مشاهدة النسخة كاملة : الواضح في التفسير-----متجدد إن شاء الله


ابو وليد البحيرى
05-05-2015, 05:59 PM
الواضح في التفسير


(الحلقة الأولى)



أ. محمد خير رمضان يوسف

سورة الفاتحة


وسورة البقرة، الآيات (1-25)



مقـدِّمة

الحمدُ للهِ مُنْزِلِ القرآن، والصلاةُ والسلامُ على مَن خُلُقهُ القرآن، وعلى آلهِ وأصحابهِ الذين علَّموا القرآن، ومَن تبِعهم بإحسانٍ مِن أُمَّةِ القرآن.



وبعدُ:

فإنَّ القرآنَ الكريمَ كتابُ هِدايةٍ وأحكام، وسُلوكٍ وعقيدة، ووَعْظٍ وقَصَص، ووصايا وعِبَر، وبشاراتٍ ونُذُر... أَنْزَلَهُ اللهُ خِتامًا للكُتبِ السماويَّة؛ ليكونَ مَرجِعًا للناسِ، ودُستورًا لهم في شؤونِ الحياة، مادامتْ هناك حياةٌ.

ومع عَظَمَةِ القرآن، وجلالَةِ قَدْرِه، وسُمُوِّ أحكامِه، فإنَّ النَّاسَ قد أَعرَضوا عنه، إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ.

وكانتِ الهجمةُ قويةً ومخطَّطًا لها من قِبَلِ أعداءِ الإسلام؛ لإبعادِ مصدرِ القوَّةِ عندَ المسلمينَ من ساحةِ الحياة، فكان ما كان، واللهُ المسؤولُ أنْ يجمَعَنا تحتَ رايةِ الحقِّ، ويُعِزَّنا بدينِه، وينصُرَنا على القومِ الكافرين؛ ليعودَ القرآنُ سيِّدَ الأحكام، وعَلَمًا يَعْلو في كلِّ مكان، لا يُعلى عليه شيء.

وهو كلامُ اللهِ المُعجِز، الَّذي لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بمِثْلِهِ أو جزءٍ منه، وَصَلَ إلينا بالتَوَاتُر؛ فنَقَلَهُ جَمْعٌ غفيرٌ عن جَمْعٍ كبير، تُحِيلُ العادةُ تَوَافُقَهُمْ على الكذبِ، وَصَلَنا من خلالِ الصُّدورِ وعَبْرَ السُّطور، كما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقد تكفَّلَ اللهُ بحفْظِهِ دونَ الكُتُبِ السَّابقة؛ فقال عزَّ مِنْ قائلٍ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجْر:9].

وله علومٌ كثيرة، دَرَسَها العلماءُ جَمْعًا وإفرادًا؛ كأسبابِ النُّزول، والمناسباتِ بينَ الآيات، والتفسير، والوجوهِ والنَّظائر، والمُحْكَمِ والمُتَشَابِه، والمكِّيِّ والمَدَنيِّ، والغريب، والأحكام، والقراءات، والتَّجويد، والنحوِ والإعراب، والخَطِّ، والتدوين، والفضائل، وآدابِ التلاوة، والأمثال، والقَصَص، والنَّاسِخِ والمنسوخ، والإعجازِ بأنواعِه... وغيرِها.

وتفسيرُ القرآنِ الكريمِ مرغوبٌ فيه ومندوبٌ إليه؛ يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأْلْبَابِ} [ص:29].

ويقولُ سبحانَهُ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}[النساء:82].

ولا يكونُ هناك تدبُّرٌ للآياتِ إلا مِن خلال فَهْمِها، ولا يُفْهَمُ كُلُّها إلا بعد إيضاحٍ وبيان، وهو ما نُسمِّيه (التَّفسير).

وقد ذمَّ اللهُ أهلَ الكتابِ لأنهم كتموا العلمَ ولم يُبَيِّنُوهُ للنَّاسِ؛ فقالَ جلَّ شأنه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:87]. فلا نكونُ مِثْلَهُمْ، وإلا كان مصيرُنا مصيرَهُم.

وقد سلكَ المفسِّرونَ طرائقَ شتَّى في تفسيرِ القرآنِ الكريمِ، وهم يقولون – وَصَدَقُوا - إن أحسنَ طُرُقِهِ أن يُفسَّرَ بالقرآنِ نفسِه؛ فإنه يصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، ثم بالسُّنَّةِ التي جاءت مُبَيِّنَةً له، ثم بأقوالِ الصحابة؛ فإنَّهم تلامذةُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي نزلَ عليه القرآنُ وهو بين ظَهْرَانَيْهِمْ، ثم بأقوالِ التَّابعينَ الذين تلقَّوْا كلَّ هذا من الصحابة؛ فهم أدرى بأقوالِهِمْ، وكانوا الأفضلَ بَعْدَهم.

وقد غلبَ على تفسيرِ بعضِ المفسِّرين العلمُ الذي اشتغلوا به وبرزوا فيه، وفي كلِّها خيرٌ - إن شاء الله.

كما صدرتْ تفاسيرُ في هذا العصر، فيها اهتماماتٌ وتخصُّصاتٌ جديدةٌ حَسْبَمَا يتطلبُه، لم تكنْ في السَّابق.

وقد دعوتُ اللهَ أن يجعلَني من المشتغِلينَ بكتابِهِ الكريمِ، بما يَفتَحُهُ عليَّ ويوفِّقُني إليه، فقدَّرَ سبحانَهُ أن يكونَ ذلك تفسيرًا وَتِبْيانًا للقرآن، كما يراهُ القارئُ، فهو مِنَّةٌ من الله وفضلٌ؛ فله الحمدُ وله الشكر.

وقد اتَّجَهْتُ في كثيرٍ من كتاباتي إلى العامَّةِ مِنَ المسلمين، مِن ذَوِي الثقافاتِ العاديةِ، حتى لا يُفْقَدُوا، وهم جمهورُ الأُمَّةِ وصوتُها وقُوَّتُها وعاطِفَتُها، فلو أنَّ كلَّ ذي تخصُّصٍ كتبَ في تخصُّصِهِ بِقَلَمِهِ ومُصطلحاتِهِ وتعقِيداتِهِ لَمَا أفادهم، وَلَمَا أقبلوا على ما يَكتُب، فكان إهمالُهم لَهُمْ إهمالاً لقاعدةٍ عظيمةٍ من المجتمع، لا تُدرَكُ نتائجُهُ إلا بعد حين، وهم ـ كما نَرَى الآن ـ يَتَّجِهونَ إلى كتاباتٍ ووسائلَ إعلاميَّةٍ تُلائمُ مُستواهُم، وفيها ما فيها، فهربَ الكثير منهم وفُقِدُوا... أو كادوا.

ولذلك جاءَ هذا التفسيرُ على نَهْجِ ما قُلْتُ، فأَحْبَبْتُ أن أَضَعَهُ بينَ يَدَيِ القارِئِ العادِيِّ، ليُعْطِيَ المعنى والمفهومَ لكلِّ آيةٍ على حِدَةٍ، بحيث يستطيعُ أن يَستوعِبَهُ ويفهمَ معناه؛ كما يَقْرَأُ أيَّ موضوعٍ في وسائلِ الإعلامِ المقروءةِ المعاصِرة، دون تفصيلٍ ولا إيجاز، مع عنايةٍ بالكلمة، واهتمامٍ بالتَّركيب، تَسْمُو به لُغَةُ القارئِ وثقافتُهُ.

وقد رَكَّزْتُ على الجانبِ التعبيريِّ والإنشائيِّ، ولو تكرَّرتْ فيه ألفاظٌ وصفاتٌ؛ فهو يرسِّخُ المعنى ويَصِلُ إلى الفِكرِ والقلب، كما استخدمْتُ الأسلوبَ التربويَّ والدَّعَوِيَّ للتَّأثيرِ، وهو موجودٌ ضِمْنًا في الآيات، إضافةً إلى البيانِ وزادِ المعرفةِ الحقيقيِّ.

ولم أَتَطَرَّقْ إلى جوانبَ نحويَّةٍ وبلاغيَّةٍ وكَلاميَّةٍ، وكثيرٍ من تفاصيلِ المفسِّرين وتخصُّصاتِهِم، ولا شواهدَ كثيرةٍ ولا هوامش؛ بل أردتُ المعنى المباشِرَ المتَّصِلَ بالآيةِ الكريمة، وكفَى به عِلْمًا وفائدة، وهو ما يريدُ أن يعرِفَهُ القارئُ العادِيُّ، أو المقبِلُ على الإسلام، ليفهَمَ ما هو القرآنُ، وماذا يريد، وماذا تَعنِي آياتُهُ بدِقَّة؛ يَعْنِي: ماذا يريدُ اللهُ من عبادِهِ في كتابِهِ الكريم هذا؟ فكانَ هذا "التفسيرَ الواضحُ"، الذي أَردتُ أن أُوَسِّعَ من دائرةِ المستفيدينَ منه.

فليس المقصودُ بالمثقَّفِ العادِيِّ ما يَتَبَادَرُ إلى ذهنِ القارئِ وحْدَه؛ بل هو كلُّ مَن لم يَدْرُسِ العلومَ الشرعيَّةَ؛ فقد يكونُ في أعلى الدرجاتِ العلميَّة، وحاصلاً على أرقى الشهاداتِ المتخصِّصَة، لكنَّها في غيرِ الإسلامِ وعلومِه، وهو بهذا يحتاجُ إلى أن يَعرِفَ عِلْمًا جديدًا، أو أن يَتوسَّعَ فيه من خلالِ معرفةِ محتوى القرآنِ العظيمِ.

وهو أيضًا لِمن يريدُ أن يَعرفَ مضمونَهُ من غيرِ المسلمين، أو ممَّن اهتدى منهم إلى الإسلامِ، سواءٌ كان عارفًا بالعربية أو تُرجِمَ له.

فالأمرُ كُّلهُ يتلخَّصُ في أنه تفسيرٌ بَيِّنٌ واضح، يَفهمُهُ جميعُ فئاتِ المجتمعِ، متعلِّمُهم ومتخصِّصُهم، إذا أُريدَ المعنى دونَ التفصيل.

والذي شجَّعني على الإقدامِ على تفسيرِ كتابِ الله الكريمِ، هو وجودُ تفاسيرَ جليلةٍ كانت عَوْناً لي على هذا العملِ. وقدِ اعتمَدْتُ على كثيرٍ منها، لكنَّ أبرزَها وأهمُّها: "تفسيرُ القرآنِ العظيم" لابن كثير، وفيه أولُ نظري، ومنه أكثرُ استفادتي. و "معالمُ التنزيلِ" للبغويّ، و "إرشادُ العقلِ السليمِ إلى مَزَايا الكتابِ الكريم" لأبي السُّعود، و"روح المعاني في تفسيرِ القرآن العظيمِ والسبعِ المثاني" لمحمود الآلوسي، و"في ظلالِ القرآن" لسَيِّد قُطْب.

ثم تأتي تفاسيرُ أخرى عديدة.

وقد أَنْقُلُ عباراتٍ للمفسِّرينَ كما هي، أو ممَّا يَنقُلون هم من غيرهم، إذا وافَقَتِ الأسلوب، وكانتْ ملائمةً لنصِّ العبارة، فالمُهِمُّ هو أن يُعطَى البيانُ التامُّ باللفظِ المناسبِ والتَّركيبِ الملائمِ، وألاَّ يَقِفَ أمامَ ذلك عائقٌ.

وقد أَكْتَفِي بما تَدلُّ عليه الآيةُ أو أَزِيد، حَسْبَمَا أَراهُ مناسبًا لِمَا يتعلَّقُ بها، ومن أرادَ تفاصيلَ أكثرَ فعَلَيْهِ بالتفاسيرِ الكبيرة.

وقد أَختارُ وجهًا أو أكثرَ في التفسير، أو أَضُمُّ مَعْنَيَيْنِ متقارِبَيْنِ إليه إذا لم يتبيَّنْ ليَ الأصحُّ في ذلك.

وما فسَّرتُ آيةً إلا ورَجَعْتُ فيها إلى تفسيرٍ أو أكثرَ لأعرفَ معناها، ولم أطمَئِنَّ إلى ما كتبتُ إلا إذا عرفْتُ أن الآيةَ قد وَضُحَتْ للقارِئِ تمامًا، فإذا توقَّفَ المفسِّرون في شيءٍ ولم يُبَيِّنوه؛ فعلتُ ما فعلوا، وإذا تضاربتْ أقوالُهم في المتشابهاتِ وما إليها، أَوردتُ نصَّ القرآن أو قريبًا منه؛ خوفًا ورهبةً.

وقد جاءَ تفسيرهُ على نسقِ الضميرِ الواردِ في الآيات؛ فهو أصدقُ وأقربُ إلى القلوب، وأكثرُ رهبةً وَإِيحَاء، وهو متنوِّعٌ في القرآنِ وليس على مثالٍ واحد، مما يُثيرُ الانتباهَ في النَّفسِ، ويُبعدُ الملل؛ بل يَزيدُ منَ المتابعةِ والتشويق.

ودَعَوْتُ اللهَ أن يَهْدِيَني ويُسَدِّدَني كُلَّمَا جَلَسْتُ إلى تفسيرِ كتابِهِ الكريم، وكنتُ أتعوَّذُ بِهِ - سبحانه – من أن أفسِّرَهُ على غيرِ مراده.

فأَدعُوهُ سبحانَهُ أن يغفِرَ لي زَلَلي وتقصيري فيه، وأن يَتقبَّلَهُ خالِصًا لوجهِهِ الكريم، ويضعَ له القبول، فهو منه وإليهِ، إنَّه سميعٌ عليم.

محمد خير يوسف


• • • • • •

الجزء الأول

سورة الفاتحة

وسورة البقرة الآيات: 1-141


سورةُ الفاتحة


بسم الله الرحمن الرحيم

يَتعوَّذُ المسلمُ باللهِ من الشيطانِ عندَما يَبْدَأُ بقراءةِ القرآنِ الكريمِ؛ لدَفْعِ الوَسْواسِ الَّذِي يُسَبِّبُه. يقولُ اللهُ سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]، ومعناه: أستجيرُ باللهِ من الشيطانِ المُبْعَدِ عنِ الخيرِ كلِّه، أنْ يَضُرَّني في دِيني أو دُنيايَ، أو يَصُدَّني عن فِعْلِ خيرٍ، أو يَحُثَّني على فِعْلِ شرٍّ.

ويُستعاذُ منه باللهِ لشدَّةِ عَدَاوَتِهِ لابنِ آدم، وعَمَلِهِ على تضلِيلِهِ لإزاحتِهِ عنِ الحقِّ. وقد أَقْسَمَ على ذلك فقال:{فَبِعِزَّتِكَ لأَُْغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82، 83]. وقد نبَّهَ اللهُ ابنَ آدمَ إلى ذلك، وحذَّرهم منه؛ فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6].


{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:1]

1- أَبدَأُ باسمِ اللهِ ذِي الألُوهيَّةِ والمعبودِيَّةِ على خَلْقهِ أجمعين، المتَّصِفِ بالرَّأفةِ والرَّحمةِ الكبيرة.

وفي البدءِ بالبَسْمَلَةِ تَبَرُّكٌ وتَيَمُّنٌ واستعانةٌ على الإتمامِ والتقبُّلِ.


{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]

2- الثناءُ على اللهِ ربِّ الخَلْقِ كلِّهِ، والشُّكرُ خالصًا له على ما تَفَضَّلَ به من النِّعَمِ الكثيرةِ على خَلْقِه، في دِينِهم ودُنياهم، فبيَّنَ لهم الحقَّ ومكَّنَهم مِنَ اتِّباعِهِ، وبَثَّ لهمُ الرِّزقَ ومكَّنَهم من طَلَبِه.

والحمدُ أوَّلُ الفاتحة، وهو آخِرُ الدَّعَوَاتِ الخاتمةِ كذلك: {وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس:10].


{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]

3- هو الربُّ المتَّصِفُ بالرَّحمة، صاحبُ الخيرِ والنِّعمة، يَرحَمُ جميعَ خَلْقِه، ورَأْفَتُهُ ورحمتُهُ بالمؤمنينَ خاصَّةٌ.


{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]

4- وهو المتفرِّدُ بالحُكْمِ يومَ حسابِ الخلائقِ في الآخرة، فلا مُلكَ في ذلك اليومِ لأحدٍ سِواهُ.


{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]

5- نَتَوَجَّهُ بعبادتِنا إليكَ، ونستعينُ بكَ في أمورِنا كلِّها، ونتوكَّلُ عليكَ؛ فلكَ كمالُ الطَّاعةِ يا ربَّنا، نَتبَرَّأ مِنَ الشِّركِ، ونَتبَرَّأ مِنَ الحَوْلِ والقوَّة، ونُفَوِّضُ أَمْرَنا إليك.


{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]

6- نسأَلُكَ يا رَبَّنا أن تُرشدَنا وتوفِّقَنا دائمًا إلى الطَّريقِ الواضحِ الذي لا انحرافَ فيه، وهو اتَّباعُ دِينِكَ، وأن تُثبِّتَنا عليه.


{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]

7- طريقَ الذين أحسنْتَ إليهم وأنعَمْتَ عليهم بطاعتِكَ وعبادتِك، من ملائكتِكَ وأنبيائِك، ومَنْ رضيتَ عنهم من سائرِ عبادِك، أهلِ الهدايةِ والاستقامة، والطَّاعةِ والامتثال، وليس طريقَ الذين غضِبْتَ عليهم؛ ممَّن عرفوا الحقَّ ولم يتَّبِعوهُ كاليهود، ولا مَسْلَكَ الذين ضَلُّوا، فما عَرَفوا الحقَّ، وبَقُوا هائمينَ في ضَلالَتِهم، ثم لم يتَّبِعوا نَبيَّك، كالنَّصارى.

سورةُ الفاتحةِ عظيمة؛ فهي أُمُّ الكتابِ والسَّبْعُ المَثَانِي، حاويةٌ على دقائقِ الأسرار، يَقرَؤُها المسلمُ في صلاتِه؛ فلا صلاةَ إلا بها.

ولها فضائلُ كثيرة؛ منها قولهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ وَلاَ فِي الزَّبُورِ وَلاَ فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا))؛ رواهُ أحمدُ بإسنادٍ صحيحٍ.

وقدِ اشتملَتْ على تمجيدِ الله، وإرشادِ الخلْقِ إلى توحيدِه، وسؤالِه، وإخلاصِ العبادةِ له، وطلَبِ هدايتِهِ وتوفيقِهِ للثَّباتِ على المنهجِ الصحيح، وهو الدِّينُ الإسلاميُّ، الذي يُفضِي إلى العاقبةِ الحَسَنَةِ يومَ الحساب.

وفيها التحذيرُ من مسالكِ الباطل؛ كَمَنْ عَرَفَ الحقَّ ولم يتَّبِعْهُ، أو ضلَّ الطريقَ إليه.


• • • • • •

سورةُ البقرة


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{الم} [البقرة: 1]

1- حروفٌ مُقَطَّعَةٌ لم يَرِدْ في معناها تفسيرٌ ثابتٌ صحيحٌ، وعِلْمهُ عند الله.


{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: 2]

2- هذا القرآنُ لا شكَّ أنه نَزَلَ من عِنْدِ الله، وهو نورٌ وتِبْيانٌ للمتَّقين، الذين يَعملونَ بطاعةِ اللهِ ولا يُشْرِكون، الذين يَحْذَرُونَ عقوبةَ اللهِ إذا عرفوا الهُدى ولم يَتَّبِعُوه، ويَرْجونَ رحمةَ اللهِ بالتصديقِ بما جاءَ فيه.


{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]

3- الذين يُؤمنونَ بالله، وملائكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخرِ وما فيه، وما ذُكر في القرآن.

ويُقِيمون الصلواتِ المفروضةَ في مواقيتِها، مع إسباغِ الوضوء، وتمامِ الركوعِ والسجود...

ويُؤَدُّونَ زكاةَ أموالِهم كما افْترَضَها اللهُ عليهم.


{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]

4- والذين يُصدِّقونَ بما جِئْتَ به من اللهِ أيها النبيُّ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وما جاءَ به مَن قَبْلَكَ مِنَ المرسَلين، لا يفرِّقون بينهم، ولا يجحدونَ بما جاؤوا به من ربِّهم.

ويصدِّقونَ بالبعثِ والقيامة، والجنةِ، والنار، والحساب، والميزان.


{أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]

5- هؤلاءِ الذين آمنوا بالغيبِ، وأقامُوا الصلاةَ، وأدَّوُا الزكاةَ، وآمنوا بما أُنْزِلَ إليك وما أُنزِلَ إلى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُل، وأَيْقَنُوا بيومِ القيامة، هؤلاءِ على نورٍ وبصيرةٍ مِنَ الله، وعلى استقامةٍ وسداد، وهمُ الناجحونَ الذين أدركوا ما طلبوهُ بإيمانِهم وعملِهم، وفازوا بالثوابِ والخلودِ في الجِنان، ونَجَوْا منَ العقاب.


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]

6- والذين كفروا بما أُنزِلَ إليكَ وأَصرُّوا على مَوْقِفِهم، لا يُؤمِنونَ ما دامُوا كذلك، فهم أشقياءُ لا يسمعونَ منك إنذارًا ولا تحذيرًا.


{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]

7- لقد طَبَعَ اللهُ على قلوبِهم وعلى سَمْعِهم، وصارَ على أبصارهم غِشَاوَةٌ؛ نتيجةَ هذا الموقفِ الخطأِ منهم، واستهتارِهم بالإنذار، فكثُرَتْ ذنوبُهم وتَتابَعَتْ حتى أَغلقَتْ مَنَافِذَ الفَهْمِ والتَّبَصُّرِ عندَهم، فلا مَسْلَكَ للإيمانِ إليها، ولا للكفرِ عنها مخلصٌ، وجزاءُ الكُفْرِ العنيدِ، وعدمِ الاستجابةِ للنذيرِ، هو العذابُ العظيم.


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]

8- وهناكَ المنافقونَ، الذين يُظهرونَ الإيمانَ ويُبْطِنُون الكُفْرَ، ويُبْدُونَ الخيرَ ويُسِرُّون الشرَّ، فيقولون: إنهم يؤمنونَ باللهِ وبيومِ الجزاء، ولكنَّهم في الحقيقةِ غيرُ مؤمنين.


{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]

9- ويعتقدونَ – بجهلهم - أنَّهم يَخدعونَ اللهَ بذلك، وأنَّ أُسلوبَهم هذا يَنْفَعُهُمْ عندَه، وأنه يَرُوجُ عليه كما يَرُوجُ على بعضِ المؤمنين، ولكنَّهم بِصَنِيعِهم هذا لا يَضُرُّون إلا أنفسَهم، ولا يسيئُون إلا إلى أنفسِهم في إسخاطِ ربِّهم عليها بكفرِهم، وهم غيرُ شاعرينَ ولا دارين، ولكنهم على عمًى من أمرِهم مقيمون.


{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]

10- في قلوبِهم عِلَّةٌ جعلتهم يَحِيدونَ عنِ الحقِّ ويُصِرُّون عليه، فزادَهم اللهُ بذلك عِلَّةً؛ فإنَّ الانحرافَ يَكْبُر، والمرضَ يزدادُ معَ الإصرار، فَشَكُّوا ولم يحاولوا الإيمان، فزادَهمُ اللهُ شَكًّا، كما أن الذين {اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [ محمد:17].

فاستحقَّ المنافقونَ بذلك العقابَ الموجِع، وذلك لكَذِبِهم، وهو مَوْقِفُهمُ المناقضُ للحقِّ، والكَذِبُ أَحَدُ أبوابِ النفاق، وما أَسْرَعَهُ في إفسادِ القلب!


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]

11- وإذا طُلِبَ منهم عَدَمُ الكُفْرِ، وعَدَمُ العصيانِ؛ لأن ذلك يُؤَدِّي إلى الإفسادِ في الأرضِ، والطاعةَ تُؤَدِّي إلى الإصلاحِ، قالوا في سَفَهٍ وتبجُّحٍ: إِنَّهم يُريدونَ بذلك الإصلاحَ، وأمثالُ هؤلاءِ كُثرٌ، ممنِ اختَلَّتْ موازينُ الحقِّ عندَهم؛ لاختلافِ عقيدتِهم.


{أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]

12- والحقُّ أن هذا الذي يعتمدونَهُ في منهجِهم، وَيزعُمُونَ أنه إصلاحٌ، هو عينُ الفسادِ، ولكنْ مِن جهلِهم لا يشعرونَ بكَوْنِهِ فَسَادًا.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]

13- وإذا قِيلَ للمنافقينَ آمِنُوا بأركانِ الإيمانِ كما آمَنَ الناسُ، إيمانًا كاملاً لا شكَّ فيه، وأطيعوا اللهَ وامتَثِلوا أوامرَ رسولِهِ كما يفعلون؛ أَنِفُوا منَ الاستسلامِ للحقِّ، وقالوا في غرورٍ وبَلَه: أَنُؤْمِنُ كما آمَنَ هؤلاءِ السفهاءُ- يَعْنُون الصحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم- وَنَصِيرُ وَهُمْ بمنزلةٍ واحدة؟!

لكنَّ الحقَّ أنهمُ الجهلاءُ، فهم ضعيفو الرأيِ وقليلو المعرفةِ بمواضعِ المصالحِ والمضارِّ، ومن تَمامِ جهلِهم أنهم لا يعلمونَ بحالِهم في الضلالةِ والجهل، وهذا أَرْدَى وأبلغُ في السَّفَهِ والعَمَى!


{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]

14- وإذا لَقِيَ هؤلاءِ المنافقونَ المؤمنينَ أظهروا لهمُ الإيمانَ والموالاة، وأَبْدَوْا لهمُ المحاباةَ والمصافاة، نِفاقًا ومصانعة؛ ليتَّقوا بذلك الأذى، وليتَّخِذوا هذه التَّقيَّةَ وسيلةً لأذاهم، وليشاركوهم فيما يصيبونَهُ من مغنم.

وإذا انصرفوا إلى رؤسائهم وسادتِهم من أحبارِ اليهودِ ورؤوسِ المشركين وكُبَرَاءِ المنافقين، قالوا لهم: نحن معكم، إنما كنا نستهزئُ بهم!.


{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]

15- وما داموا اختاروا طريقَ الخداعِ والتآمر، والتهكُّمِ والاستهزاء، فإن اللهَ لهم بالمرصادِ، وسيعلمونَ غدًا أنَّ الهُزْءَ والمَكْرَ قد حاقَ بهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:42]، فسوفَ يسخرُ اللهُ بهم للنقمةِ منهم، ويدَعُهم يَخْبِطُون في طريقٍ لا يعرفونَ نهايتَه، ولا يجدونَ سبيلاً إلى الخروجِ منه، فقد طَبَعَ اللهُ على قلوبِهم، وأعمَى أبصارَهُم، نتيجةَ عملهم.

والمَكْرُ والخداعُ والسخريةُ على وجهِ اللعبِ مُنتفٍ عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ بالإجماع، وأما معَ وجهِ الانتقامِ والمقابَلَةِ بالعدلِ والمجازاةِ، فلا يمتنعُ ذلك، كما قال ابنُ جريرٍ الطبريُّ.


{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]

16- إنَّهم عَدَلُوا عنِ الهُدى إلى الضلال، وآثَرُوا الكُفْرَ على الإيمانِ الصريح، في تجارةٍ خاسرةٍ من جميعِ الوجوهِ، فما رَبِحَتْ صفقتُهم هذه، وما كانوا راشدينَ في صنيعِهم هذا.


{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اُسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]

17- ومَثَلُ هؤلاءِ الذين عَدَلوا عن الهُدى إلى الضلال، وآثَرُوا العَمَى على التبصُّر، كمَثَلِ رجلٍ أوقَدَ نارًا في ليلٍ مُدْلَهِمٍّ، فَلَمَّا أضاءتِ النارُ ما حولَها، وانتفعَ بها مُوقدُها، وأبصرَ بها ما حولَهُ، واستأنسَ بها، إذا بها طُفِئَتْ، فصارَ في ظلامِ شديدٍ، لا يُبصرُ ولا يهتدي!.

والمنافقونَ كذلك، رَأَوْا نورَ الإسلامِ، فآمنوا، ثم انقلبوا على وجوههم يَخْبِطُونَ حائرين، مؤثرينَ الضلالَ على الهدى بعدَما تَبيَّنوه. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].

فكان جزاؤُهم أن أذهبَ اللهُ عنهم ما ينفعُهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يَضرُّهم، وهو الإحراقُ والدُّخَان، وتركهم في ظُلُماتِ الشكِّ والكُفْرِ والنِّفاق، لا يهتدون إلى سبيلِ الخير.


{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]

18- لقد عَطَّلوا وظائفَ آذانِهم وألسنتِهم وعيونِهم؛ فلا يسمعونَ خيرًا، ولا يتكلمونَ بما ينفعُهم، ولا يَرَوْنَ الحقَّ، فكيف يَهتدون، وأنَّى يستجيبونَ للهُدى والنور؟


{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19]

19- وحالُ هؤلاءِ أيضًا في شكِّهِم وكفرِهم وتردُّدِهم، كمَثَل مَطَرٍ هاطلٍ مِنَ السماءِ في ليلٍ مظلِم، فيه رَعْدٌ قَوِيٌّ مُخِيف، وبَرْقٌ يُضِيءُ في لَمَعانٍ شديد، فصاروا يَجعلونَ أصابعَهم في آذانِهم حَذَرًا من أنْ يُصيبَهم شيءٌ من آثارِها فيموتوا، وهو لا يُجدي عنهم حذرًا، فالله محيطٌ بهم بقدرتِه، وهم تحتَ مشيئتِهِ وإرادتِه.

وتشبيهُ أوجُهِ المَثَلِ: حالُ الظُلُماتِ هي الشكوكُ، والكفرُ، والنفاقُ.

والرعْدُ هو ما يُزعجُ القلوبَ منَ الخوفِ، فإنَّ شأنَ المنافقين الخوفُ الشديدُ والفزعُ.

وَالْبَرْقُ هو ما يَلمعُ في قُلُوبِ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ المنافقين في بعضِ الأحيانِ مِن نُورِ الإيمان.


{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]
20- ويكادُ هذا البرقُ لِشِدَّتِهِ وقوَّتِهِ أنْ يَسْتَلِبَ أبصارَهم؛ فإذا أضاءَ لهم مَشَوْا فيه، وإذا أظلمَ عليهم وقفوا حائرينَ لا يَدْرونَ أين يذهبون.

والبرقُ كِنايةٌ عن شِدَّةِ ضَوْءِ الحقِّ... وأنَّهم إذا ظَهَرَ لهم مِنَ الإيمانِ شيءٌ استأنسوا به واتَّبَعوه، وتارةً تَعْرِضُ لهمُ الشُّكُوكُ فتُظْلِمُ قُلُوبُهم ويَبْقَوْنَ حائرين!

ولو شاءَ اللهُ لأخذَ سَمْعَ هؤلاءِ المنافقينَ وأبصارَهم، لِمَا تركوا منَ الحقِّ بعدَ معرفتِه، وهو إذا أرادَ بعبادِهِ نِقْمةً كان قادرًا على إنفاذِها.

وهو تحذيرٌ للمنافقين من بأسِهِ وسَطْوَتِه، وأنَّه بهم محيط.


{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]

21- أيُّها الناس، اعبُدوا الربَّ الذي خلقكم ومَنْ قبلَكم، وَحِّدُوهُ بالعبادةِ ولا تُشْرِكوا به شيئًا؛ فإن الذي تفرَّد بالخلْقِ هو الذي يُفْرَدُ بالعبادة، ولعلَّكُم بهذه العبادةِ الصافيةِ تكونونَ منَ المطيعين وتؤدُّونَ حقَّ الخالق.


{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]

22- إنَّه الإلهُ الذي خلقَ لكمُ الأرضَ مُمَهَّدةً مُوَطّأةً بما يُناسبُكم ووسائلَ عَيْشِكُمْ، وَجَعَلَ السماءَ كالسَّقْفِ لها، تُرسلُ إليكم بحرارتِها وضوئِها لتنتفعوا بها، وأنزَلَ من سحابِها المطرَ لتَسْقِيَ الزروعَ فيخرجَ منها الثمارُ لتكونَ رزقًا لكم ولأنعامِكم، فلا تجعلوا مع اللهِ إلهًا آخَرَ، ولا تشركوا به أحدًا في عبادتِكم؛ فإنَّه وَحْدَهُ الخالقُ الرازقُ، وأنتم تعلمونَ أنه لا ربَّ لكم يرزقُكم غيرُهُ، فهو وَحْدَهُ المستحِقُّ للعبادَة.


{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]

23- وإذا كُنتم في شكٍّ من نُبوَّة محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيُّها الكافرون، فهاتوا سورةً من مِثْلِ ما جاءَ به إذا زعمتم أنه من عندِ غيرِ الله، فعارِضُوه بمِثْلِ ما جاءَ به، واستعينوا بمن شِئْتُمْ من أعوانِكم.


{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]

24- فإذا لم تَقْدِرُوا على ذلك، ولن تَقْدِرُوا عليه، فاعلموا أنه كلامُ اللهِ المعجِزُ الحقُّ، واعلموا أن وراءَ إنكارِ الحقِّ نارًا عظيمةً محرِقَةً، تُضْرَمُ في أجسادِ الكفرةِ الظالمين، ومِنَ الحجارةِ الصُّلْبَةِ الضخمةِ الشديدةِ الاشتعال، أُرصِدتْ لمن كان على مِثْلِ ما أنتم عليه مِنَ الكفرِ بالله ورسولِه.


{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]
25- أما المؤمنون الذين آمنوا بالله، وبنبوَّتِكَ، وبالكتابِ الذي أُنْزِلَ عليك، وشفعوا ذلك بالعملِ الصالحِ في استقامةٍ وإخلاص، فَأَلْقِ عليهمُ الخَبَرَ السَّارَّ المُفْرِحَ، وبَشِّرْهُم بأنَّ لهم جِنانًا كبيرةً رائعة، تَجري من تحتها المياهُ العذبةُ، لتَجلبَ الأَرْيَحِيَّةَ والنشاطَ، وتُؤْنِسَ وَتَسُرُّ.

وإذا أُعطوا ثمرًا من ثمارِ الجنَّةِ استَبْشَروا وقالوا: إنه يُشبهُ الفاكهةَ التي كُنَّا نَأكلُها في الدنيا، وفَرِحُوا بذلك، فإنَّ الطبائعَ تَسْتأنسُ بالمعهودِ، وتميلُ إلى المألوفِ وتنفِرُ من غيرِ المعروفِ.

وتُؤْتَى لهم ثمارٌ مُشابهةٌ لثمارِ الدنيا، في اللونِ والمَظهَرِ، ولكنَّها تختلفُ في الطَّعْمِ والحجمِ.

ولهم في الجنةِ أزواجٌ مُطَهَّرَاتُ الأبدانِ منَ القَذَرِ والأذى، لا كما هو في الدنيا.

ولتمامِ سعادتِهم في هذا النعيمِ، فإنَّهم خالدون في الجنَّةِ، لا انقضاءَ لمُدَّتِهِ ولا آخِر.

ابو وليد البحيرى
09-05-2015, 03:35 PM
الواضح في التفسير


(الحلقة الثانية)



أ. محمد خير رمضان يوسف

سورة البقرة

(الآيات 26 – 66)


بسم الله الرحمن الرحيم



{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26].

26- والله لا يستحيي أن يضربَ مَثلاً بشيءٍ ما، صَغُرَ أو كَبُر، من بعوضٍ فما فوقها، فإن في كلِّ شيءٍ خلقَهُ حكمةً وعظة.
فالذين آمنوا يعلمونَ أن ضربَ المَثَلِ بالبعوضِ حَقٌّ، فيؤمنونَ به وبحكمته، أما الكفرةُ فيزدادونَ به ضلالة، ويقولون: ما قيمةُ البعوض، وما موقعهُ في الكونِ حتى يُضْربَ به المَثَلُ، وهو من أحقرِ المخلوقات؟!.
والبعوضُ مخلوقٌ عجيبٌ حقاً، فهو مع صِغَره، له عينانِ ضخمتانِ تتكوَّنانِ من آلافِ العدساتِ السداسية، وفي رجلها خمسةُ مفاصلَ رئيسية، مع زوجٍ من المخالب، وعضلاتٍ قوَّيةٍ تلتصقُ بجدارِ الصدر، ودبُّوسٍ للتوازنِ في جناحيها، وتتحرَّك الأجنحةُ ما يقربُ من ألفِ مرَّةٍ في الثانية! وله جهازٌ يمنعُ تجلُّطَ الدمِ ليستطيعَ مصَّه، وقد يمتصُّ دماً أكثر من وزنهِ مرَّةً ونصفَ المرَّة! وله أكثرُ من ثلاثةِ آلافِ نوع، وتضعُ الأنثى ما بين مائةٍ وثلاثمائةِ بيضةٍ في المرَّة الواحدة، وتضعُ ثلاثةَ آلافَ بيضةٍ طوالَ حياتها. وينقلُ أسوأ الأمراض، وماتَ الملايينُ من البشرِ بسببِ ذلك، وهو موجودٌ في كلِّ أنحاءِ العالم.

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].
27- إنَّ هؤلاءِ الكفرةَ والمنافقينَ لا عهدَ لهم ولا ميثاق، فقد تركوا الإقرارَ بالحقِّ مع صحَّةِ أدلَّته، وكذَّبوا الرسلَ والكتبَ المُنزلةَ على الأنبياء، مع علمهم أن ما أُتُوا به حقّ. وهم مع عِنَادِهِمْ وفسادِ عقيدتهم فإنهم غيرُ أوفياءَ مع أقربِ المقرَّبينَ إليهم، فهم يقطعونَ علاقاتهم مع أهليهم وقراباتهم، وقد خسروا بهذا وتعرَّضوا إلى غضبِ الله، وحالتْ أعمالهم السيِّئةُ بينهم وبين رحمةِ الله العظيمة.

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28].
28- وكيف تجحدونَ وجودَ الخالقِ وقد كنتم عَدَماً فأخرجكم إلى الوجود، ثم يُميتُكم موتةَ الحقّ، ثم يُحييكم مرةً أخرى حين البعث؟

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29].
29- إنه الإلهُ الذي خلقَ الأرضَ وما فيها لكم، وخلقَ سبعَ سماواتٍ فوقكم، وعلمهُ محيطٌ بجميعِ ما خلق، لا يخفى عليه شيء.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
30- واعلمْ يا نبيَّ الله أن ربَّكَ قالَ لملائكته: سأجعلُ بني آدمَ خلفاءَ في الأرض، يخلفُ بعضُهم بعضاً، وسأسخِّرُ جميعَ ما خلقتهُ فيها من طاقاتٍ وخاماتٍ لهم.
وقد فهمتِ الملائكةُ من الطبيعةِ البشرية، أو بإلهامٍ من الله، أنَّ من البشرِ مَنْ يُفسدُ في الأرض، ويستغلُّ طاقاتها في غيرِ وجهتها الصحيحة، فقالوا استعلاماً واستكشافاً عن الحكمةِ في ذلك، لا اعتراضاً على الله سبحانه: يا ربَّنا، أتجعلُ في هذه الأرضِ من يعيثُ فساداً ويريقُ الدماءَ بغيرِ حقّ، متجاوزينَ الحكمةَ والصواب؟
وإذا كان الهدفُ من استخلافهم فيها عبادتك، فها نحن ننزِّهُكَ ونحمدُكَ ونمجِّدك، ونعبدُكَ ونصلِّي لك؟
فقالَ الله لهم: إني أعلمُ من المصلحةِ في استخلافهم فيها ما لا تعلمون، فإذا كانَ فيهم مفسدون، فإنه يكونُ منهم أنبياءُ وصدِّيقون، وأولياءُ لله مقرَّبون، وعلماءُ عاملون، وعُبّادٌ خاشعون، وشهداءُ أبرارٌ في علِّيين.

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31].
31- وعلَّمَ آدمَ -عليه السلامُ- أسماءَ الأشياءِ كلَِّها، ثم عرضها على الملائكةِ وقالَ لهم: اذكروا لي أسماءَ هذه الأشياء، إن كنتمْ صادقينَ في قولكم من أني إذا جعلتُ في الأرضِ آدمَ خليفةً عصاني ذرِّيتهُ وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإذا كنتم أنتم خلفاءَ أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيمِ والتقديس. فإذا كنتم لا تعلمونَ أسماءَ هذه الأشياءِ وأنتم تشاهدونها، فأنتم عمّا هو غيرُ موجودٍ من الأمورِ الكائنةِ التي لم توجدْ أحرى أن تكونوا غيرَ عالمينَ بها.
إن الملائكةَ لا حاجةَ لهم إلى هذه الأشياء؛ لأنها لا تناسبُ طَبِيعتهم، بل هي مختصَّةٌ بابنِ آدم، ولذلك جُعلتِ الخلافةُ له في الأرضِ لا لهم.

{قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].
32- عند ذلك استسلمتْ ملائكةُ الرحمنِ للحقّ، فقدَّستْهُ ونزَّهتْهُ وقالت: سبحانك، لا علمَ لنا بشيءٍ إلا ما أحطتنا به من عندك، فأنت تعلمُ كلَّ شيء، ولكَ الحكمةُ في خلقِكَ وأمرك، وتعلِّمُ من تشاءُ ما تشاء، وتمنعُ من تشاءُ ممّا تشاء.

{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33].
33- وطلبَ الله من أبينا آدم أن يذكرَ للملائكةِ أسماءَ الأشياء، من أعلامٍ وحيواناتٍ وجمادات، فأنبأهم بها، وظهرَ فضلهُ في ذلك، من علمِ ما لا يعلمونه، فقال الله لهم: ألم أقلْ لكم إني أعلمُ علمَ الغيب، فلا يخفى عليَّ شيءٌ من أمرهم وأمركم وما في الكونِ جميعاً، وأعلمُ ما تسِرُّونَ في أنفسكم وما تظهرونه، فما خفي عليَّ قولكم من يُفسدُ فيها، ولا خفيَ عليَّ أمرُ إبليسَ في خلافِ أمري والتكبُّرِ على طاعتي.

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
34- وقد كرَّمَ الله آدمَ -عليه السلامُ- عندما قال لملائكته: اسجدوا لآدم، فسجدوا له طاعةً لربِّهم، فكانت السجدةُ لآدم، والطاعةُ لله، كرامةٌ من الله أكرمَ بها آدم. إلا إبليس، الذي كان بينهم، وهو من الجنّ، أبى أن يسجدَ له، تكبرُّاً واستعلاء، فكان بذلك من العاصينَ الضالِّين.

{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35].
35- بعد هذا التكريمِ لآدم، أباحَ الله له الجنَّةَ ليسكنَ فيها حيث يشاء، هو وزوجُهُ حوّاء، ويأكلا منها في رغدٍ وهناء، وسَعَةٍ وسعادة، لكنْ حذَّرهما فقال: لا تَقْرَبا هذه الشجرة، وعيَّنها لهما، فإنكما إذا أكلتُما منها عصيتُما ربَّكما وظلمتُما أنفُسَكما، ووقعتْ عليكما عاقبةُ المخالفة.
وكان ذلك امتحاناً لهما، وتوجيهاً لسلوكهما، وتعليمَهما الوفاءَ بالشرط، ولابدَّ في ذلك من إرداة.

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36].
36- لكنَّ الشيطانَ أغواهما ونحّاهما عن الجنة عندما زيَّنَ لهما الأكلَ من الشجرةِ فأكلا منها! وأخرجهما بذلك من الجنّاتِ الجميلةِ وما فيها من رزقٍ هنيءٍ وراحةٍ ومنزلٍ رحب، فقالَ الله عقبَ هذا العصيان: انزلا من الجنةِ إلى الأرض، لتتحكَّمَ العداوةُ بينكم وبين الشيطانِ الذي غرَّكم فأخرجكم من هذا النعيم، وسيكونُ لكم قرارٌ في الأرض، ورزق، ورغبةٌ وانتفاع، ولكنْ إلى زمنٍ محدود.

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
37- وعرفَ آدمُ ذنبَهُ وندم، واستغفرَ ربَّهُ وطلبَ منه الصفحَ والمغفرة، فقبلَ توبتَه، إنه كثيرُ الغفرانِ للذنوب، لطيفٌ بخلقه، رحيمٌ بعبيده.

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
38- تكريرٌ وتحذيرٌ من جديد، لآدمَ وذرِّيتِه، حتى لا يقعوا في الخطأ مرَّةً أخرى: انزلوا إلى الأرض، فإذا بعثتُ إليكم أنبياءَ ورسلاً، وأنزلتُ عليكم كتباً لتهتدوا بها، واتبعتم هذا الهدي، فلا تضلُّونَ في الدنيا، ولا تشقَوْنَ في الآخرة، ولا تحزنونَ على ما فاتكم من أمورِ الدنيا، ولا تخافونَ ما ينتظركم يومَ القيامة.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39].
39- أمَّا من كَفَرَ وكذَّبَ بأنبيائنَا وكُتُبِنَا، فلا شكَّ أنهم أصحابُ النار، لا مَحِيدَ لهم عنها ولا محيص، خالدينَ فيها فلا خروج.

{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
40- يا أبناءَ إسرائيلَ (يعقوبَ) النبيِّ الكريمِ المطيعِ لله، تذكَّرُوا نعمتي عليكم أن جعلتُ منكم أنبياءَ وملوكاً، وأنزلتُ عليكم الكُتب، وأنجَيتُكُمْ من عبوديةِ فرعونَ وآلِه... وأوفوا بالعهدِ الذي طلبتُ منكم الإيفاءَ به، وهو اتِّباعُ دينِ الإسلام ومتابعةُ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا أُرسل، فإذا وفيتمْ بالعهدِ الذي في أعناقكم، رضيتُ عنكم وأدخلتُكم الجنَّة، وإلا فاذكروا ما أنزلتُ بآبائكم من النِّقم، كالمسخِ وغيره، فإني قادرٌ أن أُنزلَ بكم ما أنزلتهُ بهم.

{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41].
41- وآمِنوا بالقرآنِ المُنزَلِ على النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المصدِّق لما معكم، ممَّا هو مكتوبٌ في التوراةِ والإنجيل، ولا تكونوا – يا يهودَ المدينة – أوَّلَ من يكفرُ بنبوَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل. ولا تستبدلوا بالإيمانِ وتصديقِ رسولي محمدٍ صلى الله عليه وسلم الدنيا وشهواتِها القليلةَ الفانية، وأطيعوني رجاءَ رحمتي بكم وهدايَتِكُمْ وإنقاذِكُمْ من العذاب.

{وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42].
42- ولا تخلطوا الحقَّ بالباطلِ والصدقَ بالكذب، ولا تسكتُوا عن الحقِّ فتكتموهُ وأنتم تعلمونَ أنه الحقّ، فإنَّ عندكم معرفةً برسولي وبما جاءَ به، وهو مكتوبٌ عندكم، فلِمَ لا تُعلنونَ الإيمانَ به، بل تكذبونَ وتقولونَ إنه ليس بنبيّ؟!

{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].
43- فآمِنوا به، وصلُّوا معه، وادفعوا زكاتَكُم إليه، وكونوا مع من آمنَ به من أصحابهِ في أحسنِ أعمالهم، واركعوا للَّهِ معهم كما يركعون.

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
44- أتَطلُبونَ من الناسِ أن يعملوا الخيرَ ولا تعملونَ أنتم به، وعندكم العلم، بما تقرؤونَهُ في الكتب، وتعلمونَ جزاءَ مَنْ خالفَ أوامرَ الله في ذلك؟ ألا تتنبَّهونَ إلى خطأ ما أنتم فيه وخطرهِ عليكم؟ فهلاّ اتَّصفتم بالعقلِ وعملتمُ الخيرَ كما تأمرونَ به الناس؟

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
45- واستعينوا- أيها المؤمنون- على طَلَبِ الخيرِ في الآخرةِ والدنيا، بالصبرِ على طاعةِ الله، والصلاة. فإنَّ الصبرَ لابدَّ منه في كلِّ أمرٍ شاقّ، والصلاةُ تُعِينُ على الثباتِ على الأمر، وهي مَشَقَّةٌ ثقيلةٌ إلا على الخاشعينَ المطيعينَ لله.

{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46].
46- الذين يؤمنونَ بوعدِ الله ووعيده، وبأنهم محشورونَ إليه يومَ القيامة، ومعروضةٌ أعمالهم عليه. وهذا الإيمانُ هو الذي يدفعهم إلى طاعته، وتجنُّبِ معاصيه.

{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47].
47- واذكروا يا بني إسرائيلَ نِعَمِي على آبائكم وأسلافكم، وأني فضَّلتُكم آنَذَاكَ على العالمين، بإرسالِ الرسلِ إليهم، وإنزالِ الكتبِ عليهم.

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:48].
48- واحذروا يومَ الجزاء، الذي لا يُغني فيه أحدٌ عن آخَر، ولا يُقْبَلُ من كافرٍ تقرُّبٌ ولا فداءٌ للتجاوُزِ عن كفرهِ ومعصيته، ولا أحدَ يدافعُ عنه وينْصُرهُ لينقذَهُ من العذاب، فكلُّ نفسٍ مسؤولةٌ عن نفسها.

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49].
49- واذكروا يا بني إسرائيلَ من نِعَمِي الأخرى عليكم إنقاذَكُم من ظلمِ فرعونَ وآله، عندما كانوا يُذِيقُونكم أقسى أنواعِ العذابِ وآلَمَه، في***ونَ كلَّ ذَكَرٍ يُولَدُ فيكم ويُبْقُونَ على بناتكم؛ خوفاً من أن يكونَ زوالُ مُلكهِ على يدي رجلٍ منكم. وفي إنقاذكم من هذا العذابِ نعمةٌ عظيمةٌ من ربَّكم عليكم، فلا تَنْسَوْها.

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة:50].
50- واذكروا عند خروجكم مع موسى استنفارَ فرعونَ جيشَهُ لمتابعتكم والقضاءِ عليكم، فانفلقَ البحرُ لكم وخلَّصكم الله منهم، فحجزَ بينكم وبينهم، وأغرقهم، وأنتم تنظرونَ إليهم.

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51].
51- واذكروا أيضاً عندما غابَ موسى وذهبَ إلى ميقاتِ ربِّهِ للمناجاة، مُسْتَخْلِفاً هارونَ عليكم، وبقيَ أربعينَ يوماً وقد أُنزِلَ عليه التوراة، فاتخذتم العجلَ إلهاً وعبدتموهُ بتسويلِ السامريِّ لكم، وقد كان عملكم هذا ظلماً عظيماً، عندما تركتم عبادةَ الله واتجهتم إلى عبادةِ العِجْل.

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:52].
52- ومع هذا فقد عفا الله عنكم، لعلكم تشكرونه، وتعرفونَ نعمتَهُ عليكم.

{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:53].
53- واذكروا من نِعَمِنا عليكم أن أَعْطَيْنا موسى التوراة: كتاباًَ منزَّلاً وحجةً يفرِّقُ بين الحقِّ والباطل، لعلكم تهتدونَ بالتدبُّرِ فيه والعملِ بما يتضمَّنه.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54].
54- واذكروا عندما قال موسى لبني إسرائيلَ الذين عبدوا العِجْلَ: لقد ارتكبتم جُرْماً عظيماً ومعصيةً كبيرةً عندما اتخذتمُ العجلَ ربّاً دونَ الله، ولا توبةَ لكم عند خالقكم إلا أن يَقْتُلَ بعضُكُم بعضاً، في***َ البريءُ منكم المجرمَ، فإنه أنسبُ عقوبةٍ لنفوسِكم السيِّئة، وقلوبِكم القاسية، وطبيعتِكُمُ المنحرفة، وعسى أن يكونَ هذا توبةً لجرمكم الشنيع، وتذكرةً مؤلمةً لكم لئلا تعودوا إلى مثله. ثم أدركتكمْ رحمتُهُ فَتَابَ عليكم، فهو يقبلُ التوبَةَ الصادقةَ من عباده، رحمةً بهم.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 55].
55- ثم قلتم لنبيِّكم موسى: نرفضُ أن نؤمنَ حتى نرى الله عِيَاناً! وهو مما لا يُستطاعُ لكم ولا لأمثالكم، فَنَزَلَتْ عليكم صَيْحةٌ قويةٌ من السماء؛ لِفَرْطِ عِنادِكم وتعنُّتِكُمْ وطلبِ المستحيل، فمتُّم بينما ينظرُ بعضُكم إلى بعض.

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56].
56-ثم رحِمْناكم فأحييْنَاكم لِتَسْتوفُوا بقيَّةَ آجالِكُم وأرزاقِكُم، وعسى بذلك أن تشكروا نعمةَ ربِّكم عليكم.

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57].
57- ومن نِعَمهِ عليكم في التِّيهِ أن ظلَّلَ عليكم السحابَ الأبيضَ ليقيَكُم حَرَّ الشمسِ المُحرق، وأرسلَ إليكم طعاماً شهيّاً لا تتعبونَ في تحصيله، وهو المَنُّ الذي تجدونَهُ على الأشجارِ حلواً كالعسل، وطائرُ السُّمَانَى القريبُ المنال، فكُلُوا هذا الطعامَ الطيِّبَ هنيئاً مريئاً. ولكنكم ظلمتم وجحدتم، فكانتْ عاقبةُ ظلمكم على أنفسكم.

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].
58- ولما طُلِبَ منكم دخولُ بيتِ المقدس، وقتالُ مَنْ فيها من العماليقِ الكفرة، نَكَلْتم عن قتالهم، فرماكم الله في التِّيه، حتى ينشأ جيلٌ جديدٌ على غيرِ ما أنتم عليه، الذي قادهم يوشعُ بن نون، ففتحَ المدينةَ ودخلها، لتعيشوا في القدسِ في رغدٍ وهناء. وطُلِبَ منكم أن تقولوا عند الدخول: "حِطَّةٌ": حُطَّ عنا ذنوبَنَا واغفرْ لنا، مع تواضُعٍ وخشوع. فإذا قلتم ذلك غفرنا لكم ذنوبَكم، وزدنا المحسنينَ منكم إحساناً.

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59].
59- لكنَّ فريقاً ظالماً منكم خالفوا وعصَوْا، فبدَّلوا ما أُمروا به من الخضوعِ بالقولِ والفعل، فَبَدَلَ أن يدخلوا ساجدينَ مُسْتغفرين، دخلوا على هيئةٍ أُخرَى مخالِفة، وقالوا قَولاً آخرَ غيرَ الذي أُمروا به، مخالفةً ومعاندة!
فأنزلَ الله على هؤلاءِ الظالمينَ غضبَهُ وعذابه؛ لفسقهم وعصيانهم.

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].
60- واذكروا يا بني إسرائيلَ من نعمي عليكم، عندما استُحِببَ دعاءُ نبيِّكم موسى عليه السلام، لما طَلَبَ السُّقيا لكم، فأمرناهُ أن يضربَ حجراً بعصاه، ففجَّرنا منه الماء، منِ اثنتي عشرةَ عيناً، لكلِّ قبيلةٍ من قبائلكم عينٌ قد عرفتها. فكُلُوا المَنَّ والسَّلوى، واشربوا من هذا الماءِ المَعين، الذي جاءَكم بدونِ كدٍّ ولا تعب، واعبدوا الله الذي سخَّرَ لكم كلَّ هذا ويسَّره، ولا تقابلوهُ بالجُحُودِ والعصيانِ فتُسْلَبُوها.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].
61- واذكروا نعمةَ الطعامِ الطيِّبِ الذي رزقكموهُ من المَنِّ والسَّلوى، ولكنكم ضجِرتُم منه ورغبتم في الأدنى، فطلبتم من موسى أن يدعوَ الله ليُخْرِجَ لكم البُقُول، من قِثَّاءٍ وثُومٍ وعَدَسٍ وبَصَل، فاسْتَنْكَرَ نبيُّكم منكم هذا، وقال: أتريدونَ الطعامَ الأقلَّ قِيمةً وذوقاً على العيشِ الرغيدِ والطعامِ الهنيءِ الطيِّبِ النافع؟
إن هذا الذي سألتموهُ ليس بعزيز، وهو هيِّنٌ زهيد، بإمكانكم أن تذهبوا إلى أيِّ مكانٍ لتجدوهُ فيه.
ووضعَ الله عليهم الذُّلَّ والصَّغار، فلا يزالونَ كذلك، يَستذلهُّم ويُهينُهم مَنْ وجدهم، واستحقُّوا السُّخْطَ والغضبَ من الله بما فعلوهُ من آثامٍ كبيرةٍ وذنوبٍ عِظام، من كفرهم بآياتِ الله وحُجَجِهِ البيِّنة، واستكْبارِهم عن اتِّباعِ الحق، وإهانتِهم و***ِهم أفضلَ الخلقِ أجمعين: أنبياءَ الله ورُسُلَه؛ فهذا جراءُ مَنْ عصى الخالقَ واعتدى على خلقه.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
62- إنَّ كلَّ مَنْ آمنَ بحقّ، من اليهود، والنصارى والصابئة، وهم قومٌ أصحابُ ديانةٍ بالعراق، أو مَنْ لم تَبلُغْهُم رسالةٌ، آمنَ بالله وحده، وبيومِ القيامة، وأَتْبَعَ إيمانَهُ بعملٍ صالحٍ موافقٍ للحق، فإن جزاءهم الْحُسنى كما قدَّموه، فلا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونَهُ من أحداث، ولا هم يحزنونَ على ما يتركونَهُ ويخلفونَه، فالعبرةُ بِصِحَّةِ الْعقيدةِ واتباعِ النبيِّ في وقته. وهذا كلُّهُ قبل البعثة، أمَا وقد خُتمتِ النبوَّة، فلا دينَ إلا الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63].
63- واذكروا يا بني إسرائيلَ ما أُخِذَ عليكم من العهودِ والمواثيقِ بالإيمانِ بالله واتِّباعِ رُسله، ورفعنا الجبلَ فوق رؤوسكم ليسقطَ عليكم إذا لم تقرُّوا بما عُوهِدتم عليه، ولتأخذوا هذا العهدَ بقوَّةٍ وعزم، فلا مُهَادَنَةَ ولا مُجَامَلَةَ في أمرِ العقيدة.
وتذكَّروا جيِّداً ما في هذا العهدِ أو ما أُنزلَ عليكم في التوراة، ليكونَ لكم سُلُوكاً وخُلُقاً ونظامَ حياة، لعلكم بذلك تَنْزعونَ عما أنتم عليه وتتحسَّنُون، فَعَاهَدتم على الالتزامِ بهذا الميثاق، والعملِ بما فيه.

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64].
64- لكنَّكم بعد هذا الوعدِ المؤكَّدِ والميثاقِ العظيم، نَقَضْتُم قولَكُم، وأدرتم إليه ظهوركم. ومع هذا النكْثِ والخيانةِ رحِمَكم الله وتفضَّلَ عليكم، فأرسلَ إليكم النبييِّنَ والمُرْسَلين، لِيُذكِّروكم بالإيمانش والطاعة، ولولا ذلك لكنتم في خسرانٍ مُبينٍ، وَنَدَمٍ دائم، بنقْضِكُمُ الميثاق.

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65].
65- وتذكروا معشرَ اليهودِ ما حلَّ من العذابِ بأهلِ القريةِ التي لم تلتزمْ بعهدِ الله، عندما طلبوا يومَ راحةٍ مُقَدَّساً لا يعملونَ فيه، فجعلَ الله ذلك يومَ السبت، فابْتَلاهمُ اللهُ بوفرةِ الحيتان في ذلك اليوم، فما صَمَدُوا أمامَ أطماعِهِمْ وشهَوَاتهم، وخافُوا إن نَقَضُوا العهد، فَتَحَايَلُوا، وما يَحْتَالُون إلا على أنفسهم، نَصَبُوا الشِّبَاكَ والحبائلَ والبِرَكَ قبلَ يومِ السبت، فإذا انقضَى أخذوا ما فيها يومَ الأحد. فلمّا فعلوا ذلك ونَكَلُوا عن عهدهم مع الله، عاقَبَهُم بالمسخ، وجعلهم في صورةِ القِرَدَة، أذلَّةً صاغرين.

{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66].
66- لقد كانتْ عقوبةُ أهلِ تلك القريةِ عِبْرةً لما حولها من القرى، وعِظةًَ لمن يَحْذَرُونَ نقمةَ الله وسُخْطَهُ، لئلا يستحلُّوا محارمَ الله بأدنى الحِيَل.

ابو وليد البحيرى
12-05-2015, 05:34 PM
الواضح في التفسير


(الحلقة الثالثة)



أ. محمد خير رمضان يوسف

سورة البقرة

(الآيات 67 – 110)




بسم الله الرحمن الرحيم



{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67].



67- واذكروا يا بني إسرائيلَ عندما قُتِلَ أحدُكُم ولم تعرفوا قاتله، وسألتمْ نبيَّكُم معرفتَه، فطلبَ منكم أن ت***وا بقرةً -وستأتي الحكمةُ من ذلك – فَقُلْتُمْ في جفاءٍ وسوءِ أدبٍ وتكذيب: أتهزأ بنا وتسخرُ منَّا؟

فقالَ لكم، وهو مُعَلِّمُكُمْ ومُرشِدُكُمْ إلى الخير: حاشا أن أكونَ من المُسْتَهزئينَ بالمؤمنين، إنما الأمرُ بِوَحْي من الله.


{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} [البقرة: 68].

68- فقال اليهود: إننا لا نعرفُ أَيَّ بَقَرَةٍ تقصد. ولو أنهم ***وا أيَّ بقرةٍ لكفت، ولكنَّهُمْ شَدَّدُوا فشَدَّدَ الله عليهم. قالوا: فما هِيَ وما وَصْفُهَا؟

قال لهم نبيُّهم: إن الله يقول: إنها لا كبيرةٌ هَرِمَةٌ، ولا صغيرةٌ لم يلحقْها الفحل، فهي بين الكبيرةِ والصغيرة، وهو أَقْوَى وأحسنُ ما تكونُ الدابَّة. فنفِّذُوا ما أُمِرْتُم به.


{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69].

69- وَعَادوا إلى السؤالِ والتشديدِ مرَّةً أخرى، فقالوا: ما لونها؟

قال نبيُّهم: يقولُ الله: إنها بَقَرَةٌ صفراءُ صافيةُ اللون، تُعْجِبُ الناظرينَ في ذلك.


{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70].

70- وعادوا ليسألوا سؤالاً آخر، فقالوا: اطلبْ من ربِّكَ أيها النبيُّ أن يُحَدِّدَ لنا وَصْفَهَا وَحِلَّهَا لنا، فإذا فعلَ ذلك فإننا بذلك إنْ شاءَ اللهُ سنهتدي إليها.


{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].

71- فقالَ لهم: إن الله يقول: إنها بَقَرَةٌ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ لحَرْث الأرض، ولا هي مهيَّأةٌ للنَّضْحِ والسقي، بل هي مكرَّمَةٌ مُعْتَنًى بِها، صحيحةٌ لا عَيْبَ فيها، ولا شَيْءَ يُكَدِّرُ لَوْنَهَا الأصفر. فقالوا: الآن بَيَّنْتَ لَنَا. فَذَبَحوها، وَمَا كادوا أن يفعلوا ذلك بعد كلِّ هذا الإيضاح، وما غرضُهم إلا التعنُّت.


{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72].

72- واذكروا الحكمةَ من ***ِ البقرةِ الآنَ، فإنكم عندما قَتَلتُمْ نفساً واختلفتُمْ في ذلك وتَخاصَمتُمْ فيه، أرادَ الله أن يُظْهِرَ مَا كنتم تُغَيِّبونَ من الحقّ، فإنَّ القاتِلَ ما كان يَعْتَرِف.


{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].

73- فقلنا: اضربوا القتيلَ بجزءٍ من أجزاءِ البقرةِ المذبوحة، فسيحيا المقتول، ويذكُرُ قاتِلَهُ. وهذا مثالٌ لقدرةِ الله على إحياءِ الموتَى، وَصَيْرُورةِ الرميمِ إلى ما كان، وإن لم تُدْرِكُوا كُنْهَهُ، ولكنه درسٌ واقعيٌّ شاهدتموهُ عِياناً، لتعْقِلُوا وتَتفَكَّرُوا، وتُؤْمِنُوا بقدرةِ الله.


{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].

74- وبعد كلِّ هذه الآياتِ والنِّعَمِ والتحذيرات، قَسَتْ قلوبُكم فصارتْ كالحجارةِ التي لا علاجَ لِلِينها، وبعضُها أجدبُ وأَقْسَى مِنْهَا، فإنَّ من الحجارةِ ما تتفجرُ منه العيونُ الجارية، ومنها ما يَتشَقَّقُ فيخرجُ منه الماءُ وإن لم يكنْ جارياً، ومن الحجارةِ ما يهبِطُ من رأسِ الجبلِ خوفاً من الله، وقد دُكَّ الجبلُ عندما تجلَّى اللهُ له وَخَرَّ موسى صَعِقاً. وقلوبُكُمْ لا تَلِينُ، ولا تنْبِضُ بخشيةِ الله، والله ليس بِغَافِلٍ عن أعمالِكُمْ وقَساوَةِ قُلُوبِكُم، التي لا يُنْتَظَرُ منها سوى الأعمالِ السيِّئة، إنما هو تأخيرٌ إلى موعدِ محاسبتكم.


{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].

75- بعد أن تبَيَّنَتْ لكم طبيعةُ اليهود، في قساوةِ قلوبهم وتكذيبهم بآيات الله، أَفَتَطْمَعُونَ أيها المؤمنونَ أن يَنْقَادُوا لَكُمْ بالطاعة، وقد كان فريقٌ منهم، وهم أَحْبَارُهُم ورَبَّانِيُّوهُمْ، يسمعونَ التوراةَ ويعرفونَ معانِيَها، ثم يُؤَوِّلُونها تأويلاتٍ بعيدةً عَلَى غيرِ مَدْلُولها الصحيح، وَهُمْ يعرفونَ أنهم آثِمُونَ بذلك ؟!


{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76].

76- وإذا لَقِيَ اليهودُ أصحابَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قالوا: آمنا بأنَّ محمداً مُرْسَل، يعني على ما بَشَّرَتْ به التوراة، فإذا كانوا وَحْدَهُمْ قالوا لبعضهم البعض: كيف تُقِرُّون عندهم بصحةِ رسالةِ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – مِنَ التوراةِ لِيَكُونَ ذلك حُجَّةً لهم عليكم، فَيُحَاجُّوكم به عند ربكم، فَيَخْصِمُوكم، اعْقِلُوا إذًا، فَاكْتُمُوا وَاسْكُتُوا!


{أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77].

77- أَوَلا يعلمُ هؤلاءِ اليهودُ أن الله مُطَّلِعٌ عليهم، ويعلمُ ما يُبْطِنُونَ وما يُظْهِرُون، ويعلمُ أنهم يُسِرُّونَ بتكذيبِ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الأعراف: 157].


{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].

78- وَمِنْ أهلِ الكتابِ مَنْ لا يعرفونَ الكتابةَ ولا يدرونَ ما في التوراةِ، فَهُم لا يَتَكَلَّمُونَ إلاّ بِأَوْهَامٍ وَظُنُون، إنهُمْ لا يَفْقَهُونَ شيئًا، بل يَتَخَرَّصُونَ الأباطيل، وَيَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ بِالظَّنِّ.


{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].

79- وفريقٌ آخَرُ منكم يدعونَ إلى الضلال، فَيُزَوِّرُونَ ما في التوراة، يكتبونَ بأيديهِمْ ما ليس مِنْهَا ويقولونَ إنه مِنْ عند الله، وذلك مُقَابِلَ هَدَفٍ حَقِيرٍ وَطَمَعٍ زَائِل، هو أن يُعْطَوْا مُقَابِلَهُ مبلغاً زهيداً من المال. فالهلاكُ والدمارُ لهؤلاءِ المُزَوِّرِين، الذين يكتبونَ بأيدِيهِمْ من الكذبِ والبُهْتَانِ والافتراء، وَوَيْلٌ لَهُمْ من كَسْبِهِم الدِنيءِ وَمَا أكلوا به من السُّحْت.


{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80].

80- ومن جهلهمْ أن يقولوا إنهم لن يَبْقَوْا في العذابِ إِلا أيَّاماً معدودات، ثم يخرجونَ منها إلى النعيم. فَقُلْ لَهُمْ يا محمَّدُ – صلى الله عليه وسلم – هلِ اتَّخَذتُمْ بذلك عهداً عندَ الله؟ فإذا كان كذلك فإنه سبحانَهُ لا يُخْلِفُ عَهْدَهُ، ولكنْ متى كانَ هذا وكيف؟ إنهُ ما جرى ولا كان، بل هم يَكْذِبُونَ ويَفْتَرُون على الله.


{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81].

81- فليسَ الأمرُ كما قُلتُمْ ولا كما تَمَنَّيتُمْ، بل إنَّ من ارتكبَ ذنباً وجاءَ يومَ القيامةِ وليستْ له حسنةٌ، بل جميعُ أعمالهِ سيئاتٌ، فإنه من أهلِ النار. وهو حالُ الكافر.


{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82].

82- أَمَّا الذين آمنوا بالله ورَسُولِهِ وعملوا الأعمالَ الصالحة، فكانتْ موافقةً للشريعةِ وخالصةً لله، فإنهم من أهلِ الجنة، مُخَلَّدُونَ فيها أبداً.


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} [البقرة: 83].

83- واذكروا أيْضاً يا بني إسرائيلَ ما أَمَرناكمْ به وأخذْنَا ميثاقَكمْ عليه، وهو ألاّ تعبدوا إلا الله ولا تُشْرِكُوا به شيئاً، وهذا ما أُمِرَ به جميعُ الخلق، وهو حقُّهُ سبحانَهُ عليهم. ثم حَقُّ المخلوقينَ بأن يُحسِنَ كلٌّ إلَى وَالِدَيْهِ وَيُطِيعَهُمَا في غيرِ معصية، ويُحْسِنَ كذلكَ إلى أقرِبَائِهِ وَاليتَامَى، والمَسَاكِينِ الذين لا يجدونَ ما يُنْفِقُونَ على أنفُسِهِمْ وأهليهم. وأن تقولوا الكَلامَ الطيِّبَ والقولَ الحسن، في حِلْم وعَفْوٍ ولِينِ جانب، وخاصَّةً الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر. وأن تُقِيموا الصلاةَ لِرَبِّكُم، وَتُؤْتُوا الزكاةَ لأَهْلِها.. لكنكم أَعْرَضْتُمْ عن كلِّ هذه الأوامرِ وتَنَكَّرتُمْ لَهَا، إلا القليلَ منكم.


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].

84- واذكروا أيضاً أنّا أخذنا منكمُ الميثاقَ بأنْ لا يَقْتُلَ بعضُكُم بعضاً، ولا يُخْرِجَهُ من دياره، ولا يُظَاهِرَ عَلَيْه، وذلك أنَّ أَهْلَ المِلَّةِ الواحدة بِمَنْزِلَةِ النفسِ الواحدة. وقدْ أَقْرَرتُمْ بِهَذا الميثاقِ وصِحَّتِه، وَشَهِدْتُمْ به.


{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].


85- وَلَكِنَّكُمْ نَقَضْتُمُ الميثاقَ في هذا كما نَقَضْتُمُوهُ في غَيْرِه، فَصِرْتُمْ تَقْتُلُونَ بعضَكم بعضًا، فَفَرِيقٌ مَعَ الأوْسِ وَفَرِيقٌ مَعَ الخَزْرَج. كما تُخْرِجُونَ بعضَكم من بيوتِ بَعْض، وَتَنْهَبُونَ ما فيها من المالِ والمتاعِ وَتَأْخُذُونَ سَبَايَاهُمْ، وَتُقَوُّونَ أَعْدَاءَكُمْ على بعضِكُمُ البعضَ وَتُسَاعِدُونَهُمْ عَلَيْهِم، وإذا انتهتِ الحربُ صِرْتُمْ تَفُكُّون الأُسَارَى من الفريقِ المغْلُوبِ وَتُفَادُونَهُمْ ولا تَقتُلُونَهُمْ عملاً بِحُكْمِ التوراة، ولكنْ لماذا تعملونَ هنا بالتوراةِ بينما تُنَاقِضُونَ أَحْكَامَهَا فِيمَا مَضَى وَيَقتُلُ بعضُكم بعضاً فِي الحَرْبِ وهو مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ؟ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ التوراةِ وَتَكْفُرُونَ بالبعضِ الآخرِ فيه؟

إنَّ جَزاءَ من يكونُ كذلكَ هو الخزيُ والعارُ في الحياةِ الدنيا، كما كان عاقبتَكم، من ال***ِ والسبي، والجلاءِ والنفْي، وهو بسببِ مُخالَفَتِكُمُ الشرعَ. أمَّا يومَ القيامة، فالعذابُ الشديد، جزاءَ كتمِكُمْ ما في كتابِ الله وعصيانِكُمْ أَحْكَامَهُ، والله ليس بِغَافلٍ عن هذا كُلِّهِ، بل يُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ لِيُحَاسِبَكُمْ يَوْمَ القيامة.


{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 86].

86- فَإِنَّ جزاءَ من استَحَبَّ الدنيا وفضَّلَهَا ولم يحْسَبْ حسابَ الآخرة، هو ألاّ يُخَفَّفَ عنه العذابُ، ولا يُدافَعَ عنه، ولا يُنْقَذَ منه.


{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].

87- واذكروا أيها اليهودُ من مواقِفِكمْ في مخالفةِ الأنبياءِ ومُعانَدَتِهِمْ واتِّباعِ أهوائكم في ذلك، أنْ آتينا موسى التوراةَ، التي حَرَّفْتُمُوها وبَدَّلْتُمُوها، وخالفتُم أوامِرَها وأوَّلتُموها. وأَتْبعناهُ برسلٍ آخرينَ كانوا يحكمونَ بما في التوراة، حتى جاءَ عيسى ختامُ أنبياءِ بني إسرائيل، فأيَّدناهُ بالمعجزاتِ الكبيرة، كالإخبارِ بما في الغيب، وإبراءِ المرضى، وإحياءِ الموتَى بإذنِ الله. وقوّْيَناهُ بجبريلَ كذلك، يكونُ معه ويُصَدِّقُ ما جاءَكم به، وأنزلنا عليهِ الإنجيلَ فيه مخالفةٌ لِبَعضِ أحكامِ التوراة، فما وافقَ ذلك أهواءَكم ونزواتِكم المتقلِّبة، مع كلِّ ما أُيِّدَ به، فعاندتموهُ وتعالَيْتُمْ على موافقته، وانصرفتمْ إلى مُجادَلَتِهِ ومُخالَفته. أَوَكُلَّمَا أرسلنا إليكمْ رسولاً استكبرتمْ عن قبولِ الحقّ، ففريقٌ منكم يكذِّبهم، وآخرُ ي***هم؟!


{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88].

88- وقال اليهود: قلوبُنَا مُغَلَّفَة لا تَنْفُذُ إليها دعوةُ الإسلامِ ولا تقبلها! بل قلوبُهُم مَلْعُونةٌ مُبْعَدَةٌ من رحمةِ الله وهُدَاه، فَطُبِعَ عليها بالكفرِ لرفضِها وخِذْلانِها عن قبولِ الحق. فإيمانُهم قليل، أو إِنَّ القليلَ منهم يؤمن.


{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].

89- ولمّا جاءَ اليهودَ القرآنُ الكريم، المُنزَلُ على محمَّدٍ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مُصَدِّقٌ لما في التوراة، وكانوا قبلَ مبعثهِ – صلى الله عليه وسلم – يستنصرونَ به على أعدائهم المشركينَ إذا قاتلوهم، يقولون: إنَّ نبيًّا يُبْعَثُ نتَّبعُه، قد أظلَّ زمانُهُ، ن***كمْ معهُ قَتْلَ عادٍ وإرَم. فَلَمَّا بُعِثَ – صلى الله عليه وسلم – من قريشٍ وهم يعرفونَ أَنَّهُ هو، بصفاته، كفروا به وجَحَدُوا ما كانوا يقولونَ فيه؛ لأنه ليس منهم، فلعنةُ الله عليهم بسبب كفرهم، وسُخْطُ اللهِ وعَذابُهُ على الجاحدينَ بمحمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم.


{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90].

90- فَبِئْسَتِ التجارةُ تجارتُهم أن شَرَوُا الحقَّ بالباطل، فكفروا بما جاءَ به محمَّدٌ – صلى الله عليه وسلم - حَسداً وبُغضاً وتكبُّراً أن لم يكنْ منهم. و{وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، فيصطفي مَن يشاءُ من عبادهِ لتَحَمُّلِ أعباءِ الرسالة، وَلَيْسُوا هم الذين يحدِّدونَ الرسول.

لقد استحقُّوا بِهَذا غَضَباً مضاعفاً: عندما ضيَّعوا التوراةَ وهي معهم، ثم كُفْرُهم بالنبيٍّ – صلى الله عليه وسلم.

وقَدْ خَسِرُوا في تجارتهم عندما لم ينضمُّوا إلى لواءِ الإسلامِ المجيد، كما سَيَنْدَمُونَ في الآخرةِ بما ينتظرهم من العذابِ جَزَاءَ كُفْرهم هذا، وسوفَ يكونُ عذاباً مَهِيناً وَمُذِلاًّ لَهُم.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 91].

91- وإذا قيلَ لليهودِ أو أهلِ الكتابِ عامَّةً آمِنوا بما أُنْزِلَ على النبيِّ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – وصَدِّقُوهُ واتَّبِعُوه، قالوا: نكتفي بما أُنْزِلَ علينا من التوراةِ والإنجيل، وفيهما الحقّ، ولا نُقِرُّ بغيرهما، فيكفرونَ بالقرآن، وهم يعلمونَ أنه مُصَدِّقٌ لِمَا فِيهِمَا، وهم كاذبونَ عَنِيدُون.

فقلْ لهم يا محمَّد: إذا كنتم تَدَّعُونَ صِدْقَ الإيمانِ فيما أُنْزِلَ عليكم، فَلِمَ قَتَلْتُمُ الأنبياءَ الذين جاؤُوكم بتصديقِ التوراةِ والحُكْمِ بها وأنتمْ تعلمونَ صِدْقَهُمْ؟ بَلْ هُوَ الْهَوَى والتشهِّي، والبغي والاستكبار، وليس هذا من صفاتِ المؤمنين.


{وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 92].

92- وقد جاءكمْ موسى عليه الصلاةُ والسلام بِدَلائِلَ قاطعة، وآياتٍ واضحة، كالطوفان، والجراد، والعصا، وفَلْقِ البحر، وغيرِها الكثير، ثم اتَّخذتُمُ العِجْلَ مَعبوداً من دونِ الله، في زَمَانِهِ وآياتِهِ، وكان في الطُّورِ يُنَاجِي رَبَّهُ!! فكنتُمْ بذلك ظالمينَ عاصين، لا مؤمنينَ كما تَدَّعُون.


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 93].

93- ومن إِعْرَاضِكُم عن الحقِّ ومخالفتِكم للميثاق، عندما رَفَعْنَا فوقكم الجبل، وأخذنا عليكم العهدَ بالإيمانِ والطاعةِ بِقُوَّةٍ وَإِرادَةٍ وعزمٍ وإلا سقطَ عليكم، فاستجبتُم لذلك، ولكنكم عُدْتُم إلى عِصيانكم وَعِنَادِكُم واتِّبَاعِ هواكم.

لقد أُشْرِبَ في قلوبهمْ حبُّ العجلِ وعبادتهُ بكفرهم، وكأنَّهُ مَوقِفُهُمُ المفضَّلُ بعد كلِّ أمر! فبئسَ هذا الإيمان، إن كانَ مِنْ إيمانٍ، الذي يأمركم بالكفرِ بآياتِ الله ومخالفةِ الأنبياء، ثم الكفرِ بما أُنْزِلَ على محمَّدٍِ – صلى الله عليه وسلم – خاتمِ النبيِّين، المبعوثِ للناسِ أجمعين.

فكيف تدَّعونَ الإيمانَ بما عندكم وَقَدْ نَقَضتُمْ هذهِ المواثيق، وكفرتُمْ بآياتِ الله، وعَبَدْتُمُ العِجْل؟!


{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94].

94- يقولُ الله سبحانَهُ لرسولهِ محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – قُلْ لِلْيَهُود: إذا كنتُمْ تَزْعُمُونَ أنكمْ وَحْدَكُمُ الفَائِزُونَ يومَ القيامةِ دونَ سائرِ الأمم، فَتَعَالَوْا إلى المباهَلَة، بأنْ يقفَ فريقٌ من المسلمين، وفريقٌ من اليهود، ويدعُوَا اللهَ بِمَوْتِ الكاذبِ منهما.


{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} [البقرة: 95].

95- وَلَنْ يَتَمَنَّوُا الموتَ أبداً، بما جَنَتْ أَيْدِيهِمْ واقترفتْ من آثام، ولمِا يعلمونَ من مآلهم السيِّئِ وعاقبتِهمُ الخاسرة. فما استجابوا لِلْمُبَاهَلَةِ، وهم يعلمونَ أنهم إن طَلَبُوا الموتَ خافُوا أنْ يَسْتَجِيبَ الله فَيَأْخُذَهُمْ، وهم يعلمونَ ما قَدَّمُوا مِنْ عَمَل، واللهُ عليمٌ بهم وبما صدرَ عنهم من أنواعِ الظلمِ والمعاصي المفضيةِ إلى العذاب.


{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96].

96- وستجدهم أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى طُولِ العُمر، وَوَدُّوا لَوْ عُمِّرُوا أَلْفَ سنة؛ لمعرفتهم بمآلهمُ السيِّئ، بل يَوَدُّونَ لو تَأَخَّرُوا عن يومِ الحسابِ بما أَمْكَنَهُم، لمِا يَتَوَقَّعُونَ ما ينتظرهم. وكذا المشرك، لأنَّهُ لا يَؤْمِنُ بِيَوْمِ البعث، والدنيا جَنَّتُهُ، ولا حَظَّ له في جَنَّةِ الْخُلْد، بل ينتظرهُ العذابُ، مَهْمَا عُمِّرَ في الدنيا، فلا مَنْجى من الحسابِ والعقاب، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِمَا يعملُ الجميعُ، من خيرٍ وشرّ.


{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97].

97- لقد زعمتِ اليهودُ أن جِبْرِيلَ -عليه السلام- عَدُوٌّ لَهُمْ، لأنه وَلِيُّ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَو كانَ وَلِيَّهُ غَيْرُهُ لاتَّبَعُوهُ، كما في الحديث الصحيح! اخترعوا هذه القصَّةَ المُضحكةَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ بِالوَحْيِ على النبيِّ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم –، وما هُوَ إِلا عبدٌ مُنَفِّذٌ، لاا يَزيدُ على ما أمرَهُ اللهُ به، وقد قالَ لهم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّ وليِّي جبريلُ عليه السلام، ولم يَبعثِ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ)) كما رواهُ أحمدُ وغيرُهُ بإسنادٍ صحيح. فَقُلْ لَهُمْ: من كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإنَّهُ الروحُ الأمينُ الذي نَزَلَ بالقرآنِ على قلبِكَ بإذنِ اللهِ ومَشِيئَتِه، الكتابِ المصدِّقِ للكتبِ السماويةِ المُتَقَدِّمَة، هُدًى لِلْقُلُوبِ المؤمنة، وتبشيراً لهم بالجنَّة.


{مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98].

98- إنَّ مَنْ عَادَى رَسولاً فقد عَادَى جَمِيعَ الرسُل، وَمَنْ آمَنَ برسولٍ فعليهِ أن يؤمنَ بجميعِ الرسُل، كما أنَّ مَنْ كَفَرَ بِرَسُولٍ فقد كفرَ بجميعِ الرسُل. يقولُ اللهُ سُبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء150، 151].

ومَنْ عادَى اللهَ وملائكَتَهُ وأنبياءَهُ ورُسُلَهُ، وبَينَهُمْ جبريلُ وميكالُ، فإنَّ اللهَ عَدُوٌّ لَهُمْ لكفرهم، ومن عاداهُ اللهُ باءَ بالخسرانِ حتماً.


{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].

99- ولقد أنزلنا إليكَ يا محمَّدُ (صلى الله عليه وسلم) دَلائِلَ وَعَلامَاتٍ واضحاتٍ على نبوَّتِكَ وصدقِ ما جئتَ به، ولا يكفرُ بها إلا الفاسقونَ المنحرفونَ عن الفطرةِ السليمة.


{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].

100- أَوَكُلَّما عَاهَدَ اليهودُ على الالتزام بأمرٍ نَكَلَ فريقٌ منهم ورفضَ العهدَ؟ وهذا دأبهم حتى خانوا العهدَ الذي أبرموهُ مع الرسولِ – صلى الله عليه وسلم – عند مَقدَمهِ إلى المدينة.. بل أكثرهم لا يؤمنونَ بالرسولِ المبعوثِ إليهم وإلى الناسِ كافَّة، الذي يجدونَ صفتَهُ في كتبهم، وقد أُمِرُوا باتِّباعهِ ومناصرته.


{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101].

101- ولما بُعِثَ الرسولُ الذي انتظروه، وقد جاءَ مُصَدِّقاً لما معهم من الكتابِ عامَّة، طَرحتْ طائفةٌ منهمُ الكتابَ الذي بأيديهم وراءَ ظهورهم، لمِا فيه من البِشارةِ بمحمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – وكأنهم لا يعلمونَ ما فيها!

لقد تركوا الكتابَ وأقبلوا على السِّحر! تركوا ما ينفَعُهُمْ وأقبلوا على ما يَضُرُّهُمْ ويَضُرُّ غَيْرَهُمْ، كما يأتي.


{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].

102- واتَّبَعَ اليهودُ الذين أَعْرَضُوا عن التوراةِ وخالفوا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – اتَّبعوا ما ترويهِ الشياطينُ وتُخْبِرُ به في مُلْكِ سليمانَ، وتَكْذِبُ عليه وتقول: إِنَّهُ كان ساحراً، وإنَّ ما سُخِّرَ له كان بما يستخدمهُ من سحر. وكان عليه السلامُ نبيًّا كريماً قانتاً، وما كان كافراً كما قالتْ يهودُ أوِ الشياطينُ لَعَنَهُمُ اللهُ {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، ولكنَّ الشياطينَ هم الذين كفروا، حيث يُعَلِّمُونَ السحر. وَلَمْ يَنْزِلِ السحرُ على المَلَكَيْنِ هارُوتَ وَمَارُوتَ في بابل، بَلْ كانا هناك لحكمةٍ لا نعرفها، وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبادَهُ بما شاء.

فإذا أَتَاهُمَا مَنْ يريد تَعَلُّمَ السحرِ قالا لهم: إنما نحن هنا فتنةٌ وابتلاء، فلا تعملوا بالسحر، فإنَّ من اعتقدَ بحقيقتهِ وجوازِ العملِ به كَفَر، فيتعلمونَ من علمِ السحرِ ما هو مذموم، من شرٍّ وأذًى، فَيُفَرِّقُون بين الزوجين، مع ما جعلَ اللهُ بينهما من محبَّةٍ ورحمة. على أنهم لا يتمكَّنونَ من الضررِ بأحدٍ إلا إذا قدَّرَ الله وخلَّى بين السحرةِ وما أرادوا، فإذا شاءَ سلَّطهمْ على المسحور، وإذا لم يشأ لم يسلِّطهم، فلا يستطيعونَ مضرَّةَ أحدٍ إلا بإذنِ الله.

وهكذا صاروا يتعلمونَ ما يضرُّهم في دينهم ولا ينفَعُهُمْ، لأنهم يقصدونَ به الشرّ. وقد علمَ اليهودُ الذين استبدلوا السحرَ بالإيمانِ ومتابعةِ الرسولِ – صلى الله عليه وسلم – أنهم ليس لهم نصيبٌ عند الله في الآخرة، فَبِئْسَتِ التجارةُ تجارتهم.

قال ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ في قصَّةِ هاروتَ وماروت: حاصلُها راجعٌ في تفصيلِها إلى أخبارِ بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديثٌ مَرْفُوعٌ صحيحٌ مُتَّصِلُ الإسنادِ إلى الصادقِ المصدوقِ المعصومِ الذي لا ينطقُ عن الهوى. وظاهرُ سياقِ القرآنِ إجمالُ القصَّةِ من غيرِ بسطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحن نؤمنُ بما وردَ في القرآنِ على ما أرادهُ اللهُ تعالى، واللهُ أعلمُ بحقيقةِ الحال.


{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103].

103- ولو أنهم آمَنوا واتَّقَوُا اللهََ فاجتنبوا ما حرَّمَ الله من سحرٍ وشرك، ومخالفةٍ للأنبياء، لكانَ أجرُهم عند اللهِ خيراً من هذا الذي رَضُوا به لأنفسِهم من باطلٍ وشرّ.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104].

104- أيها المؤمنون، لا تتشبَّهوا باليهودِ والمشركينَ في مقالهم وفَعالهم، ولا يكنْ في كلامِكمْ توريةٌ فيها تنقيصٌ، فَلا تَقُولُوا: ((رَاعِنَا))، الذي فيه توريةٌ بالرعونة، وهو الهوَجُ والحُمْق، مثلما يقولُ اليهودُ لرسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ولو كان قصدَكم أنتم المراعاةُ والمراقبةُ والتأنِّي، ولكنْ قولوا: ((انْظُرْنا)) أي أَنْظِرْنَا وَأَمْهِلْنَا.

ولليهودِ الكافرينَ عذابٌ موجعٌ لما اجترؤوا عليه وَجَعَلُوا ما يقولونَ سبباً للتهاونِ برسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم.


{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].

105- إِنَّ الكُفَّار – سواءٌ كانوا مشركينَ أو من أهلِ الكتاب – شديدو العَدَاوَةِ لَكُم، ولا يريدونَ لكمُ الخيرَ ألبتَّة، فلا تَتَشَبَّهُوا بهم ولا تُوَادُّوهُمْ، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ تَغْلِي بالحقدِ والحسدِ على ما خَصَّكُمُ اللهُ به من رحمتهِ الواسعةِ وفَضْلِهِ الكَبِير، فَأَنْزَلَ الوحْيَ عَلَى مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – وهو بين ظَهْرَانَيْكُمْ، فَاسْتَمْسِكُوا بهذا الذي يَحْسُدُونَكُمْ عليه، واشْكُروا فضله، لِيَحْفظَهُ فيكم ويزيدَكُمْ منه – وليس هناك أجلُّ من نعمةِ الإيمانِ والاستجابةِ لدعوةِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فاحرصوا على ذلك.


{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106].

106- ما نُبَدِّلُ من آية، أو نَنْقُلُ حكماً منها إلى غيره، كتحويلِ أمرٍ إلى نهي، أو محظورٍ إلى مباح، من التشريعاتِ والتكاليفِ التي تلائمُ أحوالَ الناسِ وأمورَهم المتطوِّرة، أو نُنْسِيهِ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ونمحو ما نشاء، إلا كان الذي أُثْبِتَ خَيْراً من السابقِ أو مثلَهُ، حسبَ مُقْتضَياتِ الأحوالِ وصلاحِ البشريَّة، واللهُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فهو القادرُ على كلِّ شيء.


{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 107].

107- ألم تعلمْ أيهاالنبيُّ محمَّدُ – صلى الله عليه وسلم – أن اللهَ هو المُتَصرِّفُ في خَلقه كما يشاءُ دونَ غيره، فلهُ الأمرُ والنهيً لا لغيره، وينسخُ ويبدِّلُ، ويغيِّرُ ويقرُّ من الأحكامِ لعبادهِ ما يشاء، فهو أعلمُ بهم وبما يُصْلِحُهُمْ وَيُصْلِحُ أحوالهم، وما عليهم إلا السمعُ والطاعةُ في تنفيذِ ما أَمَر، والكفُّ عَمَّا نَهَى. وَلَيْسَ للمؤمنينَ وَلِيٌّ يُقَوِّيهِمْ ويَهديهم، ولا نصيرٌ يؤيِّدُهم وينصرُهم إلا الله، فكونوا على حذرٍ من تشكيكِ أعدائكم، واحذروا أَضَالِيلَهُمْ وَخُدَعَهُمْ.


{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} [البقرة: 108].

108- أم تريدونَ – لبعضِ الصحابة – أن تسألوا رسولَكُم على وجهِ التَّعَنُّتِ كما سألتْ بنو إسرائيل نَبِيَّهُمْ موسى -عليه الصلاةُ والسلامُ- تكذيباً وعناداً؟

فاحذروا، واعلموا أن من يستبدلِ الكفرَ بالإيمانِ فقد خرجَ عن الطريقِ المستقيمِ إلى ظلماتِ الجهلِ ودَرَكِ الضلال، وهو حالُ من كان يقترحُ على الأنبياءِ الأسئلةَ التي لا يحتاجونَ إليها على وجه التَّعَنُّتِ والكفر، فَيَعْدِلُون عن تصديقِهم واتِّبَاعِهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم، فإيّاكم وهذا، وإيَّاكُمْ أن يَقُودَكُمُ اليهودُ إِلَى مثلِ هذا، فَإِنَّ نِهَايَتَه الضَّلالُ.


{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].

109- إِنَّ كثيراً من اليهودِ والنصارَى يَتَمَنَّوْنَ لو قَدَرُوا عَلَى أَنْ يُعِيدُوكُمْ إلى الكفرِ كما كنتم، وَأَنْ يَسْلُبُوا منكم هذا الخيرَ الذي هُدِيتُمْ إليه؛ حسداً وحقداً من نفوسهم الشِّرِّيرَة، التي لا تحبُّ الخيرَ للناس، بَعْدَما تَبَيَّنَ أن محمَّداً رسول الله، كَمَا يَجِدُونَهُ مكتوباً عِنْدَهُمْ في التوراةِ والإنجيل، فَكَفَرُوا به حسداً وَبَغْياً أنْ لم يَكُنْ مِنهُمْ.

ولكنْ لا تقابلوهم أنتم بهذا الخلقِ السيِّئ، بل كونوا أَرْفَعَ من هذا وأعلى، فَلا تُؤَاخِذُوهم ولا تؤنِّبوهم، بل اعْفُوا واصفَحوا الآن، حتى يأتيَ أمرُ الله، وهو الإِذْنُ بالقتال، أو هو ***ُ بني قُرَيْظَة، وَإِجْلاءُ بني النَّضِير – وإِذْلالُهُم بضربِ الجِزْيَةِ عليهم. والله قادرٌ على كلِّ شيء، فينتقمُ منهم إذا حانَ وقته.


{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].

110- وَصَلُّوا للهِ وداوموا على عبادته، وادفعوا زكاةَ أموالكم، واشتغلوا بما ينفعُكم وتَعُودُ عاقبتُهُ عليكم بالخيرِ يومَ القيامة، فإنكم مَهْمَا عَمِلْتُمْ من خيرٍ أو شرّ، في السرِّ أو في العَلن، فإنهُ بصيرٌ به، يَدَّخِرُهُ لكم حتى يحاسبَكم عليه، فَكُلٌّ يُجَازَى بعمله.

رامي ب
15-05-2015, 05:42 PM
بارك الله فيك ....

رامي ب
15-05-2015, 05:43 PM
بارك الله فيك ....................

ابو وليد البحيرى
28-05-2015, 05:05 AM
الواضح في التفسير


(الحلقة الرابعة)



أ. محمد خير رمضان يوسف

سورة البقرة

(الآيات 111 – 141)




بسم الله الرحمن الرحيم



{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].


111- واغْتَرَّ أهلُ الكتابِ من اليهودِ والنصارى عندما ظنُّوا أنهم وحدَهم على الحقّ، فقالتْ كلُّ فرقةٍ منها: لن يدخلَ الجنةَ إلا من كانَ يهودياً أو نصرانياً. وهي أُمْنِيَّةٌ تَمَنَّوْهَا على اللهِ بغيرِ حقّ، وادِّعَاءٌ لا يستندُ إلى دليل، فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ (صلى الله عليه وسلم): ما هي حُجَّتُكُمْ في ذلك؟ اذكروها إنْ كنتم صادقينَ فيما تدَّعونه.







{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].

112- إن القاعدةَ في الأمر، هي أنَّ مَنْ أسلمَ وجهَهُ للهِ بالطاعة، واتَّبَعَ هَدْيَ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم –، وأحسنَ في عملهِ بالإخلاص، فهذا أجْرهُ مضمونٌ عند الله، فلا يَخَافنَّ على ما يستقبله، ولا يحزننَّ على ما تركه.

وَعَبَّرَ بالوجه، لأنه أشرفُ الأعضاء، ومجمعُ المشاعر، وموضعُ السجود، ومظهرُ آثارِ الخضوع، الذي هو من أَخَصِّ خصائصِ الإخلاص، كما قال أبو السعودِ في تفسيره.


{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].

113- ثم ادَّعَى كُلُّ طرفٍ ضَلالَ الآخَرِ وتَنَاقُضَهُ، مع بُغضهِ وعداوتهِ له، فقالتِ اليهود: إن النصارى ليستْ على حقّ، كفراً بِنُبُوَّةِ عيسى - عليه السلام – والإنجيلِ، وقالتِ النصارى: ليستِ اليهودُ على حقّ، جحداً بنبوةِ موسى -عليه السلام- وكفراً بالتوراة، كما حدثَ لوفدِ نجرانَ مع أحبارٍ لِلْيهودِ عند رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – في حديثٍ سندهُ حسن. بينما كُلٌّ يتلو في كتابهِ تَصديقَ مَنْ كفرَ به!وكَلٌّ منهما كان مشروعاً في وقته، ولكنهم تجاحدوا ذلك عِناداً وكفراً، ومقابلةً للتضليلِ بالتضليل. وأطرافُ وطوائفُ أخرى قالتْ ذلك.. فالله يجمعهم جميعاً في يومِ المعاد، ويفصلُ بينهم بقضائهِ العدل، ويَقْسِمُ لكلِّ فريقٍ ما يستحقُّهُ من العقاب .


{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].

114- وليس هناك أظلمُ ممنْ منعً ذكرَ الله في المساجد، وسعَى في تعطيلها أو هدمِها وخرابها، وما كان ينبغي لهؤلاءِ إلا أن يدخلوها بِخَشْيَةٍ وخضوع، فضلاً من الاجتراءِ على تخريبِها أو تعطيلِها. وقد تجرَّأَ المشركونَ فَمَنَعُوا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم - يومَ الحُديبيةِ من دخولِ المسجدِ الحرام! فلا تُمَكِّنُوا أحداً منهم – إذا قدرتمْ على ذلك – من دخوله، إلا تحتَ الهدنةِ والجزية.

وقد مُنِعُوا حقًّا عندما نَصَر اللهُ الإسلام، كما أوصى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- أن تُجلى اليهودُ والنصارى من جزيرةِ العرب، فكان ذلك خزياً لهم لا يوصَف، بال***ِ والسبيِ والإذلال، ولهم عذابٌ كبيرٌ على ما انتهكوا من حرمةِ البيتِ وامتهنوه، من نَصْبِ الأصنامِ حوله، والدعاءِ إلى غيرِ اللهِ عنده، وغيرِ ذلك من أفاعيلهم المنكرة.


{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].

115- الأرضُ كلًّها لله، شرقُهَا وغربُهَا، لا يختصُّ بمُلكِها والتصرُّفِ فيها إلا هو سبحانه، وإذا مُنعتم من العبادةِ في المسجدِ الأقصى، أو المسجدِ الحرام، ففي أيِّ مكانٍ أدَّيتمُ الصلاةَ وتوجهتُمْ فيه نحوَ القبلة، فهُناك الجهةُ التي أمرَ اللهُ بها، وعلمهُ محيطٌ بجميعِ المعلومات، وهو برحمتهِ يريدُ التوسعةَ على عباده، فهو العليمُ بمصالحهم وأعمالهم في الأماكنِ كلِّها.

وفي حديثٍ قد يكونُ حسناً بشواهده، أن طائفةً من الصحابةِ كانوا في سريَّة، فاختلفوا في اتجاهِ القبلةِ ليلاً، فلما أصبحوا تبيَّنَ أنهم اتَّجهوا إلى غيرِ القبلةِ في صلاتهم، فنزلتِ الآيةُ الكريمة.

وقال ابنُ الجوزي في ((نواسخ القرآن)): هذا الحكمُ باقٍ عندنا، وإن من اشتبهتْ عليه القبلةُ فصلى بالاجتهاد، فصلاتهُ مجزيَّةٌ صحيحة.


{وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116].

116- وقالتِ النصارى ومن أشْبَهَهُمْ من اليهود، وبعضُ مشركي العرب، قالوا: اتَّخذَ اللهُ ولداً!! تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عن ذلك علوّاً كبيراً. لقد كذَبوا واقْتَرَفُوا إثماً كبيراً بهذا القول، فله تعالى ملكُ السماواتِ والأرض، وهو المتصرِّفُ في أحيائها وجماداتها، وهو خالقُهم ورازقُهم، ومقدِّرُهم ومسيِّرُهم كما يشاء، فالجميعُ عبيدٌ له وملكٌ له، فكيف يكونُ له ولدٌ منهم، والولدُ يكونُ مُتَوَلِّداً من شيئينِ متناسبين، واللهُ ليس له مثيلٌ ولا نظير، ولا صاحبةَ له، فكيف يكونُ له ولد؟ فهو الربُّ، والكلُّ مربوبٌ تحت مشيئته.


{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة: 117].

117- إنه خالقُ السماواتِ والأرضِ على غيرِ مثالٍ سَبَق، في وحدةٍ وتناسقٍ كونيٍّ رائع، وهندسةٍ ونظامٍ فائق، وتوازنٍ بيئيٍّ وحيوانيِّ موافق، يشهدُ جميعُها بدلالتها على الواحدِ الأحد، فهو بارئها ومُوجِدُها من غير أصل، وعلى غيرِ مثال، فإنما أمرهُ – جَلَّتْ عَظَمَتُهُ – إذا قدَّرَ أمراً وأرادَ إيجادَهُ قال: ((كُنْ))، فيوجدُ على وفْقِ ما أراد. وكذا كان أمرُ عيسى عليه السلام.. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].


{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118].

118- وقال المشركونَ الأُمِّيُّونَ لمحمَّدٍ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – في تَحَدٍّ وعناد: لِيُكَلِّمْنَا الله، أو لِيَنْزِلْ علينا أمرٌ خارقٌ، كذلك كان اليهودُ وغيرُهم، عندما طلبوا من أنبيائهم أموراً خارقة، في استكبارٍ وتعنُّت، كما طلبَ قومُ موسى -عليه السلام- أن يروا اللهَ جهرة، فقد تشابهتْ قلوبهم في الكفرِ والضلال. وقد وَضَّحْنَا بالأدلةِ صِدْقَ الرسلِ بما لا يحتاجُ إلى أمورٍ خارقة، وَهِيَ كَافِيَةٌ لمن أرادَ الإيمانَ والطاعة. أما المعاندُ المستكبر، فلا تفيدهُ الأدلةُ ولا الخوارق.


{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119].

119- أيها النبي، لقد أرسلناكَ بالصدقِ وَمَعَكَ القرآنُ، تُبَلِّغُ الدِّينَ وَتُؤَدِّي الأمانةَ، تُبَشِّرُ الطائعينَ بالجنة، وَتُنْذِرُ العاصينَ بالنارِ يومَ القيامة، ولن تُسْأَلَ عن كُفْرِ مَنْ كَفَرَ بِك، فإِنَّما تَبِعَتُهُمْ على أنفسهم.


{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

120- وليستِ اليهودُ ولا النصارى براضينَ عنك أبداً يا محمَّدُ (صلى الله عليه وسلم) ولو قدَّمتَ إليهمُ الأدلةَ تِلْوَ الأدلة، أو تَوَدَّدْتَ لهم ما تودَّدَت، فلا يَنْقُصُهُمُ الاقتناع بأنكَ على الحقّ، إنما هي العقيدةُ والتعصُّبُ والتقليد، فَلَنْ يَرْضَوْا عنكَ حتى تعتنقَ دينَهُم، وتَتَّبِعَ أَقْوَالَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ، وتتركَ ما معكَ من الحقّ! فَدَعْ طَلَبَ ما يُرْضِيهِمْ ويوافِقُهم، وأقبِلْ على طَلَبِ رضا الله بدعوتهم إلى الحقّ، فإن الدينَ المستقيمَ الصحيحَ الكاملَ هو ما بعثكَ الله به، وما عداهُ فليس بِهُدًى، ولا مساومةَ على الإيمانِ الحقّ، في صغيرٍ منه أو كبير، فمن شاءَ فليؤمنْ بذلك، ومن أرادَ غيرَ ذلك فهو حرّ. فإذا تابعتَهُم في آرائهم الزائفة، ومقولاتِهُم الفاسدة، وطرائقِهُم الملتوية، بعد ما نزلَ عليكَ الوحْيُ، وعلمتَ أن دينكَ هو الصحيح، فقد ملتَ عن الهدى، ولن يكونَ اللهُ والياً أمرَك، ولا ناصرَكَ ومؤيِّدَك، ولن يدفعَ عنكَ عقابه.

وهذا من بابِ التهيِيجِ والإلهاب، ولا يُتَوَهَّمُ إمكانُ اتِّباعهِ – صلى الله عليه وسلم – لهم، ولكنه تنبيهٌ لأمَّتهِ على الحذرِ من أهلِ الكتاب، الذين لا يفيدهم أيُّ تنازلٍ بالحوارِ وغيره، ولن يَرْضَوْا إلا بالانضواءِ تحت مظلَّةِ دينهم.


{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121].

121- إن الذين أنزلنا علَيْهِمُ الكُتُبَ من المتقدِّمين، فأقاموها حَقَّ إقامتها، وآمنوا بها حقَّ الإيمان، دون تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ ولا تَأْوِيل، وَصَدَّقُوا ما فيها مِنَ الأخبار، من ذلك مبعثُ محمَّدٍ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وفيها صفتهُ والأمرُ باتِّباعهِ ونُصْرَتِه؛ قادَهُمْ هذا الالتزامُ إلى الحقِّ واتِّباعِ الخير، ومن لم يلتزمْ بذلك وكفرَ كان أمرهم إلى خُسْرَانٍ ظَاهِر، حيث اشْتَرَوُا الكفرَ بالإيمان.


{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 122].

122- يا بني إسرائيل، اذكروا النعمَ التي أنعمتُها عليكم، منها تفضيلكم على العالمينَ - في وقتِ ما - فلا تحسدوا بني عمِّكمْ من العربِ على ما رَزَقَهُمُ الله من إرسالِ الرسولِ الخاتمِ منهم ولا يَحْمِلَنَّكُمُ الحسدُ على مخالفتهِ وتكذيبه – صلى الله عليه وسلم.


{وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123].

123- واحذروا حسابَ ذلك اليومِ، الذي لا تقضي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً من الحقوقِ والجزاء، ولا يُقْبَلُ منها فديةٌ، ولا يُفِيدها واسطةُ أحد، ولا يُنْتَصَرُ لهم فيُمْنَعُوا من العذاب.


{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].

124- واذكرْ أيها النبيُّ لهؤلاءِ المشركينَ وأهلِ الكتابين، الذين يدَّعُونَ أنهم على ملَّةِ النبيِّ إبراهيمَ وليسوا عليها، اذْكُرْ لهم شأنَ هذا النبيِّ العظيم، الَّذي اخْتَبَرَهُ اللهُ بِأَوَامِرَ وَشَرَائِعَ وَنَوَاهٍ، فقامَ بها كُلَّهَا، فجزاهُ اللهُ خيراً على ما فعل، وقالَ له: سأجعلُكَ قدوةً وإماماً للناسِ يقتدونَ بكَ في التوحيد، ويحذونَ حذوك، فسألَ عليه السلامُ أنٍْ تكونَ هذه الإمامةُ في ذُرِّيَّتِهِ أيضاً، فأجيب: سيكونُ منهم من لا يفي بالأوامرِ والتكاليف، بل يظلمُ ويفسق، ولن يكونَ عهدُ الإمامةِ لأمثالِ هؤلاء، فشأنُها عظيم، بل لمن يختارُهُمُ اللهُ من أهلِ الإيمانِ والصلاح.


{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].

125- واذكرْ أيضاً -أيها النبيُّ- أننا جعلنا البيتَ الحرامَ مثوًى ومرجعاً للناسِ ومهوًى لهم، يأتونَ إليه من كلِّ مكانٍ بشوق، ويعودونَ إلى أهليهم وهم لا يرونَ أنهم قَضَوا منه حاجتَهم. وجعلناهُ أمناً لهم، فلا يعتدي عليهم أحدٌ وهم هناك، بل إنه حتى الحيواناتُ في أمانٍ هناكَ فلا تُصاد.

واجعلوا من مقامِ إبراهيمَ مكاناً تصلُّونَ فيه، وهو الحَجَرُ الذي كانَ يقومُ عليه لبناءِ الكعبة.

وفي حديثِ عمرَ الصحيحِ عند البُخَارِيِّ قولُهُ – رضي الله عنه-: ((وافقتُ ربِّي في ثلاث، فقلت: يا رسولَ الله، لو اتَّخذنا من مقامِ إبراهيم مُصَلًّى، فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}...

وأمرنا إبراهيمَ وإسماعيلَ -عليهما السلام- بأنْ يطهِّرا البيتَ من الأذى والنَّجَس، وإعدادهِ للحجَّاجِ والطائفينَ حوله، والمجاورينَ المقيمينَ عنده، والقائمينَ في الصلاة، الراكعينَ الساجدين.


{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].

126- واذكرْ أيضاً عندما دعا إبراهيمُ -عليه السلام- فقال: ربِّ اجعلْ هذا البلدَ آمناً من الخوف، لا يَرْعَبُ أهلُهُ، وارْزُقِ المؤمنينَ منهم أنواعَ الثمرات. فاستجابَ اللهُ له، وقال: وأرزقُ مَنْ كَفَرَ منهم وأَمْهِلُهُمْ، فالرزقُ شاملٌ للبَرِّ والفاجر، وهذا مِنْ مَتَاعِ الدنيا في زمانٍ قليل، ثم أدْفَعُهُ إلى عذابِ النارِ وبئسَ المكان، جَزَاءَ كُفْرِهِ وَتَضْيِيعِهِ ما مُتِّعَ به من النِّعَم.


{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

127- واذكرْ لقومِكَ أيها النبيُّ بناءَ إبراهيمَ وابنهِ إسماعيلَ البيتَ، ورفعَهُما الأسسَ منه، وهما يدعوان: ربَّنا تقبَّلْ منّا القُرَبَ والطاعاتِ ومنها هذا البناءُ، فأنتَ تسمعُ الدعاءَ وتعلمُ النيَّةَ في جميعِ الأعمال.


{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].

128- ربَّنا واجعلنا مُسْتَسْلِمَيْنِ لأمرِك، خَاضِعَيْنِ لطاعتك، مُخْلِصَيْنِ لَك، لا نُشْرِكُ في عبادتِنا لكَ أحداً، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا كذلك. وَبَصِّرْنَا عِبَادَاتِنَا وعَلِّمْنَا مَناسِكَنَا ومُتَعَبَّدَاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا، إنَّك كثيرُ قَبُولِ التوبةِ مِنْ عبادِك، رحيمٌ بهم.


{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة: 129].

129- ربَّنَا وابعثْ لأهلِ الحَرَمِ من أنفُسِهِمْ رسولاً منهم، من ذُرِّيَّةِ إبراهيم، يقرأُ عليهم ويبلِّغهم ما يُوحَى إليه من البيِّنات، ويعلِّمهمُ القرآنَ والسنَّة، والطاعةَ والإخلاص، ويطهِّرهم من دنسِ الشرك، فأنتَ العزيزُ الذي لا يُقهَرُ ولا يُغْلَبُ على ما يريد، الحكيمُ الذي لا يفعلُ إِلا ما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ، فيضعُ الأشياءَ في مكانِهَا كما يَجِبُ أن تكون.


{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130].

130- ولا يبعدُ عن طريقةِ إبراهيمَ ومنهجهِ إلا الشخصُ المُذِلُّ لنفسه، المُستخفُّ بها، الذي يفضِّلُ الضلالَ على الحقّ. فَهُوَ إمامُ الحُنَفَاء، وَمَنْ خَالَفَهُ فَقَد جَانَبَ الحقَّ الصريح، والدِّيَن الصحيح، والهدايةَ والرشاد، وهو ما اصْطُفِيَ عليه إبراهيمُ في الدنيا، وهو الذي اخْتِيرَ بالنبوةِ والحكمةِ من بين سائرِ الخلق، وهو في الآخرةِ من المشهودِ لهم بالثباتِ على الاستقامة، والصلاحِ والسعادة.

وهو ردٌّ على الكفارِ فيما ابتدعوهُ وأحدثوهُ من الشركِ وعبادةِ الأصنامِ المخالفِ لِمِلَّةِ إبراهيمَ عليه السلام، فَأَيُّ ضَلالٍ أَكبرُ مِنْ هَذَا، وأيُّ سَفَهٍ أعظمُ مِنْ عَدَمِ اتِّباعِ ملَّتِهِ القائمةِ على التوحيدِ الخالصِ البيِّن؟


{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131].

131- فقد أمرَهُ اللهُ بالإخلاصِ له والاستسلام، والانقيادِ لأوامره، فأجابَ إلى ذلك، وأطاعَ وأخلصَ على أحسنِ ما يكون، مُفَوِّضاً أمرَهُ كلَّهُ إلى الله.


{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132].

132- وقد أوصى خليلُ اللهِ إبراهيمُ -عليه الصلاةُ والسلام- بَنِيه، وكذا وصَّى يعقوبُ بنيه، بهذه الملَّة، وهي الإسلامُ لله، فقالا: يا بَنِيَّ، إنَّ الدِّينَ الذي رضِيَهُ اللهُ لكم هو صفوةُ الأديان، لا دينَ غيرُهُ عند الله، فاثْبُتُوا عليه ولا تفارقوهُ أبداً، واحرِصُوا على ذلك وحافظوا عليه حتى الموت، بإحسانِكم في الحياة، ومتابعتِكم لطاعةِ اللهِ والعملِ الصالح، فإن المرءَ يموتُ غالباً على ما كانَ عليه، كما يُبْعَثُ على ما ماتَ عليه، وإِنَّ مَنْ قَصَدَ الخيرَ وُفِّقَ له ويُسِّرَ عليه – والذي نَوَى الصلاحَ وَعَزَمَ عليه ثَبَّتَهُ الله.


{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].

133- أم كنتُمْ حاضرين، أيها المشركون، ويا أهلَ الكتاب، ما قالَهُ يعقوبُ -عليه السلام- لبنيهِ حين حضرتْهُ الوفاةُ: أيَّ شيءٍ تعبدونَهُ بعد موتي؟ وهو يريدُ بذلك تقريرَ بَنيهِ على التوحيدِ والإسلام، وأخْذَ ميثاقِهِمْ على الثباتِ عليهما.

فقالوا حسبَمَا كان مُرادَ أبيهم: نعبدُ الإلهَ المتفقَ على وجودهِ وإلهيتهِ ووجوبِ عبادته، الذي عبدتَهُ أنتَ وآباؤك إبراهيمُ وإسماعيلُ وإسحاقُ، إلهاً واحداً، نوحِّدهُ ولا نشركُ به شيئاً، ونحن مطيعونَ له خاضعون.

والإسلامُ هو ملَّةُ الأنبياءِ كلهم، وإن تَنَوَّعَتْ شرائعُهُمْ واختلفتْ.

وَعَدُّ إسماعيلَ من آبائهِ من بابِ التَّغْلِيب، فهو عَمُّ يعقوب، عليهمُ الصلاةُ والسلام.


{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].

134- كانتْ تلك جماعةً مَضَتْ، لها أعمالُها التي عَمِلَتْهَا، ولكمْ أعمالُكُمُ التي كَسَبْتُمُوهَا، لا يَنْفَعُكُمُ انتِسَابُكُمْ إلى صالحيهم إذا لم تفعلوا مثلَهُمُ الأعمالَ الصالحة، كما أنكمْ لا تُؤَاخَذونَ بسيِّئاتهم التي عملوها.


{وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].

135- وجاءَ بعضُ اليهودِ والنصارى إلى رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ كُلٌّ أنهُ على حقّ، وَطَلَبُوا منه اتِّبَاعَهُمْ ليكونَ من المهتدين. في حديثٍ حسن، فقل لهم يا محمَّدُ (صلى الله عليه وسلم): بَلْ نَرْجِعُ جميعاً، نحن وأنتم، إلى طريقةِ إبراهيمَ ومنهجه، فهو أبونا وأبوكم، وأصلُ ملَّتهِ الإسلام المستقيمُ، وما كانَ من المشركين، بينما أنتم تشركون.


{قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

136- قولوا جميعاً أيها المؤمنون: آمنَّا بالله، وبما أُنْزِلَ إلى إبراهيم، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، والأسباطِ، وموسى، وعيسى، وسائرِ الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلام، من الكتبِ السماوية، والآياتِ البيِّنات، والمعجزاتِ الباهرات، ولا نفرِّقُ بينهم، كَدَأْبِ اليهودِ والنصارى، الذين آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، ونسلِّمُ أمرَنَا جميعاً إلى الله، مُخلصينَ له ومُذعنين.


{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].

137- فإنْ آمنَ أهلُ الكتابِ والمشركونَ بمثلِ ما آمنتمْ به أيها المؤمنون، من الإيمانِ بجميعِ كتبِ اللهِ ورُسله، ولم يُفَرِّقُوا بينهم، فقد أصابوا الحقّ، وكانوا من المهتدين، وإنْ أعرضوا عن الإيمانِ بالوجهِ المذكورِ فقدِ استقرُّوا في خلافٍ عظيمٍ بعيدٍ من الحقّ، ولا قرارَ لهم على أصلٍ ثابت، وسوفَ يكفيكَ اللهُ شِقَاقَهُمْ هذا عندَ النصْرِ عليهم. والله يسمعُ ما يقولونه، ويعلمُ ما يضمرونهُ في قلوبهم، وهو مُعَاقِبُهُمْ عليه.


{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البقرة: 138].

138- إنه دين الله الواضحُ المبين، والعلامةُ التي وضعها على عباده المؤمنين المتقين، فطَهَّرَهُمْ بالإيمان من أَوْضَارِ الكفر، وَزَيَّنَ قلوبَهُمْ بآثاره الجميلة، فلا أفضل من هذه السمة الجليلة، والعلامة المباركة. وَنَحْنُ شاكرون لله عابدون له على هذه النعمة الكبيرة، وسائِرِ نِعَمِهِ.


{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139].

139- قلْ لليهودِ والنصارى أيها النبيُّ محمَّد – صلى الله عليه وسلم – أَتُنَاظِرُونَنا في توحيدِ اللهِ والإخلاصِ له واتِّبَاع أوامِرِهِ، وهو ربُّنَا وربُّكُم، المتصرِّفُ فينا وفيكم، المستحقُّ لإخلاصِ العبادةِ له، لا شريكَ له؟ فلنا أعمالُنَا الحسنةُ في السمعِ والطاعة، وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمُ المخالفةُ في الشركِ والضلال، ونَحْنُ مَخْلِصُونَ في تلك الأعمال، لا نَبْتَغِي بها إلا وَجْهَهُ، فكَيْفَ تُنَاظِرُونَنا وَتَدَّعُونَ أنكمْ على حقٍّ وَتَطْمَعُونَ في دخولِ الجنَّةِ بسببهِ ودعوةِ الناسِ إليه؟!


{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].

140- أم تقولونَ – يا أهلَ الكتابِ – إن إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا يهوداً أو نصارى؟ أأنتم أعلمُ بذلك أم الله؟ بَلِ اللهُ أعلمُ. إنهم كانوا على مِلَّةِ التوحيدِ الخالص، وأنتم تقرؤونَ في كُتُبِكُمْ أنهم كانوا على الحنيفيةِ الأولى التي لا شركَ فيها، كما تقرؤونَ أَنَّ محمَّداً – صلى الله عليه وسلم – سيُبْعَثُ في آخرِ الزمانِ على ملَّةِ إبراهيمَ حنيفاً، والأنبياءُ المذكورونَ -عليهم الصلاةُ والسلامُ- ما كانوا يهوداً ولا نصارى، لأنهم كانوا قبل موسى وعيسى عليهما السلام، ولكنَّكم تكتُمُونَ الحقّ، وتكتُمُونَ هذه الشهادةَ الثابتةَ العظيمةَ، اخترتمُ الضلال، وعِلْمُ الله محيطٌ بعلمكم، وسوف يَجْزِيكُمْ بما تستحقونَهُ منِ افْتِرائكُمْ على الأنبياء.


{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141].

141- لَقَدْ مَضَتْ تلكَ الأمَّة، فَلَها أعمالُهَا، ولكم أعمالُكُمُ التي اكتسبتُموها، ولن يُغْنِيَ عنكم انتسابُكُمْ إليهم واتّْكَالُكُمْ عَلَى أعمالهمْ من غَيْرِ مُتَابَعَةٍ لهم في أعمالهم الطيِّبَة، فلا تَغُرَّنَّكُمُ النسبةُ إليهم، حتى تكونوا مثلَهُم في الطَّاعَةِ واتِّباعِ الرسل.

ابو وليد البحيرى
04-06-2015, 08:30 PM
الواضح في التفسير


(الحلقة الخامسة)



أ. محمد خير رمضان يوسف

الجزء الثاني
سورة البقرة
( الآيات 142 – 173 )

{سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة : 142].
142- أُمِرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يستقبلَ في صلاتهِ الصخرةَ من بيتِ المقدسِ أوَّلاً، فكانَ هو والمسلمونَ على ذلك، ستةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ شهراً، كما في صحيحِ البخاري. وكان عليه الصلاةُ والسلامُ يبتهلُ إلى الله أن يجعلَ قِبْلَتَهُ الكعبة، قبلةَ إبراهيمَ عليه السلام، فأُجيبَ إلى ذلك، فحصلَ شكٌّ وزيغٌ عن الحقِّ من أهلِ النفاقِ والريبِ والكفرةِ من اليهود، وقالوا: ما الذي صرفهمْ عن قِبلتهم الأولى؟ وخاصَّةً أن اليهودَ كانوا يتذرَّعونَ بأن الاتجاهَ إلى بيتِ المقدسِ يعني أن دينَهمْ هو الأصل، وأنه هو الصحيح. فصاروا يُلقونَ بذورَ الشكِّ والشائعاتِ في صفوفِ المجتمعِ الإسلاميّ، حولَ مصيرِ صلواتِهم السابقة، وسببِ الانتقالِ من قِبلةٍ إلى أخرى، بأنه يدلُّ على عدمِ السدادِ، فليس بوحي...!
فسمّاهمُ اللهُ تعالى "السفهاء"، وهم الذين خفَّتْ عقولُهم، وامتهنوها بالتقليدِ والإعراضِ عن التدبُّرِ والنظر، أو أن السفيهَ هو الكذّابُ المتعمِّدُ خلافَ ما يعلم، أو الظلومُ الجَهول. فإن اللهَ تعالى له مطلقُ الحكمِ والتصرُّفِ في الأمر، فلهُ المشرقُ والمغرب، الجهاتُ كلُّها له، فأينما حدَّدَ يتوجَّهُ المؤمنونَ إليه دونَ اعتراض، ما عليهم إلا الطاعةُ وامتثالُ الأمر. والكعبةُ أشرفُ بيوتِ الله في الأرض، فهي بناءُ إبراهيمَ عليه السلام. ويهدي اللهُ من شاءَ من عبادهِ إلى نهجهِ الصحيحِ إذا رأى فيهم نيَّةً وتوجُّهاً إليه، أما السفهاءُ ففي الغيِّ والضلالِ يتخبَّطون.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة : 143].
143- وكذلكَ جعلناكمْ –يا أمَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم- خيارَ الأمم، لتكونوا بذلك شهداءَ عليهم يومَ القيامة، لأن الجميعَ يعترفونَ بفضلكم، فأنتم الذين تُبلِّغونَ الحق، لأن دينَكم هو الحقُّ من بين أديانِ الأممِ ومذاهبها؛ ولذلك وجَّهكمُ اللهُ إلى قبلةِ إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخصَّكم بأكملِ الشرائع، وأقومِ المناهج، وأوضحِ المذاهب. ثم يكونُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- شهيداً عليكم يومَ القيامة، فيزكِّيكم ويشهدُ بعدالتكم.
وقد كانَ الأمرُ باستقبالِ المسجدِ الأقصى أولاً امتحاناً، ليتبيَّنَ من يطيعُ الله ومن يخالفه، وخاصَّةً أن العربَ كانوا متعلِّقينَ بالبيتِ كيفما كان، وكان التحوُّلُ منه صعباً عليهم، فأرادَ اللهُ أن يصرفَ قلوبَ من أسلمَ منهم إلى الطاعةِ المطلقة، والتخلُّصِ من الرواسبِ الجاهلية، مهما كانَ شأنها، حتى تأخذَ هذه التربيةُ مأخذها من النفوسِ وتتدرَّب على الطاعةِ والامتثال... وهو وإنْ كان عظيماً على النفوس، إلا أنه سهلٌ على القلوبِ المؤمنةِ المهتدية، التي أيقنتْ بتصديقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ ما جاءَ به هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه، وأن الله يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد، فما على المسلمِ إلا الطاعةُ والامتثال.
وما كان الله ليُضِيعَ صلواتِكم التي توجَّهتم فيها إلى بيتِ المقدسِ سابقاً، فلا يَضِيعُ ثوابُها عنده، إنه رؤوفٌ رحيمٌ بعباده، يوصلُ إليهم النعمةَ الصافيةَ بفضلهِ ورحمته.

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 144].
144- كان الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكعبة، كما في صحيحِ البخاري، فقالَ له ربُّه: لنعطينَّكَ طلبك، ولنمكننَّكَ من استقبالِ القبلةِ التي تحبُّها وتشتاقُ إليها، فحوِّلْ وجهكَ نحوَ المسجدِ الحرام، وحيثما كنتُم أيها المسلمونَ في أنحاءِ الأرضِ جميعاً اتَّجهوا إلى هذه القبلة، إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها.
وإن اليهودَ والنصارى يعلمونَ أن توجُّهَكم إلى البيتِ هو الحقّ، بما في كتبهم من صفةِ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأمَّته، ولعلمهمْ أن الكعبةَ هي بيتُ اللهِ الأول، الذي بنى قواعدَهُ واتجهَ إليه إبراهيمُ عليه السلام، ولكنهم لا يقتنعونَ بالأدلَّة، ويكتمونَ ما في كتبهم من علمٍ ولا يُظهرونه، واللهُ ليس بغافلٍ عمّا يعملون، وسوفَ يُجازيهم في الدنيا والآخرةِ على ذلك. وهو سبحانَهُ ليس بغافلٍ عن ثوابِ المؤمنينَ وجزائهم.

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 145].
145- فلو أقمتَ لليهودِ والنصارى الحُجَّةَ تلوَ الحُجَّةِ على صحَّةِ ما جئتَ به، وأيَّدكَ اللهُ بالمعجزاتِ في ذلك، لما تركوا أهواءَهم واتَّجهوا إلى القبلةِ التي ولاّكها ربُّك. ولن تتَّجهَ إلى قبلتهم أيضاً، ولن تتَّبعَ أهواءهم؛ لمتابعتِكَ أمرَ الله، وطلبِكَ رضاه. ولن يتَّبعَ اليهودُ قبلةَ النصارى، ولا النصارى يتبعونَ قبلةَ اليهود، فالعداوةُ بينهما شديدة. ولو أنكَ اتَّبعتَ مرادَهم بعد الذي وجَّهكَ الله إليه ورضيَهُ لك من القبلةِ الحقّ، لكنتَ مؤثراً الباطلَ على الحقّ.
وهو على الفَرَضِ والتقدير، وتحذيرٌ للأمَّةِ من أهواءِ أهلِ الكتابِ وأضاليلهم.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة : 146].
146- إن أهلَ الكتابِ من اليهودِ والنصارى يعرفونَ محمَّداً -صلى الله عليه وسلم_ وصحَّةَ ما جاءَ به كما يعرفُ أحدُهم ابنَه! وهو مثلٌ يُضْرَبُ في صحَّةِ الشيءِ والتيقُّنِ منه تماماً، فمعرفةُ الابنِ هي قمَّةُ المعرفة؛ وذلك لوصفِ الرسولِ محمَّدٍ –صلى الله عليه وسلم- الدقيقِ في كتبهم، وصفةِ أمَّته، وما إلى ذلك، ومنها القبلةُ التي يتوجَّهونَ إليها. لكنَّ فريقاً منهم مع هذا التحقُّقِ والتاكدِِ في معرفته، يكتمونَ الناسَ ما في كتبهم من ذلك، وهم يعلمونه.

{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة : 147].
147- فما جاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم هو الحقُّ الذي علَّمَهُ ربُّه، لا مريةَ فيه ولا شكّ، فلا تكنْ من الشاكِّينَ في ذلك أيُّها النبيّ.
وهو إيحاءٌ من ربِّ العزَّةِ إلى أمَّةِ محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- بعدمِ التأثُّرِ بأباطيلِ اليهود، وبالتنبُّهِ إلى أحابيلهم.

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 148].
148- ولكلِّ أهلِ دينٍ من الأديانِ قِبلةٌ يتوجَّهونَ إليها ويرضونَ بها، ولن يتَّبعوا قبلةَ بعضِهم البعض، فما على المسلمينَ سوى التوجُّهِ إلى عملِ الخير، والتنافسِ في رضا الله، والانصرافِ إلى ما يُفيدُ ويُثمر، والابتعادِ عن شُبَهِ الأعداءِ وأفكارِهم المنحرفة، وإن الله سبحانَهُ سيجمعُ الموافِقَ والمخالِفَ منكم، وإن تفرَّقتْ أبدانُهم، وهو قادرٌ على الإماتةِ والإحياءِ والجمع، لا يُعجزهُ شيء.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 149].
149- وهذا أمرٌ فيه تأكيد، فحيثُما خرجتَ وأينما كنتَ أيها الرسول. توجَّهْ في صلاتِكَ نحو المسجدِ الحرام، فإنه القبلةُ الخالصةُ التي رضيَها الله لكم، وهو الثابتُ الموافِقُ للحكمة، وليس اللهُ بغافلٍ عن امتثالكم وطاعتكم، ولسوفَ يُجازيكم بذلكَ أحسنَ جزاء.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة : 150].
150- ثم تجديدٌ وتأكيدٌ للمرَّةِ الثالثةِ لأهميته، ولقطعِ الطريقِ على الشُّبَهِ والتشكيكاتِ التي زادَ سعيرُها في المجتمعِ الإسلاميِّ الجديدِ من قِبَلِ الأعداءِ المتربِّصينَ به للقضاءِ عليه وهو ما زالَ في أوَّله، ولقطعِ النظرِ كذلكَ عن أيِّ شيءٍ ممّا عداه، فهي القبلةُ الأخيرةُ لمن أسلمَ وجهَهُ للهِ إلى أن تقومَ القيامة. فكلَّما خرجتَ وأينما كنتَ أيها النبيُّ اتجهْ نحوَ المسجدِ الحرام، وأينما كنتُمْ أيها المسلمونَ جميعاً توجَّهوا نحوه؛ حتى لا يبقى أدنى شكٍّ عند أهلِ الكتاب أنكم أمَّةُ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- الموعودة، حيث يجدونَ عندهم أن قِبلتكم ستكونُ الكعبة، ولو أنهم فقدوا ذلك منكم لاحتجُّوا بما يقولونَ من أنكم لستُم تلكَ الأمَّة.
وحتى لا يكونَ لأيِّ مشركٍ أو كافرٍ تأثيرٌ عليكم في جدالهم وعنادهم معكم وما يبثُّونَهُ من شُبَهٍ وشائعاتٍ لغرضٍ في نفوسهم، كقولِ بعضِهم لكم: ما دمتُم استقبلتُم البيتَ فسترجعونَ إلى دينِ آبائكم! فلا تحسبوا حساباً لهم ولا لأقاويلهم، فلا سلطانَ لهم عليكم ولن يضرُّوكم، بل اتَّقوا ربَّكم واخشوهُ في السرِّ والعلن، فهو الضارُّ النافع، وأهلٌ لأنْ يُخشى، وبيدهِ الأمرُ كلُّه. وحتى أُكمِلَ نعمتي عليكم فيما شرعتُ لكم من استقبالِ القِبلة. ولعلكم بهذا تهتدونَ إلى ما ضلَّتْ عنه الأمم، فهديناكم إليه وخصصناكم به، ولذلك كنتم أشرفَ الأممِ وأفضلَها.

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 151].
151- ومع نعمةِ القِبلةِ اذكروا أيها المسلمونَ بعثةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيكم، يقرأ عليكم كلامَ الله العظيم، ويطهِّرُكم من رذائلِ الأخلاق، وأفعالِ الجاهلية، ودنسِ النفوس، ويُخرجُكم من الظلماتِ إلى النور، ويعلِّمُكمُ القرآنَ والسنَّة. وبينما كنتم في الجاهليةِ على جهلٍ وعداوةٍ وشِقاق، أبدلَكمُ اللهُ بذلكَ ما لم تكونوا تعلمون، وما لم يكنْ لكمْ به سابقُ علم، فصارَ منكمُ العلماء، والصِّدِّيقون، والأولياء، والقادةُ الفاتحون، والدعاةُ المبشِّرونَ بالدِّينِ العظيم.

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة : 152].
152- فلا تنسَوا هذه النعمَ العظيمةَ التي أنعمتُ بها عليكم، اذكروني بالطاعةِ أذكُرْكم بالثواب، واشكروا لي هذه النعمَ ولا تجحدوها، يزدْكم بذلك نعمةً وفضلاً.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 153].
153- وإذا كان الشكرُ من آدابِ المؤمنين، فإنه لا بدَّ لهم من الصبرِ أيضاً، فعليكم به، فإنه خيرُ صفةٍ تتحلَّون بها لتحمُّلِ البلايا والرزايا ومشاقِّ الدعوة، والعزمِ على الطاعةِ والقُربات، وتركِ المآثمِ والمحرَّمات.
وكذا الصلاةُ، التي تشدُّ العزيمة، وتجدِّدُ الطاقة، وتملأ القلبَ نوراً، ولذلك كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ –أي هجمَ عليه أو غلبَهُ- صلَّى، كما في حديثٍ حسنٍ رواهُ أحمدُ وأبو داود.
ذلك أن اللهَ مع الصابرين، يؤنسهم، ويؤيِّدهم، ويثبِّتهم، ويزيدُ من قوَّتهم الضعيفة.

{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة : 154].
154- ولا يقدرُ على الجهادِ إلا الصابرونَ وذوو العزائم، وهؤلاءِ إذا سقطوا شهداءَ في ساحةِ المعركة، فلا تظنوا أنهم قد ماتوا، بل هم أحياءٌ عند ربِّهم، يُطعمهم ويَسقيهم؛ جزاءَ تضحيِتهم بأرواحِهم، ولكنكم لا تشعرونَ بهم، فهم في حياةٍِ أخرى (برزخيَّةٍ) غيرِ التي أنتم فيها.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 155].
155- وسوفَ نختبرُكمْ ونمتحنُكمْ أيها المسلمون، لتظهرَ حقيقةُ إيمانِكم ومدى ثباتِكم على أمرِ دينكم، سيصيبكم شيءٌ من الخوفِ وأنتم تخوضونَ معاركَ ضدَّ الباطل، وشيءٌ من الجوعِ كالفقرِ ، ونقصٌ من الأموالِ، كأن يصيَبها جائحةٌ أو غرقٌ أو ضياع، ويُقْتَلُ أو يموتُ من أهلكم وأحبابكم، ويقلُّ شيءٌ من زروعِكم وثماركِم ببردٍ أو حرقٍ أو آفةٍ سماوية. فإذا صبرتُم ورضيتُم بقضاءِ الله فزتُم وحزتُم الأجر.

{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة : 156].
156- إن الحائزينَ على درجةِ الصبرِ بحقٍّ هم الذين إذا ابتُلوا بمصيبةٍ آمنوا فصبروا، وتسلَّوا واسترجعوا، وقالوا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، لعلمهم بأنهم مُلْكٌ لله، يتصرَّفُ في عبيدهِ كما يشاء، وأنه لا يَضِيعُ عندهُ شيءٌ يومَ القيامة.

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة : 157].
157- فعلى هؤلاءِ الصابرينَ ثناءُ الله، ولهم مغفرتهُ وعليهم رحمته، فهم الذين اهتدَوا إلى الحقِّ والصواب، بصبرهم واسترجاعهم.

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 158].
158- إن الطوافَ بين جبلي الصفا والمروة –وهما داخلانِ في حدودِ المسجدِ الحرامِ الآن- هو ممّا شرعَهُ الله تعالى لإبراهيمَ عليه السلام في مناسكِ الحجّ، فمن نوى حجًّا أو عمرةً فليجعلْ ذلك من مناسكه، ومن زاد َفي السعي بينهما، أو زادَ من نفل، فإن الله يُثيبهُ عليه، وهو عليمٌ بما يستحقُّهُ من الجزاء، ولا ينقصُ أحداً ثوابَ عمله.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة : 159].
159- إن أهلَ الكتاب، وخاصَّةً اليهود، يُخفونَ ما أنزلنا على الرسلِ من الدلالاتِ البيِّنةِ على حقائقَ مهمَّة، وما جاؤوا به من الهدي النافعِ للقلوب، كالإيمانِ بمبعثِ الرسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ووجوبِ اتِّباعه، حيثُ بيَّنَهُ الله تعالى في الكتبِ التي أنزلها.
قال أبو السعود في تفسيره: "والمرادُ بكتمهِ إزالتُه ووضعُ غيرهِ في موضعه، فإنهم محَوا نعتَهُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- وكتبوا مكانَهُ ما يُخالفه". وقد جعلَ الكتمَ بهذا من أنواعِ التحريفِ والتبديل.
فهؤلاءِ الساكتونَ عن الحقّ، الكاتمونَ ما أنزلَ الله من خيرٍ وهُدى، يطردُهم الله ويُبعدهم من رحمته، كما يلعنهم كلُّ من يتأتَّى منهم اللعنُ والدعاءُ عليهم، من الملائكةِ ومؤمني الجنِّ والإنس، فهم منبوذونَ من ِأهلِ الحقِّ كلِّهم.

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 160].
160- ويُستثنى من أهلِ الكتابِ المذكورين، الذين تابوا إلى الله ورجعوا عمّا كانوا فيه، وأعلنوا الحقَّ واعترفوا به، وأصلحوا ما أفسدوا وحرَّفوا، وبيَّنوا للناسِ ما كانوا كتموه، فهؤلاءِ أقبلُ توبتهم، وأنا كثيرُ قبولِ التوبةِ ونشرِ الرحمة.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة : 161].
161- أما الذين كفروا وأصرُّوا على كفرهم، وكتموا الحقَّ ولم يتوبوا، فإنَّ مصيرَهم الطردُ من رحمة الله، فيلعنهم الله، وملائكته، وجميعُ الناس، لعنٌ ثابتٌ بعد لعنٍ متجدِّد، في الدنيا، مستمرًّا إلى الآخرة.

{خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة : 162].
162- وسوفَ يُخلَّدونَ في نارِ جهنَّم، لا يُنْقَصُ عمّا هم فيه من عذاب، ولا يُغَيَّرُ عنهم ساعةً واحدة، فهو متواصلٌ دائم.

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة : 163].
163- إن المعبودَ الذي يتوجَّهُ له الخلقُ في عبادتهم وطاعتهم واحدٌ لا شريكَ له، وهو رؤوفٌ رحيمٌ بالناس، ورحمتهُ كبيرةٌ واسعةٌ دائمة.

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 164].
164- إن مشاهدَ الخلقِ في الكونِ عظيمةٌ دقيقة، ينبغي أن يُنظرَ فيها بتعمُّقٍ وتبحُّرٍ من جوانبها العلميةِ والحِكْمية، ليُستدلَّ بها على الخالقِ الأعظم.
فهذه السماواتُ بارتفاعها، وإحكامِ خَلْقها، وما فيها من شموسٍ وكواكب، وصخورٍ وذرَّات، وجاذبيةٍ ودوران، وبُعدها عن الأرض أو عن بعضها البعضِ بمسافاتٍ لا تكادُ تتخيَّل، كملايينِ السنواتِ الضوئيةِ وما يُقالُ في هذا، عدا ما لم يكتشفْ منها.

والأرضُ في جبالها ووهادها، وبحارها وأنهارها، وخصبها وصحرائها، وإنسِها وجنِّها، وحيواناتها وجمادها، ونباتاتها وأشجارها، بملايينِ أصنافها وأنواعها، الدقيقةِ والعجيبة، وأحيائها المائيةِ في سلوكِها ومعيشتها، وما فيها من منافع، من معادنَ ولآلئ، وماءٍ وهواء، وكلِّ ما سُخِّر للإنسان.

ومجيءُ النهارِ يتلوهُ الليل، ثم يتلوهُ النهارُ وهكذا، من تعاقبِ النورِ والظلمة، في استمراريةٍ ودقَّةٍ متناهية.

وهذه السفنُ والبواخرُ والأساطيلُ التي تجري في البحر، سخَّرَهُ الله للناسِ هكذا لينتفعوا به في أسفارهم، ونقلِ بضائعهم من مكانٍ إلى آخر، وليستخرجوا منه ما ينفعُهم من مؤونةٍ وميرةٍ وتجارة.

وهكذا المطرُ الذي ينزلُ من السحابِ بأمرِ الله، فتحيا به زروعٌ وثمار، وأناسيُّ وحيوانات، تُفَجَّرُ به عيون، ويُخَزَّنُ منه في الأرضِ للآبار، بعد أن كانتِ الأرضُ يابسةً لا حياةَ فيها.

وما نُشِرَ في الأرضِ من كلِّ حيّ، عاقلٍ وغيرِ عاقل، على اختلافِ أشكالها وألوانها ومنافعها، وصغرها وكبرها.

وهذه الرياحُ بأنواعها واتجاهاتها، وما هو منها للرحمةِ وما هو منها للعذاب، وما تجمعهُ أو تفرِّقهُ من السُّحب، فتقفُ بها في مكانٍ أو تسوقُها إلى حيثُ أمرها الله، أو ما تحملُ من بذورٍ فتفرِّقها في مناطقَ جديدةٍ أو تنثرُها على ثمارها لقاحاً.

وهذه الغيومُ المنتشرةُ فوق الأرض، في تشكيلها وأنواعها ودلالاتها، وحركتها وتسخيرها وانتقالها.

كلُّ هذا وغيرهُ حقائقُ عظيمةٌ ودلالاتٌ بيِّنةٌ على وجودِ الله ووحدانيته، وقدرتهِ وحكمته، هذا إذا تفكَّرَ بها الإنسان، وألقى عن عقلهِ بلادةَ الأُلفةِ وغشاوةَ الغفلة، ونظرَ في هذه المخلوقاتِ بفكرٍ متعمِّقٍ وحسٍّ متجدِّد، وقلبٍ متطلِّعٍ إلى الحق.

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
165- وعلى الرغمِ من الدلالاتِ السابقةِ على وحدانيةِ الله وتفرُّدهِ بالخلقِ والتدبير، إلا أن هناكَ صنفاً من الناسِ أشركوا بالله، وصاروا يعبدونَ معه نظراءَ وأمثالاً، على هوى أنفسهم وما تسوِّلُ لهم الشياطين، في تقليدٍ جاهلٍ أو حُمقٍ فاضح، كعبادةٍ أحجارٍ وأشجار، أو نجومٍ وكواكب، ويدافعونَ عنها ويحاربونَ عليها، ويحبُّونها كمحبَّتهم الله! وهو الواحدُ الأحد، الذي لم يتَّخذْ صاحبةً ولا ولداً، ولا مثيلَ له ولا نظير.
أما المؤمنون، فإنهم يعبدونَ الله على نورٍ من ربِّهم وبرهان، ويحبُّونَهُ حبًّا خالصاً لا شائبةَ فيه، وهم أكثرُ حبًّا له من أنفسهم وما يملكون؛ وذلك لتمامِ معرفتهم به، وتوحيدِهم وتعظيمِهم له، ولجوئهم إليه وحسنِ توكلهم عليه.
ولو عاينَ هؤلاءِ المشركونَ ومن تابعهم ما أُعِدَّ لهم من العذابِ يومَ القيامة، لعلموا أن جميعَ الأشياءِ تحت قهرهِ وسلطانه، وأن القوَّةَ والتصرُّفَ له وحده، وأن عذابَهُ شديدٌ مؤلم، وإذاً لانتهوا عمّا هم فيه من ضلال.

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166].
166- وهؤلاءِ الذين كانوا أعلاماً في الكفرِ والضلالِ والدَّعواتِ الهدَّامة، ولهم أنصارٌ وتابعون، عندما يُكشَفُ لهم الحساب، ولا يرونَ أمامهم سوى النار، التي لا مناصَ لهم منها، يتبرَّؤونَ من تابعيهم، لأن ذلك يزيدُهم عذاباً، ويقولونَ لهم: لا علاقةَ لنا بكم، ولم نجبرْكُم على متابعتنا، وكانتْ لكم عقولٌ فلمَ خُدِعتُم وشاركتمونا؟
وتنقطعُ بينهم الأواصرُ والعلاقاتُ السابقة، وتنقلبُ إلى حقدٍ وعداوةٍ وتخاصم، حيث انتهتِ الأعمال، وحانَ وقتُ الجزاء.

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة : 167].
167- وقال التابعونَ المقلِّدون، المناصرونَ للضلالِ وأهله، بعد أن انتكستْ أعلامُ الآلهةِ الفارغة، وانكشفتِِ الخِدَع، وظهرتِ الحقائق: لو كانتْ عندنا فرصةٌ للعودةِ إلى الدنيا حتى نتبرَّأ من هؤلاءِ فلا نتَّبعهم ولا نوافقهم على أفكارهم، ولا نكونَ لهم كالعبيدِ فنهتفَ لهم ولمبادئهم المضلِّلة، بعد أن تبرّؤوا هم منّا وقالوا لا علاقةَ لنا بكم ولم نجبرْكُم على اتِّباعنا. وهم كاذبون، فلوا أنهم أُعيدوا لعادوا. وإنما يريدُ الله ببيانِ أعمالهم أمامهم ليزدادوا كمداً وندامة، فيكونَ نصيبُهم حسراتٍ وحسرات. ولسوفَ يبقونَ في النارِ يعذَّبون.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 168].
168- أيها الناس، كلوا مما خلقَ الله لكم في الأرضِ من الحلالِ الطيِّب، الذي لا يعتلُّ به جسمٌ ولا يختلُّ به عقل، ولا تقتدوا بالشياطين، ولا تتبعوا مسالكَهُ وطرائقَهُ التي ضلَّ بها أتباعه، من تحريمِ ما أحلَّ اللهُ وتحليلِ ما حرَّمَ، فإنه ظاهرُ العداوةِ لكم عند أهلِ البصيرةِ منكم، وقد حذَّركم الله منه.

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 169].
169- إنما يأمركم الشيطانُ بالمعاصي وبالأعمالِ السيِّئةِ والفواحشِ الدنيئة، وأن تَفتَرُوا على الله الكذب، بأنْ تقولوا إنه حرَّمَ شيئاً، وهو ما لا تعلمونَ أنه حرَّمه.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة : 170].
170- وإذا طُلِبَ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ أن يتَّبعوا كتابَ الله الذي أنزلَهُ على رسولهِ محمّدٍ -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا نتَّبعه، بل نتَّبعُ ما وجدْنا عليه آباءَنا، لأنهم كانوا خيراً منا!
أيقتدونَ بهم ويقتفونَ أثرهم ولو كانوا لا يفهمونَ شيئاً ولا يهتدونَ إلى الصواب؟ ولو كانوا غافلينَ وجاهلينَ ضالِّين؟

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة : 171].
171- إن مَثَلَ الذين كفروا في غيِّهم وضلالِهم وجهلِهم وعدمِ تدبُّرهم فيما أُلقيَ إليهم من الآيات، كالبهائمِ التي لا تفقَهُ ما يُقالُ لها، فإذا دعاها أو هتفَ بها راعيها لا تفهمه، إنما تسمعُ لحنَهُ ودويَّ صوته.
فهم صُمٌّ عن سماعِ الحقّ، وخُرسٌ لا يتفوَّهونَ به، وعُميٌ عن رؤيةِ طريقه، ولو كانتْ لهم حواسُّ ظاهرة، ما داموا لا ينتفعونَ بها. إنهم لا يفهمونَ شيئاً لأنهم لا يتدبَّرونَ الآياتِ والحقائق، ولا يتأمَّلونَ فيما يرونَهُ من الدلائلِ الواضحةِ والأمورِ النافعة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة : 172].
172- أيها المؤمنون، كُلوا من الحلالِ الطيِّبِ الطاهرِ المستلذِّ الذي رزقكم الله، واشكروهُ على ذلك إنْ كنتُم تعبدونَهُ حقَّ العبادة، فإن الشكرَ من العبادة، وإنه من أسبابِ قبولها والجزاءِ عليها.

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة : 173].
173- وخذوا أحكامَ الحلالِ والحرامِ من الله الخالقِ الرازق، فإنه لا يُحلُّ إلا طيِّباً، ولا يحرِّمُ إلا ما خبثَ وكان فيه ضرر.
وقد حرَّمَ عليكم أكلَ الميتة التي لم تُ***، ما عدا السمكَ والجراد. وكذلك حرَّمَ الدم، ولحمَ الخنزير، سواءٌ ذُبحَ أو ماتَ حتفَ أنفه، وما ذُبحَ على غيرِ اسمِ الله، من الأصنامِ والطواغيتِ ونحوها.
ومن ألجأتْهُ الضرورةُ إلى أكلِها وفقدَ غيرَها من الأطعمة، فلا بأسَ من أكلها، من غيرِ بغيٍ ولا اعتداء: من غيرِ أن يُؤْثِرَ نفسَهُ في هذه الضرورةِ على مضطرٍّ آخرَ مثلِه، ولا أن يأكلَ زيادةً على سدٍّ جوعته.

فالله يغفرُ له عندئذٍ ما أكلَ من الحرام، وهو رحيمٌ إذْ أحلَّ له ذلك في حالِ الاضطرار.

محمود حربي
05-06-2015, 04:21 AM
شكرررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررر رررررررررررررررررررررررررررا وبارك الله وفيك وجزاك كل خير

ابو وليد البحيرى
11-06-2015, 05:28 PM
اللهم اميييييييييييييييييين
جزاكم الله خيرا واحسن الله اليكم

ابو وليد البحيرى
11-06-2015, 05:31 PM
الواضح في التفسير


(الحلقة السادسة)



أ. محمد خير رمضان يوسف


سورة البقرة
( الآيات 174 – 195 )
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174].
174 - إنَّ الذينَ يَكتمُونَ ما أنزلَ اللهُ في الكتُبِ مِنْ صِفَةِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وخاصَّة اليهود، حتَّى لا تَذهبَ وجاهتُهمْ ورئاستُهمْ أمامَ العرب، وكانوا يتلقَّونَ منهمُ التُّحَفَ والهَدايا تعظيماً لشأنِهمْ وعلمِهم، كما يأكلونَ الرِّشا مُقابلَ تَحليلٍ أو تَحريم، فخَشُوا إنْ همْ أظهَروا أوصافَهُ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتَّبعَهُ الناسُ ويَتركوهم، فكتَموا ذلك، إبقاءً على ما كانَ يَحصلُ لهمْ مِنْ ثَمنٍ قليلٍ مُقابلَ أمرٍ عَظيم، فباعُوا دينَهم مُقابلَ نَزْرٍ يَسيرٍ منَ المال، فكانوا منَ الخاسرين.
وسوفَ يأكلونَ ناراً تتأجَّجُ في بُطونِهمْ يومَ القيامة، جزاءَ ما كانوا يأكلونَهُ مقابلَ كِتْمانِ الحقّ. ولا يكلِّمُهمُ اللهُ غَضباً عليهم. ولا يُثنِي عليهمْ خَيراً، بلْ يُعَذِّبُهمْ عَذاباً مؤلماً شَديداً.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى وَالعَذَابَ بِالمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: 175].
175 - لقدِ اشترَوا الباطِلَ بالحقّ، وباعُوا الهُدَى بالضَّلال، عندما كتَموا البِشارةَ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتَّبِعوه، ورَضُوا بالكفرِ والتَّكذيبِ والكِتْمان. لقدْ باعوا - إذنْ - المغفرةَ واشتَرَوا العذاب. فما أعجبَ حالَهم! وما أحرصَهم على التهالُكِ على دخولِ النارِ والصبرِ عليها، عندما تَعاطَوا أسبابَ ذلك، وتنافَسوا فيه، قَصداً واختِياراً!
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [البقرة: 176].
176 - وقدِ استَحقُّوا كلَّ هذا العَذاب؛ لأنَّ اللهَ لم يُنـزِلْ كُتبَهُ على الأنبياءِ عبَثاً، ولم يأخذِ المواثيقَ منَ الأممِ بدونِ حساب، بلْ إنَّ كلَّ ذلكَ حقٌّ والتزامٌ ومَسؤولية، فمنْ أبَى وخان، وجحدَ وكتم، استحقَّ العذابَ والنَّكال.
وهؤلاءِ الذينَ اختلَفوا في الكتاب، فآمنوا ببَعضهِ وكفروا ببَعضهِ الآخَر، وأوَّلوا منهُ أشياء، ثمَّ وصَفوا القُرآنَ بأوصافٍ باطِلة، همْ في اختلافٍ شديدٍ وبُعدٍ عنِ الحقِّ والصَّواب، مستوجِبٍ لأشدِّ العذاب.
﴿ لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
177 - عندما أمرَ اللهُ المسلِمينَ أوَّلاً بالتوجُّهِ إلى بيتِ المَقدِس، ثمَّ أمرَهمْ بالتحوُّلِ إلى الكعبة، شقَّ ذلكَ على طائفةٍ منْ أهلِ الكتابِ وبعضِ المسلمين، فبيَّنَ في هذه الآيةِ العظيمةِ أنَّ المهمَّ في هذا هوَ التسليمُ والطاعةُ والامتثالُ لأمرِ الله.
فليستِ الغايةُ منَ التوجُّهِ إلى المشرقِ والمغربِ هوَ الجهةُ بعينِها، ولا القيامُ بحركاتٍ ظاهرةٍ نحوَها، فلا تَكمُنُ الخيريَّةُ في هذهِ الأمورِ مجرَّدةً عنِ الدافعِ منْ ورائها وطاعةِ الآمرِ بها، فجِماعُ الخيرِ هوَ في العَقيدةِ الصَّحيحَة، والطاعةِ لله، والتسليمِ بأمرِه، الذي يُعطي القيمةَ والقَبولَ لتلكَ الأعمال، الإيمانُ بهِ عزَّ وجلَّ أوَّلاً إيماناً عميقاً، وباليومِ الآخِرِ وما فيهِ منْ جَزاءٍ وحِساب، ونَعيمٍ وعَذاب، وبالملائكةِ جُندهِ ورسلهِ بينَهُ وبينَ عباده، وبالكتابِ الحقِّ المُنـزَلِ منْ عندِ اللهِ على رسولهِ لهدايةِ عبادِه، آخِرُها القُرآن، الذي نسخَ كلَّ ما قبلَهُ منَ الكتُب. وبأنبياءِ اللهِ كلِّهم، حتَّى خاتمِهم محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، منْ غيرِ تَفرقةٍ بينهمْ كما فعلَ أهلُ الكتاب.
والمؤمِنُ الصادقُ أيضاً هوَ مَنْ أنفقَ مِنْ مالِهِ وهوَ محبٌّ لهُ راغِبٌ فيه، فأعطاهُ لأهلهِ وأقربائه، ولليتامَى الذينَ فَقدوا آباءَهمْ وكانوا صِغاراً ضُعَفاء، والمساكينِ الذينَ لا يَجدونَ ما يَكفيهم، وابنِ السبيلِ الذي نَفِدَتْ نفقتُهُ وهوَ بعيدٌ عنْ وطنه، والسائلينَ الذينَ ألجأتهمُ الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال، وفي الرِّقاب: العبيدِ الذينَ يُريدونَ أن يُصبِحوا أحرَاراً ولا يجدونَ المبلغَ الكافيَ لإعطائهِ أسيادَهمْ منْ أجلِ ذلك.
ثمَّ حافظَ على عباداتِه، فأقامَ الصلاةَ المفروضةَ بشروطِها وأركانِها، وأدَّى زكاةَ مالِه. وأنْ يكونَ منَ الأوفياءِ بعهودِهمْ إذا عاهدوا، فلا يَخونُ ولا يَغْدِرُ كالمنافقينَ ومَنْ حَذا حَذْوَهم.
ومنَ الصابرينَ إذا أصابَهُ مَكروه، كفَقرٍ أو مَرض. وكذلكَ في حالِ القِتالِ ولقاءِ العدوّ.
فهؤلاءِ الذينَ اتَّصفوا بهذهِ الصفاتِ، همُ الذينَ صدَقوا ربَّهمْ في إيمانِهم، فاتَّبعوا الحقّ، وتحرَّوا البِرّ، وأحرَزوا الخير، وابتَعدوا عنِ المحارمِ والموبِقاتِ وسائرِ الرذائل، وفعلوا الطاعاتِ المطلوبةَ منهم؛ امتثالاً لأمرِ اللهِ وخَشيةً منه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178].
178 - أيُّها المؤمِنون، لقدْ فُرِضَتْ عليكمُ المُماثلةُ والمساواةُ في أمرِ القَتلِ عَمداً، بأنْ يُقتَلَ القاتلُ بالصِّفةِ التي قُتِل بها المقْتول، وأنْ يُقتَلَ الحُرُّ بالحُرِّ، كما يُقْتَلُ العَبدُ بالعَبد، وتُقتَلُ الأنثَى بالأنثَى؛ إقامةً للعدلِ بينَ الناس.
وكانتْ أحياءٌ في الجاهليةِ إذا قُتِلتْ منهمُ امرأةُ لم يرضَوا إلا ب***ِ رجلٍ منْ طرفِ القاتِل، وإذا قُتِلَ منهمْ عبدٌ طَلبوا ***َ حُرّ، وإذا قُتِلَ منهمْ وَضيعٌ طَلبوا ***َ شَريف؛ تعالياً وتمُعُّناً في الانتِقام. فبيَّنتْ هذهِ الآيةُ الكريمةُ حكمَ النوعِ إذا قُتِلَ نوعُه، كالأنثَى بالأنثَى، ولم تتعرَّضْ لأحدِ النوعينِ إذا قُتِلَ الآخَر، وهذا ما بيَّنتْهُ السنَّةُ منْ بعد، كأنْ يُقْتَلُ الذكَرُ بالأنثَى أيضاً؛ لاعتبارِ المماثلةِ في الدِّين، ولا يُقتَلُ مسلمٌ بكافر، ولا حرٌّ بعَبد.
فإذا عفا أهلُ القتيل، بأنْ طَلبوا بدلَ الدَّمِ دِيَةً، وهوَ مِقدارٌ منَ المالِ يؤدَّى إليهم، فليُكنْ ذلكَ مُطالبةً جَميلةً ومَعقُولة، وليؤدِّ القاتلُ الدِّيَةَ بإحسانٍ وإكرام، دونَ بَخْسٍ ولا مُماطَلة.
وتشريعُ الدِّيَةِ رحمةٌ منَ اللهِ لهذهِ الأمَّة، وكانَ التشريعُ في الدياناتِ السابقةِ العفوَ أو العقوبة، ولم تكنْ هناكَ دِيَة.
وإذا حدثَ أنْ قُتِلَ القاتلُ بعدَ أخذِ الدِّيَةِ أو قبولِها، فلفاعلهِ عذابٌ منَ اللهِ مؤلمٌ شَديد.
﴿ وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179].
179 - والقَتلُ أوفَى للقَتل، وأوقَفُ لسفكِ الدماء، فإنَّهُ إذا قُتِلَ القاتلُ سكنتِ الفِتنة، وإلا زادتْ وسقطَ أكثرُ مِنْ قتيل، معَ استحكامِ العداوةِ والبَغضاءِ بينَ الفريقين، وربَّما الأهلِ والأرحام.
ففي ***ِ القاتلِ حياة، ولو بدا في صورتهِ قَتلاً، لأنَّهُ حُكمٌ عَدْلٌ باستيفاءِ حقٍّ مِنْ سفكِ دمٍ بَريء؛ هذا لمنْ تدبَّرَ وكانَ منَ العقلاء، وإنَّما شُرِعَ القِصاصُ لتَبتَعِدوا منَ القَتل، فلا تَقتُلوا حتَّى لا تُقتَلوا.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180].
180 - فُرِضَ عليكمْ إذا اقتربَ أجَلُ أحدِكمْ إنْ تركَ مالاً أنْ يوصيَ منهُ لوالديهِ وأقربائهِ بالعَدل، حقًّا مؤكَّداً على المؤمنين.
وكان هذا في ابتداءِ الإسلام، حيثُ كانتِ الوصيَّةُ فَريضةً للوالدَينِ والأقرَبين، ثمَّ نُسِخَتْ بآيةِ الميراث، وصارَ كلٌّ يأخذُ حقَّهُ بأمرٍ مُوجبٍ منَ اللهِ ورسولِه، ولم يَعُدِ الورثةُ بحاجةٍ إلى وصيَّة، بلْ لا تَجوزُ لهم، ومنهمُ الوالدان، للحديثِ الصحيح: "لا وصيَّةَ لوارِث".
ويبقَى حقُّ الأقرَبين، فإنَّهُ تُستَحبُّ الوصيَّةُ لهمْ منَ الثلثِ المسمُوحِ بهِ للموصي، استئناساً بآيةِ الوصيَّةِ وشُمولِها، وللآياتِ والأحاديثِ الواردةِ بالأمرِ ببرِّ الأقاربِ والإحسانِ إليهم.
﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 181].
181 - فمَنْ غيَّرَ الوصيَّةَ وحرَّفها، بزيادةٍ أو نَقص، أو كِتْمان، عنِ الأوصياء، أو الأولياء، أو الشهود، بعدَما سمعَ قولَ الموصِي أو وصلَ إليه وتحقَّقَ لديه، فإنَّ إثمَ التغييرِ والتبديلِ على مَنْ فعلَ ذلكَ وخانَ الأمانة، ولا شَيءَ على الموصِي.
وإنَّ اللهَ سميعٌ لِما قالَ الموصِي، عليمٌ بتحريفِ المبدِّلِ وخيانتِه، ويَنتَظِرُهُ عِقابٌ شَديد.
﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 182].
182 - فمَنْ عَلِمَ أنَّ الموصِيَ قدْ أخطأ ومالَ عنِ الحقّ، وخرجَ عنِ الحدودِ المأمورِ بها وظَلم، كأنْ يوصيَ لابنِ البنتِ ليَزيدَ مِنْ نَصيبِها في الميراث، أو نحوِ ذلكَ منَ الوسائل، فللوصيِّ أنْ يُصلِحَ الوصيَّةَ على الوجهِ الشرعيّ، ولا حرجَ عليهِ في ذلك، وليسَ هوَ منَ التبديلِ والتحريف، بلْ هو طَلَبٌ لوجهِ الحقّ، وتَوفيقٌ بينَ مقصودِ الموصي والأمرِ الشرعيّ. ولهذا المُصلحِ مَغفرةٌ ورَحمة، لأنَّهُ أرادَ الحقَّ والعَدل.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
183 - أيُّها المؤمنون، لقد فُرِضَ عليكمُ الصيامُ كما فُرِضَ على الذينَ مِنْ قَبلِكم منْ أهلِ الكتاب؛ ليكونَ ذلكَ عوناً لكمْ على طاعةِ اللهِ وخَشيتِهِ والبُعدِ عنْ مَناهيه، فإنَّ الصومَ فيهِ تَربيةٌ وتَزكية، وتَعليمٌ على الطاعةِ والامتثال.
﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].
184 - وهوَ أيامٌ مَعدودات.
وكانَ ذلكَ في ابتداءِ الإسلام، يَصومونَ منَ كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّام، ثمَّ نُسِخَ بصومِ شهرِ رمضان، كما يأتي في الآيةِ التالية.
أو أنَّ المقصودَ بالمعدوداتِ الشهر، ويكونُ التقليلُ تسهيلاً على المكلَّفين، فهيَ قليلةٌ بالنسبةِ لأيامِ السنة.
فمنْ كانَ مريضاً مرضاً يَضرُّهُ الصوم، أو يَعْسُرُ مَعه، أو كانَ مُسافراً سَفراً تُقْصَرُ بهِ الصَّلاة، فلا بأسَ عليهِ أن يُفطِر، على أنْ يَقضيَ ما فاتَهُ منْ ذلكَ بعدُ.
أمّا الذينَ يَصومونَهُ ولكنْ بمشقَّةٍ بالغة، كالشيخِ الكبير، والمريضِ الذي لا يُرجَى بَرْؤه، فيُعطِي بدلَ صيامِ كلِّ يومٍ طعامَ مِسكين، وهوَ قَدْرُ ما يأكلهُ في يَومِه. فمنْ زادَ على ذلكَ فهوَ أفضَل.
والصومُ خيرٌ لمنْ أُبيحَ لهُ الإفطارُ إذا لم يَجِدْ في ذلكَ مشقَّة.
وإذا تبيَّنتُمْ هذا وكنتُمْ مِنْ أهلِ العلمِ والتدبُّر، علمتُمْ أنَّ الصومَ خيرٌ منْ ذلك.
وهناكَ تفسيرٌ آخرُ للآية، وهوَ قولُ الجمهور، فقدْ كانَ المسلِمونَ في أوَّلِ الأمرِ مخيَّرينَ بينَ صيامِ عدَّةِ أيّام، أو إطعامِ مَساكين، فيكونُ مَعناها: وعلى الذينَ يَستطيعونَ الصِّيام، إذا أُفطِروا، فِدية. ثمَّ نُسِختْ، وصارتِ الفِديةُ للعاجزِ إذا أُفطِر.
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
185 - شَهرُ رمَضان، الذي أَنزَلَ اللهُ فيهِ القُرآنَ العظيم، في لَيلةِ القَدْرِ منه، هادياً للنَّاسِ منَ الضَّلالةِ إلى الإيمان، فيهِ آياتٌ واضِحاتٌ تَهدي إلى الحقِّ مِنَ الحدودِ والأحكام، لمنْ تدبَّرَها وآمنَ بها حقَّ الإيمان. وبها يُفَرَّقُ بينَ الحقِّ والباطل، والحلالِ والحرام.
ولهذا اختارَهُ اللهُ ليَكونَ شهرَ الصَّومِ للمُسلمين، فمَنْ حضَرهُ وكانَ مُقيماً سالماً وجبَ عليهِ صيامُهُ كلِّه.
أمّا مَنْ كانَ بهِ مرضٌ يَشُقُّ عليهِ الصيامُ مَعه، أو يُؤذِيه، أو كانَ في حالِ سفرٍ لمسافةٍ تَقْصُرُ به الصلاة، فلهُ أنْ يُفْطِر، لكنْ عليهِ أنْ يَقضيَ هذهِ الأيامَ إذا تعافَى، أو أقام، في الأشهرِ التاليةِ منه.
وإنَّما رَخَّصَ اللهُ لكمُ الفِطْرَ في حالاتٍ تيسيراً عليكم، ورحمةً ورأفةً بِكم.
وإنَّما أمرَكمْ بقضاءِ ما فات، لتُكْمِلوا عددَ أيامِ الشَّهرِ المفروضِ عليكمْ صَومُه. ولتَذكروا اللهَ وتُعظِّموهُ وتكبِّروهُ عندَ انقضاءِ الصوم، ليلةَ الفطرِ ويومَ العيد؛ شُكراً لهُ على ما هَداكمْ إلى هذهِ الطاعةِ العَظيمة، التي تَزيدُ مِنْ حسَناتِكم، وتُقَرِّبُكمْ مِنْ رحمةِ الله، ويُدخِلُكمْ بها الجنَّة.
ولتَشكروهُ على هذهِ النِّعمةِ الجَليلة، وما يسَّرَهُ عليكمْ مِنَ الفِطْرِ فيهِ للضَّرورَة.
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
186 - وإذا سألكَ الناسُ عنِّي أيُّها النبيّ، فإنِّي قَريب، سَميعٌ مُطَّلع، أُجيبُ دعوةَ مَنْ يَدعوني، فليَستَجيبوا لندائي إذا دَعوتُهم للإيمان، وليَمتَثِلوا أوامِري إذا شَرَعتُ لهمُ الأحكام، وليَثْبُتوا على الإيمان، وليُداوِموا على الطَّاعة، لعلَّهم بذلكَ يَهتدونَ ويَعملونَ الأعمالَ الصالحة.
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].
187 - كانَ أمرُ الصومِ في شهرِ رمضانَ أوَّلاً يختلفُ شَيءٌ منهُ عمّا شُرِعَ مِنْ بعد، فكانَ مَسموحاً للصائمِ أنْ يأكلَ ويَشرَبَ ويَنكِحَ بعدَ الإفطارِ ما لم يَنَم، فإذا نامَ حَرُمَ عليهِ ذلك. وهذا التحريمُ يَنالُ الذي لم يُفْطِرْ أيضاً، فلو نامَ ولم يُفْطِرْ لم يَجُزْ لهُ الإفطارُ بعدُ. فشقَّ ذلكَ على الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم، وأُغميَ على رَجلٍ منهم، كما وقعَ بعضُهمْ على نسائه، فنـزلتِ الآيةُ الكريمة، ففَرِحوا فرَحاً شَديداً، وفيها:
لقدْ أحَلَّ اللهُ لكمُ الجِماعَ في ليلةِ الصيام، فأنتُمْ سَكَنٌ وسِترٌ لنِسائكم، تَلمَسوهنَّ وتُضاجِعوهنَّ ولا تَصبِرونَ عنهنَّ مع كثرةِ ملابَستِكمْ لهنّ. وهنَّ كذلك.
وقدْ عَلِمَ اللهُ أنَّكمْ كنتُمْ تَخونونَ أنفُسَكمْ وتُعَرِّضونَها للعِقابِ بمواقعَتِهنَّ وقدْ نُهيتُمْ عنْ ذلك، فتابَ عليكمْ عندما تُبتُمْ منْ ذلكَ وعَفا عنكم، فلا بأسَ الآنَ منْ مباشرتِهنّ، واطلبوا ما قدَّرَهُ اللهُ لكمْ منَ الذرِّية.
وكُلوا واشرَبوا في الليلِ حتَّى يتبيَّنَ لكمْ بَياضُ النَّهارِ مِنْ سَوادِ الليل، وهوَ الفَجر، ثمَّ أكمِلوا صومَكمْ مِنْ هذا الوقتِ حتَّى يَحِينَ المَغرِبُ مِنَ الليل.
ولا تُجامِعوا نساءَكمْ وأنتُمْ مُقيمونَ في المساجدِ بنيَّةِ الاعتِكاف، إذا خَرجتُمْ منها إلى البيوتِ لحاجَة.
وتلكَ الأحكامُ المذكورةُ في الصِّيامِ والاعتِكافِ حُدودٌ حَدَّها اللهُ فلا تَقرَبوها، فَضلاً مِنْ أنْ تَتجاوزوها.فلا تَقرَبوا الحدَّ الحاجزَ بينَ الحلالِ والحرامِ خشيةَ أنْ تَقعوا فيه. وهوَ مبالغةٌ في النهي عنْ تخطِّيه.
وهكذا يبيِّنُ اللهُ الأحكامَ المشروعةَ للناسِ بوضوحٍ ليَهتدوا بها، ولئلاّ يُخالِفوا أوامرَهُ ونَواهيه.
﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].
188 - ولا يَأكُلْ بَعضُكمْ أموالَ بَعضٍ بدونِ حقّ، كأنْ يكونَ على الرجلِ دَيْنٌ ولا بيِّنةَ على ذلك، فيََجحَدُه، ويُخاصِمُ بهِ القضاةَ والحُكّام، وهوَ يَعرِفُ أنَّ الحقَّ عليه، وأنَّهُ آكِلُ حَرام. أو بأيِّ شكلٍ آخرَ يُوجِبُ إثماً، كشهادةِ الزُّور، واليَمينِ الفاجِرَة، والسرِقَة، والغَصْب، والقِمار، وأكلِ أموالِ اليَتامَى، وجَحْدِ الودائع. وإنَّ ارتكابَ المعاصي معَ العلمِ بها أعظمُ جُرْماً.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].
189 - ويسألُكَ الناسُ -أيُّها الرسولُ الكريمُ- عنْ فائدةِ الأهلَّةِ والحِكمةِ منها، فقلْ لهم: لقدْ جعلَها اللهُ مواقيتَ للناس، يعرفونَ بَها أوقاتَ عباداتِهم، منَ الصيام، والزَّكاة، والحجّ، والكَفّارات، ويَعرِفونَ بها حُلولَ أجَلِ الدَّين، وعِدَّةَ النساء، وأوقاتَ الزراعة، وما إلى ذلك.
وليسَ منَ الخيرِ أنْ تَدخُلوا البيوتَ منْ فُرَجٍ وأنقابٍ وتَتركوا الأبوابَ إذا كنتُمْ مُحْرِمين، ولكنَّ الخيرَ مَنْ خَشِيَ اللهَ وتركَ مخالفةَ أمرِه، فادخُلوا البيوتَ مِنْ أبوابِها كالعادةِ ولو كنتُمْ مُحْرِمين، وكونُوا على طاعةٍ واستِقامةٍ لتَفوزوا بالبِرِّ والهُدَى.
وكانتِ الأنصارُ وقبائلُ منَ العربِ تَفعلُ ذلك، فنـزلتِ الآيةُ الكريمة.
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
190 - وقاتِلوا في سبيلِ اللهِ وإعلاءِ دينِهِ الذينَ يُقاتِلونَكم منَ الكفّار، ولا تَعتَدوا في ذلك، ك***ِ النساءِ والصبيانِ والشيوخِ والرهبان، وكالتمثيلِ بال***َى، وكحرقِ الأشجارِ و***ِ الحيواناتِ لغَيرِ مَصلحة، فإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المتجاوزينَ في حدودِ ما شُرِعَ لهم.
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 191].
191 - وتطوَّرَ أمرُ الجهاد، فقالَ اللهُ ما معناه: واقتُلوا المشركينَ أينَما وجَدتُموهم، دِفاعاً وهُجوماً، وأخرِجُوهم منْ ديارِهم كما أخرجُوكمْ منْ ديارِكم، وما همْ عليهِ منَ الكفرِ والشِّركِ أعظمُ منَ القَتل، فقدْ كانوا يَفْتِنونَكمْ عنْ دينِكم، ويُعَذِّبونَكم، ويُصادِرونَ أموالَكم، ولا يَسمحونَ لكمْ بإقامةِ شعائرِ دينِكم، ويُقاتلونَكم ليُبيدُوكم، انطلاقاً منْ ملَّةِ الكفرِ التي همْ عليها.
ولا تَبدَؤوهم بالقِتالِ عندَ المسجدِ الحرامِ حتَّى يَبدَؤوا همْ به، فإذا قاتلوكمْ فيهِ فلا تُبالوا بقِتالِهم، فإنَّ هذا جزاءُ الكافرينَ المُعتَدين، يُفْعَلُ بهمْ مثلَما فَعلوا.
﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 192].
192 - فإذا انتَهَوا عنِ القِتالِ والكُفر، فإنَّ اللهََ يَغفِرُ لهمْ ما سَلف، ويَرحمُهم، ولو أنَّهمْ قَتلوا المسلمينَ في حَرَمِ الله، فإنَّ اللهَ يتوبُ على مَنْ تابَ مهما تعاظَمَتْ ذنوبُه، ويَغفِرُها له.
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193].
193 - وقاتِلوا الكافِرينَ حتَّى تَكسِروا شَوكتَهمْ ولا يَبقَى هناكَ شِرك، ويكونَ الدِّينُ خالِصاً لله، ظاهِراً على سائرِ الأديان، لا نَصيبَ للشيطانِ فيه، ولا أمرَ للكفّارِ عليه. فإذا انتَهَوا عنِ الشِّركِ وقتالِ المؤمنينَ فكُفُّوا عنهم، ولا تَعتَدوا عَليهم، فإنَّهُ لا عُقوبةَ إلا للظالم، وهؤلاءِ تابوا مِنْ ظُلمِهم.
﴿ الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194].
194 - وإذا قاتلَكمُ المشرِكونَ في الأشهرِ الحُرُمِ -وهيَ رجبٌ وذو القَعْدةِ وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ - فقاتِلوهمْ فيها، فإنَّ كلَّ حُرْمَةٍ أو أمرٍ معظَّمٍ يُهْتَكُ مِنْ قِبَلِهمْ يُفْعَلُ بهمْ مثلُه، فقاتِلوهمْ جزاءَ اعتدائهمْ عَليكم، وأطيعُوا اللهََ في أمورِكمْ واتَّقُوه، فلا تُبادِروهمْ بالقِتالِ في الحَرَمِ أو الأشهرِ الحرُم، ولا تَعتَدوا إذا انتَصرتُم، فإنَّ اللهََ معَ الذينَ يَمتَثلونَ أوامرَهُ بالنصرِ والتأييدِ والتمكين.
﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
195 - قالَ بعضُ الأنصارِ لبعضِهمْ سِرًّا: إنَّ أموالَنا قدْ ضاعت، وإنَّ اللهَ قدْ أعزَّ الإسلام، وكَثُرَ ناصِروه، فلو أنّا أقَمنا في أموالِنا فأصلَحْنا ما ضاعَ منها. فأنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ فيهم.
قالَ أبو أيُّوبٍ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه، كما في الحديثِ الصحيح: فكانتِ التهلُكَةُ: الإقامةَ على الأموالِ وإصلاحِها، وتَرْكَنا الغَزوَ.
وفي الآيةِ توجيهٌ عامٌّ وأمرٌ للمسلمينَ بما هوَ مَطلوبٌ منهم: أنفِقوا مِنْ أموالِكم في الجهادِ وسُبلِ الخَير، وإنَّ تَرْكَ ذلكَ خَسارةٌ وهلاك، فأحسِنوا أعمالَكمْ وأخلاقَكم، وأنفِقوا على الجهادِ وأهلِ الحاجة، فإنَّ اللهَ يُريدُ الخيرَ بالمحسنين.

M-fawzy
22-09-2015, 05:58 PM
جزاك الله خيرا

نيرمين كامل
14-10-2015, 03:14 PM
السلام عليكم ورحمت الله وبركاته
جزاكم الله خيرًا، على نقلكم الطيب
ان هذا الموضوع رائع ونال اعجابى

Busy0
17-01-2016, 09:15 PM
موضوع رررائع
رفع الله قدرك فى الدارين
واجزا لك العطاء
شكرا لطرحك المميز
وانتقائك الهاتف
جعله المولا فى موزين حسناتك
بوركت جهودك