مشاهدة النسخة كاملة : الدروس العسكرية المستفادة من معركة بدر


ابو وليد البحيرى
26-04-2015, 11:09 AM
الدروس العسكرية المستفادة من معركة بدر (1)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي

أولاً: أن الجهاد بالسيف لم يفرضه الله إلا بعد أن توفرت أسبابه، وانتفت موانعه، والذي يتبين من النصوص وحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن الدعوة إلى الله تعالى في المجتمعات التي تكون الشوكة فيها بيد من يحارب الحق وأهله، وينصر الباطل وأهله، أنها لا بد أن تمر بثلاث مراحل:
الأولى: بيان الحق والدعوة إليه بحكمة ورفق.
الثانية: الابتلاء والامتحان في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، والصبر على ذلك.
الثالثة: التميز عن أهل الباطل.

وحينئذ يشرع القتال، وهذه المراحل الثلاث هي التي مرت بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما يتضح ذلك من سيرته، وقد قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110].

ثانياً: استحباب مشورة الإمام رعيته، وجيشه استخراجاً لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وأمنًا لعتبهم، وتعرفاً لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالاً لأمر الرب في قوله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].

ثالثاً: الأصل أن يبذل المسلمون كافة جهودهم في الإعداد لمجابهة العدو، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّـهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]. فإذا ما فعلوا ذلك أعانهم ونصرهم وأمدهم بملائكته وجنوده، كما وقع للمسلمين في بدر.

رابعاً: في قصة سواد مع النبي صلى الله عليه وسلم دليل واضح على أن الناس في أخذ الحق منهم وإعطائهم سواء، وهذا هو العدل الذي جاءت به شريعة الإسلام، وأقامه نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم على نفسه وأقاربه والناس جميعاً.

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الأمم تضل وتهلك حين تتنكب هذا الطريق، وقال: "أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"[1].

خامساً: القتال على طريقة الصفوف إحدى الطرق التي يستعملها المقاتلون في حروبهم، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، وقد ذكر الله – عز وجل- هذه الطريقة، وأثنى على أهلها، حيث يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4]. وهناك طرق أخرى، وللقائد أن يختار الطريقة حسب ما يقتضيه الحال.

سادساً: أن الأسرى الذين حاربوا الدعوة ووقفوا في طريقها، واشتد أذاهم على أهلها لا ينبغي استبقاؤهم؛ لأنهم عناصر خبيثة يجب إزالتها، ومثل هؤلاء يطلق عليهم بالإصطلاح الحديث: "مجرمو حرب" ومن هذا القبيل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من *** النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، وغيرهم.

سابعاً: التركيز على *** قادة العدو، وزعمائهم مما يضعف شوكة العدو، ويعجل بهزيمتهم، وهذا ما حصل في غزوة بدر، ف*** عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف،، وأبو جهل بن هشام، وغيرهم، مما أضعف من عزيمة قريش، وعجل بهزيمتهم.

ثامنًا: اختيار المقاتلين المشهورين بالشجاعة، والفروسية ليكونوا في مقدمة جيش المسلمين، وأيضاً اختيارهم لمبارزة العدو، مما يقوي شوكة المسلمين، ويعجل بنصرهم، وهذا ما حدث في غزوة بدر عندما طلب عتبة بن ربيعة ومن معه مبارزة المسلمين، فاختار لهم النبي صلى الله عليه وسلم خيرة المقاتلين، حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث، وانتهت المبارزة لصالح المسلمين مما كان سبباً في قوة شوكة المسلمين، وإقدامهم لدحر العدو.

تاسعاً: بعث العيون لاستكشاف حال العدو، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل عدياً بن أبي الزغباء، وبسبس بن عمرو، وتعرفا مكان القافلة، وعدد حراسها.

عاشراً: جمع المعلومات عن جيش العدو، واستجواب الأسرى الذين وقعوا في أيدي المسلمين مما يهيِّئ وضع الخطط المناسبة لهزيمة العدو، وكسر شوكته، وهذا ما حدث في بدر عندما أسر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مولى عقبة بن أبي معيط، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد المشركين، ومن فيهم من القادة.

الحادي عشر: من سنن الجهاد التحريض على القتال عند لقاء العدو، والتذكير بما أعد الله للمجاهدين من الفضل العظيم، وتلاوة آيات الجهاد؛ لتقوية النفوس، وتنشيطها، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وغيرها، واقتدى به المجاهدون من بعده.

الثاني عشر: المحافظة على السلاح، والاستفادة منه في أكبر قدر ممكن، وهذا ما حدث في غزوة بدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه بأن يرموا المشركين حتى يقربوا منهم، فإن الرامي من بعيد قد يخطئ في إصابة الهدف، فيضيع السهم في غير فائدة، وهذا ما أشار إليه بعض شراح الحديث.

الثالث عشر: شجاعة القائد، وثباته في القتال مما يقوي عزيمة جنوده، ويشد من أزرهم لقتال العدو، وهذا ما حدث في غزوة بدر فإن الصحابة لشجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في القتال، كانوا يتقون به عند اشتداد الكرب والتحام الصفوف، كما ذكر ذلك علي- رضي الله عنه -.


الرابع عشر: حامل لواء الجيش في المعركة ينبغي أن يكون من الفرسان الشجعان، فإن سقوط اللواء قد يكون سبباً لهزيمة الجيش، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم علياً ليكون حامل لواء المسلمين في بدر.

الخامس عشر: المقاتلون الذين يحيطون بالقائد في أي معركة ينبغي أن يكونوا من خيرة الفرسان الشجعان، حتى يقوموا بحماية القائد من أي خطر يتعرض له، وهذا ما حدث في غزوة بدر فإن المحيطين بالنبي صلى الله عليه وسلم هم علي، وأبو بكر، وسعد، وغيرهم من فرسان الصحابة.

السادس عشر: إن كثرة الذكر، والدعاء عند التحام الصفوف، واشتداد الكرب مما يقوي عزيمة المقاتل، ويشد من أزره، وهذا ما حدث في غزوة بدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما التحم الفريقان، وحمي الكرب لجؤوا إلى الله، وأكثروا من الدعاء، والذكر، وسألوه الثبات، والنصر، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم في غزواته: " اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم"[2].

السابع عشر: علّم الله المجاهدين مواضع الإثخان من العدو، وذلك بضرب الرقاب، وقطع الأطراف، فقال تعالى ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12].

الثامن عشر: من الطرق التي يستعملها الفرسان في الحروب أن يستدرج خصمه، وذلك بأن يولي وكأنه منهزم، ثم يكر عليه في***ه، وقد أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الأنفال: 16].

التاسع عشر: أن الفرار عند قتال العدو من أكبر الأسباب التي تؤدي إلى الهزيمة، ولذلك حرمه الله، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ ﴾ [الأنفال: 15].

العشرون: أن الثبات والصبر عند لقاء العدو من أعظم أسباب النصر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في بدر يحث أصحابه على الصبر والثبات، وقال: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا"...الحديث[3].



[1] صحيح البخاري ص1295 برقم (6788)، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، وصحيح مسلم ص701 برقم (1688)، كتاب الحدود، باب حد الزنى.

[2] صحيح البخاري ص562-563، برقم (2933)، كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة. وصحيح مسلم (3/1363)، برقم (1742)، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء.

[3] سبق تخريجه ص30.

banooota
27-04-2015, 09:36 PM
جزاك الله خيرا

ابو وليد البحيرى
30-04-2015, 12:09 AM
بارك الله فيكم

ابو وليد البحيرى
30-04-2015, 12:13 AM
الدروس العسكرية المستفادة من معركة بدر (2)


د. أمين بن عبدالله الشقاوي


الحادي والعشرون: أن الشجاعة والإقدام عند لقاء العدو لا تقدم الأجل، وأن الإحجام لا يؤخره، فلكل أجل كتاب، قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].

ومن الأمثلة على ذلك إقدام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على قلة عددهم وعدتهم على جيش قريش في غزوة بدر. وقصة حكيم عندما شرب من حوض المسلمين في معركة بدر، فما شرب منه أحد من المشركين يومئذ إلا ***، إلا حكيم، وكان يحلف ويقول: لا والذي نجاني يوم بدر.

الثاني والعشرون: مشروعية الإمداد في المعارك، وأنه من الخطط العسكرية الناجحة، لقوله تعالى: ﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ﴾ [آل عمران: 124].

ولذلك أمثلة، منها ما حدث في غزوة مؤتة لخالد بن الوليد، عندما تظاهر بالمدد، وأرسل بعض الجند ليقوموا بهذه المهمة.

الثالث والعشرون: أن الدولة الإسلامية في بداية تأسيسها ينبغي أن تشعر أعداءها ومن حولها بقوتها، وقد يتطلب ذلك إرسال السرايا والبعوث العسكرية لضرب الأعداء في عقر دارهم، وهذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وصوله إلى المدينة بعدة أشهر.

الرابع والعشرون: المحافظة على السرية التامة، عند وضع الخطط، وإرسال البعوث العسكرية، ويلاحظ هذا في سرية عبد الله بن جحش عندما أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى نخلة، وأعطاه كتاباً، وأمره ألا يفتحه إلا بعد ليلتين من السير بعيداً عن المدينة، حتى لا يعلم أحد أين الاتجاه.

الخامس والعشرون: تواضع القائد، وتحمله للمشقة والصعاب، مثل جنوده سواء بسواء، مما يقوي عزيمة الجنود، ويرفع من معنوياتهم، ويشعرهم بالمساواة والعدل، وهذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه عند خروجه لغزوة بدر، فقد كان يعتقب بعيراً هو وعلي وأبو لبابة، فلما جاءت عقبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالا له: نحن نمسك عنك. فقال: "ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما"[1].

السادس والعشرون: أن قلة عدد جيش المسلمين أمام عدوهم لا يعني ضعفهم وهزيمتهم، ففي الآية الكريمة يقول - عز وجل -: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]. وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123]. بل إن الجيش الكثير إذا أعجب بنفسه، كان ذلك سبباً لهزيمته، قال تعالى ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25].

السابع والعشرون: غناء الخيل في المعارك، وعظيم بركتها، ولذلك ضرب لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمين، وفي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"[2]، ولا زال المسلمون في بعض الدول يستخدمون الخيل في حروبهم مع الكفار، وقد نفع الله بها نفعاً عظيماً.

الثامن والعشرون: من الخطط العسكرية إضعاف العدو مع الإبقاء عليه، لقوله تعالى: ﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ﴾ [آل عمران: 127]، وبهذا يترك له فرصة الرجوع إلى الحق.

التاسع والعشرون: ينبغي اختيار مكان المعركة حسب ما تقتضيه أحوال الحروب، لقوله تعالى: ﴿ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ﴾ [الأنفال: 11]. فالحروب التي يكون القتال فيها بالسيف والرمح على الخيل والأقدام، لا يصلح ذلك إلا على أرض قوية تثبت عليها القدم، غير وعرة تحفى منها الأرجل.

الثلاثون: في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ ﴾ [الأنفال: 16] بيان أن الفارس إذا تراجع إلى الصف، فإن ذلك لا يعد هزيمة، ولا يدخل في النهي.

الحادي والثلاثون: شدة مقت الله للجبناء، وعظم عقوبته لهم حيث قال: ﴿ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الأنفال: 16].

ومن أسباب ذلك أن المقاتل قد ينهزم، فينهزم بانهزامه الجيش كله، أو بعضه، وقد اتخذ بعض القادة هذه الخطة لهزم جيش العدو، حيث يتواطأ مع بعض فرسانه أنه متى التحم الفريقان، انهزم ذلك الفارس، وحينئذ يتبعه بعض الجيش، أو كله.

الثاني والثلاثون: قوله تعالى: ﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال: 12].

يؤخذ من هذا إعداد ما أمكن من وسائل الإرهاب للعدو، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60].

الثالث والثلاثون: علّم الله المؤمنين كيفية قتال الأعداء، قال تعالى: ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12].

الرابع والثلاثون: قوله: ﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الأنفال: 43].
أ - فيها أن الفشل، والتنازع قد يقع في صفوف المسلمين.
ب - أنه يجب إزالة أسباب النزاع بين المجاهدين؛ لأن النزاع من أسباب الهزيمة، فالقائد المحنك هو الذي يحرص على نقل النزاع إلى صف العدو، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة نعيم، وغيرها.


الخامس والثلاثون: قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ﴾ [الأنفال: 43]، هذه السلامة حصلت بسبب الرؤيا، ولو شاء سبحانه لكتب السلامة بلا سبب، ولكنه فعل ذلك مراعاة لطبيعة حال البشرية، ولذلك قال: ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الأنفال: 43].

السادس والثلاثون: قوله تعالى: ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ ﴾ [الأنفال: 43]، فيه أنه من أسباب النصر تصوير جيش العدو بما يدل على ضعفه وإن لم يكن ذلك واقعاً، وهذا ليس دائماً، بل لكل حال ما يناسبه، والقائد الحكيم هو الذي يراعي اختلاف الأحوال[3].

السابع والثلاثون: قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ﴾ [الأنفال: 44]. هذه الرؤيا رؤية يقظة لا منام فهي تصديق لرؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد بين فيها تعالى أن رؤيتهم لهم قليلاً أن ذلك في نظر العين لا في واقع الحال ليشجع قلوبهم، ويجرئهم على الإقدام عليهم ففيه اتخاد الأسباب التي تتقوى بها قلوب المقاتلين.

الثامن والثلاثون: قوله تعالى: ﴿ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾ [الأنفال: 44] أراد بذلك ربنا عز وجل أن لا يكون للكفار عذر في ترك اللقاء لو أرادوا، ولذا قال: ﴿ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [الأنفال: 44] وهذا الأمر الذي أراده، وأحبه هو ما بينه بقوله: ﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 7].

قال الرازي: واعلم أنه تعالى قلل عدد المشركين، وقلل أيضاً عدد المؤمنين في أعين المشركين، والحكمة في التقليل الأول تصديق رؤيا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأيضاً لتقوى قلوبهم، وتزداد جرأتهم عليهم، والحكمة في التقليل الثاني أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد، والتأهب والحذر، فصار ذلك سبباً لاستيلاء المؤمنين عليهم.

التاسع والثلاثون: قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]. في هذه الآية والتي قبلها بيان للأمور التي إذا فعلها الجيش تحقق له النصر، وهي:
أ - الثبات عند اللقاء.
ب - كثرة ذكر الله - عز وجل -.
ج - فعل الطاعات.
د - اجتناب المعاصي حالاً، والتوبة عما سبق منها.
ه - طاعة القائد، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هنا هو القائد لهم في المعارك.
و - الاتفاق، والتطاوع، وترك الاختلاف، والتنازع.
ز- التخلي عن دواعي الهوى، لأنه أكبر أسباب وقوع التنازع.
ي - الصبر على تطبيق هذه الأمور، واستشعار معية الله لمن قام بها.


[1] سبق تخريجه ص163.


[2] مسند الإمام أحمد (2 /13)، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير (1 /632)، برقم (3354).

[3] في تبوك اختلف الحال.