مشاهدة النسخة كاملة : المعاييرُ الخُلُقيةُ والمِهْنيَّةُ للصيدلانيِّ في التُّراث الإسلاميِّ


ابو وليد البحيرى
02-05-2015, 02:08 PM
المعاييرُ الخُلُقيةُ والمِهْنيَّةُ للصيدلانيِّ في التُّراث الإسلاميِّ

د.محمود مهدي

منذ عدة عقود بدأت شرارة الثورة العلمية تتأجج، وتزداد يومًا بعد يوم اشتعالا وانتشارًا وتوغلا في مسارات الحياة كافة، ومع تقدمها السريع بدأت المجتمعات تجني ثمارها الحلوة والمرة، فالثورة العلمية التي أوصلت الإنسان إلى القمر، وساهمت في تصنيع أدوية فعالة لعلاج العديد من الأمراض، وقدمت للبشرية الكثير من المخترعات الحديثة هي التي دمرت نجازاكي وهيروشيما، وهي التي ابتدعت بنوكَ الأجِنَّة وتأجيرَ الأرحام، وأوجدت عقاقير مدمرة استُخدمت في استجواب الأسرى والمعتقلين و*****هم. وبالطبع لا يمكن إيقاف مسيرة العلم للآثار السلبية لثورته، لكن لابُدَّ من وضع ضوابط ومعايير أخلاقية تكبح جماح بحوثها، وتُوَجِّهُهَا لخدمة البشرية بدلا من استغلالها استغلالا سيئًا.


الصيدلة مهنة من أشرف المهن، تعمل على حفظ الصحة الموجودة، واسترداد المفقودة، وتحرص على سلامة الناس وعدم تعرضهم للضرر، وقد تنبه العلماء والحكام منذ القدم إلى ضرورة وضع ضوابطَ ومعاييرَ أخلاقيةٍ تحكم تصرفات الصيادلة حتى لا يُسْتَغَلَّ شرف هذه المهنة أسوأ استغلال. واليوم وبعد اتساع نشاط الصيدليات واحتوائها على الأدوية المصنعة والمركبة، والسموم والمواد المخدرة، ووسائل منع الحمل وتنظيمه، والأدوات المساعدة في الحَقْنِ ونقل الدم... الخ، وأمام إغراءات شركات تصنيع وتوزيع الأدوية، وأمام الربح الكبير من المواد المخدرة، ينزلق البعض إلى هاوية الطمع والجشع، والضرب بمصلحة المريض وأخلاق المجتمع عرض الحائط، حيث بيعت وسائل منع الحمل والحبوب المخدرة والسموم بلا تذكرة طبية، مما ألحق ضررا خُلُقيًّا وصحيًّا بالعديد، ولزيادة هامش الربح قدمت الأدوية ذات الفاعلية المحدودة على الأكثر فاعلية، وأغرت بعض شركات الأدوية وموزعوها الكثير من الأطباء لوصف أدوية بعينها، لزيادة مبيعاتها، وأحيانا يتدخل الصيدلانيُّ بإبدال الدواء دون الرجوع للطبيب المعالج، كل هذه التجاوزات وغيرها في هذا العصر تحتاج لضوابط تَحدُّ منها، وتلزم أصحاب المهنة الحرصَ عليها.
وقد تمخَّض اجتماع الاتحاد الدولي للصيدلة في سيدني بأستراليا في سبتمبر من عام 1988م عن مجموعة من المعايير الأخلاقية التي تحدِّد القيمَ الخُلُقية والمهنية التي يجب أن يتبعها الصيادلة للارتقاء بمثالياتها، وتدعيم رسالتها، ومقاومة أي انحراف بين المشتغلين بها، وإن كنت أرى أنها مُغَيَّبة في ظل كثرة الصيدليات وقلة الرقابة.
وهذا الموضوع يهدف إلى أمرين:
الأول: إلقاء الضوء على عناية المجتمعات القديمة، وبخاصة العرب بوضع معايير أخلاقية تضبط سلوكات القائمين على مهنة الصيدلة، وكشف اللثام عن بعض الجهود التي بُذلت في هذا الشأن.
الثاني: استنهاض همم علماء الدين والأخلاق والفلسفة والصيدلة للمساهمة في ترسيخ هذه القيم والإضافة إليها بالتأليف فيها، وإثراء هذا الجانب بأفكارهم وإبداعاتهم الفكرية.
المعايير الخُلُقية والمهنية عند العرب قبل الإسلام:
وبالنسبة للصيدلة عند العرب قبل الإسلام، فلم يكن لدى العرب صيدلة بالمعنى العلمي المعروف، لكن قامت مداواتهم للأمراض على ما ورثوه من شيوخهم وعجائزهم، معتمدين في ذلك على المفردات الدوائية والغذائية التي تجود بها بيئتهم، ملتزمين في مداواتهم بالقِيَم ومكارم الأخلاق الاجتماعية الموروثة.
المعايير الخلقية والمهنية في صدر الإسلام:
وتعد مرحلة صدر الإسلام وعصور الخلفاء الراشدين امتدادًا من الناحية الفنية لما قبل الإسلام، ولكنْ برزت معاييرُ خُلُقِيَّةٌ جديدة مستمدة من مبادئ الإسلام وتعاليمه، تحض التجار بشكل عام على الصدق والأمانة، وتحذر من الغش والتدليس والتطفيف في الكيل والميزان. فحافظ الناس على هذه الأخلاق، وتمسكوا بها في جميع معاملاتهم. والتزم الخلفاء الراشدون هذا النهج، وعزَّروا من لم يلتزم بتعاليم الإسلام في معاملاته. وغالبا ما كانت الرقابة في هذه المرحلة رقابة ذاتية، تنبع من الضمير الذي ينبه صاحبه إلى مسؤولياته تجاه مجتمعه، ومراقبته لله عز وجل ، فكان المطبِّب أو مُعِدّ الدواء يرعَى للمريض ذمته، ويحفظ له عِرْضَه وماله وأسراره خشية الله تعالى.
المعايير الخُلُقِيَّة والمهنية في العصر الأُموي:
وشهد العصر الأُموي انفتاحًا على العالم الخارجي نتيجة الفتوحات، واتصل العرب بالأمم الأخرى واطَّلعوا على حضاراتها وأفادوا منها، واستقدم الخلفاء بعضَ الأطباء والصيادلة المتأثرين بالعلم اليوناني، وشهد هذا العصر غرسَ بذور علم الصيدلة، فألَّف تياذوق(1) كتابًا في أبدال الأدوية وكيفية دَقِّها(2)، وترجم ماسرجويه(3) لعمر بن عبدالعزيز كتاب أهرن القَس في الطب(4)، وركَّب ابن أُثال(5) الأدوية والسموم والترياقات. وشهد صدر هذا العصر تجاوزًا للقيم الخُلقية لمهنة الصيدلة من بعض الأطباء، فابنُ أُثَال ركَّب لمعاوية سمومًا استغلها في تصفية خصومه ومعارضيه(6).
المعايير الخلقية والمهنية في العصر العباسي:
في العصر العباسي اكتملت للصيدلة مقومات الازدهار، فتُرجمت الكتب، وظهر التأليف، وكَثُرتِ الصيدليات، ورُكِّبت الأدوية، وَوُضعتْ لها الدساتير، وسُنَّتِ القوانين لمراقبة أصناف الأدوية، وامتُحن الصيادلة قبل الحصول على موافقة لممارسة هذه المهنة(7) للوقوف على ما يتحلَّى به الصيدلاني من قِيَم وآداب وأخلاق وإلمام بقواعد الصنعة تؤهله لممارسة المهنة. وأخضع بعض الخلفاء أطباءه وصيادلته لامتحانات تأكدًا من وفائهم وإخلاصهم وأمانتهم، وأنهم ليسوا مدسوسين من قِبَل جهة معادية تريد التخلص منه، فقد كان الطبيب أقرب للحاكم من خاصته، يدخل عليه في خلواته وأوقات راحته، وحياة الحاكم مرهونة بوفائه، يستطيع بدس جرعة سُمٍّ صغيرة في الطعام أن يقضي عليه. وممن مرَّ بهذه التجربة حُنَيْن بن إسحق حين أصبح طبيبا للمأمون، الذي أخضعه لاختبارين قاسيين:
الأول: اختبار عِلْمِه بالشَّك في وصفاته الدوائية؛ فكان الخليفة يسمع رأيه، لكنه لا يأخذ بقوله دواءً يصفه حتى يشاور فيه غيره؛ ليتأكد من صواب رأيه.
الثاني: اختبار أمانته الصيدلانية بالترغيب والترهيب؛ فقد أحضره الخليفة ذات يوم وخلع عليه، وقال له ممتحنًا: أريد أن تصف لي دواء ي*** عدوًّا نريد ***ه، ولم يمكن اشتهاره(8)، ونريده سرًّا.
أما عامة الصيادلة الذين يريدون العمل في البيمارستانات، أو من يمتلكون حوانيت «صيدليات» خاصة لبيع الأدوية، أو يتجولون ببضاعتهم في الأسواق وأماكن تجمع الناس، فهؤلاء كانوا يخضعون لاختبارات للتأكد من أمانتهم وصدقهم، وعدم استغلالهم، وإلمامهم بقوانين الصنعة. وكانت الرقابة على هذه الفئة من الصيادلة محط عناية الخلفاء والقادة والعلماء.
وفي عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله سنَّ العديد من نُظُم الرقابة في الدولة الإسلامية لمواجهة ما قد يعتري المجتمع من مخاطر التسيب والإهمال وضعف الخُلُق من أرباب المهن، ومن هذه النُّظُم امتحان كل من يرغب في ممارسة مهنة الطب، وصدر القرار بمنع الأطباء من الممارسة إلا بعد أن يمتحنهم سنان بن ثابت ويجيزهم، وبالطبع فقد كان أكثر هؤلاء الأطباء صيادلة في ذات الوقت. وفي عهد الخليفة المستنجد بالله فوَّض إلى أمين الدولة بن التلميذ رئاسة الطب ببغداد وامتحان المتطببين(9).
وصية داود بن أبي النصر لولده(10):
تُعَدُّ وصية داود التي أوردها في كتابه منهاج الدكان(11) من أهم الوصايا التي ترسم صورة مُثْلَى لما يجب أن يكون عليه الصيدلاني، فهي لم تُعْنَ فقط بالجانب الأخلاقي والمهني للصيدلاني، لكنها شملت كلَّ جوانب شخصيته، على أساس أن جميع صفات الشخصية تمثل وِحْدَةً واحدةً لا تنفصل ولا تتجزأ، فعُنِيَت بالصيدلاني ابنًا ووالدًا وزوجًا ومتعلمًا ومُعَلِّمًا وتاجرًا وعضوًا في المجتمع، واهتمت بالجوانب الروحية والأخلاقية، والمهنية والمهارية، والشخصية والاجتماعية. ولعل الإحساس بصدق العاطفة في الوصية يرجع إلى أنها كانت موجَّهة من والد لولده، فهي خاصة في منشئها، لكنها عامة الدلالة واسعة الشمول. ومما تمتاز به الوصية أنها تعلِّل للكثير من النصائح، فتشير إلى الغاية من كل نصيحة ليزول كل إبهام، ويُمْحَى معها كل تساؤل، كما امتازت بالسهولة والوضوح، وإمكانية تنفيذ بنودها. وجاءت الوصية في بابين من أبواب الكتاب، هما الباب الأول، وهو بعنوان: «في ما ينبغي لمن استصلح نفسه أن يكون متقلدًا بعمل هذه المركَّبات أن يكون على غاية من الدين والثقة والتحرز والخوف من الله تعالى أوَّلا ومن الناس ثانيًا(12)». والباب الثالث والعشرون وعنوانه «وصايا يُنتفع بها(13)» وفيه جاء مجموع الوصايا يرسم للصيدلاني طريق يومه، وما يجب عليه أن يفعله منذ أن يستيقظ من نومه صباحًا حتى يعود لمرقده ليلا.
ويمكن القول أن الوصية قد جمعت بين ثلاثة محاور رئيسية، حدَّدت الكثير من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الصيدلاني، وعالج كل واحد منها جانبًا من جوانب شخصيته، وهذه المحاور هي:
المحور الروحي والأخلاقي:
بدأ داود وصيته ببيان مكانة العقل الذي هو هِبَة الله للإنسان، وأنه كالسراج الذي به يميز بين الخير والشر، والحَسَن والقبيح. وبيَّن أن الإنسان مخيَّر بين الخير والشر، وليس مجبورًا على فعل أحدهما، ثم يقول لولده: اعلم أن عناية الله تكلأ من يسعى نحو الخير، وتتخلى عمن قصد غير ذلك. وينصحه قائلا: اتق الله عز وجل ، واجعل خوفك منه خوف محبة في ذاته لا خوف عقابه. ويحثه على شكر الله تعالى حين يستيقظ من نومه لأنه أبقاه حيًّا، ولأنه جعله قادرًا على شكره. ويأمره بالعديد من الأمور التعبدية التي منها: أدِّ الصلاة، وسمِّ الله وأنت تفتح دكانك، واقصد بعملك وجه الله تعالى وثوابه، واعمل الخير لذاته. واحذر في ما تعطيه للناس الغش والنقص والتبديل. واقنع بالكسب اليسير، واقتصد في النفقة، وبادر بالصدقة. وغض بصرك عن النساء، واشرح صدرك، وإياك والعجب والتعاظم، وتواضع، واصدق، واصبر على البلايا، ولا تكثر الضحك والمزاح مع الرجال فيطمعوا فيك، ولا مع النساء فيتوهمن خلاف المراد. حِبَّ لغيرك ما تحب لنفسك. واعلم أن أعظم الذنوب ظلم الناس، وأخذ أموالهم بغير حق، واذكر الله في آخر يومك حيث كنت سالما أو نالك في يومك شيءٌ من نكد، وإذا عُدت لدارك فابدأ بالوضوء وأدِّ الصلاة، ثم تناول طعامك، ثم اقرأ ما تيسر من القرآن، وأكثر من الذكر، ثم نَمْ.
المحور المِهْني والمهاري:
وفيه ركزت الوصية على أمور من شأنها تجويد عمل الصيدلاني وإتقانه صنعته، فيوصيه بالعناية بأدوات عمله قائلا: أخرجْ ميزانك، وامسح كفتيه وخيوطه مما علاها من الوسخ، وحرِّرْها ليكون ميزانك صحيحًا، وامسح الصنج واعتبرها كل شهر مرة، وإن كان كل أسبوع فأفضل. وتأكد من نظافة وصلاحية الأواني التي تُعِدُّ فيها الأشربة والمعاجين(14)؛ فأنت مسؤول عنها، وأعِدْ النظر فيها قبل إغلاقها. وأخرج الملاعق كل ليلة من أوعيتها ونظفها ولفَّها في خرقة نظيفة. وابسط الحوائج (مفردات الأدوية) بين يديك ليتضح لك عددها، وتحسن عند المشتري.
ويوصيه بالدقة في تحري مقادير الأدوية المفردة والمركبة حسب ما وصف الطبيب فيقول: واضبط ما يقوله الطبيب، فإن النقص قد يفوِّت الغرض من الدواء، والزيادة قد تضر بالمريض، ويمكن الزيادة بمقدار ما يُفْقَدُ من الدواء أثناء إعداده. واحرص على بيع الدواء مُغَرْبَلا مُنَقَّىً.
ويبين له ما يجب أن يتحلى به من خُلُق في معاملته للزبائن: لا تهمل أمر الملهوفين وبادر بقضاء حوائجهم، لا تتعامل مع الزبائن وأنت جائع فيسوء مزاجك وتفارق المشتري فينفر منك الناس، ولا تَرُدَّ أيَّ مستحق مهما كان مذهبه أو دينه أو ***ه.
ويحضه على احترام معلميه وتواضعه مع مَن طلب منه عِلمًا فيقول: واعترفْ بحق من يعلمُك علمًا، والتزم مكارمته، واحترم مجالس العلماء، ولا تمنن على مَن طلب منك علمًا، بل تواضع له كأنك تتعلم منه. وأفِدْ مما وضعه المتقدمون من التراكيب وحرَّرُوه وجربوه ووجدوه نافعًا ودونوه في كتبهم.
ويحذره من مخالفة نصائحه فيقول: العدول عن هذه التعليمات خيانة للأمانة تستوجب العقاب.
كما بيَّن له أن الطبيب يوقِّع الكشف على المريض ويصف له الدواء، ويعتمد على الصيدلانيِّ، وهنا يرجع الأمر إلى الصيدلاني الذي يتحمل الإثم إن فرَّط؛ لأن تفريطه مؤد إلى إتلاف المال والروح، وهما ذنبان عقابهما عند الله شديد، فيحضه على تحري الدقة والفطنة كما لو كان يُعِدُّ الدواء لنفسه.
ويقول له: كن باشَّ الوجه وأنت تعامل الناس، وقلل الأيمان في البيع والشراء، ولا تكثر الكلام فيهما. وتأمل ما تكتب للمرضى فأنت مسؤول عنه.
المحور الشخصي والاجتماعي:
وفيما يتعلق بهذا الجانب فهو لا يهمل دور المنزل والعلاقات الاجتماعية الأخرى في تجويد عمل الصيدلانيِّ، فكلما كان مستقرًا اجتماعيًا، تخلو حياته من المنغصات، انعكس ذلك على أدائه، فيقول له: اخرج من البيت وأهل بيتك عنك راضون ولك داعون، لا تعادِ أحدًا من أهلك أو من غيرهم، خالط الأخيار، ولا تعاشر الأشرار، ولا تلقَ الناس بوجه عبوس، وأكرم الناس على قدر منازلهم، اقتصد في نفقتك، وتودد إلى خدمة الأجلاء من معامليك، ولا تهمل متوسطي القَدْر، ودارِ الأدوان، دار بمالك عن عِرضك، سالم الناس تسلم، انظر إلى مَن هو دونك يعظمْ شكرك، ولا تنظر لمن هو فوقك تتعب، لا تغتر بثناء الناس، ولا تغضب من شتمهم، إياك والهزلَ والمزاحَ مع الناس، ولا تستقل بأحد ولا تزدريه، واكظم غيظك، اشرح صدرك.
وإذا كانت آداب أي مهنة أو أخلاقياتها هي مجموعة من القواعد والمبادئ والقيم المصطلح عليها عند أهل هذه المهنة، والتي يجب مراعاتها والالتزام بها والمحافظة عليها لدعم رسالة هذه المهنة في خدمة الناس, فإن ما سطَّره داود يعد معيارًا خلقيًا جامعًا لكثير من آداب مهنة الصيدلة، حيث إنه حرص على أن يرى «الصيدلاني» في صورة مثلى تؤدي ما عليها من حقوق نحو الله والمجتمع.
ويمكن القول إن العرب قد أضافوا لمن سبقهم، ومهدوا الطريق لمن بعدهم حين حددوا كثيرًا من قيم وآداب وأخلاقيات مهنة الصيدلة. وبنظرة سريعة على ما أقره اجتماع الاتحاد الدولي للصيدلة في سيدني بأستراليا في سبتمبر من عام 1988م من أخلاقيات مهنة الصيدلة(15) يتأكد لنا هذا.
وفيما يلي بعض بنود لائحة الاتحاد الدولي مشفوعة بما قاله داود للتدليل على أن الأخلاق والقيم المهنية الكريمة في كل العصور لا تتغير ولا تتبدل، يمكن الإضافة إليها، ولكن لا يمكن الحطُّ من قدرها، ولا النَّيْل من شأنها في رقي المجتمعات، يتفق على ذلك العلماء والفلاسفة والمفكرون.
< (16)على الصيدلي العامل في مجال خدمة الصحة العامة والأفراد احترام المهنة وتقدير حياة الناس.
يقول داود لولده بعد أن بيَّن له أن المريض يلجأ إلى الطبيب، فيصف له الدواء ويكتبه معتمدًا بعد ذلك على علم الصيدلاني وخبرته في إعداده وتركيبه: وقد اتَّكلَ «الطبيب» فيها على الصيدلاني، فقد رجع الأمر إليك، فلا إثم إن فرطت إلا عليك. فهل تستحسن أنت لو كنت مريضًا أن تفرط في حقك وأنت تعلم أن هذا التفريط مؤد إلى إتلاف المال والروح، وأنت تعلم قدر العقاب من الله تعالى على هذين الذنبين.
< على الصيدلي أن يكون عادلا في معاملة جميع المرضى دون تمييز.
يقول داود: ولا ترد مستحقا كائنا من كان، وعلى أي المذهب كان.
< على الصيدلي تحديث معلوماته المهنية باستمرار ومتابعة الجديد في علم الصيدلة.
يقول: ومما ينبغي لك أن تعتمد عليه في فعل الحق لذاته واتباع الصحيح أن تلتزم تحرِّي ما وضعه المتقدمون من التراكيب وحرروه من التجارب فوجدوا فيه النفع للناس فوضعوه في كتبهم.
< على الصيدلي تنفيذ المهام الصيدلية بحرص وتركيز.
يقول داود محذِّرًا من التهاون في ضبط مقادير المفردات الدوائية: فإن الكثير من الشيء القليل ِكميتُه، القويِّ كيفيتُه مضرٌ، بل حرِّرْ ما يقوله الطبيب، وإن رجَّحت شيئًا فيكون بمقدار ما ينمحق لا غير. ويوصي ولده بألا يعتمد على مساعديه الذين قد لا يتقنون إعداد الدواء قائلا: ولا تتكل في مصالح الدكان (الصيدلية) على الصبيان؛ فيتغير حالك ويذهب مالك، بل باشر أحوالك بنفسك؛ ليستريحَ سرُّك وينشرحَ صدرُك.
< على الصيدلي اجتناب أي فعل يُسيء لمهنته أو يقلل من شأنها، وإن كان لا ينتسب للمهنة بِصِلَةٍ، واضعًا في اعتباره ما للصيدلة من مكانة واحترام.
يقول داود محذرا من سوء الخلق والغش والتدليس: واحترس في ما تعطيه لهما من غش، أو تبديل، أو نقص أو لبس. ويحضه على أن يُعْنَى بنظافة بضاعته قائلا: واحرص أن لا تبيع حاجة إلا مغربلة منقَّاة. ويحذر من مَدِّ البصر إلى النساء فيقول: ولا تمدنَّ عينيك إلى نظر النساء، ويقول: إياك والعُجب...الخ.
< على الصيدلي أن يتأكد من أن المبْلَغَ الذي يتقاضاه مقابل خدماته عادل ومعقول، وأن يرفض الاشتراك في أي عمل من شأنه تعريض المريض للخطر؛ لأن ذلك مخالف لأخلاقيات المهنة.
يقول: واعلم يا ولدي أنه لا ذنب أعظم من ظلم الناس وأخذ أموالهم بغير حق. ويقول: بحسن الأخلاق تُدَرُّ الأرزاق، وبالأمانة تَكْثُرُ البركة بالاستحقاق.
< على الصيدلي أن يتأكد أن كل ما ينشده من معلومات ذات علاقة بمهنته صحيحة وموثقة وتتلاءم مع آداب وأخلاقيات مهنة الصيدلة.
إن داود يشدد في مسألة احترام المعلومات وتوثيقها وتوافقها مع آداب المهنة تشديدًا عظيمًا حتى جعلها جزءا من الشريعة حيث يقول لولده عن خلاصة تجارب السابقين النافعة التي دوَّنوها في كتبهم وجعلوها دساتير يَنْتَفع بها مَن بعدهم: وقد صارت هذه الأشياء عُرْفًا بين الناس، فصارت بمثابة الأقوال الشرعية التي لا ينبغي أن يحاد عنها ولا يُعْدَل، وأنه من عَدَل عنها فقد خان، ومن خان فقد اختل عن أمانته، ومن اختل عن أمانته فقد كذَّب الشرائع، ومن كذَّب الشرائع فقد كفر، ومن كفر فقد استوجب العقاب، ومن استوجب العقاب فقد هان قدره عند الله، ومن هان قدره عند الله فقد استخف به الناس، ومن استخف به الناس فلا حياة له، ومن لا حياة له كمن لم يكن، ومن لم يكن فهو معدوم غير موجود.
وأخيرا إذا كان قدامى علمائنا قد عُنُوا بهذا الأمر كل هذه العناية، أفلا يدفعنا ذلك إلى تعقب أثارهم، واستلهام أفكارهم والإفادة من تراثهم!.
باحث أكاديمي

المراجع
1- أحد الأطباء المشهورين في العصر الأموي، خدم الحجَّاج بطبه، وكان يحضِّر الأدوية، وألف كتابا في أبدال الأدوية، وضمنه تفسير بعض أسمائها، توفي بواسط سنة 90هـ. ينظر: المنتخبات الملتقطات:1/ 388.
2- عيون الأنباء: 1/414.
3- طبيب وترجمان له كناش في الغذاء. ينظر: طبقات الأطباء والحكماء: 61.
4- أهرن القَسّ طبيب عاش في صدر دولة بني أمية، ألف كتابه بالسريانية وترجمه ماسرجويه «ماسرجيس» إلى العربية. الفهرست: 1/297. والمنتخبات الملتقطات: 2/761.
5- طبيب دمشقي متميز، كان خبيرا بالأدوية المفردة والمركبة وقواها، عالما بما كان منها سم قاتل. ينظر: عيون الأنباء:1/401.
6- عيون الأنباء: 1/204.
7- تاريخ الطب والصيدلة المصرية: سمير الجبالي، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1994: 3/44.
8- أي لا يمكن اكتشاف أمره.
9- عيون الأنباء: 2/ 287.
10- هو داود بن أبي النصر بن حفاظ، الكوهين العطار الإسرائيلي، طبيب قاهري كان حيا سنة 658.
11- هو كتاب جمع فيه كثيرا مما تفرق في مؤلفات السابقين من الأدوية المركبة خاصة كالأشربة والربوبات والمعاجين والجوارشنات والسفوفات والأقراص واللعوقات والحبوب وغيرها، وضم إلى أبواب كتابه أبوابا ذات فائدة تحدث فيها عن أبدال الأدوية التي يتعذر وجودها، وبابا في شرح أسماء الأدوية المفردة، وبابا في المكاييل والموازين وغير ذلك .
12- منهاج الدكان: 15، 16.
13- منهاج الدكان: 355-363.
14- الأشربة والمعاجين: هي بعض المركبات الدوائية أو الأشكال الصيدلانية.


16 - البند المسبوق بنجمة، الكائن فوق السطر هو أحد بنود مؤتمر سيدني.