مشاهدة النسخة كاملة : الاستشفاء بالماديات


ابو وليد البحيرى
29-04-2015, 11:40 PM
الاستشفاء بالماديات
سعيد عامر



لله - عز وجل - في خلقه شئون، وقد شاء - سبحانه - أن يودع في الأسباب صلاحية إيجاد المسببات، وليوقن المسلم أن السبب والمسبب من خلقه جميعًا، لا شريك له، فهو الفاعل الحقيقي، وهو المدبر وحده للكائنات، في كل لحظة من اللحظات، وتأثير الأسباب في مسبباتها قانون خلقه الله مرتبطًا بإرادة الله ومشيئته، فقد خلق - سبحانه - الحرارة والإحراق في النار، تفعل فعلها بإرادته وقدرته وإذنه لها، فإن شاء أن تكون بردًا وسلامًا كانت بأمره كن فيكون، وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)الأنعام.
ولقد أرشدنا الرسول إلى أدعية وتعاويذ تشفي من آثار الأمراض، وعلّمنا أن اللجوء إلى الله عند الأمراض هو أساس الشفاء، فلا شافي إلا هو، ولا شفاء إلا شفاؤه، وعلمنا كذلك الاستشفاء بالماديات، والتي فيها الشفاء النافع، والعلاج الناجع، لكثير من الأمراض بإذن الله - تعالى -، وتتلخص في:
أ- الحجامة:
مفهوم الحجامة:
الحجامة مأخوذة من الحجم، أي المص، يقال حجم الصبي ثدي أمه إذا مصّه والحجّام المصاص، والحجامة صناعته، والمِحْجَم يطلق على الآلة التي يُجمَع فيها الدم، وعلى مشرط الحجام.
والحجامة إخراج الدم من القفا بواسطة المص، وذكر الزرقاني: أن الحجامة لا تختص بالقفا، بل تكون من سائر البدن شرح الزرقاني على الموطأ، وإلى هذا ذهب الخطابي.
فالحجامة هي شَرْطُ الجِلْد بموسي ونحوه، وجذب الدم بالحَجْم ونحوه، وهو الدم الفاسد من الجسم، ويلحق بالحجامة الفصادة وهي قطع العروق، واستخراج الدم منها وكيها؛ ليقف سيلان الدم فالفصد والحجامة يجتمعان في أن كلاً منهما إخراج للدم، ويفترقان في أن الفصد شق العِرْق، والحجامة مصُّ الدم بعد الشرط.
حكمها:
الحجامة من خير الأدوية، وقد جاءت الأحاديث الدالة على مشروعيتها، والترغيب في التداوي بها، ولاسيما لمن احتاج إليها، فالتداوي بالحجامة مندوب إليه، وورد في ذلك عدة أحاديث منها: عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ؛ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ، وَقَالَ: ((إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، أَوْ هُوَ مِنْ أَمْثَلِ دَوَائِكُمْ)) مسلم.
وفي بعض الروايات: (خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ)) أحمد.
وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما – قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: ((إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ أَوْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ؛ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ)) متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وعن عاصم بن عمر بن قتادة أن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما - عَادَ الْمُقَنَّعَ، ثُمَّ قَالَ: لا أَبْرَحُ حَتَّى تَحْتَجِمَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((إِنَّ فِيهِ شِفَاءً)) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: والتحقيق في أمر الفصد والحجامة أنهما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والمزاج، فالحجامة في الأزمان الحارة والأمكنة الحارة والأبدان الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج أنفع، والفصد بالعكس انظر فتح الباري، كتاب الطب.
وتجوز الحجامة في أية ساعة، فقد احتجم أبو موسى ليلاً قال الحافظ: "ولا تقيد بوقت دون وقت؛ لأنه ذكر الاحتجام ليلاً، وذكر حديث ابن عباس أن النبي احتجم وهو صائم وهو يقتضي كون ذلك وقع منه نهارًا".
وعند الأطباء أن أنفع الحجامة ما يقع في الساعة الثانية أو الثالثة، وألا يقع عقب استفراغ، عن جماع أو حمام أو غيرهما، ولا عقب شبع ولا جوع، وقد ورد في تعيين الأيام للحجامة حديث لابن عمر عند ابن ماجه رفعه في أثناء حديث وفيه: ((فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد)) أخرجه من طريقين ضعيفين ابن ماجه، وحسنه الألباني.
ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في الأيام المذكورة، وإن كان الحديث لم يثبت.
وورد في عدد أيام من الشهر أحاديث منها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ)) أبو داود وحسنه الألباني، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي ورجاله ثقات، لكنه معلول، وشاهد آخر من حديث أنس عند ابن ماجه، وسنده ضعيف.
ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شيء، قال حنبل بن إسحاق: كان أحمد يحتجم أي وقت هاج به الدم، وأي ساعة كانت.
وقد اتفق الأطباء على أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر، ثم في الربع الثالث من أرباعه أنفع من الحجامة في أوله وآخره.
قال الموفق البغدادي: وذلك أن الأخلاط في أول الشهر تهيج، وفي آخره تسكن، فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه، والله أعلم. انظر فتح الباري.
أخذ الأجر عليها
ذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في قولٍ إلى جواز اتخاذ الحجامة حرفةً، وأخذ الأجرة عليها، واستدلوا بما ثبت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما – قَالَ: "احْتَجَمَ النَّبِيُّ، وَأَعْطَى الَّذِي حَجَمَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ" البخاري.
عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ؛ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ، وَقَالَ: ((إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، أَوْ هُوَ مِنْ أَمْثَلِ دَوَائِكُمْ)) مسلم.
فلو علمه حرامًا لم يعطه؛ ولأن الحجامة منفعة مباحة؛ فجاز الاستئجار عليها، ولأن بالناس حاجة إليها، ولا نجد كل أحد متبرعًا بهذا، فجاز الاستئجار عليها كالرضاع.
وذهب الحنابلة في قول آخر نسبه القاضي إلى أحمد قال: لا يُباح أجر الحجام، فإن أُعطِيَ شيئًا من غير عقد ولا شرط فله أخذُه، ويصرفه في علف داوبه، ومؤنة صناعته، ولا يحل له أكله. راجع المغني، ونيل الأوطار.
واستدلوا بما صح عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ)) أبو داود وصححه الألباني.
وكذلك بحديث محيصة أنه سأل النبي عن كسب الحجام فنهاه، فذكر له الحاجة؛ فقال: ((اعلفه نواضحك)) ابن ماجه وصححه الألباني.
وذكر ابن الجوزي: أن أجر الحجام إنما كره لأنه من الأشياء التي تجب للمسلم على المسلم؛ إعانة له عند الاحتياج له، فما كان ينبغي له أن يأخذ على ذلك أجرًا.
وجمع ابن العربي بين قوله: ((كسب الحجام خبيث)) وبين إعطائه الحجام أجرته بأن محل الجواز ما إذا كانت الأجرة على عمل معلوم، ويُحمل الزجر على ما إذا كان على عمل مجهول. انظر فتح الباري، كتاب الإجارة، باب خراج الحجام.
وقال النووي: "كونه خبيثًا من شر الكسب، فيه دليل لمن يقول بتحريمه، وقد اختلف العلماء فيه؛ فقال الأكثرون من السلف والخلف لا يحرم كسب الحجام، ولا يحرم أكله على الحُرّ ولا على العبد، وهو المشهور من مذهب أحمد، وفي رواية عنه قال بها فقهاء المحدثين يحرم على الحر دون العبد، واعتمدوا هذه الأحاديث وشبهها.
واحتج الجمهور بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - السابق قالوا: ولو كان حرامًا لم يعطه النبي، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي على التنزيه، والترفع عن دنيء الأكساب، والحث على مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، ولو كان حرامًا لم يفرق فيه بين الحر والعبد، فإنه لا يجوز للرجل أن يطعم عبده ما لا يحل ا. هـ.
والبعض ادعى النسخ، وأنه كان حرامًا، ثم أُبيح، وجنح إلى ذلك الطحاوي، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، والله أعلم.
ضمان الحجام
الحجام لا يضمن إذا فعل ما أمر به، وتوفر شرطان:
أ- أن يكون قد بلغ مستوًى في حذق صناعته يمكِّنه من مباشرتها بنجاح.
ب- ألا يتجاوز ما ينبغي أن يفعل في مثله. انظر المغني.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين