مشاهدة النسخة كاملة : الفهم أولاً


ابو وليد البحيرى
18-05-2015, 04:44 PM
الفهم أولاً
فريد مناع

هناك مثل شهير يقول: "أصابع اليد الواحدة لا تشبه بعضها البعض" وكذلك فكل واحد من البشر له من المبادئ والقيم ما يختلف به عن الشخص الآخر، وبالتالي إدراكه للأمور وطريقة نظره إليها تختلف اختلافاً كبيراً عن الشخص الآخر.
ولذا؛ يوصينا الدكتور عبد الكريم بكار بأن نرى العالم بعيون الآخرين فيقول: "حين نستمع إلى شخصٍ يتحدث؛ فإننا نحاول فهمه من خلال عاداتنا وإطارنا المرجعي، ولذا؛ فإننا كثيراً ما نسيء الفهم، ونغلط في التفسير، والموقف الصحيح في هذا هو أن ندخل إلى عالمه الشخصي؛ لنتعرف على دلالته، وطرق التعبير لديه".
مبدأ بدهي:
إن هذا المبدأ يستمد هذه القوة في التأثير، وهذه الأهمية؛ من شدة بديهيته، فأول شيء بديهي يخطر ببالك إذا أردت أن تتعامل مع أي شخص في العالم؛ أن تتعامل معه بلغته، فإذا قابلت شخصاً إنجليزيّاً لا يعرف إلا اللغة الإنجليزية؛ ستتعامل معه باللغة الإنجليزية، ولو حدثته بكل مفردات اللغة العربية ما فهمها، ولو صغت له كلمات بليغة ما تذوقها، فكيف تتعامل مع الآخرين بوجهة نظرك؟
حتى مع الأطفال الصغار الذين لا يعرفون اللغات بعد؛ ستجد نفسك تتعامل معهم باللغة التي يفهمونها، وستفاجأ بأنك تفعل أمامهم الكثير من الحركات الطفولية، والأصوات البهلوانية؛ حتى يفهموك ويضحكوا منك.
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقر هذا المبدأ:
والمتتبع لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبصر مدى فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التام لكل شخصية من شخصيات صحابته، وكيف كان يختار النصح المناسب لكل شخصية على أساس فهمه - صلى الله عليه وسلم - له.
ولذا جاءت أحاديث كثيرة في السنة وكان السؤال ذو صيغة واحدة: "يا رسول الله أوصني"، فالسؤال واحد، وموجه لنفس الشخص وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الإجابات كانت مختلفة باختلاف شخصية كل صحابي، وفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - العميق لخبايا تلك الشخصيات ودقائقها.
فلما جاءه رجل يريد سفراً فقال: يا رسول الله أوصني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أوصيك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف))[رواه ابن ماجة وحسنه الألباني].
بينما حين أراد معاذ بن جبل - رضي الله عنه - سفراً فقال: يا رسول الله أوصني، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، قال: يا رسول الله زدني، قال: إذا أسأت فأحسن، قال: يا رسول الله زدني، قال: استقم ولتحسن خلقك))[رواه الطبراني وحسنه الألباني].
وجواب مختلف يصوغه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - في حديث أسود بن أصرم المحاربي لما قال أسود - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله أوصني، قال: ((هل تملك لسانك؟، قال: فما أملك إذا لم أملكه، قال: أفتملك يدك؟، قال: فما أملك إذا لم أملك يدي، قال: فلا تقل بلسانك إلا معروفاً، ولا تبسط يدك إلا إلى خير)) [رواه الطبراني وصححه الألباني].
ويأتي الدور على الصحابي الجليل أبي ذر - رضي الله عنه - فيقول: يا رسول الله أوصني، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اتق الله، إذا عملت سيئة؛ فأتبعها حسنة تمحها، قال: قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟، قال: هي أفضل الحسنات)) [رواه أحمد وحسنه الألباني].
بينما كان رده - صلى الله عليه وسلم - على طلب أبي هريرة - رضي الله عنه - للوصية بقوله: ((لا تغضب))[رواه البخاري]، ولما سأله جرموز الهجيمي - رضي الله عنه - فقال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -: (( أوصيك أن لا تكون لعاناً))[رواه أحمد وصححه الألباني].
ما زال البحث مستمراً:
فكل سلوك يفعله الإنسان وراءه قيم ومبادئ ودوافع، وراءه رسالة في الحياة، ولذا ابحث دائماً عن هذه القيم، وابذل الجهد في التعرف على رسالته في الحياة، ولا تقف على الأفعال والتصرفات فكما يقول الدكتور إبراهيم الفقي: "وراء كل سلوك توجد رسالة، ووراء كل رسالة توجد نية إيجابية".
مثال توضيحي:
فإن ضربك والدك يوماً ما فقد ترى للوهلة الأولى أن ذاك التصرف سلبياً بالنسبة لك، لكن حقيقة التصرف وراءه نية إيجابية؛ ألا وهي أن يربيك على الاستقامة، ويعلمك الصواب من الخطأ.
ولنرجع مرة أخرى لمثال والدك الذي ضربك، فوراء هذا السلوك توجد رسالة له في الحياة ألا وهي إرضاء الله - تعالى -، وتربية أبنائه تربية دينية وخلقية صحيحة، وبالتالي لما رآك أخطأت ضربك؛ لأن رسالته في الحياة أن يربيك تربية صحيحة، فأدت هذه الرسالة إلى نية إيجابية حسنة في ضربك ألا وهي تربيتك وتعليمك الصواب، فنشأ التصرف الذي رأيته.
طبلة القلب:
ربما تعجب من العنوان السابق وتقول: أنا أعرف طبلة الأذن؛ لكنني لا أعرف ما هي طبلة القلب، وهنا يأتي دور نوع مختلف من الاستماع إلى الآخرين والإنصات إليهم؛ من أجل فهمهم فهماً عميقاً، ونعني بهذا النوع ما يعرف بالاستماع التعاطفي، ذلك الاستماع الذي يقع في خمس درجات هامة:
الدرجة الأولى: أننا نتجاهل الشخص الآخر فلا نستمع إليه أبداً في الحقيقة.
الدرجة الثانية: نتظاهر بالاستماع (حقاً! إنك على حق)، ولسنا مع الشخص أساساً.
الدرجة الثالثة: الاستماع الانتقائي، نستمع فقط إلى أجزاء معينة من المحادثة.
الدرجة الرابعة: الإنصات اليقظ الذي ننتبه فيه، ونركز طاقتنا على الكلمات التي يتم التلفظ بها.
أما الدرجة الخامسة: فهي درجة أعلى من درجة الإنصات الفعال، ألا وهي درجة الاستماع التعاطفي، وهي أعلى درجات الاستماع.
إذاً فالاستماع التعاطفي باختصار: هو أن تسمع وتشعر بالشخص الآخر، تستمع إليه وتتعاطف معه.
فوائد الاستماع التعاطفي:
ولهذا الاستماع التعاطفي فوائد جمة، وآثار عظيمة منها:
1. الطمأنينة:
أنه يجعل الشخص الآخر يطمئن إليك، ويجد فيك العقل المتفتح، والقلب المنشرح له؛ فيعبر لك عما في داخله، ويبدي لك أحاسيسه ومشاعره، ويخبرك بنواياه ودوافعه.
2. المعلومات الدقيقة:
تحصل من خلاله على معلومات دقيقة عن الشخص، وتصل إلى حقيقته، وبالتالي تتعامل معه بطريقة صحيحة، ويوفر عليك الاستماع التعاطفي الكثير من الوقت الذي كنت ستضيعه في التعامل بطريقة لا تناسبه، لأنك لم تكن قد فهمته بعد.
3. علاج الهموم:
الاستماع التعاطفي وسيلة ناجحة لعلاج الآخرين من الهموم والأحزان والآلام؛ فكثيراً ما تتفاقم الآلام والأحزان؛ بسبب أننا لا نجد من نحكي له، ونتكلم معه عن أحزاننا وآلامنا.
ولذلك فالاستماع التعاطفي يمثل تنفيساً معنوياً للآخرين، وسوف تجد أنك تساعد كثيراً من الناس على حل مشاكلهم، وتخفيف أحزانهم؛ بمجرد استماعك التعاطفي إليهم، لذا يقول الشاعر:
إذا ما عراكم حادث فتحدثوا *** فإن حديث القوم ينسي المصائبا
ملاذ الإمام ابن القيم:
وانظر إلى الإمام ابن القيم - رحمه الله - ومدى تأثره بشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وحاجته إليه في التنفيس عما يجد في نفسه من هم وغم.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها؛ ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها".
تمهل قليلاً:
كثيراً ما نتسرع بتقييم كلام الآخرين، وإصدار الأحكام بصورة متعجلة، دون أن نفهم وجهة نظرهم؛ ومن ثم فإن أول شرط عليك الالتزام به حتى تكون مستمعاً من هذا النوع؛ هو أن تتجنب تقييم الشخص، والحكم عليه بمجرد سماع كلامه.
ولذا؛ أعطِ نفسك فرصة للتفكير في كلامه من وجهة نظره، وطريقة تفكيره، وضع نفسك مكانه، وحاول أن تتعرف على الدوافع والأسباب التي أدت به إلى اتخاذ ذاك القرار، أو التعامل بهذه الطريقة.
وإليك بعض الأمثلة التوضيحية:
1. صديقك: أريد أن أتزوج بفلانة.
أنت: إنها لا تناسبك (تقييم)، أنت مخطئ في اختيارك (حكم)، تزوج بواحدة أخرى (نصيحة).
2. ابنك: أبي لا أريد الذهاب إلى المدرسة.
أنت: يا بني هذا خطأ كبير (حكم)، عليك بالذهاب إلى المدرسة، اصبر (نصيحة).
3. أنت لزوجتك: أريد أن أذهب معك للعشاء بالخارج الليلة.
زوجتك: ولكني مشغولة الليلة.
أنت: أنتِ دائماً مشغولة (تقييم)، كل شيء في حياتك أهم من زوجك (حكم).
وهكذا وكما هو واضح من الأمثلة السابقة أنك بمجرد أن تحكم على الشخص فإنك تقطع الاتصال بينك وبينه؛ لأن الحكم يفتح باب الاختلاف بينكما، حتى ولو كان حكماً صائباً فإن الشخص لا ينتظر منك أن تصدر عليه الأحكام، وهذا يمثل إزعاجاً بالنسبة له، وبالتالي تفقد الاتصال بينك وبينه.
قصة طريفة:
"في يوم من الأيام أراد رالف والد إيمرسون وابنه الصبي أن يحملا عجلاً صغيراً على العودة إلى حظيرته ولكنهما أخطأ، إذ وضعا نصب أعينهما ما يرغبان فيه وحسب، وفعل العجل الصغير مثلما فعلا تماماً، وضع نصب عينيه ما يرغب فيه هو؛ فثبَّت قوائمه في الأرض، وأبى أن يتزحزح عن مكانه قيد شعرة.
وشاهدت زوجته هذا المشهد، وكانت تعرف ما تريده العجول الصغار، فأسرعت إلى العجل الصغير، ووضعت إصبعها بحنان الأمومة في فمه، وتركته يمتص راضياً وهو يخطو وراءها حتى دخل الحظيرة".
بدلاً من أن تدفع الآخرين، وتفرض عليهم وجهة نظرك؛ سر بجانبهم، وحاورهم، وافهم وجهة نظرهم، واجعلهم يصلون إلى الحل بأنفسهم، بقيمهم، بمبادئهم، بنواياهم الإيجابية.
مراحل الاستماع التعاطفي:
1. محاكاة المضمون:
وهي أقل هذه المراحل فاعلية، فكل ما فيها هو أنك تسمع ما يقوله الشخص الآخر، ثم تردده، فلو قال مثلاً: "أبي، لقد وجدت المدرسة أسوأ شيء في الدنيا"، فترد عليه بمثل ما قال: "لقد وجدت المدرسة أسوأ شيء في الدنيا! ".
ولكن كن على حذر وأنت تطبق هذه الطريقة؛ لأن الشخص قد يظن أنك تهزأ به، ولذا فعليك تنفيذها دون أن تشعر الشخص الآخر أنك تقلده أو تحاكيه؛ حتى لا ينزعج.
2. صياغة المضمون:
ومعناه أنك تسمع حديث الطرف الآخر ثم تعيد صياغته بأسلوبك، فلو قال لك مثلاً: "أبي لقد وجدت المدرسة أسوأ شيء في الدنيا"، فترد عليه قائلاً: "إنك لا ترغب في الذهاب إلى المدرسة بعد الآن".
وهذه المرحلة أكثر فاعلية؛ لأنها تدل على أنك فكرت فيما قاله الطرف الآخر، ثم أعدت صياغته مما يعطي انطباعاً بمستوى أعلى في الاستماع.
3. التعبير عن المشاعر:
في هذه المرحلة تركز على مشاعر الشخص الآخر، لا تُعِر اهتماماً بما يقوله قدر اهتمامك بمشاعره، فلو قال لك مثلاً: "أبي لقد وجدت المدرسة أسوأ شيء في الدنيا"، فقل له: "إنك تشعر بإحباط شديد".
4. صياغة المضمون والتعبير عن المشاعر:
وهي أعلى المراحل فاعلية على الإطلاق؛ إذ أنها تجمع بين الاهتمام بما قاله وصياغته، والاهتمام بمشاعره وأحاسيسه، فإن قال لك: "أبي، لقد وجدت المدرسة هي أسوأ شيء في الدنيا"، فترد عليه قائلاً: "إنك تشعر بإحباط شديد من المدرسة".
وكلما زادت رغبتك في تنفيذ الاستماع التعاطفي بكفاءة وإتقان مع صدقك وإخلاصك في ذلك؛ ازدادت ثقة الشخص الآخر فيك، وبالتالي سيطمئن إليك، فتجده يتكلم بحرية، ويعبر لك عما في داخله بطلاقه، حتى يكسر الحاجز الفاصل بينك وبينه تماماً، وستجد الشخص يتكلم معك كأنه يحدث ذاته حتى يصير كأنه كتاب مفتوح أمامك، وهنا تكون قد وصلت إلى الفهم الحقيقي للشخص.
والآن حان الوقت المناسب:
بعدما تكون قد استمعت للشخص وفهمته، ورأيت الأمور من وجهة نظره، وصار هو يثق بك، وينفتح معك في الحديث، بل يطلب منك المشورة والرأي؛ تستطيع الآن أن تعرض رأيك، وتقدم نصحك للشخص؛ فهذا هو الوقت المناسب.
وبالتأكيد سوف يكون توجيهك للشخص الآن على أساس فهمك له، ووعيك الكامل به، وأنا أؤكد لك أنك غالباً ما ستجد الكلام الذي كنت ستقوله قبل أن تسمع الشخص قد اختلف تماماً الآن؛ لأنك شعرت به، وأحسست بآلامه وأحزانه.
وسوف يخرج كلامك الآن مناسباً ومؤثراً في نفس مستمعك؛ لأنه أيضاً قد صار يثق فيك، ويهتم برأيك، وسوف يسخر جميع أجهزة الإرسال لاستقبال إشارتك، إنه الآن على اتصال بك بعقله الواعي، يحلل كلامك، ويقتنع به، وعقله اللاواعي يتأثر بالكلام، ويتفاعل معه.
كيف السبيل؟
1. اختر شخصاً ما تشعر بأن العلاقة بينك وبينه في خطر، وأنك لا تفهمه جيداً، وطبق معه مبادئ الاستماع التعاطفي، وحاول أن تفهمه، ولاحظ الفارق الذي سيحدث في العلاقة بينكما.
2. إذا وجدت نفسك في إحدى محادثاتك قيَّمت أو حكمت على الشخص، أو نصحته على وفق ذلك؛ بادر إلى تصحيح الموقف عن طريق الاعتذار والاعتراف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أهم المراجع:
1. كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟ ديل كارنيجي.
2.بصائر في العلم والثقافة، 256 بصيرة في الشخصية، د.عبد الكريم بكار.
3. دورة ممارس البرمجة اللغوية العصبية، د. إبراهيم الفقي.
4. الوابل الصيب، ابن القيم.