ابو وليد البحيرى
02-05-2015, 01:51 PM
المجاعات في الأندلس
فخري الوصيف
عانت الأندلس مثل غيرها من البلدان الإسلامية في العصور الوسطى من ويلات المجاعات؛ ويقصد بالمجاعة حالة شُحّ الغذاء أو عدمه التي تعانيها جماعة بشرية معينة وما قد ينجم عنها من موت أو مرض، وكذلك ما قد تؤدي إليه من آثار سياسيـة واقتصادية واجتماعية.
وللمجاعات كما هو معلوم أسباب متعددة، طبيعية وبشرية، وأهم أسبابها الطبيعية القحط، أي انحباس المطر أو تأخره عن موسم البذار، مما ينتج عنه شح الغذاء وارتفاع سعر المعروض منه إلى ما فوق إمكانيات غالبية الناس، وقد تتفاقم الأزمة من جراء عوامل طبيعية أخرى مثل سقوط البَرَد والجليد وهبوب العواصف، أو هجوم الجراد وتدميره للزروع والمحاصيل، أو انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة، بيد أن توالي المحل يظل العامل الأساس الذي ينتج عنه المجاعة.
وأما الأسباب البشرية فيقصد بها الحروب والثورات والفتن، والممارسات الظالمة من جانب السلطة القائمة. ولكي ندرس تاريخ المجاعات في الأندلس على نحو تفصيلي، وجدنا أنه من المناسب أن نبدأ بعرض لأخبار المجاعات على مدى تاريـخ هذا البلد، وهو ليس بالأمر الهين خاصة وأن المصادر بهذا الشأن قليلة مقارنة بموارد ذات الموضوع في تاريخ بلدان أخرى مصر أو العراق في العصور الوسطى.
1- قبل الفتح الإسلامي
تتردد في المصادر الإسلامية روايات ذات طابع أسطوري تتحدث عن توالي القحط في شبه جزيرة إيبريا مما أدى إلى هلاك الكثير من سكانها وفرار مـَنْ قدر منهم إلى الساحل الإفريقي، وبقيت البلاد مقفرة مدة قرن ثم أخصبت مرة أخرى وعادت إلى الازدهار والاعتمار[1].
وبغض النظر عن تلك الروايات الأسطورية، فالثابت أن شبه الجزيرة شهدت دورات من القحط والمجاعات والأوبئة على طول تاريخها القديم وباكر عصرها الوسيط، فعانت اسبانيا القوطية مثل هذه الكوارث في سنواتها الستين السابقة على الفتح الإسلامي، فعلى ما تذكر المدونات اللاتينية أصاب الجوع والمرض البلاد في سنة 647م على عهد الملك القوطي شينداسفينتو Chindasvinto (642-653م)، ويقال أن الخراب الحادث من جراء ذلك حال حينئذ دون حضور عدد من رجال الدين والأمراء حفل تنصيب ابنه لولاية العهد[2].
وفي عهد الملك ارفيجيو Ervigio (680-687م) حدثت مجاعة شديدة سنة 683م خربت البلاد[3]، حتى همّ سكانها بالخروج عنها[4]، واضطر الملك إلى إبراء الرعية من دفع الأقساط المتأخرة من الجباية المستحقة[5].
واتخذ نفس الإجراء خلـَفـُه اخيكا Egica (687-702م) عام 691م عندما عصفت مجاعة شديدة بالبلاد[6].
وبعد عامين، في عام 693م، فتك طاعون بالكثيرين[7].
وعلى عهد الملك القوطي قبل الأخير غيطشة Witiza (702-710م) وقعت مجاعة شديدة فيما بين عامي 707م و710م، انضم إليها تفشّي الوباء، فمات عدد هائل من السكان، كما نفقت أعداد كبيرة من الماشية[8].
ولقد أثرت هذه المجاعات والأوبئة، خاصة الأخيرة، في قوة دولة القوط الغربيين، وأدت إلى تدهور اقتصادي واجتماعي وتخلخل سكاني ساعد مع عوامل أخرى على نجاح المسلمين في فتح الأندلس حسبما ترى بعض النظريات الخاصة بهذا الموضوع[9].
2- عصر الولاة والدولة الأموية
يشير ابن عذاري منفردا إلى حدوث غلاء في الأندلس عام 129هـ (= 746-747م)، ولا شك أن ذلك كان بسبب الفتن القبلية التي كانت قائمة حينئذ بالأندلس، ولعل هذا ما يـُلمـِّح إليه في قوله: "وفيها كانت حروب ووقائع وغلاء في السعر"[10].
ومع ذلك، فإن أول مجاعـة عامة في تاريخ الأندلس، طبقا للمصادر، تلك التي وقعت سنة 131هـ (= 748-749م)، وتمادت إلى سنة 136هـ (= 753-754م)، إذ وقع محل عامّ بالأندلس سنة 131، تبعته المجاعة التي تواصلت إلى العام التالي باستمرار القحط، وفي عام 133 (= 750-751م) استعادت البلاد بعض الصلاح بسقوط المطر، غير أن القحط لم يلبث أن رجع وتوالى إلى بعض عام 136، فاشتد الجوع وخرج الناس إلى ساحل العدوة المغربية، وكان عبورهم من منطقة شذونة Sidona جنوب الأندلس في المنطقة المعروفة بوادي برباط Berbate، ولهذا سميت المجاعة بسنة برباط، أو سني برباط[11].
وقد تردد في بعض المصادر أن أهل الأندلس لجؤوا إلى منطقة وادي برباط لخصوبتها ووفرتها، فاحتملتهم سـِني المجاعة أو بعضها[12]، مما قد يفهم منه أن الأندلسيين لم يخرجوا إلى العدوة المغربية وأنهم ظلوا بمنطقة برباط، وهذا أمر ضعيف الاحتمال، فبرباط نهر صغير لا يمكن أن تحتمل ربوعه أعدادا كبيرة من الأندلسيين ولعدة سنوات إلا إذا كان قد اتخذ كنقطة عبور لحين المجاز إلى الشاطئ المغربي. ويرى ليفي بروفنسال أن الذين عبروا إلى العدوة المغربية بسبب المجاعة كانوا عدة آلاف من البربر[13]، وهو المرجح نظرا لغالبيتهم في الأندلس ولأنهم الأقرب إلى مواطنهم الأصلية في شمال إفريقيا.
ولهذه المجاعة اعتبار في تاريخ الأندلس، فقد جاءت في سياق تطور سياسي اجتماعي على قدر كبير من الأهمية، إذ حدثت في أعقاب موقعة شقندةSecunda 130هـ (= 747-748م) بين الفريقين السياسيين المتنازعين في الأندلس: اليمنية والقيسية، والتي على إثرها تحول الفريق الأول إلى حزب مناوئ للسلطة القائمة، وكان البربر حينئذ ناقمين على العرب، وذلك في ظل حكومة أندلسية ضعيفة رغم تمتع البلاد بقدر كبير من الاستقلال السياسي عن دولة الخلافة، وهذه بدورها كانت حينئذ تمر بفترة انتقالية بين سقوط السلطة الأموية وقيام العباسية.
وقد ازداد الوضع غير المستقر سوءا من جراء شدة المجاعة وتفاقمها. واستغل هذه الأوضاع نصاري الشمال بقيادة ألفونسو الأول ملك أشتورياس Asturias فاستولوا على جليقية Galicia واستورقة Astorga، ودفعوا بحدود الدولة الأندلسية جنوبا إلى ماردة Mérida أو إلى حدود ما عـرف بـ"الثغر الجوفي"[14].
وفي سنة 137هـ (= 754-755م) انقشعت الغـُمـَّة، وفي تاليها 138 (= 755-756م) انصلح حال البلاد، فكانت "سنة خـَلـْف"[15]، وهي السنة التي دخل فيها عبد الرحمن بن معاوية، الداخل فيما بعد، الأندلس وأسس الدولة الأموية الأندلسية.
وتكاد تخلو المصادر الأندلسية من الحديث عن حدوث أمحال في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل (138-172هـ = 756-788م)، غير أن كتاب "ذكر بلاد الأندلس" ينفرد بذكر وقوع "محل شديد" بالأندلس والعدوة في عام 139هـ (= 756-757م)[16]؛ كما يشير إلى أنه في عام 147هـ (= 764-765م) كان "قحط عظيم عامّ في جميع الأرض"[17]، وإن صدق ذلك الخبر[18] فإن هذا يعني أن القحط قد لحق أيضا الأندلس؛ وكذلك على حد قوله وقع "قحط عظيم" بالأندلس والمغرب عام 161هـ (= 777-778م)[19].
ومع ذلك لم يشر المصدر المذكور إلى حدوث مجاعات نتيجة لهذه الأمحال، مما يجعلنا نرجح أنها إما لم تكن شديدة التأثير، أو أن الأمير عبد الرحمن الداخل نجح بتدبيره في تلافي أخطارها. وكذلك يمر عهد ابنه الأمير هشام (172-180هـ = 788-796م) دون ذكر لقحط أو مجاعة.
وفي سنة 197هـ (= 812-813م)، إبـَّان عهد الحكم الرَبَضي (180-206هـ = 796-822م)، "عمّت أرضَ الأندلس أجمعها" مجاعةً شديدة[20]، وبلفظ المؤرخ ابن حيان القرطبي "الشدة"، وعند آخرين "غلاء" و"أزمة".
وبلغ من شدة البلاء أن ضِعاف الناس كانوا يكرّون الأيام دون أن يتعلّلوا بلقيمات، ومات كثير من الخلق خاصة بشرق الأندلس على حد قول صاحب "ذكر بلاد الأندلس"، وأجاز بعضهم البحر إلى أرض العـُدوة إذ كانت مخصبة. ومن المرجح أن تفاقم الشدة على هذا النحو سببه دوام القحط طوال موسم المطر أو أكثر من موسم مما أضر بالزرع، أي أن حدوث القحط إنما وقع على الأرجح في السنة السابقة على المجاعة، أو في السنتين السابقتين عليها، بمعنى أن القحط بدأ في سنة 196هـ أو 195هـ.
ولعله من الملائم بهذا الصدد تصحيح تأريخ المجاعة الوارد في "البيان المغرب"، وهو 199هـ[21]، إلى عام 197هـ المذكور بإجماع المصادر، فضلا على أنه يلاحظ أن نص ابن عذاري الذي يذكر الأحداث حوليا ينتقل مباشرة من عام 196هـ إلى عام 199هـ، كما أنه يذكر أن في هذا العام المذكور أغزى الأمير الحكم الغزوة المشهورة على برشلونة[22]، وهو أمر لا يستقيم مع الحالة السيئة للبلاد بسبب المجاعة، ومن ثمّ يتأكد أن المجاعة كانت في عام 197هـ وأن غزوة برشلونة حدثت في عام 199هـ.
وفي مواجهة الأزمة أكثر الأمير الحكم من مواساة أهل الحاجة، وفرَّق الأموال الكثيرة على الضعفاء والمساكين وعابري السبيل، وهو ما كان محل إشادة ومديح من الشاعر عباس بن ناصح، فقال في شعر له:
نكد الزمان فأمنت أيامــــه *** من أن يكون بعصره عسر
طلع الزمان بأزمة فجلا له *** تلك الكريهة جوده الغمـــر
كما دُعي لإقامة صلاة الاستسقاء، غير أن الحديث عنها فيه خلط بيـّن، فتارة ينسب خبر الصلاة إلى مجاعة أخرى تالية الذكر وقعت في أول عهد الأمير عبد الرحمن الثاني، وتارة أخرى يختلف في اسم الذي تولى القيام بصلاة الاستسقاء[23].
وكانت المجاعة التي حدثت سنة 207هـ (= 822-823م)[24] أ*** وأشد مجاعة عرفتها الأندلس حتى ذلك الوقت، إذ ذهب ضحيتها خلق كثير إلى حد وصف عيسى بن أحمد الرازي لها بأنها "المجاعة الأولي"، وارتفع المُدّ (مكيال القمح، ويبلغ حوالي 368 كغرام) في بعض الكور إلى 30 دينارا، وهذا يعني غلاء فاحشا لا يقدر عليه إلا القادرون، ولهذا تكفل الأمير عبد الرحمن الثاني (206-238هـ = 822-852م) بإطعام الضعفاء والمساكين من أهل قرطبة، وأما خارجها فلا نتوفر على معلومات، بيد أنه لا يمكن أن نتوقع أن حال الناس كان أفضل.
ومما يلفت النظر في أخبار المجاعة المذكورة ما قيل إن سببها انتشار الجراد بالأرض ولحسه الغلات وهجومه على الجهات، إلى جانب توقف الغيث واستمراره، فخرج الناس لصلاة الاستسقاء عدة مرات.
وفي الربع الأخير من عهد عبد الرحمن الثاني قحطت الأندلس قحطا عظيما شمل البلاد عام 232هـ (= 846-847م)[25]، ودام القحط معظم السنة، فلم يزرع الناس شيئا، كما هلكت المواشي واحترقت الكروم والأشجار، وكثر الجراد فزاد من حدة الأزمة وضيق المعيشة. وحسب صاحب "روض القرطاس" كان الأندلسيون خلال هذا القحط يجلبون "الميرة" من العدوة المغربية، وهذا أمر معقول وكثيرا ما كان يتكرر وقت الأزمات في الأندلس. وتضيف الرواية المشرقية (ابن الأثير والنويري) أنه هلك خلق كثير من الناس، غير أن هذا القول لا يجد دعما في المصادر الأندلسية والمغربية المذكورة التي اكتفت بالإشارة إلى ضيق المعيشة وغلاء الأسعار.
وربما تجد الرواية الأندلسية المغربية سندا لها في خبر ساقه ابن دحية الكلبي[26] مفاده أن الأمير عبد الرحمن الثاني في أواخر أيامه ولـَّى الشاعر يحيى بن حكم الغزال (ت في حدود سنة 250هـ = 864-865م) مسؤولية قبض الأعشار واختزانها في الأهراء، وعندما ارتفع السعر بسبب القحط وهو المشار إليه على الأرجح باع كل ما كان عنده من الطعام في الأهراء، وحينما علم الأمير أنكر ما صنع الغزال وقال "إنما تـُعدّ الأعشار لنفقات الجند والحاجة إليها في الجهد"، فلو كان الأمر قد وصل إلى حد المجاعة لأنفق الطعام المخزون في الأهراء كصنيعه في مجاعة 207هـ سابقة الذكر.
وتتمة الخبر أن الأمير أمر أن تؤخذ من الغزال الأموال التي باع بها ويشترى بها طعام ويودع في الأهراء إلى وقت الحاجة إليه، فرفض الشاعر رد الثمن نقدا وقال أنه يرد مقدار الطعام الذي باعه كيلا، أي أنه يشتري قدر ما باعه ويرده إلى الأهراء، وكما انخفض السعر فإنه سيحتفظ بالفرق الحاصل بين البيع والشراء، "وبين العددين بونٌ كبير نَحـْوٌ من ثلاثين ألفا" حسب كلمات الغزال، فأمر الأمير فحبسه، فقال الغزال:
إن تـُرد المال فإني امرؤ *** لم أجَمع المالَ ولم أكسِب
إذا أخذتَ الحق منـِّي فلا *** تـَلتمِس الربح ولا تـَرغب
قد أحسنَ الله إلينا معا *** إن كان رأس المال لم يذهب
ورُفـِع الشعر إلى الأمير، فأعجب به، وكذلك نال استحسان الحاضرين، ثم عفا عنه وأمر بإطلاقه.
وفي عام 236هـ (= 850-851م)، في أواخر إمارة عبد الرحمن الثاني، لحق المحل بكورة تدمير بشرق الأندلس، والظاهر أن تأثيره لم يكن هينا، إذ من المرجح أن الإدارة المركزية توقفت عن تحصيل الجباية من هذه الكورة عن العام المذكور على ما يفهم من نص ابن حيـّان[27].
وعاد القحط ليضرب البلاد في عام 253هـ (= 867-868م)[28] على عهد الأمير محمد ابن عبد الرحمن (238-273هـ = 852-886م)، كما أصاب أيضا العدوة المغربية حسبما يذكر صاحب روض القرطاس[29].
بيد أن ابن عذاري يشير إلى أن ذلك العام شهد "مجاعة عظيمة متوالية"[30]، والظاهر أنه يقصد حدوث القحط في ذلك العام، وأن استمراره إلى العام التالي، 254هـ (= 868م)، أدى إلى حدوث المجاعة، فيذكر ابن حيان[31] أن القحط اشتد في العام المذكور، وبلغ من شدته أن ازداد غؤور الماء ونضوبه بآبار قرطبة وعيونها، فكان أكثر شرب أهلها من نهرهم الأكبر، ويذكر أيضا أن قاضي الجماعة سليمان بن أسود كان قد برز للاستسقاء في شهر مارس، فلم ينزل الغيث في الشهر المذكور ولا في تاليه، ثم نزل فأقام بعض الزرع.
وهذا معناه فـَقـْد الجزء الأكبر من محصول الحبوب، وبطبيعة الحال أدَّى هذا، بالإضافة إلى ضعف المحصول في العام الماضي، أدى إلى الغلاء.
وقد استمر الحال على هذا المنوال عدة سنوات، وإن اختلف المؤرخون في تاريخ بدء هذه الفترة ومدة استمرارها، فابن الأثير يذكر أوليتها في سنة 251هـ (= 865-866م)، وأنها استمرت حتى سنة 255هـ (= 869م)[32]، بينما يذهب ابن أبي زرع إلى أن القحط توالى إلى سنة 265هـ (= 878-879م)، أي أن مدة القحط في زعمه استمرت ثلاثة عشر موسما، وهذا يخالف ما أورده ابن حيان[33] حين يذكر أن على الأندلس توالت "الأعوام الجَداعة"، أي الشديدة، في "عقدة الخمسين" حتى أردفتها مجاعة سنة 260هـ (= 873-874م)، وبعبارة أخرى فإن القحط استمر ثمانية أعوام وكان العام الأخير منها أكثرها شدة وضراوة في شح الأقوات فـ"عزت الخلق، ومات أكثرهم، وجرى المثل بها على ألسنة الناس دهرا: سنة ستين"[34].
ولم تكن ضراوة المجاعة في السنة المذكورة راجعا فقط إلى توالي القحط عدة سنين قبلها، ولكن أيضا إلى أن القحط شمل أيضا كل بلاد المغرب حتى إفريقية (تونس)، فتعذّر على الأندلسيين استيراد الغذاء، بل شمل الغلاء عامة بلاد الإسلام كما يذكر الطبري وغيره من المؤرخين المشارقة[35].
وزاد من الفاجعة حدوث وباء في الأندلس وبلاد المغرب حصد أرواح الكثير[36].
وانقشعت الغمة في السنة التالية 261هـ (= 874-875م)، فكانت "سنة خـَلـْف عقب سنة ستين الحالقة"[37].
وذكرت المصادر أن في عام مجاعة 260هـ طلب الأمير محمد المشورة من الوزراء وأهل المشورة بشأن فرض العشور على الغلات وجـَمْعـِها من الرعية، فكلهم رأوا وجوب ذلك على الناس وأن يعطوها من مذخور أطعمتهم ويشترونها من حيث ظهر لهم، ولم يخرج عن هذا الرأي إلا والي المدينة وليد بن عبد الرحمن بن غانم الذي نصح الأمير بأن يقبل معذرة الرعية لأنهم لم يزدرعوا هذا العام، فـ"إنما العشور على الغلات، إذا وجبها الله وجب أداء فرضه فيها، وإذا اجتثت أصولها فلا زكاة على من حرمها"، وحثه على ذلك مبينا له أن ملوك الروم في روما والقسطنطينية كانوا يفعلون ذلك، وأنه أولى بفعل ذلك. غير أن الأمير محمد رأى أنه ليس من الحزم فعل ذلك، وأصر أن يؤخذ منهم بعض ما عليهم وطلب منه أن يقوم بذلك، فرفض والي المدينة، فاستعفاه وولّى مكانه حمدون بن بسيـل المعروف بالأشهب وكان من المشهورين بالقسوة، واجتهد في جمع نصف عشور الناس مستخدما كل ضروب الشدة والفظاظة فما حصل على الربع[38].
وفي مدة الأمير المنذر بن محمد، على قصرها (273-275هـ = 886-888م)، قحطت الأندلس سنة 274هـ (= أواخر مايو / أيار887 منتصف مايو / أيار 888م)، ولكن كان القحط في الحقيقة راجعا إلى تأخر موعد سقوط المطر، واستمر هكذا الحال طوال شهر يناير، واستسقى الناس مرارا فلم تجـُدْ السماء إلا بثلج، ثم نزل المطر بعد دخول فبراير بأيام، "فسُقِي الناس وارتفع البأس"[39].
ومن المرجح أن هطول الغيث سبقته صلاة استسقاء أخرى قام بها الفقيه المشاوَر حينئذ بقرطبة أحمد بن زياد اللخمي بتكليف من الأمير المنذر[40].
وأما عهد الأمير عبد الله (275-300هـ = 888-912م) فقد اتسم بالاضطراب السياسي وتآكل سلطة الدولة بقرطبة، مما أضعف بطبيعة الحال من الموارد الاقتصادية للدولة، وبالتالي من قدرتها على التصدي للكوارث مثل مواجهة القحط، كما أن ضعف الدولة أدي إلى انعدام الأمن، وقلة الإنتاج، خاصة الزراعي والحيواني، واشتداد الأسعار، ولهذا ذكر أبو عمر يوسف بن يحيى المغامي (ت 288هـ = 901م)، راوي "كتاب التاريخ" لابن عبد الملك بن حبيب، فيما أضافه على نص الكتاب، واصفا عهد الأمير عبد الله، أو على الأحرى متنبئا، بقوله: "تتوافر في ولايته الأحزان ويسبى فيها العيال والأموال وتكسد فيها الأسواق وتغلو فيها الأسعار"[41].
وتشير المصادر إلى تكرار صلاة الاستسقاء في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من ولاية الأمير عبد الله[42]، ويبدو أن ذلك لتأخر الغيث عن موعده، فلم يؤد القحط إلى حدوث مجاعة إبانئذ.
ولكنها وقعت بعد ذلك سنة 285هـ (= 898م) وعرفت بـ"لم أظن" والسنة "سنة لم أظن"، ولم تذكر المصادر سبب التسمية، وقد شملت تلك المجاعة الشديدة جميع بلاد الأندلس والعدوة المغربية، وفيها غلا السعر كثيرا حتى أعجز الناس[43].
وبلغ من شدة أهوالها فيما يذكر ابن أبي زرع أن "أكل الناس بعضهم بعضا"، و"أعقبها وباء ومرض وموت كثير هلك فيه من الناس ما لا يحصى، فكان يدفن في القبر الواحد أعداد من الناس لكثرة الموتى، وقلة من يقوم بهم، وكانوا يدفنون من غير غسل ولا صلاة"[44].
وربما كان في قوله مبالغة، إذ لم تشر المصادر الأندلسية إلى هذه الأهوال، أو لعله يقصد بلاد العدوة.
ولم تنته مدة حكم الأمير عبد الله حتى وقعت مجاعة أخرى سنة 297هـ (= 909-910م) عرفت بـ"سنة جوع جيان"، وكانت محنة عظيمة لحقت بالناس فمات منهم كثير وعبر آخرون منهم البحر لأرض العدوة[45].
ومما يلفت النظر أن المصادر لم تنبئنا بسبب تسمية تلك المجاعة بـ "سنة جوع جيان"، ولعل ذلك لأنها انطلقت من هذه الكورة.
وأما الأمير عبد الرحمن الثالث، الخليفة الناصر فيما بعد، فمن المعروف أنه قضى تقريبا الثلث الأول من مدة حكمه الطويل (300-350هـ = 912-961م) في تثبيت أركان الدولة والقضاء على الثائرين عليه الذين كانوا قد نجموا تقريبا في أغلب البلاد، وإلى هؤلاء انضمت الطبيعة، فلم ترأف به وأذاقته بعضا من ويلاتها. ففي سنة 302 (= 914-915م) أمحل الناس، فاستسقوا خمس مرات، فلم يسقوا، وغلت الأسعار وقل المعروض من الحنطة في الأسواق. وطلب الأمير من الناس بالبروز للاستسقاء مرة أخرى، ففعلوا ذلك في 13 شوال المقابل الأول من مايو/ آيار 915م، أي بعد فوات موسم البذار، فجادت السماء برذاذ وندى مبلل أنقذ القليل من الزرع وضاع أكثره باليبس، وتواصل القحط طوال العام وشمل الأندلس كلها، وغلت الأسعار في جميع ربوعها[46].
وأدى استمرار القحط إلى السنة التالية 303هـ (= منتصف يوليو / تموز915 أوائل يوليو 916م) إلى حدوث مجاعة شديدة بالبلاد، وأيضا في العدوة المغربية وإفريقية حسب ابن أبي زرع[47]، شبهت بمجاعة سنة ستين، "فاشتد الغلاء وبلغت الحاجة والفاقة بالناس مبلغا لم يكن لهم عهد بمثلها، وبلغ قَفيز القمح حسب ِكيل سوق قرطبة (حوالي 147، 2 كغرام) ثلاثة دنانير درهم دُخل أربعين"[48].
وقوله ثلاثة دنانير درهم أي الدنانير الذهبية المصروفة بدراهم فضة، وكان صرف الدينار ثمانية دراهم، أي أن قفيز القمح بلغ 24 درهما فضة، وهو سعر لا يقدر عليه أواسط الناس، فكيف بعامتهم؟ ورغم ذلك لم يتوقف استمرار صعوده حتى انتهى قفيز القمح إلى 12 دينارا درهم فضة[49]، أي أصبح سعر القفيز 96 درهما فضة، فلم يجد الناس ما يقتاتون به فمات الكثيرون جوعا، وعمـَّت المجاعة الأندلس كلها أغلب العام المذكور.
وزاد من عظم البلاء وقوع الوباء، ويصّرح ابن حيان بأن المَوَتان كَثر "في أهل الفاقة والحاجة حتى كاد أن يُعْجَز عن دفنهم"[50]، وأمر طبيعي أن يبدأ انتشار المرض بين ضِعاف الناس لقلة إمكاناتهم وعدم توفرهم على الشروط الصحية الملائمة، بيد أن المرض لم يلبث أن سرى بين الجميع، وطال أهل الحاضِرة والنواحي على السواء، فيقول ابن حيان "وعاث المَوَتان في هذه الأزمة فأوْدَى بخلق من وُجوه أهل قرطبة وعُلمائها وخِيارهم، قَصَر المؤرخون بيانهم لكثرتهم، إلى من مات من أشْكالهم ببلاد الأندلس البعيدة ممن لم يأخذه إحصاء ولا اتصلت عِدّة"[51].
ومما يلفت النظر أن عبد الرحمن الثالث في مواجهته الأزمة اجتهد في فرض الأمن الداخلي في قرطبة بالضرب على أيدي الخارجين عليه والسرّاق وقطاع الطرق الذين لم يكونوا يتورعون عن مهاجمة الناس وسلب التجار[52]، وكان هذا تدبيرا جديدا، أو على الأقل لم تشر إليه المصادر من قبل في حوادث المجاعات. وإلى جانب ذلك، أكثرَ الأمير من صدقاته للفقراء والمحتاجين، وتأسّى به كبار رجال دولته مثل حاجبه بدر بن أحمد[53].
وكان من تأثير الشدة أنها حالت دون "تجريد صائفة، وإغزاء جيش"، فاكتفى الأمير بضبط ثغوره وحدوده[54].
وبعد قرابة عقد من الزمان وقع قحط في عام 314هـ (= 927م) في قرطبة[55] "وما يليها"، ويفهم من هذا أن المحل لم يكن عاما في سائر ربوع الأندلس، ومن المحتمل أن تكونا منطقتا الثغر الأعلى وشرق الأندلس قد أفلتتا منه.
على كل الأحوال، كان القحط في هذه المرة تأخرا في نزول الغيث، ولكنه كان كافيا ليغلو السعر وتضيق معايش الناس، وامتنع الناصر، على ما يذكر صاحب "البيان المغرب"، من أن يخرج بنفسه للغزو ذلك العام، وإن أخرج قواده بالصوائف.
وبرز صاحب الصلاة أحمد بن بقي بن مخلد للاستسقاء، كما أمر الناصر عماله في الكور بالخروج للاستسقاء، ففعلوا ذلك مرات، ثم نزل الغيث وانكشفت الغمة.
وتشير المصادر إلى حدوث قحط سنة 317هـ (= 929-930)[56]، غير أن تأخر القيام بصلاة الاستسقاء الأولى بناء على أمر الناصر بجامع قرطبة حتى يوم الجمعة 28 من المحرم، وليس 29 كما يقول صاحب "البيان المغرب"، الموافق افتراضا 13 من مارس سنة 929م، يجعلنا نرجح أنه كان توقفا عن استمرار هطول المطر، بمعنى أنها أمطرت في أول موسم الأمطار ثم توقفت، وتكون النتيجة أن تصاب باليبس الزريعة التي زرعت في الخريف، خاصة القمح والشعير[57]، ولا يمكن زراعة ما هو موعده في مارس أو أبريل مثل الأرز[58]، وهنا نفهم عبارة ابن حيان "أمحل الناس واحتبس الغيث، ونال ضرر ذلك الزرع، وغلت الأسعار وكلح الزمان".
وأمر الناصر بإقامة صلاة الاستسقاء عدة مرات، كما كتب كتابا على نسخة واحدة إلى جميع عماله على الكور يأمرهم بالاستسقاء.
ورغم ذلك ظلت السماء على حالها من الإمساك، ودُمغ العام بالمحل والغلاء.
وهذا نص كتاب الناصر إلى جميع عماله على الكور بالاستسقاء[59]: بسم الله الرحمن الرحيم،
أمّا بَعْدُ، فإن الله - عز وجل -، إذْ بَسَطَ ِرزْقه، وأَغْدَق نِعَمه، وأَجْزَل بركاته، أحبّ أن يُشكَرَ عليها، وإذا زَواها وقبَضها، أحبّ أن يُسْألها ويُضْرَع إليه فيها، و(وهو الرزّاقُ ذو القوة المتين) و(التوّاب الرحيم)، (الذي يقبلُ التوبة عن عِبادِه ويعفو عن السيّئات ويعلمُ ما تفعلون)، (وهو الذي يُنزِّل الغيثَ من بَعْدِ ما قنطوا، وينشُرُ رحمتَهُ، وهو الولي الحميد)، فأوجبت به الرغبة إليه، عزّ وَجْهه، فيه والخنوع لعزته والاستكانة له والإلحاح في المسألة فيما احتبس به، والتوبة من الأعمال المنكرة، التي تُوجِب سُخْطه، وتبْذِل نِقَمه، وتَسْتر وَجْه رِضاه، - تعالى - جِدّه.
وقد أمرْنا الخطيب فيما قِبَلـْنا بالاستسقاء في المسجد الجامع يوم الجمعة والجمعة الثانية التي تليها، إن أبْطأت السُّقـْيا، والبُروز يومَ الاثنين بعدهما، بجماعة المسلمين عندنا إلى مُصلاهم، أوْ يأتيَ الله قَبْلَ ذلك بغيثه المَعِيّ عنه، ورحمته المُنتظرة منه، المَرْجوّة عنده. فـَمْر الخطيب بموضعك أن يحتمل على مثل ذلك ويأخُذ به من قِبَله من المسلمين، وليحْمِلْهم ذلك المحمل، ولِتكُنْ ضَراعتهم إلى الله - تعالى -ضراعة مَنْ قد اعترف بِذَنْبه ورَجا رحمة الله، والله غفور رحيم، وهو المستعان، لا شريك له، إن شاء الله.
وعلى مدى سنة 324هـ (= آخر نوفمبر/ تشرين الثاني 935 منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 936) دهم الأندلسَ مـَحـْل عامّ [60] وصف ابن حيان شدته بقوله: "لم يعهد فيه بمثله ولا سمع كاتصاله، إذ تمادت السنة على محلها، وضنّت السماء بوَبْلها، فلم تَنِضّ بقطرة، ولا بَلـَّت مَدَرة"، ورغم ذلك لم ترتفع الأسعار ولم تضق أحوال الناس، ويعزو ابن حيان ذلك إلى توالي وروود الخيرات من كل الجهات.
ورغم أن المؤرخ القرطبي لم يحدد لنا ما هي هذه الجهات، فإنه من المرجح أنه كان يشير إلى باقي جهات الأندلس التي كانت تتوفر على مخزون كبير من الطعام فكانت ترسله إلى الحاضرة قرطبة ومنطقتها، إلى جانب ذلك يمكن القول أنه كان أيضا يلمح إلى جهات خارجية، فالنفوذ الطاغي للخليفة الناصر في شبه الجزيرة وعلاقاته القوية مع جيرانه وتعاظم ثروة البلاد في هذا الوقت كان يسهِّل كثيرا من استيراد الغذاء من الخارج، كما لا نستبعد استعداد الناصر لمثل هذا الأمر بتخزين الغذاء. وظل الحال على هذا المنوال حتى دخلت السنة الجديدة وجاء معها المطر في منتصف شهر نوفمبر 936م.
ومن المثير أن في ذات هذا العام الذي قحطت فيه الأندلس أهدى الناصر[61] إلى وليه والقائم بدعوته بالعدوة المغربية موسى بن أبي العافية هدية عظيمة كان فيها قدر كبير من أنواع الطعام مثل القمح والشعير والفول والحمص وغير ذلك[62]، وما من شك أن هذا يدعم قول ابن حيان بأن القحط لم يؤثر على أحوال الناس ويدل كذلك على قوة الوضع الاقتصادي للدولة الأندلسية حينئذ.
ومن المرجح أن الأندلس عانت من قحط على أواخر عهد عبد الرحمن الناصر على ما جاء في الخبر المتواتر من خروج القاضي منذر بن سعيد البلوطي (ت في أواخر ذي القعدة سنة 355هـ = أواسط نوفمبر / تشرين الثاني 966م) للاستسقاء بناء على أمر الخليفة[63]، بيد أن سقوط الغيث فيما بعد وخلو المصادر من حديث عن مجاعة في تلك الفترة يجعلنا نظن أنه لم يترتب على القحط المشار إليه شدة خانقة في الحصول على الأقوات.
ووقعت أول مجاعة بقرطبة في عهد الخليقة الحكم المستنصر (350-366هـ =961-975م) سنة 353هـ (= افتراضا 19 يناير/ كانون الثاني 964م - 6 يناير 965م)، فتكفل الخليفة الحكم بإطعام ضعفاء ومساكين قرطبة والزهراء "بما تُقيمُ أرماقهم"، أي دون توسعة تحسبا لامتداد الأزمة، ولكن في السنة التالية، التي وافق مقدمها موسم أمطار الشتاء، نزل الغيث بقرطبة "فرويت الأرض، وطاب الحرث، وسُرَّتِ النفوس"[64].
وفي سنة 358هـ (= افتراضا 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 968م 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 969م) وقعت مجاعة أخرى بالأندلس، وأمر الخليفة الحكم بأن يـُفرّق في "ضعفاء قرطبة اثني عشر ألف خبزة في كل يوم"[65]، ولا يذكر لنا صاحب الخبر إن كان هذا الإجراء جرى العمل به أيضا في باقي الأندلس، وعلى أية حال ظلت الإعانة سارية حتى زالت الغمة.
وفي أخبار سنة 363هـ (= 973-974م) يحدثنا ابن حيان بتفصيل دقيق عن بداية فصل المطر في ذلك العام (= أكتوبر/ تشرين الأول 973م) الذي امتد إلى نهاية فبراير/ شباط 974م، وكأن الناس كانوا في انتظار الغيث، كما يذكر أن امتداد هطول المطر لمدة خمسة أيام متتالية من شهر أكتوبر وشروع الناس في الحرث كان كافيا لتوقف صعود الأسعار وكانت عالية، ولعل هذا ما يحمل إلى الاعتقاد بأن العام السابق 362 كان شحيح المطر، فقلـّت الغلات وارتفع سعر المعروض منها[66].
بعد حوالي سبع سنوات من استئثاره بالسلطة في الدولة الأموية الأندلسية، واجه المنصور محمد بن أبي عامر مجاعة استمرت ثلاث سنوات بداية من سنة 378هـ (= 21 أبريل / نيسان 988 10 أبريل 989م) إلى سنة 380هـ (= 31 مارس / آذار 990 19 مارس 991م)، وفي رواية أخرى، من 379-381هـ[67].
وإذا كانت الرواية الأولى، وهي لابن حيان، تصرّح بتاريخ بداية المجاعة، فإنها لم تذكر صراحة أنها استمرت ثلاث سنوات، واستعاضت عن ذلك باستخدام صيغة الجمع عند الحديث عن سنوات المجاعة: "واعتورته السنون الشداد المتوالية من سنة 378هـ"، بينما يصرح صاحب "ذكر بلاد الأندلس" أن المجاعة "دامت ثلاث سنين"، وهو ما يؤكده ابن أبي زرع، ويصرح أيضا بأنها بدأت سنة 379هـ. وهو قول يدعمه ابن الفرضي الذي يذكر أنه في سنتي 379هـ و380هـ أقيمت في قرطبة صلاة الاستسقاء وتولاها القاضي محمد بن يبقى بن زُرْب (ت في رمضان 381هـ = نوفمبر / تشرين الثاني ديسمبر / كانون الأول 991م)، وأنه نفسه، أي ابن الفرضي، كان من شهودها[68].
ومع ذلك لم يأت ذكر لصلاة استسقاء في سنة 381 وهو العام الذي أشار إليه ابن أبي زرع بأنه شهد "قحطا شديدا ببلاد المغرب والأندلس وإفريقية"، كما يقول أن في آخر هذا العام "أغاث الله - تعالى -الأمة وتداركهم بالرحمة ومطر الناس مطرا عاما، وأكلأت الأرض وحَطـَّت الأسعار، وحيي الناس وانتعشت البهائم والدواب".
وثمة اختلاف آخر بين الروايتين، فبينما الأولى تقصر المجاعة على الأندلس، وتذهب إلى أن شدتها في العام الثالث دفعت المنصور إلى التفكير جديا بالجواز إلى العدوة "لخصبها يومئذ"، فإن الثانية تذهب إلى أن المجاعة شملت الأندلس والمغرب وإفريقية. وعلى كل حال، فرغم شدة المجاعة، لم يعانِ أهل قرطبة الجوع، إذ أمر المنصور، الحريص أشد الحرص على استمالة عامة الناس، بعمل اثنين وعشرين ألف خبـزة يوميـا بقرطبة، كان يفرقها على الضعفاء كل يوم منذ بداية المجاعة إلى أن انقضت[69]، فأتى مثل هذا الإنفاق الكبير على مخزون الحبوب الهائل في مخازن غلال الدولة، والذي كان قد أحصاه في سنة 374 (= 984-984م) وبلغ جملته أكثر من 200000 مدي (أي حوالي 73600 طنا)[70].
ويحق للمستعرب الاسباني بدرو شالميتا Pedro Chal**** أن يرى أن معالجة المنصور للأزمة على النحو المشار إليه اقتصر على سكان قرطبة ولم يشمل سائر سكان الأندلس[71]، فهكذا يصرح النص، ولكننا نعتقد أن المساعدة الحكومية امتدت إلى سائر الأندلس حسب حاجة كل جهة، فالأهراء التي كان المنصور قد أمر بجرد مخزونها من الحبوب في سنة 374، لم تكن موجودة فقط في العاصمة، بل من الراجح أنها كانت أيضا في المدن الكبيرة وقواعد الكور.
وإلى جانب إطعام الضعفاء، اتخذ المنصور إجراءات أخرى مثل إسقاط الأعشار والتكفل بتكفين الموتى وغير ذلك من ضروب المساعدة الإنسانية.
3- سنوات الفتنة وعصر دول الطوائف
وفي نهاية القرن الرابع الهجري وبداية الخامس ابتدأ نوع أخر من المجاعات كان العامل البشري هو المسبب الأول لحدوثها وليس العامل الطبيعي كما عهدنا في المجاعات سالفة الذكر.
والعامل البشري الذي تسبب في حدوث عدد من المجاعات في الأندلس تراوح بين الفوضى والظلم وحرب الاسترداد الكاثوليكية.
وفي هذا السياق تأتي الفتنة القرطبية، فلم تكن بداية الانهيار السياسي للأندلس فحسب، ولكنها كانت أيضا بمثابة المثال الحي على ما تسببه الفوضى من أضرار بالغة للمجتمع، خاصة ما تؤدي إليه من مجاعة، وهو أكثر ما يعنينا في هذا المقام.
بدأت الفوضى، كما هو معلوم، في تاريخ الأندلس بقيام محمد بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر على الدولة العامرية والبيعة لنفسه كخليفة باسم المهدي في أواسط جمادى الآخرة سنة 399هـ (= منتصف فبراير/ شباط 1009م).
والانتزاء على الخلافة أو القيام على السلطة القائمة ليس بالأمر المستغرب، ولا يؤدي الفعل في حد ذاته بالضرورة إلى الفوضى، ولكنها تحدث عندما لا يستطيع المنتزي بحسم وسرعة السيطرة على القوى السياسية المعارضة أو تحييدها، وتوحيد البلاد سياسيا وجغرافيا، وتفعيل التنظيمات الإدارية لتسيير شؤون الحياة اليومية للناس، وإشاعة الأمن في العاصمة وخارجها. ولكن المهدي لم ينجح في شيء من ذلك.
فالبربر كقوة سياسية فاعلة خرجت عن سيطرته، وهو نفسه كان من أشد أعدائهم، وشجع حزبه الجديد المشكل من عامة قرطبة على التحرش بالبربر، ف***وا بالفعل عددا كبيرا منهم، وهؤلاء سرعان ما بايعوا قريبه سليمان بالخلافة.
وبدأت الحرب بين الطرفين، وحدثت واقعة قـَنـْتيش التي فيها هزم جيش قرطبة في 13 ربيع الأول 400هـ (= 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1009م)، وبعد ثلاثة أيام دخل البربر قرطبة وبويع سليمان بالخلافة وسمي بالمستعين، وعند ذلك رد البربر الصاع صاعين إلى أهل قرطبة، فأذاقوهم الكثير من ال*** والنهب، وأصبح هؤلاء، وحسب نص ابن عذاري، "في نقص من الأموال والأنفس، وإلى ذلك انضم الوباء والمرض"[72].
ولم تكن هذه الحالة سوى مقدمة عامة للتفاصيل المؤلمة الواقعة في العامين التاليين.
ولم يستطع المستعين بدوره الإمساك بزمام الأمور، فما كان قادرا على وقف جماح البربر في الثأر من أهل قرطبة، فشاعت الفوضى في حاضرة الأندلس، وكذلك عجز عن لمّ شمل البلاد ومواجهة معارضيه، فمـُني بهزيمة في عقبة البقر El Vacar شمالي قرطبة، وهرب على إثرها إلى شاطبةJ?tiva، واضطر البربر إلى الجلاء عن قرطبة والتراجع إلى الجزيرة الخضراء Algeciras، وعاد المهدي إلى الحاضرة مرة أخرى. وأراد أن يستغل زخم انتصاره في القضاء على المعارضة البربرية، فقاد جيشه وحلفاءه النصارى للقاء البربر فلقي هزيمة قاصمة في وادي آره Guadiaro بالقرب من رندة Ronda في 6 ذي القعدة سنة 400هـ (= 21 يونيو / حزيران 1010م)، ورجع إلى قرطبة حسيرا ليلقى حتفه اغتيالا بعد شهر في 8 ذي الحجة.
بدأت معاناة قرطبة الحقيقية بعد هزيمة وادى آره، إذ دخل البربر الزهراء في 23 ربيع الأول سنة 401هـ (= 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1010م)، وضربوا الحصار على قرطبة وقطعوا الميرة عنها، وأخذوا يغيرون على أحوازها وعلى نهب وحرق ما في طريقهم، فكان أهالي البوادي يتركون قراهم وضياعهم من الخوف وينضمون إلى قرطبة، فمات "أكثرهم جوعا بها"، إذ نزعت الأسعار وارتفع الغلاء[73]، وبلغ مُدّ القمح، وهو قفيزان ونصف قفيز، ثلاثمائة دينار مصروفة دراهم ومقدارها مائة مثقال عينا[74]، "فاشتد بها الجوع وعدمت المأكل"[75].
ونقل لنا ابن عذاري نصا كاشفا عن المجاعة في قرطبة إبان الفتنة جاء فيه "واشتد حال أهل قرطبة حتى أكل الناس الدمَ من مذابح البقر والغنم، وأكلوا الميتة […]، وكان قوم في السجن فمات منهم رجل فأكلوه"[76].
واستمر الحال على هذا النحو حتى دخل المستعين قصر قرطبة في 27 شوال سنة 403 هـ، فأخذت تخف المعـانـاة قليـلا.
وفي بداية حكم على بن حمود، سنة 407 هـ (= 1016م)، انتعش أهل قرطبة لأخذه البربر بالشدة فرخت الأسعار كما يذكر ابن حيان، بيد أن في نفس العام، على ما ينفرد بذكره ابن أبي زرع، كان بالمغرب والأندلس وإفريقية "قحط شديد ومسغبة عامة ووباء كثير"[77]، ولا تذكر المصادر الأندلسية شيئا عن ذلك، وبالتالي لا نستطيع أن نحدد مدى تأثير ذلك على الأندلس.
لم تنقطع تماما الفوضى من عاصمة الخلافة حتى قيام أبي حزم ابن جهور بأمر قرطبة وحسن تدبيره لشؤونها (422-435هـ = 1031-1043م)، فانتعشت أحوالها، وبحسب نص ابن حيان، "واستمر في تدبيره بقرطبة، فأنجح سعيه بصلاحها ولمِّ شعثها في المدة القريبة، وأثمر الثمرة الزكية، ودبّ دبيب الشفاء في السقام فنعش منها الرُّفاة وألحفها داء الأمن ومانع عنها من كان يطلبها من البرابر […] حتى ألانها بضروب احتياله فرخت الأسعار وصاح الرخاء بالناس أن يعلموا فـَلبـُّوه من كل صقع فظهر تزيُّد الناس بقرطبة من أول تدبيره لها وغلت الدور وتحركت الأسواق وتعجب ذو التحصيل للذي أرأى الله في صلاح الناس"[78].
وفي خبر مقتضب ساقه ابن حيان في إطار حديثه عن الصراع الأخوي الدائر بين أبناء المستعين سليمان ابن هود في الثغر الأعلى يذكر أن "غلاء شديدا" حلّ بتطيلة Tudela وما حولها، كان على الأرجح فيما بين 441 و442هـ (1050-1051م)، فاستغاث أهلها بالمظفر يوسف ابن هود صاحب لاردة Lérida، الذي استجاب للإغاثة وجهز "طعاما كثيرا" وأراد إرساله إلى تطيلة، وكان الطريق لذلك أحد السبيلين، إما عن طريق سرقسطة، بلاد أخيه وعدوه المقتدر أحمد ابن هود، أو عن طريق وسط بلاد رميرو الأول Ramiro I ملك أراغون، فاختار الطريق الثاني وطلب من الملك النصراني السماح بعبور القافلة عبر أراضيه مقابـل قدر من المال، وعندما علم أخوه وغريمه المقتدر بالأمر أرسل أضعاف المال إلى رميرو الأول على أن يسمح له بعبور أراضيه والتعرض لقافلة الميرة، وبالفعل نال الموافقة، فقطع الطريق على القافلة و*** حاميتها وفاز النصارى بالأسلاب فضلا عن الأموال، أما هو فقد نال مراده، إذ دخل أهل تطيلة في طاعته وخرجوا على المظفر[79].
لا ينتاب الباحث في تاريخ الأندلس الاجتماعي فقط الإحساس بالخيبة من قلة الأخبار والمادة التاريخية الخاصة بموضوعنا، بل أيضا يتملكه الغيظ الشديد من اقتضاب أو صمت المصادر بشأن ما قد يراه خبرا هاما، ولدينا مثال كاشف على ما نقول. فيشير مؤرخون كبار مثل ابن بشكوال وابن عبد الملك المراكشي وابن الزبير إلى مجاعة كبيرة بالأندلس عام 448 هـ (= 1056-1057م) دون تفاصيل تشفي الغليل، وإذا كان عذر هؤلاء أنهم مؤرخو تراجم، فما عذر مؤرخ كبير مثل ابن حيان الذي كان معاصرا للحدث، اللهم إذا كان هذا الخبر متضمنا فيما ضاع من كتابات هذا المؤرخ الفذ.
وتأتي أول إشارة لخبر هذا المجاعة من ابن بشكوال فيذكر أن ابن المكوي عبد الله بن أحمد بن عبد الملك بن هاشم توفي بقرطبة في جمادى الأولى عام 448هـ (= يوليو/ تموز 1056م) "بالصيلم المشهورة بالأندلس"[80]، والصيلم: الداهية على الإجمال، ولكن في نص آخر لابن بشكوال نقلا عن ابن حيان يرجح لدينا أن المقصود بها المجاعة، إذ يقول المؤرخ القرطبي أن ابن الصناع محمد بن عبد الله المقرئ توفي بقرطبة صبيحة يوم الجمعة التاسع من المحرم سنة 448هـ (= أواخر مارس / آذار 1056م) "أيام اشتد القحط"[81]، وبمقارنة تاريخيْ الوفاتين نستنج أن القحط حدث على الأرجح في سنة 447هـ، وباشتداده أخذت المجاعة في الحدوث لتصل في العام التالي إلى ***وانها حتى يصل ابن بشكوال إلى وصفها بالصيلم.
ويسميها معاصر لها "عام الجوع الكبير"، فيقول الإشبيلي أبو مروان عبد الملك ابن المليلة (ت 535هـ = 1140-1141م) "كنت عام الجوع الكبير ابن اثنتي عشر عاما، وكان الناس يدفنون الثلاثة والأربعة في قبر واحد، والمساجد مربوطة أبوابها بالخزم (الحِبال) لا يوجد لها من يؤم بها ولا من يصلي فيها"[82]، ويحدد ابن عبد الملك المراكشي العام بقوله: "وكان الجوع الكبير سنة ثمان وأربعين وأربعمائة"[83]، ويتفق معه ابن الزبير[84]، أي كان ذلك في عهد المعتضد بالله ابن عباد (433-461هـ = 1042-1069م).
ويتفق تاريخ المجاعة المذكورة مع ما وقع من غلاء ووباء في بلدان كثيرة مثل العراق وخراسان والشام والحجاز وديار بكر ومصر واليمن و"الدنيا كلها" كما يقول ابن الجوزي[85].
ومما يجدر ذكره أن القحط المشار إليه والذي وقع في قرطبة واشبيلية في سنة 447هـ، ثم ما تلاه من مجاعة في العام التالي، لا نجد له ذكرا في باقي مناطق الأندلس حسب المصادر التي بأيدينا، بل إن علي بن مجاهد العامري صاحب دانية وجـّه مركبا كبيرا مملؤا طعاما إلى مصر سنة الجوع العظيم الذي كان بها في عام 447هـ، فرجع إليه المركب مملؤا ياقوتا وجوهرا وذهبا وذخائر[86]، وهذا الفعل وإن يحمل إلى الظن بأن شرق الأندلس قد نجـا من شـر المجاعة المذكورة، فإنه من المحتمل أيضا أن صاحب دانية قد أرسله من مذخور الطعام في بلده.
وفي ترجمة الإشبيلي أبي عبد الله محمد ابن منظور القيسي (ت شوال 469هـ = فبراير / شباط مارس / آذار 1077م) يشير ابن بشكوال إلى قحط أصاب أهل إشبيلية، ونجهل إن كان هو نفس القحط الحادث سنة 447هـ، فـ"بلغ قفيزهم أحد عشر مثقالا، وزيتهم ثمانية مثاقيل القسط"[87].
ولدينا خبر عن حدوث جـَدْب في بطليوس Badajos في عهد أميرها عمر المتوكل على الله ابن الأفطس (حكم على الأرجح من عام 464 إلى 487هـ = 1072-1095م) دون تحديد سنة حدوثه، ويبدو أن القحط كان شديدا، "فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو، ونزع ملابس الخيلاء والزهو" حسب نص الفتح بن خاقان[88].
وفي إشارة مقتضبة يشير ابن القصيرة على لسان المعتمد بن عباد في رسالة مؤرخة في 478هـ (= 1085-1086م)، في الغالب، موجهة إلى أقرانه ملوك الطوائف إلى سوء الأحوال في مملكته، فإلى جانب تهديدات ألفونسو السادس Alfonso VI ملك قشتالة فإن البلاد كانت تعاني من "جائحة القحط والجراد"[89]، ولا توجد لدينا معلومات عن هذا القحط وتأثيره.
ومن المناسب أن نشير في هذا المقام إلى شكل آخر من أشكال الجوع كان سبب وقوعه الظلم الفادح الواقع على الرعية، ولدينا بهذا الشأن نص فريد للمؤرخ ابن حيان عن أحوال الرعية في بلنسية تحت حكم الصقلبيـّيـْن العامريين مبارك ومظفـَّر (نحو 402-409هـ = 1011-1018م) [90]؛ فيذكر المؤرخ القرطبي أن تحت وطأة الضرائب العالية التي فرضها الحاكمين المذكورين ساءت حال أهل القرى وهرب عدد كبير منهم وخربت أراضيهم وأصبح "كثير منهم يلبسون الجلود والحصر ويأكلون البقل والحشيش".
وبطبيعة الحال عانى المسلمون من جراء حرب الاسترداد النصرانية بداية من النصف الثاني من القرن الخامس الهجري (= الحادي عشر الميلادي) معاناة شديدة ومتنوعة من *** وحرق وفقد للممتلكات، وغير ذلك، ومع ذلك، فإن الجوع الذي عاناه أهل بلنسية كان من أشد ما عرفه مسلمو الأندلس خلال تلك الحرب.
ويعزو ابن عذاري ذلك لطول مدة الحصار[91]؛ وهذا صحيح على الإجمال إذ دام حصار السِّيِد الكمبيادور Cid Campeador للمدينة قرابة عشرين شهرا، وبالتحديد 19 شهرا شمسيا ونصف الشهر، من نوفمبر / تشرين الثاني 1092 إلى 15 يونيو / حزيران 1094.
ولكن الحقيقة أن هذه الفترة تضمنت حوالي خمسة أشهر، من أبريل / نيسان 1093 إلى أواخر أغسطس / آب 1094، رفع فيها السـِّيد الحصار عن بلنسية، ولكنه لم يبتعد عن المدينة، إذا كان مقيما في أحد أحيائها الخارجية، وجيشه معسكرا على مشارفها، كما أن أهلها وغالبية توابعها كانوا يدفعون له إتاوة باهظة. على أية حال، خلال الحصار الثاني الذي امتد حوالي تسعة أشهر عانى البلنسيون الكثير حيث "هلك أكثر الناس جوعا، وأكلت الجلود والدواب وغير ذلك"[92]، وفي موضع آخر يقول ابن عذاري نقلا عن المؤرخ محمد بن علقمة (ت شوال من عام 509هـ = مارس / آذار 1116م): "وعدم الناس الطعام وأكلوا الفيران والكلاب والجياف إلى أن أكل الناسُ الناسَ، ومن مات منهم أكلوه فبلغ الناس من الجهد ما لا يطيقون، وقد ألف ابن علقمة كتابا في أمرها وحصارها يبكي القارئ ويذهل العاقل"[93].
وابن علقمة المذكور مؤرخ بلنسي شهد الحصار وعاناه وكتب في ذلك كتابا سماه "المصاب الفادح"، وللأسف فقد الكتاب ولم تبق منه إلا قطعة حفظها لنا ابن عذاري في كتابه البيان المغرب.
وتتضمن هذه القطعة تفاصيل دقيقة عن الحصار في الشهور الثلاثة الأخيرة السابقة على استسلام المدينة، ونحن بدورنا نسوق هذه التفاصيل لأهميتها البالغة[94]؛ فحسب هذا المصدر ارتفعت الأسعار واشتد الغلاء، وهذه هي قائمة الأسعار في شهر ربيع الأول 487هـ (= 21 مارس / آذار19 أبريل / نيسان 1094):
رطل القمح = مثقال ونصف
رطل الشعير= مثقال
رطل زريعة الكتان = ستة أثمان مثقال
أوقية الجبن = ثلاثة دراهم
أوقية البصل = درهم
رطل البقل = خمسة دراهم
بيضة دجاجة = 3 دراهم
رطل اللحم البغلي = 6 دنانير
رطل الجلد البقري = 5 دراهم
وفي شهر ربيع الثاني (= 20 أبريل / نيسان - 18 مايو / أيار 1094)، "عظم البلاء، وتضاعف الغلاء، واستوى في عُدم القوت الفقراء والأغنياء"، فأمر حاكم المدينة القاضي ابن جحـّاف باقتحام الدور فحصا عن الطعام محاولة منه للتخفيف من الأزمة. وانتهى هذا الشهر وقد بلغ سعر رطل القمح ثلاثة مثاقيل إلا ربعا، "وما سواه تابع له"، أي أن الزيادة في سعره كانت مؤشر الزيادة في أسعار باقي السلع، وبالتالي فإذا كانت الزيادة في سعر رطل القمح قد بلغت حوالي 83%، يمكننا حساب نسبة الزيادة في أسعار باقي السلع، فمثلا وصل سعر أوقية الجبن إلى خمسة دراهم ونصف الدرهم تقريبا، وهكذا. وحسب ابن علقمة، لم يكن يقدر على الحصول على الطعام "إلا أهل الجاه"، بينما ترمّـق عامّـة الناس بالجلود والأصماغ (اللدائـن) وعروق السوس"، أما المعدمون فـ"بالفئرة والقطط وجيف بني آدم"؛ وقيل أن الفأر وصل سعره إلى دينار[95]؛ وقيل أيضا أن نصرانيا وقع في خندق المدينة، فأخذت جثته ووزعت لحما.
ومن الصور المأساوية المثيرة في هذه الفترة ما يذكره أيضا ابن علقمة من أن الكمبيادور كان يحرق من يحاول الهروب من المدينة لئلا يخرج ضِعاف الناس فيتوفر الطعام للقادرين، ومع ذلك فضّـل عددٌ من الناس الإحراق بالنار على الموت جوعا. ودخل شهر جمادى الأولى، وعدمت الأقوات كلية وانتشر الوباء وهلك كثير من الناس، "وبينما الرجل يمشي سقط ميتا"، ويذكر أيضا أنه لم يبق في المدينة من الدواب إلا أربع، اثنان لحاكم المدينة وولده، واثنان لأحد الوجهاء، وهذا الأخير باع فرسه للجزارين بمائتي مثقال، واستثنى منه عشرة أرطال، "فبيع الرطل منه أوله بعشرة دنانير، وآخره باثني عشر دينارا، ورأسه بخمسة عشرة مثقالا". وفي هذا الشهر حتى منتصف جمادى الأولى، وهو اليوم الذي دخل فيه السيد الكمبيادور المدينة، كانت الأسعار على النحو التالي:
رطل القمح = ثلاثة مثاقيل
رطل الشعير = مثقالان ونصف المثقال
أوقية الجبن = عشرة دراهم
بيضة دجاجة = ثمانية دراهم
ولا غرو أن يساهم الجوع الشديد، الذي كان يعاني منه أهل بلنسية من جراء الحصار الخانق، في سقوط المدينة.
4- عصر المرابطين والموحدين
كان قيام يوسف بن تاشفين بالقضاء على دول الطوائف الأندلسية منعطفا مهما في تاريخ الأندلس، فقد أصبحت البلاد منذ ذلك التاريخ تابعة سياسيا لمراكش، واستمر هكذا الحال في عصر الموحدين باستثناء السنوات القليلة الواقعة بين أواخر الدولة المرابطية والسنوات الأولي من الدولة الموحدية وكذلك السنوات الأخيرة من عصر سيادة الموحدين في الأندلس. وكنتيجة لهذه التبعية السياسية أصبح الاقتصاد الأندلسي مرتبطا بالمغربي، أو أكثر ارتباطا من ذي قبل، وبالتالي من المفترض أن الأزمات الاقتصادية، خاصة المجاعات، الواقعة في الجانب المغربي كانت تؤثر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الأندلس.
في العصر المرابطي وقع قحط شديد في بلاد الأندلس والعدوة في سنة 498هـ (= 1104-1105م) "حتى أيقن الناس بالهلاك"[96] على ما يذكر ابن عذاري.
كما حدث قحط بغرناطة في سنة 524هـ (= 1130م)، فصلى قاضيها حينئذ أبو محمد عبد المنعم بن مروان الهلالي بالناس صلاة الاستسقاء فسقوا وذلك في يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من السنة المذكورة (= أواخر أبريل / نيسان 1130م)[97].
غير أنه في ترجمة أبي عمران موسى بن عبد الرحمن بن حماد الصنهاجي (ت 535هـ = 1140-1141م) من تراجم الغرباء لنفس المؤلف المنشورة في كتاب "الذيل والتكملة" يأتي ذكر حدوث قحط في غرناطة سنة 525هـ (= 1130-1131م)[98].
ورغم أنه لا يوجد فيما بين أيدينا ما يقطع بأنه هو نفس القحط المشار إليه في عام 524هـ، أو أنه قد تجدّد في العام التالي، أو استمر إلى ذلك العام، فإن حديث ابن القطـّان عن اشتداد المجاعة والوباء بالناس بقرطبة، وكثرة عدد الموتى[99]، يرجح لدينا أن القحط، العامل الأساس في حدوث المجاعة، قد عمّ أغلب مناطق جنوب الأندلس وأنه توالى حتى سنة 526هـ، وهو عام اشتداد المجاعة كما يقول ابن القطان. ويبدو أن المجاعة المذكورة كانت شديدة، إذ بلغ مد القمح خمسة عشر دينارا[100]، ومن المرجح أن إلى هذه الشدة ترجع إشارات الشاعر الزجال ابن قزمان (ت 555هـ = 1160-1161م)، فيتحدث عن ضيق المعاش ودوام الغلاء في عام القحط الذي لا علاج له، وارتفاع ثمن الدقيق حتى أصبح أغلى من الدواء، وأن الشعير عند الناس بات يُعدّ بالحبـّة، وأن الجو صحو لا أثر فيه لغمام وأن الشمس حارقة، ويتمنى نزول الغيث، ويشتاق إلى الرخاء[101]، وكذلك يلوح لنا أن إلى هذه الشدة كان يشير الكاتـب الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال (ت 540هـ = 1146م) في رسائـله[102].
ولا ندري متى انتهت المجاعة بالضبط، وهى وإن خفت حدتها بنزول الغيث على الأرجح في أواخر سنة 526هـ، فإن الأزمة ظلت مستمرة بقدر ما وذلك بسبب توالي هجوم الجراد على زرع الأندلس حتى سنة 531هـ (= 1136-1137م).
وفي ترجمة أبي بكر أحمد بن محمد بن جعفر بن سفيان المخزومي إشارة إلى "الغلاء المفرط" ببلنسية في سنة 540هـ (= 1145-1146م)، والذي فرَّق فيه الصوفي أبو العباس الإقليشي (ت 550 أو 551هـ = 1155 أو 1156م) نفقة الحج التي أعدها وهي 60 دينارا على طعام للضعفاء والمساكين، وكذلك أنفق صاحب الترجمة، أي أبو بكر أحمد المخزومي (توفي في حدود عام 580هـ = 1184-1185م)، لنفس الغرض ألفي دينار[103].
وليس لدينا خبر عن أسباب الغلاء، وإن كنا نرجح أن الإضرابات السياسية الحادثة في بلنسية وشرق الأندلس في أواخر الدولة المرابطية كانت السبب في حدوث الغلاء المذكور أو كانت عاملا أساسيا في استفحال الأزمة.
ورغم دخول إشبيلية في طاعة الموحدين في شعبان سنة 541هـ (= يناير/ كانون الثاني 1147م)، فإنها لم تنعم بالأمان سوى عدة أشهر من جراء الفتن التي أثارها الجند الموحدي بداخلها من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تعرضها للإغارة المتصلة من قبل الجهات المجاورة لها مثل لـَبلة Niebla وقرطبة اللتان كانتا حينئذ خارج سيطرة الموحدين، فضلا عن اشتعال الفتنة في أغلب سائر غرب الأندلس، فاضطرب أمر أهل اشبيلية وظلّ على هذا الحال قرابة سنتين خلال عامي 542 و543هـ (= حتى منتصف عام 1149م) على ما يذكر صاحب "البيان المغرب"[104]، فارتفعت الأسعار خلال ذلك، وزاد من الأزمة تعرض المدينة لحصار بحري وتوقف التجار من تسيير بضاعتهم خوفا على أرواحهم وأموالهم، فأسفرت المجاعة عن وجهها، ويشير ابن عذاري إلى اشتدادها "حتى بيعت خبزة بدرهم ونصف، وبيع قدح القمح بستة وثلاثين درهما، وباع الناس أموالهم بإشبيلية بالأيسر اليسير، واستوى الغني بها والفقير"[105].
وفي عام 543هـ حاصر النصارى قرطبة، فحدثت بها مجاعة حتى تم رفع الحصار عنها[106]، ولكن يذكر ابن الأثير أن الأذفونش (ألفونسو) ملك طليطلة حصر قرطبة سنة 545 وهي في ضعف وغلاء لمدة ثلاثة أشهر[107]، ولا نعلم هل هو نفس الحصار المشار إليه أم هو حصار آخر ومن ثم مجاعة أخرى عاشتها المدينة. بيد أن الحاضرة العتيقة قد عانت كثيرا فيما بعد من هجوم ابراهيم بن هَمـُشـْك، حليف وصهر محمد بن مـَرْدَنيش سيد شرق الأندلس، وإلحاحه يوميا عليها بالغارات وقطعه زروعها كل صيف على مدى السنوات الثلاث التي كان فيها الموحدون مشغولون بفتح إفريقية (553-555هـ = 1158-1160م)، ولهذا يـُذكر أن الموحدين عندما دخلوا قرطبة يوم الأحد 12 من شوال من سنة 557هـ (= أواخر يوليو/ تموز 1162م) وجدوا بها عددا قليلا من سكانها في حالة يـُرْثى لها بسبب الفتنة والمجاعة[108].
وبعد قرابة عشر سنوات تطالعنا صورة مشابهة لذلك ولكنها لأهل قونكة Cuenca، فيحدثنا ابن صاحب الصلاة الذي كان شاهدا على وضعهم المزري عندما استقبلوا الخليفة الموحدي أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن على رأس جيشه يوم الثلاثاء غرة ذي الحجة سنة 567هـ (= 24 أكتوبر / تشرين الأول 1172)، وكانوا قد تعرضوا لحصار النصارى قرابة خمسة أشهر، وعندما علم النصارى بحركة الجيش الموحدى، أقلعوا عنهم وتركوهم "كأنهم قد نشروا من كفن وخرجوا من جدث"، فأمر الخليفة بأن يكتب أسماءهم، فأحصوا وكان عددهم سبعمائة نسمة بين مقاتل وامرأة وصبي وطفل، فأمر لهم بمال وُزِّع عليهم وأمدهم بأسلحة وطعام[109].
والمثير في الأمر أن نفس هذا الجيش الموحدي بقيادة الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، الذي أنقذ أهل قونكة من الهلاك كما ذكرنا، تعرض في حملته العسكرية تلك التي عرفت بغزاة وَبْـذة Huete (استمرت نحو خمسة أشهر من الاثنين 11 من شوال عام 567هـ إلى الخميس 8 من ربيع الأول سنة 568هـ = أوائل يونيو / حزيران إلى أواخر أكتوبر / تشرين الأول 1172م) لشدائد عدة منها قلة الزاد حتى وصل الحال إلى وصفها بالمجاعة طبقا لابن صاحب الصلاة الذي كان مصاحبا للجيش الموحدي[110].
وعود إلى السياق الزمني، ففي خبر مضطرب السياق يذكر ابن الأثير أن الموحدين حاصروا ألمرية Almer?a عدة شهور في سنة 546 (= 1151-1152م)، وكانت المدينة قد وقعت قبل ذلك في سنة 542هـ (= 1147م) في أيدي النصـارى، ولكن حدث أن اشتد الغلاء في العسكر الموحــدي وعدمت الأقوات، فرفع الموحدون الحصار ورحلوا عن المدينة، وعادوا إلى إشبيليـة[111].
ورغم أن ابن أبي زرع يجعل حصار ألمرية وفتحها في السنة المذكورة[112]، أي أنه يتفق مع ابن الأثير على حدوث عمل عسكري بألمرية في ذلك العام، فإنه من المعلوم أن استيلاء الموحدين على ألمرية تمَّ في أواخر سنة 551 أو أوائل 552هـ (= 1157م)[113]؛ ومع ذلك، فليس من المستبعد أن الموحدين قاموا بمحاولة أولى لاستخلاص المدينة من أيدي النصارى في سنة 546هـ.
ولكن ما يهمنا في هذا السياق إشارة ابن الأثير إلى الغلاء وقلة الأقوات في الجيش الموحدي، ولعل هذا، فضلا عن تزعزع سلطة الموحدين في غرناطة على إثر استيلاء ابن همشك على قصبتها ثم هزيمة الموحدين في السواقي عام 557هـ (= أوائل 1162م)، ما جعل الخليفة عبد المؤمن، في إطار استعداده لدخول الأندلس وتدعيم سلطته هنالك، يقوم بإعداد كميات هائلة من القمح والشعير في مرسى المعمورة، المهدية فيما بعد، على وادي سبو، وكان ابن صاحب الصلاة شاهدا عيانا على الكميات المذكورة قائلا إن "ما عاينته مكدسـا كأمثـال الجبال، بما لم يتقدم لملك قبله ولا سمعنا به في جيل من الأجيال"[114].
ثم يذكر أن الميرة بقيت في موضعها المذكور قرابة خمس سنوات، من سنة 557 إلى 562هـ (= 1162-1166م)، حتى فسد وفني وأصبح ترابا[115].
وبعد استعادة قصبة غرناطة على إثر انتصار الموحدين في موقعة السبيكة في يوم الجمعة 28 رجب من عام 557هـ (= 13 يوليو / تموز 1162م) ملئت مخازن المدينة بكميات كبيرة من القمح والشعير والملح وآلات الحرب نـُقـِلت إليها من العدوة المغربية في المراكب إلى حصن المنكب Almu?écar ومنه إلى غرناطة[116].
وقد يتبادر إلى الذهن أن الكميات الأخيرة المذكورة هي نفسها الأولى قد نـُقـِلت إلى غرناطة، أو قد تم نقل جزء كبير منها، لكن لا يمكننا الجزم بذلك، وعلى كل الأحوال، وحسب كلمات ابن صاحب الصلاة نفسه، فإنها كانت أيضا كميات هائلة عمرت بها المدينة وأمن بها الجيش الموحدين على نفسه. وما من شك أن نقل الميرة بمثل هذه الكميات الضخمة من المغرب إنما يدل على عدم استقرار سلطة الموحدين بالأندلس حتى أواخر عهد الخليفة عبد المؤمن، وأنهم ما كانوا بعدُ قادرين على توفير الميرة لجيشهم اعتمادا على مصادر تموين أندلسية، فجلبوها من العدوة المغربية.
وحسبما يذكر ابن عذاري فإنه في رجب عام 565هـ (= مارس / آذار أبريل / نيسان 1170م) ضعف حال مدينة بطليوس وعدم أهلها القوت، ولم يذكر سبب ذلك، ولكن في الأغلب كان بسبب تعرضها لمضايقة صاحب قلمرية Coimbra النصراني ابن الرنك (Alfonos Enr?quez)، فاهتبل الفرصة ونزلها بجنوده، فامتلكوها وحاصروا الموحدين الذين في قصبتها، فجمع لهم الموحدون بإشبيلية مؤنا عظيمة وأرسلوها مع جمع من العسكر، فخرج لهم جرنده Giraldo الجليقي، قائد ابن الرنك، على رأس عسكره من النصارى فهزموا المسلمين و***وا قائدهم ونهبوا الميرة في 26 من شعبان (= 15 مايو / أيار) في العام المذكور[117].
وفي إشارة مقتضبة لابن صاحب الصلاة يذكر أنه في نفس العام، عام 565هـ، حدث انحباس المطر في الأندلس وقت الاحتراث، أي خلال شهري أكتوبر / تشرين الأول ونوفمبر / تشرين الثاني من عام 1169م، واستمر حتى شهر ديسمبر / كانون الأول، ثم نزل المطر وحرث الناس[118]، والظاهر أن تأخر المطر لم يؤد إلى مجاعة.
الجزء الاول انتهى
فخري الوصيف
عانت الأندلس مثل غيرها من البلدان الإسلامية في العصور الوسطى من ويلات المجاعات؛ ويقصد بالمجاعة حالة شُحّ الغذاء أو عدمه التي تعانيها جماعة بشرية معينة وما قد ينجم عنها من موت أو مرض، وكذلك ما قد تؤدي إليه من آثار سياسيـة واقتصادية واجتماعية.
وللمجاعات كما هو معلوم أسباب متعددة، طبيعية وبشرية، وأهم أسبابها الطبيعية القحط، أي انحباس المطر أو تأخره عن موسم البذار، مما ينتج عنه شح الغذاء وارتفاع سعر المعروض منه إلى ما فوق إمكانيات غالبية الناس، وقد تتفاقم الأزمة من جراء عوامل طبيعية أخرى مثل سقوط البَرَد والجليد وهبوب العواصف، أو هجوم الجراد وتدميره للزروع والمحاصيل، أو انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة، بيد أن توالي المحل يظل العامل الأساس الذي ينتج عنه المجاعة.
وأما الأسباب البشرية فيقصد بها الحروب والثورات والفتن، والممارسات الظالمة من جانب السلطة القائمة. ولكي ندرس تاريخ المجاعات في الأندلس على نحو تفصيلي، وجدنا أنه من المناسب أن نبدأ بعرض لأخبار المجاعات على مدى تاريـخ هذا البلد، وهو ليس بالأمر الهين خاصة وأن المصادر بهذا الشأن قليلة مقارنة بموارد ذات الموضوع في تاريخ بلدان أخرى مصر أو العراق في العصور الوسطى.
1- قبل الفتح الإسلامي
تتردد في المصادر الإسلامية روايات ذات طابع أسطوري تتحدث عن توالي القحط في شبه جزيرة إيبريا مما أدى إلى هلاك الكثير من سكانها وفرار مـَنْ قدر منهم إلى الساحل الإفريقي، وبقيت البلاد مقفرة مدة قرن ثم أخصبت مرة أخرى وعادت إلى الازدهار والاعتمار[1].
وبغض النظر عن تلك الروايات الأسطورية، فالثابت أن شبه الجزيرة شهدت دورات من القحط والمجاعات والأوبئة على طول تاريخها القديم وباكر عصرها الوسيط، فعانت اسبانيا القوطية مثل هذه الكوارث في سنواتها الستين السابقة على الفتح الإسلامي، فعلى ما تذكر المدونات اللاتينية أصاب الجوع والمرض البلاد في سنة 647م على عهد الملك القوطي شينداسفينتو Chindasvinto (642-653م)، ويقال أن الخراب الحادث من جراء ذلك حال حينئذ دون حضور عدد من رجال الدين والأمراء حفل تنصيب ابنه لولاية العهد[2].
وفي عهد الملك ارفيجيو Ervigio (680-687م) حدثت مجاعة شديدة سنة 683م خربت البلاد[3]، حتى همّ سكانها بالخروج عنها[4]، واضطر الملك إلى إبراء الرعية من دفع الأقساط المتأخرة من الجباية المستحقة[5].
واتخذ نفس الإجراء خلـَفـُه اخيكا Egica (687-702م) عام 691م عندما عصفت مجاعة شديدة بالبلاد[6].
وبعد عامين، في عام 693م، فتك طاعون بالكثيرين[7].
وعلى عهد الملك القوطي قبل الأخير غيطشة Witiza (702-710م) وقعت مجاعة شديدة فيما بين عامي 707م و710م، انضم إليها تفشّي الوباء، فمات عدد هائل من السكان، كما نفقت أعداد كبيرة من الماشية[8].
ولقد أثرت هذه المجاعات والأوبئة، خاصة الأخيرة، في قوة دولة القوط الغربيين، وأدت إلى تدهور اقتصادي واجتماعي وتخلخل سكاني ساعد مع عوامل أخرى على نجاح المسلمين في فتح الأندلس حسبما ترى بعض النظريات الخاصة بهذا الموضوع[9].
2- عصر الولاة والدولة الأموية
يشير ابن عذاري منفردا إلى حدوث غلاء في الأندلس عام 129هـ (= 746-747م)، ولا شك أن ذلك كان بسبب الفتن القبلية التي كانت قائمة حينئذ بالأندلس، ولعل هذا ما يـُلمـِّح إليه في قوله: "وفيها كانت حروب ووقائع وغلاء في السعر"[10].
ومع ذلك، فإن أول مجاعـة عامة في تاريخ الأندلس، طبقا للمصادر، تلك التي وقعت سنة 131هـ (= 748-749م)، وتمادت إلى سنة 136هـ (= 753-754م)، إذ وقع محل عامّ بالأندلس سنة 131، تبعته المجاعة التي تواصلت إلى العام التالي باستمرار القحط، وفي عام 133 (= 750-751م) استعادت البلاد بعض الصلاح بسقوط المطر، غير أن القحط لم يلبث أن رجع وتوالى إلى بعض عام 136، فاشتد الجوع وخرج الناس إلى ساحل العدوة المغربية، وكان عبورهم من منطقة شذونة Sidona جنوب الأندلس في المنطقة المعروفة بوادي برباط Berbate، ولهذا سميت المجاعة بسنة برباط، أو سني برباط[11].
وقد تردد في بعض المصادر أن أهل الأندلس لجؤوا إلى منطقة وادي برباط لخصوبتها ووفرتها، فاحتملتهم سـِني المجاعة أو بعضها[12]، مما قد يفهم منه أن الأندلسيين لم يخرجوا إلى العدوة المغربية وأنهم ظلوا بمنطقة برباط، وهذا أمر ضعيف الاحتمال، فبرباط نهر صغير لا يمكن أن تحتمل ربوعه أعدادا كبيرة من الأندلسيين ولعدة سنوات إلا إذا كان قد اتخذ كنقطة عبور لحين المجاز إلى الشاطئ المغربي. ويرى ليفي بروفنسال أن الذين عبروا إلى العدوة المغربية بسبب المجاعة كانوا عدة آلاف من البربر[13]، وهو المرجح نظرا لغالبيتهم في الأندلس ولأنهم الأقرب إلى مواطنهم الأصلية في شمال إفريقيا.
ولهذه المجاعة اعتبار في تاريخ الأندلس، فقد جاءت في سياق تطور سياسي اجتماعي على قدر كبير من الأهمية، إذ حدثت في أعقاب موقعة شقندةSecunda 130هـ (= 747-748م) بين الفريقين السياسيين المتنازعين في الأندلس: اليمنية والقيسية، والتي على إثرها تحول الفريق الأول إلى حزب مناوئ للسلطة القائمة، وكان البربر حينئذ ناقمين على العرب، وذلك في ظل حكومة أندلسية ضعيفة رغم تمتع البلاد بقدر كبير من الاستقلال السياسي عن دولة الخلافة، وهذه بدورها كانت حينئذ تمر بفترة انتقالية بين سقوط السلطة الأموية وقيام العباسية.
وقد ازداد الوضع غير المستقر سوءا من جراء شدة المجاعة وتفاقمها. واستغل هذه الأوضاع نصاري الشمال بقيادة ألفونسو الأول ملك أشتورياس Asturias فاستولوا على جليقية Galicia واستورقة Astorga، ودفعوا بحدود الدولة الأندلسية جنوبا إلى ماردة Mérida أو إلى حدود ما عـرف بـ"الثغر الجوفي"[14].
وفي سنة 137هـ (= 754-755م) انقشعت الغـُمـَّة، وفي تاليها 138 (= 755-756م) انصلح حال البلاد، فكانت "سنة خـَلـْف"[15]، وهي السنة التي دخل فيها عبد الرحمن بن معاوية، الداخل فيما بعد، الأندلس وأسس الدولة الأموية الأندلسية.
وتكاد تخلو المصادر الأندلسية من الحديث عن حدوث أمحال في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل (138-172هـ = 756-788م)، غير أن كتاب "ذكر بلاد الأندلس" ينفرد بذكر وقوع "محل شديد" بالأندلس والعدوة في عام 139هـ (= 756-757م)[16]؛ كما يشير إلى أنه في عام 147هـ (= 764-765م) كان "قحط عظيم عامّ في جميع الأرض"[17]، وإن صدق ذلك الخبر[18] فإن هذا يعني أن القحط قد لحق أيضا الأندلس؛ وكذلك على حد قوله وقع "قحط عظيم" بالأندلس والمغرب عام 161هـ (= 777-778م)[19].
ومع ذلك لم يشر المصدر المذكور إلى حدوث مجاعات نتيجة لهذه الأمحال، مما يجعلنا نرجح أنها إما لم تكن شديدة التأثير، أو أن الأمير عبد الرحمن الداخل نجح بتدبيره في تلافي أخطارها. وكذلك يمر عهد ابنه الأمير هشام (172-180هـ = 788-796م) دون ذكر لقحط أو مجاعة.
وفي سنة 197هـ (= 812-813م)، إبـَّان عهد الحكم الرَبَضي (180-206هـ = 796-822م)، "عمّت أرضَ الأندلس أجمعها" مجاعةً شديدة[20]، وبلفظ المؤرخ ابن حيان القرطبي "الشدة"، وعند آخرين "غلاء" و"أزمة".
وبلغ من شدة البلاء أن ضِعاف الناس كانوا يكرّون الأيام دون أن يتعلّلوا بلقيمات، ومات كثير من الخلق خاصة بشرق الأندلس على حد قول صاحب "ذكر بلاد الأندلس"، وأجاز بعضهم البحر إلى أرض العـُدوة إذ كانت مخصبة. ومن المرجح أن تفاقم الشدة على هذا النحو سببه دوام القحط طوال موسم المطر أو أكثر من موسم مما أضر بالزرع، أي أن حدوث القحط إنما وقع على الأرجح في السنة السابقة على المجاعة، أو في السنتين السابقتين عليها، بمعنى أن القحط بدأ في سنة 196هـ أو 195هـ.
ولعله من الملائم بهذا الصدد تصحيح تأريخ المجاعة الوارد في "البيان المغرب"، وهو 199هـ[21]، إلى عام 197هـ المذكور بإجماع المصادر، فضلا على أنه يلاحظ أن نص ابن عذاري الذي يذكر الأحداث حوليا ينتقل مباشرة من عام 196هـ إلى عام 199هـ، كما أنه يذكر أن في هذا العام المذكور أغزى الأمير الحكم الغزوة المشهورة على برشلونة[22]، وهو أمر لا يستقيم مع الحالة السيئة للبلاد بسبب المجاعة، ومن ثمّ يتأكد أن المجاعة كانت في عام 197هـ وأن غزوة برشلونة حدثت في عام 199هـ.
وفي مواجهة الأزمة أكثر الأمير الحكم من مواساة أهل الحاجة، وفرَّق الأموال الكثيرة على الضعفاء والمساكين وعابري السبيل، وهو ما كان محل إشادة ومديح من الشاعر عباس بن ناصح، فقال في شعر له:
نكد الزمان فأمنت أيامــــه *** من أن يكون بعصره عسر
طلع الزمان بأزمة فجلا له *** تلك الكريهة جوده الغمـــر
كما دُعي لإقامة صلاة الاستسقاء، غير أن الحديث عنها فيه خلط بيـّن، فتارة ينسب خبر الصلاة إلى مجاعة أخرى تالية الذكر وقعت في أول عهد الأمير عبد الرحمن الثاني، وتارة أخرى يختلف في اسم الذي تولى القيام بصلاة الاستسقاء[23].
وكانت المجاعة التي حدثت سنة 207هـ (= 822-823م)[24] أ*** وأشد مجاعة عرفتها الأندلس حتى ذلك الوقت، إذ ذهب ضحيتها خلق كثير إلى حد وصف عيسى بن أحمد الرازي لها بأنها "المجاعة الأولي"، وارتفع المُدّ (مكيال القمح، ويبلغ حوالي 368 كغرام) في بعض الكور إلى 30 دينارا، وهذا يعني غلاء فاحشا لا يقدر عليه إلا القادرون، ولهذا تكفل الأمير عبد الرحمن الثاني (206-238هـ = 822-852م) بإطعام الضعفاء والمساكين من أهل قرطبة، وأما خارجها فلا نتوفر على معلومات، بيد أنه لا يمكن أن نتوقع أن حال الناس كان أفضل.
ومما يلفت النظر في أخبار المجاعة المذكورة ما قيل إن سببها انتشار الجراد بالأرض ولحسه الغلات وهجومه على الجهات، إلى جانب توقف الغيث واستمراره، فخرج الناس لصلاة الاستسقاء عدة مرات.
وفي الربع الأخير من عهد عبد الرحمن الثاني قحطت الأندلس قحطا عظيما شمل البلاد عام 232هـ (= 846-847م)[25]، ودام القحط معظم السنة، فلم يزرع الناس شيئا، كما هلكت المواشي واحترقت الكروم والأشجار، وكثر الجراد فزاد من حدة الأزمة وضيق المعيشة. وحسب صاحب "روض القرطاس" كان الأندلسيون خلال هذا القحط يجلبون "الميرة" من العدوة المغربية، وهذا أمر معقول وكثيرا ما كان يتكرر وقت الأزمات في الأندلس. وتضيف الرواية المشرقية (ابن الأثير والنويري) أنه هلك خلق كثير من الناس، غير أن هذا القول لا يجد دعما في المصادر الأندلسية والمغربية المذكورة التي اكتفت بالإشارة إلى ضيق المعيشة وغلاء الأسعار.
وربما تجد الرواية الأندلسية المغربية سندا لها في خبر ساقه ابن دحية الكلبي[26] مفاده أن الأمير عبد الرحمن الثاني في أواخر أيامه ولـَّى الشاعر يحيى بن حكم الغزال (ت في حدود سنة 250هـ = 864-865م) مسؤولية قبض الأعشار واختزانها في الأهراء، وعندما ارتفع السعر بسبب القحط وهو المشار إليه على الأرجح باع كل ما كان عنده من الطعام في الأهراء، وحينما علم الأمير أنكر ما صنع الغزال وقال "إنما تـُعدّ الأعشار لنفقات الجند والحاجة إليها في الجهد"، فلو كان الأمر قد وصل إلى حد المجاعة لأنفق الطعام المخزون في الأهراء كصنيعه في مجاعة 207هـ سابقة الذكر.
وتتمة الخبر أن الأمير أمر أن تؤخذ من الغزال الأموال التي باع بها ويشترى بها طعام ويودع في الأهراء إلى وقت الحاجة إليه، فرفض الشاعر رد الثمن نقدا وقال أنه يرد مقدار الطعام الذي باعه كيلا، أي أنه يشتري قدر ما باعه ويرده إلى الأهراء، وكما انخفض السعر فإنه سيحتفظ بالفرق الحاصل بين البيع والشراء، "وبين العددين بونٌ كبير نَحـْوٌ من ثلاثين ألفا" حسب كلمات الغزال، فأمر الأمير فحبسه، فقال الغزال:
إن تـُرد المال فإني امرؤ *** لم أجَمع المالَ ولم أكسِب
إذا أخذتَ الحق منـِّي فلا *** تـَلتمِس الربح ولا تـَرغب
قد أحسنَ الله إلينا معا *** إن كان رأس المال لم يذهب
ورُفـِع الشعر إلى الأمير، فأعجب به، وكذلك نال استحسان الحاضرين، ثم عفا عنه وأمر بإطلاقه.
وفي عام 236هـ (= 850-851م)، في أواخر إمارة عبد الرحمن الثاني، لحق المحل بكورة تدمير بشرق الأندلس، والظاهر أن تأثيره لم يكن هينا، إذ من المرجح أن الإدارة المركزية توقفت عن تحصيل الجباية من هذه الكورة عن العام المذكور على ما يفهم من نص ابن حيـّان[27].
وعاد القحط ليضرب البلاد في عام 253هـ (= 867-868م)[28] على عهد الأمير محمد ابن عبد الرحمن (238-273هـ = 852-886م)، كما أصاب أيضا العدوة المغربية حسبما يذكر صاحب روض القرطاس[29].
بيد أن ابن عذاري يشير إلى أن ذلك العام شهد "مجاعة عظيمة متوالية"[30]، والظاهر أنه يقصد حدوث القحط في ذلك العام، وأن استمراره إلى العام التالي، 254هـ (= 868م)، أدى إلى حدوث المجاعة، فيذكر ابن حيان[31] أن القحط اشتد في العام المذكور، وبلغ من شدته أن ازداد غؤور الماء ونضوبه بآبار قرطبة وعيونها، فكان أكثر شرب أهلها من نهرهم الأكبر، ويذكر أيضا أن قاضي الجماعة سليمان بن أسود كان قد برز للاستسقاء في شهر مارس، فلم ينزل الغيث في الشهر المذكور ولا في تاليه، ثم نزل فأقام بعض الزرع.
وهذا معناه فـَقـْد الجزء الأكبر من محصول الحبوب، وبطبيعة الحال أدَّى هذا، بالإضافة إلى ضعف المحصول في العام الماضي، أدى إلى الغلاء.
وقد استمر الحال على هذا المنوال عدة سنوات، وإن اختلف المؤرخون في تاريخ بدء هذه الفترة ومدة استمرارها، فابن الأثير يذكر أوليتها في سنة 251هـ (= 865-866م)، وأنها استمرت حتى سنة 255هـ (= 869م)[32]، بينما يذهب ابن أبي زرع إلى أن القحط توالى إلى سنة 265هـ (= 878-879م)، أي أن مدة القحط في زعمه استمرت ثلاثة عشر موسما، وهذا يخالف ما أورده ابن حيان[33] حين يذكر أن على الأندلس توالت "الأعوام الجَداعة"، أي الشديدة، في "عقدة الخمسين" حتى أردفتها مجاعة سنة 260هـ (= 873-874م)، وبعبارة أخرى فإن القحط استمر ثمانية أعوام وكان العام الأخير منها أكثرها شدة وضراوة في شح الأقوات فـ"عزت الخلق، ومات أكثرهم، وجرى المثل بها على ألسنة الناس دهرا: سنة ستين"[34].
ولم تكن ضراوة المجاعة في السنة المذكورة راجعا فقط إلى توالي القحط عدة سنين قبلها، ولكن أيضا إلى أن القحط شمل أيضا كل بلاد المغرب حتى إفريقية (تونس)، فتعذّر على الأندلسيين استيراد الغذاء، بل شمل الغلاء عامة بلاد الإسلام كما يذكر الطبري وغيره من المؤرخين المشارقة[35].
وزاد من الفاجعة حدوث وباء في الأندلس وبلاد المغرب حصد أرواح الكثير[36].
وانقشعت الغمة في السنة التالية 261هـ (= 874-875م)، فكانت "سنة خـَلـْف عقب سنة ستين الحالقة"[37].
وذكرت المصادر أن في عام مجاعة 260هـ طلب الأمير محمد المشورة من الوزراء وأهل المشورة بشأن فرض العشور على الغلات وجـَمْعـِها من الرعية، فكلهم رأوا وجوب ذلك على الناس وأن يعطوها من مذخور أطعمتهم ويشترونها من حيث ظهر لهم، ولم يخرج عن هذا الرأي إلا والي المدينة وليد بن عبد الرحمن بن غانم الذي نصح الأمير بأن يقبل معذرة الرعية لأنهم لم يزدرعوا هذا العام، فـ"إنما العشور على الغلات، إذا وجبها الله وجب أداء فرضه فيها، وإذا اجتثت أصولها فلا زكاة على من حرمها"، وحثه على ذلك مبينا له أن ملوك الروم في روما والقسطنطينية كانوا يفعلون ذلك، وأنه أولى بفعل ذلك. غير أن الأمير محمد رأى أنه ليس من الحزم فعل ذلك، وأصر أن يؤخذ منهم بعض ما عليهم وطلب منه أن يقوم بذلك، فرفض والي المدينة، فاستعفاه وولّى مكانه حمدون بن بسيـل المعروف بالأشهب وكان من المشهورين بالقسوة، واجتهد في جمع نصف عشور الناس مستخدما كل ضروب الشدة والفظاظة فما حصل على الربع[38].
وفي مدة الأمير المنذر بن محمد، على قصرها (273-275هـ = 886-888م)، قحطت الأندلس سنة 274هـ (= أواخر مايو / أيار887 منتصف مايو / أيار 888م)، ولكن كان القحط في الحقيقة راجعا إلى تأخر موعد سقوط المطر، واستمر هكذا الحال طوال شهر يناير، واستسقى الناس مرارا فلم تجـُدْ السماء إلا بثلج، ثم نزل المطر بعد دخول فبراير بأيام، "فسُقِي الناس وارتفع البأس"[39].
ومن المرجح أن هطول الغيث سبقته صلاة استسقاء أخرى قام بها الفقيه المشاوَر حينئذ بقرطبة أحمد بن زياد اللخمي بتكليف من الأمير المنذر[40].
وأما عهد الأمير عبد الله (275-300هـ = 888-912م) فقد اتسم بالاضطراب السياسي وتآكل سلطة الدولة بقرطبة، مما أضعف بطبيعة الحال من الموارد الاقتصادية للدولة، وبالتالي من قدرتها على التصدي للكوارث مثل مواجهة القحط، كما أن ضعف الدولة أدي إلى انعدام الأمن، وقلة الإنتاج، خاصة الزراعي والحيواني، واشتداد الأسعار، ولهذا ذكر أبو عمر يوسف بن يحيى المغامي (ت 288هـ = 901م)، راوي "كتاب التاريخ" لابن عبد الملك بن حبيب، فيما أضافه على نص الكتاب، واصفا عهد الأمير عبد الله، أو على الأحرى متنبئا، بقوله: "تتوافر في ولايته الأحزان ويسبى فيها العيال والأموال وتكسد فيها الأسواق وتغلو فيها الأسعار"[41].
وتشير المصادر إلى تكرار صلاة الاستسقاء في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من ولاية الأمير عبد الله[42]، ويبدو أن ذلك لتأخر الغيث عن موعده، فلم يؤد القحط إلى حدوث مجاعة إبانئذ.
ولكنها وقعت بعد ذلك سنة 285هـ (= 898م) وعرفت بـ"لم أظن" والسنة "سنة لم أظن"، ولم تذكر المصادر سبب التسمية، وقد شملت تلك المجاعة الشديدة جميع بلاد الأندلس والعدوة المغربية، وفيها غلا السعر كثيرا حتى أعجز الناس[43].
وبلغ من شدة أهوالها فيما يذكر ابن أبي زرع أن "أكل الناس بعضهم بعضا"، و"أعقبها وباء ومرض وموت كثير هلك فيه من الناس ما لا يحصى، فكان يدفن في القبر الواحد أعداد من الناس لكثرة الموتى، وقلة من يقوم بهم، وكانوا يدفنون من غير غسل ولا صلاة"[44].
وربما كان في قوله مبالغة، إذ لم تشر المصادر الأندلسية إلى هذه الأهوال، أو لعله يقصد بلاد العدوة.
ولم تنته مدة حكم الأمير عبد الله حتى وقعت مجاعة أخرى سنة 297هـ (= 909-910م) عرفت بـ"سنة جوع جيان"، وكانت محنة عظيمة لحقت بالناس فمات منهم كثير وعبر آخرون منهم البحر لأرض العدوة[45].
ومما يلفت النظر أن المصادر لم تنبئنا بسبب تسمية تلك المجاعة بـ "سنة جوع جيان"، ولعل ذلك لأنها انطلقت من هذه الكورة.
وأما الأمير عبد الرحمن الثالث، الخليفة الناصر فيما بعد، فمن المعروف أنه قضى تقريبا الثلث الأول من مدة حكمه الطويل (300-350هـ = 912-961م) في تثبيت أركان الدولة والقضاء على الثائرين عليه الذين كانوا قد نجموا تقريبا في أغلب البلاد، وإلى هؤلاء انضمت الطبيعة، فلم ترأف به وأذاقته بعضا من ويلاتها. ففي سنة 302 (= 914-915م) أمحل الناس، فاستسقوا خمس مرات، فلم يسقوا، وغلت الأسعار وقل المعروض من الحنطة في الأسواق. وطلب الأمير من الناس بالبروز للاستسقاء مرة أخرى، ففعلوا ذلك في 13 شوال المقابل الأول من مايو/ آيار 915م، أي بعد فوات موسم البذار، فجادت السماء برذاذ وندى مبلل أنقذ القليل من الزرع وضاع أكثره باليبس، وتواصل القحط طوال العام وشمل الأندلس كلها، وغلت الأسعار في جميع ربوعها[46].
وأدى استمرار القحط إلى السنة التالية 303هـ (= منتصف يوليو / تموز915 أوائل يوليو 916م) إلى حدوث مجاعة شديدة بالبلاد، وأيضا في العدوة المغربية وإفريقية حسب ابن أبي زرع[47]، شبهت بمجاعة سنة ستين، "فاشتد الغلاء وبلغت الحاجة والفاقة بالناس مبلغا لم يكن لهم عهد بمثلها، وبلغ قَفيز القمح حسب ِكيل سوق قرطبة (حوالي 147، 2 كغرام) ثلاثة دنانير درهم دُخل أربعين"[48].
وقوله ثلاثة دنانير درهم أي الدنانير الذهبية المصروفة بدراهم فضة، وكان صرف الدينار ثمانية دراهم، أي أن قفيز القمح بلغ 24 درهما فضة، وهو سعر لا يقدر عليه أواسط الناس، فكيف بعامتهم؟ ورغم ذلك لم يتوقف استمرار صعوده حتى انتهى قفيز القمح إلى 12 دينارا درهم فضة[49]، أي أصبح سعر القفيز 96 درهما فضة، فلم يجد الناس ما يقتاتون به فمات الكثيرون جوعا، وعمـَّت المجاعة الأندلس كلها أغلب العام المذكور.
وزاد من عظم البلاء وقوع الوباء، ويصّرح ابن حيان بأن المَوَتان كَثر "في أهل الفاقة والحاجة حتى كاد أن يُعْجَز عن دفنهم"[50]، وأمر طبيعي أن يبدأ انتشار المرض بين ضِعاف الناس لقلة إمكاناتهم وعدم توفرهم على الشروط الصحية الملائمة، بيد أن المرض لم يلبث أن سرى بين الجميع، وطال أهل الحاضِرة والنواحي على السواء، فيقول ابن حيان "وعاث المَوَتان في هذه الأزمة فأوْدَى بخلق من وُجوه أهل قرطبة وعُلمائها وخِيارهم، قَصَر المؤرخون بيانهم لكثرتهم، إلى من مات من أشْكالهم ببلاد الأندلس البعيدة ممن لم يأخذه إحصاء ولا اتصلت عِدّة"[51].
ومما يلفت النظر أن عبد الرحمن الثالث في مواجهته الأزمة اجتهد في فرض الأمن الداخلي في قرطبة بالضرب على أيدي الخارجين عليه والسرّاق وقطاع الطرق الذين لم يكونوا يتورعون عن مهاجمة الناس وسلب التجار[52]، وكان هذا تدبيرا جديدا، أو على الأقل لم تشر إليه المصادر من قبل في حوادث المجاعات. وإلى جانب ذلك، أكثرَ الأمير من صدقاته للفقراء والمحتاجين، وتأسّى به كبار رجال دولته مثل حاجبه بدر بن أحمد[53].
وكان من تأثير الشدة أنها حالت دون "تجريد صائفة، وإغزاء جيش"، فاكتفى الأمير بضبط ثغوره وحدوده[54].
وبعد قرابة عقد من الزمان وقع قحط في عام 314هـ (= 927م) في قرطبة[55] "وما يليها"، ويفهم من هذا أن المحل لم يكن عاما في سائر ربوع الأندلس، ومن المحتمل أن تكونا منطقتا الثغر الأعلى وشرق الأندلس قد أفلتتا منه.
على كل الأحوال، كان القحط في هذه المرة تأخرا في نزول الغيث، ولكنه كان كافيا ليغلو السعر وتضيق معايش الناس، وامتنع الناصر، على ما يذكر صاحب "البيان المغرب"، من أن يخرج بنفسه للغزو ذلك العام، وإن أخرج قواده بالصوائف.
وبرز صاحب الصلاة أحمد بن بقي بن مخلد للاستسقاء، كما أمر الناصر عماله في الكور بالخروج للاستسقاء، ففعلوا ذلك مرات، ثم نزل الغيث وانكشفت الغمة.
وتشير المصادر إلى حدوث قحط سنة 317هـ (= 929-930)[56]، غير أن تأخر القيام بصلاة الاستسقاء الأولى بناء على أمر الناصر بجامع قرطبة حتى يوم الجمعة 28 من المحرم، وليس 29 كما يقول صاحب "البيان المغرب"، الموافق افتراضا 13 من مارس سنة 929م، يجعلنا نرجح أنه كان توقفا عن استمرار هطول المطر، بمعنى أنها أمطرت في أول موسم الأمطار ثم توقفت، وتكون النتيجة أن تصاب باليبس الزريعة التي زرعت في الخريف، خاصة القمح والشعير[57]، ولا يمكن زراعة ما هو موعده في مارس أو أبريل مثل الأرز[58]، وهنا نفهم عبارة ابن حيان "أمحل الناس واحتبس الغيث، ونال ضرر ذلك الزرع، وغلت الأسعار وكلح الزمان".
وأمر الناصر بإقامة صلاة الاستسقاء عدة مرات، كما كتب كتابا على نسخة واحدة إلى جميع عماله على الكور يأمرهم بالاستسقاء.
ورغم ذلك ظلت السماء على حالها من الإمساك، ودُمغ العام بالمحل والغلاء.
وهذا نص كتاب الناصر إلى جميع عماله على الكور بالاستسقاء[59]: بسم الله الرحمن الرحيم،
أمّا بَعْدُ، فإن الله - عز وجل -، إذْ بَسَطَ ِرزْقه، وأَغْدَق نِعَمه، وأَجْزَل بركاته، أحبّ أن يُشكَرَ عليها، وإذا زَواها وقبَضها، أحبّ أن يُسْألها ويُضْرَع إليه فيها، و(وهو الرزّاقُ ذو القوة المتين) و(التوّاب الرحيم)، (الذي يقبلُ التوبة عن عِبادِه ويعفو عن السيّئات ويعلمُ ما تفعلون)، (وهو الذي يُنزِّل الغيثَ من بَعْدِ ما قنطوا، وينشُرُ رحمتَهُ، وهو الولي الحميد)، فأوجبت به الرغبة إليه، عزّ وَجْهه، فيه والخنوع لعزته والاستكانة له والإلحاح في المسألة فيما احتبس به، والتوبة من الأعمال المنكرة، التي تُوجِب سُخْطه، وتبْذِل نِقَمه، وتَسْتر وَجْه رِضاه، - تعالى - جِدّه.
وقد أمرْنا الخطيب فيما قِبَلـْنا بالاستسقاء في المسجد الجامع يوم الجمعة والجمعة الثانية التي تليها، إن أبْطأت السُّقـْيا، والبُروز يومَ الاثنين بعدهما، بجماعة المسلمين عندنا إلى مُصلاهم، أوْ يأتيَ الله قَبْلَ ذلك بغيثه المَعِيّ عنه، ورحمته المُنتظرة منه، المَرْجوّة عنده. فـَمْر الخطيب بموضعك أن يحتمل على مثل ذلك ويأخُذ به من قِبَله من المسلمين، وليحْمِلْهم ذلك المحمل، ولِتكُنْ ضَراعتهم إلى الله - تعالى -ضراعة مَنْ قد اعترف بِذَنْبه ورَجا رحمة الله، والله غفور رحيم، وهو المستعان، لا شريك له، إن شاء الله.
وعلى مدى سنة 324هـ (= آخر نوفمبر/ تشرين الثاني 935 منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 936) دهم الأندلسَ مـَحـْل عامّ [60] وصف ابن حيان شدته بقوله: "لم يعهد فيه بمثله ولا سمع كاتصاله، إذ تمادت السنة على محلها، وضنّت السماء بوَبْلها، فلم تَنِضّ بقطرة، ولا بَلـَّت مَدَرة"، ورغم ذلك لم ترتفع الأسعار ولم تضق أحوال الناس، ويعزو ابن حيان ذلك إلى توالي وروود الخيرات من كل الجهات.
ورغم أن المؤرخ القرطبي لم يحدد لنا ما هي هذه الجهات، فإنه من المرجح أنه كان يشير إلى باقي جهات الأندلس التي كانت تتوفر على مخزون كبير من الطعام فكانت ترسله إلى الحاضرة قرطبة ومنطقتها، إلى جانب ذلك يمكن القول أنه كان أيضا يلمح إلى جهات خارجية، فالنفوذ الطاغي للخليفة الناصر في شبه الجزيرة وعلاقاته القوية مع جيرانه وتعاظم ثروة البلاد في هذا الوقت كان يسهِّل كثيرا من استيراد الغذاء من الخارج، كما لا نستبعد استعداد الناصر لمثل هذا الأمر بتخزين الغذاء. وظل الحال على هذا المنوال حتى دخلت السنة الجديدة وجاء معها المطر في منتصف شهر نوفمبر 936م.
ومن المثير أن في ذات هذا العام الذي قحطت فيه الأندلس أهدى الناصر[61] إلى وليه والقائم بدعوته بالعدوة المغربية موسى بن أبي العافية هدية عظيمة كان فيها قدر كبير من أنواع الطعام مثل القمح والشعير والفول والحمص وغير ذلك[62]، وما من شك أن هذا يدعم قول ابن حيان بأن القحط لم يؤثر على أحوال الناس ويدل كذلك على قوة الوضع الاقتصادي للدولة الأندلسية حينئذ.
ومن المرجح أن الأندلس عانت من قحط على أواخر عهد عبد الرحمن الناصر على ما جاء في الخبر المتواتر من خروج القاضي منذر بن سعيد البلوطي (ت في أواخر ذي القعدة سنة 355هـ = أواسط نوفمبر / تشرين الثاني 966م) للاستسقاء بناء على أمر الخليفة[63]، بيد أن سقوط الغيث فيما بعد وخلو المصادر من حديث عن مجاعة في تلك الفترة يجعلنا نظن أنه لم يترتب على القحط المشار إليه شدة خانقة في الحصول على الأقوات.
ووقعت أول مجاعة بقرطبة في عهد الخليقة الحكم المستنصر (350-366هـ =961-975م) سنة 353هـ (= افتراضا 19 يناير/ كانون الثاني 964م - 6 يناير 965م)، فتكفل الخليفة الحكم بإطعام ضعفاء ومساكين قرطبة والزهراء "بما تُقيمُ أرماقهم"، أي دون توسعة تحسبا لامتداد الأزمة، ولكن في السنة التالية، التي وافق مقدمها موسم أمطار الشتاء، نزل الغيث بقرطبة "فرويت الأرض، وطاب الحرث، وسُرَّتِ النفوس"[64].
وفي سنة 358هـ (= افتراضا 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 968م 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 969م) وقعت مجاعة أخرى بالأندلس، وأمر الخليفة الحكم بأن يـُفرّق في "ضعفاء قرطبة اثني عشر ألف خبزة في كل يوم"[65]، ولا يذكر لنا صاحب الخبر إن كان هذا الإجراء جرى العمل به أيضا في باقي الأندلس، وعلى أية حال ظلت الإعانة سارية حتى زالت الغمة.
وفي أخبار سنة 363هـ (= 973-974م) يحدثنا ابن حيان بتفصيل دقيق عن بداية فصل المطر في ذلك العام (= أكتوبر/ تشرين الأول 973م) الذي امتد إلى نهاية فبراير/ شباط 974م، وكأن الناس كانوا في انتظار الغيث، كما يذكر أن امتداد هطول المطر لمدة خمسة أيام متتالية من شهر أكتوبر وشروع الناس في الحرث كان كافيا لتوقف صعود الأسعار وكانت عالية، ولعل هذا ما يحمل إلى الاعتقاد بأن العام السابق 362 كان شحيح المطر، فقلـّت الغلات وارتفع سعر المعروض منها[66].
بعد حوالي سبع سنوات من استئثاره بالسلطة في الدولة الأموية الأندلسية، واجه المنصور محمد بن أبي عامر مجاعة استمرت ثلاث سنوات بداية من سنة 378هـ (= 21 أبريل / نيسان 988 10 أبريل 989م) إلى سنة 380هـ (= 31 مارس / آذار 990 19 مارس 991م)، وفي رواية أخرى، من 379-381هـ[67].
وإذا كانت الرواية الأولى، وهي لابن حيان، تصرّح بتاريخ بداية المجاعة، فإنها لم تذكر صراحة أنها استمرت ثلاث سنوات، واستعاضت عن ذلك باستخدام صيغة الجمع عند الحديث عن سنوات المجاعة: "واعتورته السنون الشداد المتوالية من سنة 378هـ"، بينما يصرح صاحب "ذكر بلاد الأندلس" أن المجاعة "دامت ثلاث سنين"، وهو ما يؤكده ابن أبي زرع، ويصرح أيضا بأنها بدأت سنة 379هـ. وهو قول يدعمه ابن الفرضي الذي يذكر أنه في سنتي 379هـ و380هـ أقيمت في قرطبة صلاة الاستسقاء وتولاها القاضي محمد بن يبقى بن زُرْب (ت في رمضان 381هـ = نوفمبر / تشرين الثاني ديسمبر / كانون الأول 991م)، وأنه نفسه، أي ابن الفرضي، كان من شهودها[68].
ومع ذلك لم يأت ذكر لصلاة استسقاء في سنة 381 وهو العام الذي أشار إليه ابن أبي زرع بأنه شهد "قحطا شديدا ببلاد المغرب والأندلس وإفريقية"، كما يقول أن في آخر هذا العام "أغاث الله - تعالى -الأمة وتداركهم بالرحمة ومطر الناس مطرا عاما، وأكلأت الأرض وحَطـَّت الأسعار، وحيي الناس وانتعشت البهائم والدواب".
وثمة اختلاف آخر بين الروايتين، فبينما الأولى تقصر المجاعة على الأندلس، وتذهب إلى أن شدتها في العام الثالث دفعت المنصور إلى التفكير جديا بالجواز إلى العدوة "لخصبها يومئذ"، فإن الثانية تذهب إلى أن المجاعة شملت الأندلس والمغرب وإفريقية. وعلى كل حال، فرغم شدة المجاعة، لم يعانِ أهل قرطبة الجوع، إذ أمر المنصور، الحريص أشد الحرص على استمالة عامة الناس، بعمل اثنين وعشرين ألف خبـزة يوميـا بقرطبة، كان يفرقها على الضعفاء كل يوم منذ بداية المجاعة إلى أن انقضت[69]، فأتى مثل هذا الإنفاق الكبير على مخزون الحبوب الهائل في مخازن غلال الدولة، والذي كان قد أحصاه في سنة 374 (= 984-984م) وبلغ جملته أكثر من 200000 مدي (أي حوالي 73600 طنا)[70].
ويحق للمستعرب الاسباني بدرو شالميتا Pedro Chal**** أن يرى أن معالجة المنصور للأزمة على النحو المشار إليه اقتصر على سكان قرطبة ولم يشمل سائر سكان الأندلس[71]، فهكذا يصرح النص، ولكننا نعتقد أن المساعدة الحكومية امتدت إلى سائر الأندلس حسب حاجة كل جهة، فالأهراء التي كان المنصور قد أمر بجرد مخزونها من الحبوب في سنة 374، لم تكن موجودة فقط في العاصمة، بل من الراجح أنها كانت أيضا في المدن الكبيرة وقواعد الكور.
وإلى جانب إطعام الضعفاء، اتخذ المنصور إجراءات أخرى مثل إسقاط الأعشار والتكفل بتكفين الموتى وغير ذلك من ضروب المساعدة الإنسانية.
3- سنوات الفتنة وعصر دول الطوائف
وفي نهاية القرن الرابع الهجري وبداية الخامس ابتدأ نوع أخر من المجاعات كان العامل البشري هو المسبب الأول لحدوثها وليس العامل الطبيعي كما عهدنا في المجاعات سالفة الذكر.
والعامل البشري الذي تسبب في حدوث عدد من المجاعات في الأندلس تراوح بين الفوضى والظلم وحرب الاسترداد الكاثوليكية.
وفي هذا السياق تأتي الفتنة القرطبية، فلم تكن بداية الانهيار السياسي للأندلس فحسب، ولكنها كانت أيضا بمثابة المثال الحي على ما تسببه الفوضى من أضرار بالغة للمجتمع، خاصة ما تؤدي إليه من مجاعة، وهو أكثر ما يعنينا في هذا المقام.
بدأت الفوضى، كما هو معلوم، في تاريخ الأندلس بقيام محمد بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر على الدولة العامرية والبيعة لنفسه كخليفة باسم المهدي في أواسط جمادى الآخرة سنة 399هـ (= منتصف فبراير/ شباط 1009م).
والانتزاء على الخلافة أو القيام على السلطة القائمة ليس بالأمر المستغرب، ولا يؤدي الفعل في حد ذاته بالضرورة إلى الفوضى، ولكنها تحدث عندما لا يستطيع المنتزي بحسم وسرعة السيطرة على القوى السياسية المعارضة أو تحييدها، وتوحيد البلاد سياسيا وجغرافيا، وتفعيل التنظيمات الإدارية لتسيير شؤون الحياة اليومية للناس، وإشاعة الأمن في العاصمة وخارجها. ولكن المهدي لم ينجح في شيء من ذلك.
فالبربر كقوة سياسية فاعلة خرجت عن سيطرته، وهو نفسه كان من أشد أعدائهم، وشجع حزبه الجديد المشكل من عامة قرطبة على التحرش بالبربر، ف***وا بالفعل عددا كبيرا منهم، وهؤلاء سرعان ما بايعوا قريبه سليمان بالخلافة.
وبدأت الحرب بين الطرفين، وحدثت واقعة قـَنـْتيش التي فيها هزم جيش قرطبة في 13 ربيع الأول 400هـ (= 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1009م)، وبعد ثلاثة أيام دخل البربر قرطبة وبويع سليمان بالخلافة وسمي بالمستعين، وعند ذلك رد البربر الصاع صاعين إلى أهل قرطبة، فأذاقوهم الكثير من ال*** والنهب، وأصبح هؤلاء، وحسب نص ابن عذاري، "في نقص من الأموال والأنفس، وإلى ذلك انضم الوباء والمرض"[72].
ولم تكن هذه الحالة سوى مقدمة عامة للتفاصيل المؤلمة الواقعة في العامين التاليين.
ولم يستطع المستعين بدوره الإمساك بزمام الأمور، فما كان قادرا على وقف جماح البربر في الثأر من أهل قرطبة، فشاعت الفوضى في حاضرة الأندلس، وكذلك عجز عن لمّ شمل البلاد ومواجهة معارضيه، فمـُني بهزيمة في عقبة البقر El Vacar شمالي قرطبة، وهرب على إثرها إلى شاطبةJ?tiva، واضطر البربر إلى الجلاء عن قرطبة والتراجع إلى الجزيرة الخضراء Algeciras، وعاد المهدي إلى الحاضرة مرة أخرى. وأراد أن يستغل زخم انتصاره في القضاء على المعارضة البربرية، فقاد جيشه وحلفاءه النصارى للقاء البربر فلقي هزيمة قاصمة في وادي آره Guadiaro بالقرب من رندة Ronda في 6 ذي القعدة سنة 400هـ (= 21 يونيو / حزيران 1010م)، ورجع إلى قرطبة حسيرا ليلقى حتفه اغتيالا بعد شهر في 8 ذي الحجة.
بدأت معاناة قرطبة الحقيقية بعد هزيمة وادى آره، إذ دخل البربر الزهراء في 23 ربيع الأول سنة 401هـ (= 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1010م)، وضربوا الحصار على قرطبة وقطعوا الميرة عنها، وأخذوا يغيرون على أحوازها وعلى نهب وحرق ما في طريقهم، فكان أهالي البوادي يتركون قراهم وضياعهم من الخوف وينضمون إلى قرطبة، فمات "أكثرهم جوعا بها"، إذ نزعت الأسعار وارتفع الغلاء[73]، وبلغ مُدّ القمح، وهو قفيزان ونصف قفيز، ثلاثمائة دينار مصروفة دراهم ومقدارها مائة مثقال عينا[74]، "فاشتد بها الجوع وعدمت المأكل"[75].
ونقل لنا ابن عذاري نصا كاشفا عن المجاعة في قرطبة إبان الفتنة جاء فيه "واشتد حال أهل قرطبة حتى أكل الناس الدمَ من مذابح البقر والغنم، وأكلوا الميتة […]، وكان قوم في السجن فمات منهم رجل فأكلوه"[76].
واستمر الحال على هذا النحو حتى دخل المستعين قصر قرطبة في 27 شوال سنة 403 هـ، فأخذت تخف المعـانـاة قليـلا.
وفي بداية حكم على بن حمود، سنة 407 هـ (= 1016م)، انتعش أهل قرطبة لأخذه البربر بالشدة فرخت الأسعار كما يذكر ابن حيان، بيد أن في نفس العام، على ما ينفرد بذكره ابن أبي زرع، كان بالمغرب والأندلس وإفريقية "قحط شديد ومسغبة عامة ووباء كثير"[77]، ولا تذكر المصادر الأندلسية شيئا عن ذلك، وبالتالي لا نستطيع أن نحدد مدى تأثير ذلك على الأندلس.
لم تنقطع تماما الفوضى من عاصمة الخلافة حتى قيام أبي حزم ابن جهور بأمر قرطبة وحسن تدبيره لشؤونها (422-435هـ = 1031-1043م)، فانتعشت أحوالها، وبحسب نص ابن حيان، "واستمر في تدبيره بقرطبة، فأنجح سعيه بصلاحها ولمِّ شعثها في المدة القريبة، وأثمر الثمرة الزكية، ودبّ دبيب الشفاء في السقام فنعش منها الرُّفاة وألحفها داء الأمن ومانع عنها من كان يطلبها من البرابر […] حتى ألانها بضروب احتياله فرخت الأسعار وصاح الرخاء بالناس أن يعلموا فـَلبـُّوه من كل صقع فظهر تزيُّد الناس بقرطبة من أول تدبيره لها وغلت الدور وتحركت الأسواق وتعجب ذو التحصيل للذي أرأى الله في صلاح الناس"[78].
وفي خبر مقتضب ساقه ابن حيان في إطار حديثه عن الصراع الأخوي الدائر بين أبناء المستعين سليمان ابن هود في الثغر الأعلى يذكر أن "غلاء شديدا" حلّ بتطيلة Tudela وما حولها، كان على الأرجح فيما بين 441 و442هـ (1050-1051م)، فاستغاث أهلها بالمظفر يوسف ابن هود صاحب لاردة Lérida، الذي استجاب للإغاثة وجهز "طعاما كثيرا" وأراد إرساله إلى تطيلة، وكان الطريق لذلك أحد السبيلين، إما عن طريق سرقسطة، بلاد أخيه وعدوه المقتدر أحمد ابن هود، أو عن طريق وسط بلاد رميرو الأول Ramiro I ملك أراغون، فاختار الطريق الثاني وطلب من الملك النصراني السماح بعبور القافلة عبر أراضيه مقابـل قدر من المال، وعندما علم أخوه وغريمه المقتدر بالأمر أرسل أضعاف المال إلى رميرو الأول على أن يسمح له بعبور أراضيه والتعرض لقافلة الميرة، وبالفعل نال الموافقة، فقطع الطريق على القافلة و*** حاميتها وفاز النصارى بالأسلاب فضلا عن الأموال، أما هو فقد نال مراده، إذ دخل أهل تطيلة في طاعته وخرجوا على المظفر[79].
لا ينتاب الباحث في تاريخ الأندلس الاجتماعي فقط الإحساس بالخيبة من قلة الأخبار والمادة التاريخية الخاصة بموضوعنا، بل أيضا يتملكه الغيظ الشديد من اقتضاب أو صمت المصادر بشأن ما قد يراه خبرا هاما، ولدينا مثال كاشف على ما نقول. فيشير مؤرخون كبار مثل ابن بشكوال وابن عبد الملك المراكشي وابن الزبير إلى مجاعة كبيرة بالأندلس عام 448 هـ (= 1056-1057م) دون تفاصيل تشفي الغليل، وإذا كان عذر هؤلاء أنهم مؤرخو تراجم، فما عذر مؤرخ كبير مثل ابن حيان الذي كان معاصرا للحدث، اللهم إذا كان هذا الخبر متضمنا فيما ضاع من كتابات هذا المؤرخ الفذ.
وتأتي أول إشارة لخبر هذا المجاعة من ابن بشكوال فيذكر أن ابن المكوي عبد الله بن أحمد بن عبد الملك بن هاشم توفي بقرطبة في جمادى الأولى عام 448هـ (= يوليو/ تموز 1056م) "بالصيلم المشهورة بالأندلس"[80]، والصيلم: الداهية على الإجمال، ولكن في نص آخر لابن بشكوال نقلا عن ابن حيان يرجح لدينا أن المقصود بها المجاعة، إذ يقول المؤرخ القرطبي أن ابن الصناع محمد بن عبد الله المقرئ توفي بقرطبة صبيحة يوم الجمعة التاسع من المحرم سنة 448هـ (= أواخر مارس / آذار 1056م) "أيام اشتد القحط"[81]، وبمقارنة تاريخيْ الوفاتين نستنج أن القحط حدث على الأرجح في سنة 447هـ، وباشتداده أخذت المجاعة في الحدوث لتصل في العام التالي إلى ***وانها حتى يصل ابن بشكوال إلى وصفها بالصيلم.
ويسميها معاصر لها "عام الجوع الكبير"، فيقول الإشبيلي أبو مروان عبد الملك ابن المليلة (ت 535هـ = 1140-1141م) "كنت عام الجوع الكبير ابن اثنتي عشر عاما، وكان الناس يدفنون الثلاثة والأربعة في قبر واحد، والمساجد مربوطة أبوابها بالخزم (الحِبال) لا يوجد لها من يؤم بها ولا من يصلي فيها"[82]، ويحدد ابن عبد الملك المراكشي العام بقوله: "وكان الجوع الكبير سنة ثمان وأربعين وأربعمائة"[83]، ويتفق معه ابن الزبير[84]، أي كان ذلك في عهد المعتضد بالله ابن عباد (433-461هـ = 1042-1069م).
ويتفق تاريخ المجاعة المذكورة مع ما وقع من غلاء ووباء في بلدان كثيرة مثل العراق وخراسان والشام والحجاز وديار بكر ومصر واليمن و"الدنيا كلها" كما يقول ابن الجوزي[85].
ومما يجدر ذكره أن القحط المشار إليه والذي وقع في قرطبة واشبيلية في سنة 447هـ، ثم ما تلاه من مجاعة في العام التالي، لا نجد له ذكرا في باقي مناطق الأندلس حسب المصادر التي بأيدينا، بل إن علي بن مجاهد العامري صاحب دانية وجـّه مركبا كبيرا مملؤا طعاما إلى مصر سنة الجوع العظيم الذي كان بها في عام 447هـ، فرجع إليه المركب مملؤا ياقوتا وجوهرا وذهبا وذخائر[86]، وهذا الفعل وإن يحمل إلى الظن بأن شرق الأندلس قد نجـا من شـر المجاعة المذكورة، فإنه من المحتمل أيضا أن صاحب دانية قد أرسله من مذخور الطعام في بلده.
وفي ترجمة الإشبيلي أبي عبد الله محمد ابن منظور القيسي (ت شوال 469هـ = فبراير / شباط مارس / آذار 1077م) يشير ابن بشكوال إلى قحط أصاب أهل إشبيلية، ونجهل إن كان هو نفس القحط الحادث سنة 447هـ، فـ"بلغ قفيزهم أحد عشر مثقالا، وزيتهم ثمانية مثاقيل القسط"[87].
ولدينا خبر عن حدوث جـَدْب في بطليوس Badajos في عهد أميرها عمر المتوكل على الله ابن الأفطس (حكم على الأرجح من عام 464 إلى 487هـ = 1072-1095م) دون تحديد سنة حدوثه، ويبدو أن القحط كان شديدا، "فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو، ونزع ملابس الخيلاء والزهو" حسب نص الفتح بن خاقان[88].
وفي إشارة مقتضبة يشير ابن القصيرة على لسان المعتمد بن عباد في رسالة مؤرخة في 478هـ (= 1085-1086م)، في الغالب، موجهة إلى أقرانه ملوك الطوائف إلى سوء الأحوال في مملكته، فإلى جانب تهديدات ألفونسو السادس Alfonso VI ملك قشتالة فإن البلاد كانت تعاني من "جائحة القحط والجراد"[89]، ولا توجد لدينا معلومات عن هذا القحط وتأثيره.
ومن المناسب أن نشير في هذا المقام إلى شكل آخر من أشكال الجوع كان سبب وقوعه الظلم الفادح الواقع على الرعية، ولدينا بهذا الشأن نص فريد للمؤرخ ابن حيان عن أحوال الرعية في بلنسية تحت حكم الصقلبيـّيـْن العامريين مبارك ومظفـَّر (نحو 402-409هـ = 1011-1018م) [90]؛ فيذكر المؤرخ القرطبي أن تحت وطأة الضرائب العالية التي فرضها الحاكمين المذكورين ساءت حال أهل القرى وهرب عدد كبير منهم وخربت أراضيهم وأصبح "كثير منهم يلبسون الجلود والحصر ويأكلون البقل والحشيش".
وبطبيعة الحال عانى المسلمون من جراء حرب الاسترداد النصرانية بداية من النصف الثاني من القرن الخامس الهجري (= الحادي عشر الميلادي) معاناة شديدة ومتنوعة من *** وحرق وفقد للممتلكات، وغير ذلك، ومع ذلك، فإن الجوع الذي عاناه أهل بلنسية كان من أشد ما عرفه مسلمو الأندلس خلال تلك الحرب.
ويعزو ابن عذاري ذلك لطول مدة الحصار[91]؛ وهذا صحيح على الإجمال إذ دام حصار السِّيِد الكمبيادور Cid Campeador للمدينة قرابة عشرين شهرا، وبالتحديد 19 شهرا شمسيا ونصف الشهر، من نوفمبر / تشرين الثاني 1092 إلى 15 يونيو / حزيران 1094.
ولكن الحقيقة أن هذه الفترة تضمنت حوالي خمسة أشهر، من أبريل / نيسان 1093 إلى أواخر أغسطس / آب 1094، رفع فيها السـِّيد الحصار عن بلنسية، ولكنه لم يبتعد عن المدينة، إذا كان مقيما في أحد أحيائها الخارجية، وجيشه معسكرا على مشارفها، كما أن أهلها وغالبية توابعها كانوا يدفعون له إتاوة باهظة. على أية حال، خلال الحصار الثاني الذي امتد حوالي تسعة أشهر عانى البلنسيون الكثير حيث "هلك أكثر الناس جوعا، وأكلت الجلود والدواب وغير ذلك"[92]، وفي موضع آخر يقول ابن عذاري نقلا عن المؤرخ محمد بن علقمة (ت شوال من عام 509هـ = مارس / آذار 1116م): "وعدم الناس الطعام وأكلوا الفيران والكلاب والجياف إلى أن أكل الناسُ الناسَ، ومن مات منهم أكلوه فبلغ الناس من الجهد ما لا يطيقون، وقد ألف ابن علقمة كتابا في أمرها وحصارها يبكي القارئ ويذهل العاقل"[93].
وابن علقمة المذكور مؤرخ بلنسي شهد الحصار وعاناه وكتب في ذلك كتابا سماه "المصاب الفادح"، وللأسف فقد الكتاب ولم تبق منه إلا قطعة حفظها لنا ابن عذاري في كتابه البيان المغرب.
وتتضمن هذه القطعة تفاصيل دقيقة عن الحصار في الشهور الثلاثة الأخيرة السابقة على استسلام المدينة، ونحن بدورنا نسوق هذه التفاصيل لأهميتها البالغة[94]؛ فحسب هذا المصدر ارتفعت الأسعار واشتد الغلاء، وهذه هي قائمة الأسعار في شهر ربيع الأول 487هـ (= 21 مارس / آذار19 أبريل / نيسان 1094):
رطل القمح = مثقال ونصف
رطل الشعير= مثقال
رطل زريعة الكتان = ستة أثمان مثقال
أوقية الجبن = ثلاثة دراهم
أوقية البصل = درهم
رطل البقل = خمسة دراهم
بيضة دجاجة = 3 دراهم
رطل اللحم البغلي = 6 دنانير
رطل الجلد البقري = 5 دراهم
وفي شهر ربيع الثاني (= 20 أبريل / نيسان - 18 مايو / أيار 1094)، "عظم البلاء، وتضاعف الغلاء، واستوى في عُدم القوت الفقراء والأغنياء"، فأمر حاكم المدينة القاضي ابن جحـّاف باقتحام الدور فحصا عن الطعام محاولة منه للتخفيف من الأزمة. وانتهى هذا الشهر وقد بلغ سعر رطل القمح ثلاثة مثاقيل إلا ربعا، "وما سواه تابع له"، أي أن الزيادة في سعره كانت مؤشر الزيادة في أسعار باقي السلع، وبالتالي فإذا كانت الزيادة في سعر رطل القمح قد بلغت حوالي 83%، يمكننا حساب نسبة الزيادة في أسعار باقي السلع، فمثلا وصل سعر أوقية الجبن إلى خمسة دراهم ونصف الدرهم تقريبا، وهكذا. وحسب ابن علقمة، لم يكن يقدر على الحصول على الطعام "إلا أهل الجاه"، بينما ترمّـق عامّـة الناس بالجلود والأصماغ (اللدائـن) وعروق السوس"، أما المعدمون فـ"بالفئرة والقطط وجيف بني آدم"؛ وقيل أن الفأر وصل سعره إلى دينار[95]؛ وقيل أيضا أن نصرانيا وقع في خندق المدينة، فأخذت جثته ووزعت لحما.
ومن الصور المأساوية المثيرة في هذه الفترة ما يذكره أيضا ابن علقمة من أن الكمبيادور كان يحرق من يحاول الهروب من المدينة لئلا يخرج ضِعاف الناس فيتوفر الطعام للقادرين، ومع ذلك فضّـل عددٌ من الناس الإحراق بالنار على الموت جوعا. ودخل شهر جمادى الأولى، وعدمت الأقوات كلية وانتشر الوباء وهلك كثير من الناس، "وبينما الرجل يمشي سقط ميتا"، ويذكر أيضا أنه لم يبق في المدينة من الدواب إلا أربع، اثنان لحاكم المدينة وولده، واثنان لأحد الوجهاء، وهذا الأخير باع فرسه للجزارين بمائتي مثقال، واستثنى منه عشرة أرطال، "فبيع الرطل منه أوله بعشرة دنانير، وآخره باثني عشر دينارا، ورأسه بخمسة عشرة مثقالا". وفي هذا الشهر حتى منتصف جمادى الأولى، وهو اليوم الذي دخل فيه السيد الكمبيادور المدينة، كانت الأسعار على النحو التالي:
رطل القمح = ثلاثة مثاقيل
رطل الشعير = مثقالان ونصف المثقال
أوقية الجبن = عشرة دراهم
بيضة دجاجة = ثمانية دراهم
ولا غرو أن يساهم الجوع الشديد، الذي كان يعاني منه أهل بلنسية من جراء الحصار الخانق، في سقوط المدينة.
4- عصر المرابطين والموحدين
كان قيام يوسف بن تاشفين بالقضاء على دول الطوائف الأندلسية منعطفا مهما في تاريخ الأندلس، فقد أصبحت البلاد منذ ذلك التاريخ تابعة سياسيا لمراكش، واستمر هكذا الحال في عصر الموحدين باستثناء السنوات القليلة الواقعة بين أواخر الدولة المرابطية والسنوات الأولي من الدولة الموحدية وكذلك السنوات الأخيرة من عصر سيادة الموحدين في الأندلس. وكنتيجة لهذه التبعية السياسية أصبح الاقتصاد الأندلسي مرتبطا بالمغربي، أو أكثر ارتباطا من ذي قبل، وبالتالي من المفترض أن الأزمات الاقتصادية، خاصة المجاعات، الواقعة في الجانب المغربي كانت تؤثر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الأندلس.
في العصر المرابطي وقع قحط شديد في بلاد الأندلس والعدوة في سنة 498هـ (= 1104-1105م) "حتى أيقن الناس بالهلاك"[96] على ما يذكر ابن عذاري.
كما حدث قحط بغرناطة في سنة 524هـ (= 1130م)، فصلى قاضيها حينئذ أبو محمد عبد المنعم بن مروان الهلالي بالناس صلاة الاستسقاء فسقوا وذلك في يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من السنة المذكورة (= أواخر أبريل / نيسان 1130م)[97].
غير أنه في ترجمة أبي عمران موسى بن عبد الرحمن بن حماد الصنهاجي (ت 535هـ = 1140-1141م) من تراجم الغرباء لنفس المؤلف المنشورة في كتاب "الذيل والتكملة" يأتي ذكر حدوث قحط في غرناطة سنة 525هـ (= 1130-1131م)[98].
ورغم أنه لا يوجد فيما بين أيدينا ما يقطع بأنه هو نفس القحط المشار إليه في عام 524هـ، أو أنه قد تجدّد في العام التالي، أو استمر إلى ذلك العام، فإن حديث ابن القطـّان عن اشتداد المجاعة والوباء بالناس بقرطبة، وكثرة عدد الموتى[99]، يرجح لدينا أن القحط، العامل الأساس في حدوث المجاعة، قد عمّ أغلب مناطق جنوب الأندلس وأنه توالى حتى سنة 526هـ، وهو عام اشتداد المجاعة كما يقول ابن القطان. ويبدو أن المجاعة المذكورة كانت شديدة، إذ بلغ مد القمح خمسة عشر دينارا[100]، ومن المرجح أن إلى هذه الشدة ترجع إشارات الشاعر الزجال ابن قزمان (ت 555هـ = 1160-1161م)، فيتحدث عن ضيق المعاش ودوام الغلاء في عام القحط الذي لا علاج له، وارتفاع ثمن الدقيق حتى أصبح أغلى من الدواء، وأن الشعير عند الناس بات يُعدّ بالحبـّة، وأن الجو صحو لا أثر فيه لغمام وأن الشمس حارقة، ويتمنى نزول الغيث، ويشتاق إلى الرخاء[101]، وكذلك يلوح لنا أن إلى هذه الشدة كان يشير الكاتـب الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال (ت 540هـ = 1146م) في رسائـله[102].
ولا ندري متى انتهت المجاعة بالضبط، وهى وإن خفت حدتها بنزول الغيث على الأرجح في أواخر سنة 526هـ، فإن الأزمة ظلت مستمرة بقدر ما وذلك بسبب توالي هجوم الجراد على زرع الأندلس حتى سنة 531هـ (= 1136-1137م).
وفي ترجمة أبي بكر أحمد بن محمد بن جعفر بن سفيان المخزومي إشارة إلى "الغلاء المفرط" ببلنسية في سنة 540هـ (= 1145-1146م)، والذي فرَّق فيه الصوفي أبو العباس الإقليشي (ت 550 أو 551هـ = 1155 أو 1156م) نفقة الحج التي أعدها وهي 60 دينارا على طعام للضعفاء والمساكين، وكذلك أنفق صاحب الترجمة، أي أبو بكر أحمد المخزومي (توفي في حدود عام 580هـ = 1184-1185م)، لنفس الغرض ألفي دينار[103].
وليس لدينا خبر عن أسباب الغلاء، وإن كنا نرجح أن الإضرابات السياسية الحادثة في بلنسية وشرق الأندلس في أواخر الدولة المرابطية كانت السبب في حدوث الغلاء المذكور أو كانت عاملا أساسيا في استفحال الأزمة.
ورغم دخول إشبيلية في طاعة الموحدين في شعبان سنة 541هـ (= يناير/ كانون الثاني 1147م)، فإنها لم تنعم بالأمان سوى عدة أشهر من جراء الفتن التي أثارها الجند الموحدي بداخلها من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تعرضها للإغارة المتصلة من قبل الجهات المجاورة لها مثل لـَبلة Niebla وقرطبة اللتان كانتا حينئذ خارج سيطرة الموحدين، فضلا عن اشتعال الفتنة في أغلب سائر غرب الأندلس، فاضطرب أمر أهل اشبيلية وظلّ على هذا الحال قرابة سنتين خلال عامي 542 و543هـ (= حتى منتصف عام 1149م) على ما يذكر صاحب "البيان المغرب"[104]، فارتفعت الأسعار خلال ذلك، وزاد من الأزمة تعرض المدينة لحصار بحري وتوقف التجار من تسيير بضاعتهم خوفا على أرواحهم وأموالهم، فأسفرت المجاعة عن وجهها، ويشير ابن عذاري إلى اشتدادها "حتى بيعت خبزة بدرهم ونصف، وبيع قدح القمح بستة وثلاثين درهما، وباع الناس أموالهم بإشبيلية بالأيسر اليسير، واستوى الغني بها والفقير"[105].
وفي عام 543هـ حاصر النصارى قرطبة، فحدثت بها مجاعة حتى تم رفع الحصار عنها[106]، ولكن يذكر ابن الأثير أن الأذفونش (ألفونسو) ملك طليطلة حصر قرطبة سنة 545 وهي في ضعف وغلاء لمدة ثلاثة أشهر[107]، ولا نعلم هل هو نفس الحصار المشار إليه أم هو حصار آخر ومن ثم مجاعة أخرى عاشتها المدينة. بيد أن الحاضرة العتيقة قد عانت كثيرا فيما بعد من هجوم ابراهيم بن هَمـُشـْك، حليف وصهر محمد بن مـَرْدَنيش سيد شرق الأندلس، وإلحاحه يوميا عليها بالغارات وقطعه زروعها كل صيف على مدى السنوات الثلاث التي كان فيها الموحدون مشغولون بفتح إفريقية (553-555هـ = 1158-1160م)، ولهذا يـُذكر أن الموحدين عندما دخلوا قرطبة يوم الأحد 12 من شوال من سنة 557هـ (= أواخر يوليو/ تموز 1162م) وجدوا بها عددا قليلا من سكانها في حالة يـُرْثى لها بسبب الفتنة والمجاعة[108].
وبعد قرابة عشر سنوات تطالعنا صورة مشابهة لذلك ولكنها لأهل قونكة Cuenca، فيحدثنا ابن صاحب الصلاة الذي كان شاهدا على وضعهم المزري عندما استقبلوا الخليفة الموحدي أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن على رأس جيشه يوم الثلاثاء غرة ذي الحجة سنة 567هـ (= 24 أكتوبر / تشرين الأول 1172)، وكانوا قد تعرضوا لحصار النصارى قرابة خمسة أشهر، وعندما علم النصارى بحركة الجيش الموحدى، أقلعوا عنهم وتركوهم "كأنهم قد نشروا من كفن وخرجوا من جدث"، فأمر الخليفة بأن يكتب أسماءهم، فأحصوا وكان عددهم سبعمائة نسمة بين مقاتل وامرأة وصبي وطفل، فأمر لهم بمال وُزِّع عليهم وأمدهم بأسلحة وطعام[109].
والمثير في الأمر أن نفس هذا الجيش الموحدي بقيادة الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، الذي أنقذ أهل قونكة من الهلاك كما ذكرنا، تعرض في حملته العسكرية تلك التي عرفت بغزاة وَبْـذة Huete (استمرت نحو خمسة أشهر من الاثنين 11 من شوال عام 567هـ إلى الخميس 8 من ربيع الأول سنة 568هـ = أوائل يونيو / حزيران إلى أواخر أكتوبر / تشرين الأول 1172م) لشدائد عدة منها قلة الزاد حتى وصل الحال إلى وصفها بالمجاعة طبقا لابن صاحب الصلاة الذي كان مصاحبا للجيش الموحدي[110].
وعود إلى السياق الزمني، ففي خبر مضطرب السياق يذكر ابن الأثير أن الموحدين حاصروا ألمرية Almer?a عدة شهور في سنة 546 (= 1151-1152م)، وكانت المدينة قد وقعت قبل ذلك في سنة 542هـ (= 1147م) في أيدي النصـارى، ولكن حدث أن اشتد الغلاء في العسكر الموحــدي وعدمت الأقوات، فرفع الموحدون الحصار ورحلوا عن المدينة، وعادوا إلى إشبيليـة[111].
ورغم أن ابن أبي زرع يجعل حصار ألمرية وفتحها في السنة المذكورة[112]، أي أنه يتفق مع ابن الأثير على حدوث عمل عسكري بألمرية في ذلك العام، فإنه من المعلوم أن استيلاء الموحدين على ألمرية تمَّ في أواخر سنة 551 أو أوائل 552هـ (= 1157م)[113]؛ ومع ذلك، فليس من المستبعد أن الموحدين قاموا بمحاولة أولى لاستخلاص المدينة من أيدي النصارى في سنة 546هـ.
ولكن ما يهمنا في هذا السياق إشارة ابن الأثير إلى الغلاء وقلة الأقوات في الجيش الموحدي، ولعل هذا، فضلا عن تزعزع سلطة الموحدين في غرناطة على إثر استيلاء ابن همشك على قصبتها ثم هزيمة الموحدين في السواقي عام 557هـ (= أوائل 1162م)، ما جعل الخليفة عبد المؤمن، في إطار استعداده لدخول الأندلس وتدعيم سلطته هنالك، يقوم بإعداد كميات هائلة من القمح والشعير في مرسى المعمورة، المهدية فيما بعد، على وادي سبو، وكان ابن صاحب الصلاة شاهدا عيانا على الكميات المذكورة قائلا إن "ما عاينته مكدسـا كأمثـال الجبال، بما لم يتقدم لملك قبله ولا سمعنا به في جيل من الأجيال"[114].
ثم يذكر أن الميرة بقيت في موضعها المذكور قرابة خمس سنوات، من سنة 557 إلى 562هـ (= 1162-1166م)، حتى فسد وفني وأصبح ترابا[115].
وبعد استعادة قصبة غرناطة على إثر انتصار الموحدين في موقعة السبيكة في يوم الجمعة 28 رجب من عام 557هـ (= 13 يوليو / تموز 1162م) ملئت مخازن المدينة بكميات كبيرة من القمح والشعير والملح وآلات الحرب نـُقـِلت إليها من العدوة المغربية في المراكب إلى حصن المنكب Almu?écar ومنه إلى غرناطة[116].
وقد يتبادر إلى الذهن أن الكميات الأخيرة المذكورة هي نفسها الأولى قد نـُقـِلت إلى غرناطة، أو قد تم نقل جزء كبير منها، لكن لا يمكننا الجزم بذلك، وعلى كل الأحوال، وحسب كلمات ابن صاحب الصلاة نفسه، فإنها كانت أيضا كميات هائلة عمرت بها المدينة وأمن بها الجيش الموحدين على نفسه. وما من شك أن نقل الميرة بمثل هذه الكميات الضخمة من المغرب إنما يدل على عدم استقرار سلطة الموحدين بالأندلس حتى أواخر عهد الخليفة عبد المؤمن، وأنهم ما كانوا بعدُ قادرين على توفير الميرة لجيشهم اعتمادا على مصادر تموين أندلسية، فجلبوها من العدوة المغربية.
وحسبما يذكر ابن عذاري فإنه في رجب عام 565هـ (= مارس / آذار أبريل / نيسان 1170م) ضعف حال مدينة بطليوس وعدم أهلها القوت، ولم يذكر سبب ذلك، ولكن في الأغلب كان بسبب تعرضها لمضايقة صاحب قلمرية Coimbra النصراني ابن الرنك (Alfonos Enr?quez)، فاهتبل الفرصة ونزلها بجنوده، فامتلكوها وحاصروا الموحدين الذين في قصبتها، فجمع لهم الموحدون بإشبيلية مؤنا عظيمة وأرسلوها مع جمع من العسكر، فخرج لهم جرنده Giraldo الجليقي، قائد ابن الرنك، على رأس عسكره من النصارى فهزموا المسلمين و***وا قائدهم ونهبوا الميرة في 26 من شعبان (= 15 مايو / أيار) في العام المذكور[117].
وفي إشارة مقتضبة لابن صاحب الصلاة يذكر أنه في نفس العام، عام 565هـ، حدث انحباس المطر في الأندلس وقت الاحتراث، أي خلال شهري أكتوبر / تشرين الأول ونوفمبر / تشرين الثاني من عام 1169م، واستمر حتى شهر ديسمبر / كانون الأول، ثم نزل المطر وحرث الناس[118]، والظاهر أن تأخر المطر لم يؤد إلى مجاعة.
الجزء الاول انتهى