مشاهدة النسخة كاملة : أثر البصمة الوراثية في تصحيح النسب


ابو وليد البحيرى
27-04-2015, 05:11 PM
أثر البصمة الوراثية في تصحيح النسب

أ. د. محمد جبر الألفي

يُقصَد بتصحيح النسب:
(الإجراء الذي تقوم به السلطة القضائية لإصلاح خطأ شابَ نسبَ شخصٍ بردِّه إلى أصله الشرعي)[1]، ويَكثُر هذا الخطأ في المجتمعات القَبَليَّة، حيث تتولى أسرة ميسورة تربيةَ طفل من أسرة فقيرة، فينسبُه ربُّ الأسرة إليه؛ لتيسير الإجراءات التعليمية والصحية للطفل، وبعدما يبلغ أشده، ويظهر نبوغُه ترفع أسرته الدعوى وتقيم البينة لتصحيح نسبه، أو يرفع هو الدعوى طالبًا انتسابَه إلى أسرته الحقيقية، ويلجأ القضاء - في مثل هذه الحالة - إلى طلب تقرير الفحص الوراثي؛ للتأكد من دعوى المدعي[2].

وقد ينسب مولود إلى شخص عن طريق الخطأ أو الغش، ثم يظهر بعد ذلك أنه ليس أباه، فيفصل القاضي في الدعوى بِناءً على البينة لتصحيح نسب المولود، والصواب: أن يلجأ القاضي إلى طلب تحليل الحمض النووي؛ لأنه أقوى في الدلالة على صحة النسب، وقد ذكر الفقهاء أنه لو أقرَّ رجل بأن هذا الطفل ابنه، وتوافرت شروط الإقرار بالنسب، ثبت نسب الطفل من المقرِّ، فإذا ادَّعاه رجل آخر وأقام البينة على أن هذا الطفل ابنه، حكم القاضي بثبوت نسب الطفل ممن أقام البينة، ويبطل نسبه من المقرِّ[3].

ونحن نرى: أن تصحيح النسب في هذه الحالة ينبغي أن يُبنى على نتائج فحص البصمة الوراثية؛ لأنها أقوى في الدلالة على صاحب الماء، ويتحقق بها سدُّ الذريعة إلى التبنِّي المنهي عنه شرعًا[4].

ويحدث في مستشفيات الولادة أن ينسب المولود إلى شخص معين، ثم يتضح بعد ذلك وجود خطأ بشري في هذه النسبة[5]، ولتصحيح هذا الخطأ في النسبة طريق واحد هو الفحص المختبري، بِناء على قرينة اختلاف فصائل الدم، أو نتيجة لتحليل بصمة الحمض النووي.

وشبيه بذلك ما قد يحدث من اختلاف الأطفال الخدج داخل الحضَّانات، أو ما قد يحدث من خطأ في صاحب النطفة في حالات أطفال الأنابيب، ونحو ذلك، فطريق تصحيح النسب هو تحليل البصمة الوراثية.

وقد اختلف الفقهاء في الحالة التي يحكم فيها القائف بنسبة طفل إلى رجلين: فذهب الحنفية إلى عدم اعتماد قول القائف؛ لأن الشرع حصر دليلَ النسب في الفراش[6]، وذهب المالكية والشافعية[7] إلى أن المولود لا يُلحَقُ إلا برجل واحد، فإذا قضى القافة باشتراك رجلين أو أكثر فيه، يُؤخَّرُ الولد إلى حين بلوغه، فيخيَّر في الالتحاق بمن شاء منهم، بِناء على الميل الفطري بين الولد وأصله، ورجح الحنابلة[8] إطلاقَ العمل بقول القافة، فإن ألحقوه بواحد لحق به، وإن ألحقوه باثنين أو أكثر التحق بهم جميعًا.


نقل بعض الفقهاء إجماعَ الأطباء على استحالة تخلُّق الجنين من ماء رجلين؛ لأن الوطء في نفس الطهر لا بد أن يكون على التعاقب، وإذا اجتمع ماء الأول مع ماء المرأة، وانعقد الولد منه حصلت عليه غشاوة تمنع من اختلاط ماء الثاني بماء الأول[9].

وهذا هو ما قرَّره الطب الحديث، حيث أكَّد استحالة أن يتخلَّق الإنسان من مني رجلين مختلفين[10].

وعلى هذا؛ فإن بصمة الحمض النووي تُعدُّ قرينةً قاطعة في تصحيح النسب، إذا حكم القائف بنسبة طفل إلى رجلين أو أكثر، نتيجة نكاح فاسد أو وطء بشبهة، أو تنازع اثنان فأكثر نسب المولود أو اللقيط، والله أعلم.


[1] بنفس المعنى: الروض المربع: ص 363، المصباح المنير، للفيومي.

[2] ينظر: الصك الشرعي من المحكمة الكبرى بمكة المكرمة، الصادر بتاريخ 13/ 3/ 1424هـ.

[3] المبسوط، السرخسي: 16/ 115، تبصرة الحكام، لابن فرحون: 1/ 253، نهاية المحتاج، للرملي: 8/ 395، كشاف القناع، للبهوتي: 6/ 434.

[4] سورة الأحزاب: 4، 5.

[5] كخطأ الممرضة في وضع الأسورة التي تحمل اسم المولود.

[6] المبسوط، للسرخسي: 17/ 70، بدائع الصنائع، للكاساني: 6/ 242.

[7] بداية المجتهد، لابن رشد: 2/ 328، مغني المحتاج، للشربيني: 4/ 490.

[8] منتهى الإرادات: 2/ 488، المغني، لابن قدامة: 5/ 775.

[9] المبسوط، للسرخسي: 17/ 69، فتح القدير، لابن الهمام: 5/ 50، مغني المحتاج، للخطيب: 6/ 441.

[10] مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون: 621.