مشاهدة النسخة كاملة : عمر بن عبد العزيز..نموذج الحاكم المسلم


ابو وليد البحيرى
09-05-2015, 11:37 AM
عمر بن عبد العزيز..أنموذج الحاكم المسلم

د. لطف الله ملا عبدالعظيم خوجة



سئل الحاكم.. الرئيس.. السلطان.. الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "ما كان بدء إنابتك؟ فقال: أردت ضرب غلام لي فقال: اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة".
لا يقبل موعظة ضعيف إلا طاهر النفس، خالص السريرة من الكبر والعجب بالنفس؛ وعمر كان من أشراف الناس وأمرائهم، فهو من بيت الخلافة، فعمه عبد الملك بن مروان، غير أن بذور السماحة ملأت نفسه، كلما ارتفع منزلة، علا تواضعا ولينا.
كان خيرا وبرا قبل الإمارة وبعدها، قال أنس بن مالك: "ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله من هذا الفتى".
كتب الله أن يكون خليفة الأمة، جاءته وهو لها كاره، فخلع نفسه، فتنادى الناس به، فثبت عليها، واستعان بالله على ما يراه مصيبة وقعت عليه.
أجمع العلماء على أنه من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وقد ذكر جماعة من الأئمة أنه إمام مجدد، ينطبق عليه قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها أمر دينها) [رواه أبو داود في الملاحم باب ما يذكر في قرن المائة، عن أبي هريرة، صحيح أبي داود 3606]
هذا الإمام الزاهد، حجة على العباد والحكام والولاة في أقواله وأفعاله وسيرته؛ أحيا من السنن ما اندرس، وأعاد المظالم، ولم يحاب أحدا حتى ذوي القربى.
فبدأ بأهله وعياله، فخير زوجته بين: أن تقيم معه؛ على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها. فاختارت المقام معه. وكذا فعل مع جواريه، فأعتق من أعتق منهن، وانصرف عن البواقي، شغلا بما هو فيه من أمور الخلافة، تقول زوجه: "ما جامع واحتلم وهو خليفة". وليس هذا بواجب، لكنه ألزم نفسه؛ حتى يفرغ تماما لمصالح الرعية.
فإنه كان يغتم ويهتم لأمر رعيته، تقول زوجته: "دخلت عليه يوما، وهو جالس في مصلاه، واضعا خده على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟، فقال: "ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت فتفكرت في: الفقير الجائع، والمريض الجائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد. فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي، فبكيت".
قسم ثروات الأمة بالعدل، لم يخص أحدا لمجرد نسبه أو صلته، ولم يعط لرضا أو هوى، فانصرف الشعراء والمنتفعون عن بابه، ومن كان له حق في بيت المال، فما كان من حاجة له أن يأتي باب عمر، فحقوقهم تصل إليهم وهم في بيوتهم في بلادهم.
(لقد أغنى الناس عمر).. قالها الساعي على صدقته، وهو يجوب إفريقيا يبحث عن فقير.
أعطاهم نصيبهم الذي يغنيهم عن السؤال، وأعطى المنقطعين لتعلم القرآن والفقه.
وكتب إلى عماله أن يستعملوا أهل القرآن، وأن يجتنبوا الأشغال عند حضور الصلاة.
وأمرهم ألا يحبسوا الناس بالظنة قبل ثبوت البينة، وقال: " خذهم بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله".
كتب إلى بعضهم: "أذكرك طول سهر أهل النار في النار، مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك".
فخلع العامل نفسه وطوى البلاد وقدم على عمر، فقال له: "مالك؟، فقال: خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية أبدا".
إذا خلي في بيته، غل نفسه، ولبس المسوح، وقام يصلي يناجي ربه كالعبد الآبق ويقول: "اللهم إن عمر ليس بأهل أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال عمر".
يكثر أن يقول: "اللهم سلم سلم".
تقول زوجه: " ما رأيت أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه.
قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش، فيذكر الشيء من أمر الآخرة، فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فاطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها".
وبكى مرة فبكى لبكائه أهل الدار، فلما سري عنه سألوه فقال: "ذكرت منصرف الناس يوم القيامة، فريق في الجنة وفريق في السعير".
يجمع العلماء والفقهاء ويجلس إليهم، هو الذي يطلبهم، ليس كل أسبوع، ولا كل شهر أو سنة، بل كل ليلة، فيذكرون الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة.
كتب مرة إلى أحد إخوانه وكان في طريقه إلى الجهاد: "إن أحق العباد بإجلال الله والخشية منه، مَنِ ابتلاه الله بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حسابا ولا أهون على الله إن عصاه مني، فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي، وخفت أن تكون منزلتي التي أنا بها [=الرياسة والحكم] هلاكا لي، إلا أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنك تريد الخروج في سبيل الله، فأحب يا أخي إذا أخذت موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة، فإن حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني به، أن يرحمني ويعفو عني".
نشأ ناعم العيش، يؤتى بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: "ما أحسنه، لولا خشونة فيه". فلما ولي الخلافة صار يلبس الغليظ المرقوع ويقول: "ما أحسنه لولا لينه".
قال مالك بن دينار: " يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي؟، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أتته الدنيا فاغرة فاها، فتركها جملة".
قال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيرا، فقال: " بل جزى الله الإسلام عني خيرا".
وقيل له: " لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتا، دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله، فقال: " والله لأن يعذبني الله بغير النار، أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني لذلك أهل".
من أقواله: " إن نفسي تواقة، وإنها لم تعط شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل، فلما أعطيت الذي لاشيء أفضل منه في الدنيا، تاقت إلى ما هو أفضل من ذلك"؛ أي الجنة.
كان رحمه الله تعالى معدودا في العلماء، وله آراء مذكورة في كتب الفقه والتفسير والحديث، فمن فتاواه أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم ي***، وهذا القول نصره ابن تيمية، وألف كتابا في ذلك عنوانه:" الصارم المسلول على شاتم الرسول".
منع أهل الذمة من إدخال الخمور، ونهى عن النياحة والغناء، وأمر بالتنكيل بمن خالف ذلك.
في عهده انتشر العدل، ونعم الناس بالأمن، حتى البهائم نعمت به.
روى ابن سعد أن راعيا قال: "كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز، فكانت الشاء والذئاب والوحش ترعى في موضع واحد، فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب لشاة، فقلت: ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك. قال حماد بن زيد: فحدثني هو أو غيره أنهم نظروا فوجدوه قد هلك في تلك الليلة".
وروى عن مالك بن دينار: " لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس، قالت رعاء الشاء في رؤوس الجبال: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟، قيل لهم: وما علمكم بذاك؟، قالوا: إنه إذا قام على الناس خليفة عدل، كفت الذئاب عن شائنا".
مثل هذا يحدث إذا نزل عيسى عليه السلام، فإذا الحاكم صلح نزعت الشرور من النفوس ومن البلاد، فأمنوا واطمئنوا. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)
مات رضي الله عنه سنة 101هـ وعمره تسع وثلاثون سنة، مدة خلافته سنتان وخمسة أشهر، وهو من نسل عمر بن الخطاب، فهو جده لأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان يلقب بالأشج، لشجة كانت في وجهه، لما مات.
قال الحسن البصري: " مات خير الناس".
وعن خالد الربعي: " إنا نجد في التوراة أن السماوات والأرض تبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين صباحا".
سأل رجل ابن عباس: "يا أبا عباس، أرأيت قول الله: { فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}، فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟، قال: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء، منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن، فأغلق بابه من السماء، الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه: بكى عليه.
وإذا فقده مصلاه من الأرض، التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها: بكت عليه. وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض" [تفسير ابن كثير سورة الزخرف]
قال الذهبي: "قلبي منشرح للشهادة لعمر أنه من أهل الجنة". [طبقات بن سعد 5/253ـ320، ابن كثير 5/9/192، السير 5/114]