؛ لا بد من بيان مفهوم الأخلاق، ومفهوم النسبية الأخلاقية.

مفهوم الأخلاق
الأخلاق مفرد كلمة خُلق، والخلق عبارة عن هيئةٍ للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويُسر من غير حاجة إلى فِكر وروية؛ فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سُمِّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقًا سيئًا، وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن مَن يصدر منه بذلُ المال على النُّدور بحالة عارضة، لا يقال: خُلقه السخاء؛ ما لم يَثبُت ذلك في نفسه[1].


والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسَن عن الغريزة؛ فالأكل مثلاً غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة، وليس مما يُمدح به أو يذم، لكن لو أنَّ إنسانًا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا؛ لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة.


كذلك فإن مسألة حبِّ البقاء ليست محلاًّ للمدح أو الذَّم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثرٌ لخلق في النفس مذموم، وهو الجُبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهوُّر، فهو أثرٌ لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة.


وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تَدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميِّزها عن الأخلاق كونُ آثارها في السلوك أمورًا طبيعية، ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تُذم[2].

والخُلُق منه ما هو طبيعي؛ أي: فطري، يولد الإنسان مجبولاً عليه؛ كالحِلم والتؤدة والحياء، ومنه ما هو مكتسَب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة؛ كالشجاعة والكرم.

مفهوم نسبية الأخلاق
نسبية الأخلاق تَعني أن الأخلاق تتغير بتغير الزمان والمكان، والثقافة والأشخاص والمجتمع، فلا توجد أخلاق مطلَقة، وعليه فليس هناك صواب وخطأ أخلاقي؛ فقد يكون السلوك الأخلاقي محرمًا عند شخص، ولكنه محلل ‏عند شخص آخر، وقد يكون السلوك محمودًا عند شخص ولكنه مذموم عند شخص آخر، وقد يكون الفعل من قبيل الرحمة عند شخص، وعند شخص آخر من قبيل القسوة، وقد يكون السلوك محمودًا في مجتمع، ولكنه مذموم في مجتمع آخر.

مخالفة القول بنسبية الأخلاق للواقع
إن القول بنسبية الأخلاق يخالف الواقع ؛ إذ توجد مجموعة من الأخلاق تفرض نفسها على الجميع فرضًا، فيوجد سلوكيات مستهجنة عند جميع المجتمعات؛ كالسرقة والكذب، والغدر والخيانة والبخل، ويوجد سلوكيات مستحسنة عند جميع المجتمعات؛ كالصدق والعدل، والأمانة والوفاء والكرم.

ومن المستحيل أن يكون الصدق فضيلة عند مجتمع معيَّن، ويكون رذيلة عند مجتمع آخر، ومن المستحيل أن يكون العدل فضيلة عند مجتمع معين، ويكون رذيلة عند مجتمع آخر، ومن المستحيل أن يكون الوفاء فضيلة عند مجتمع معين، ويكون رذيلة عند مجتمع آخر، ومن المستحيل أن يكون الصدق فضيلة في زمن معيَّن ويكون رذيلة في زمن آخر.

مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر
مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر؛ فليس لدينا مقياسٌ نفرِّق به بين الخير والشر، وليس لدينا معيارٌ نَحكم به أن هذا الخلق خير وهذا الخلق شر، وليس لدينا قيمٌ أخلاقية ثابتة مطلقة يمكن أن نحتكم إليها، وتجعل بوُسعنا الحكم والتمييز بين ما هو خير من الخلق وما هو شر، وإذا كان مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر - وهذا أمر باطل - فالقول بنسبية الأخلاق قول باطل؛ لأنَّ ما يلزم منه اللازم الباطلُ فهو باطل لا اعتبار له.


ونحن في الكثير من الأحيان نستطيع التَّمييز بسهولة بين ما هو خير وما هو شرٌّ، وإن كان في أحيان أخرى - لمؤثرات معينة - قد يلتبس علينا الأمر فنظن أن الشيء فيه خيرٌ وهو شر، أو نظن أن الشيء فيه شرٌّ وهو خير، وتمييزنا في كثير من الأحيان بين ما هو خير وما هو شر يدل أن لدينا معاييرَ نَحكم بها على أن هذا الخلق خير وهذا الخلق شر، وهذا يُناقض القول بنسبية الأخلاق.

ومن مساوئ القول بالنسبية الأخلاقية أنها تُساوي بين *** عشرات الناس وبين إطعام عشرات الناس؛ فعلى النسبية الأخلاقية ***ُ عشرات الناس لا خير فيه ولا شر، وإطعام عشرات الناس لا خير فيه ولا شر!


ومِن مساوئ القول بالنسبية الأخلاقية أنها تساوي بين ******ِ فتاة وبين إنقاذ فتاة من خطر معين؛ فعلى النسبية الأخلاقية ****** فتاة لا خير فيه ولا شر، وإنقاذ فتاة من خطر معين لا خير فيه ولا شر!

مع القول بنسبية الأخلاق تُلغى الأخلاق
مع القول بنسبية الأخلاق تُلغى الأخلاق؛ فما هو حسن عند شخص يكون قبيحًا عند آخر، وما هو مستحسن في مجتمع يكون مستقبحًا في مجتمع آخر، وما هو خلق رفيع في زمان يكون خلقًا وضيعًا في زمان آخر، وبالتالي تختفي مع النسبية أيُّ معاييرَ أخلاقية؛ لأن المبدأ ‏الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود، وعليه فالدعوة إلى النسبية الأخلاقية دعوة إلى التحرر من القيم الأخلاقية، ودعوة إلى إلغاء القيم الأخلاقية.

وكيف نحكم على سلوك أنه (موافق للأخلاق) إذا لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها؟


وكيف نحكم على سلوك أنه (مخالف للأخلاق) إذا لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها؟
وكيف نحكم أن ال*** مخالف للأخلاق إذا لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها؟ وكيف نحكم أن الغَدر مخالف للأخلاق إذا لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها؟ وكيف نحكم أن الظلم مخالف للأخلاق إذا لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها؟ وكيف نحكم أن الغش مخالف للأخلاق إذا لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها؟ وكيف نحكم أن ال****** مخالف للأخلاق إذا لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها؟

القول بنسبية الأخلاق يهدم المسؤولية الأخلاقية
لو كانت الأخلاق نسبية فستفقد قوتها الإلزامية؛ إذ لا معنى للخير والشر، ولا معنى للثواب والعقاب، ولا معنى للمدح والذم - في وجود النسبية الأخلاقية، وكيف يَلتزم الإنسان بقيم خلقية يؤمن بأنها متغيرة ونسبيَّة؟! وكيف يشين المجتمع سلوكًا معينًا لشخص إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟ وكيف يشيد المجتمع بسلوك معين لشخص إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟ وعليه فالقول بنسبية الأخلاق يُفقِد الأخلاق قوتها الإلزامية، وبالتالي يهدم وينكر مسؤولية الفرد الأخلاقية، وإنكار مسؤولية الفرد الأخلاقية مخالف للواقع.


وكيف للناس تجريم ال*** إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟ وكيف للناس تجريم ال****** إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟ وكيف للناس تجريم الغش إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟


وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الأمين إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الشجاع إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص المصلح إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص المخلص إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الشهم إذا لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها؟

ولو كانت الأخلاق نسبية لما جُرِّم القاتل؛ إذ له أن يحتج بأنه تصرَّف وَفق رأيه الشخصيِّ ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة، ولو كانت الأخلاق نسبية لما جُرم المغتصِب؛ إذ له أن يحتج بأنه تصرف وفق رأيه الشخصي ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة، ولو كانت الأخلاق نسبية لما وَجد الكثير من الناس حرَجًا في التحلي برذائل الأخلاق!


ومن هنا ندرك أن الدعوة إلى نسبية الأخلاق دعوةٌ إلى الانحراف الأخلاقي، ودعوةٌ إلى اقتراف الجرائم والأخلاق الشائنة؛ إذ مع نسبية الأخلاق لا معنى للعقاب ولا معنى للذم ولا معنى للتجريم.

الناس أنفسهم يعملون بخلاف القول بنسبية الأخلاق
الناس أنفسهم يعمَلون بخلاف القول بنسبية الأخلاق؛ فتجد الواحد من الناس يحكم على بعض السلوكيات أنها منافية للأخلاق؛ مثل زنى المحارم، والسباب، والفساد في الأرض؛ مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة، ومن خلال مُطلقيَّتها حَكَم الشخص على بعض السلوكيات أنها منافية للأخلاق.


والواحد من الناس يحكم على بعض سلوكيات الأفراد أنها حميدة؛ مثل الشجاعة والشهامة والكرم؛ مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة، ومن خلال مطلقيتها حكم الشخص على بعض السلوكيات أنها حميدة.


وهناك سلوكيات - كالبخل والجشع والسباب - يذمها جميع الناس إلا النَّزر اليسير؛ مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة، ومن خلال مطلقيتها حكَم الشخص على بعض السلوكيات أنها مذمومة.


والناس تمدح الشخص ذا الأخلاق الحسنة، وتذم الشخص ذا الأخلاق السيئة، ولو كانت الأخلاق نسبية لما كان للمدح أو الذم معنى.


وأي دولة من الدول تجرِّم بعض السلوكيات من الأفراد، وتعاقب على فعل بعض السلوكيات، وأي مجتمع من المجتمعات يجرم بعض السلوكيات من الأفراد، ويعاقب على فعل بعض السلوكيات؛ مثل الخيانة والاعتداء والفساد، ولو كانت الأخلاق نسبية لما كان للتجريم أو العقاب معنى.

بعض ملامح المجتمع الذي يَسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق
المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمعٌ لا يأمَنُ الناسُ فيه على أنفسِهم ولا أموالهِم ولا أعراضِهم، وكفى بذلك سببًا في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واضطراب حياةِ الناس؛ إذ كل شخص يفعل ما يريد وفق رأيه الشخصي ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة!


المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمعٌ لا سعادة فيه ولا أمن ولا استقرار؛ إذ كيف تتأتَّى السعادة وكيف يأتي الأمن والاستقرار إذا لم يكن هناك أخلاق حميدة يمارسها الفرد، ويتوقَّعها من الآخرين حوله؟!


المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا يشجِّع على فضيلة، ولا يُبَغِّض في رذيلة! فيقلُّ فيه فعل الفضائل، ويكثر فيه فعل الرذائل.


المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمعٌ لا قيمة فيه للعفة والطهر، فيكثر فيه الزنى وإتيان الفواحش.


المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع يصبح الإنسان فيه كالحيوان؛ فكما أن سلوكيات الحيوان لا تمدح ولا تذم، فكذلك إنسان المجتمع النسبي الأخلاق سلوكياته لا تمدح ولا تذم.


المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع ضعيف مفكَّك؛ لكثرة النزاع والصراع فيه، ولا وجود لقيم ثابتة يحتكم إليها الناس فتفض النزاع.

القائل بنسبية الأخلاق يناقض نفسه

نجد الكثير من القائلين بنسبية الأخلاق يُناقضون أنفسهم؛ فمنهم من يستقبح الظلم ويستحسن العدل، ويحب الخير ويكره الشر، وهذا يخالف مذهبه بنسبية الأخلاق؛ إذِ استقباح الظلم واستحسان العدل، وحبُّ الخير وكراهة الشر دليلٌ على وجود أخلاق مطلقة.


ومنهم - إن لم نقل: كلهم - من يقابل الظلم في حقه بالانتقام، فلِمَ يقابل الظلم في حقه بالانتقام، والظلمُ عنده نسبي؛ فما يراه ظلمًا قد يراه غيره عدلاً؟!


ومنهم - إن لم نقل: كلهم - من يعاقب ابنه على فعل سلوك غير أخلاقي؛ كالكذب، ويمدح ابنه على فعل سلوك أخلاقي؛ كالصدق، فلِم يعاقب ابنه على الكذب ويمدح ابنه على الصدق، ولا معنى للعقاب ولا معنى للمدح في إطار نسبية الأخلاق؟!

المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة وغيرهم من المضللين لتسويغ القول بنسبية الأخلاق
بعد أن بينَّا أن القول بنسبية الأخلاق قولٌ باطل يخالف الواقع، ويَستلزم لوازمَ باطلة، ويعمل الناس بخلافه، حتى من يعتقد به قد لا يعمل به - حريٌّ بنا أن نبين المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة وغيرهم إلى تسويغ القول بنسبية الأخلاق؛ من كلام الشيخ عبدالرحمن الميداني رحمه الله؛ فقد بيَّن وأجاد وأفاد، وذكر أن المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة وغيرهم إلى تسويغ القول بنسبية الأخلاق كالتالي:
• مدُّ عُنوان الأخلاق مدًّا يشمل التقاليد والعادات والآداب، وبعضَ الأحكام الدينية التي لا علاقة لها بموضوع الأخلاق من حيث ذاتُها.


• مفاهيمُ بعض الناس للأخلاق ولأسُسِها، مع أنها مفاهيمُ غير صحيحة.


• اضطراب الفكر الفلسفي في تحديد المبادئ التي يَرجع إليها الأخلاق؛ كالقوة والمنفعة واللذة، وغيرها.


ومن التعميم الفاسد الذي يُطلقونه ويقررونه، ومن مفاهيم بعض الناس غير الصحيحة للأخلاق، ومن اضطراب الفكر الفلسفي في تحديده للمبادئ التي ترجع إليها الأخلاق - يجد المُضلِّون أمامهم مجالاً مُهَيَّأً لاستغلال أمثلة تدخل في هذه الأُطر العامة الموسَّعة بالباطل، وهذه الأمثلة تخضع للتغيُّر والتبدُّل، ولا تظهر فيها قِيمٌ خلقيَّة ثابتة؛ لأنها في الحقيقة ليست من الأخلاق، وإنما دُسَّت في الأخلاق؛ تزييفًا لنقض الأخلاق بها.


واللعبة تتم على الوجه التالي:
• هذه أمثلة من مفردات الأخلاق التي يؤمن بها الأخلاقيون.
• هذه الأمثلة تخضع للتغيُّر والتبدُّل، فليس لها قيم ثابتة.
• إذًا فالأخلاق كلها أمور ذات مفاهيمَ متغيرة متبدلة.
• إذًا فالأخلاق كلها ليس لها قيم ثابتة.
• إذًا فالأخلاق أمور اعتبارية، أو نسبية.

وبلُعبة المغالطة هذه يسهل على مدمِّري الأخلاق في المجتمعات الإنسانية إفسادُ الأجيال، حتى تتمرد على جميع الضوابط الخلقية، التي تُمثِّل في الأمم قوًى مترابطة متماسِكة، وعناصر الدفع لارتقائها الإنساني، وشروط المحافظة على أمجادها الموروثة والمتجددة بأعمالها.

شرح وتحليل:
مَنشَأ المشكلة يرجع إلى الخطأ في تحديد مفهوم الأخلاق، وتحديد دوافعها وغاياتها، وتحديد مستوياتها، من قِبَل كثير من الناس، وفيهم كثيرٌ من الباحثين في علم الأخلاق، من فلاسفة ومفكِّرين.


وهذا هو الذي يفتح الثُّغرة الفكرية التي يَعبُر منها الخبثاء الماكرون، ليهدموا الأبنية الأخلاقية الحصينة التي تتمتَّع بها الشعوب العريقة بأمجادها، لا سيما المسلمون الذين سبق أن رفعَتهم الأخلاق العظيمة إلى قمة مجدٍ لم يطاولهم فيها أحد.


وحين يتبصر الباحث بالأسس الأخلاقية، التي تم فيها تحديد مستوياتها، وفقَ المفاهيم المقتبَسة من التعاليم الإسلامية، يتبيَّن له بوضوح تساقُطُ أقوال الذين يزعمون أن الأخلاق اعتبارية أو نسبية، وأنها من الأمور التي تتواضع عليها الأمم، وأنها ليست ذاتَ قيم حقيقية، أو حقائق ثابتة.


فالباحث المتحرِّي للحقيقة يستطيع أن يكتشف بسرعة عناصرَ المغالطة التي يصطنعها هؤلاء المضللون؛ إذ يأتون بأمثلة جزئيَّة يزعُمون أنها من الأخلاق، ثمَّ يُثبتون أنها أمور اعتبارية أو نسبية تتواضع عليها الأمم، وليس لها حقائقُ ثابتة في ذاتها، ثمَّ يَنقُضون بها ثباتَ الأخلاق نقضًا كليًّا، بطريقة تعميمية لا يَقبل بها العلم، حتى على افتراض أن هذه الأمثلة هي من الأخلاق فعلاً؛ لأنه لا يجوز عِلميًّا الحكمُ على النوع كله من خلال الحكم على بعض أفراده، ما لم يثبت أن سائر الأفراد مشتركة بمثل الصفة التي كانت علَّة صدور الحكم على بعض الأفراد.


إن مغالطتهم هذه تشبه مغالطةَ من يأتي بمجموعة من القرود، ويُلبِسها لباسَ بني آدم، ويدخلها بين مجموعاتهم ثمَّ يقول: إن الناس جميعهم لهم صفاتُ القرود؛ بدليل أن هذا الإنسان - ويشير إلى بعض قروده - له صفات القرود، بدليل أن هذا الإنسان - ويشير إلى فرد آخر من هذه المجموعة المزيفة - له صفات القرود... وهكذا يأتي بأمثلة متعددة من هذا العنصر الدَّخيل، ثمَّ يُصدر حكمه التعميميَّ في مغالطة أخرى، فيقول: ومن هنا يتبيَّن لنا أن جميع الناس لهم صفات القرود.


إن هذه العملية قد تضمَّنَت مغالطة مركَّبة، تمت على مرحلتين:
المرحلة الأولى: إدخال عنصر ليس من البشر تحت عنوان البشر.
المرحلة الثانية: تعميم الحكم الذي يَصدر على هذا العنصر الدخيل، وجعله شاملاً للناس جميعًا.

وهذا مثال مطابق تمامًا لمغالطتهم في موضوع الأخلاق؛ فهي أيضًا تشتمل على إدخال ما ليس من أفراد الأخلاق تحت عنوان الأخلاق، ثمَّ تعميمهم حكمهم على هذه الأفراد الدخيلة، وجعله شاملاً لجميع أفراد الأخلاق الحقيقية.

نماذج من الأمثلة التي يدخلونها في الأخلاق وهي ليست منها:
فمن الأمثلة الجزئية التي يُدخلونها في الأخلاق وليست منها، وغرَضُهم من ذلك التمهيد لنقض الأخلاق بها، ما يلي:
1- يقولون: إن أكل لحم الميتة أمرٌ لا يُعتبر منافيًا للأخلاق عند بعض القبائل، بينما يعتبر منافيًا للأخلاق عند الذين لا يأكلون لحم الميتة، حتى حين تأكل بعض القبائل مَوتاها من الناس فإن لها في ذلك مبرِّراتِها الاقتصادية؛ إذ ترى أن انتفاعها بلحوم موتاها خيرٌ من تركها للدود، وخير من دفنها في التراب، وتركها تتعفَّن وتتفسخ وتتحلل!


وهذا يدل على أن الأخلاق أمور اعتبارية ونسبية، وليس لها قيم حقيقية ثابتة، وهي قابلة للتغير والتبدل من زمان إلى زمان، ومن أمة إلى أمة.

2- ويقولون: إن بعض الأمم تحرِّم شرب بعض أنواع من الأشربة، كالخمور، وتعتبر شربها عملاً منافيًا للأخلاق، بينما ترى أمم أخرى أنه لا شيء في شربها.

3- ويقولون: إن بروز المرأة بزينتها، وتعرِّيَها من ثيابها، وعَرْضها مفاتنها للرجال الأجانب، أمرٌ لا يعتبر منافيًا للأخلاق عند كثير من الشعوب، بينما يعتبر عند شعوب أخرى من الرذائل الخلقية.


ويأتون بمثال تعدد الزوجات وإباحته عند أمَّة وتحريمه عند أمة أخرى.

4- ويقولون: إن عدم مراعاة الأنظمة المتَّبعة في الطعام والشراب واللباس عند بعض الأمم، يعتبر من الأمور المستنكَرة جدًّا، والمنافية للأخلاق، بينما ترى أممٌ أخرى خلاف ذلك؛ إذ ترى أن ترك الإنسان حرًّا يتصرف كما يحلو له في طعامه وشرابه ولباسه هو الفضيلة الخلقية.


ويأتون بأمثلة الطقوس في البلاد الأقيانوسية، ومنها تحريمهم الطعام تحت سقف، والمكث في المسكن إذا كان الإنسان مريضًا، وتحريمهم استعمال الأيدي في تناول الطعام بعد فراغ الإنسان من حَلق شعره، أو بعد فراغه من صُنع زورق...


وهكذا يوردون أمثلة هي من العادات والتقاليد الاجتماعية، أو من الظواهر الجمالية، أو من الأحكام الدينية لدين صحيح، أو لدين وضعيٍّ من وضع البشر.

قالوا: وكل هذا يدل على أن الأخلاق أمور اعتبارية ونسبيَّة، وليست لها قيمٌ حقيقية مطلقة ثابتة، وهي قابلة للتغير والتبدل من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى، ومن أمة إلى أمة أخرى.


وحين يورد المضلون مثلَ هذه الأمثلة الجزئية، لا يعرِّجون على أخلاق الصدق، والعدل، والأمانة، والوفاء بالعهد والوعد، والكرم، والشجاعة وأمثالها، ولا يَذكرون الرذائل الخلقية المضادة لها، كالكذب، والجَور، والظلم، والخيانة، والغدر، والشح، والجبن في المواطن التي تَحسن فيها الشجاعة، وأمثالها.

المناقشة:
لدى تحليل الأمثلة التي يَذكرونها لنقض الأخلاق بها، يلاحِظ الباحث الفاحصُ أنها ليست في الحقيقة من فروع الأخلاق، وإنما تَرجع إلى أصول أخرى.


فالمنع من أكل لحم الميتة مثلاً، أو شرب الخمور يرجع إلى أنه حكم دينيٌّ؛ لابتلاء إرادة الإنسان في الحياة الدنيا، وهو من ناحية أخرى حكم تقتضيه موجبات الحماية الصحية.


فإدخاله في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها، غلطٌ فكري، أو مغالطة وتزييف.


وحجاب المرأة وإلزامها بالحشمة، وعدم عَرض زينتها ومفاتن جسمها للرجال الأجانب، حكمٌ ديني؛ لابتلاء إرادة الإنسان في الحياة الدنيا، وهو أيضًا أمر اقتضَته قاعدة سدِّ الذرائع، فهو يساعد على درء الفتنة، وحماية المجتمع من أن تنتشر فيه الفاحشة، التي يتولد عن انتشارها اختلاط الأنساب، وتفكُّك الأسر، وانهيار المجتمعات.


فإدخال هذا الموضوع في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها غلطٌ فكري، أو مغالطة وتزييف.


وتعدد الزوجات حكم ديني روعِيَت فيه مصالحُ إنسانية لا دخل له في الأخلاق.


ومراعاة الأنظمة المتبَعة عند بعض الأمم في الطعام والشراب واللباس، أمرٌ من الآداب الجمالية الحضارية لديهم، وليس فرعًا من فروع الأخلاق.


فإدخاله في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها غلط فكري، أو مغالطة وتزييف.

أليس عجيبًا أن يُدخلوا مثل هذه الأمثلة في باب الأخلاق، مع أنها في جوهرها من أبوابٍ غير باب الأخلاق؟! فهي إما أحكام دينية، أو طقوسٌ وعادات وتقاليد، وإدخالها في باب الأخلاق مغالطة.

ولسَتْر مغالطتهم التي يُدخلون بها في الأخلاق ما ليس منها - تمهيدًا لنسف الأخلاق من جذورها - يعتمدون على مفاهيم بعض الناس الخاطئة للأخلاق؛ إذ يعتبرون أن هذه المفاهيم جزء من حقيقة الأخلاق.


مع أن مفاهيم الناس قد تَصدق وقد تكذب، فهي لا تمثل جزءًا من حقيقة الشيء الذي هو موضوع البحث، وإنما تمثل مقدارَ إدراك أصحابها لحقيقة الشيء، وهذا الإدراك قد يكون مطابقًا لحقيقة الشيء، وقد يكون مخالفًا لها، وقد يكون كاملاً وقد يكون ناقصًا، وهو لا يؤثر بحالٍ من الأحوال على حقيقة الشيء.


لقد كان للفلاسفة القدماء مفاهيمُ عن السماء، وهذه المفاهيم مخالفةٌ لواقع حال السماء، ومع ذلك فإن أيَّ ذي عقل سليم لا يَقبل اعتبار هذه المفاهيم جزءًا من حقيقة السماء.


وللناس مفاهيمُ كثيرة باطلة عن الخالق، ولا يجوز مطلقًا أن تكون هذه المفاهيم جزءًا من حقيقة الخالق.


وينكر كرويةَ الأرض منكِرون، ولكن مفاهيمهم هذه لا يمكن أن تجعل الأرض في واقع حالها غير كروية.


على مثل هذا الغلط الفكري يُدخل كثيرٌ من الناس في الأخلاق ما ليس من الأخلاق؛ كتقاليد، وعادات، وأحكام وضعيَّة ليس لها أسسٌ ولا جذور تجعلها نابعة من الأسس الخلقية، أو منبثقة عنها.


كذلك يجحد كثيرٌ من الناس بعض ما هو من الأخلاق فعلاً، فيزعم أنه لا داعي للتقيد بقواعد الأخلاق فيها.


فهل يؤثر هؤلاء أو هؤلاء على الحقيقة المطلقة للأخلاق؟
إن مفاهيم الناس ليست هي التي تصنع الحقائق، بل وظيفتها أن تَعمل على إدراك الحقائق، حتى تكون صورة الحقائق فيها مطابقةً لما هي عليه في الواقع.


وما قيمة مفاهيم الناس حول حقيقة من الحقائق؟
ولنفرض أنَّ بعض الناس استحسنوا رذائل الأخلاق، ولم يجدوا أيَّ رادع من ضمائرهم يردعهم عنها، فمارسوا الظلم بمثل الجُرأة التي يمارسون بها العدل، ومارسوا الخيانة بمثل الجُرأة التي يمارسونها بها الأمانة، ومارسوا قسوة القلب بمثل الجرأة التي يمارسون بها الشفقة والرحمة، ومارسوا الكذب الضارَّ بمثل الجرأة التي يمارسون بها الصدق النافع، أفيغيِّر ذلك واقع حال الرذائل فيجعلها من قبيل الفضائل؟!

كم نشاهد من شعوب تألَفُ القذارات، وتعيش فيها، ولا تشعر بأنها تعمل عملاً غير مستحسَن أو غير جميل، فهل تغيِّر مفاهيمُهم من واقع حال القذارة القبيح شيئًا؟!


إن فساد مفاهيم الناس حول حقيقة من حقائق المعرفة لا يغير من واقع حال هذه الحقيقة شيئًا، وجميع حقائق المعرفة تتعرض لمشكلة فسادِ مفاهيم الناس عنها، وفساد تصور الناس لها.

ويوجد سبب آخر للخطأ الذي يقع فيه الباحثون في علم الأخلاق؛ هو اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلُها المقياسَ الوحيد الذي تُقاس به الأخلاق، ونسبوا إلى هذا المقياس العِصمةَ عن الخطأ، مع أنه مقياس غير كافٍ وحده؛ فقد يخطئ، وقد يُصابُ عند بعض الناس بعلةٍ من العلل المرَضِيَّة، فيعشى أو يعمى، أو تختلُّ عنده الرؤية، فيصدر أحكامًا فاسدة.

تلخيص لأسباب الغلط أو المغالطة:
مما سبق يتضح أن أسباب الغلط أو المغالطة عند القائلين بأن الأخلاق اعتبارية أو نسبية، وليس لها ثبات ولا قيمٌ حقيقية مطلقة - ترجع إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تعميم اسم الأخلاق على أنواع كثيرةٍ من السلوك الإنساني، فلم يميِّزوا الظواهر الخلقيةَ عن الظواهر الجمالية والأدبية، وعن العادات والتقاليد الاجتماعية، وعن التعاليم والأحكام المدنية أو الدينية البَحتة، فحشَروا مفردات كل هذه الأمور تحت عنوان الأخلاق، فأفضى ذلك بهم إلى الخطأ الأكبر، وهو حكمهم على الأخلاق بأنها أمور اعتبارية أو نسبية.

الأمر الثاني: أنهم جعلوا مفاهيم الناس عن الأخلاق مصدرًا يُرجع إليه في الحكم الأخلاقي، مع أن في كثير من هذه المفاهيم أخطاءً فادحة، وفسادًا كبيرًا، يرجع إلى تحكم الأهواء والشهوات والعادات والتقاليد فيها، ويرجع أيضًا إلى أمور أخرى غير ذلك.


والتحري العلمي يُطالب الباحثين بأن يتتبَّعوا جوهر الحقيقة؛ حيث توجد الحقيقة، لا أن يَحكموا عليها من خلال وجهة نظر الناس إليها، فكل الحقائق عرضة لأن يُثبتها مثبتون، ويُنكرها منكرون، ويتشكَّك فيها متشكِّكون، ويتلاعب بها متلاعبون، ومع ذلك تبقى على ثباتها، لا تؤثر عليها آراء الناس فيها.

الأمر الثالث: اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق، مع أن هذه عرضة للصواب والخطأ[3].

نظرات في كلام بعض الملاحدة
يقول بعضهم: "من المستحيل أن تعمَّم الأخلاق على جميع البشر، نعم قد يتفق مجموعة من الأشخاص على مفاهيمَ أخلاقية معينة، ولكن هذا لا يعني أن التعميم في الأخلاق مستساغ من قِبل جميع الناس؛ لأنه بكل بساطة عادات الناس وطبائعهم مختلفة بعضها عن بعض".


وهذا الكلام باطل؛ إذ المستحيل خلافُه، فمن المستحيل ألا تعمم الأخلاق على جميع البشر، ويوجد الكثير من الأخلاق المطلَقة التي لا تتغير من أمة لأمة ولا من زمن لزمن؛ كفضيلة الصدق والوفاء والعدل والأمانة، فكل الأمم تحب مثل هذه الأخلاق وتستحسنها، وتوجد أخلاق أخرى تستقبحها وتكرهها جميع الأمم؛ كالغدر والخيانة والكذب.


والاستدلال بتغير عادات الناس وطبائعهم استدلالٌ في غير محل النِّزاع؛ فليست العادات والطباع من قبيل الأخلاق، فالعادات - من اسمها - أمورٌ تعود الناس على عملها أو القيام بها أو الاتصاف بها، وتكرَّرَ عملها حتى أصبحَت شيئًا مألوفًا، وهي نمطٌ من السلوك أو التصرُّف يُعتادُ حتى يُفعلَ تَكرارًا، ولا يجد المرءُ غرابة في هذه الأشياء؛ لرؤيته لها مرات متعددة في مجتمعه، وفي البيئة التي يعيش فيها، وما يكون معهودًا في مجتمعه وبيئته قد لا يكون معهودًا في مجتمع آخر.


والطباع مفردُ طبع وهوكلُّ ما كانفيأصل خِلقة الإنسان، وجُبِلَ عليه؛ أي: ثابت الأخلاق التي جُبلت النفوس عليها، فالطبع مجموعة من السمات الداخلية في الإنسان تؤثر في سلوكه، ومن الناس من جُبل على الخلق الحسن فيتخلق به، ومنهم من جبل على الخلق الرذيل فيتخلق به، وطباع الإنسان الخُلُقيَّة يمكن تغييرها بالتهذيب والتربية.


ونحن لا نتكلم عن طباع خلقية يمكن تغييرها، بل نتكلم عن استحسان الخلُق الحميد، واستقباح الخلق الرذيل، نتكلم عن وجود أخلاق يُمدح صاحبها، وأخلاق أخرى يُذمُّ صاحبها، نتكلم عن أخلاق يحبها جميع الناس، وأخلاق أخرى يكرهها جميع الناس.

ويقول بعضهم: "كل الأخلاق أخلاق نسبية، قد تكون صحيحة هنا وخطأ هناك".


وهذا الكلام باطل؛ إذ من الأخلاق ما يكون خيرًا ويُمدح فاعله بإطلاق؛ كالصدق والعدل والكرم والأمانة، ومن الأخلاق ما يكون شرًّا ويُذم فاعله؛ كالكذب والخيانة والإفساد في الأرض، فيوجد أخلاق محمودة عند جميع الناس، وأخلاق مذمومة عند جميع الناس.

ويقول بعضهم: "الأخلاق مبنية على المنفعة، ومنفعة الإنسان هي بالطبع السعادة، أو البعد عن الألم علي أقل تقدير، ولهذه السعادة متطلبات تختلف من مجتمع لآخر بناء على اختلاف الاحتياجات والخبرات والثقافات، وبالتالي تصبح الأخلاق علي إطلاقها نسبية".


والأخلاق التي تُبنى على المنفعة هي الأخلاق النفعيَّة، والأخلاق النَّفعية خارجةٌ عن محل النزاع؛ إذ هذه الأخلاق لا تَحمل من الأخلاق إلا اسمها، واعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يَجعل الأخلاق نسبية ومتغيرة، فيصبح السلوك الواحد خيرًا وشرًّا في آن واحد، خيرًا عند الذي حقق له منفعة، وشرًّا عند الذي لم يحقق له منفعة، وبالتالي لا يوجد خلق حميد ولا خلق رذيل، وهذا مخالف للواقع؛ بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك؛ كالعدالة والفضيلة والكرم.


واعتبار المنفعة مقياسًا للأخلاق يُلغي الأخلاق؛ لأن المبدأ ‏الذي تَستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقودٌ، فالمنافع متعارضة، وما ينفعني قد لا ينفع غيري، مما يؤدي لحدوث التنازع واصطدام مصالح الناس بعضها ببعض وعموم الفوضى.


وربط الأخلاق بالمنفعة يحطُّ من قيمة الأخلاق؛ لأنه ينزلها إلى مستوى الغرائز، والغرائز موجودة في الإنسان والحيوان معًا، فيصبح سلوك الإنسان لا يتميز عن سلوك الحيوان.

ويقول بعضهم: "لما كان لكل ثقافةٍ معاييرُها الخاصة بها فإنَّ المرغوب فيه يختلف - تبعًا لذلك - من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة".


والجواب أن الثقافة هي الإطار الأساسي، والوسط الذي تنمو فيه الشخصية وتترعرع، فهي التي تؤثِّر في أفكاره ومعتقداته، ومعلوماته ومهاراته، وخبراته ودوافعه، وطرق تعبيره عن انفعالاته ورغباته، كما تحدد له القيمَ والمعايير التي يَسترشد بها، وتفرض عليه التقاليد التي يتمسك بها[4].


ويمكن أن نُعرِّف الثقافة بأنها الطريقة التي يفكِّر بها الناس في مجتمع ما، ويعملون بها، وتقوم عليها نظمُهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والطريقة التي يتحدثون بها، ويسيرون بها في الشوارع، ويقودون بها السيارات، ويتعاملون بها مع بعضهم البعض داخليًّا، ومع الآخرين خارجيًّا، وعاداتهم وتقاليدهم... إلخ[5].


ويمكن أن نعرِّف الثقافة بأنها مجموعة الأعراف والطرق والنظم والتقاليد التي تميز جماعة أو أمة أو سلالة عِرقية عن غيرها.


ولكل أمة ثقافة وأسلوب للحياة، وطريقة لتعايش الناس بعضهم مع بعض تتَّسق مع عقيدتها، والذي يتغير تبعًا للثقافة هو عادات الناس وتقاليدهم؛ فهذه عُرضة للتغيير والتبديل، أما الأخلاق فلا تتغير بتغير الثقافة؛ بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها خير عند جميع الأمم؛ كالعدالة والأمانة والكرم، ويوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها شر عند جميع الأمم؛ كالكذب والخيانة، والخيرُ محبَّب عند جميع الأمم والثقافات، والشر مذموم عند جميع الأمم والثقافات، والصدق والعدل والكرم والأمانة والشجاعة أخلاق محمودة عند جميع الأمم والثقافات، والكذب والغش والخيانة أخلاق مذمومة عند جميع الأمم والثقافات.

ويقول بعضهم: "المبادئ الأخلاقية نسبية ومتغيرة ومتطورة؛ لأنها ترتبط بعجلة التطور الاجتماعي، وتخضع لتأثير العوامل الاقتصادية والدينية، والثقافية والتاريخية، وهذه كلها متطورة ومتغيرة من عصر إلى عصر، وعليه تتطور الأخلاق بتطور هذه المؤثرات".


والجواب أن الذي يتغير هو أعراف الناس وتقاليدهم وعاداتهم، لكن الأخلاق تتمتع بالثبات؛ فكل العصور وكل الأمم عندها الصدق فضيلة والكذب رذيلة، وكل العصور وكل الأمم عندها الأمانة خير والخيانة شر، وكل العصور وكل الأمم عندها الكرم محمود والبخل مذموم.

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

مراجع المقال:
1- التعريفات؛ للجرجاني.
2- الثقافة والشخصية؛ لسامية الساعاتي.
3- كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة؛ الشيخ عبدالرحمن حسن الميداني.
4- علم الأخلاق الإسلامية؛ لمقداد يالجن.
5- مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها؛ لعلي أحمد مدكور.
6- موسوعة الأخلاق؛ لخالد عثمان الخراز.

[1] التعريفات؛ للجرجاني ص 104.

[2] موسوعة الأخلاق؛ لخالد عثمان الخراز ص 22، 23.

[3] كواشف زيوف؛ للشيخ عبد الرحمن الميداني، ص 202، 210.

[4] الثقافة والشخصية؛ لسامية الساعاتي ص 223.

[5] مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها؛ لعلي أحمد مدكور ص 165.



د. ربيع أحمد (http://www.alukah.net/authors/view/home/7189/)

abomokhtar
13-03-2015, 02:15 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابِه الغُر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرضُ الإلحاد (http://www.alukah.net/sharia/11927/)، وهو أحدُ الأمراض الفكرية الفتَّاكة؛ إذ يفتِك بالإيمان ويعمي الحواسَّ عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريضَ يجادل في البديهيَّات ويجمع بين النقيضين ويفرِّق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا ومن العلم جهلاً ومن الحق باطلاً ومن الباطل حقًّا.

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهلُ بالدين، وضعفُ العقيدة واليقين، والاسترسال في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علمٌ شرعيٌّ مؤصل.

وشبهات أهلِ الإلحاد ما هي إلا أقوالٌ بلا دليل، وادِّعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثِّر في بعض المسلمين؛ لقلَّة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بدَّ من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد؛ شبهةً تِلو الأخرى، ومغالطةً تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشبَههم.

وفي هذا المقال سنتناولُ بإذن الله دعوى يكثرُ تَكرارها من الملاحدة واللاَّدينيِّين؛ ألا وهي أن أخلاقَ الإنسان مصدرُها الطبيعة وتُستمد من الطبيعة، ومنشأ الأخلاق هو منشأٌ طبيعي بحت، هدفُه الحفاظ على النوع، واستمرار بقاء الفرد، وتحقيق فائدةٍ شخصية غير مباشرة من خلال الفائدة العامة المباشرة.

ومنهم من يقول: الأخلاق يجب أن تُفسَّر تفسيرًا ماديًّا، ووفقًا لقانونٍ طبيعي؛ فمنطق الحاجة الطبيعيَّة المباشِرة هو الذي يتحكَّم في الأخلاق الإنسانيَّة، تمامًا مثلما تتحكَّم الجاذبية في سقوط التفَّاحة.

وبالَغ بعضهم في الطبيعة حتى وصلَ أنْ قال: "إننا مجبورون على السير في الطريق الذي رسمَته لنا الطبيعة؛ فإننا لا نسير إلا في الطريق الذي نحبُّه، ولكننا لم نحب نحن هذا الطريق، ولكنَّ الطبيعة هي التي جعلَتنا نحبُّه وهي التي تجبرنا على السير فيه، والإنسان نظامٌ - كغيره من النُّظم في الطبيعة - يخضع بدوره لقوانين الطبيعة الحتميَّة".

ومنهم من يزعم أن الانتخابَ الطبيعيَّ هو صاحبُ الكلمة الأخيرة في تقرير سلوك الإنسان، وقد أنتج هذا الانتخابُ عند الكائن البشريِّ نوعًا من القاعدة الأخلاقيَّة الكونيَّة، والأخلاق تطورَت تطورًا تدريجيًّا، وليس عبر قفزات نوعية.

ومنهم من يدَّعي أن الأخلاق تَكيُّف بيولوجي تطوري.

ومنهم من يزعم أن وجود قِيم أخلاقية مشتركة بين الشعوب المختلفة يمكن تفسيره بالدَّاروينية الاجتماعية!

ومنهم من يدَّعي أن الأخلاق قوانينُ سلوكيةٌ تفرضها الطبيعةُ، وحسب آليَّة الانتقاء التَّطوري والقائمة على الغربلة الطَّبيعية المستمرة عبر ملايين السِّنين؛ صارت الكائنات تمتلك مزيجًا من السُّلوكيات الأنانية (الشرِّيرة) من ناحية، والسُّلوكيات الأخلاقيَّة الإيثارية (الخيِّرة) من ناحيةٍ أخرى، ممَّا مكَّنها من التَّعاون الدَّاخلي، وتحسين مجتمعها، والحفاظ على بقائها ضد الأعداء.

وقبل الرد على هذه الدعاوى لا بدَّ من معرفة مفهوم الأخلاق، ومعرفةِ مفهوم الطبيعة، ومعرفة مفهوم الدارونية الاجتماعية.

مفهوم الأخلاق:
الأخلاق مفرد كلمة خُلُق، والخُلق عبارة عن: "هيئة للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعالُ بسهولة ويُسْر، من غير حاجة إلى فكر ورويَّة"؛ فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئةُ خُلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمِّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقًا سيئًا، وإنما قلنا: إنه هيئة راسخة؛ لأن مَن يصدر منه بَذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال: خُلقه السخاء؛ ما لم يثبت ذلك في نفسه[1].

والذي يفصلُ الأخلاقَ ويميِّزها عن غيرها؛ هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسَن عن الغريزة؛ فالأكل مثلاً غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة، وليس مما يمدح به أو يذم، لكن لو أنَّ إنسانًا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعلُه مذمومًا؛ لأنه أثَرٌ لخُلق في النفس مذموم (http://www.alukah.net/sharia/0/3844/)؛ وهو الطمع، وعكس ذلك أثَرٌ لخُلق في النفس محمود؛ وهو القناعة، كذلك فإن مسألة حبِّ البقاء ليست محلاًّ للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوفَ الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثرٌ لخلق في النفس مذموم؛ وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حدِّ التهوُّر، فهو أثرٌ لخلق في النفس محمود؛ وهو الشجاعة.

وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كونُ آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادةُ الإنسان عليه أو تُذم[2].

والخُلُق منه ما هو طبيعيٌّ؛ أي: فطري يولد الإنسان مجبولاً عليه؛ كالحِلم والتُّؤدة والحياء، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرُّب والبيئة؛ كالشجاعة والكرم.

ولا بد أن نفرِّق بين الخُلق والتخلق؛ إذ التخلُّق هو تكلُّفُ وتصنُّع خُلقٍ معيَّن، وهذا التصنع لا يدوم طويلاً بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلَّف لا يسمَّى خُلقًا حتى يصير عادة وحالةً للنفس راسخةً، يصدر عن صاحبه في يُسْر وسهولة، فالذي يَصدق مرَّة لا يوصف بأن خُلُقه الصدق، ومن يكذب مرَّة لا يقال: إن خلقَه الكذب، بل العبرة بالاستمرار في الفعل حتى يصير طابعًا عامًّا في سلوكه.

مفهوم الطبيعة:
الطبيعة: لفظ مشترك المعاني - أي: له عدَّة معانٍ - غامض جدًّا؛ مما دعا بعضَ علماء الطبيعة في القرن السابعَ عشر إلى تجنُّب استعماله، لقد استعمله علماء الطبيعة بمعنى كل ما هو مُشاهَد[3].

والطبيعة قد تَعني ذوات الأشياء المادِّية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا؛ من جمادٍ وحيوان ونبات، وقد تَعني صفات الأشياء الموجودة في الكون؛ من حركة وسكون، وحرارةٍ وبرودة، وليونة ويبوسة، وغير ذلك، وقد تَعني الخصائصَ الثابتة التي تميز كائنًا أو شيئًا ما، بحيث لا يمكن تصوُّره بدونها؛ كالاحتراق بالنسبة للنار، أو المكر بالنسبة للثعلب، وقد تعني مجموعَ الخصائص الأساسية الثابتة للشيء المنتمية إلى ماهيته أو جوهره في مقابل صفاته المؤقَّتة أو الثانوية، وقد تعني صفات الكائن الحي، واستعداداته المنتمية إلى الإرثِ البيولوجي في مقابل الصفات المكتسَبة، وقد تعني مجموعةَ الأشياء التي لم يتدخَّل الإنسان في صُنعها؛ كالأشجار والجبال مثلاً، وقد تعني مجموع السُّنن والقوانين المتحكِّمة في ظواهر العالم المشاهَد المحسوس، السارية على جميع موجوداته، وقد تعني المادة التي تتكوَّن منها الأشياء في العالم المشاهَد المحسوس، وقد تعني مجموعةَ الخصائص الفطرية والغريزية التي تُولد مع الإنسان، والمشتركة بين جميع الناس؛ كالأكل والنوم، وبهذا المعنى فالطبيعة: هي عكس ما هو مكتسَب وثقافي.

ويَكثر استعمال كلمة الطبيعة في الخطاب الفلسَفي الغربي محلَّ كلمة المادَّة؛ فهي عند الفلاسفة الجوهرُ الماديُّ الأوَّل الذي تُصنع منه الأشياء، وهذا الجوهر المادِّي هو أصلُ الوجود، والعلَّة الأولى في وجود هذا الكون، وهي عند أفلاطون المثال، وعلَّة الوجود، والنفس الكلِّية، وعند أرسطو هي أصل الأشياء، ومصدر الحركة، والمادة التي تُصنع منها الأشياء[4].

وقد استَخدمَت الفلسفات الغربية مفهوم الطبيعة بهذا المعنى الإغريقيِّ القديم، فالطبيعيون والمثاليُّون والواقعيون والدارونيون يرَون الطبيعة هي الأشياء، وهي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، والطبيعة هي أصل الأشياء[5].

ويقول الدكتور عبدالوهاب المسيري (http://www.alukah.net/culture/0/40158/): "مفهوم الطبيعة مفهومٌ أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصًا في الغرب؛ فكلمة: "طبيعة" داخل السياق الفلسفي الغربي لا تُشير إلى الأحجار والأشجار والسُّحب والقمر والتلقائية والحريَّة، وإنما هي كيان يتَّسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- تتَّسم الطبيعة بالوحدة؛ فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكلُّ المتَّصِل، وما عداها مجرد جزء ناقصٍ منها، فهي لا تتحمَّل وجودَ أيَّة مسافات أو ثُغرات أو ثنائيَّات، وجماع الأشياء والإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد، ولا يوجد شيء متجاوزٌ لها أو دونَها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحدٌ صارم.


2- تتَّسم الطبيعة بالقانونية: "لكل ظاهرةٍ سبب، وكل سببٍ يؤدِّي إلى نفس النتيجة في كلِّ زمان ومكان"؛ أي: إن الطبيعة بأَسْرها متَّسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائيًّا بقوة دفع نابعةٍ منها، وهي خاضعةٌ لقوانينَ واحدة ثابتة منتظِمة صارمة مُطَّرِدة وآلية، قوانينَ رياضية عامة واضحة، حتميَّة لا يمكن تعديلها أو التدخُّل فيها، وهي قوانينُ كامنة فيها.


3- الحركة أمرٌ مادي، ومِن ثَم لا توجد غائية في العالم المادي؛ حتى لو كانت غائيَّة إنسانية، تسحَب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية.


4- لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية، ولا الإنسان الفَرد واتجاهاته ورغباته، ولا تَمنح الإنسانَ أيَّة مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقيَّة الكائنات، ويمكن تفسيره في كليَّتِه بالعودة إلى قوانين الطبيعة، والإنسان الفرد - أو الجزء - يَذوب في الكل (الطبيعي/ المادِّي) ذوبانَ الذرَّات فيها؛ أي إن الطبيعة تُلغي تمامًا الحيِّز الإنساني.


5- الإيمان بأنه لا توجد غيبيَّات، ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أيِّ نوعٍ؛ فالطبيعة تَحوي داخلَها كلَّ القوانين التي تتحكَّم فيها، وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علَّةُ ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفيةٌ بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.

يُلاحَظ أن الطبيعة - حسب هذا التعريف الفلسفي - هي نظامٌ واحدي مغلَق مكتفٍ بذاته، تُوجَد مقوِّمات حركته داخلَه، لا يشير إلى أيِّ هدف أو غرض خارجَه، يَحوي داخلَه كلَّ ما يلزم لفَهمه، وهو نظامٌ ضروري كلِّي شامل، تَنضوي كلُّ الأشياء تحتَه، وضِمنَ ذلك الإنسانُ الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها، بحيث يصبح جزءًا لا يتجزَّأ منها، ويختفي ككيانٍ مركَّب منفصل نسبيًّا عما حوله، وله قوانينه الإنسانية الخاصة؛ "ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبيرٌ عن النزعة الجنينيَّة في الإنسان"، وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي.


ولذا فنحن نرى أن كلمة "المادة" يجب أن تَحُلَّ محلَّ كلمة "الطبيعة"، أو أن تُضاف الواحدة للأخرى؛ وذلك لفكِّ شفرة الخطاب الفلسفي الذي يَستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمَه حقَّ الفهم ونُدركَ أبعاده المعرفية المادية.

ولعلَّ كثيرًا من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدَمنا كلمة "مادي" بدلاً من كلمة "طبيعي"، فبدلاً من "المذهب الطبيعي" نقول: "المذهب المادي"، وبدلاً من "القانون الطبيعي" نقول: "القانون المادي"، وبدلاً من "الإنسان الطبيعي" يمكننا أن نقول: "الإنسان المادي"، وبدلاً من "الطبيعية (بالإنجليزية: ناتشوراليزم naturalism)" نقول: "مادية"، وحينئذٍ فإننا نؤكِّد أن الإنسان الطبيعي في واقع الأمر شخصٌ يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية، ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها؛ ولذا فهو يجمع براءةَ الذئاب وتلقائيَّة الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتَها، وحينما نقول: "العودة للطبيعة"؛ فنحن نقصد أنَّ العودة ستكون لقوانين الطبيعة؛ أي: قوانين المادة، وقد فكَّ هتلر شفرة الخطاب الفلسفيِّ الغربي بكفاءة غير عاديَّة حينما قال: "يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعةُ لا تَعرف الرحمةَ أو الشفقة"، وقد تبع في ذلك كلاًّ من دارون ونيتشه"[6].

مفهوم الدارونية الاجتماعية:
الدارونية الاجتماعيةكلمة منسوبة إلى اسم تشارلز دارون (1731 - 1820)، وهي فلسفة عَلمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كونيَّة، تُنكر أيَّة مرجعية غير مادية، وتَستبعد الخالقَ من المنظومة المعرفية والأخلاقية، وتَرُد العالمَ بأسره إلى مبدأ مادِّي واحد كامنٍ في المادة، وتدور في نطاق الصورة المَجازية العضوية والآلية للكون.

والآلية الكبرى للحركة في الداروِنيَّة هي الصراع والتَقدُّم اللاَّنهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني، وقد حققَت الدارونيَّة الاجتماعيةً ذيوعًا في أواخر القرن التاسعَ عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديث في شرق أوربا، وبدأ فيها بعضُ يهود اليديشية في تبنِّي الحل الصِّهيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيل الإمبريالي الغربي يتَّسع ليقتسم العالم بأسره، ويمكن القول بأن الدارونية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة، إن لم يكن كلها.

ويَرى دُعاة الدارونية الاجتماعية أن القوانين التي تَسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسُها التي تسري على الظواهر الإنسانيَّة؛ التاريخية والاجتماعية، وهم يَذهبون إلى أن تشارلز دارون قد وصَف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجلِ الحياة.


وقد ذهب دارون إلى أن الكون بأَسْره سلسلةٌ متواصِلة في حالةِ حركة من أسفلَ إلى أعلى، وأن الإنسان إنْ هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أَرقاها، ولكنه ليس آخِرَها، ويرى دارون أن تَقدُّم الأنواع البيولوجية الحيَّة يعتمد على الصِّراع من أجل البقاء، الذي يَنتصر فيه الأصلح[7].



الطبيعة محايدة:
من المعلوم أنَّ الطبيعة محايدةٌ لا تَعرف الخيرَ أو الشرَّ، أو القُبح أو الجمال[8]، والطبيعة محايدة لا تعرف ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، والإنسان لا يمكن أن يكون محايدًا بالنسبة للأخلاق؛ ولذلك فهو إما أن يكون صادقًا في أخلاقه أو كاذبًا، أو مازجًا بين الصِّدق والكذب، وهي حالة أكثرُ شيوعًا بين البشر[9]، فكيف تكون الطبيعة المحايدةُ مصدرًا لشيء غيرِ محايد، والإنسان عنده وعيٌ أخلاقي، والطبيعة ليس عندها وعيٌ أخلاقي، والملحِد إذا اعتَبر نفسَه مادة فهذا يستلزم ألا توجد أخلاقٌ عنده؛ لأن المادة لا أخلاقَ عندها، وكيف تكون الأخلاق في الإنسان مستمَدَّة مما لا خلق عنده؟! وحسْبُ التناقض دليلاً على إسقاط أيِّ مذهب.

الطبيعة حتمية:
الطبيعة عند الماديِّين خاضعةٌ لقوانينَ آليَّةٍ ثابتة ومنتظمة وصارمة ومطَّردة، ولا إرادةَ فيها ولا اختيار، وما يميِّز فعلَ الإنسان الأخلاقي عن أيِّ فعل آخر هو المصدر الدافع إليه؛ إذ يَصدُر الفعل الأخلاقيُّ من داخل النفس البشرية من المبادئ والقِيَم والْمُثُل المغروسة فيها دون قَسر أو إكراهٍ خارجي عليه، فالإنسان يتمتَّع بالإرادة، وحرية الاختيار؛ فيمكن أن يفعلَ الشيء بإرادته واختياره، ويمكن ألا يفعل الشيء بإرادته؛ مثلاً: يمكن أن يَصدُق بإرادته واختياره، ويمكن ألا يَصدق، ويمكن أن يفيَ بعهدٍ من العهود بإرادته واختياره، ويمكن ألاَّ يفي، ويمكن أن يَرفُق بالإنسان والحيوان بإرادته واختياره، ويمكن ألا يَرفق، ويمكن أن يحترم غيرَه بإرادته واختياره، ويمكن ألا يحترم...


فكيف تكون الطبيعة التي لا إرادةَ فيها ولا اختيار - مصدرًا لأخلاق الإنسان التي يتحلَّى بها عن إرادة واختيار، وفاقدُ الشيء لا يعطيه؟!

وكيف تكون الطبيعةُ حتميَّةً والإنسانُ لا تجوز عليه الحتميَّة، ثم يقال: أخلاق الإنسان صادرة من الطبيعة، والناس ليسوا كراتِ بلياردو تتحرَّك بحتمية قوانين الطبيعة؛ ولكنها مجموعةُ إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة، يستحيل فيها التنبُّؤ القائمُ على قوانينَ مادية؟!

وإذا كان الإنسان يَسري عليه ما يسري على الطبيعة، وهو من الطبيعة وابنُ الطبيعة، فكيف يتمرَّد عليها؟! من أين له حريَّة الإرادة والقدرة على التمرُّد على الطبيعة؟!

والحتمية إنما تنطبقُ على ما هو من الكون مجبورٌ لا اختيارَ له، فهي لا تنطبق على سلوك الحيوان الذي عنده هامشٌ من الإرادة، فضلاً عن الإنسان الذي يمتلك حرية الإرادة والاختيار.

الطبيعة مادية:
إذا كانت الطبيعةُ هي المادةَ، والمادةُ هي الطبيعةَ، والمادةُ تُدرَك بالحواس، والأخلاق صفات معنويَّة، وليست صفاتٍ حسيَّة تُدرَك بالحواس، فلا أحد يرى أو يَسمع أو يشم أو يتذوَّق أو يلمس أيَّ خُلق من الأخلاق الحميدة؛ كالشجاعة، والكرم، وأداء الأمانة، والاحترام والتوقير، والاعتدال والتوسط، والإخاء، والإصلاح بين الناس، والإيثار، والإخلاص، والاستقامة، والحياء، والرحمة، والرفق، والبرِّ، والشكر، والصدق، والعدل، والعفَّة... وغير ذلك.

ولا أحد يَرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أيَّ خُلق من الأخلاق السيئة؛ كالكِبْر، والاعتداء، والإفساد، والإسراف، والتشاؤم، والمنِّ، والبخل، والبغي، والبغض، والبهتان، والتبذير، والجبن، والتجسُّس، والتواكل، والحسد، والخيانة، والرياء، والشماتة والسباب، والسخرية، وسوء الظن، والطمع، والظلم، والعُجْب، والغدر، ونقض العهود، وال***، والغضب، والغيبة، والنميمة، والغيرة، والغشِّ، والغرور، والجفاء، والتعيِير، والفجور، والكذِب، وقولِ الزور... وغير ذلك.


وعليه فكيف تكون الطبيعةُ أو المادة مصدرًا لشيء غير مادي، ومن المعلوم أن فاقدَ الشيء لا يعطيه؟!

أخبِرونا أيها المَلاحدة: من أي مادة جاءَت الرحمةُ؟
ومن أيِّ مادة جاء العدل؟
ومن أي مادة جاء الكرم؟
ومن أي مادة جاء الإيثارُ؟
ومن أي مادة جاء الصدق؟
ومن أي مادة جاءت الشجاعة؟

وفي إطار المرجعية المادية يصير كلُّ شيء مباحًا ونِسبيًّا، فعلى أيِّ أساس مادِّي يمكن أن نحكم على سلوك الإنسان أنه سلوك حميد أو سلوك مذموم؟!


وفي إطار المرجعية المادية؛ كيف نحب الصدقَ ونكره الكذب، وكيف نحب العدلَ ونكره الظلم، وكيف نحب الكرم ونكره البخل، وكيف نحب الشجاعة ونكره الجبن، وكيف نحب الأمانة ونكره الخيانة؟!

وفي إطار المرجعية المادية؛ كيف يكون عندنا إدراكٌ للأخلاق الحسنة وإدراك للأخلاق السيئة من الطبيعة التي ليس لديها إدراك؟!

وإذا كنا في إطار المرجعية المادية نعجز عن تفسير الأخلاق فإننا نعجز أشدَّ العجز عن تفسير خُلقٍ كالإيثار والتضحية، ولا يوجد أيُّ تفسير مادِّي يجعل المادةَ تُؤْثِر مادةً على نفسها، ولا يوجد أيُّ تفسير مادي يجعل المادةَ ترفض ما هو أصلحُ لها كمادة، وتقبل التضحية من أجل مادة غيرها.

والأخلاق تضع الملحدَ في مأزق! فليس أمامَه إلا خيارين؛ إما أن يؤمن بوجودها؛ وبذلك يؤمن بوجود مصدر غير مادي تَسبَّب في نشأتها، وإما ألا يعترف بوجودها؛ وبذلك يصبح كائنًا غير أخلاقيٍّ مثله مثل الجماد.



الطبيعة تتميز بالوحدة والسببية:
الطبيعة عند الماديين تتَّسم بالوحدة؛ فهي نظام واحد صارم، وفعلها متشابه؛ لأنها واحدة في نفسهالا تَفعل بإرادة ولا مشيئة، فلا يمكن اختلاف أفعالِها، ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، والطبيعة أيضًا سببيَّة؛ فلكلِّ ظاهرة سبب، وكلُّ سببٍ يؤدِّي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان؛ مثلاً: الماء يَغلي في كل الأماكن عند 100 درجة مئوية، والتفاحة تسقط على الأرض ولن ترتفع إلى السماء في كل مكان، ولا تكترث الطبيعة عندهم بالخصوصية ولا التفرد.

والإنسان يتميَّز كلُّ فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوُها أو تجاهلها؛ فالأفراد ليسوا نسخًا متطابقة يمكن صبُّها في قوالب جاهزة وإخضاعُها جميعًا للقوالب التفسيرية نفسها[10]، ومن المشاهَد والملاحظ تبايُن طباع الناس وأخلاقهم، فلو كانت الطبيعة مصدرَ الأخلاق فمن أين لها هذا الاختلاف؟! وكيف تختلف أفعالها؟! ولو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق لكان الخَلْق متساوين في الأخلاق غير متفاوتين.

والإنسان حرٌّ في اختياره قادر على اتِّخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسؤولية، ومقاييسُ مثل الحرية والقدرة على الاختيار مقاييسُ تستند إلى الإيمان بوجود شيء ما غير مادِّي، شيءٍ متجاوز المادة، شيءٍ متجاوز الطبيعة.

القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يُلغي إرادة الإنسان ومسؤوليته تجاه أفعاله:
القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان؛ لأن الطبيعة تتَّسم بالحتمية، فلا معنى لحرية الإرادة والاختيار؛ بل يصبح الإنسانُ كالريشة في مَهبِّ الريح، لا تملك لنفسها تصريفًا ولا توجيهًا، والحرية ترتبط دائمًا بالمسؤولية؛ فإن لم يكن الشخص حرَّ الإرادة، فلا مسؤولية عليه، وبذلك يصبح القولُ بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة مُلغًى؛ لالتزام الأفراد ومسؤولياتهم وإرادتهم، ويهدم المسؤوليةَ الأخلاقية من أساسها، ولا تستقيم أمور الدنيا على ذلك؛ لأن الإنسان لا بدَّ أن يحاسَب بعمله، ويحاسب على تصرفاته، والقول إذا كان يلزمُ منه اللاَّزم الباطل فهو قولٌ فاسد لا اعتبار له.

وهل يمكن أنْ نكلِّف شخصًا بأيِّ تكليف، ونحمِّله مسؤولية ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟! وكيف نمدح الناجح في عمله، ونذمُّ الفاشلَ إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟!

وفي عالَم الحتمية: لا معنى للخير والشر، ولا معنى للثواب والعقاب، ولا معنى للمدح والذمِّ، ويصبح الحديث عن القِيم الأخلاقية العُليا لغوًا لا معنى له؛ إذ كلُّ شيء يَجري وفق قوانينَ ثابتة لا يمكن أن يَحيد عنها.


وفي عالم الحتمية: المُحسن لا يكون مختارًا عندما يُحسن، ولا المسيء يكون مختارًا عندما يُسيء.

القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يُلغي دور الإنسان في التاريخ والحضارة:
إذا كان الإنسان يخضع لحتميات الطبيعة فلا إرادة عنده ولا عزيمة، ولا اختيار ولا رغبة في التغيير ولا إرادة للتغيير، مثله مثلُ أيِّ كائنٍ آخر في الطبيعة.

وإحدى دعائم التاريخ والحضارة العنصرُ البشري الذي مهمَّته التغيير والبناء، والابتكار والإبداع، وهذا يحتاج إرادة ذاتية وعزيمة داخلية، تنبعث في نفس الإنسان، تحثُّه على التغيير والبناء، والابتكار والإبداع، ومن خلال العقل المدرِك الذي وهبه اللهُ للإنسان، والعزيمةِ الداخلية والإرادة الذاتية، والطاقات التي زوَّده بها - يستطيع الإنسانُ أن يصنع تاريخَه وحضارته على هذه الأرض.

والواقع العمَليُّ أثبَت الدَّور الإيجابي للإنسان في صُنع التاريخ والحضارة، لكن الماديِّين يُريدون سلبَ هذا الدور من الإنسان؛ وبذلك يُلغون مصدرًا أصيلاً في إنشاء التاريخ؛ إذ الحتمية تفترض أنه لا إرادة للإنسان، وكأن الإنسان يشاهد حركةَ التاريخ، ويرى ما يحدث له وللمجتمع، دون أن يشارك فيه، وهذا مخالفٌ للواقع.

التفسير الداروني لنشأة الأخلاق:
فسَّر كثير من الملاحدة نشأةَ الأخلاق بالتطور الداروني الذي آليَّتُه الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح؛ فكلُّ كائنٍ حيٍّ يسعى من أجل بقائه، وينتهي هذا السعي إلى التنازع من أجل البقاء، وهذا التنازع ينتهي إلى الانتخاب الطبيعي، وانتخاب الأصلح، وعليه فأخلاق البشر تطورَت تطورًا تدريجيًّا، ثم استقرت تبعًا لما يحقِّق للإنسان المصلحةَ والتفوُّقَ.


والانتخاب الطبيعي هو صاحبُ الكلمة الأخيرة في تقرير سلوك الإنسان، وقد أنتج هذا الانتخاب عند الكائن البشريِّ نوعًا من القاعدة الأخلاقيَّة الكونيَّة، فالأخلاق ما هي إلا تكيُّف بيولوجي تطوري لتنظيم عملية التكاثر الذي يَخدُم بقاءنا، والعملية البيولوجية هي مِعيار الأخلاقيات، وكلُّ شيء يدعمها فهو خير، وكل شيء يعارضها فهو شرٌّ.

وزَعْم الدارونيِّين: أن كلَّ كائنٍ حيٍّ يسعى من أجل بقائه، وينتهي هذا السعي إلى التنازع من أجل البقاء، وهذا التنازع ينتهي إلى الانتخاب الطبيعي وانتخاب الأصلح - زعمٌ باطل، ورجمٌ بالغيب؛ فمِن المشاهَد والملاحَظ وجودُ تعاون بين الأنواع أكبرُ من التنازع، وهناك تلاقٍ وتعاونٌ وتكامل بين الكائنات أقوى من الصراع، وهذا التَّلاقي والتعاون والتكامل هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء.

وقد شهد التاريخُ ببطلان نظرية التنازعِ من أجل البقاء، والبقاءِ للأصلح والأقوى؛ فإذا نظرنا إلى تاريخ البشر نجد خلافَ هذه النظرية؛ فها هم أهلُ الكتاب يهود ونصارى عاشوا ضعافًا في الدولة الإسلامية 12 قرنًا، وما زالوا باقين، وها هم المسلمون كانوا هم حاكمي البلاد، وبالتالي هم الأقوياء، ومع ذلك بقي أهلُ الكتاب في حكمهم، وها هم المسلمون كانوا في بداية الدعوة ضُعفاء ثم قويَت شوكتهم، وها هم النصارى كانوا ضعفاءَ في الدولة الرومانية ثم قويَت شوكتُهم، وها هم اليهود كانوا في بداية دعوة موسى عليه السلام ضعفاء ثم قويَت شوكتُهم.

ومن المعلوم بالحسِّ والمشاهدة أن أيَّ دولة من الدول تجد فيها الضعيفَ والقويَّ، ومع ذلك لم ينقرض الضعفاءُ، وما زال الأقوياء موجودين.

وبالنسبة للحيوانات والطيور والأسماك والنباتات فليس هناك تنازعٌ من أجل البقاء، ولا بقاءٌ للأقوى والأصلح؛ بل بقاء الحيوانات والطيور والأسماك والنباتات يَرجع لعدمِ وجود عوامل الانقراض؛ والتي من أهمها:
• القَطع الجائر للنباتات.


• الصيد الجائر للحيوانات والطيور والأسماك.


• تعديل البيئة؛ فتعديل البيئة يؤدِّي إلى إبادة كثير من الأنواع النباتية والحيوانية والعديد من الطيور.


• تلوُّث البيئة؛ وقد أَهلَكَت الملوِّثات المائية - من زيت البترول والعناصر الثقيلة والمبيدات - العديد من الطيور المائية والأحياء البحرية الدقيقة والأسماك التي تتغذى عليها.

وترجع عوامل البقاءِ إلى توافر مقوِّمات الحياة، وعدم وجود عوامل الانقراض، ولو كان البقاء للأقوى لما انقرضَت الديناصورات وبقيت الحشرات.

ومن المعروف أن الكثير من الكائنات الحية لا تَستطيع إنتاجَ غذائها بنفسها فتتغذَّى على غيرها، وغيرها يتغذى عليها، وهذا مِن التكامل بين الكائنات؛ مثلاً: يأكل الأرنبُ الأعشاب، وتأكل البومة الأرنب، وتموت البومة فيأكلها الضَّبع، ويموت الضبع فتتغذَّى عليه الكائنات المحللة، أو قمح يأكله فأر، والفأر يأكله ثعبان، والثعبان يأكله نَسر، والنسر يموت فتتغذى عليه الكائنات المحللة، وهكذا.

والذَّكَر القوي إذا تزوج بأنثى قوية لا يَستلزم ذلك إنجاب ولدٍ قوي؛ فقد يُنجبان ولدًا ضعيفًا حسب قوانين الوراثة؛ وكم رأينا من رجلٍ جميل يتزوج بامرأة جميلة وينجبان طفلاً غير جميل، ورأينا العكس أيضًا!

وعقليًّا ومنطقيًّا البقاء عن طريق التعاون بين الإنسان والحيوان والنبات أكبرُ وأوسعُ من البقاء عن طريق التنازع.

وتفسير نشأة الأخلاق بالتطور الداروني؛ الذي آليَّتُه الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح - تفسيرٌ لا يفرز إلا الوحشيةَ والدَّناءة؛ فالتطور الداروني لا يُنتج إلا أمثالَ هتلر، والمجتمع الداروني لا يكوِّن إلا مجتمعًا فاشيًّا؛ ينتشر فيه التعصب العنصري والتصفية العِرقية.

وقد كان الفكر التطوري الداروني (http://www.alukah.net/sharia/0/72272/)سببًا في نشأة اثنين من أسوأ النُّظم الاجتماعية والسياسية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، والنازية في ألمانيا، وقد طبَّق الفكر السياسيُّ الاستعماري هذه النظريةَ على الشعوب المستعمَرة، وجعلوا منها مبررًا لسيطرة المستعمرين.

ودارون يَعتبر الأخلاقَ من نتائج الانتخاب الطبيعي في المجال السلوكي، مثلها مثل أيِّ صفات بيولوجية أخرى؛ مثل: منقار الطائر؛ هل يوصف منقار الطائر بأنه خير أو شر؟ إنه فقط مفيدٌ للقيام بوظائفه لهذا الطائر، بالتحديد تحت هذه الظروف في هذه الفترة من الزمن، لذلك فاستخدامنا لاصطلاحِ جيِّد أو سيئ يكون من منطلَق الفائدة المادية، وليس القيمة الأخلاقية؛ أي: ليس هناك أخلاق فاضلة وأخرى شريرة، ولكنْ هناك سلوكياتٌ ومفاهيمُ تعين بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع من أجل البقاء[11].

وإذا كان الانتخاب الطبيعي مبنيًّا على تحقيق المنفعة الفردية؛ حيث كلُّ فرد لا يهمُّه إلا نفسه في صراعه مع الآخرين من أجل البقاء، فهذا التفسير يُلغي الأخلاق؛ إذ مِن قوام الفضائل الأخلاقية التضحيةُ والإيثار، والتعاطف مع الآخرين؛ وفي التضحية: يَبذل الشخصُ النَّفسَ أو الوقت أو المال لأجل الآخرين دون مقابل منهم، وفي الإيثار: يقدِّم الإنسانُ حاجةَ الآخرين على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله؛ فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطشُ ليَرويَ سواه، وفي التعاطف: يضع الشخص نفسَه محلَّ الآخر، ويتبنَّى مشاعره وأحاسيسه وآلامَه، وكل هذه السلوك الأخلاقية من منطلقٍ مادي لا تخدم البقاءَ، وليس فيها تحقيق منفعة للفرد؛ بل تحقِّق منفعة لغيره؛ ولذلك هذه السلوك الأخلاقية تضع الانتخاب الطبيعي في مأزق.

والانتخاب الطبيعي يعجز عن تفسير وجود أخلاقٍ حميدة تمارسُها الكائنات تجاه كائناتٍ من أنواع أخرى؛ كالرفق بالحيوان، والشفقة على الحيوان، فهذه السلوك الأخلاقية لا تَخدم البقاءَ، وليس فيها تحقيق منفعة ماديَّة للفرد.

وإذا كانت نشأة الأخلاق تفسَّر بالتطور الداروني والانتخاب الطبيعي، فما المصلحةُ من وجود الأخلاق السيئة؛ كالكذب والغشِّ والغدر والخيانة وال***، فهل مثل هذه الأخلاق تخدمُ البقاء أم تساعد على الفناء؟! والإنسان يَقوى بإخوانه، فهل قَتْلُ الناس بعضِهم بعضًا يخدم البقاءَ أم يساعد على الفناء؟

وإذا كانت الأخلاق نشأَت بآلية الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح، فلماذا يوجد الخلُق وضده؟! فإما أنَّ الخلق الحسن هو الذي يخدم البقاء فيصطفيه الانتخاب الطبيعي، أو الخلق المذموم هو الذي يخدم البقاء فيصطفيه الانتخاب الطبيعي.

وحسب الانتخاب الطبيعي: فأي شيء يحافظ على بقاء صور الحياة الأكثر تعقيدًا والأفضل تكاملاً يوصفُ بالخير، وما يَعوق التطورَ الداروني يعتبر شرًّا، ولو تركنا قانون الغاب يعمل عمله: بأن يَبقى الأصلحُ وحده - فإنَّ سلوكنا عندئذ يكون صوابًا؛ لأن الاتِّجاه الرئيسي للتطور الداروني يكون قد حقَّق الهدف منه، ولكن لو تدخَّلنا في مسار التطور الداروني بمعاونة الأضعفِ على البقاء؛ فإن سلوكنا عندئذ يكون من الناحية الأخلاقية خاطئًا.

وفي عالم دارون تصبح الدعوى إلى حماية الضعفاء والمرضى والمعاقين والإشفاق عليهم والعناية بهم - دعوى ضدَّ الطبيعة، ضد الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح.

وفي عالم دارون تصبح الدعوى إلى الإنفاق على الفقراء واليتامى والمساكين - دعوى ضد الطبيعة، ضد الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح.


وفي عالم دارونتصبح الدعوى إلى تحريم الزِّنا وزواج المحارم - دعوى ضد الطبيعة وضد الانتخاب الطبيعي.

وإنسان دارون إنسانُ الغاب، لا مانع عنده أن تَخونه زوجتُه أو يَزني بمحارمه.

والإنسان يمكن أن نسمِّيَه كائنًا أخلاقيًّا، بينما لا نسمِّي الحيوان كائنًا أخلاقيًّا؛ إذ لا معنى للحديث عن: قِيمٍ خُلقية، وسلوك خلقي، ومسؤوليَّةٍ وجزاءٍ في عالم الحيوانات، فالأخلاق مرتبطة بالاختيار، ويقوم الاختيار على الوعي بمبادئَ وقواعدَ يتصرَّف الإنسان وفقًا لها، ولا ترتبط هذه القواعد والمبادئ بالغريــزة والحاجة القريبة دائمًا، لكنَّ سلوك الحيوان محدودٌ بحاجاته القريبة فقط.

إن السلوكيات الأخلاقيةَ وآدابَها هي التي تُميز سلوكَ الإنسان عن سلوك البهائم، سواء في تحقيق حاجاته الطبيعية، أو في علاقاته مع غيره من الكائنات الأخرى، فالآداب زينة الإنسان من حيث ال***ُ والأكلُ والشربُ والنظافة، وتذوُّق السلوك الجميل وتمييزه عن السلوك القبيح، والبحث عن أفضل العلاقات وأحسنِها في المعاشرة والمحادثة، والتعاون والتآلف وتبادل المحبَّة والإكرام والإحسان، والتراحم والتعاطف، وغيرها؛ ولهذا فالآداب الأخلاقية زينةُ الإنسان وحِليتُه الجميلة، وبقدرِ ما يتحلَّى بها الإنسان يُضفي على نفسه جمالاً وبهاءً، وقيمة إنسانية[12].

وإذا كانت الأخلاق التي يتحلَّى بها ال*** البشري يتحلَّى بها عن وعيٍ كامل وقدرة على الاختيار، ولا نجد في غيره من الكائنات مثل ذلك، فلماذا حصل هذا التطوُّر عند النوع الإنساني دون غيره؟! أي إذا كان الإنسان على زَعمِهم يمثِّل امتدادًا طبيعيًّا لمن سبقه في سُلَّم التطور البيولوجي فلماذا خضَع الإنسان للتطور في الأخلاق دون غيره؟!

والزعم بأن أخلاق البشر تطورَت تطورًا تدريجيًّا يحتاج إلى دراسة تاريخية متعمِّقة تشمل الإنسان الأولَ إلى أن تصل للإنسان المعاصر، وتَسير الدراسة مع الإنسان سيرًا متأنِّيًا لتكشف عن سلوكه وأخلاقه خِلال الظروف والأحوال التي تحيط به.

ولا بد للدراسة أن تبيِّن هل كانت هناك مؤثِّرات خارجيةٌ غيَّرَت من سلوك الإنسان الأخلاقي، أم لا؟ والإنسان يتميَّز كلُّ فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوُها أو تجاهلها؛ فالأفراد ليسوا نُسخًا متطابقة يمكن صبُّها في قوالبَ جاهزةٍ وإخضاعُها جميعًا للقوالب التفسيرية نفسِها[13].

ويَصعب إخضاع السلوك الإنساني الأخلاقي للتجربة، والتأكُّد من صحَّة الفروض شرط أساسي من شروط المنهج العلمي؛ فإن التجربة تقتضي قدرة الباحثِ على التحديد والضبط، والتحكُّمِ في السلوك الإنساني الأخلاقي محلِّ البحث، وضبط كل المتغيرات المؤثرة فيه، ولخصوصية السلوك الإنساني فهو أمرٌ يصعب ضبطُه، ويستحيل أن يَطلب الباحث من الإنسان تَكرار السلوك الإنساني بهدف إجراء التجربة.

ولا يخضع الإنسان لمبدأ الحتميَّة التي تخضع لها الظواهرُ الطبيعية، بل يخضع للأهواء والميولات والتقلُّبات، وهذه الأمور وغيرها تجعل القولَ بأن أخلاق البشر تطورَت تطورًا تدريجيًّا - تحكُّمًا علميًّ، ومجازفةً ورجمًا بالغيب.

والزعم بأن الأخلاق تكيُّفٌ بيولوجي تطوري لتنظيم عملية التكاثر الذي يخدم بقاءنا - يجعل الأخلاق نسبيَّة غير مُطلقة، وتختفي مع النسبية أيُّ معاييرَ أخلاقية، وبالتالي تُلغَى الأخلاق فقد يكون السلوك الأخلاقي محرمًا عند شخص، ولكنه محلَّل ‏عند شخص آخر، وقد يكون السلوكُ محمودًا عند شخص، ولكنه مذموم عند شخص آخر، وقد يكون الفعل من قَبيل الرحمة عند شخص، وعند شخص آخر من قبيل القَسوة، وهذا الكلام مخالف للواقع والتاريخ.

والخير خيرٌ عند الصالح والطالح، والشرُّ شرٌّ عند الصالح والطالح، وهناك سلوكيَّات مستهجَنة عند جميع المجتمعات؛ كالسرقة والكذب والغدر والخيانة والبخل، وهناك سلوكيات مستحسَنة عند جميع المجتمعات؛ كالصدق والعدل والأمانة والوفاء والكرم.

وثَبات الأخلاق يبعث الطُّمَأنينةَ والسعادةَ في حياة الفرد والمجتمع، ولا تتأتَّى السعادة والأمن والاستقرار إذا لم يكن هناك أخلاقٌ يمارسها الفرد ويتوقَّعها من الآخرين حوله.

وفي عالَم دارون - عالم الغاب - لا يأمنُ الناسُ على أنفسهِم ولا أموالهِم ولا أعراضهِم، وكفى بذلك سببًا في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واضطراب حياةِ الناس.


والزعم بأن الأخلاق تكيُّف بيولوجي تطوري يُلغي التزام الأفراد ومسؤولياتهم وإرادتهم، ويهدم المسؤولية الأخلاقية من أساسها فلا معنى للخير والشر، ولا معنى للثواب والعقاب، ولا معنى للمدح والذم.

وفي الختام أهمس في أذن كلِّ ملحِدٍ قائلاً: إذا كانت الأخلاق قد نشأَت عن طريق التطور الداروني وتنازُع البقاء وانتخاب الأصلح - على حدِّ زعمك - فمَن الذي يصطفي هذا الخُلق دون غيره؟!

والانتخاب الطبيعي ما هو إلا وصفٌ لظاهرة، وليس هو سببَ الظاهرة، فمن الذي ينتخب ويصطفي ويختار، هل هو الطبيعة أم الانتخاب نفسه، أم شيء غير الطبيعة والانتخاب؟!


إن قلت: الطبيعة فهذا خطأ؛ لأن الطبيعة لا إرادة لها ولا اختيار، وإن قلت: الانتخاب نفسه فهذا خطأ؛ لأن الانتخابَ حدثٌ، والحدث لا بد له من مُحدِث.


فيتعيَّن أنَّ هناك شيئًا غير الطبيعة هو الذي يَصطفي ويختار، فأنت مِن هذا المنطلق تثبت شيئًا غير الطبيعة والمادة، وهذا يخالف ويناقض اعتقادك.

وإني أسأل كلَّ من يدَّعي أن الطبيعة مصدرُ الأخلاق: كيف عرَفتَ أن الطبيعة هي مصدر أخلاقك؟ هل أعلَّمَتك ذلك أم رأيتَها تعطيك الأخلاق، أم ماذا؟!

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

مراجع المقال:
1- التعريفات؛ للجرجاني.
2- الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري.
3- خرافة الإلحاد؛ للدكتور عمرو شريف.
4- علم النفس الإسلامي العام والتربوي؛ للدكتور محمد رشاد خليل.
5- علم الأخلاق الإسلامية؛ لمقداد يالجن.
6- موسوعة الأخلاق؛ لخالد عثمان الخراز.
7- موسوعة الفلسفة؛ للدكتور عبدالرحمن بدوي.
8- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري.

[1] التعريفات للجرجاني، ص 104.
[2] موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز، ص 22، 23.
[3] موسوعة الفلسفة؛ للدكتور عبدالرحمن بدوي 2/ 57.
[4] تنبيه: القول بأن الطبيعة هي أصلُ الوجود أو هي العلة الأولى للوجود قولٌ باطل لا دليلَ عليه، وإن عُني بالطبيعة الكونُ نفسه فهذا معناه أن الكونَ أصل وجود الكون؛ أي: الكون علَّة لنفسه، والشيء لا يكون علةً لنفسه، والشيء قَبل وجوده عدَم، والعدم لا يَخلُق شيئًا، وإن عُني بالطبيعة صفاتُ الأشياء فهذا التفسير أفسَدُ مِن التفسير السابق؛ لأنه إذا عجزَت ذاتُ الأشياء عن إيجاد نفسها فعجزُ صفاتها من باب أولى، وإن عني بالطبيعة القوانينُ التي تتحكم في الكون فهذا باطل؛ لأن القوانين تحتاج لمن يَسنُّها ويقنِّنها، ومن المعلوم أن الشيء لا يخلق شيئًا أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلاً ولا سمعًا ولا بصرًا، فكيف تخلق إنسانًا سميعًا عليمًا بصيرًا؟! ولو كانت الطبيعةُ هي الخالقةَ لكان الخَلق مُتساوين غيرَ متفاوتين، ومِن المُشاهَد التفاوتُ الشديد في الكائنات الحية وغير الحية، حتى بين النوع الواحد من الكائنات الحية.
[5] علم النفس الإسلامي العام والتربوي؛ للدكتور محمد رشاد خليل، ص 103.
[6] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري ج1.
[7] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري ج2.
[8] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري ج2.
[9] الإسلام بين الشرق والغرب؛ للفيلسوف علي عزت، ص 178.
[10] الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري.
[11] خرافة الإلحاد؛ للدكتور عمرو شريف، ص 305.
[12] علم الأخلاق الإسلامية، لمقداد يالجن، ص 7.
[13] الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان؛ للدكتور عبدالوهاب المسيري.


د. ربيع أحمد (http://www.alukah.net/authors/view/home/7189/)