مشاهدة النسخة كاملة : القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 1


ابو وليد البحيرى
11-05-2015, 10:13 AM
القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 1
محمد ويلالي



تقديم:
هذا بَحث مُقتضب، حاولت فيه - جهدي - أنْ يَجمع بين المعايير الأدبية والفنية كما أرسى قواعدَها نُقَّادُنا القُدامى، وبلورها النُّقادُ المحدثون، وبين الأصول والمبادئ العقدية، بحسب الضَّوابط والاحتياطات التي وجَّهَتِ الشريعةُ الإسلامية الأدبَ إليها؛ إسهامًا في تقويةِ هذا الجانب من الأدب، الذي يخدم الدعوة الإسلامية، ويسير في رَكْبِها.
وقد تَمَّ اختياري لديوان "محمود غنيم": "صرخة في وادٍ" لإجراء النَّظرة التطبيقِيَّة في ضَوئه؛ لِمَا الْتَمَسْتُ فيه - إلى جانب البراعة الفنية - من التزامٍ كبير بقضايا الأُمَّة، التي جاءت شريعتنا لإرساء قواعِدِها، وجَعْلِ الشعر أداةً طَيِّعَةً لهذا المشروع، إضافةً إلى ما يَتمَيَّز به الشاعر "محمود غنيم" من تطويعٍ للغة؛ مِمَّا يثبت صلاحِيَّتها لحمل معاني هذا النوع من الأدب، الذي قد ينعت بـ"الأدب الإسلامي"، أو "الأدب الديني"، أو "أدب الدعوة"، وليتخذ مكانًا له بجانب الأنواع والاتِّجاهات الأدبية الأخرى.
وقد شمل هذا البحثُ فصولاً ثلاثة، ومقدمة، وخاتمة، وفِهرسًا للموضوعات.
أمَّا الفصل الأول:
فتحدثت فيه عن الإسلامِيَّة في الأدب ومُقوماتِها، وقَسَّمْته إلى مباحثَ أربعة، هي:
1- الإنسان والكلمة.
2- دور الأدب - والشعر خاصَّة - في الدِّفاع عن العقيدة.
3- علاقة الأدب بالعقيدة.
4- نحو مذهب أدبي إسلامي.
وأما الفصل الثاني: فقد شمل الحديثَ عن القضايا الإسلامية في شعر محمود غنيم، وقدمت لذلك بنقاط ثلاث:
1- نبذة عن حياة "محمود غنيم".
2- مكوناته الثقافية، ومكانته الشعرية.
3- بين يدي الديوان.
ثم قسمت هذا الفصل إلى مباحث خمسة:
1- القضايا العقدية: وقد شمل الحديث عن مطالب خمسة:
أ- الحث على التمسُّك بمبادئ العقيدة.
ب- الأخلاق ودورها في النهوض بالمسلمين.
ج- معاول هدم.
د- الحكومة الإسلامية.
هـ- صورة الماضي في شعره.
2 - القضايا الاجتماعية: وقد شمل الحديث عن مطالب خمسة:
أ- حالة غنيم الاجتماعية، واهتمامه بقضية الفقر.
ب- أسباب الضعف المادي في مصر آنذاك.
ج- الأخلاق في المجتمع المصري.
د- موقف المسلمين من الحضارة الغربية.
هـ- بين الشرق والغرب.
3 - القضايا الوطنية: وشمل الحديث عن مطالب.
4 - وقفة إنصاف: شملت الحديث عن مطالب ثلاثة:
أ- المغالاة في التشبيه.
ب- الغلو في المدح.
ج- موقفه من المرأة.
وأما الفصل الثالث:
فهو عبارة عن دراسة فنية للديوان، وقد شمل الحديث على المعاني والأفكار، بما فيها التعبير، والصياغة، والأسلوب، والألفاظ، وقضية المحافظة والتجديد، واللغة، وطول النفس، وبناء القصيدة، وموقف "محمود غنيم" من الشعر الحر، والوحدة العضوية، وظاهرة شعر المناسبات، والتصوير البياني، والخيال ثم العاطفة.
وشكري الجزيل إلى فضيلة المشرف "د. عبدالباسط بدر"؛ لتفضله بقراءة البحث قراءة فاحصة، وتزويدي بتوجيهاته القيمة، ونصائحه المفيدة، والله الموفق.
الفصل الأول: الإسلامية في الأدب
المبحث الأول: الإنسان والكلمة:
من طريف ما عرف التَّاريخ الإنساني هذه الصِّراعات التي تدور بين المتطلبات النفسيَّة، من تَحقيق الرغبات الباعثة على الاستجابة لهوى النَّفس ونزواتِها، وبين الأهداف العقليَّة الرصينة، الباعثة على العمل والعزم، مع تحقيق الذَّات، والتسامي بها إلى المثال والقدوة.
وبين هذين الطَّرفين غير المتعادلين يَسْبَحُ الكثير، ويشقى أو يَسعد الكثير، وحَقُّ الإنسانية ألاَّ تنزلق في دَهْسِ المتطلبات الأولى، باعتبارها تافِهَة ظرفية مَحدودة، وإنَّما حَقُّها أن تؤدي الرِّسالةَ البشرية السامية، التي تدور في إطارِ التعلُّق بقدوة وملهم ومرشد، لا يُمكِن للإنسان أن يعيش من دونه، ولا يستطيع الفكاك منه بأيِّ حال من الأحوال.
وتتمثل هذه التبعيَّة في إيجاد قانون شامل يلتمس فيه النجاح والصلاح، وهو طريقُ تَحقيق العُبُودية لله وَحْدَه.
وإذا نحن بَحثنا في مقومات هذه الطريق، والأسس التي يَجب أن تقيم صرحها عليها، علمنا أنَّ "الكلمة" كان لها الدَّور الفَعَّال في تَحقيق النصر والغلبة، والبُعد عن الخبط والجلبة، وأكبر مُمثل لهذه المسألة تاريخُنا الإسلامي، وكيف كانت "الكلمة" تفتح الصُّدور، وتغزو القلوبَ؟ وكيف كانت ترفع من قيمة الفرد إلى عَنَان السماء، أو تُرْدِيه إلى الحضيض؟ وكيف كانت تُرِي للناظر أو السامع الشيءَ في غاية الجمال والرَّوْعة، ثم ما تلبث أن تلعب بعواطفه ووجدانه، فيجعل ذلك الشيء نفسه مطلخِمًّا مُظلمًا؟
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ *** وَإِنْ تَعِبْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا *** سِحْرُ الْبَيَانِ يُرِي الظَّلْمَاءَ كَالنُّورِ
وهل القرآن في بادئ إقناعه، ومقدم دلائله وبراهينه، إلاَّ كلمة نفذت إلى أعماقِ القوم، وسَرَت في حسهم مَسْرَى الدم في العروق، فحركت كلَّ ذرة في دواخلهم، وهَزَّت كل كيان في وجدانهم وأحاسيسهم؟ فآمن مَن آمن اقتناعًا واعترافًا، وصد من صد عنادًا وتَحديًا واعتراضًا؛ قال الله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)[البقرة: 26]، وقال - تعالى -: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النمل: 14].
لماذا - إذًا - كان للقرآن الكريم هذا التأثير البالغ، وهذا الاستحواذ على النفوس والقلوب جميعًا؟ لماذا لَم يَملِك القرشيُّون من أمرهم إلاَّ أن يُحَرِّضوا أصحابَهم على عدم قراءته، أو الالتفات إليه، وقالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26]، في حين لم تهز الحركات الدينيَّة السابقة منهم شعرة واحدة؟ ألَم يكن في المجتمع القرشي من يدعون إلى الحنيفيَّة من كبار الخطباء، كـ"قس بن ساعدة"، و"أمية بن أبي الصلت"، و"ورقة بن نوفل"، كما كان منهم الدُّعاة إلى اليهودية والنصرانية، المتمثلون في أهل الكتاب المنتشرون في الجزيرة العربية وحولها؟
لقد كان هؤلاء كلهم ينزعون لمعتقداتهم، وكان كلُّ فريق منهم يدعو من استطاع إلى دينه وطريقته، ولكن لم يخبرنا التاريخ - إطلاقًا - بأنَّ قريشًا قامت بحرب ضِدَّ دَعْوةٍ من هذه الدَّعوات؛ لأَنَّها - على الرغم من مكانة أصحابها، وعُلُوِّ مرتبتهم وتأثيرهم - كان القرشيون يُحِسُّون بتفاهتها، وأنَّ تأثيرها لا ينجم عنه أدنى خطر على أصنامهم، ومركزهم الاقتصادي، ووضعيتهم الاجتماعِيَّة، وهيمنتهم السياسية، ولكن فَوْرَ بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - رُجَّ هؤلاء في نفوسهم رَجًّا بَليغًا، وهُزُّوا هَزًّا عنيفًا؛ لأَنَّ الدَّعوة الجديدة لم تتخذ سبيلَ الدَّعوات الباردة السابقة، وإنَّما راعت أهم ما يمتاز به القوم ويعتزُّون به، وهو "الكلمة"؛ لغتهم التي كانت تشكل النسْغَ الأساسَ في تَحقيق هُويَّتِهم، والرفع من مكانتهم؛ لِمَا لها من اتِّصال شديد بالأنساب، التي كانت لها قيمة كبيرة في نفوسهم، فكان الواحد منهم لا يكاد تبلغُ أذنيه آيةٌ من القرآن أو آيات، حتى يُحدد موقفه على الفور من استجابةٍ أو إعراض، وكان أمرًا باهرًا أن يؤمن به عددٌ غير يسير، في اللحظة التي عملت قريشٌ - خلالَها - بكل جهدها ووسائلها أن تَمنع الناس من الاستماع لهذا "السحر" الجديد، الذي لم يكن لهم به من قبيل.
ويزداد أمرُ "الكلمة" خُطُورةً، حين نعرف أنَّ عجز هؤلاء عن معارضة القرآن لم يكن ناتِجًا عن "صرف" لهم عن ذلك، أو عن تَحَدٍّ بما هو يُجاوز الطاقة، وإنَّما كان التحدي مَمَّا يُجيدونه نفسه ويحبكونه ويُحرزون فيه قصب السبق؛ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف: 2]، كما كان هذا التحدي لا يعدو حدودَ اللغة والمفردات الظاهرة، دون المطالبة بجودة معنى، أو مُحاذاة فكرة، كما قال الله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ)[هود: 13 - 14].
والمتأمل في هذه الآية يرى أن التحدي وقع بأمور متعددة:
1- أنه تنزل في التحدي من أن يأتوا بمثله كُلِّه؛ كما في قوله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)[الطور: 33 - 34]، إلى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات؛ كما في قوله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[هود: 13]، فلَمَّا لم يستطيعوا، تحدر معهم إلى أن يأتوا بمثل سورةٍ واحدة مثله؛ كما في قوله - تعالى -: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 23].
2- إثارة المشاعر وروح التحدي في دعوتهم؛ للاستعانة بمن استطاعوا من غير الله - تعالى - من جن أو إنس، كما أخبر - سبحانه - في سورة أخرى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88].
3- تأكيدًا لمعرفة الله - تعالى - السابقة بعجزهم عن مُعارضته، فقد سهل الأمر أمامهم في أن يأتوا بهذه السور العشر مُفتراةً، دون اشتراطِ المعقولية الفكرية، أو مُضاهاة المضمون، فلَمَّا عجزوا عن الشقِّ الأول، تبيَّن أنَّهم عن الثاني أعجز.
4- الإثارة البالغة لمحاولة المعارضة بقوله - تعالى -: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 23] دلالة على هزيمتهم، وعدم مقدرتهم، على الرَّغم من أنَّهم أرباب اللغة، وأوتاد الفصاحة.
ويزداد الأمر خطورة، إذا عرفنا أنَّ هؤلاء العرب لم يكونوا بالسذج البُسطاء، ولا بالدهماء الغمر، وإنَّما كانوا على نصيب من الثَّقافة والمعرفة، وحسبهم أن تجسد هذه المعرفة وتلك الثَّقافة اعتناءَهم بعربيتهم، واهتمامهم بالسليقة، إضافةً إلى أن النقوش تثبت معرفتهم بالكتابة.
يقول كارل بروكلمان: "وليست أراضي الشمال في نجد وتهامة غنية بالنقوش والآثار الكتابية مثل بلاد الجنوب، وإن وجدت دلائل على بعض اتجاهات الحياة الدينية في النقوش المسماة تسمية غير دقيقة بـ "النقوش الثمودية" و"اللحيانية"، وكذلك في"النقوش الصفوية" على مقربة من دمشق"[1].
فهناك - إذًا - كتابة، وإن كانت يسيرة غير مُؤثرة، غير أنَّ مُجرد وجودها - كيفما كان حجمها وكَمُّها - دليل على أن القوم ليسوا في مطلق "الجاهلية"، ويزيد الأمر تأكيدًا ما قاله ناصر الدين الأسد: "وَصَلْنا - بعد الذي قَدَّمْنَا من شواهدَ وأدلة - إلى مفصل من الأمر نطمئن عنده إلى أن الكتابة كانت شائعة عند عرب الجاهلية، شيوعًا يكفي لأن ننفي عنهم ما ألحقه بهم التاريخ الأدبي من وصمة الجهل والأمية"[2].
ووجود الكتابة في هذا العصر، الذي يُعَدُّ مُقدمةً لظهور نضج فكري، ظهرت بوادره مع مَجيء الإسلام - ليس بدعًا في التاريخ، بل إنَّ المجتمعات القديمة الأخرى - كالإغريق والفينيقيِّين والمصريين - عرفوا أيضًا الكتابة قبل الانتقال إلى مرحلة الإنتاج الذي وَصَلَنا عنهم.
وكذلك، فليس المجتمعُ الجاهلي في هذه الدرجة القُصوى من سوء الأخلاق والمعاملات مُطلقًا، بدليل أنَّ القرآن لم يغير المجتمع تغييرًا كليًّا شاملاً، وإنَّما هناك تقريرات مُتعددة ثابتة، كتقرير خصلة الشهامة، والشجاعة، والكرم وغيرها.
وقوم عرفوا الكتابة، واستعملوها في نقش الآثار الدينية والقانونية على الحجارة منذ ألف عام قبل الميلاد - على الأقل[3] - كانوا - لا شَكَّ - على عِلْمٍ بالأساليب المختلفة، وتَمييز صحيحها من رَديئها؛ ولذلك جاء أمر الله - تعالى - لنبيه بأن يخاطبهم بأبلغ القول: (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)[النساء: 63].
ومما يدُلُّ على قوتهم اللُّغوية وبراعتهم الكلامية، ما وصفهم به - عز وجل - حين قال: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)[الأحزاب: 19]، وذلك أنه يقال: سلق فلانٌ فلانًا بلسانه، إذا أغلظَ عليه في القول مجاهِرًا؛ قال الفراء: بألسنة سليقة ذربة، ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغًا[4].
وفي هذا دليلٌ على أنَّ القومَ كانوا ذَوِي نباهة بصنوف الكلام، ودِراية بفُنون القول؛ ولذلك وجب الحذر في مكالمتهم، والتأني في مُخاطبتهم؛ حتى لا تستعمل إلاَّ "الكلمة" البليغة، المؤدية للمُراد من الإقناع والتأثير؛ قال - تعالى -: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)[البقرة: 204]، ومثله قوله - تعالى -: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)[الزخرف: 58]؛ قال الشوكاني: "الخصام مصدر خاصم، والمعنى أنَّه أشدُّ المخاصمين خصومة؛ لكثرة جداله وقوة مراجعته"[5]، وكذلك قوله - تعالى -: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)[المنافقون: 4]، وفي كلِّ ذلك دليلٌ على أنَّهم لا يتكلمون إلاَّ ببلاغة فائقة، وبيانٍ ساحر، يستحقُّ أن يسمع له، ولا يسمع إلاَّ لقولٍ له ثقله وميزانه، كما أخبر - تعالى - عن القرآن الكريم بقوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) [الأعراف: 204]؛ حيث إنَّ الاستماعَ يكون بالأذن، باعتبارها الأداةَ الخارجية لتوصيلِ المسموع إلى القلب، ثم الإنصات الذي يستدعي الاتجاه الكلي بالقلب والحس والجوارح لاستقبال ما يقرأ.
والنصوص من هذا القبيل أكبرُ من أن يستوعبها هذا الملحظ، وكلها قاطعة في أنَّ القرآن مُعجز في بلاغته، وأنَّ استعمال "اللفظ" الاستعمال الحسن، وجمال الصورة التركيبية - يَملكان على المستمع كل حسه وعقله، ومنها قصص إسلام الجهابذة من أهل الجاهلية، كعمر بن الخطاب - مثلاً - الذي سمع بعضَ آيات من سورة "طه"، فقال من فوره: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! "[6].
وكذلك قصة إسلام جبير بن مطعم بن عدي، الذي سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - لما جاءه يريد أن يفاديه - يتلو سورة "الطور"، فلما سمع قوله - تعالى -: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)[الطور: 7 - 8] حتى أحس بالإسلام يغزو قلبه، فَيُهْرَعُ بإعلان إسلامه، وهو يقول: "خشيت أن يُدركني العذاب"، وفي لفظ: "كاد قلبي يطير، فأسلم"[7].
وكذلك قصة إسلام بني الأشهل عن بكرة أبيهم، بعد أنْ أسلم سيدُهم: سعد بن معاذ، بعد أنْ سَمع آيات من كتاب الله[8].
ولعلَّ ما تقدَّم كافٍ في إثبات دَوْرِ "الكلمة" في غزو النُّفوس، وتَحريك الوجدان والفكر، وإحداث التغيير، سواء منه الإيجابي أم السلبي، كما تبيَّن أنَّ "الكلمة" القرآنية المعجزة، باستهدافها للخير المطلق، قد أدَّت دورها كاملاً، واستوعبت عوارضَ الزمان والمكان، وصدق الله إذ يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم: 24 - 25].
المبحث الثاني: دور الأدب - والشعر بخاصة - في الدفاع عن العقيدة:
لا يرتاب أحدٌ في أنَّ السلاحَ الأقوى الذي كان للعرب في جاهليتهم، وحتى مَجيء الإسلام - هو "الشعر"، تلك الأداةُ التي كانت ترفع قبيلةً بأتَمِّها إلى عَنان السماء، وتضع أخرى إلى الحضيض، تلك الأداةُ التي كانت القبيلةُ الواحدة، إذا نشأ فيهم من يَملكها ويحبكها، أقامت الحفلات ودَقَّتِ الطبول، كأنَّما هو قوة هائلة أُضِيفت إلى أسلحتها القديمة.
فبالشعر تدافع القبيلة عن نفسها، وبالشعر تفعم الحماسات، وتكبر الآمال، ويتطلع إلى الأفضل، وبالشعر تتفاضل المواهب، وتتمايز القدرات، كما قال الشاعر:
"الشِّعْرَ لَوْلاَ الشِّعْرُ مَا *** شَبَّتْ عَلَى الطُّغْيَانِ ثَوْرَةْ
الشِّعْرَ إِنَّ الشِّعْرَ مِي *** زَانٌ وَبُنْيَانٌ وَقُدْرَةْ
الشِّعْرَ إِنَّ الشِّعْرَ إِي *** مَانٌ وَبُرْهَانٌ وَعِبْرَةْ" [9]
ولعلَّ في هذين الموقفين ما يُدلِّل على أنَّ الشعر كان أقوى أداةٍ للاستجابة أو الرفض، أوَّلُ هذين الموقفين: شعر الحطيئة في "بني أنف الناقة"، الذين كانوا "يستحيون من لقبهم، ويَخجلون إذا ذكروا به، فجاء الحطيئة، فمدحهم بقوله:
سِيرِي أُمَامَ فَإِنَّ الْأَكْثَرِينَ حَصًى *** وَالْأَكْرَمِينَ إِذَا مَا يُنْسَبُونَ أَبَا
قَوْمٌ هُمُ الْأَنْفُ وَالْأَذْنَابُ غَيْرُهُمُ *** وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا
قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ الْعَيْنِ جَارُهُمُ *** إِذَا لَوَى بِقُوَى أَطْنَابِهِمْ طُنُبَا
فرفع بهذا المدح هامتهم، وأشاع بذلك شرفهم، فكانوا أشدَّ الناس فخرًا بلقبهم، بعد أن كانوا يغضون من أصواتهم، ويخفضون من رؤوسهم"[10].
فانظر إلى أيِّ حدٍّ استطاعت أبياتٌ يسيرة من الشعر أن تعملَ في نفوس القوم، فينتقلون من ذُلٍّ ومهانة، إلى عِزٍّ ومَكانة.
وأمَّا الموقف الثاني، فهو ما يُمثله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من لين نفس، وفتور شِدَّة، حينما سمع أبياتًا من الحطيئة تعصر القلب، وتبعث في النفس الشجى، فقد كان الحطيئة هَجَّاءً، هاتكًا للأعراض، فسجنه عمر بن الخطاب، ثم عندما أُحْضِرَ من سجنه للمحاكمة، لم يزدِ الحطيئةُ عن قول بضعةِ أبيات شعرية، كان لها أبلغ الأثر في قلب عمر بن الخطاب، وذلك قوله:
مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ *** زُغْبِ الْحَوَاصِلِ لاَ مَاءٌ وَلاَ ثَمَرُ
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ *** فَاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلاَمُ اللَّهِ يَا عُمَرُ
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ *** أَلْقَتْ إِلَيْكَ مَقَالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ
لَمْ يُؤْثِرُوكَ بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا *** لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِهَا الْأَثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ *** بَيْنَ الْأَبَاطِحِ تَغْشَاهُمْ بِهِ الْقِرَرُ
أَهْلِي فِدَاؤُكَ كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمُ *** مِنْ عَرْضِ دَاوِيَةٍ يَعْمَى بِهَا الْخَبَرُ
فبلغ التأثير من عمر - رضي الله عنه - أَنِ انحدرت الدُّموع من عينيه؛ مِمَّا جعله يتراجع في قراره بالسجن، ويطلق سراحه[11].
وما كان لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو الرجل الشديد أنْ يَلينَ جانبُه بهذه الصورة، لولا التأثيرُ البالغ لهذا الشعر في نفسيته، كما يدل على سَلامة ذائقته للشعر، وفهمه لمعانيه.
ويزداد الاهتمام بالأدب، وتتضح معالِمُ القوة والطاقة التي يَمتلكهما الشاعر أو الخطيب، حينما يصبح سلاحًا يثبت دوره في أشدِّ المعارك، وأحلك الظروف.
فقد جاء وَفْدُ بني تَميم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، جئناك نفاخرك، فَأْذَنْ لشاعرنا وخطيبنا؟ قال: ((قد أذنت لخطيبكم، فليقل))، فقام "عطارد بن حاجب"، فألقى خطبته، ثم رد عليه خطيبُ الرسول: "ثابتُ بن قيس بن الشماس" لما قال له: ((قُم فأَجِبِ الرجلَ في خطبته))، ثم قام شاعرهم: "الزبرقان بن بدر"، وقال شعرًا يفخر فيه بنفسه وعشيرته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: ((قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال))، فأجاب بقصيدته المشهورة التي مستهلها:
إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتَهُمْ *** قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
عند ذلك قال أحد أشراف بني تميم - وهو الأقرع بن حابس -: "وأبي، إنَّ هذا الرجل لمؤتى له، لَخطيبه أخطبُ من خَطيبنا، ولشاعِرُه أشعرُ من شاعرنا، ولأصواتُهم أعلى من أصواتنا، ولهم أحلمُ منَّا"[12]، ثم لَم يَلْبَثِ القومُ أن أسلموا.
ولأهمية الشِّعْرِ في الإسلام، وما يَختص به من نفع كبير من حيث الدَّعوة إلى المبادئ الطيبة، والتوجيه إلى الأخلاق السامية، رأينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تتعدد مواقفه في مدح الشعر والشعراء، من ذلك ما رواه الإمامُ مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه أنَّه قال: "ردفت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: ((هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟))، قلت: نعم، قال: ((هيه))، فأنشدته بيتًا، فقال: ((هيه))، ثم أنشدته بيتًا، فقال: ((هيه))، حتى أنشدته مائةَ بيت، وفي رواية قال: ((إنه كاد ليسلم))"[13].
ومما رواه مسلم - أيضًا - عن رافع بن خديج قال: "أعطى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حنين أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وأعطى عباسَ بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَي *** دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلاَ حَابِسٌ *** يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا *** وَمَنْ يُخْفَضُ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعُ
قال: فأتمها له رسول الله[14] - صلى الله عليه وسلم - مائة".
فانظر كيف استجابَ الرسول لعباس بن مرداس، بعد سَماعه لتلك الأبيات، التي أدَّت دَوْرها - كاملاً - في الإقناع والتأثير.
والنصوص في هذا المجال عديدة، تتلَخَّص في أن الشعر كان من أهمِّ الأسلحة التي كانت تقع على النَّفس كأنَّها السهام في غبش الظلام، بل أشد، كما أخبر بذلك - عليه الصلاة والسلام - حين أمر شعراءَ المسلمين بقوله: ((اهجوا قريشًا؛ فإنه أشد عليها من رشق النبل))[15]، وقال: ((هجاهم حسان، فشفى واشتفى))[16].
المبحث الثالث: علاقة الأدب بالعقيدة:
يجدر بنا - ونَحن نُحاول إبرازَ مظاهر "الإسلامية" في الأدب - أنْ نُحدِّدَ منطلقنا أولاً؛ حتى نطمئِنَّ إلى البحث عن هذه المظاهر، وذلك بمعرفة: هل ترسيخُ علاقة الدين بالأدب أمر طارئ أمْلَته طبيعةُ التغيرات المعاصرة، أو هو امتداد لدعوات إنسانية استلزمتها طبيعةُ الأدب وطبيعة العقيدة معًا؟ هذا ما سنحاول توضيحه جليًّا، من خلال استعراض يسيرٍ لمسيرة مصاحبة الأدب للعقائد، كيفما كان نوعها ومصدرها، وكيفما كان زمانها ومكانها.
لقد دلت الدراسةُ الحديثة للجذور الأولى لفن القول على أنَّ الأدبَ لم ينشأ - في أي زمان وفي أي مكان - منفردًا منعزلاً عن ظاهرة المعتقد، بل إنَّه لا يُمكن تصوُّر أن "يعيش الأدب منضوحَ البيان بالسحر الحلال وفصل الخطاب، إلاَّ في حمى الدين"[17]، وهذا ما أجمع عليه دارسو تاريخِ الآداب العالمية - حسب اطلاعي - بل إنَّ المؤرخين من المسلمين ومن غير المسلمين - وهم يبحثون في نشأة الإنسان والمراحل التي قطعها عبر الأزمان - وقفوا مليًّا عند قضية أسبقية الوثنية على التوحيد أو العكس.
فعامة المؤرخين غير المسلمين، ومن قلدهم من المسلمين يَرَوْن - تبعًا لنظرية التطور - أنَّ الإنسان تطور عبر ثلاث مراحل:
• "الإنسان المائي"؛ حيث يزعمون أن الإنسان كان من ضمن الحيوانات البحرية، باعتبار أن الأرض ليست - في أول أمرها - سوى قطعة انفصلت عن الشمس في أثناء دورانها، ثم برد سطحها - وإن كان باطنها لا يزال على حرارته - وقد أحاطت بها المياه التي توالدت فيها - بطول الزمن - حيوانات مائية كان من ضمنها الإنسان.
• ثم تأتي بعدها مرحلة: "الإنسان البرمائي"، لما بدأ يخرج من البحر إلى اليابسة يرعى الحشائش.
• ثم مرحلة: "الإنسان البري"، لما انفصل نهائيًّا عن معيشة البحر، إلى أن تَميز عن باقي الحيوانات.
والذي يهمنا من هذا السرد أنَّ هؤلاء الذين ارتضوا هذا الافتراض الذي يرجع بأصل الإنسان إلى الحيوانات، يزعمون "أنَّ الإنسان عرف الدين في هذه العصور النائية من التاريخ البشري، وإن كانوا يَختلفون في كيفية تديُّنهم أولَ مرة، إلا أنَّهم متفقون على أن الوثنية قد سبقت في تاريخه - أي الإنسان - التوحيد، والكثير منهم يرى أنَّ أول معرفة الإنسان بالدين كان على الطريقة المعروفة عند بعض الباحثين المتأخرين (بالطوطمية)"[18].
نستنتج أنَّ الإنسانَ قد عرف التدين منذ أنْ أوجده الله - تعالى - على الأرض، واستمر في علاقته بالدين إلى اليوم، ومن ثَمَّ تبرز الإجابة الصريحة في أن كل فن ابتكر - ومنه الأدب - في طيلة التاريخ الإنساني، لا بُدَّ أنْ يكون مُستَمِدًّا جذوره من المعتقد.
والديانة إذا كانت الهواءَ الذي يتنفسه الإنسان منذ وجد، والذي يَملأ حياته وكيانه من كل جوانبهما، لا بُدَّ أن يكون لها دخل في النشاطات كلها، وهي تدخُل "بكثرة في الأدب، وكأنَّها تبرهن على دَوْرها البارز في الوسط والمحيط الذي يعيش فيه الكاتب"[19].
بل نستطيع أن نذهب بعيدًا؛ لنقرر أنَّ الأدبَ قد ساعد الشعوبَ التي كانت في غفلةٍ عن مَعرفة الخالق على التعرُّف على أسرارِ الوجود، وتعليل أسباب الأشياء، وعلى رأسها البحث عن الخالق، الذي نسجت الأناشيد الدينية من أجله؛ تَمجيدًا وتَخليدًا، وابتهالاً وتعبدًا"[20].
فهذا أقدم ما وصلنا من الأدب، وهو الأدب اليوناني، من أشعار ناضجة متكاملة، قد أوضح الدارسون أنه "ورد في بعض الأساطير اليونانية أنَّه قد ظهر في أقدم العصور التاريخية عددٌ من الشعراء الغنائيِّين الدينيِّين؛ أي: الذين تدور قصائدهم حول الشؤون الدينية، كتمجيد الآلهة، والتوسُّل إليها، وما إلى ذلك"[21].
فانظر إلى أيِّ مدى أشربت الفنون الأدبية اليونانية العقيدةَ حتى اختلطت بها، "وارتبط أدبُ قدماء اليونان ارتباطًا وثيقًا بمعتقداتهم الدينية، ومعبوداتهم التي ألهمت الشعراء والكتاب".
ومن خلال دراسة مُمحصة دقيقة يتوصل د. محمد صقر خفاجة إلى أنَّ الأناشيد والملاحم هي أول فنون الأدب اليوناني، ظهرت في مرحلة ما قبل التاريخ، أو عصر الأبطال والأساطير، وتبدأ هذه المرحلة بنزوح القبائل الآرية إلى بلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، وتنتهي في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد تقريبًا، وأهم آثارها الأدبية: التراتيل الدينية والملاحم[22].
كما أن "جورجي زيدان" اعتنى بتقسيم آداب "اللغة اليونانية" إلى أطوار سبعة، وذكر في الطور الأول منها - وهو العصر الخرافي - "ويراد به أقدم أزمان الأمة اليونانية، ولم يبقَ منها إلاَّ القصص الخرافية عن الآلهة ونحوهم؛ مِمَّا يسمى في اصطلاح الإفرنج (ميثولوجيا)، وهو يبدأ قبل زمن التاريخ، وينتهي إلى القرن التاسع قبل الميلاد"[23]، كما أنَّ المسرح اليوناني نشأ في أحضانِ طقوسٍ دينية، كانت غالبًا ما تؤدَّى في معابد، ويتوسل فيها بالقص الأسطوري، وترتيل الأناشيد الدينية..."[24]، و"كان الشعر يوقع على نغمات العود، كما ارتبطت المسرحيات عندهم بأناشيد الجوقة، فكان الشعراء يمدُّون قومَهم بالخيال والعاطفة إلى الحكمة، في طريق مُحَلًّى بزهور الكلمات والنغمات"[25].
ومن أنضجِ وأشهر ما وصلنا من الأدب اليوناني: "الإلياذة والأوديسة" لهوميروس، وكلاهما في المجال الديني أيضًا، أما الإلياذة (hiad)، فهي مكونة من "15537" بيتًا، مُوزعة على "24" نشيدًا، مضمونها: تصوير الأسابيع الأخيرة من حرب طروادة، ومدارها على ثلاث إلهات من اليونان، أوقعت بينهُنَّ الإلهة (إيريز - iris) شقاقًا.
وهكذا نرى أنَّ شخصيات هذه الملحمة مُعظمها إلهات، فـ(أفروديتا): إلهة الحب والجمال، و(أثينا): إلهة الحكمة والذكاء، وكبيرة الإلهات زوجة (زيوس) كبير الآلهة... وهكذا.
وأمَّا (الأوديسة odyssey)، فهي مكونة من "12000 بيت، موزعة كذلك على "24" نشيدًا، وأحداثها مترتبة على أحداث "الإلياذة"، كل أبطالها تشملهم الآلهة في كل مكان، كالإله (منيلاوس) وزوجته (هيلينا)، و(أودوسيوس) وزوجته (ينيلوبا)، وابنه (تليماخوس)، وهكذا. [26]
ويضاف إلى كل ذلك أنَّ الخطابة كالشعر كانت مشحونة بالتصوُّرات العَقَدِيَّة، وليس تصور "أفلاطون" للشعر أنه "إلهام" ببعيد، وهل الفلسفة والفكر اليونانِيَّان إلاَّ نقدًا للأدب، الذي عالج العقيدة منذ ظهوره؟
كما أنَّ آدابَ الروم كانت "أوائل منتوجاتها مستهلة بالأناشيد الدينية، وأنَّ أنشودة الأناشيد التوراتية: مزامير، توقيعات عبادية"[27].
وعن شِدَّةِ ارتباط الأدب الروماني بالعقيدة يقول: (ج. و. دف): "ومن المحال أن نقرأَ (ليفي) دون أن ندركَ على الدَّوام التوكيد الذي وضعه الرُّومان على الخوارق، والكفارة، وإرادة الآلهة، وقيام الناس بالطقوس كما يجب، ومن المستحيل فهمُ (فرجيل) إذا تناسى المرء (الإنيادة) الديني العميق.
فالنظرة العلمية في الديانة الرومانية تقابل الإنسانَ في كل مكان: في أصولها وتطورها وتطبيقها على الدار وعلى الدولة، وتحويرها الدقيق، وتسامحها نحو الأديان الجديدة"[28].
وإذا ما انتقلنا إلى الشعر الساترني، وهو من أقدم الشِّعر اللاتيني بعد اليونان بقليل، نرى أنَّ الموضوعات الدينية أو الحماسية أو الشعبية، كانت "هي أهم ما عولج في الشعر الساترني، وتدل الإشارات القديمة - وكذلك طبيعة الأشياء - على أنَّ الديانة بسطت رعايتها على هذا الشعر في بدايته"[29].
وعند التحدُّث عن علاقة الآداب الأوروبية بالعقيدة، نرى أن الكتابة السريانية "كانت قبل المسيحية لغةَ الدين والأدب والعلم في (حران) معقل الوثنية فيما بين النهرين"[30]، ثُمَّ بعد مَجيء المسيحية أصبح "المؤلفون متأثرين بأسلوب الكتاب المقدس، وكَثُرت في كتاباتهم الاصطلاحات والاستعارات المستقاة من الكتاب المقدس"[31].
بل كانت الديانة النصرانية تعزل الكتابات التي لا تساير ركبها، وتَحول بينها وبين الخروج من معقلها، لا لشيء إلا لأنَّها لم تساير العقيدة، ولم توافق آراءها.
والدارسون يرَوْن أنَّ الآداب الأوربية يَجري عليها المقياس نفسه الذي عرفناه في آداب اللغة اليونانية، فقد عقب جورجي زيدان - بعد أن أوضح الأطوار التي مر بها الأدب اليوناني - قائلاً: "هذه خلاصة تاريخ آداب اللغة اليونانية، فقِسْ عليها تواريخ سائر اللغات الأوربية... فإنَّها كثيرة الشبه بها، من حيث تناسق عصورها، بالنظر إلى نشوء العلوم فيها، فإن أقدم آدابها - دائمًا - الشعر الديني، يليه الشعر القصصي التمثيلي، فالغنائي... "[32].
ثم إذا ما انتقلنا إلى الأدب الفارسي، وجدناه - أيضًا - غير منفصل عن سنة الآداب الأخرى؛ من حيث امتزاجه بالعقيدة والتعبير عنها، وقد أخطأ مَن أغفل رَبْطَ الحماسة بالآلهة والأبطال - كما يجب أن يكون - وكذلك فعل "الفردوسي" في "الشاهناما"، وهذا ما يعبر عنه أحد الباحثين المحدثين بقوله: "وجاء الشعراء بعد الفردوسي ينسجون على منواله، وفيهم جماعة اتَّخذوا من ملوك عصرهم أبطالاً، نظموا لهم شاهنامات، وخَفِيَ عليهم أنَّ الشعر الحماسي يَجب أن يكون له مادة من الأساطير، تَجعل جوَّه مليئًا بآثار القدم، تجول فيه الآلهة والأبطال، بعواطفهم الكبيرة، وأعمالهم العظيمة، مُحاطين بهالة من الخيال"[33].
وبتجميع ما تَمَّ الحصول عليه من نقوش متفرقة على الأحجار، والأواني، والآلات، والموازن الحجرية، وفصوص الخواتم الأثرية، ودراسة كل ذلك - يتبين أنَّ هذه النصوصَ كلها تدُلُّ على ما عرفوه من أسماءِ الملوك، وتدوين شرح لأحوال المماليك، والفتوحات، وما تَمَّ فيها من أعمال، "وكذلك تتضمن مدح الخالق، وتقبيح الكذب وكل ما هو سيِّئ"[34].
كما نشأت عندهم لغة خاصَّة هي لغة "الأَفِستاء"، اهتمت بأمور الدين، واختص بها رجاله، وكانت تطلق على "لغة كتاب "زرادشت" الديني، وهي في الحقيقة لغة من اللغات الإيرانية، ذات قرابة بالفارس القديم، وكانت هذه اللغة خاصة برجال الدين والكتب المقدسة"[35].
والأَفِستاء هذه عبارة عن "تراكيب أدبية، وجمل فصيحة قوية في حَمْد الله، وفي وصف الصنيعة، كما أن قسمًا منها منظوم مُقَفًّى، وهو القسم المسمى "بالكاتا"... وهي عبارة عن أدعية ومناجاة، وأشعار أخلاقية قيمة، كما أنَّها تعرض ألطف العواطف الدينية في ذلك العصر"[36].
ولغة النصوص هذه تفيد إفادة جلية لا غبار عليها أنَّ حَبْلَ العقيدة قد انتظم كلَّ الآداب القديمة دون استثناء، وأنَّ هذه العلاقة العقدية الأدبية علاقةٌ مطردة في كل أدب، فماذا عن هذه العلاقة فيما يخص أدبَنا الجاهلي؟
سنترك - كذلك - لغة النصوص تتحدث، وسنستنتج أنَّ الآداب العربية لم يكن لها لتشذ عن باقي الآداب الأخرى.
توصل بعض الدارسين من المستشرقين وغيرهم إلى أنَّ العلاقة الأولى للأدب الجاهلي كانت بـ"السحر"، وذهب آخرون على أنَّها كانت بـ"الكهانة"، وأثبت فريقٌ ثالث أنَّ الأدب العربي كان معبرًا عن "طقوس دينية" كسائر الآداب.
ومهما يكن الأمرُ، فإنَّ السحر والكهانة "مترادفتان عند الأمم الوثنية، وإنَّهما جزء من طقوس العقيدة، فالكاهن والساحر شخصِيَّتان دينِيَّتان، يلجأ إليهما الوثني؛ ليحل مُعضلاته، وارتباط أوليات الشِّعر بهما يعني ارتباطه العميق بالعقيدة"[37].
يقول "كارل بروكلمان": "وإذا نحن صرفنا النظر عن بابِ الهجاء من ذلك الشعر، وجدنا الرَّوابط التي كانت تربط بين الشعر والتصوُّرات السحرية والدينية عند العرب - كما هو عند غيرهم من الشعوب البدائية الأخرى - قد انحَلَّت تمامًا في الشعر العربي"[38].
فهو يرى أنَّ الشعر العربي لم يَخْلُ من ملجأ يفزع إليه عند الحادث الجلل، وهو "السحر"، باعتباره يُمثل تلك القوة المذهلة الخارقة، التي تستطيع تفسير الغيب، وتَحليل عالم الجن والشياطين والماورائِيَّات؛ ولهذا اندهش العرب ببلاغة القرآن وبيانه الأَخَّاذ، فقالوا: "سحر"، وقالوا في النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ساحر".
ونقل "حنا الفاخوري" قول "نولدكه" في أنَّ الشاعر كان: "نبي قبيلته، وزعيمها في السلم، وبطلها في الحرب"[39]، وكلمة "نبي" تحمل بين طِيَّاتِها كلَّ معاني ما يُمكن أن يعتقده الجاهلي، ويَجعله مناط اهتمامه، ونقطة ارتكاز تصرفاته.
وذهب "أحمد حسن الزيات" إلى أنَّ نَشْأَة الأدب العربي، قد ارتبطت "بالكهانة"؛ إذ يرى أنَّ هذا الأدب قد مر بأطوار مختلفة، وكانت الكهانة من أول هذه الأطوار؛ يقول: "والمظنون أنَّ العرب خطوا من المرسل إلى السجع، ومن السجع إلى الرجز، ثم تدرجوا من الرجز على القصيد، فالسجع هو الطور الأول من أطوار الشعر، توخَّاه الكهان مناجاةً للآلهة، وتقييدًا للحكمة، وتعمية للجواب، وفتنة للسامع"[40]، ثم يقرن "الزيات" بين هذه النشأة، ونشأة الأدب اليوناني، فيقول: "وكهان العرب ككهان الإغريق، هم الشعراء الأولون"[41].
ومن مظاهر ارتباط الشعر بالمعتقد أنَّهم كانوا يرون أنَّ كلَّ شاعر معه شيطان يلهمه الشعر، فيقوله على لسانه، حتى جعلوا الشياطين قبائل، فكان حسان من "بني الشيصبان"، كما يقول هو نفسه:
إِذَا مَا تَرَعْرَعَ فِينَا الْغُلاَمُ *** فَمَا أَنْ يُقَالَ لَهُ مَنْ هُوَهْ
إِذَا لَمْ يَسُدْ قَبْلَ شَقِّ الْإِزَارِ *** فَذَلِكَ فِينَا الَّذِي لاَ هُوَهْ
وَلِي صَاحِبٌ مِنْ بَنِي الشَّيْصَبَانِ *** فَطَوْرًا أُقُولُ وَطَوْرًا هُوَهْ [42]
وكذلك كان الشعراء في الجاهلية ذوي مكانة عالية، يضاهون رؤساءَ القبائل، وكلمتهم فوق كل كلمة، وقولهم أمضى من السنان.
ويَدُلُّ شعر زهير بن أبي سُلمى على أنه قد اصطبغ بكثير من العبارات والمعاني الدينية، والدعوة إلى ترسيخ المبادئ الأخلاقية في المجتمع الجاهلي، فجاء مشحونًا بالحكمة، والتفكر في الوجود، وما بعد الموت، كمثل قوله:
فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللَّهَ مَا فِي صُدُورِكُمْ *** لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ *** لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ [43]
وهذا صريح في إيمانه بالله واليوم الآخر.
والأعشى يُعَدُّ آخِرَ من ذُكِرَ الدين على لسانه من الشعراء الجاهليِّين، وذلك في قوله:
أَلاَ أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ *** فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا
فَآلَيْتُ لاَ أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ *** وَلاَ مِنْ حَفًى حَتَّى تُلاَقِيَ أَحْمَدَا
مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ *** تُرَاحِي وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى [44]
وليس بعيدًا أن يستنتج من تلقيبه بـ "صناجة العرب" أنَّ شِعْره كان ترتيلاً ولَحنًا، يمكن أن ينطوي على سمات أشعار دينية؛ ولذلك قال أحد الدارسين المحدثين: "وقد غلوتُ، فرددتُ هذه النزعة إلى الشعر الديني الجاهلي، الذي لم يصل إلينا، ولست أشكُّ أنه كان لحنًا عباديًّا في أصوله البعيدة"[45].
وفي إطار الكتابة التي عرفها الجاهليون - كما سبق إثبات ذلك - نجد أنَّ الموضوعات التي تناولوها - على الرغم من مَحدوديتها - كانت داخلة في إطار العقيدة؛ لذلك نقل "ناصر الدين الأسد" عن "المقريزي" في "إمتاع الأسماع"[46] قوله: "وأول هذه الموضوعات التي كانوا يدونونها: الكتب الدينية"[47].
ولعلنا قد توصلنا من خلال هذه النُّصوص إلى اقتناع كامل بأنَّ العقيدة كانت المحضن الأول للأدب، فيه ترعرع، وبين أكنافه نَما، ومن مادته اغترف، ومِنْ ثَمَّ، فليس سديدًا أن يتنَكَّر الأدبُ للعقيدة، ويضرب بها عُرْضَ الحائط، ونَسِمُ هذا النوعَ من الشعر بأنه شعر ديني، ثم نذهب نبحث له عن أصول غير محضنه الأصلي.
المبحث الرابع: نحو مذهب أدبي إسلامي:
لقد اتضح مما سبق أنَّ الأدبَ ضرورة إنسانية، صاحب كل أطوار الإنسان، وأنَّ علاقته بالفكر والمعتقد كانت وطيدةً منذ نشأته الأولى إلى يومنا هذا، فلا يَخلو مذهبٌ أدبي من فكر سابق، ومُعتقد راسخ، جاء الأدب ليعمقه ويَخدمه، وإذا سبق بيانُ ذلك بالنسبة للآداب القديمة، فإنَّ الاتجاهات الحديثة ليست بمنأًى عن هذا النُّزوع، كما هو الشأن بالنسبة للكلاسيكية، و"الرومانسية"، و"الواقعية الاشتراكية"، و"الوجودية"، و"البنيوية" التي كادت تكتسح جانبَ الفكر والاقتصاد والاجتماع والأدب جميعًا.
فكان بعضُ هذه المذاهب يُخطط لنفسه - قبل الشروع في التطبيق - نوعيةَ الأفكار (المعتقد)، التي يَجب أن يعالِجَها الأدب، وخط التشبع النفسي الذي يتوجب على الأدب أن يكون خادمه الأمين، وموجهه الوفي.
فالشيوعية - مثلاً - قبل أن تعلن مذهبها الأدبي الذي يخدمها ويحدد أهدافها - أسست مجموعة من المبادئ والأفكار، جمعها كتاب "البيان الشيوعي"، وكتاب "رأس المال"، هذا الأخير الذي كانوا يسمونه "إنجيل العمال"، إلى أَنِ اكتملت "نظريةُ الأدب الشيوعي" على يد "غركي" و"لينين"، وكذلك الأمر بالنسبة للوجودية، فهذا "سارتر" يصدر مقالات مُتعددة عن الوجودية، ويُحدد نظرية "الأدب الوجودي" في كتابه "مواقف".
وهكذا، فإنَّ الأدب يجب أن يوافق المعتقد، يَجب أن يكون الحارس المطيع لمتطلبات هذه العقيدة، والويل لمن ينبس ببنت شفة خارجَ الإطار الشيوعي أو الوجودي، فإنَّ ذلك يُعَدُّ "رِدَّة" وخروجًا عن النظام، ومروقًا عن طبيعة الأمور، والمخالف يعاقب عقابًا شديدًا.
ولعلَّ الدواعي الباعثة على إيجاد أدب صادق، يعبِّر عن العقيدة الإسلامية، بكل ما يحسه المسلم تجاه خالقه والكون - قد تضافرت، ولم يعد هناك مجال يدعو إلى غض النظر عن هذا الجانب.
ولعل بعضَ الكتابات التي تَمُتُّ بصِلَة إلى هذا المجال، ما هي إلا موضوعات عقدية في قالب من الكلمات، حقها أن تصنف في دائرة "الفكر" لا "الأدب"، وهو ما ينتظر من ذوي الاختصاص أنْ يضعوا حدودًا لمفهوم الأدب الإسلامي الحق.
ثُمَّ إنَّ الأدباء أصحاب هذه الرسالة، أحسوا غبنًا شديدًا، حين يرون المطابع طافحة بأنواعٍ من الأدب والنقد، التي تتخذ من الفن مذهبًا، ولا تنظر إلى المضامين، التي يرون أنَّها يَجب أن تكون مُعبرة عن هموم الأمة، لائطة بآلامها وآمالها؛ مِمَّا يُبِين عن ضرورة الرجوع إلى أصول قوانين القول في الإسلام، ثم استلهام أسس الأدب المنشود تتبلور في شكل "نظرية" قائمة بذاتها.
فالدواعي - إذًا - متعددة، والمقتضيات متوافرة متداعية؛ للبحث عن أدب إسلامي يُحدِّد منهج الأدباء، ويرسم لهم السبيلَ المُثْلَى للاحتذاء والاقتفاء.
لا جرم إذًا طرح السؤال: أين الأدب الإسلامي الناضج؟ وما الطريقُ الموصلة إليه؟ وكيف السبيل إلى تحقيق أدب ذاتي قومي، مصدره العقيدة الصحيحة الصافية؟
ولْنُلْقِ نَظْرَةً خاطفة حول سير الأدب الإسلامي في عالمنا المعاصر:
فالفكرة ظهرت سنة 1952م حين نادى "سيد قطب" بضرورةِ إيجاد أدب إسلامي، عضده بتطبيقٍ جاد في جريدة: "الإخوان المسلمون"؛ حيث كان يشرف على "باب الأدب" فيها، وكتب مقالات تحت عنوان: "منهج الأدب"، ثم استمرت الفكرة في التبلور إلى سنة 1961م، لما خرج "محمد قطب" على الناس بكتابه القَيِّم: "منهج الفن الإسلامي"؛ حيث زاد الفكرةَ إيضاحًا، وعضدها بمجموعةِ أفكارٍ متقدمة متطورة؛ مما كان يُنبئ بإيجاد حركة أدبية إسلامية مُستقبلية ناضجة، فكتب "نجيب الكيلاني" سنة 1963م كتابَ "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، وهو مقارنة جادَّة بين الآداب العالمية المعاصرة، وبين ما يَجب أن يكون عليه الأدب الإسلامي، مُعضدًا ذلك بشواهد ذاتية وغيرية.
والكتاب أضاف لبنةً جديدة إلى البناء الذي أخذ في النهوض والسموق، ثم تلاه "عماد الدين خليل" بكتابه "في النقد الإسلامي المعاصر" سنة 1972، وهو استجماع لعددٍ من مقالات متفرقة تعالج الموضوع، ثم توسعت الدعوة، واتَّخذت طريقها المعتدل بندوة "لكهانو" بالهند حول "الأدب الإسلامي"، عرفت بـ"الندوة العالمية للأدب الإسلامي"، بدعوة من الشيخ "أبي الحسن الندوي"، وكان لها أثر واسع ومردود طيب على الحركة الأدبية في ديار المسلمين، وتلتها ندوةٌ مُماثلة بالمدينة المنورة عالَجت كذلك الموضوع معالجةً ناضجة جادة[48].
ولعل أبرزَ أثر في هذا المجال تلك السلسلة المباركة من الكتب التي تناولت دراساتٍ شاملة للأدب الإسلامي ونقده، والتي تُعَدُّ بناءً نقدِيًّا عمليًّا جادًّا لتكوين نظريةٍ شبه مُتكاملة للأدب الإسلامي، واتَّخذت طابع التطبيق إلى جانب الطابع التنظيري، وقد صدر منها إلى الآن:
1- "مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي"؛ للدكتور عبدالباسط بدر، وهو كتاب جيد، حاول أن يُعطي صورة "نظرية" دقيقة لما نطمح أنْ يتخذه أدبنا الإسلامي من السبل؛ لتصحيح مساره، وتَحقيق استقلاليته، مشفوعًا بطرح عدة تساؤلات قد تنتاب كلَّ مَن له حظ في الحقل الأدبي، ورَدَّ فيها بأجوبة شافية صائبة ممنهجة.
2- "من قضايا الأدب الإسلامي"، للدكتور صالح آدم بيلو، أبدى فيه المؤلفُ الدلائلَ الكافية على موقف الإسلام المُشَرِّف من الأدب بعامة، والشعر بخاصة، مستدِلاًّ على ذلك بعَدَدٍ غير يسير من النماذج، التي ذخرت بها السيرة النبوية، بعد أن أكد إعجازَ القرآن البلاغي والأدبي، وأنَّه المثال الأعلى للأدب المتكامل، مع رد على الشبهات المطروحة، وتعضيد دعوته بنماذج حية.
3- "الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد"، للدكتور: أحمد بسام ساعي، وقد شمل تحديدَ نظرية إسلامية في "النقد الواقع والحقيقة والفعل"، وفي تَحديد آفاق الواقعية الإسلامية، متخذًا لذلك نماذجَ من الشعر والنثر لمختلف الأدباء المعاصرين.
4- "مقدمة في دراسة الأدب الإسلامي"، للدكتور مصطفى عليان، وقد اهتَمَّ بوضع موازنة بين عدة موضوعات جاهلية وإسلامية، وبتحليل عميق للنصوص الواردة، معتمدًا على الدراسة النفسية، كموضوع "الفروسية"، والعلاقة الثنائية بين الزوج وزوجته قبل ذهاب الزوج للجهاد، مع تصوير التنازُع النفسي العارم في لحظات الوداع.
5- "نصوص من أدب عصر الحروب الصليبية"، للدكتور: عمر الساريسي، وقد عرض فيه المؤلف مجموعةً من النصوص الشعرية، التي تناولت قضيةَ الحروب الصليبية منذ بدايتها، وركَّز على الأشعار التي قيلت في انتصاراتِ المسلمين، وبخاصَّة انتصارات "صلاح الدين الأيوبي"، وذلك بعد أن ألقى نظرةً تاريخية على هذه الحروب، مقسمًا ذلك إلى مراحل تاريخية معينة.
وقد كان لهذه السلسلة دَوْرٌ كبير في تأكيد وجود نظريات التأسيس لكِيان أدبي إسلامي ناضج، يُحقق شخصيتنا، وينافس المذاهبَ العالمية الأخرى.
وقد تَخلَّل هذا العملَ النقدي وما سبقه من مُحاولات بُحوثٌ مُتعددة، وندوات متتابعة، خاصَّة في الهند التي احتفت بالموضوع أيَّما احتفاء، وعملت على تشكيل ندوات ومناقشات مفيدة.
ولعلَّ ما يبشر بتنامي الرغبة في تطوير هذا المشروع وجود ثلة من الأدباء في كلِّ البلاد الإسلامية، وبقدرٍ يسمح بتغطية الساحة الأدبية، وما ذكره كثير من المستشرقين، وبعض أتباعهم من المسلمين، من أن الأدب الذي يُمثل الإسلامَ منعدمٌ، أو على الأقل نَزْرٌ يسير - من الوهم الذي لا يصح، و"ينقضه ويرده هذا التراث الرفيع، المشبع بروح الإسلام، وهو تراث ورثه الخلف عن السلف، وسيبقى كذلك بمشيئة الله خالدًا في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"[49].
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تحققت "نظرية الأدب الإسلامي" التي كانت تصبو إليها هذه الجهود؟ وهل الأدب الذي نظر في هذه القضية، أو بنيت عليه هذه النظرية من الآداب الحديثة - يُمثل اتجاهًا أدبيًّا إسلاميًّا يُمكن أن ينعت بالقدوة والمثال، ويرتاح إليه جمهور القراء المتعطشين لما يغذي حاجاتهم الروحية؟
إنَّ الأديب المسلم رجل تغيير، لا يرضى بالواقع المخالف لمعتقده فيسوغه، ولا ينحاز إلى قضايا غير أخلاقية وغير دينية، فيعبث بفَنِّه وإحساسه، إنَّه رجلٌ تشبع بقوى هائلة، تَمنحه التصور الحي النابض بالحقيقة والصدق للإنسان والكون والحياة، في إطار علاقاته مع الآخر، إنَّه رجل يستنكف عن الركون إلى الدعة والصمت، والارتكاس في مناهج "الغير" وأدواته، رجل ينشد الحرية والاستقلال... رجل ينشد أكثر من ذلك... ينشد "الجنة".
إنَّ الأديب المسلم متى ما اكتمل لديه هذا التصور، كان ثورةً على السائد، فكان إيجابيًّا، سلوكيًّا، حركيًّا، هادفًا للمفيد وال والتقى.
إن ما يَملكه من موهبة ورهافة حس هو منحة من الخالق المدبر، والأديب المسلم يعترف بهذه المنحة، فيربأ بنفسه عن أن يستعملَها في إشباع الذات، ووصف نزوات النفس ورغباتِها، فينطلق في أدبه من منطلق مرضاة صاحب النعمة، إنَّ هذه الازدواجية هي التي عبر عنها محمد قطب بـ: "الفقيه الفنان"، أو "الفنان الفقيه"، انطلاقًا من أن العالم الإسلامي - في مجال الأدب - في حاجة إلى "مسلمين يعيشون الإسلام في حسهم حقيقةً واقعة، ويتلقون الحياة كلها بحس إسلامي، ومن خلال التصور الإسلامي، فنانين في ذات الوقت، يعبرون عن هذه الحقيقة الواقعة في حسهم بصورة جميلة موحية، تتحقق فيها شروط الفن، ومقاييس الجمال التعبيري"[50].
هذا النوع من الأدباء هو الذي "يدفع بالحياة إلى التجديد والتطور والرقي، ويدفع بالطَّاقات البشرية إلى الإنشاء والانطلاق والارتفاع"[51]؛ لأن الأديب مصلح اجتماعي، يُخاطب الجماهير، ويدعوهم إلى الحق، يبين ما فيه بعضهم من زيغ، ويطرح بين أيديهم البديل المنشود، بصورة مؤثرة مُقنعة، يغلفها حسه الأدبي، وتكنفها موهبته اليانعة، وشعوره العميق، ثم خبرته الدَّقيقة بما يراه ناجعًا صائبًا.
وها هنا سؤال مهم: إذا توافرنا على أديب مسلم مخلص - فنان - هل يَجد في الدين كل ما يُحقق موهبته، ويكفل انطلاقاته وسبحه الخيالي؟ أليس الدين تقييدًا لهذا الخيال الكاذب، الذي ينافي ركائز العقيدة؟
والحقيقة أن التقييد إنَّما يكون بالنظر إلى نوعية العقيدة، فـ "الماركسية" - مثلاً - التي لا تؤمن بسوى الصراع الطبقي المادي، وصراع المتناقضات "الدياليكتيكية الجدلية"، والعمل للبطن والشره والاكتناز، ولو على حساب المقهورين المتذمرين، هذه العقيدة التي ضيقت الخناق على الشَّعب، وجعلت ممتلكاته "تأميمًا"، وحرياته تكبيلاً، لا شَكَّ أنَّها ضيقة الأفق، مَحدودة الاتجاه، مقيدة الخيال، الذي ينبثق عن حرية كاملة، وعن نفس مطمئنة، ومن ثَمَّ، فالتقيُّد بها ضرب من كبت النفس، والازدراء بالمشاعر الإنسانية، وإقحام للانطلاقات المبدعة، التي دافعها الراحة الذهنية، والاطمئنان الجسدي؛ مما لا يتحقَّق - أبدًا - في "الماركسية الأدبية"؛ ولذلك لم تعمر طويلاً، فما لبث أن انتشر الوعي، وتفطن الناس إلى خباياها، فمنهم من هجرها، ومنهم من استبدل بها عقيدةً جديدة.
وهذه "الكلاسيكية" قبلها، وهي أقدمُ مذهب أدبي، غرضُها ووجهتها أحياء التراث الإغريقي، الذي وضع أصوله أرسطو، والتي تُعَدُّ "إنجيل الكلاسيكيين"، دون أن تخرج عن الأدب التمثيلي والقصة[52]، فأين الحرية المطلقة المنشودة، التي يندد بها من يرى أنَّ الإسلام يقيد الحريات، ويكبت الاسترسالات والتطلعات؟
وتُعَدُّ "الفرودية" مثالاً آخر على حصر الجهود في إبراز العامل النفسي، واستخدام النظريات العلمية، مع جعل نظرات "فرويد" المرتكز والأساس.
ثم بالتأمُّل في الأدب الإسلامي، نرى أنَّه ليس لطبقة دون طبقة، وليس يهدف إلى "دُنيا" مَحدودة قاصرة، متمثلة في العامل "الاقتصادي"، وليس يقحم قدراتِه في البحث عن الأمور ال***ية أو النفسية فقط، إنَّ الإسلام هو هذه الأمور كلها: نظرة شاملة للكون، وتصور مطلق.
والسرُّ في هذا الفرق بين المذاهب السابقة وبين الإسلام، هو أنَّ تلك من وضع الإنسان الضَّعيف، الذي ينقض اليومَ ما قاله أمس، ويَعنُّ له في الغد ما يطمس رأيه اليوم، هذا الإنسان الذي قد تغلبه غرائزُه وعاطفته أكثر مما يتحكم فيه العقل والفكر، أمَّا الإسلام فهو من وضع ربِّ هذا الإنسان، هو الذي يعلم تركيبته التي خلقه عليها، وهو الذي يوجهه إلى ما يصلح حياته ومجتمعه.
ولكن، لا يعني هذا أن حرية الأديب الإسلامي حرية مطلقة، لا تَخضع لقيد، ولا تنزع لضابط، بل لا بُدَّ من توجيه رباني، يدفع بكُلِّ المبادرات إلى طريقها السوي، دونما اعوجاج أو انحراف، فالغرائز - مثلاً - لو تركت وشأنها، لذهبت في التيه كل مذهب.
كما أنَّ العقل البشري لو ترك - وَحْدَه - يبحث في أسرارِ الوجود والخلق، لَهَام وراء الغيبيات دون جدوى ولا طائل، وقد يؤدي بها ذلك إلى الزيغ، فلا بد له كذلك من تهذيب وتنقيح، وهذه الضوابط ليست في الحقيقة "قيودًا تعسفية، ولكنها صمامات أمن لدرء أخطارِ الأطماع والجشع، التي تُهدد أسسَ المجتمع، وتقوض دعائمَ أمْنه وسلامه"[53].
ومنقبة أخرى تضاف إلى ما ذكر، وهي أنَّ الإسلام انفرد عن سائر العقائد الأخرى في أنَّه يعمل على إبراز إشراقات الروح، وإفعامها بنور معرفة الخالق، والتطلُّع إلى العالم الآخر، هذه الازدواجية - الدنيا/ الآخرة - تفتح أمام الأديب المسلم آفاقًا عالية، وفسحًا واسعة، ورحابة منقطعة النظير.
إنَّ آيةً واحدة من القرآن الكريم تناولت الحديثَ عن نعيم الجنة - مثلاً - أو عن نكال النار - لكفيلةٌ بأنْ تسبحَ بخيال المبدع المسلم إلى أبعد الحدود، لنتأملْ - على سبيل المثال - قوله - تعالى -: ? وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ? [إبراهيم: 23]، فهذا مشهد المؤمنين في الجنة، في قصورهم الشامخة، ونعيمهم الخالد، بين أهليهم وبين بساتينهم، والأنهار تَجري من تحتهم، بما فيها أنهار من ماء، وأنهار من لبن مصفى، وأنهار من عسل، وأنهار من خمر وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
كيف يحس من رزقه الله نعمة الموهبة، وحسن التصوير، وسلامة التعبير؟
وبالمثل في قوله - تعالى -: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ)[إبراهيم: 15 - 17] فلينطلق الخيال حيث شاء، وليرفرف التصوير في الأجواء بلا قيد ولا حجر.
فعجبًا - إذًا - لأولئك الذين يرمون الأدب بالقصور، و"الارتباطية"، والتقوقع في أمر العبادة والوعظ، وهو يَسبح بالأديب إلى أبعد الحدود، وأرحب الآفاق.
هذه المغالطة جعلت هؤلاء يَعتقدون أنَّ الأدب لا ينشط إلا في حمى "الهجاء"، الذي - غالبًا - ما يكون مُسفهًا، هاتكًا للمحرمات، أو مصورًا للعصبيات والقبليات، أو في قالب "المنافرات والمفاخرات والخصومات"، أو عن طريق تشخيص الأسرار ال***ية.
إنَّ التصوُّر الإسلامي الذي يصدر عنه الأديب الإسلامي هو - باختصار - دعوة إلى استعمال وسيلة نظيفة؛ للوصول إلى غاية نبيلة[54]، آخذًا في الاعتبار "الواقع الأكبر للإنسان، الواقع الذي يُمثل لحظةَ الضعف، ولحظة القوة، لحظة الهبوط، ولحظة الارتفاع"[55]، وذلك ما نجد له أصلاً في قوله - تعالى -: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16]، وقوله - تعالى -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286]، وقوله - عز وجل -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 28]، وقوله - تعالى -: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78].
وهكذا نستنتج أنَّ الإسلام يُمثل الأفق الواسع، والانطلاق الرحب البعيد، الذي يُمثل الزاد الأساس للأديب المسلم، يعبُّ منه كيف شاء، وفي أي مكان شاء، إلا أن يختل قانون "الأداة النظيفة، والغاية النبيلة"، فعند ذلك لا بُدَّ من تدخُّل لحسم الزيغ، وتقويم الانحراف.
فإذا تقرَّر ذلك، تبين أن المبدع الإسلامي:
1- متشبع بالروح الإسلامية، تغلغل الإيمان في وجدانه وحسه، ملتزم بالأصل النبوي الخالد: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم))[56].
2- يكيف نفسه مع هذا التصور تكيفًا كليًّا، حتى صار لا يصدر إلا عنه، ولا يشعر إلا من خلاله.
3- يستفرغ وسعه في تنمية موهبته، والارتقاء بتجربته، وتَحقيق الصدق في تعبيره.
4- مخلص في هذا العمل، يرجو من ورائه المثوبة قبلَ أي شيء آخر[57].
فلو اتبع أدبُنا هذه الأسس، واستهدف هذه المقاييس، لكان ما بين أيدينا من ثروة أدبية هائلة، بلغت من النضج ما يجعلها تسامي الآداب الأخرى، ومع ذلك، فما بين أيدينا ليس باليسير المستهان به، فهو يشكل البذور الأساسية لنمو "الفكرة"، بل هناك من النماذج الأدبية والنقدية ما هو ناضج بالفعل إلا أنَّه لا يزال قليلاً.
الشِّعْرَ لاَ الشِّعْرَ الْجَدِي *** دَ الْمُسْتَبِيحَ لِكُلِّ عَوْرَةْ
لاَ مَا يَقُولُ الْعَابِثُو *** نَ بِكُلِّ قَافِيَةٍ وَسَطْرَةْ
مِنْ كُلِّ مَغْمُورٍ يَهُبْ *** بُ بِغَيْرِ مَوْهِبَةٍ وَخِبْرَةْ [58]
وفي سبيل البحث عن نموذج لتنزيل هذا التوجُّه في الأدب عليه، وقع الاختيار على شعر "محمود غنيم"، وهو ما يأتي تفصيله في الصفحات الآتية.
____________________
[1] "تاريخ الأدب العربي"، ص: 63، ج: 1، ترجمة: د. عبدالحليم النجار، ط: 3، دار المعارف، القاهرة، 1959 - 1962.
[2] "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية"، ص: 59، ط: 4 - 1969، دار المعارف القاهرة.
[3] كارل بروكلمان: ج: 1 - ص: 63.
[4] ينظر تفسير الشوكاني، ج: 4، ص: 270، ط: 2، 1383 - 1964.
[5] "فتح القدير"، ج: 1، ص: 208.
[6] تنظر القصة كاملة في "مختصر سيرة ابن هشام"، محمد عفيف الزغبي، ص: 64، ط: 2 - 1982 مكتبة المعرفة.
[7] ينظر: "البرهان في علوم القرآن"، بدر الدين محمد بن عبدالله بن بهادر الزركشي: ج: 2، ص: 106، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، 1376 هـ - 1957م، دار إحياء الكتب العربية.
[8] "السيرة النبوية"، لابن هشام: ج: 2، ص: 284، تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، دار الجيل، 1411 هـ.
[9] هذه الأبيات لصالح جودة؛ ينظر: "القومية العربية في الشعر الحديث" لأحمد محمد الحوفي، ص: 30، دار النهضة، القاهرة.
[10] "الحياة الأدبية في عصري الجاهلية وصدر الإسلام"، عبدالمنعم خفاجي وصلاح عبدالتواب، ص: 247، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الأزهر.
[11] تنظر القصة كاملة في "العقد الفريد"، ج: 2، ص: 324.
[12] "نهاية الأرب في فنون الأدب"، شهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب النويري، ج: 18، ص: 28، تَحقيق: مفيد قمحية وجماعة، دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1424 هـ - 2004 م، الطبعة: الأولى.
[13] "صحيح مسلم": كتاب الشعر، رقم الحديث: 2255.
[14] "صحيح مسلم"، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، رقم الحديث: 1060.
[15] "صحيح مسلم"، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت، رقم الحديث: 2490.
[16] المصدر نفسه.
[17] "الأدب الديني: دراسة أدبية عن القرآن والحديث"، د. زكي المحاسني، ص: 4، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1970.
[18] "الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة"، عبدالقادر شيبة الحمد، ص: 11 - 12، مطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[19] "تاريخ الأدب الروماني"، ج. و. د. ف، ج: 1 ص: 78 - ترجمة، د. محمد سالم سالم - مركز الشرق الأوسط 1963 - ط3 - مطبعة التقدم - القاهرة.
[20] "الأدب الديني"، ص: 3.
[21] "الأدب اليوناني القديم"، د. عبدالواحد وافي، ص: 58، دار النهضة للطبع والنشر، مصر.
[22] "تاريخ الأدب اليوناني"، ص: 17، مكتبة النهضة المصرية، مطبعة لجنة البيان العربي، 1956.
[23] "تاريخ آداب اللغة العربية"، ج: 1، ص: 21، ط: 2، 1972، دار مكتبة الحياة، بيروت.
[24] "الأدب المغربي: ظواهره وقضاياه"، د. عباس الجراري، ص: 248.
[25] "الأدب المقارن"، غنيمي هلال، ص: 365.
[26] للمزيد من التفصيل ينظر: "النقد الأدبي عند اليونان"، د. بدوي طبانة، ص: 27، و"الأدب المقارن"، لغنيمي هلال، ص: 144.
[27] "النقد الأدبي عند اليونان"، د. بدوي طبانة، ص: 27، و"الأدب المقارن"، لغنيمي هلال، ص: 144.
[28] "تاريخ الأدب الروماني"، ص: 68.
[29] المصدر نفسه، ص: 100.
[30] "تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى الفتح الإسلامي"، د. مراد كامل، ود. محمد حمدي البكري، ص: 20، ط: المقتطف، المقطم بمصر، 1949.
[31] نفسه، ص: 15.
[32] "تاريخ آداب اللغة العربية"، ج: 1، ص: 23.
[33] "محاضرات عن الشعر الفارسي والحضارة الإسلامية في إيران"، د. علي أكبر فياض، ص: 24، مطابع الإصلاحات، الإسكندرية، 1950.
[34] "تاريخ الأدب الفارسي"، د. رضا زاده شفق، ص: 2، ترجمة: موسى هنداوي، دار الفكر العربي.
[35] نفسه: ص: 5.
[36] "تاريخ الأدب الفارسي"، ص: 5.
[37] "مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي"، د. عبدالباسط بدر، ص: 21، ط: الأولى، 1985، دار المنارة، جدة.
[38] "تاريخ الأدب العربي"، ج: 1، ص: 55.
[39] "تاريخ الأدب العربي"، حنا الفاخوري، ص: 59، ط: 3، 1960، المطبعة البوليسية.
[40] نفسه ص: 28 - 29.
[41] نفسه، ص: 29.
[42] "الحيوان"، الجاحظ، ج: 6، ص: 231.
[43] "ديوان زهير"، ج: 1، ص: 6.
[44] "ديوان الأعشى"، ج: 4، ص: 1.
[45] "الأدب الديني"، ص: 4.
[46] ص: 333.
[47] يراجع في ذلك: "مصادر الشعر الجاهلي"، ص: 61.
[48] للمزيد من الاطلاع، ينظر كتاب: "من قضايا الأدب الإسلامي"، للدكتور آدم صالح بيلو، ص: 7.
[49] "دراسات في أدب الدعوة الإسلامية"، د. محمود حسن زيني، المقدمة، 1982، مكتبة الخانجي بالقاهرة.
[50] "منهج الفن الإسلامي"، ص: 181، ط: السادسة، 1983، دار الشروق، بيروت والقاهرة.
[51] "في التاريخ... فكرة ومنهاج"، سيد قطب، ص: 16، ط: السادسة، 1983، دار الشروق.
[52] "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، د. نجيب الكيلاني، ص: 109، ط: الثانية، 1981، مؤسسة الرسالة، بيروت.
[53] نفسه، ص: 29.
[54] "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، ص: 16.
[55] "منهج التربية الإسلامية"، محمد قطب، ص: 32، ط: 7 - 1403 - 1982، دار الشروق ببيروت.
[56] "صحيح مسلم"، كتاب: الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، رقم الحديث: 38.
[57] ينظر: "منهج الفن الإسلامي"، محمد قطب، ص: 183.
[58] من شعر "صالح جودة"، ينظر: "القومية العربية في الشعر الحديث"، ص: 40