ابو وليد البحيرى
16-05-2015, 06:14 PM
رحلة الإسراء من زحمة الابتلاء إلى منحة الاصطفاء
خميس النقيب
لم تكن رحلةً عاديَّة؛ بل كانت نفحةً بعد لَفْحة، ورحمةً بعد قسوة، ومنحةً بعد زحمة، وتكريمًا بعد تمحيص، واصطفاء بعد ابتلاء؛ فقد مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بضوائق كثيرة، وتعرَّض لعوائق وفيرة، وهو في طريق الدعوة الكبيرة؛ دعوة الإسلام العظيمة.
والدعاة السائرون على دَرْبِه والمتمسكون بسنَّته والمحافظون على دعوته كذلك، يتعرَّضون لذات الابتلاء؛ لينعموا بقسطٍ من الاصطفاء.
إنها سنَّة الله للمرسلين، ومِن بعدهم الصحابة والتابعون والصالحون من عباده المؤمنين إلى يوم الدين، طريقة لن تتبدَّل، وسنَّة لن تتحوَّل؛ ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 62].
تنكَّر له الخلقُ فاستقبله الخالقُ، سدَّت في وجهة أبواب الأرضِ ففتحَت له أبوابُ السماء، لم يسمعه الناسُ في الطائفِ فجمع اللهُ له الأنبياء والمرسلين في "بيت المقدس" فكان لهم قائدًا وإمامًا.
لم يكن ذلك تسريةً عنه فحسب؛ وإنما كان تكريمًا لشخصِه وتقويةً لعزمِه، وإعلاء لشأنِه واصطفاء لقلبِه.
إنه صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا أن الطريقَ إلى الله عز وجل محفوف بالمخاطِر، وأن الطريق إلى جنَّته كلُّه أشواكٌ، حدث هذا مع الأنبياء والرسل والصالحين، وسيحدث كذلك مع أصحابِ الدعوات إلى يوم الدين، والله تعالى يسوق الأحداثَ والشدائدَ ليَمِيز الخبيثَ من الطَّيِّب، والمؤمنَ من الكافر، والجاحدَ من الشاكر، والناسي من الذاكر؛ ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 179].
يعلِّمنا النبي الكريم أن المؤمن يخرج من هذه الأحداث أصلب عودًا، وأقوى إيمانًا، وأثبت يقينًا، وأعظم مناعةً تمكِّنه من الصمود في وجه العوادي، والنَّكبَات تمكِّنه من الثبات، مع طول السفرِ ووعثَاء الطريق، وأن الإيمان دعوى تحتاج إلى دليلٍ، وهذه الشدائد والابتلاءات، والفِتَن والأشواك، ما هي إلا خير دليلٍ؛ ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].
إنه طريق أهل التقوَى والصلاح؛ الصالحين في أنفسِهم، المصلِحين لغيرهم، والقابضُ على دينه الملتزمُ بإسلامه، لا بدَّ أن يطارَد، لا بدَّ أن يُحاصر؛ وهذه علاماتُ الصدق، وإشاراتُ الفَلاح، وأُسُس النجاح، إشارات القرب من الله عز وجل؛ ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2].
ومن خصائص هذا الدين الحنيف: أنَّه يقف في وجهِ الطُّغاة والمستبدِّين، يقف للبغاةِ والظالمين، المنكبِّين على الدنيا، الهائمين في ملذَّاتها وشهواتِها ونَزواتِها، المفسدين فيها؛ ليرشدهم ويَعِظهم وينذرهم.
وعندما لا يتَّفق هذا مع أهوائهم يتعرَّضُ أصحابه لما يتعرَّضون له من صدٍّ وبلاء، مِن ظلمٍ وابتلاء، مِن قَمْعٍ وإيذاء، والحال أبلغ من المقال.
إن المفسدين من قريش جاؤوا إلى عم النبي صلى الله عليه وسلم يَقلبون الحقائقَ ويكذِّبون الحقيقة: ابنُ أخيك شتم آباءَنا، وسفَّه أحلامَنا وعاب آلهتنا، قل له يبقَ في مسجده، ويعمل في بيته، ويظل مع قرآنِه، ولا نريد منه شيئًا غير ذلك؛ فجاء به، وقال له: يا محمد، دعك من هؤلاء؛ فقد شتمتَ آباءهم، وسفَّهتَ أحلامَهم، وعبتَ آلهتهم.
فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقولةٍ بيَّضَت وجهَ التاريخ، وأنارَت ربوعَ الدنيا، وأصبحَت منهجًا ودستورًا لدعاة الأمس واليوم والغدِ القابضين على دينِهم، الملتزمين بدعوتِهم: ((والله يا عم، لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري؛ على أن أتركَ هذا الدين، ما تركتُه حتى يُظهره اللهُ أو أهلك دونه)).
إنه طريق الدعوات، ومنارةُ الدعاة، لو جاؤوا إليه بكلِّ الدنيا؛ الشمس والقمر، السماء والأرض، الحجر والشجر، وغيرها وغيرها - ما ترك هذا الدين، وعلى هذا الدرب يسير الصالحون من الدُّعاة، وعلى هذا المبدأ يحيا المخلصون من العلماء.
أمَّا المتلوِّنون المداهنون المنافقون؛ فلهم طريق آخر؛ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
ابتُلي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنقصٍ في الأنفس في عام الحزن؛ حيث وفاة زوجِه وعمِّه، اللذين كانا عونًا له على الرسالة، مدافعين عنه في ظلِّ إيذاء قريش له، ثم ابتُلي بضائقةِ الطائف في بدنِه حتى أدمَوا قدميه؛ عندما انتقل إلى الطائفِ يطلب من أهلها الإيمانَ برسالته، رفضوا، وقاموا بإيذائه ورميِه بالحجارة، ومن شدَّة الألمِ اشتكى النبيُّ لربه سبحانه وتعالى فسَمِع دعاءه.
ومِن المِحَن تُولد المنَح ويأتي الفرج؛ فهو يعلم أن هداية الحكَّام أكثر أثرًا من هداية المحكومين، والبداية مِن المتبوع أولى، أمَّا إذا فسد الحاكمُ، فقُل على المحكومين السلام.
ذهبَ إلى نخبةِ البلَد، وأهمِّ ثلاث شخصياتٍ في الطائف؛ وهم إخوة عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير الثقفي، فلمَّا جلس إليهم وكلَّمَهم سَخِروا منه، وردُّوا عليه ردًّا منكرًا، وأغرَوا به السفهاء؛ فاجتمع عليه الأهالي، وقد أمطروه ضربًا بالحجارة حتى دميت قدماه، وقذفوه بالهجاء والشتم، وكان (زيد) يقيه بنفسِه حتى أُصيب في رأسه، ومكثوا يطاردونَه ويصيحون به في الشوارع حتى ألجؤوه إلى بستان لـ"عتبة وشيبة" ابنَي ربيعة على ثلاثة أميال من الطَّائف، فجلس إلى شجرةِ عنب وكأنما هي المرَّة الأولى التي يجلس فيها بعد سنين؛ فقد أعياه الضربُ والرَّكْل، ودماؤه الشريفة تنزِف من وجهِه الكريم، ومِن قدمه الشريف، فضلاً عن ذلك الجرح النفسي في قلبِه الصديع المكلوم، والأسى الذى ينكأ جروح الماضي، فإذا بخير البريَّة صلوات الله وسلامه عليه يتوجَّه إلى ربِّه ضارعًا، خاضعًا، رافعًا يديه إلى السماء، مناجيًا ربَّه، معتذرًا إليه، متحبِّبًا إليه، بكلماتٍ كريمة، وبدعاءٍ صادق نبعَ من أعماق قلبِه الحزين، قد امتزجَت كلماته بحرقة وجدانه المكسور: ((اللهم، إليك أشكو ضعف قوتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني، أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتَك هي أوسع لي، أعوذ بنورِ وجهك الذى أشرقَت له الظلمات وصلح عليه أمرُ الدُّنيا والآخرة من أن تُنزِل بي غضبَك، أو يحلَّ على سخطُك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك))، لقد كانت إصابته النفسيَّة كبيرةً، إلى الدرجة التي نراه لأوَّل مرةٍ يشكو إلى الله قلَّة حيلتِه وضعفَ قوته، وهوانه على الناس، فنزل عليه جبريلُ بأمرٍ من المولى عزَّ وجل وقال: "يا محمد، السلامُ يقرئُك السلام، وإن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين"، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابِهم من يعبد اللهَ وحده لا يشرك به شيئًا)).
ومنذ أن وُجد الخيرُ والشر، منذ أن وُجد الهدى والضلال، منذ أن وُجد الحقُّ والباطل، والصراع على أشدِّه، لكن النتيجة الحتمية لهذا الصراع؛ هي أن الحقَّ دائمًا في انتصارٍ وازدِهار، وأن الباطل في اندحارٍ واندثار، دولة الباطلِ ساعة ودولة الحقِّ إلى قيام الساعة؛ ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18]، ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾[الصافات: 171 - 173]، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17]، ((لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتِي أمرُ الله وهم كذلك))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
بعد هذا الكمِّ من الابتلاء في مكة، وبعد هذا الموقف الإيماني العظيم من سيِّدِ الخَلْق نحو مَن آذوه؛ كانت المكافأةُ من الله عز وجل هي دعوتَه لرحلةِ الإسراء والمعراج، فالإسراء هو رحلة أرضيَّة من مكة إلى بيت المقدس، وكأن الله تعالى يقول: هذه منزلتُك، ثم بعد ذلك توجَّه إلى بيتِ المقدس، وبعد ذلك عرجَ به إلى السموات العُلى، وفُرض عليه الصلاةُ في السماء "خمسون صلاة"، ثم خفضَت إلى خمسٍ في العمل وخمسين في الأَجْر، لتكون الرحلة تكريمًا لشخصِه، والصلاةُ معراجًا وتعظيمًا لأمَّته.
فمِن زحمةِ الابتلاء كانت رحلة الإسراء مِنْحة واصطفاء، رحمةً واجتباء، سُجلَت في القرآن في سورتين مكيَّتين "النجم" توضح تفاصيلَ المِعراج، وسورة "الإسراء" مطلعها: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
خميس النقيب
لم تكن رحلةً عاديَّة؛ بل كانت نفحةً بعد لَفْحة، ورحمةً بعد قسوة، ومنحةً بعد زحمة، وتكريمًا بعد تمحيص، واصطفاء بعد ابتلاء؛ فقد مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بضوائق كثيرة، وتعرَّض لعوائق وفيرة، وهو في طريق الدعوة الكبيرة؛ دعوة الإسلام العظيمة.
والدعاة السائرون على دَرْبِه والمتمسكون بسنَّته والمحافظون على دعوته كذلك، يتعرَّضون لذات الابتلاء؛ لينعموا بقسطٍ من الاصطفاء.
إنها سنَّة الله للمرسلين، ومِن بعدهم الصحابة والتابعون والصالحون من عباده المؤمنين إلى يوم الدين، طريقة لن تتبدَّل، وسنَّة لن تتحوَّل؛ ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 62].
تنكَّر له الخلقُ فاستقبله الخالقُ، سدَّت في وجهة أبواب الأرضِ ففتحَت له أبوابُ السماء، لم يسمعه الناسُ في الطائفِ فجمع اللهُ له الأنبياء والمرسلين في "بيت المقدس" فكان لهم قائدًا وإمامًا.
لم يكن ذلك تسريةً عنه فحسب؛ وإنما كان تكريمًا لشخصِه وتقويةً لعزمِه، وإعلاء لشأنِه واصطفاء لقلبِه.
إنه صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا أن الطريقَ إلى الله عز وجل محفوف بالمخاطِر، وأن الطريق إلى جنَّته كلُّه أشواكٌ، حدث هذا مع الأنبياء والرسل والصالحين، وسيحدث كذلك مع أصحابِ الدعوات إلى يوم الدين، والله تعالى يسوق الأحداثَ والشدائدَ ليَمِيز الخبيثَ من الطَّيِّب، والمؤمنَ من الكافر، والجاحدَ من الشاكر، والناسي من الذاكر؛ ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 179].
يعلِّمنا النبي الكريم أن المؤمن يخرج من هذه الأحداث أصلب عودًا، وأقوى إيمانًا، وأثبت يقينًا، وأعظم مناعةً تمكِّنه من الصمود في وجه العوادي، والنَّكبَات تمكِّنه من الثبات، مع طول السفرِ ووعثَاء الطريق، وأن الإيمان دعوى تحتاج إلى دليلٍ، وهذه الشدائد والابتلاءات، والفِتَن والأشواك، ما هي إلا خير دليلٍ؛ ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].
إنه طريق أهل التقوَى والصلاح؛ الصالحين في أنفسِهم، المصلِحين لغيرهم، والقابضُ على دينه الملتزمُ بإسلامه، لا بدَّ أن يطارَد، لا بدَّ أن يُحاصر؛ وهذه علاماتُ الصدق، وإشاراتُ الفَلاح، وأُسُس النجاح، إشارات القرب من الله عز وجل؛ ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2].
ومن خصائص هذا الدين الحنيف: أنَّه يقف في وجهِ الطُّغاة والمستبدِّين، يقف للبغاةِ والظالمين، المنكبِّين على الدنيا، الهائمين في ملذَّاتها وشهواتِها ونَزواتِها، المفسدين فيها؛ ليرشدهم ويَعِظهم وينذرهم.
وعندما لا يتَّفق هذا مع أهوائهم يتعرَّضُ أصحابه لما يتعرَّضون له من صدٍّ وبلاء، مِن ظلمٍ وابتلاء، مِن قَمْعٍ وإيذاء، والحال أبلغ من المقال.
إن المفسدين من قريش جاؤوا إلى عم النبي صلى الله عليه وسلم يَقلبون الحقائقَ ويكذِّبون الحقيقة: ابنُ أخيك شتم آباءَنا، وسفَّه أحلامَنا وعاب آلهتنا، قل له يبقَ في مسجده، ويعمل في بيته، ويظل مع قرآنِه، ولا نريد منه شيئًا غير ذلك؛ فجاء به، وقال له: يا محمد، دعك من هؤلاء؛ فقد شتمتَ آباءهم، وسفَّهتَ أحلامَهم، وعبتَ آلهتهم.
فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقولةٍ بيَّضَت وجهَ التاريخ، وأنارَت ربوعَ الدنيا، وأصبحَت منهجًا ودستورًا لدعاة الأمس واليوم والغدِ القابضين على دينِهم، الملتزمين بدعوتِهم: ((والله يا عم، لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري؛ على أن أتركَ هذا الدين، ما تركتُه حتى يُظهره اللهُ أو أهلك دونه)).
إنه طريق الدعوات، ومنارةُ الدعاة، لو جاؤوا إليه بكلِّ الدنيا؛ الشمس والقمر، السماء والأرض، الحجر والشجر، وغيرها وغيرها - ما ترك هذا الدين، وعلى هذا الدرب يسير الصالحون من الدُّعاة، وعلى هذا المبدأ يحيا المخلصون من العلماء.
أمَّا المتلوِّنون المداهنون المنافقون؛ فلهم طريق آخر؛ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
ابتُلي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنقصٍ في الأنفس في عام الحزن؛ حيث وفاة زوجِه وعمِّه، اللذين كانا عونًا له على الرسالة، مدافعين عنه في ظلِّ إيذاء قريش له، ثم ابتُلي بضائقةِ الطائف في بدنِه حتى أدمَوا قدميه؛ عندما انتقل إلى الطائفِ يطلب من أهلها الإيمانَ برسالته، رفضوا، وقاموا بإيذائه ورميِه بالحجارة، ومن شدَّة الألمِ اشتكى النبيُّ لربه سبحانه وتعالى فسَمِع دعاءه.
ومِن المِحَن تُولد المنَح ويأتي الفرج؛ فهو يعلم أن هداية الحكَّام أكثر أثرًا من هداية المحكومين، والبداية مِن المتبوع أولى، أمَّا إذا فسد الحاكمُ، فقُل على المحكومين السلام.
ذهبَ إلى نخبةِ البلَد، وأهمِّ ثلاث شخصياتٍ في الطائف؛ وهم إخوة عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير الثقفي، فلمَّا جلس إليهم وكلَّمَهم سَخِروا منه، وردُّوا عليه ردًّا منكرًا، وأغرَوا به السفهاء؛ فاجتمع عليه الأهالي، وقد أمطروه ضربًا بالحجارة حتى دميت قدماه، وقذفوه بالهجاء والشتم، وكان (زيد) يقيه بنفسِه حتى أُصيب في رأسه، ومكثوا يطاردونَه ويصيحون به في الشوارع حتى ألجؤوه إلى بستان لـ"عتبة وشيبة" ابنَي ربيعة على ثلاثة أميال من الطَّائف، فجلس إلى شجرةِ عنب وكأنما هي المرَّة الأولى التي يجلس فيها بعد سنين؛ فقد أعياه الضربُ والرَّكْل، ودماؤه الشريفة تنزِف من وجهِه الكريم، ومِن قدمه الشريف، فضلاً عن ذلك الجرح النفسي في قلبِه الصديع المكلوم، والأسى الذى ينكأ جروح الماضي، فإذا بخير البريَّة صلوات الله وسلامه عليه يتوجَّه إلى ربِّه ضارعًا، خاضعًا، رافعًا يديه إلى السماء، مناجيًا ربَّه، معتذرًا إليه، متحبِّبًا إليه، بكلماتٍ كريمة، وبدعاءٍ صادق نبعَ من أعماق قلبِه الحزين، قد امتزجَت كلماته بحرقة وجدانه المكسور: ((اللهم، إليك أشكو ضعف قوتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني، أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتَك هي أوسع لي، أعوذ بنورِ وجهك الذى أشرقَت له الظلمات وصلح عليه أمرُ الدُّنيا والآخرة من أن تُنزِل بي غضبَك، أو يحلَّ على سخطُك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك))، لقد كانت إصابته النفسيَّة كبيرةً، إلى الدرجة التي نراه لأوَّل مرةٍ يشكو إلى الله قلَّة حيلتِه وضعفَ قوته، وهوانه على الناس، فنزل عليه جبريلُ بأمرٍ من المولى عزَّ وجل وقال: "يا محمد، السلامُ يقرئُك السلام، وإن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين"، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابِهم من يعبد اللهَ وحده لا يشرك به شيئًا)).
ومنذ أن وُجد الخيرُ والشر، منذ أن وُجد الهدى والضلال، منذ أن وُجد الحقُّ والباطل، والصراع على أشدِّه، لكن النتيجة الحتمية لهذا الصراع؛ هي أن الحقَّ دائمًا في انتصارٍ وازدِهار، وأن الباطل في اندحارٍ واندثار، دولة الباطلِ ساعة ودولة الحقِّ إلى قيام الساعة؛ ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18]، ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾[الصافات: 171 - 173]، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17]، ((لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتِي أمرُ الله وهم كذلك))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
بعد هذا الكمِّ من الابتلاء في مكة، وبعد هذا الموقف الإيماني العظيم من سيِّدِ الخَلْق نحو مَن آذوه؛ كانت المكافأةُ من الله عز وجل هي دعوتَه لرحلةِ الإسراء والمعراج، فالإسراء هو رحلة أرضيَّة من مكة إلى بيت المقدس، وكأن الله تعالى يقول: هذه منزلتُك، ثم بعد ذلك توجَّه إلى بيتِ المقدس، وبعد ذلك عرجَ به إلى السموات العُلى، وفُرض عليه الصلاةُ في السماء "خمسون صلاة"، ثم خفضَت إلى خمسٍ في العمل وخمسين في الأَجْر، لتكون الرحلة تكريمًا لشخصِه، والصلاةُ معراجًا وتعظيمًا لأمَّته.
فمِن زحمةِ الابتلاء كانت رحلة الإسراء مِنْحة واصطفاء، رحمةً واجتباء، سُجلَت في القرآن في سورتين مكيَّتين "النجم" توضح تفاصيلَ المِعراج، وسورة "الإسراء" مطلعها: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].