مشاهدة النسخة كاملة : تفسير القرآن الحكيم - الجزء الأول


ابو وليد البحيرى
27-04-2015, 11:47 AM
تفسير القرآن الحكيم من مقالات مجلة الإصلاح















لفضية الشيخ العلامة/ محمد حامد الفقي رحمه الله





إعداد ومراجعة مركز التراث والبحث العلمي





فضيلة الأستاذ الشيخ/ فتحي عثمان








تفسير القرآن الحكيم[1]



ï´؟ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ï´¾ [الإسراء: 9-10].





لقد جاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والعَرَبُ على حالةٍ من اتِّباع الهوى والافتِراق والتنافُر والتباغُض وسُوء الأخلاق تستَدعِي الرَّحمةَ والإشْفاق، فرفَع بينهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَنارَ القُرآن، وشرَع لهم من عذْب مَوارِده، وتلا عليهم من مُحكَم آياته، ما رفَع عن قلوبهم حُجُبَ الجهل وظُلُمات الهوى، وأحلَّهم من العِلم دارَ كَرامته وهِدايته، وطهَّر أخلاقَهم وزكَّاها حتى أصبَحت المثل الأعلى للسَّجايا الكريمة والآداب الفاضلة، ورقَّق من قلوبهم ما كان كالحجارة أو أشد قَسْوة، حتى أصبحوا - بحمْد الله - رُحَماء بينهم، تَراهُم رُكَّعًا سُجَّدًا يبتغون فضلاً من الله ورِضوانًا، وسَلَّ من قُلوبهم سَخِيمةَ العَداوة، وأطفَأ نِيران البَغضاء، وألَّف بينهم، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، وكانوا على شَفَا حُفرةٍ من النار فأنقذَهُم منها.





فبنور ذلك العِلم وكرمِ هذه الأخلاق، ورقَّة تلك القُلوب، وتآلُف هذه الأرواح - تَبوَّأتِ الأمَّة العربيَّة من العِزِّ والسُّلطان والسَّعادة مَقعَدًا لا يَنالُه إلاَّ مَن جعَل القُرآن له إمامًا وهاديًا.





القُرآن خير واعظٍ، وأفضَل مُعلِّم، تغَلغَل في نفْس العربي الذي لم يَكُنْ يعلم من الحياة إلا غنَمَه يرعاها، والجبال والقفار يَرتادُها، والحروب الأهليَّة يُوقِدُ نارها، فتكسبه جَفاءً في طبْعه وغِلظةً في نفسه، وشَراسةً في أخلاقه، فخرَّج القُرآن من ذلك البدوي جُندِيًّا باسلاً، وقائدًا محنكًا، وسياسيًّا مجربًا، ومهندسًا دقيقًا، وحاكمًا رفيقًا، وعالِمًا ضليعًا، ومؤمنًا قوَّامًا بالليل صوَّامًا بالنهار، وواعظًا مُحرِّكًا للقلوب، وأخيرًا خرَّجت جامعةُ الإسلام من تلك الأمَّة العربيَّة البدويَّة سُعاةً إلى الحياة على جَواد طرقها، وبُناةً لصُروح المدنيَّة والحضارة النافعة على أمتَنِ وأنفَعِ أسُسِها، وأساتذةً للأمم في كلِّ فنٍّ من فُنون الحياة الطيِّبة.





ولِمَ لا تُخرِج جامعةُ القُرآن الكريم أولئك الهُداة المفلِحين وبانيها وواضع نظمها الحكيمُ العليم اللطيف الخبير، وأستاذُها الأعظم والقائم على تنفيذ أساليبها وتشريع مَناهِلها هو أشرف الخلق رُوحًا، وأبرُّهم قلبًا، وأزكاهم نفسًا، وأرحبهم صَدْرًا، وأهداهم سبيلاً (محمد بن عبدالله)، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.





من ثَمَّ كان أوضَح المناهج إلى الإصلاح، وأقرب الطُّرق إلى الفَلاح، وأعذب الموارد لمادَّة حَياة الأرواح - هو ذلك القُرآن الكريم والتنزيل الحكيم، الذي نزَل به الرُّوح الأمين، على قلب أشرَفِ الأنبياء وأكرم والمرسَلين؛ هُدًى ورحمة وبشرى للمؤمنين.





فكان حقًّا على كلِّ ساعٍ إلى إرشاد الأمَّة الإسلاميَّة وإخراجها من ظُلمات الجهل، وضَلالات العوائد الوثنيَّة والعقائد الشركيَّة - أنْ يَقُودَها بالقُرآن ويَسُوقها بسنن مَن تنزَّل عليه الفُرقان، من قوله المؤيَّد، وعمله الموفَّق الذي حَفِظَه لنا خيارُ هذه الأمَّة وعُلَماؤها في كتبهم التي بذَلُوا قَيِّمَ حَياتهم، ونفيسَ أوقاتهم في تهذيبها وتخليصها من إلحادِ الملحِدين، وتحريف المبطِلين، وغُلوِّ الجاهلين، فإذا استَطاع الداعي الناصح أنْ يكون كذلك على بصيرةٍ من أمره، ووُفِّقَ أنْ يضع في يد أمَّته هذا السبب الأقوى - فهو الذي تُكتَب للأمَّة على يده آيةُ الفلاح، ويُنادِي عليها مُنادي الحق: ï´؟ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ï´¾ [النصر: 1].





وهذه الصحيفة "صحيفة الإصلاح" لا همَّ لها إلا نشْر شَرائع الإسلام وتقريبها لِمُتناوَل الناس على أحسن وجْه ومن أخصر طريق، وسبيلُها في ذلك سبيلُ أشرف الأئمَّة وخير المهتدين - صلوات الله وسلامه عليه - مُتأسِّية في ذلك بسلَف هذه الأمَّة من الصحابة والتابعين والأئمَّة الراشدين - رضوان الله عليهم أجمعين.





فنحن بمشيئة الله - تعالى - وحُسن مَعُونته جاعِلون لتفسير القُرآن الحكيم من هذه الصحيفة أوسَعَ مجالٍ وأرحَبَ مكان؛ ابتغاءَ أنْ ينتشر نوره في قُلوب إخواننا ليهتدوا به إلى مِثْلِ ما اهتَدَى به سلَفُنا الصالح؛ فتنهض الأمَّة من كبوتها، وتُقال العقولُ من عثرتها، ويتهيَّأ للمسلمين من حَياة العِزِّ والسعادة ما تفضَّل الله به على آبائنا الأوَّلين - رحمة الله عليهم أجمعين.





والتفسير الذي ستَقُوم الصحيفة بنشْره هو فَهْمُ القُرآن من حيث هو دِين يُرشِد النَّاس إلى ما فيه سَعادتهم في حَياتهم الأولى والآخِرة.





وطريقُنا إلى ذلك أنْ نستَخلِص من كَلام سلَف الأئمَّة مثْل ابن جرير وابن كثير والبغوي، وغيرهم ممَّن يَصِلُ إلى أيدينا تفسيرهم - خُلاصةً بعيدة عن الحشو والتكرار والمباحث اللفظيَّة غير المجدية، التي كثيرًا ما تصرف القارئ عمَّا في الآية من حِكمةٍ وعظةٍ، وتُبعِده عمَّا تنزَّل القُرآن له من هِداية وتَبصِرة، مُتوخِّين في ذلك الأسلوبَ السَّهل والمنهجَ المألوف الذي يتيسَّر به الانتفاعُ من ذلك التفسير، مجتهدين قَدْرَ طاقتنا في تطبيق مَواعِظ القُرآن وعِبَرِه على حَوادِث زمننا وما عليه الناسُ اليوم من تقدُّم وتأخُّر وهُدًى وضَلالة، آخِذين من العُلوم الكونيَّة الحديثة ما تدعو إليه الحاجة الماسَّة في إيضاح آيات الله، مُجانفين من ذلك ما لا يتَّفِق مع نُصوص القُرآن ولا يكون لنا فيه سلفٌ من خِيار عُلَمائنا المهتَدِين، ناظِرين إلى ما في كثيرٍ من التفاسير من قصص وإسرائيليَّات نَظَرَ الاعتدال والإنصاف، وازِنين لها بميزان المحدِّثين في الجرْح والتعديل، لا بميزان الهوى والرأي؛ فما صحَّ سنَدُه سُقناه، وما لم يصحَّ سنَدُه نبَذْناه، وهذا في الحقيقة لا فائدةَ فيه، ولا حاجةَ بنا إلى معرفته، مُعتَمِدين على حُسن مَعُونةِ الله - تعالى - راجِين من عُلَمائنا وإخواننا، بل مُعاهِدين لهم أنْ يردُّونا عمَّا نَقَعُ فيه من خطأ، وأنْ يُبيِّنوا لنا وَجْهَ الحق والصَّواب في ذلك؛ قيامًا منهم بواجب التعاوُن على البرِّ والتقوى، وخُروجًا عن إثْم السُّكوت عن باطلٍ ينتشرُ في الناس فيكون شرُّه مستطيرًا، فإنَّه ما أُصِيبَ المسلمون إلا من سُكوت عارف الحق عن بَيان حقِّه وردِّ المبطل عن باطله، والتهاون في ذلك هو الدَّاء الذي قتَل عُلومَنا، وقَضَى على حياتنا وأخلاقنا، وشرٌّ منه ألاَّ يرجع المُبطِل عن باطله، وأنْ يصرَّ عليه استكبارًا وعِنادًا بعد أنْ قامَتْ عليه الحجَّة التي لم تُبْقِ له من عُذرٍ مقبول.





وإنَّنا - بمشيئة الله تعالى - نُعاهِد إخواننا أنْ يكون مبدَؤُنا الذي لا نَحِيد عنه قيدَ شَعرةٍ (الرُّجوع إلى الحقِّ خيرٌ من التَّمادِي في الباطل)، وقُدوتنا في ذلك أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - حيث يقولُ في خطبته: "فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوِّموني"[2]، وأنْ نقبل النُّصح والحقَّ من الصغير قبلَ الكبير ما دام معتمدًا على برهانٍ من قول الله أو قول رسولِه، مُتأسِّين في ذلك بعُمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي قال: "أصابت امرأةٌ وأخطَأَ عمر"[3].





وإنَّ في هؤلاء لَخَيْرَ أُسوةٍ وأحسنَ قُدوةٍ، وفي اتِّباعهم الكرامة والعزَّة، والفضل الذي لا يعدل عنه إلا الجاهلون.





ولْنُقدِّمْ بين يديْ ذلك بعضَ ما ورد في فضْل القُرآن العظيم وتفسيره ناقِلين ذلك عن الإمام الشوكاني - رحمة الله عليه - قال[4]:


اعلَمْ أنَّ الأحاديث في فضائل القُرآن كثيرة جدًّا، ولا يتمُّ لصاحب القُرآن ما يَطلُبه من الأجر الموعود به في الأحاديث الصحيحة حتى يفهَمَ معانيه؛ فإنَّ ذلك هو الثمرة من قراءته، قال القرطبي: ينبغي له أنْ يتعلَّم أحكامَ القُرآن؛ فيفهَم عن الله مُرادَه، وما فرَض عليه؛ فينتَفِع بما يقرأ، ويعمَل بما يتلو.





فما أقبَحَ حاملَ القُرآن أنْ يتلو فَضائله وأحكامه عن ظَهرِ قلبٍ وهو لا يفهَمُ معنى ما يتلوه، فكيف يعمَلُ بما لا يفهَمُ معناه؟! وما أقبح أنْ يُسأَل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه، فما مثل مَن هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا.






وينبغي له أنْ يعرف المكيَّ من المدنيَّ ليُفرِّق بين ما خاطَب الله به عباده في أوَّل الإسلام، وما ندبهم إليه في آخِر الإسلام، وما فرَض عليهم في أوَّل الإسلام، وما زاد عليهم من الفرائض في آخِره...





وقال أيضًا: قال عُلَماؤنا: وأمَّا ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين: فمن ذلك أنَّ عليَّ بن أبي طالب ذكَر جابر بن عبدالله ووصَفَه بالعلم فقال له رجلٌ: جُعِلتُ فِداك، تَصِفُ جابرًا بالعلم وأنت أنت؟ فقال: إنَّه كان يعرف تفسير قوله - تعالى -: ï´؟ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ï´¾ [القصص: 85].





وقال مجاهد: أحبُّ الخلق إلى الله أعلَمُهم بما أنزَل الله.





قال الحسن: والله ما أنزل الله آيةً إلا أحبَّ أنْ تُعلَم فيمَن نزلت وما يَعنِي بها.





وقال الشعبي: رحَل مسروقٌ في تفسير آيةٍ إلى البصرة، فقيل له: إنَّ الذي يُفسِّرها رحَل إلى الشام، فتجهَّز ورحَل إلى الشام حتى عَلِمَ تفسيرَها[5].





وقال إياس بن معاويةَ: مثَل الذين يقرؤون القُرآن ولا يعلَمُون تفسيرَه كمثَل قومٍ جاءهم كتابٌ من عند مليكهم ليلاً وليس عندهم مِصباحٌ فتَداخلَتْهم روعةٌ ولا يَدرُون ما في الكتاب، ومثَل الذي يعرف التفسير كمثَل رجلٍ جاءَهمْ بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب[6].





وقال صِدِّيق حسن خان في تفسيره "فتح البيان": وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيرُكم مَن تعلَّم القُرآن وعلَّمَه))[7].





وعن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((الماهِرُ بالقُرآن مع السَّفَرة الكرام البرَرَة، والذي يقرأ القُرآن ويتتَعتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران))[8].





وقد وردَتْ في ذلك الباب - أيْ: فضائل القُرآن - أحاديثُ كثيرة، فأمَّا أحاديث فضائل القُرآن سورةً سورةً فلا خِلافَ بين مَن يعرف الحديثَ أنها موضوعةٌ مكذوبةٌ، وقد أقرَّ بذلك واضِعُها - أخْزاه الله - وليس بعد الإقرار شيءٌ، ولا اغترار بذِكر الزمخشري لها في آخِر كلِّ سورة، وهو قد نقَلَها عن "تفسير الثعلبي".





وقد أخطَأَ مَن قال: إنَّه يجوز التساهُل في الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال؛ وذلك لأنَّ الأحكام الشرعيَّة متساوية الأقدام لا فرقَ بين واجبها ومحرَّمها ومسنونها ومكروهها ومندوبها، فلا يحلُّ إثباتُ شيءٍ منها إلا بما تقومُ به الحجَّة، وإلا فهو من التقوُّل على الله بما لم يَقُلْ، ومن التجرُّؤ على الشريعة بإدْخال ما لم يَكُنْ منها فيها، وقد تَواتَرَ أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كذَب عليَّ متعمدًا فليَتبوَّأ مقعدُه من النار))[9]، انتهى ببعض تصرُّف.





أقول: إنَّ الضعيف ليس كلُّه في درجةٍ واحدة، فكلام الشيخ صدِّيق إنما يَصدُق على ما كان شديدَ الضَّعف؛ لأنَّ في إسناده مَن يُرمَى بالكذب، وأمَّا ما كان في درجة الحسن فلا شكَّ في صحَّة الاستدلال به.






[1] "مجلة الإصلاح"، العدد الأول - 15/2/1347 هـ.




[2] أخرجه ابن إسحاق في "السيرة"، كما في "سيرة ابن هشام" 2/661، والدارقطني في "المؤتلف والمختلف"، وفي "غرائب مالك"، كما في "تخريج الأحاديث والآثار"؛ للزيلعي 2/406.




[3] ذكره القرطبي في "تفسيره" 5/99.




[4] "فتح القدير"1/13.




[5] إلى هنا انتهى النقل عن الشوكاني.




[6] ذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" 1/40.




[7] أخرجه البخاري (5027).




[8] أخرجه مسلم (798) من حديث عائشة - رضِي الله عنها.




[9] أخرجه البخاري (106، 107، 1291)، ومسلم في مقدمة صحيحة (2، 3، 4) من حديث عليٍّ والمغيرة والزبير وأبي هريرة وأنس - رضي الله عنهم جميعًا.

ابو وليد البحيرى
28-04-2015, 03:59 PM
تفسير القرآن الحكيم

من مقالات مجلة الإصلاح

لفضية الشيخ العلامة/ محمد حامد الفقي رحمه الله

إعداد ومراجعة مركز التراث والبحث العلمي

فضيلة الأستاذ الشيخ/ فتحي عثمان

بسم الله الرحمن الرحيم[1]

تفسير القُرآن الحكيم


قد أمَر الله - سبحانه وتعالى - بالاستعاذة من الشيطان الرجيم قبلَ القِراءة؛ فقال - تعالى -: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98].

واختلفوا بأيِّ الألفاظ تكونُ؟ وخيرها ما صحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من هَمزِه ونَفخِه، ونَفثِه))، كما رواه أبو سعيدٍ الخدري[2]، قال الترمذي: هو أصحُّ شيءٍ في هذا الباب.

والهمْز: الموتة، وهي الخنق، والنَّفخ: الكِبر، والنَّفث: قولُ الزور والباطل، ومعنى ((أعوذ بالله)): ألتَجِئُ إليه وأمتنع به ممَّا أخافُه وأحاذره، و((الشيطان)) من شطن بمعنى: بَعُدَ عن الرحمة؛ لأنَّه تمرَّد وتعدَّى حدوده، وهو اسمٌ لكلِّ عاتٍ من الجنِّ والإنس والحيوان، و((الرجيم)) المطرود باحتقارٍ وتصغيرٍ.

والاستعاذَةُ تُطَهِّرُ القلب من كلِّ شاغِلٍ عن الله، وهي إقرارٌ بالعجز والضعف والحاجة والفقر إلى حِفظ الله ورِعايته، وإنما ينتَفِع المستعيذُ بها إذا صدَرتْ عن قلبٍ أحسَّ بحاجَتِه إلى العِياذ، وأحسن اللُّجء إلى السميع العليم.

وقد افتتَحَ الله كتابَه الكريم بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، وهو قُدوَتنا وإمامُنا، فليكنْ من شأننا نحنُ أيضًا أنْ نبدأ باسم الله الكريم كلَّ أعمالنا وجميع شُؤوننا، ومعناه: أنَّنا نعمَلُ الأعمال مُتَبرِّئين من أنْ تكون باسمنا، بل هي باسم ربِّنا، ولأنَّ القوَّة التي تُعِينُنا على العمل أمدَّنا الله بها وأعطانا إيَّاها، ونحن نرجو من أعمالنا وجْه الله وإحسانه ومَثُوبته، فلولا اللهُ - تعالى - لم نقدرْ على عملٍ، ولو قدرنا فلا نعمل لولا أمره ورجاء فضله.

ومعنى (البسملة) على هذا: أنَّ كلَّ ما يُقرَّر في القُرآن الذي بُدِئَ بالفاتحة كله من عند الله، وهو لله ليس لأحدٍ من الخلق فيه شيءٌ لا ابتداءً ولا غايةً.

وقال ابن جرير[3]: إنَّ مَعناه في ذلك عند ابتدائه في فعْل أو قول أبتَدِئ بتسمية الله قبلَ فعلي وقبلَ قولي، وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القُرآن: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾، إنما معناه: أقرَأُ مُبتَدِئًا بتسمية الله - تعالى - أو: ابتدئ قِراءتي باسم الله.

﴿ الله ﴾ هو الذي يُؤلِّهه كلُّ شيء، ويَعبُده كلُّ مخلوق، أصله: الإله، أُسقِطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم فصارت في اللفظ لامًا واحدة مشدَّدة؛ كما في قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ﴾ [الكهف: 38] أصله: لكن أنا هو الله ربي.

﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ اسمان مشتقَّان من الرحمة، وفرْق ما بينهما: أنَّ الرحمن هو المتَّصِف بالرحمة العامَّة الشاملة لأهل الدنيا والآخِرة، لا فرْق في ذلك بين مؤمن وكافر، وطائع وعاصٍ، وإنسان وحيوان، من الإفضال والإحسان إلى جميعهم: في البَسْطِ في الرزق، وتسخير السحاب بالغيث، وإخراج النبات من الأرض، وصحَّة الأجسام والعُقول، وسائر النِّعَمِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى التي يشتَرِك فيها جميعُهم بلا تفضيل واحدٍ عن الآخَر، وفي الآخِرة سوَّى بينهم في عدله وقَضائه، فلا يظلم أحدًا منهم مِثقالَ ذرَّة.

و﴿ الرحيم ﴾ هو المتَّصف بالرحمة الخاصَّة بالمؤمنين في الدُّنيا بهدايتهم وتوفيقهم إلى سبيل مَرضاته، وفي الآخِرة بالإحسان إليهم، وعظيم المثوبة برضاه، وجنات تجري من تحتها الأنهار؛ وقد قال - جلَّ شأنه -: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43].

وقال الشيخ محمد عبده: إنَّ صيغة (فعلان) تدلُّ على وَصْفٍ فعليٍّ فيه معنى المبالغة، كـ(فعَّال) وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة؛ كعطشان، وغرثان، وغضبان، وأمَّا صِيغة (فعال) فإنها تدلُّ في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا؛ كعليم، وحليم، وجميل.

فلفظ ﴿ الرحمن ﴾ يدلُّ على مَن تَصدُر عنه آثَار الرحمة بالفعل، وهي إفاضة النِّعَمِ والإحسان.

ولفظ ﴿ الرحيم ﴾ يدلُّ على مَنشَأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة.

ولا يُستَغنى بأحد الوصفَيْن عن الآخَر، ولا يكون الثاني مُؤكِّدًا للأوَّل، فإذا سمع العربي وصْف الله - تعالى - بالرحمن وفهم منه أنَّه المفيض للنِّعَم فعلاً لا يعتقد أنَّ الرحمة من الصفات الواجبة له دائمًا؛ لأنَّ الفعل قد ينقطع إذا كان لم يكنْ عن صفةٍ لازمةٍ ثابتة وإنْ كان كثيرًا، فعندما يسمع لفظ ﴿ الرحيم ﴾ يكمل اعتقاده على الوجه الذي يَلِيقُ بالله - تعالى - ويرضيه - سبحانه - ويعلم أنَّ لله صفةً ثابتة هي صفةُ الرحمة التي عنها يكونُ أثرها وإنْ كانت تلك الصفة على غيرِ مثال صِفات المخلوقين، ويكونُ ذِكرُها بعد ﴿ الرحمن ﴾ كذكر الدليل بعد المدلول؛ ليقوم برهانًا عليه، ا.هـ.

(سورة الفاتحة)

السورة: طائفة من القُرآن لها أوَّل وآخِر، وترجمةٌ باسمٍ خاصٍّ بها.

وأسماء السور توقيفيَّة، وكذا ترتيبُ آيات السور؛ أي: يتوقَّف على النقل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وأمَّا ترتيب السور ففيه خلاف، والراجح أنَّه من الصحابة بالاجتهاد لا التوقيف.

وأسماء السور لم يُثبِتْها الصحابة في المصاحف، وإنما أثبَتَها الحجَّاج بن يوسف، كما أثبتَ الأعشار والأسباع، والنَّقط والشَّكل وغيرها؛ خوفًا على القُرآن من التحريف لَمَّا شاعَتْ العُجمَةُ في زمنه بكثْرة اختلاط العرب بغيرهم من أهل اللُّغات الأخرى.

﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 1 - 7].

تُسمَّى (فاتحة الكتاب) لأنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - افتتحوا بها كتابَةَ المصحف، ولأنَّها تُفتَتح بها القراءة في الصلاة، وتُسمَّى (أم الكتاب) لأنها جمعت ما تضمَّن القُرآن الكريم من مقاصد توحيد الربوبيَّة والإلهيَّة والعبادة بأنواعها، والاعتبار بِمَن مضى من السابقين على الهدى المستقيم، فنالوا سعادة الأولى والآخِرة، فيُقتَدى بهم، أو على الصراط المعوجِّ فنالوا من عُقوبة الله وسخطه في الدُّنيا والآخِرة ما به العِبرة، وفيه العظة الكافية، فيُتنكَّب عن سبيلهم، ويُبتَعد عن خبيث أعمالهم، وهذا إجمالُ ما في القُرآن من أغراضٍ جاءت بعدُ في السُّوَرِ الأخرى مُفصَّلة مُبيَّنة على أحسن وَجْهٍ وأكمله، ليس المقصود من أنها أمُّ القُرآن كما يَذكُره جماعة من غُلاة المتصوِّفة ممَّا يسمونه بالإشارة ودلالة الحروف، فيقولون: أسرارُ القُرآن جُمِعتْ في الفاتحة، وأسرار الفاتحة جُمِعتْ في البسملة، وأسرارُ البسملة جُمِعتْ في الباء، وأسرار الباء جُمِعتْ في النُّقطة؛ فإنَّ هذا القول لا يقومُ عليه برهانٌ من صحيحِ منقول ولا صريحِ معقول، وما هو إلا اختراعٌ صدَر عن عُقول شُغِفَتْ بالغَرائب والتَّمويهات لِمَآرب وأغراض لا تتَّفِق مع ما جاء به الإسلام وكِتابه المبين، ولقد أدَّى نُشُوء ذلك عند بعض الناس إلى ذَهاب ما أُنزِل القُرآن من أجله من هداية الناس إلى الطريق الأقوم في كلِّ ما هم بحاجةٍ إليه من مَعاشِهم ومَعادِهم، وعادَ القُرآن بعد ذلك آلةً للدجَّالين والمخرِّفين الذين يُسَمُّون ذلك - كذبًا وباطلاً - بركة القُرآن، وما بركة القُرآن إلا لطائفة المؤمنين المهتَدِين بهدي القُرآن قولاً وعملاً وحكمًا، الذين جدُّوا في الحياة بما هَداهم إليه القُرآن من الأخْذ بأسبابها المشروعة، وطرقها الممهَّدة، من صِناعات واختِراعات اكتسَبُوا بها من مادَّة الحياة ما نالوا به عزَّ الدنيا وسعادةَ الآخِرة؛ ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5].


وتُسمَّى أيضًا بالسبع المثاني؛ و(المثاني) جمع مثناة، وإنما توصف بذلك لأنَّ بعضها يثني بعضًا بفُصولٍ تفصل بينها؛ فيعرف انقضاء الآية وابتداء التي تَلِيها، كما وصَفَها به - تعالى ذِكرُه - فقال: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]، وقد يَجُوز أنْ يكون معنى (المثاني): المتكرِّرة مرَّة بعد مرَّة، أو معناها: التي استثناها الله - تعالى - لمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - دُون غيره من الأنبياء، وادَّخَرها له، وقيل: سُمِّيتْ بذلك لأنها يُثنَّى بها في كلِّ ركعةٍ من ركعات الصلاة، وتُعاد في كلِّ ركعة.

قال أبو الهيثم: سُمِّيتْ آيات الحمد مثاني، واحدتها مثناة، وهي سبع آيات، ويجوز أنْ يكون - والله أعلم - معنى المثاني: ما أُثنِي به على الله - تبارك وتقدَّس - لأنَّ فيها حمدَ الله وتوحيدَه، وذكرَ ملكه يوم الدِّين.

وقال الفراء[4] في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ [الزمر: 23]: أي: مُكرَّرا؛ كرَّر فيه الثواب والعقاب.

وقد نزلت الفاتحة بمكة، وقيل: بالمدينة، وقال كثيرون: إنها أوَّل سورةٍ أُنزِلتْ بتَمامها، وقد رجَّح الشيخ محمد عبده أنها أوَّل ما نزَل على الإطلاق، ولم يستثنِ قوله - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق: 1]، ونزع في ذلك منزعًا غريبًا في حِكمة القُرآن وفقه الدِّين، وتكلَّم بكلام حسنٍ في ذلك، لولا ما يُعكِّر عليه من الأحاديث الصحيحة التي صرَّحت تصريحًا لا مجالَ للشكِّ فيه بأنَّ أوَّل ما نزَل على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غار حراء: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق: 1]، ولا يعدل عمَّا أفادَتْه هذه الأحاديث الصحيحة.

وهي سبع آيات على أصحِّ الأقوال، ليس منها البسملة، وهي - على ما يترجَّح من مجموع ما ورَد - آيةٌ من القُرآن قائمة بنفسها جُعِلَتْ للفصْل بين السُّوَرِ، وللفقهاء في ذلك خلافٌ طويل ليس هذا موضع تنقيحه.


[1] "مجلة الإصلاح"، العدد الثاني - 15/3/1347هـ.

[2] أخرجه أحمد 3/50، وأبو داود (775)، والترمذي (242)، وقال الترمذي: وحديث أبي سعيدٍ أشهر حديثٍ في هذا الباب، وصحَّحه الألباني.

[3] "تفسير ابن جرير الطبري" 1/51.

[4] "معاني القرآن"؛ للفراء 4/116.