مشاهدة النسخة كاملة : منهجية ابن خلدون والإسقاطات المادية


ابو وليد البحيرى
22-05-2015, 04:53 PM
منهجية ابن خلدون والإسقاطات المادية




أ. د. عبدالحليم عويس



في إطار الآراء الفلسفية، يذهب الأستاذ (مهدي عامل) - المفكر اللبناني - إلى أن التاريخَ ليس حركة الأحداث، بل حركة الوقائع؛ أي: حركة الكل الاجتماعي، ويذهب كذلك إلى أن التاريخ - (أي: الممارسة التاريخية) - بالتالي ليس إخبارًا حدثيًّا؛ أي: نقلاً للأحداث، بل هو إخبار واقعي، والواقع بالضرورة اجتماعي، ولئن كان الإخبار الحدثي نقلاً، فإن الإخبار الواقعي (الاجتماعي) ليس نقلاً أو سردًا، وليس بإمكانه أصلاً أن يكونَ كذلك؛ لأن النقل أو السرد هو بالحدث وللحدث، والواقع الاجتماعي الذي يخبر التاريخ عنه - أي: يؤرِّخه - ليس أحداثًا؛ إنما هو بناء مترابط معقَّد من العلاقات المختلفة[1].

وهذا القول ليس صحيحًا على إطلاقه؛ لأن المؤرخ لا يستطيع تجاوز الإخبار الحدثي كلية، فلا يقف عنده، بل يسير به نحو اكتشاف العلاقات المختلفة وضعية أو جزئية، كما أن المؤرخ - كذلك - لا يقف عند اكتشاف قوانين الحركة؛ ليرى فيها قوى ذاتية عمياء تحرِّك التاريخ وتصنع الأحداث كما يريد منا (مهدي عامل) وغيره من أصحاب التفسير المادي أن نؤمِنَ، بله أن نؤمن بأن ابن خلدون قال به، أو حسب قوله في عبارته المألوفة عن الماديين: "إن الضرورة التاريخية هي - في تعبير آخر - منطق الاجتماع البشري...، إنها الضرورة الخلدونية في انتقال المجتمع من البداوة إلى الحضارة، أو في انتقال الدولة من طَور إلى طور، أو في وصول العصبية إلى غايتها، التي هي الملك"[2].

فهي حركة داخلية عمياء (ضرورة)، وعلمية فكر ابن خلدون - بالتالي - عند "مهدي عامل" ليست بسيطة، إنها عِلميَّة معقدة، لقد قفز ابن خلدون بالفكر العربي إلى علميته؛ بتحريره النظر في الموجودات - ومنها الواقعات العمرانية التاريخية - من هيمنة الفكر الديني الذي ينظر في الموجودات جميعًا في ارتباطها بمبدأ وجودها، الذي هو من خارجها، وهو خالقٌ، وهي خليقته.

أما الفكر العلمي الخلدوني، فيقوم العقل فيه على استقلال الموجودات بذاتها عن كل ما ليس هو، وعن كل ما هو من خارجه، فلا يدخل في دائرة معرفته إلا ما هو ضروريٌّ بضرورته، لا بضرورة غيره[3].

(أي بدون تدخل من الإله.. من المطلق...!).

ولئن ألجأت الضرورة إلى النظرة في الدين، ففي ضوء القوانين العمرانية كظاهرة عمرانية، أما ربط العمران بالدين ربطًا تبعيًّا، فهذا - في رأي مهدي عامل - ما يرفضه ابن خلدون رفضًا قاطعًا[4].

وأخيرًا في رأي مهدي عامل أيضًا تكمن علمية فكر ابن خلدون في أنه وجَّه التاريخ والاجتماع إلى هدفٍ واحد، حين تخطى حدود الحقل التاريخي المغربي إلى حقل التاريخ الاجتماعي بعامة، فنجح في ربط صياغة القوانين الكونية - التي هي عملية بناء النظرية العلمية للتاريخ - بعملية البحث في هذه الأسباب؛ أي: بعملية التفسير المادي (الاجتماعي) للتاريخ[5]!

وفي الطريق نفسه، ولنَقُلْ: في إطار هذا "التعليب المادي"، إذا صح التعبير مع قليل من التوسعة - يبدأ (سالم حميش) بحثه الذي بذل فيه جهدًا تحليليًّا متميزًا حول (الخلدونية في مرآة فلسفة التاريخ) بالوقوع في الحفرة المادية - الماركسية أو شبة الماركسية - نفسها.

فمن البداية يسجل الباحث أن الطريقةَ التي يعالج بها ابن خلدون الحياةَ السياسية والثقافية "لها بعض القرابة بالطريقة التي يحلل بها مثلاً ماركس أو فيبر نمطَ الإنتاج الرأسمالي؛ فكلهم يسعون إلى عرض البِنية الأساسية وسيرها النوعي"، ويؤكد اتجاهه (في الهامش) بعرض بعض نماذج التشابه المثيرة بين ماركس وابن خلدون، وهي تشابهات يمكن أن توجد بين ماركس وعشرات المفكرين دون أن يكون الفكر منتميًا إلى فلسفة مادية؛ فالجانب المادي في الحياة - كجانب من جوانب الصراع والتفاعل في المجتمع - جانبٌ لا يمكن إنكاره، ولم ينكره فيلسوف مسلم واحد، باستثناء بعض منحرفة الصوفية الذين لا يُعتد بهم، وقد تتبعه كثيرون وحاولوا - عبثًا - إخضاعَه لفلسفة مادية متجاوزين جذوره الإسلامية الشمولية.

في مشروع ابن خلدون الضخم يقول سالم حميش: "يقوم الخطاب على ازدواج التركيب حول العلم والعقيدة الدينية، والمطلوب دومًا هو فك ارتباطاته والتباساته، ليس لقصد بيداغوجي فحسب؛ وإنما أيضًا لغاية معرفية؛ ذلك لأن الموضوعية ليست هي القاعدة المهيمنة دومًا عند مؤرخنا (!)، فمن حين لآخر يختلط بها شعوره الديني (وهل الشعور الديني مخالف بالضرورة للموضوعية؟!)؛ فيحدث له تمييزات وتقسيمات يلزم أن نكون حذرين بإزائها، ولا أدلَّ على ذلك مثلاً من تمييزه بين العصبية الإيجابية (المحمودة) في سبيل الله، والعصبية السلبية المذمومة، أو (على الباطل) في الجاهلية ومع المذاهب والتيارات اللاحقة"[6].

يواصل سالم حميش تحليله المادي لمنهجية ابن خلدون: "أما إذا أعدنا الخطاب التاريخي الخلدوني إلى مادته العلمية، وخلصناه من حلقاته وعُقَده الموثوقية البارزة (الباحث يقصد التحليل الخلدوني الإسلامي)، فإنه قد يكتسي بالعمق مع وجود فوارق خاصيات ثلاث: المادية، والوضعية، والدائرية"[7].

وفي سياق إثبات مادية الفلسفة الخلدونية، يرى الباحثُ أن ذلك يبرز في فكرتين: في نصوص ابن خلدون النظرية، وهما: "الطبيعية"؛ حيث إن ابن خلدون - ككلِّ الماديين القدامى والمحدثين - يرجع للإنسان وضعه ككائن طبيعي خاضع لمنحنى بيولوجي ضروري وشمولي، "والسببية" أو "العِلِّيَّة": هي الفكرة الثانية المثبتة لمادية فلسفة ابن خلدون التاريخية - في رأي الباحث - والسببية تعني: أخذ الكائن التجريبي المحسوس بعين الجد؛ (أي: إهمال ما وراء الحس)، وكيف يمكن أخذُ العالم الواقعي بعين الجد إن لم يكن بالإعراض عن التحليقات الما ورائية والصوفية؟! (أي: ترك القول بالميتافيزيقا، أو تحليل الواقع عن طريق الإيمان بدور القدرة الإلهية في التاريخ!)، واعتمادًا على تأويل غير موضوعي لنص ابن خلدون الذي يقول فيه: "واعلم أن الإنسان مفتقرٌ بالطبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوئه إلى أشُدِّه وكِبَره"، يستنتج الباحث أن الفكر الاقتصادي الخلدوني الطبيعي يرى أن الله "لا يختص" إلا بخَلْق شروط الحياة المادية، أما سيره وغاياته، فأمورٌ موكولة إلى الإنسان[8].

ويتابع سالم حميش تحديد (صلاحيات الله)[9] واختصاصاته وَفْق تأويله للمنهج الخلدوني الاقتصادي، فيرى أن "إتاحة التدخل الإلهي" - وهذا نص تعبيره - لربما أن وظيفته - يتابع حميش - حل الطابع الإشكالي والعرَضي للرزق، والمتجلي من وجهة أخرى في تقدير قيمة البضائع، وتحديد الأسعار[10]!

وعندما يجد "سالم حميش" أن عبارةَ ابن خلدون واضحة في أن الله هو الموكل إليه كل شيء والمسؤول عن الرزق، يحاول تأويل الأمر، ويلمح إلى أن ابن خلدون متناقض مع نفسه؛ لأنه أفاد بأن كسب الرزق من عمل الإنسان في موقع آخر، يقول حميش: "وأما الرزق، فهو في اعتبار ابن خلدون موكل إلى الله، وهذه الإحالة في ميدان خاص - كالاقتصاد - ليست سوى تعبيرٍ عن عقيدة أو إيمان، وهو على كل حال لا يتوافق مع قولين للمؤلف: واحد قطعي، والآخر استدلالي"، ثم ينتهي إلى عبارة حاسمة تنفي التدخل الإلهي في الرزق، يقول: "وعلى هذا النحو يظهر أن دائرةَ المعاش مستقلَّة وقائمة بذاتها"[11]؛ فهي - في الفلسفة الخلدونية من وجهة نظره التأويلية - لا دخل لله فيها، بل هي عمل إنساني محض، حتى لو قال ابن خلدون بأنها موكلة إلى الله؛ لأن قول ابن خلدون هذا - حسب رأي حميش - مجرد تعبير عن عقيدة وإيمان!

إن هذا الإسقاط والتعسف في توجيه آراء ابن خلدون الذي يقدمه سالم حميش - إنما يرجع إلى ضغط النزعة الأيديولوجية المادية، التي لا تريد أن تبصر العوامل الأخرى، ولا تريد أن تعترف بهيمنة الله وعنايته بالتاريخ الإنساني والحضارة البشرية، بل والكون كله.

ويقع كل هؤلاء الماديين في خطأ كبير حين يفرضون التصور اللاهوتي على الإسلام، ويتصورون أن أي قول بفعل الله ورعايته المباشرة يعني التناقض الكامل مع فعل الإنسان ومع الأسباب والقوانين الداخلية، التي هي (نظام الله) الذي أودعه "داخل" كل كيان حي أو منتج!

إن الذي خلق المواد الخام في عقيدتنا (شروط الحياة المادية بتعبير حميش) هو الله الذي يرعاها في كل لحظة، وكل مكان، وكل حركة، وهو الذي يُخضعها باطِّرادٍ للسنن، ويبطل فاعليتها - بالمعجزات - لو شاء، إنه المالك لقوانينها، وليس اطِّرادُها إلا يدًا من أياديه، ونعمةً من نِعَمه، وإلا لأصبح فقه الكون والمجتمع وتسخيرهما مستحيلاً.

وعندما يأذن الله بخرق النواميس أو طي صفحة من صفحات الحضارات، أو ركن من أركان الأرض، فإنه يفعل ذلك في ومضةٍ خاطفة؛ فعلمه وقدرته فوق كل علم وقدرة إنسانية، وهما راعيان وموجِّهان لعلم الإنسان وقدرته.

إن المفكر المسلم الذي يرفض اللاهوت، ويعي دور الإنسان الرائع الفاعل، والتناغم في صناعة الحضارة - لا يشعر بالتناقض أو صراع بين فعل الإنسان وبين رعاية الله وعنايته، إن رعاية الله ليست "تكبيلاً" ولا "إلغاءً" لكل ملكاته وأجهزته واختراعاته، بل تحيطه برحمة عامة تشبه الرحمة التي يرسلها الله في الهواء والماء والشمس لكل الناس، ولا سيَّما هؤلاء الذين ينسجمون مع سُننه وأوامره ونواهيه، إنهم الأكثر انسجامًا وإبداعًا وخيرًا وحقًّا، في الإطار الإنساني الأوسع زمانًا، والأعمق روحًا، والأرحب مكانًا.

لكن التفسير المادي يَعجِزُ عن إدراك هذه المنظومة الرائعة، ويفصل - بحسم - بين ما هو مادي وما هو روحي ومعنوي، ويضع أسوارًا من التناقض والصراع بين ما هو عُلْوي وما هو أرضي!

وهي أسوار - وهو كذلك صراع - لا وجود لهما إلا في مخيلته ومقولاته غير العلمية وغير الموضوعية!


[1] مهدي عامل، في عملية الفكر الخلدوني، ص 14، 15، دار الفارابي، طـ2، بيروت.

[2] المرجع السابق، ص 18.

[3] المرجع السابق، ص31.

[4] المرجع السابق، ص 32.

[5] السابق، ص 28.

[6] الخلدوني في مرآة فلسفة التاريخ، الاجتهاد، ص 133، عدد 22، 1414هـ.

[7] السابق، 114.

[8] السابق، 118.

[9] يشبه هذا الإله إله اليهود، المختص بهم وحدهم، والذي يعمل لصالحهم طول الوقت، أساؤوا أم أحسنوا.
والحقيقة أن هذه كلها مفاهيم وثنية، تتناقض مع كمالية الألوهية، ومع ذات الله رب العالمين، الذي يحيط بكل شيء علمًا، والقادر على كل شيء، والذي يكفل كل الناس بعدل ورحمة كاملين.

[10] السابق، 118.

[11] السابق، 118.