مشاهدة النسخة كاملة : بيع النسيئة


ابو وليد البحيرى
03-05-2015, 02:30 PM
بيع النسيئة











المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع





الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك




قوله: (ومن باع رِبَوِيًّا بنسيئة - أي: مؤجَّل - وكذا حال لم يقبض، واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة كثمن بُرٍّ اعتاض عنه بُرّاً، أو غيره من المكيلات لم يَجُزْ؛ لأنه ذريعة لبيع الرِّبَوِيّ نسيئة، أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس لم يجز...) إلى آخره[1].








قال في «المقنع»: «ومن باع سلعةً نسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقداً إلا أن تكون قد تغيرت صِفتها، وإذا اشتراها أبوه أو ابنه جاز، وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من ***ه، أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة لم يجز»[2].








قال في «الحاشية»: «قوله: (وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من ***ه)، كما لو باعه غِرَارَة قمح بمِئة درهم، فلما حل اشترى بها غِرَارَة قمح.








قوله: (أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة لم يجز)، كما لو اشترى بثمن القمح غِرَارَة شعير لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى بيع الرِّبَوِيّ بالرِّبَوِيّ نسيئة ويكون الثمن المُعَوَّض بينهما كالمعدوم؛ لأنه لا أثر له، وبهذا قال ابن عمر وسعيد ابن المسيب وطاوس ومالك[3] وإسحاق.



وجَوَّزَه الشيخ تقي الدين[4] لحاجته»[5].








قال في «المغني»: «والذي يقوى عندي جوازه إذا لم يفعله حيلة ولا قصد ذلك في ابتداء العقد؛ لقول علي بن الحسين، وأجازه جابر بن زيد وعلي بن الحسين وسعيد بن جبير والشافعي[6] وابن المنذر وأصحاب الرأي[7]»[8].








قال في «الحاشية»: «(ومن باع سلعة نسيئة...) إلى آخره، هذه مسألة العِينَة، وفِعلها مُحرَّم على الصحيح من المذهب[9]، وهو قول جماعة من الصحابة ومَن بعدهم؛ لما روى غُندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته - العالية - قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعتُ غلاماً من زيد بثمانِمِئَة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمِئَة درهم نقداً، فقالت لها: بئس ما اشتريت وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بَطَلَ، إلا أن يتوب، رواه أحمد وسعيد[10].








ولا يقال ذلك إلا توفيقاً؛ ولأنه ذريعة إلى الرِّبا فيستبيح بيع الألف بخمسمئة إلى أجل، والذرائع معتبرة في الشرح بدليل منع القاتل من الإرث.








وظاهره: ولو بعد حل أجله، ونقله ابن القاسم وقيَّد الشراء بالنقد؛ لأنه إذا اشتراها بعَرَض أو كان بيعها الأول بعَرَض فاشتراها بنقد جاز بغير خلاف نعلمه؛ لأنه لا ربا بين الأثمان والعروض.








وظاهره: أنه [345أ] لا يجوز إذا اختلف النقد، صحَّحه المؤلِّفُ؛ لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثَّمَنِيَّة.








وقال الأصحاب: يجوز، وهو المذهب[11]؛ لأنه لا يحرم التفاضل بينهما، وكذا لو اشتراها من غير مشتريها، وسميت عِينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عيناً، أي: نقداً حاضراً.








فائدة: إذا باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فهي عكس العِينَة وهي مثلها، نقله حرب، إلا أن تتغير صفتها، ونقل أو داود: يجوز بلا حيلة، ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مِئة بمِئة وخمسين فلا بأس عليه، وهو المذهب[12].








وعنه[13]: يحرم، اختاره الشيخ تقي الدين، وتُسمَّى مسألة التَّوَرُّق»[14].








وقال في «الاختيارت»: «ولا يربح على المسترسل أكثر من غيره، وكذا المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص ينبغي أن يربح عليه مثل ما يربح على غيره، وله أن يأخذ منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره.








قال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح الرجل في عشرة خمسة يكره ذلك؟



قال: إذا كان أجله إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به.








وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يقول: بيع النسيئة إذا كان مقارباً فلا بأس به، وهذا يقتضي كراهة الربح الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه شبه بيع المضطر، وهذا يعم بيع المُرَابَحَة والمساومة»[15].








وقال في «الفروع»: «وكره أحمد الشراء بلا حاجة من جالس على الطريق، ومن بائع مضطر، ونحوه، قال في «المنتخب»: لبيعه بدون ثمنه»[16].








قال في «حاشيته على الفروع»: «والكراهة من بائع مضطر من الطرفين.








وجه الكراهة: ما أشار إليه في «المنتخب»: بأنه يبيع ما يساوي ألفاً مثلاً بشيء يسير، أو يشتري ما يساوي عشرة بعشرين، فيكون شبيهاً بالمسترسل، ذاك جاهل وهذا عاجز، وعلى كلامه فضرورة البائع إلى الثمن وأما ضرورة المشتري إلى السلعة، وعلى هذا كره الشراء ممن اشترى إلى أجل إذا كان إنما اشترى لضرورته إلى الثمن، وأما إن باع بثمن المثل أو اشترى حالاً فلا ينبغي أن يكره، وإن زاد أو نقص للضرورة فهذا موضع الكراهة - والله أعلم - قاله أبو العباس رضي الله عنه »[17] انتهى.








قلت: ينبغي معرفة الفرق بين المضطر والمحتاج، وأكثر الناس إنما يبيعون ويشترون لقضاء حوائجهم [345ب]، فإذا كان البيع عن تراضٍ ولم يكن فيه غَرَر ولا دخله رِباً فلا بأس بالربح القليل والكثير، سواء كان الثمن حاضراً أو إلى أجل، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يَتَّجِرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويربحون، ولم يحد لهم في ذلك بشيء.








وقد روى الحاكم والبيهقي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يُجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قَلَائِص الصدقة، قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة[18].








قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات[19].








وعن عروة البارقي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري به أُضحية أو شاة، فاشترى شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه، رواه الخمسة إلا النسائي[20].








وقال في «الإفصاح»: «واختلفوا في العينة: وهي أن يبيع سلعة بثمن لمن يقبضه ثم يشتري تلك السلعة بأقل من الثمن الأول.








فقال أبو حنيفة[21]: العقد الثاني فاسد، والعقد الأول صحيح.



وقال مالك[22] وأحمد[23]: هما باطلان.



وأجازه الشافعي[24]»[25].



وقال البخاري: «باب: ما يُنهى من الخداع في البيوع.



وقال أيوب: يخادعون الله كما يخادعون آدمياً، لو أتوا الأمر عياناً كان أهون عليَّ.








حدثنا إسماعيل، حدثنا مالكٌ، عن عبد الله بن دينارٍ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه يُخدع في البيوع، فقال: (إذا بايعت فقل: لا خِلابة)[26]».








قال الحافظ: «قوله: باب: ما يُنهى من الخداع»، في رواية الكُشْمِيهَني: (عن الخداع).








قوله: (وقال أيوب - هو السختياني -: يخادعون الله كما يخادعون آدمّياً، لو أتوا الأمر عياناً كان أهون عليَّ)، وصله وكيع في «مصنفه» عن سفيان بن عيينة، عن أيوب وهو السختياني.








قال الكرماني: قوله: (عياناً) أي: لو أعلنوا بأخذ الزائد على الثمن معاينة بلا تدليس لكان أسهل؛ لأنهما جعلا الدِّين آلة للخداع.








قال الحافظ: ومن ثَم كان سالك المكر والخديعة حتى يفعل المعصية أبغض عند الناس ممن يتظاهر بها، وفي قلوبهم أوضع، وهم عنه أشد نفرة، قال الملهب: معنى قوله: (لا خِلَابة): لا تخلبوني، أي: لا تخدعوني، فإن ذلك لا يحل.








قال الحافظ: والذي يظهر أنه وارد مورد الشرط، أي: إن ظهر في العقد خداع فهو صحيح[27]، كأنه قال: بشرط ألاّ يكون فيه خديعة، أو قال: لا تلزمني خديعتك، قال المُهلَّب: ولا يدخل في الخداع المحرَّم الثناء [346أ] على السلعة والإطناب في مدحها، فإنه متجاوز عنه، ولا ينتقض به البيع.








وقال ابن القيم في «الإعلام»: «أحدث بعض المتأخِّرين حِيلاً لم يصح القول بها عند أحد من الأئمة، ومن عرف سيرة الشافعي وفضله علم أنه لم يكن يأمر بفعل الحِيل التي تُبنى على الخداع، وإن كان يُجْرِي العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد إذا خالف لفظه، فحاشاه أن يُبيح للناس المكر والخديعة، فإن الفرق بين إجراء العقد على ظاهره - فلا يعتبر القصد في العقد - وبين تجويز عقد قد عُلم بناؤه على المكر - مع العلم بأن باطنه بخلاف ظاهره - ظاهر، ومن نسب حِل الثاني إلى الشافعي فهو خصمه عند الله، فإن الذي جوَّزه بمنزلة الحاكم يجري الحكم على ظاهره في عدالة الشهود، فيحكم بظاهر عدالتهم، وإن كانوا في الباطن شهود زور.








وكذا في مسألة العِينة: إنما جوَّز أن يبيع السلعة ممن يشتريها جرياً منه على أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها من المكر والخديعة، ولم يُجوِّز قط أن المتعاقدين يتواطآن على ألف بألف ومِئتين ثم يحضران سلعة تُحَلِّل الرِّبا، ولا سيما إن لم يقصد البائع بيعها ولا المشتري شراءها، ويتأكَّد ذلك إذا كانت ليست ملكاً للبائع، كأن يكون عنده سلعة لغيره فيوقع العقد، ويدعي أنها ملكه، ويصدقه المشتري، فيوقعان العقد على الأكثر ثم يستعيدها البائع بالأقل، ويترتب الأكثر في ذمة المشتري في الظاهر، ولو علم الذي جوز ذلك بذلك لبادر إلى إنكاره؛ لأن لازم المذهب ليس بمذهب، فقد يذكر العالم الشيء ولا يستحضر لازمه، حتى إذا عرفه أنكره»[28].








وأطال في ذلك جدّاً - وهذا ملخَّصُه - والتحقيق: أنه لا يلزم من الإثم في العقد بطلانه في ظاهر الحكم، فالشافعية يُجوِّزون العقود على ظاهرها، ويقولون مع ذلك: إن من علم الحِيل بالمكر والخديعة يأثم في الباطن، وبهذا يحصل الانفصال عن إشكاله، والله أعلم»[29].








وقال ابن رشد: «(باب: في بيوع الذرائع الرِّبَوِيَة)، وههنا شيء يعرض للمتبايعين إذا أقال أحدهما الآخر بزيادة أو نقصان، وللمتبايعين إذا اشترى أحدهما من صاحبه الشيء الذي باعه بزيادة أو نقصان، وهو أن يُتصور بينهما من غير قصد [346ب] إلى تبايع رِبَوِيّ، مثل: أن يبيع إنسان من إنسان سلعة بعشرة دنانير نقداً ثم يشتريها منه بعشرين إلى أجل، فإذا أُضيفت البيعة الثانية إلى الأولى استقر الأمر على أن أحدهما دفع عشرة دنانير في عشرين إلى أجل، وهذا هو الذي يُعرف ببيوع الآجال، فنذكر من ذلك مسألة في الإقالة ومسألة من بيوع الآجال إذ كان هذا الكتاب ليس المقصود به التفريع، وإنما المقصود فيه تحصيل الأصول.








مسألة: لم يختلفوا أن من باع شيئاً من كأنك قلت: عبداً بمِئة دينار مثلاً إلى أجل، ثم ندم البائع، فسأل المبتاع أن يصرف إليه مبيعه، ويدفع إليه عشرة دنانير مثلاً نقْداً أو إلى أجل: أن ذلك يجوز، وأنه لا بأس بذلك، وأن الإقالة عندهم إذا دخلتها الزيادة والنقصان هي بيع مستأنف.








ولا حرج في أن يبيع الإنسان الشيء بثمن ثم يشتريه بأكثر منه[30]؛ لأنه في هذه المسألة اشترى منه البائع الأول العبد الذي باعه بالمِئة التي وجبت له، وبالعشرة مثاقيل التي زادها نقداً أو إلى أجل.








وكذلك لا خلاف بينهم لو كان البيع بمِئة دينار إلى أجل، والعشرة مثاقيل نقْداً أو إلى أجل.








وأما إن ندم المشتري في هذه المسألة وسأل الإقالة على أن يعطي البائع العشرة المثاقيل نقْداً أو إلى أجل أبعد من الأجل الذي وجبت فيه المِئة، فهنا اختلفوا:



فقال مالك[31]: لا يجوز.



وقال الشافعي[32]: يجوز.








ووجه ما كره من ذلك مالك: أن ذلك ذريعة إلى قصد بيع الذهب بالذهب إلى أجل، وإلى بيع ذهب وعَرَض بذهب؛ لأن المشتري دفع العشرة مثاقيل والعبد في المِئة دينار التي عليه، وأيضاً يدخله بيع وسلف، كأن المشتري باعه العبد بتسعين وأسلفه عشرة إلى الأجل الذي يجب عليه، فيقبضها من نفسه لنفسه.








وأما الشافعي فهذا كله عنده جائز؛ لأنه شراء مستأنَف، ولا فرق عنده بين هذه المسألة وبين أن تكون لرجل على رجل مِئة دينار مؤجَّلة، فيشتري منه غلاماً بالتسعين ديناراً التي عليه، ويتعجل له عشرة دنانير، وذلك جائز بإجماع، قال: وحَمْلُ الناس على التُّهم لا يجوز.








وأما إن كان [347أ] البيع الأول نقْداً فلا خلاف في جواز ذلك؛ لأنه ليس يدخله بيع ذهب بذهب نسيئة، إلا أن مالكا[33] كره ذلك لمن هو من أهل العينة - أعني: الذي يداين الناس - لأنه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه يتوصلان إليه بما أظهرا من البيع من غير أن تكون له حقيقة.








وأما البيوع التي يعرفونها ببيوع الآجال: فهي أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل، ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر أو نقداً، وهنا تِسع مسائل إذا لم تكن هناك زيادة عرض، اختلف فيها في مسألتين، واتفق في الباقي، وذلك أنه من باع شيئاًَ إلى أجل ثم اشتراه، فإما أن يشتريه إلى ذلك الأجل بعينه أو قبله أو بعده، وفي كل واحد من هذه الثلاثة إما أن يشتريه بمِثل الثمن الذي باعه منه، وإما بأقل وإما بأكثر، يختلف من ذلك في اثنين: وهو أن يشتريها قبل الأجل نقداً بأقل من الثمن، أو إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن، فعند مالك[34] وجمهور أهل المدينة: أن ذلك لا يجوز.








وقال الشافعي[35] وداود[36] وأبو ثور: يجوز.








فمن منعه فَوَجْهُ مَنْعِه: اعتبار البيع الثاني بالبيع الأول، فاتَّهمه أن يكون إنما قصد دفع دنانير في أكثر منها إلى أجل، وهو الربا المنهي عنه، فزَوَّرَا لذلك هذه الصورة؛ ليتصلا بها إلى الحرام، مثل أن يقول قائل لآخر: أسلفني عشرة دنانير إلى شهر، وأرد عليك عشرين ديناراً، فيقول: هذا لا يجوز، ولكن أبيع منك هذا الحمار بعشرين إلى شهر ثم أشتريه منك بعشرة نقداً.








وأما في الوجوه الباقية فليس يُتهم فيها؛ لأنه إن أعطى أكثر من الثمن في أقل من ذلك الأجل لم يُتهم، وكذلك إن اشتراها بأقل من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل.








والحُجَّة لمن رأى هذا الرأي: حديث العالية، عن عائشة: أنها سمعتها وقد قالت لها امرأة كانت أم ولد لزيد بن أرقم: يا أم المؤمنين، إني بعت من زيد عبداً إلى العطاء بثمانمئة، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه [347ب] قبل محل الأجل بستمِئة، فقالت عائشة: بئسَ ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، قالت: أرأيت إن تركت وأخذت الستمئة دينار؟ قالت: نعم، ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ [البقرة: 275][37].








وقال الشافعي وأصحابه[38]: لا يثبت حديث عائشة، وأيضاً فإن زيداً قد خالفها، وإذا اختلفت الصحابة فمذهبنا القياس، ورُوي مثل قول الشافعي عن ابن عمر.








وأما إذا حدث بالمبيع نقص عند المشتري الأول: فإن الثوري وجماعة من الكوفيين[39] أجازوا لبائعه بالنُّظرة أن يشتريه نقداً بأقل من ذلك الثمن.








وعن مالك[40] في ذلك روايتان.








والصُّور التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع هي:



أن يتذرَّع منها إلى أنظرني أزدك.



أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلاً.



أو بيع ما لا يجوز نَساء.



أو إلى بيع وسلف.



أو إلى ذهب وعَرَض بذهب.



أو إلى: ضَعْ وتَعَجَّل.



أو بيع الطعام قبل أن يستوفى.



أو بيع وصرف.



فإن هذه هي أصول الربا.








ومن هذا الباب: اختلافهم في من باع طعاماً بطعام قبل أن يقبضه: فمنعه مالك[41] وأبو حنيفة[42] وجماعة.








وأجازه الشافعي[43] والثوري والأوزاعي وجماعة.








وحجة من كرهه: أنه شبيه ببيع الطعام بالطعام نَساء، ومَن أجازه لم يَرَ ذلك في اعتباره بترك القصد إلى ذلك.








ومن ذلك: اختلافهم في من اشترى طعاماً بثمن إلى أجل معلوم، فلما حلَّ الأجل لم يكن عند البائع طعام يدفعه إليه، فاشترى من المشتري طعاماً بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له، فأجاز ذلك الشافعي[44]، وقال: لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب له عليه ومن المشتري نفسه.








ومنع من ذلك مالك[45]، ورآه من الذريعة إلى بيع الطعام قبل أن يُستوفى؛ لأنه رد إليه الطعام الذي كان ترتب في ذمته، فيكون قد باعه منه قبل أن يستوفيه،وصورة الذريعة في ذلك: أن يشتري رجل من آخر طعاماً إلى أجل معلوم، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام: ليس عندي طعام، ولكن أشتري منك الطعام الذي وجب لك عليَّ، فقال: هذا لا يصح؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يُستوفى، فيقول له: فَبع طعاماً مني وأورده عليك، فيعرض من ذلك ما ذكرناه [348أ] - أعني: أن يرد عليه ذلك الطعام الذي أخذ منه، ويبقى الثمن المدفوع، إنما هو ثمن الطعام الذي هو في ذِمَّته.








وأما الشافعي: فلا يعتبر التهم كما قلنا، وإنما يراعي فيما يحل ويحرم من البيوع ما اشترطا، وذكراه بألسنتهما، وظهر من فعلهما؛ لإجماع العلماء على أنه إذا قال: أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها وأَنْظُرك بها حولاً أو شهراً أنه لا يجوز[46]، ولو قال له أسلفني دراهم وأمهلني بها حولاً أو شهراً جاز[47]، فليس بينهما إلا اختلاف لفظ البيع وقصده ولفظ القرض وقصده.








ولما كانت أصول الربا كما قلنا: خمسة: أَنْظرني أزدك، والتفاضل، والنَّسَاء، وضَعْ وتَعَجَّل، وبيع طعام قبل قبضه، فإنه يُظن أنه من هذا الباب أن فاعل ذلك يدفع دنانير ويأخذ أكثر منها من غير تكلف فعل ولا ضمان يتعلق بذمته، فينبغي أن نذكر هنا هذين الأصلين.








أما (ضع وتعجل): فأجازه ابن عباس من الصحابة وزُفَر من فقهاء الأمصار[48]، ومنعه جماعة، منهم: ابن عمر من الصحابة، ومالك[49]، وأبو حنيفة[50]، والثوري، وجماعة من فقهاء الأمصار، واختلف قوله الشافعي[51] في ذلك.








فأجاز مالك[52]. وجمهور من ينكر (ضع وتعجل) أن يتعجل الرجل في دينه المؤجل عرضاً يأخذه وإن كانت قيمته أقل من دينه، وعمدة من لم يجز (ضع وتعجل): أنه شبيه بالزيادة مع النُّظرة المجمع على تحريمها، ووجه شَبَهِهِ بها: أنه جعل للزمان مقداراً من الثمن بدلاً منه في الموضعين جميعاً، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عوضه ثمناً، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمناً.








وعمدة من أجازه: ما رُوي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاءه ناس منهم، فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضعوا وتعجلوا)[53]، فسبب الخلاف: معارضة قياس الشبه لهذا الحديث»[54] [348ب].







[1] الروض المربع ص241.




[2] المقنع 2/ 24 - 26.




[3] الشرح الصغير 2/ 45، وحاشية الدسوقي 3/ 89و 90.




[4] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 11/ 196و 197.




[5] حاشية المقنع 2/ 26.




[6] المجموع 10/ 141، وتحفة المحتاج 4/ 322و 323، ونهاية المحتاج 3/ 477.




[7] فتح القدير 5/ 207، وحاشية ابن عابدين 5/ 343و 344.




[8] المغني 6/ 363.




[9] شرح منتهى الإرادات 3/ 162و 163، وكشاف القناع 7/ 379.




[10] أحمد في مسنده كما في تنقيح التحقيق 4/ 69، ونصب الراية 4/ 24، وقد نقلاه بإسناده، ولم أقف عليه في المسند. وأخرجه أيضاً عبد الرزاق 8/ 184 (14812)، والدارقطني 3/ 52، والبيهقي 5/ 330، من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته، عن عائشة رضي الله عنه، به. وأخرجه الدارقطني 3/ 52، من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أمه العالية بنت أيفع، عن عائشة رضي الله عنها، به.

قال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق 4/ 69: هذا إسناد جيد، وإن كان الشافعي رحمه الله قال: «إنا لا نثبت مثله على عائشة» [الأم 3/ 73]، وكذلك قول الدارقطني [3/ 52] في العالية: «مجهولة لا يُحتج بها» فيه نظر، وقد خالفه غيره، ولولا أن عند أم المؤمنين علماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه أن هذا محرَّم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد، والله أعلم.




[11] شرح منتهى الإرادات 3/ 164، وكشاف القناع 7/ 381.




[12] شرح منتهى الإرادات 3/ 164، وكشاف القناع 7/ 383.




[13] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 11/ 196.




[14] الاختيارات الفقهية ص122و 123.




[15] الفروع 4/ 52.




[16] الفروع 3 /453.




[17] حاشية الفروع 4/ 52.




[18] الحاكم 2/ 56 - 57، والبيهقي 5/ 287و 288. وأخرجه أيضاً أبو داود (3357)، وأحمد 2/ 171.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال البيهقي: له شاهد صحيح.




[19] بلوغ المرام ص506 (809).




[20] أبو داود (3384)، والترمذي (1258)، وابن ماجه (2402)، وأحمد 4/ 376.

قال المنذري والنووي: إسناد الترمذي حسن.

وقال ابن الملقن: أسانيدهم جيدة، وإسناد الترمذي على شرط الشيخين.

وقال في خلاصة البدر المنير 2/ 51: بإسناد صحيح... وأخرجه البخاري في صحيحه مرسلاً.

وأخرجه البخاري (3642) عن شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه. قال سفيان: كان الحسن بن عمارة جاءنا بهذا الحديث عنه، قال: سمعه شبيب من عروة.

فأتيته فقال شبيب: إني لم أسمعه من عروة، قال: سمعت الحي يخبرونه عنه.

وقال ابن حجر في التلخيص 3/ 5: والصواب أنه متصل في إسناده مبهم.

وقال الألباني في الإرواء 5/ 128: وتمام هذا التصويب عندي أن يقال: وهذا لا يضر؛ لأن المبهم جماعة من أهل الحي، أو من قومه، كما في الرواية الأخرى، وهي للبيهقي، فهم عدد تنجبر به جهالتهم، وكأنه لذلك استساغ البخاري إخراجه في صحيحه.




[21] فتح القدير 5/ 207، وحاشية ابن عابدين 5/ 343و 344.




[22] الشرح الصغير 2/ 45، وحاشية الدسوقي 3/ 89.




[23] شرح منتهى الإرادات 3/ 162و 163، وكشاف القناع 7/ 381.




[24] المجموع 10/ 141، وتحفة المحتاج 4/ 322و 323، ونهاية المحتاج 3/ 477.




[25] الإفصاح 2/ 127و 128.




[26] البخاري (6964).




[27] في حاشية الأصل: «لعله ليس بصحيح»، وفي الفتح: «فهو غير صحيح».




[28] إعلام الموقعين 5/ 246 - 248.




[29] فتح الباري 12/ 336و 337.




[30] الشرح الصغير 2/ 75، وحاشية الدسوقي 3/ 156.




[31] الشرح الصغير 2/ 45، وحاشية الدسوقي 3/ 89.




[32] المجموع 10/ 141.




[33] الشرح الصغير 2/ 45، وحاشية الدسوقي 3/ 89.




[34] الشرح الصغير 2/ 45، ,حاشية الدسوقي 3/ 89و 90.




[35] المجموع 10/ 141.




[36] المحلى 9/ 47.




[37] تقدم تخريجه 4/ 241.




[38] المجموع 10/ 141.




[39] المبسوط 3/ 122.




[40] المنتقى شرح الموطأ 4/ 166.




[41] الشرح الصغير 2/ 32، وحاشية الدسوقي 3/ 59 - 60.




[42] فتح القدير 5/ 274 - 275، وحاشية ابن عابدين 5/ 184.




[43] تحفة المحتاج 4/ 275، ونهاية المحتاج 3/ 472.




[44] المجموع 9/ 264.




[45] المنتقى شرح الموطأ 5/ 13و 14.




[46] فتح القدير 5/ 369و 370، وحاشية ابن عابدين 5/ 282. والشرح الصغير 2/ 15، وحاشية الدسوقي 3/ 29و 30. وتحفة المحتاج 4/ 279، ونهاية المحتاج 3/ 433.

وشرح منتهى الإرادات 3/ 262و 263، وكشاف القناع 8/ 40و 41.




[47] فتح القدير 7/ 108و 109، وحاشية ابن عابدين 5/ 170و 171. والشرح الصغير 2/ 104,و حاشية الدسوقي 3/ 222و 223. وتحفة المحتاج 5/ 35و 36، ونهاية المحتاج 4/ 219و 220. وشرح منتهى الإرادات 3/ 322، وكشاف القناع 8/ 131.




[48] المبسوط 21/ 31.




[49] الشرح الصغير 3/ 23، وحاشية الدسوقي 3/ 45.




[50] المبسوط 13/ 126.




[51] تحفة المحتاج 5/ 191و 192، ونهاية المحتاج 4/ 385و 386.




[52] الشرح الصغير 2/ 22، وحاشية الدسوقي 3/ 43و 44.




[53] أخرجه البيهقي 6/ 28 والدارقطني 3/ 46 (190)، والطبراني في «الأوسط» 1/ 249 (817)، والحاكم 2/ 61، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

قال ابن أبي حاتم في «العلل» 1/ 379(1134): قال أبي: لا يمكن أن يكون مثل هذا الحديث متصلاً.

وقال الهيثمي في «المجمع» 4/ 130: رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف، وقد وثق.





[54] بداية المجتهد 2/ 130 - 133.