ابو وليد البحيرى
20-05-2015, 04:34 AM
القائد المجاهد طارق بن زياد بين الروايات المتناقضة؟!
مولاي المصطفى البرجاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى اله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بَعدُ:
يقول الله تبارك وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
ومِن هؤلاءِ الأبطال المجاهدين الذين سَطر التاريخ الإسلامي صدقهم وأمانتهم وقوة شكيمتهم في دحر الأعداء الصليبيين - طارق بن زياد - رحمه الله.
لكن الروايات التاريخيَّة التي نسجت حول الخطبة المشهورة عنه وما قيل عن حَمل جيوشه على حرق السفن؛ ما تزال إلى اليوم تثير كثيرًا منَ السِّجال والنقاش؛ لهذا كانت هذه الدِّراسة لنقض الرِّوايات المتحاملة، وتحليلها تحليلاً علميًّا لدفع كل غبش وغموض يُقلل من أبطالنا؛ الذين رفعوا راية الإسلام خَفَّاقة في قلب أوروبا النَّصرانيَّة، وما تزال مصادرهم مَلأى بالتَّشهير والتَّزوير لحقائق هذا الرَّجل العظيم؛ لكن الطَّامَّة الكبرى أن نعثرَ في مراجع بني جلدتنا وممن يسمون بأسمائنا طروحات وأفكار الغرب النصراني الحاقد، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
1-المعطيات الأوليَّة للموضوع:
- التعريف بشخصيَّة طارق بن زياد:
هو طارق بن زياد، وُلد سنة 50 هـ - 640 م، وتولَّى طنجة سنة 89 هـ - 707م، ثم فتح الأندلس سنة 92هـ - 710 م. أمَّا وفاته فكانت على الأرجح سنة 102 هـ، وقد اختلف في نسبه، ولكن أرجح الأقوال أنَّه أمازيغيٌّ قُحٌّ؛ ولكنَّه كان على صلةٍ بالعروبة والإسلام منذ زمن ليس بالقصير، فقد ذكر له ابن عذارى أبوين في الإسلام، فاسمه الكامل: طارق بن زياد بن عبدالله، ويبدو أنَّه ليس هو الذي أسلم أوَّلاً بل والده وجده الذي يكون قد انتقل إلى المشرق، وهناك نشأ طارق في بيئة عربيَّة إسلاميَّة، مع احتفاظه بلهجة أجداده البربريَّة، ثمَّ جُنّد بعد ذلك في جيش موسى بن نصير، وجاء معه إلى المغرب، وكان من أشد رجاله[1].
أورد ابن عذاري المراكشي أيضًا في كتابه "البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب" أنَّ نسب طارق بن زياد هو: طارق بن زياد بن عبدالله بن لغو بن ورقجوم بن نير بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو… فهو نضري[2].
كما استخلص الدكتور محمد علي الصلابي[3] من بعض المصادر التاريخيَّة أوصافًا لطارق بن زياد: طويل القامة، ضخم الهامة، أشقر اللَّون، وهي صفات فيما يبدو بربريَّة، أسلم على يد موسى بن نصير - رحمهما الله، وليس كما ذهبت بعض المصادر إلى أنه فارسي وأخرى قالت إنه عربي.
وصفوة القول: أن طارقَ بن زياد، فاتحَ الأنْدَلُسِ، ولد سنة 50 هـ، تجمع أغلب المصادر على أصله البربري، أَسلم على يد موسى بن نُصَيْرٍ ، فكان من أشدِّ رجاله، ولما تَمَّ لِموسى فتح طَنْجَةَ ولّى عليها طارقًا سنة 89هـ، فأقام فيها إلى أوائل سنة 92هـ، فجهّز موسى جيشًا قدره سبعة آلاف جنديّ معظمهم من البربر لغَزْو الأندلس وفتحها، وولّى طارقًا قيادتهم، فنزل بهم البحر واستولى على الجبل (جبل طارق) وفتح حصن "قَرْطَاجَنَّة"، ولَمَّا علم طارق بقدوم جيشٍ للأعداء كبيرٍ يقوده الملك "لُذْرِيق" طلب من موسى تعزيزًا فأرسل له خمسةَ آلاف جندي، فأعدَّ طارق جيشه وحارب الملك "لُذريق " ف***ه، ثم تَغَلْغَلَ في أرض الأندلس وافتتح "إشْبِيلِيَة" و"إستجة" وأرسـل من استولى على "قُرْطُبَة" و"مَالَقة"، ثم فتـح "طليطلة" عاصِمة الأندلس. تُوُفِّي طارقٌ بن زيادٍ سنة 102هـ.
- نص الخُطبة:
قال: أيُّها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوُّ أمامكم، وليس لكم - والله - إلا الصدق والصبر، واعلموا أنَّكم في هذه الجزيرة أضيَعُ منَ الأيتام، في مأدُبَة اللئام، وقد استقبلكم عدوُّكم بِجَيشِه وأسلحتِه، وأقواتُهُ موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سُيوفكم، ولا أقوات إلاَّ ما تستخْلِصونه من أيدي عدوِّكم، وإن امتَدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينَتُه الحصينة، وإن انتهاز الفُرْصَة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإنّي لم أحذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوة، ولا حملتكم على خُطة أرخصُ متاع فيها النفوسُ (إلاَّ وأنا)[4] أبدأ بنفسي، واعلموا أنَّكم إن صَبرتم على الأشق قليلاً، استمعتم بالأرْفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حَظّكم فيه بأوفى من حظي، [وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ منَ الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمَرْجان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان]، وقدِ انتخبكم الوليد بن عبدالملك أميرُ المؤمنين منَ الأبطال عُزْبانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانا، ثقةً منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفُرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مَغْنَمُها خالصًا لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدَّارين، واعلموا أني أوّل مجيبٍ إلى ما دعوتكم إليه، وأنّي عند مُلْتَقى الجمعين حاملٌ بنفسي على طاغية القوم "لذريق" فقاتِلهُ - إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة ب***ه، فإنَّهم بعده يُخْذَلون"[5].
- شرح غريب ألفاظ الخطبة:
-الوزر: الملجأ والمكان الذي تحتمون به، والمراد هنا السلاح.
- ذهبت ريحكم: أي انتهت قوّتكم، ذَهاب الريح كِناية عن زَوال القوة والغَلَبة والضَّعف والتَّفَرُّق.
- المناجزة: سرعة المُقَاتلة والاشتباك.
- نجوة: منجاة؛ أي إنني معكم في هذا الأمر الخطير.
- العقيان: الذهب.
- عزبان: جمع أعزب وعازب أي الذي لم يتزوج.
- أصهار: جمع صهر، القريب وزوج بنت الرجل أو أخته.
- أختان: جمع ختن، وهو أبو امرأتك أو أخوها. فالأحماء من قبل الزوج، والأختان من قبل الزوجة، والأصهار تجمعهما.
- خصائص الخطبة:
تَتَمَيَّز خصائص خطبة طارق بن زياد المشهورة في فتح الأندلس - وهي من النَّثر الأدبي السائد في خطب العصر الأموي بصورة عامة - بالميل إلى الإيجاز، دون مقدّمات طويلة، أو ألقاب عديدة، ثم عناية بالعبارة المُرَكزة ذات الأداء المباشر دون تلوين أو زخرف.
- أقسام الخطبة ومضمونِها:
تخلو هذه الخطبة من أيّ شكل من أشكال المقدمات - كما ذكرنا آنفًا، إذ يتناول طارق الموضوع مباشرة، ويشتمل على ثلاثة مقاطع متتالية تكوّن فيما بينها وحدة في الموضوع (الحث والتحريض على الجهاد).
المقطع الأول: الترهيب: ويبدأ بـ(أيُّها الناس، أين المفر؟..) وينتهي بـ(إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي).
وقد وجّه فيه طارق الخطاب إلى أصحابه، ورسم لهم صورة عامَّة للظروف التي هم فيها، مما يفرض عليهم الصمود والثبات لمُجَابَهة العدو، وقد اعتمد في ذلك على المقابلة بين وضعيتهم ووضعيَّة أعدائهم، فالمسلمون مُحَاطون بالبحر الذي خلفوه وراءهم، وبالعدو الذي يزحف نحوهم، وقد شبّههم في وضعهم هذا بالأيتام الضائعين في مأدبَة اللئام، ولقد لجأ في خطبته إلى العقل أوّلاً دون العاطفة عندما وضع جنوده في الإطار الحقيقي بعد إحراق سفنه، وحين يسيطر العقل على العاطفة في الخطبة تغيبُ الصور عن السَّاحة، ويتوقف الخيال عن التّدخل... فحديث العقل هامسٌ هادئ، أمَّا حديث العاطفة فحديث قارعٌ ضاجٌّ يستثيرُ النّوازع البدائية في النفوس؛ كما تستثيرها الطبول بأصواتِها القوية المدوية.
المقطع الثاني: التّرغيب: ويبدأ بـ(واعلموا أنَّكم إن صبرتم على الأشق قليلاً)، وينتهي بـ(والله تعالى ولي إنْجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدَّارين).
وبعد أنْ فصّل في جانب الترهيب، عمد إلى الترغيب، ليبث في نفوس جنُودِه مزيدًا منَ الحماس، فحثهم على الصمود والجهاد، وأوصاهم بالصبر على مشاق الحرب مدة قصيرة ليستمتعوا بثمار النصر زمنًا طويلاً، ولينالوا رضا الله ثم رضا الخليفة (الوليد بن عبدالملك - الذي اختارهم من أبطال العرب والمسلمين لفتح تلك الجزيرة، رغبة منه في أنْ يكون حظه منهم ثواب الله - عزَّ وجلَّ - على إعلاء كلمته وإظهار دينه في هذه الأرض، ثم ذكرهم بأنَّ الله سبحانه وتعالى سيكون في عونِهم على هذا العمل الصالح الذي ****بهم ذكرًا حسنًا في الدارين.
أمَّا الفقرة التي وضعناها بين معقوفتين (في نص الخطبة)، فإنَّنا نرتاب في نسبتها إلى طارق، ونعتقد أنَّها من وضع بعض المستعربين (المستشرقين) الحاقدين على الإسلام والمسلمين وتدبيجهم؛ لأن ما ورد فيها لا يتلاءم والروح الإسلاميَّة العالية التي يتميز بها الفاتحون الأوائل من أمثال طارق بن زياد، فالفارق واضح بين لغة الخطبة كلها، ولغة هذه الفقرة التي يُغري طارق فيها جنوده بفتيات الأندلس وبالحور من بنات اليونان، (ولسنا ندري لماذا اليونان؟) اللائي يرْفلن باللآلئ والمرجان، وهن بنات الملوك والأمراء (كما زعموا)، فهي فقرة شاذة طغى عليها السجع طغيانًا لم نَجِدْه في سائر الخطبة من ناحية، وانحَطّت لُغتُها في الوقت نفسه إلى دركٍ لا يمكن أنْ نظنَّ معه أبدًا أنّها وبقية أجزاء الخطبة من عمل واحدٍ، إلى جانب ما جاء فيها من التَّناقُض في المعاني، وفي الأسلوب، ومن مخالفتها لحقائق تاريخية، كإقحام كلمة "اليونان" في الفقرة، في حين أنَّ المؤرخين الأندلسيين قد اعتادوا على استعمال كلمة "الروم" أو "القوط"، وكذلك اصطلاح "العلوج والعجم أو المشركين والكفار".
وفضلاً عن ذلك فإنَّ المؤرخين العرب القدماء الذين ينتمون إلى أزمنة مختلفة، وأمكنة متباعدة تجاهلوها، وكأنَّها شيء لا أصل له في الخطبة، فلم يثبتها أحد منَ المؤرخين الأوائل، أمثال: عبدالملك بن حبيب (ت 238هـ/852م). صاحب كتاب "مبدأ خلق الدنيا"، المعروف بتاريخ ابن حبيب، وابن قتيبة (ت 276 هـ/889م) صاحب كتاب "الإمامة والسياسة"، والطرطوشي (ت 520 هـ/ 1126م) صاحب كتاب "سراج الملوك"، وغيرهم. وأوّل مَن أورد هذه الفقرة في الخطبة هو ابن خلكان (ت 681هـ/ 1282م). صاحب كتاب "وفيات الأعيان". ويبدو أنَّ الفقرة قد أضيفت إلى الخطبة بعد عصر ابن خلكان عندما استولى الصليبيون على بلاد المسلمين وعبثوا بتراثهم... إذًا فلا بد من الوقوف وقفة شكّ كبيرة أمام هذه الفقرة "ومما يزيد هذا الشك رسوخًا تلك الحقيقة التاريخية التي عُرفت عن الجيوش الإسلامية عامة - ولا سيما في تلك القرون الأولى من حملات الإسلام - وهي أنَّ هذه الجيوش لم تكن تغزو للغزو وللغنائم التي ينالها الغزاة عادة؛ بل كانت تغزو في سبيل فكرة وعقيدة".
وهذه الحقائق التّاريخية، لا تُعجبُ الصليبيين الحاقدين على الإسلام والمسلمين، فعملوا ما في وسعهم على تشويه التاريخ الإسلامي المجيد بجوانبه المتعددة، تارة بالزيادة، وطورًا بالحذف، ولكن {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
المقطع الثالث: إبراز خطته الحربية في المعركة: ويبتدئ بـ(واعلموا أني أوّلُ مجيب إلى ما دعوتكم إليه)، وينتهي بـ(فإنّهم بعده يخذلون).
وبعد أنْ تناول جانب الترغيب مركزًا على الجانبين المادي والمعنوي معًا، انتقل إلى إبراز خطَّته الحربية في المعركة التي يقبل عليها، واضعًا كل الاحتمالات المُمكنة أمام أعينهم تجنُّبًا للاضطراب أو تصدّع الصفوف في حالة استشهاد القائد، وقد أعلن عن خطته في اللحظات الحاسمة قبل نشوب المعركة، مما يدلُّ على حنكته وبُعد نظره، ثم أخبرهم بأنَّ *** لذريق ملك الأعداء سيسهل مهمة فتح الأندلس؛ لأن قومه سيخذلون بعد ***ه، وقد اتَّخذ نفسه قدوة لجنده عندما تكفل هو بنفسه ب*** لذريق، وقال لهم: فإنْ متُّ بعد *** الطاغية فقد كفيتكم شره، عندئذٍ تستطيعون إسناد أموركم إلى بطل عاقل يخلفني في قيادتكم[6].
وللموضوع تتمة
مولاي المصطفى البرجاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى اله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بَعدُ:
يقول الله تبارك وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
ومِن هؤلاءِ الأبطال المجاهدين الذين سَطر التاريخ الإسلامي صدقهم وأمانتهم وقوة شكيمتهم في دحر الأعداء الصليبيين - طارق بن زياد - رحمه الله.
لكن الروايات التاريخيَّة التي نسجت حول الخطبة المشهورة عنه وما قيل عن حَمل جيوشه على حرق السفن؛ ما تزال إلى اليوم تثير كثيرًا منَ السِّجال والنقاش؛ لهذا كانت هذه الدِّراسة لنقض الرِّوايات المتحاملة، وتحليلها تحليلاً علميًّا لدفع كل غبش وغموض يُقلل من أبطالنا؛ الذين رفعوا راية الإسلام خَفَّاقة في قلب أوروبا النَّصرانيَّة، وما تزال مصادرهم مَلأى بالتَّشهير والتَّزوير لحقائق هذا الرَّجل العظيم؛ لكن الطَّامَّة الكبرى أن نعثرَ في مراجع بني جلدتنا وممن يسمون بأسمائنا طروحات وأفكار الغرب النصراني الحاقد، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله!
1-المعطيات الأوليَّة للموضوع:
- التعريف بشخصيَّة طارق بن زياد:
هو طارق بن زياد، وُلد سنة 50 هـ - 640 م، وتولَّى طنجة سنة 89 هـ - 707م، ثم فتح الأندلس سنة 92هـ - 710 م. أمَّا وفاته فكانت على الأرجح سنة 102 هـ، وقد اختلف في نسبه، ولكن أرجح الأقوال أنَّه أمازيغيٌّ قُحٌّ؛ ولكنَّه كان على صلةٍ بالعروبة والإسلام منذ زمن ليس بالقصير، فقد ذكر له ابن عذارى أبوين في الإسلام، فاسمه الكامل: طارق بن زياد بن عبدالله، ويبدو أنَّه ليس هو الذي أسلم أوَّلاً بل والده وجده الذي يكون قد انتقل إلى المشرق، وهناك نشأ طارق في بيئة عربيَّة إسلاميَّة، مع احتفاظه بلهجة أجداده البربريَّة، ثمَّ جُنّد بعد ذلك في جيش موسى بن نصير، وجاء معه إلى المغرب، وكان من أشد رجاله[1].
أورد ابن عذاري المراكشي أيضًا في كتابه "البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب" أنَّ نسب طارق بن زياد هو: طارق بن زياد بن عبدالله بن لغو بن ورقجوم بن نير بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو… فهو نضري[2].
كما استخلص الدكتور محمد علي الصلابي[3] من بعض المصادر التاريخيَّة أوصافًا لطارق بن زياد: طويل القامة، ضخم الهامة، أشقر اللَّون، وهي صفات فيما يبدو بربريَّة، أسلم على يد موسى بن نصير - رحمهما الله، وليس كما ذهبت بعض المصادر إلى أنه فارسي وأخرى قالت إنه عربي.
وصفوة القول: أن طارقَ بن زياد، فاتحَ الأنْدَلُسِ، ولد سنة 50 هـ، تجمع أغلب المصادر على أصله البربري، أَسلم على يد موسى بن نُصَيْرٍ ، فكان من أشدِّ رجاله، ولما تَمَّ لِموسى فتح طَنْجَةَ ولّى عليها طارقًا سنة 89هـ، فأقام فيها إلى أوائل سنة 92هـ، فجهّز موسى جيشًا قدره سبعة آلاف جنديّ معظمهم من البربر لغَزْو الأندلس وفتحها، وولّى طارقًا قيادتهم، فنزل بهم البحر واستولى على الجبل (جبل طارق) وفتح حصن "قَرْطَاجَنَّة"، ولَمَّا علم طارق بقدوم جيشٍ للأعداء كبيرٍ يقوده الملك "لُذْرِيق" طلب من موسى تعزيزًا فأرسل له خمسةَ آلاف جندي، فأعدَّ طارق جيشه وحارب الملك "لُذريق " ف***ه، ثم تَغَلْغَلَ في أرض الأندلس وافتتح "إشْبِيلِيَة" و"إستجة" وأرسـل من استولى على "قُرْطُبَة" و"مَالَقة"، ثم فتـح "طليطلة" عاصِمة الأندلس. تُوُفِّي طارقٌ بن زيادٍ سنة 102هـ.
- نص الخُطبة:
قال: أيُّها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوُّ أمامكم، وليس لكم - والله - إلا الصدق والصبر، واعلموا أنَّكم في هذه الجزيرة أضيَعُ منَ الأيتام، في مأدُبَة اللئام، وقد استقبلكم عدوُّكم بِجَيشِه وأسلحتِه، وأقواتُهُ موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سُيوفكم، ولا أقوات إلاَّ ما تستخْلِصونه من أيدي عدوِّكم، وإن امتَدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينَتُه الحصينة، وإن انتهاز الفُرْصَة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإنّي لم أحذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوة، ولا حملتكم على خُطة أرخصُ متاع فيها النفوسُ (إلاَّ وأنا)[4] أبدأ بنفسي، واعلموا أنَّكم إن صَبرتم على الأشق قليلاً، استمعتم بالأرْفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حَظّكم فيه بأوفى من حظي، [وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ منَ الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمَرْجان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان]، وقدِ انتخبكم الوليد بن عبدالملك أميرُ المؤمنين منَ الأبطال عُزْبانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانا، ثقةً منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفُرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مَغْنَمُها خالصًا لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدَّارين، واعلموا أني أوّل مجيبٍ إلى ما دعوتكم إليه، وأنّي عند مُلْتَقى الجمعين حاملٌ بنفسي على طاغية القوم "لذريق" فقاتِلهُ - إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة ب***ه، فإنَّهم بعده يُخْذَلون"[5].
- شرح غريب ألفاظ الخطبة:
-الوزر: الملجأ والمكان الذي تحتمون به، والمراد هنا السلاح.
- ذهبت ريحكم: أي انتهت قوّتكم، ذَهاب الريح كِناية عن زَوال القوة والغَلَبة والضَّعف والتَّفَرُّق.
- المناجزة: سرعة المُقَاتلة والاشتباك.
- نجوة: منجاة؛ أي إنني معكم في هذا الأمر الخطير.
- العقيان: الذهب.
- عزبان: جمع أعزب وعازب أي الذي لم يتزوج.
- أصهار: جمع صهر، القريب وزوج بنت الرجل أو أخته.
- أختان: جمع ختن، وهو أبو امرأتك أو أخوها. فالأحماء من قبل الزوج، والأختان من قبل الزوجة، والأصهار تجمعهما.
- خصائص الخطبة:
تَتَمَيَّز خصائص خطبة طارق بن زياد المشهورة في فتح الأندلس - وهي من النَّثر الأدبي السائد في خطب العصر الأموي بصورة عامة - بالميل إلى الإيجاز، دون مقدّمات طويلة، أو ألقاب عديدة، ثم عناية بالعبارة المُرَكزة ذات الأداء المباشر دون تلوين أو زخرف.
- أقسام الخطبة ومضمونِها:
تخلو هذه الخطبة من أيّ شكل من أشكال المقدمات - كما ذكرنا آنفًا، إذ يتناول طارق الموضوع مباشرة، ويشتمل على ثلاثة مقاطع متتالية تكوّن فيما بينها وحدة في الموضوع (الحث والتحريض على الجهاد).
المقطع الأول: الترهيب: ويبدأ بـ(أيُّها الناس، أين المفر؟..) وينتهي بـ(إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي).
وقد وجّه فيه طارق الخطاب إلى أصحابه، ورسم لهم صورة عامَّة للظروف التي هم فيها، مما يفرض عليهم الصمود والثبات لمُجَابَهة العدو، وقد اعتمد في ذلك على المقابلة بين وضعيتهم ووضعيَّة أعدائهم، فالمسلمون مُحَاطون بالبحر الذي خلفوه وراءهم، وبالعدو الذي يزحف نحوهم، وقد شبّههم في وضعهم هذا بالأيتام الضائعين في مأدبَة اللئام، ولقد لجأ في خطبته إلى العقل أوّلاً دون العاطفة عندما وضع جنوده في الإطار الحقيقي بعد إحراق سفنه، وحين يسيطر العقل على العاطفة في الخطبة تغيبُ الصور عن السَّاحة، ويتوقف الخيال عن التّدخل... فحديث العقل هامسٌ هادئ، أمَّا حديث العاطفة فحديث قارعٌ ضاجٌّ يستثيرُ النّوازع البدائية في النفوس؛ كما تستثيرها الطبول بأصواتِها القوية المدوية.
المقطع الثاني: التّرغيب: ويبدأ بـ(واعلموا أنَّكم إن صبرتم على الأشق قليلاً)، وينتهي بـ(والله تعالى ولي إنْجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدَّارين).
وبعد أنْ فصّل في جانب الترهيب، عمد إلى الترغيب، ليبث في نفوس جنُودِه مزيدًا منَ الحماس، فحثهم على الصمود والجهاد، وأوصاهم بالصبر على مشاق الحرب مدة قصيرة ليستمتعوا بثمار النصر زمنًا طويلاً، ولينالوا رضا الله ثم رضا الخليفة (الوليد بن عبدالملك - الذي اختارهم من أبطال العرب والمسلمين لفتح تلك الجزيرة، رغبة منه في أنْ يكون حظه منهم ثواب الله - عزَّ وجلَّ - على إعلاء كلمته وإظهار دينه في هذه الأرض، ثم ذكرهم بأنَّ الله سبحانه وتعالى سيكون في عونِهم على هذا العمل الصالح الذي ****بهم ذكرًا حسنًا في الدارين.
أمَّا الفقرة التي وضعناها بين معقوفتين (في نص الخطبة)، فإنَّنا نرتاب في نسبتها إلى طارق، ونعتقد أنَّها من وضع بعض المستعربين (المستشرقين) الحاقدين على الإسلام والمسلمين وتدبيجهم؛ لأن ما ورد فيها لا يتلاءم والروح الإسلاميَّة العالية التي يتميز بها الفاتحون الأوائل من أمثال طارق بن زياد، فالفارق واضح بين لغة الخطبة كلها، ولغة هذه الفقرة التي يُغري طارق فيها جنوده بفتيات الأندلس وبالحور من بنات اليونان، (ولسنا ندري لماذا اليونان؟) اللائي يرْفلن باللآلئ والمرجان، وهن بنات الملوك والأمراء (كما زعموا)، فهي فقرة شاذة طغى عليها السجع طغيانًا لم نَجِدْه في سائر الخطبة من ناحية، وانحَطّت لُغتُها في الوقت نفسه إلى دركٍ لا يمكن أنْ نظنَّ معه أبدًا أنّها وبقية أجزاء الخطبة من عمل واحدٍ، إلى جانب ما جاء فيها من التَّناقُض في المعاني، وفي الأسلوب، ومن مخالفتها لحقائق تاريخية، كإقحام كلمة "اليونان" في الفقرة، في حين أنَّ المؤرخين الأندلسيين قد اعتادوا على استعمال كلمة "الروم" أو "القوط"، وكذلك اصطلاح "العلوج والعجم أو المشركين والكفار".
وفضلاً عن ذلك فإنَّ المؤرخين العرب القدماء الذين ينتمون إلى أزمنة مختلفة، وأمكنة متباعدة تجاهلوها، وكأنَّها شيء لا أصل له في الخطبة، فلم يثبتها أحد منَ المؤرخين الأوائل، أمثال: عبدالملك بن حبيب (ت 238هـ/852م). صاحب كتاب "مبدأ خلق الدنيا"، المعروف بتاريخ ابن حبيب، وابن قتيبة (ت 276 هـ/889م) صاحب كتاب "الإمامة والسياسة"، والطرطوشي (ت 520 هـ/ 1126م) صاحب كتاب "سراج الملوك"، وغيرهم. وأوّل مَن أورد هذه الفقرة في الخطبة هو ابن خلكان (ت 681هـ/ 1282م). صاحب كتاب "وفيات الأعيان". ويبدو أنَّ الفقرة قد أضيفت إلى الخطبة بعد عصر ابن خلكان عندما استولى الصليبيون على بلاد المسلمين وعبثوا بتراثهم... إذًا فلا بد من الوقوف وقفة شكّ كبيرة أمام هذه الفقرة "ومما يزيد هذا الشك رسوخًا تلك الحقيقة التاريخية التي عُرفت عن الجيوش الإسلامية عامة - ولا سيما في تلك القرون الأولى من حملات الإسلام - وهي أنَّ هذه الجيوش لم تكن تغزو للغزو وللغنائم التي ينالها الغزاة عادة؛ بل كانت تغزو في سبيل فكرة وعقيدة".
وهذه الحقائق التّاريخية، لا تُعجبُ الصليبيين الحاقدين على الإسلام والمسلمين، فعملوا ما في وسعهم على تشويه التاريخ الإسلامي المجيد بجوانبه المتعددة، تارة بالزيادة، وطورًا بالحذف، ولكن {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
المقطع الثالث: إبراز خطته الحربية في المعركة: ويبتدئ بـ(واعلموا أني أوّلُ مجيب إلى ما دعوتكم إليه)، وينتهي بـ(فإنّهم بعده يخذلون).
وبعد أنْ تناول جانب الترغيب مركزًا على الجانبين المادي والمعنوي معًا، انتقل إلى إبراز خطَّته الحربية في المعركة التي يقبل عليها، واضعًا كل الاحتمالات المُمكنة أمام أعينهم تجنُّبًا للاضطراب أو تصدّع الصفوف في حالة استشهاد القائد، وقد أعلن عن خطته في اللحظات الحاسمة قبل نشوب المعركة، مما يدلُّ على حنكته وبُعد نظره، ثم أخبرهم بأنَّ *** لذريق ملك الأعداء سيسهل مهمة فتح الأندلس؛ لأن قومه سيخذلون بعد ***ه، وقد اتَّخذ نفسه قدوة لجنده عندما تكفل هو بنفسه ب*** لذريق، وقال لهم: فإنْ متُّ بعد *** الطاغية فقد كفيتكم شره، عندئذٍ تستطيعون إسناد أموركم إلى بطل عاقل يخلفني في قيادتكم[6].
وللموضوع تتمة