مشاهدة النسخة كاملة : من مشاهير علماء الطب


ابو وليد البحيرى
23-05-2015, 05:37 PM
من مشاهير علماء الطب

ابن النفيس (ت687هـ / 1288م)



د. عبدالله حجازي


‏علي بن أبي الحزم القرشي، ‏علاء الدين الملقَّب بابن النفيس: اختُلف في أصله؛ فبعضهم يَنسبه إلى قَرْش، ‏وهي قرية مِن قرى الشام، ‏وبعضهم إلى قَرش ‏وهي بلدة فيما وراء النهر، وُلد ابن النفيس ونشأ في دِمَشق، ‏وتعلَّم في مدارسها، وتتلمَذ على مُهذَّب الدِّين عبدالرحيم علي، المعروف بالدخوار (ت628هـ / 1230م)، وكان الدَّخوار هذا ‏رئيس أطباء الشام ومصر في عهد السلطان سيف الدِّين أخي صلاح الدين الأيوبي، أما ابن النفيس فكان مِن أبرز تلاميذ الدخوار.

لم يُذكر اسم ابن النفيس في النسخة المتداوَلة مِن كتاب عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة، ‏غير أنه عُثر على مخطوطة في دار الكتب الظاهرية، وُجد فيها ترجمة مقتَضبة لابن النفيس، جاء فيها: "علاء الدِّين بن أبي الحزم القرشي، كان شيخًا فاضلاً كالبحر الخِضمِّ والطود الأشمِّ للعلوم، ولم يكن مُنفرِدًا بفنٍّ مِن الفنون، ولو لم يكن له غير شرح غوامض القانون لكفى به دليلاً على غَزارة فضله ونَزارة مثله....".

‏ومما يقول عنه السُّبكي ‏في كتابه: "طبقات الشافعية الكبرى":
"...وأما الطبُّ فلم يكن على وجه الأرض مثلُه، قيل: ولا جاء بعد ابن سينا مثله، قالوا: وكان في العِلاج أعظم مِن ابن سينا، وورَد في "مسالك الأبصار لأخبار ملوك الأمصار"[1] أن ابن النفيس "كان شيخًا طويلاً، أسيل الخدَّين، ‏نحيفًا، ذا مروءة"، ووصف اليافعيُّ[2] ابن ‏النفيس في كتابه: "مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان" على أنه أحد مَن انتهَت إليه معرفة الطب، مع الذكاء المُفرِط والذِّهن الخارِق والمشارَكة في الفقه والأصول والحديث والعربية والمَنطِق".

وبالعبارة نفسها تقريبًا وصفه جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ / ‏ 1505‏م) في كتابه: "حسن المحاضَرة في أخبار مصر والقاهرة".

‏لقد نشأ ابن النفيس - كما يُستنتَج مِن المَصادر جميعها - في جوٍّ عِلمي صحيح مبنيٍّ على الخِبرة والأصالة في التفكير والمناقَشة، وحرية الكلمة، ولا غرابة إذًا أن يَبني ابن النفيس آراءه كلها على المشاهَدة والتجربة والخِبرة العملية؛ الأمر الذي هداه إلى اكتِشاف الدورة الدموية الرئوية.

‏رحَل ابن النفيس مِن الشام إلى مصر؛ حيث استقرَّ في القاهرة، وعمل في أكبر مُستشفياتها (البيمارستان الناصري)، وبلَغ ابن النَّفيس مِن العمر ثمانين عامًا، عاصَر خلالها أحداثًا كبرى في التاريخ الاسلامي، مثل نزول الفرنجة في دمياط، وصدهم في فارسكور، واعتِقال لويس التاسع في المنصورة، وهجوم هولاكو على بغداد، وهدمها سنة 656هـ / 1258م، ‏وهزيمة التتار في حلب، وفتح تلك المدينة سنة 676 هـ / 1277م، وردِّ هجوم ملك النوبة على أسوان سنة671هـ / 1272م، والوباء الذي فتَك بأهل مصر سنة 671هـ / 1272م، نحو ستة أشهر انفض في خلالها ما لا يُحصى مِن الخلائق، مِن نساء ورجال وأطفال وعبيد وجوارٍ.

‏كان ابن النفيس كثير الاجتِماع بأهل العِلم والطب في داره التي ابتناها بالقاهرة وفرَشها بالرخام، وكان يتردَّد عليه في داره الأمراء والأعيان، مِن أمثال: المهذَّب بن أبي حليقة رئيس الأطباء، ‏ويَجلس الناس فيها حسب طبقاتهم، بل إنه لم يكن يَحجب نفسه عن الإفادة ليلاً أو نهارًا، وقد ذكَر أحد تلاميذه أن ابن النفيس اجتمع ليلةً هو وقاضي القضاة محمد بن سالم بن واصل (ت: 697هـ / 1298م)، فلما فرَغا مِن صلاة العشاء الآخِرة شرَعا في البحث، وانتقَلا مِن عِلم إلى عِلم، والشيخ علاء الدين يَبحث برياضة وبلا انزعاج، وأما القاضي فإنه يَنزعِج ويَعلو صوته وتحمرُّ عينه، وتنتفخ عروق رقبته، ‏ولم يزالا كذلك إلى أن أسفر الصبح، فلما انفصل الحال، قال القاضي جمال الدين: "يا شيخ علاء الدِّين، أما نحن فعِندنا مسائل ونكت وقواعد، وأما أنت فعِندك خزائن علوم".

‏وكان ابن النفيس ذا قريحة عالية جدًّا؛ إذ كانت كثيرًا ما تُباغته، فيَعصر فكره ويَنكبُّ على القلم ويدوِّن ما تجود به هذه القريحة الفذَّة؛ لذلك كان يُحضر - إذا ما أراد التصنيف - أقلامًا مبرية، ويُدير وجهه إلى الحائط، ويأخذ في التصنيف إملاءً مِن خاطرته، ويَكتب مثل السيل إذا انحدَر، فإذا كَلَّ القلم وحفي، رمى به وتناول غيره؛ لئلا يَضيع عليه الزمان في برْي القلم، ويُروى عنه أنه "دخَل مرةً إلى الحمام الذي في باب الزهومة، فلما كان في بعض تغسيله، خرَج إلى مسلخ الحمام واستدعى دواةً وقلمًا وورقًا، وأخذ بتصنيف مقالة في النبض إلى أن أنهاها، ثم عاد ودخَل الحمام وكمَّل تغسيله".

‏كان ابن النفيس أمينًا في عِلمه ومعاملاته للمرضى، وكان إذا وصف دواءً، لا يَصفه إلا إذا كان به خبيرًا، ويَعرفه معرفةً حقَّة، صادقًا في قوله، يَذكُر أحدهم أنه شكا إلى ابن النفيس عقالاً (عقدة أو ورمًا حميدًا) في يده، فقال له: وأنا - والله - بي عقال، ‏فسأله بأي شيء يُداويه؟ فأجابه ابن النفيس: والله ما أَعرِف بأي شيء أُداويه، ثمَّ لم يَزده على ذلك.

‏لقد كان لابن النفيس صفحات مَجيدة في تاريخ الطب، ولو لم يكن له مِن هذه الصفحات المُشرِقة سوى اكتشافه للدورة الدموية الرئوية (الدورة الدموية الصُّغرى) لكفاه ذلك كشفًا عظيمًا في تاريخ الفكر العالَمي، بَلْه تصحيحه أخطاء جالينوس وابن سينا في التشريح، وفي عِلم وظائف (منافع) الأعضاء، كما يتبيَّن من النقاط التالية:
‏1) ابن النفيس هو أول مَن أعلن أن الدم يَجري مِن التجويف (البطين) الأيمن إلى الرئة لتحدث التهوية وتَحصُل المخالَطة الهوائية، مُنكِرًا بذلك وجود مسام الجدار الكائن ‏بين التجويفَين، فهو يقول: "... وإذا لطف الدم في هذا التجويف (يعني التجويف الأيمَن) فلا بدَّ مِن نفوذه إلى التجويف الأيسَر؛ حيث يتولَّد الروح، ولكن ليس بينهما منفذ؛ فإن جرْم القلب هناك مصمت ليس فيه منفَذ ظاهِر، كما ظنَّه جماعة، ولا منفذ ‏غير ظاهر يَصلُح لنفوذ هذا الدم، كما ظنَّه جالينوس، فإنَّ مسام القلب هناك مُستحصَفة (مُحكَمة) وجرمه غليظ، فلا بدَّ وأن يكون هذا الدم، إذا لطف نفذ في الوريد الشِّريان إلى الرئة ليَنبث في جرْمها ويُخالط الهواء ويتصفَّى ألطَف ما فيه، ويَنفذ إلى الشِّريان الوريدي ليُوصل إلى التجويف الأيسَر مِن تجويفي القلب، وقد خالط الهَواء وصلح لأن يتولَّد منه الروح، وما بقي منه أقل لطافةً، ‏تَستعمِله الرئة في غذائها".

ويُكرِّر ابن النفيس القول في مَوضِع آخَر: "فإن نُفوذ الدم إلى التجويف الأيسَر، إنما هو مِن الرئة بعد تَسخُّنه وتصعُّده من التجويف الأيمن، كما قرَّرناه أولاً".

2) ويُستنبَط مِن كلامه الآنِف الذِّكْر أن ابن النفيس يقول: إن الدم يَجري باتِّجاه واحد، وإنه لا يَخضع لظاهِرة المدِّ والجَزر، كما كان يعتقد، وأنه لا يَرجع مِن التجويف الأيسَر إلى الرئة ليُغذيها، "... قوله - يقصد ابن سينا -: وإيصال الدم الذي يُغذي الرئة إلى الرئة مِن القلب - يقصد القلب الأيسر - هذا هو الرأي المشهور، وهو عِندنا باطل؛ فإن غذاء الرئة لا يصل إليها مِن هذا الشريان - يقصد الشريان الرئوي - لأنه لا يرتفع إليها مِن التجويف الأيسر مِن تجويفَي القلب؛ إذ إن الدم الذي في هذا التجويف إنما يأتي إليه مِن الرئة آخِذةً منه، وأما نفوذ الدم من القلب إلى الرئة فهو في الوريد الشِّرياني".

3‏) وابن النفيس كان أول مَن قال بأن تغذية العضلة القلبية تتمُّ بوساطة عروقها المنبثَّة في جرمها (بوساطة الأوعية الإكليلية أو التاجية)، "قوله - أي ابن سينا -: ليكون له مستودَع غذاء يتغذى به، وجعله الدم الذي في البُطَين الأيمن منه يتغذَّى القلب لا يصح ألبتَّة، فإن غذاء القلب إنما هو مِن الدم المنبثِّ فيه مِن العروق المنبثَّة في جرمه".

‏وهذه العِبارة تُضيف - كما يقول غليونجي - دليلاً آخَر على أن ابن النفيس مارَس التشريح، كما أنها تجعل منه أول مَن وصف الشِّريان الإكليلي وفروعه.

4) ويُعدُّ ابن النفيس أول مَن وصَف الأوعية الشِّعرية والمنافذ المحسوسة بين الأوردة والشرايين؛ فهو يقول: "ولذلك جعل الوريد الشِّرياني شديد الاستِحصاف ذا طبقتَين؛ ليكون ما ينفذ مِن مسامه شديد الرقَّة، وجعل الشِّريان الوريدي نحيفًا ذا طبقة واحدة؛ ليَسهل قبوله لما يَخرج مِن ذلك الوريد، ولذلك جعَل بين هَذين العِرقين منافذ محسوسة"، وما هذه المنافِذ المحسوسة إلا الأوعية الشِّعرية الدقيقة التي لم تُكتشَف إلا بعد ظهور العدَسة المكبِّرة، أي بعد ابن النفيس بقُرون.

5) علاوةً على النقاط الآنِفة الذِّكر وذات الأهمية التاريخيَّة، فقد أنكر ابن النفيس قول ابن سينا بوجود ثلاثة تجاويف في القلب؛ "... قوله: وفيه ثلاثة بُطون، وهذا كلام لا يصحُّ، فإن القلب له بَطنان فقط، أحدهما مملوء مِن الدم وهو الأيمَن، وآخَر مملوء مِن الروح وهو الأيسَر، ولا منفَذ بين هذَين البطنَين ألبتَّة، وإلا كان الدم يَنفذ إلى مَوضِع الروح فيَفسد جوهَرها، والتشريح يُكذِّب ما قالوه".

‏هذا، وقد كان ابن النفيس موسوعيًّا؛ فقد نبَغ في الطب حتى صار إمامًا فيه لا يُضاهى ولا يُدانى استِحضارًا واستنباطًا، ونبَغ في الفقه وأصوله، والنحو والبيان والسيرة النبوية والمنطِق وغيره، وله في أكثر هذه العلوم تصانيف قيِّمة، وكانت طريقته في التأليف أن يَكتب مِن حفظه وتجاربه ومُشاهداته ومُستبطاته، وقل أن يُراجِع أو يَنقل مِن تصانيفه.

‏وقد أخذ مُعاصِرو ابن النفيس عليه أنه لم يقرأ في علوم اللغة إلا نموذجًا للزمخشري على ابن النحاس، ومع ذلك أقدَم على الكتابة فيها، إلا أن ابن النحاس كان يَقول - كما ذكر بول غليونجي في كتابه ابن النفيس صفحة 104- 105: "لا أرضى بكلام أحد في القاهِرة في النحو غير كلام ابن النفيس".

مِن تصانيف ابن النفيس:
‏1- كتاب "الشامل في الطبِّ"، ‏وهو كتاب ضخْم جدًّا يدلُّ فهرسه على أنه إذا تم تبييضه يكون في ثلاثمائة مجلَّدة، بُيِّضَ منها ثمانون، وقد وقَفها بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة، منه مجلد مخطوط ضخم في الظاهرية بدمشق، ‏وثلاثة مجلَّدات مخطوطة في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا.

2‏- "موجز القانون في الطب"، وهو مِن أشهر كتُب ابن النفيس الطبية، رتَّبه على أربعة فنون دون أن يتعرَّض فيه لموضوعات التشريح، وهو - كما يقول حاجي خليفة - كتاب مُعتبَر مفيد، ‏وهو خير ما صُنِّف مِن المُختَصرات والمطوَّلات؛ إذ هو موجز في الصورة، لكنه كامل في الصناعة، ‏منهاج للدراية، حاوٍ للذخائر النفيسة، شامل للقوانين الكلية والفوائد الجزئية.

3- ‏"كتاب المهذَّب في الكحل المجرَّب"، وقد نال هذا الكتاب شهرةً واسِعة.

4- "شرح تَشريح القانون"، ‏وفيه أورَد ابن النفيس اكتشافه للدورة الدموية الصُّغرى، ‏التي كانت مِن الاكتِشافات العالَميَّة في علم الطب، ‏وقد حرص الغرب جدًّا أن ينسبها إلى سرفيتوس تارةً، وإلى كولومبو تارةً، وإلى هارفي تارةً أخرى، عِلمًا أن ما بَين أولهم وهو سرفينوس وبين ابن النفيس نحو ثلاثة قرون من الزمان، ‏كما سيتبيَّن.

‏ولقد هُضِم حق ابن النفيس في هذا الاكتِشاف العالَميِّ سبعة قرون، ‏إلى أن قيَّض الله طبيبًا مصريًّا فطنًا ذكيًّا، ‏هو الدكتور محيي الدِّين التطاوي، فعثر في برلين على مخطوطة من كتاب "شرح تشريح القانون" لابن النفيس، وقد عكف التطاوي على دراسة الجزء الخاص بالقلب في المخطوط، ‏وقدَّم نتيجة دراسته في رسالته للدكتوراه، وكانت بعنوان: الدورة الرئوية بحسب القرشي (Der Lungenkreislauf nach al-koraschi)، وذلك عام: 343‏1هـ / 1924م، وقد أدهشَت هذه النتيجة أساتذته في جامعة فرايبورغ Freiburg، وما كادوا يُصدِّقونه، ولجَهلِهم باللغة العربية، أرسلوا نسخةً من الرسالة إلى الدكتور مايوهوف الطبيب المُستشرِق الألماني الذي كان إذ ذاك يُقيم بالقاهرة، والتمَسوا رأيه فيها، فأقرَّ مايوهوف الدكتور التطاويَّ، وأبلغ الخبر إلى مؤرِّخ العلوم جورح سارطون الذي نشَره في آخِر جزء مِن مؤلَّفه الضخم في تاريخ العلوم، ومنذ ذلك عاد نجم ابن النفيس يَسطع بعد أن خبا سبعة قرون.

‏مَرض ابن النفيس - قبل أن يَأتيه الأجل المحتوم - ستة أيام أولها يوم الأحد، وتوفِّي يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثمانين وستمائة بالقاهرة، وقد ذكَر بعض الثِّقات ممن ترجَم له أن بعض أصحاب ابن النفيس - مِن الأطباء - أشاروا عليه في علته التي توفي فيها بتناول شيء مِن الخمر - وكان صالحًا - لشفائه من علته فيما زعموا، فأبَى أن يتناول شيئًا منه، وقال قولته التي لقي الله عليها: "لا ألقى الله - تعالى - وفي بطني شيء من الخمر".

‏ولقد كان لوفاته أثر بليغ في قلوب مُعاصِريه، وقد ذُكر مع مَن توفِّي مِن أعيان العلم في عهد قلاون، قال الصفدي في "الوافي بالوَفَيات": "أنشدني الصفي أبو الفتح يوحنا بن صليب بن مرجي بن موهوب النصراني لنفسه يرثي علاء الدِّين بن النفيس:
ومُسائلي، هل عالمٌ أو فاضلٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أو ذو محلٍّ في العُلا بعد العَلا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

‏فأجبتُ والنيرانُ تَضرِمُ في الحشا: http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَقصر فَمُذ مات العَلا مات العُلا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




[1] لمؤلفه شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري، كان حجة في معرفة المماليك والمسالك وخطوط الأقاليم والبلدان، إمامًا في الترسل والإنشاء، عارفًا بأخبار رجال عصره وتراجمهم، مولده ومنشؤه ووفاته في دمشق، توفي عام 749 هـ‏/ 1349 ‏م ولم يكمل الخمسين عامًا.

[2] هو عبدالله بن أسعد بن علي اليافعي، من شافعية اليمن، مؤرخ وباحث ومتصوف (ت 768 ‏هـ/ 1377 ‏م).

ابو وليد البحيرى
23-05-2015, 05:39 PM
من مشاهير علماء الطب
د. عبدالله حجازي










عبداللطيف البغدادي (ت: 629هـ / 1231م)






‏عبداللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي، موفَّق الدِّين، ويُعرَف بابن اللباد، وبابن نقطة: عالِم ندر أن يتَّسع صدر رجل ما اتَّسع له صدره مِن ضروب العِلم والأدب؛ فهو طبيب، رياضيٌّ، نحْوي، لُغوي، متكلِّم، محدِّث، مؤرِّخ، حكيم مِن فلاسفة الإسلام، وأحد العلماء المُكثِرين مِن التصنيف في الحِكمة وعِلم النفس والطبِّ والتاريخ والبلدان والأدب، مولده ووفاته ببغداد، يَصفه ابن أبي أُصيبعة، وقد اجتمَع به في دمشق، وكان مُتقدِّمًا بالسنِّ بأنه: شيخ، نحيف الجسم، رَبع القامَة، حسَن الكلام، جيِّد العبارة، وكانت مَسطرته أبلَغ مِن لفظه.





‏وُلد البغدادي ونشأ وترعرَع في بيت عِلم في بغداد، فقد كان والده - كما يَذكر ابن أبي أُصيبِعة - يَشتغِل بعِلم الحديث، بارعًا في علوم القرآن والقراءات، وكان عمُّه فقيهًا مجيدًا، أما هو نفسه فكان لا يَعرِف اللهو واللعب، كثير الاشتِغال بالعِلم، لا يُخلي وقتًا مِن أوقاته مِن النظر في الكتُب والتصنيف والكتابة، تتلمَذ على أهمِّ علماء بغداد آنذاك، وكان أكثر زمانه مصروفًا فى سماع الحديث، فأخذ لنفسه إجازات مِن شيوخ بغداد وخراسان والشام ومصر، وكان يَصرف أكثر الليل في الحفظ والتَّكرار، تفقَّه على الشيخ ابن فضلان[1].





وكان البغداديُّ قويَّ الذاكرة، شديد الذكاء، سريع الحِفظ، جادًّا في حياته، لا يُفوِّت فرصةً إلا في ما يَزيد فى عِلمه أو يقرِّبه من ربه، مِن أقواله: "... ومَن لم يَعرق جبينه إلى أبواب العلماء، لم يَعرق في الفضيلة، ومَن لم يُخجِلوه، لم يُجلَّه الناس، ومَن لم يُبكِّتوه لم يُسوَّد، ومَن لم يَحتمِل ألَمَ التعليم لم يَذق لذَّة العلم، ومَن لم يَكدح لم يُفلح، ‏وإذا خلدت مِن التعليم والتفكُّر، فحرِّك لسانك بذكر الله وبتسابيحه، وخاصة عند النوم، فيتشرَّبه لُبُّك ويتعجَّن في خيالك...، واجعل الموت نصب عينَيك، والعِلم والتقى زادك في الآخِرة".





‏وكان حريصًا على حفظ الكتاب الذي يَقرؤه، حتى إذا فقَده لم يَندم، وقد أشار إلى ذلك في قوله: "... وإذا قرأتَ كتابًا فاحرِص كل الحِرص على أن تَستظهِره وتملك معناه، وتوهَّم أن الكتاب قد عُدم، وأنك مُستغنٍ عنه، لا تحزن لفقده..."، وبناء على ذلك فقد حفظ في سنٍّ مُبكِّرة "المقامات"، و"الفصيح"، و"ديوان المتنبي"، ومختصرًا في الفقه، ومختصرًا في النحو، ولما ترعرَع حفظ ثلاثة كتب لابن قتيبة[2]: كتاب "أدب الكاتب" حفظه حفظًا مُتقَنًا، وكتاب "مُشكل القرآن"، و"غريب القرآن"، كما حفظ كتاب "اللُّمَع"[3]، وكتاب "الإيضاح" و"التكملة" وكلاهما لأبي علي الفارسي أحد الأئمة في عِلم العربية (ت 377هـ / 987م).





‏لقد أمضى البغداديُّ جُلَّ حياته مُرتحِلاً في بلاد المسلمين، فلما اشتدَّ عوده وبلَغ الثامنة والعِشرين مِن عمره، ولم يبقَ في بغداد مَن يأخذ بقلبه ويملأ عينه ويحلُّ ما يشكل عليه، رحل منها إلى الموصِل، وكان فيها كمال بن يونس[4]، واجتمع إلى البغدادي - في الموصل - جماعة كثيرة، وعُرضت عليه مناصِب، فاختار منها مدرسة ابن مُهاجر المعلَّقة ودار الحديث التي تحتها، وأقام بالموصِل في اشتِغال دائم ليلاً ونهارًا، ويَذكر البغداديُّ أن أهل الموصِل زعموا أنهم لم يرَوا مِن أحد قبله ما رأوه منه مِن سعة المحفوظ، وسرعة وسكون الطائر، لكنه ما لَبِث أن غادَر الموصِل إلى دمشق؛ حيث وجد ‏فيها مِن أعيان بغداد والبلاد - ممن جمعهم الإحسان الصلاحي - كثيرًا، اجتمع بهم، وجرى بينه وبين بعضهم مُباحَثات، وكانت دمشق والقاهرة، ‏بل وجميع المدن الإسلامية آنذاك تَزخر بالأطباء ومدارس الطب، وكان للطبيب مكانته الرفيعة لدى الملوك والأمراء والأغنياء والفقراء.





‏وقد تيسَّر للبغدادي ما أراده في دمشق والقاهرة، فكان في دمشق أئمة الطبِّ من أمثال ابن النقاش وابن المطران، ‏ورضيِّ الدِّين الرحبي، وعمران الإسرائيلي، وشيخهم مهذَّب الدِّين الدخوار، ‏وفي القاهرة وجد مِن أمثال القاضي أبي المنصور عبدالله الشيخ السديد، العالِم بصناعة الطبِّ الخبير بأصولها وفروعها، الجيد المعالجة، الكثير الدُّربة، وأبي العشائر هبة الله بن جميع الإسرائيلي، وأبي البيان بن المدوَّر، وأبي البركات بن القُضاعي، وجمال الدِّين بن أبي الحوافِر، وموسى بن ميمون القُرطبي اليَهودي.





‏وقد تميَّز البغدادي في صناعة الطب بدمشق، ‏وعُرف بها، وأما قبل ذلك فقد كانت شهرته بعِلم النحو، وأقام بدمشق مدة، ‏وانتفع الناس به، وقد تتلمذ عليه في دمشق الطبيب رشيد الدِّين علي بن خليفة عمُّ ابن أبي أصيبعة، كما تتلمذ عليه الطبيب الصيدلي المشهور رشيد الدِّين الصوري (تقدَّمت ترجمته في علم الصيدلة) طبيب المَلِك العادل وآبائه، ‏وتتلمَذ عليه أطباء آخَرون مَشهورون، هذا وقد صنَّف خلال إقامته هذه ‏بدمشق كتبًا كثيرة في فنِّ الطب، ثم رغب في زيارة القدس على أمل أن يَلقى صلاح الدين، لكنه لم يحظَ بذلك؛ لأنه كان مشغولاً في محارَبة الفرنج لاستِرداد عكا، فتوجَّه إلى القاهرة، وفي القاهرة أقام بمسجد الحاجب لؤلؤ يُقرئ الناس، اجتمع خلال ذلك بـ: ياسين السيميائي وبموسى بن ميمون اليهودي وبأبي القاسم السارعي.





وشاع إبان ذلك أن صلاح الدِّين هادن الفرنج وعاد إلى القدس، ‏فتوجه البغدادي إليه ‏فرأى - كما يَذكر ابن أبي أصيبعة على لسان البغدادي -: "ملكًا عظيمًا يملأ العين روعة، والقلوب محبة، قريبًا بعيدًا، ‏سهلاً محبَّبًا، ‏وأصحابه يتشبَّهون به، ‏يَتسابَقون إلى المعروف..."، وقد وجد البغدادي في أول ليل حضره هناك مجلسًا حافلاً بأهل العلم، يتذاكَرون في أصناف العُلوم، وصلاح الدِّين يُحسن الاستِماع والمشارَكة، وكان صلاح الدِّين مهتمًّا في بناء سور القدس وحفر خندقِه، يتولَّى ذلك بنفسه، وينقل الحجارة على عاتقه، ويتأسى به جميع الناس، الفقراء والأغنياء، والأقوياء والضعفاء، حتى العماد الكاتب والقاضي الفاضِل.





‏رجَع البغدادي إلى دمشق، وأكبَّ على الاشتِغال بالعِلم، وإقراء الناس بالجامِع، والتأليف، وكان أن دخَل صلاح الدِّين دمشق عام 588هـ / 1192م، وخرَج يودِّع الحاج، ثم رجع فحُمَّ وتوفي في دمشق عام 589هـ / 1192م، حزن البغدادي، وحزن الناس عليه كذلك، يقول البغدادي: "ما رأيت ملكًا حزن الناس بموته سواه؛ لأنه كان محبوبًا يحبُّه البَرُّ والفاجِر، والمسلم والكافر".





‏ما لبثَ البغدادي أن رجع - بعد وفاة صلاح الدين بمدة - مع الملك العزيز بن صلاح الدِّين إلى القاهرة، وأخذ يُقرئ الناس الطبَّ بالجامع الأزهر، وبقي البغدادي في مصر مدة، ألَّف خلالها كتابه: "كتاب الإفادة والاعتِبار في الأمور المشاهَدة والحوادث المعايَنة بمصر"، ذكر فيه أشياء شاهَدها أو سمعها أو عايَنها، تذهل العقل، فتكلَّم عن المجاعة التي حلَّت بمصر سنة 595هـ / 1198م وما بعدها، اضطرَّ بعض الناس خلالها أن يَأكلوا لحوم البشر فضلاً عن الموتان.





‏ثم رحَل البغدادي إلى القدس وأقام بها مدة، وكان يتردَّد إلى الجامع الأقصى، ويَشتغِل الناس عليه بكثير من العلوم، وصنَّف هنالك كتبًا كثيرة، ثم إنه توجَّه إلى دمشق ونزل بالمدرسة العزيزية بها، وذلك عام 604 ‏هـ / 1207م، وشرَع في التدريس والاشتغال، وكان يأتيه خَلق كثير يَشتغِلون عليه بأصناف مِن العلوم، ثم إنه سافر إلى حلب، وقصد بلاد الروم، وأقام بها سنين كثيرة، صنَّف هناك عدة كتُب باسم الملك علاء الدِّين داود بن بهرام صاحب أرزنجان (وهي مِن بلاد أرمينيَّة).





‏ولقد تنقَّل أثناء إقامته في بلاد أرمينيَّة وبلاد الروم ما بين أرزنجان وأرزن الروم (مدينة أرمينية مشهورة)، وكماخ ويركي وملطية (من مدن الأناضول على الفرات)، ثم عاد عام 626 ‏هـ / 1229م إلى حلب، وأقام فيها ثلاث سنوات يؤلِّف ويدرس ويَتعاطى مهنة الطبِّ، وهو مُنتحِل لتدريس صناعة الطب وغيرها، وقد عزم أن يأتي إلى دمشق ويُقيم بها، ثم خطَر له قبل ذلك أن يحجَّ، وجعل طريقه على بغداد، ولما وصل بغداد مَرِض فيها، وتوفِّي - رحمه الله - يوم الأحد 12 محرم 929 ‏هـ / 1231م، وذلك بعد أن خرَج مِن بغداد وبقي غائبًا عنها خمسًا وأربعين سنة، ثم إن الله -تعالى- ساقَه إليها، وقضى منيَّته بها.





‏ولِموفَّق الدِّين عبداللطيف البغدادي كتُب كثيرة، ذكَر ابن أبي أصيبعة أنها بلغت نحو سبعين كتابًا ومائة مقالة في أصول الدِّين واللغة والفلسفة والتاريخ والطبِّ والحيوان والنبات.





‏غير أن مؤلَّفاته - ويا للأسف - قد فُقد معظمها ولم يبقَ منها إلا النَّزر اليسير، لا يَزال معظمها مخطوطًا وموزَّعًا في المكتبات هنا وهناك، ولقد أحصى الدكتور عبدالكريم شحادة[5] المؤلَّفات الطبية التي رواها ابن أبي أصيبعة فوجدها 56 ‏مقالاً وكتابًا ومختَصرًا، وهي إما مختصرات أو شروح لكتُب الأقدَمين، أمثال: أرسطو وجالينوس وديسقوريديس، ‏أو لمَن تقدَّمه مِن العلماء؛ كالإسرائيلي وابن وافد وابن سمجون، أو رُدود وتعقيبات وحلُّ شكوك، وكشْف شُبَه لبعض العُلماء على مؤلَّفات اليُونان الأقدمين، أو كتُب ومقالات طبية انفرَد بها البغدادي وتميَّز بها عن غيره، تبحث في الحواس والتنفُّس والصوت[6] والكلام والماء والغذاء والدواء وموازين الأدوية ومعاييرها مِن جهة الكميات والكيفيات.





‏وعلى الرغم مِن ضياع الجزء الأعظم مِن مؤلَّفات البغدادي، ‏وأن ما وصَل إلينا يعدُّ مُتواضِعًا جدًّا بالنسبة لما خلَّفه البغدادي مِن ا‏لتراث الطبي الضخْم، كما ورَد عند ابن أبي أُصيبعة؛ فإن المعلومات الطبية التي وصلت إلينا عن هذا الطبيب العالِم الفذِّ، ‏تعدُّ ذات أهمية كبيرة، فقد ورَد في كتابه: "الإفادة والاعتبار..."، وهو كتاب تاريخ ومُشاهَدات ليس إلا، ‏ما يُفيد أن البغدادي كان الطبيب الحاذق الماهر والمجرِّب الناجِع والمُلاحِظ المدقِّق، الذي لا يؤمن إلا بما يتحقَّق عنده بالمشاهَدة أو التجربة، مِن ذلك قوله:


‏"... فأُخبرنا - يعني نفسه وطلابه - أن بالمقس تلاًّ فيه رِمَم كثيرة، ‏فخرجنا إليه، ‏فرأينا تلاًّ مِن رِمَم له مسافة طويلة يَكاد يكون ترابه أقل من الموتى به، ‏ نحدس ما يَظهر منهم للعيان بعشرين ألفًا فصاعدًا، وهم على طبقات مِن قرْب العهد وبعده، فشاهَدنا مِن شكل العظام ومفاصلها وكيفية اتِّصالها وتناسُبها وأوضاعها ما أفادَنا عِلمًا لا نَستفيده مِن الكتُب، إما لأنها سكتَت عنه، ‏أو لا يَفي لفظُها بالدَّلالة عليه، ‏أو يَكون ما شاهَدناه مُخالِفًا لما قيل فيها، والحس أقوى دليلاً مِن السمع، ‏فإن جالينوس، ‏وإن كان في الدرَجة العُليا مِن التحرِّي والتحفُّظ فيما يُباشِره ويَحكيه، فإن الحسَّ أصدَق منه.





‏فمِن ذلك عِظَم الفك الأسفل، ‏فإن الكل قد أطبَقوا على أنه عظمان بمَفصِل وثيق عند الحنك، وقولُنا: الكل، ‏إنما نَعني به ها هنا جالينوس وحده، فإنه هو الذي باشَر التشريح، ‏وجعله دأبه ونصب عينَيه، ‏وصنَّف فيه عدة كتُب، ‏معظمها موجود لدَينا، والباقي لم يَخرج إلى لسان العرب.





‏والذي شاهَدناه مِن حال هذا العضو أنه عظم واحد ليس فيه مَفصِل ولا درز أصلاً، واعتبرناه ما شاء الله مِن المرات في أشخاص كثيرين، تَزيد على ألفَي جمجمة، بأصناف مِن الاعتِبارات، ‏فلم نجده إلا عظمًا واحدًا مِن كل وجه، ‏ثم إننا استعنَّا بجماعة مُتفرِّقة اعتبروه - بحضرتنا وغيبتنا - فلم يَزيدوا عل ما شاهدناه منه وحكيناه، وكذلك في أشياء أخرى غير هذه، ثم إن اعتَبرت هذا العظم أيضًا بمدافن بوصير القديمة ‏المقدَّم ذِكرها، ‏فوجدته على ما حكيتُ، ‏ليس فيه مفصل ولا درز، ومِن شأن الدروز الخفية والمَفاصل الوثيقة أنها إذا تقادَم عليها الزمان تظهَر وتتفرَّق، وهذا الفك الأسفل لا يوجد في جميع أحواله إلا قطعة واحدة".





‏ويحلِّق البغدادي في وصفه العلامات السريرية الدالة على الداء السُّكري، عِلمًا أنه لم تتوافَر في زمانه ما يتوافَر اليوم مِن معلومات كيميائية وحيويَّة ووظيفية، فقد أشار في رسالته: "الديابيطس والأدوية النافعة منه" إلى أن أول علاماته استِرسال البول - أي: كثرة التبوُّل - تُرافِقها علامة ثانية العطش الشديد الذي لا يَرويه الماء، نتيجةً لكثرة التبوُّل وطرح الماء، فالماء في هذه العلَّة يَخرج ويَنفذ مِن الكلية كما يَرِد إليها دون أن يُفيد الجسم منه شيئًا، ‏"ولذلك تسمى هذه العِلَّة ديابيطا، ومعناها: عبارة الماء.





‏وقد انتقَد البغدادي في مَعرِض كلامه عن الداء السكري ابن سينا في المعالَجة؛ حيث يقول: "إنه ليس مِن أرباب التجارب، ولا يوثَق به في ذلك، وأما قياسه فساذج، والقياس الساذج في صناعة الطب مَطروح، وهو موقوف على التجربة، فإن صحَّحته وصدقته قُبل، ‏وإلا رُدَّ واطُّرح"[7].





المصدر: لمحات في تاريخ العلوم الكونية عند المسلمين






[1] هو يحيى بن علي بن الفضل بن هبة الله بن بركة (ت 595هـ/ 1199م) من فقهاء الشافعية، قال عنه ابن كثير: ساد أهل بغداد، وانتفع به الطلبة والفقهاء.




[2] هو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، من أئمة الأدب، ومن المصنفين المكثرين، ولد وتوفي في بغداد سنة 276 هـ/ 988 ‏م، من كتبه المشهورة أيضًا: كتابه: النبات، وكتاب عيون الأخبار.




[3] كتاب في النحو، ألفه عثمان بن جني الموصلي، من أئمة الأدب والنحو (ت 392 ‏هـ/1002 ‏م).




[4] موسى بن محمد بن منعة بن مالك العقيلي، كمال الدين، أبو الفتح الموصلي: فيلسوف، علامة بالرياضيات والحكمة والأصول، عارف بالموسيقى والأدب والسير (ت 639 ‏هـ/1242 ‏م)، كان جيدًا في الرياضيات والفقه، متطرفًا من باقي أجزاء الحكمة، قد استغرق عقله ووقته حب الكيمياء وعملها حتى صار يستخف بكل ما عداها.




[5] ورد ذلك في مقالته: أضواء على الطبيب العربي، والعالم الموسوعي: عبداللطيف البغدادي في أبحاث الندوة العالمية الأولى لتاريخ العلوم عند العرب، المنعقدة بجامعة حلب من 12 - 5 ربيع الثاني 1396 ‏هـ الموافق لـ 5 ‏- 12 ‏نيسان (إبريل) 1976م.




[6] فهو يقول بصدد حاسة السمع قولاً لا يختلف عما نقوله اليوم من أن الصوت الحادث عند مصادمة الأجسام التابعة لحركاتها، إنما هو أثر حادث في الهواء ... وهذا الأثر الحادث في الهواء المسمى عند إدراكه صوتًا، إنما هو دوائر أو قطع دوائر (أو بتعبيرنا اليوم إنما هو موجات)؛ انظر "مقالتان في الحواس ومسائل طبيعية".




[7] مقالتان في الحواس ومسائل طبيعية، دراسة وتحقيق: بول غليونجي وسعيد عبده، مطبعة حكومة الكويت، 1392هـ/1972م.

ابو وليد البحيرى
23-05-2015, 05:40 PM
من مشاهير علماء الطب
د. عبدالله حجازي










الزهراوي‏ (ت: 427هـ / 1036م)





‏خلَف بن عباسٍ الزهراويُّ الأندلسي أبو القاسم: طبيب مِن العلماء، ولد في الزهراء (قرطبة) وإليها نسبته، جاء في دائرة المعارف البريطانية أنه أشهر مَن ألَّف في الجراحة عند العرب، وأول مَن استعمَل ربط الشِّريان لمنْع النزيف، كانت الطرائق الجراحيَّة التي ابتكرها أبو القاسم ثروة كبيرة لكل الجراحِين، مِن ابتكاراته طريقة استِئصال الحصى مِن المثانة أو الإحليل، وخزع الرغامى العرضاني، والبَتر، وسِوى ذلك مِن العمليات، التي لم يكن يقوم بها سواه في عصره، وهو أول مَن أشار - حين إجراء عمليات على البطن -‏ بضرورة وضع المريض مُنخفِض الرأس والجذع، ‏ومرفوع الطرفين السفليين، وهي الوضعية نفسُها التي نصَح بها ترندلنبورع Trendlenburg ‏(ت1343هـ / 1924م)، ودُعيتْ باسمه زورًا، مع أن أبا القاسم أشار إليها قبله بقرون عديدة، وكان الأجدر والأعدل أن تسمَّى بوضعية أبي القاسم، يقول سبرنجل: "إن الزهراويَّ كان أول مَن وصف طريقة إجراء عملية استِئصال حصاة المثانة في النساء عن طريق المِهبَل، وهو أول مَن أشار باستئصال عظْم الرضفة حين انكِساره، إذا كان الكسر مفتَّتًا، أو في حالات خَلع هذا العظم، وهو ما يُجريه الجراحون في يومِنا الحاضر"، من أقواله: "إن التشريح هو القاعدة الأساسية لمعرفة الجراحة، وإن الجهل به مع ممارسة الجراحَة، يؤدِّي إلى عواقب وخيمة".





وكان ينبِّه تلاميذه إلى مواضع الخطر وما يجب اتخاذه مِن تدابير، يقول الطبيب الباحث بورتل: "إن مَن يقرأ كتاب التصريف يَجزِم بأن الزهراوي قد مارَس تشريح الجُثَث بنفسِه؛ ذلك لأن وصفه الدقيق لإجراء العمليات المختلفة لا يمكن أن يكون نتيجة النظريات فقط".





‏هذا، وقد خصَّص أبو القاسم المقالة الحادية والعِشرين مِن كتابه: التصريف، خصَّصها لأمراض الأسنان، ونصَح بمعالجة آفاتها معالَجةً دوائيةً أولاً، حتى إذا أخفقَت المعالَجة، يَعمِد إلى الجراحة أو القلع أو غيره، علاوة على ما سبق فقد كان أبو القاسم عالمًا بالتوليد وأمراض النساء، وأمراض العين والأذن والأنف والحنجَرة، وأمراض المسالك البولية والتناسُلية، وطبِّ الفم والأسنان، ومِن الثابت أنه استأصل اللوزتَين، وقد يكون هو أول مَن قام بذلك، وهو أول مَن وصَف مرض الناعور (الاستِعداد النزفي أو الهيموفيليا)، هذا المرض الوراثيُّ الخطير الذي يتجلى بنزوف شديدة، مِن أماكن عديدة في البدن، صعبة الإرقاء (قطع النزف)، ويَنطبِق وصفه لهذا المرض في كثير مِن الأعراض على ما يَصفه به اليوم أطباء الأمراض.





‏مِن آلاته التي استخدمها: المباضِع، والمشارِط، والمحاقِن، والقناطير، والمكاوي، والصنانير التي تُستعمَل لاستِخراج الناميات والمرجلات مِن الحَلق أو الأنف، ومنها المثاقِب؛ لسبر الجُمجمة، ومنها جبائر الكسور، والكُلابات، ومثاقِب العظم، والمساعِط (جمع مُسعُط، ما يجعل فيه، ويصبُّ منه في الأنف)، والمكاشِط؛ لرفع السبل مِن العين، والتي منها الغليظة لتجويف الأسنان، والمقصات، وآلات قلع الأسنان واستِئصال جذورها، وآلات قلع اللوزتين، واستِخراج الأكياس الثي تَحدُث تحت اللسان، ومِنظار الأنف، وغير ذلك مِن الآلات والأدوات، وقد استعمل المبزل (المصفاة أو الآلة التي يشق بها) لاستِخراج الحبن (ماء البطن)، والحاقنة التي تَغسل الأوساخ المتراكِمة في الأذن.





‏وقد ترجم العالم لوكلرك الجزء الجراحيَّ إلى اللغة الفرنسية، وطُبع في باريس عام: 1278هـ / 1861م باسم: "جراحة أبي القاسم"، وتذهب هونكه وهِلَر إلى أن أبا القاسم استعمَل ربط الشرايين الكبيرة في إيقاف نزْف الدم، وذلك قبل أمبرواز باري - Ambroise pare الفرنسي بنحو ستة قرون، وقد اعتبر باري أنه حقَّق عام 960هـ / 1552م هذا النجاح على غير مثال، أما بورتل فيذهب إلى أن الزهراوي هو أول مَن استعمل السنانير في استِئصال العنبية (البوليب polype)، وهو أول مَن نجح في عملية شق القصبة الهوائية على خادِمه، كما عمل على تفتيت حصى المثانة في المثانة.





‏ولقد عالَج الزهراويُّ التِهاب المفاصل والتدرُّن الفقري قبل برسيفال بت الإنكليزيPercival pott (ت 1203هـ / 1788م) بسبعمائة عام، ومما يؤسف له أنه أهمل الزهراويَّ، وكأنه لم يحصل، وسُمِّي هذا المرض باسم بوت.





فضلاً عن ذلك فقد شرَح الزهراوي الوضع الأمثل في الولادة ووصَفه وصفًا دقيقًا، وهو الوضع الذي سُمِّي باسم طبيب أمراض النساء والولادة الألماني فالخر walcher (ت1354هـ / 1935م).





‏ومما تَجدُر الإشارة إليه أن ابن حزم (ت 456هـ / 1064م) يُشيد في رسالته الشهيرة بفضل الأندلس ورجالها، في مَعرِض تَعداد مؤلفات الأندلسيِّين في الطب، يُشيد بكتاب الزهراوي؛ حيث يقول: "وكتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي، وقد أدركناه وشاهَدناه، ولئن قلنا: إنه لم يؤلَّف في الطبِّ أجمع منه، ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنَصْدُقنَّ".





‏وذكر أبو عبدالله محمد بن فتوح الحميدي (ت488هـ/ 1095م) في كتابه: "جذوة المقتبس" معلومات عن الزهراوي تُفيد أنه كان مِن أهل الفضل والدِّين والعِلم، وبعلمه الذي سبق فيه علم الطب، وله فيه كتاب مشهور، محذوف الفضول، سماه كتاب: "التصريف لمن عجز عن التأليف".





وفي أوروبا استَفادت أجيال مُتعاقِبة من الأطباء والصيادلة والجراحين مِن كتاب التعريف في ترجماته اللاتينية، فالجراح الفرنسي غي دي شو لياك (Guy de chauliac) (ت: 771هـ / 1369م) اقتبَس منه ومِن غيره مِن مؤلَّفات الأطباء المسلمين معلومات كثيرة، وذلك في كتابه: "الجراحة الكبرى" Chi_Rurgia Magana، كما نقَل عنه فيراري الإيطالي المسمى ماثيودي جراديبوس Mathieu de Gradibus، ويَذكر لوكليرك أن أبا القاسم الزهراوي يُعدُّ أكثر المراجِع ذكرًا عند ‏الجراحين في العمر الوسيط، وأنه احتلَّ في معاهد في فرنسا مكانةً بين أبقراط وجالينوس، فأصبح مِن أركان هذا الثالوث العِلمي، وأنه كان جراحًا عظيمًا، وأنه كثيرًا ما يأتي بمُلاحظاث مستمَدَّة مِن خبرته الخاصة... لهذا يَبقى الزهراوي في تاريخ الطب الرمز الأول المعبِّر عن الجراحة بوصفها عِلمًا متميزًا وقائمًا على معرفة التشريح، وأما آلات الجراحة التي رسَم صورها في كتابه، فهي تجديد حميد يَجعل ذِكراه باقيَة لا تَفنى، وهو تجديدٌ ما لَبِث أن ظهرَت ثمراته في مؤلَّفات مَن جاء بعده، ومِن ابتِكارات الزهراويِّ وإبداعه أنه كان أول مَن وصَف بالتفصيل خياطة جروح الأمعاء باستِخدام خيوط مَصنوعة مِن أمعاء الحيوان، وهو أول مَن أجرى جراحة على الغدة الدرقيَّة، وأول جراح أجرى عملية غسيلٍ للمَثانة بوساطة جهازٍ اخترَعه، وهو المحقن، وهو أول مَن وصَف عمليةً لتَفتيت الحصاة مستخدمًا آلة أطلَق عليها اسم الكلاليب (clamps)، وهو أول مَن اخترع جهازًا لاستِئصال اللوزتَين.





‏ويَجدُر بنا ونحن بصدد الزهراوي، أن نؤكِّد مرة أخرى أن المسلمين هم الذين وضعوا أساس المنهج التجريبي، وهم الذين عملوا بمقتضاه، بل كان ذلك ديدنهم في أعمالهم وابتكاراتهم، وتصدَّر مقدِّمات مؤلفاتهم، لهذا فليس عجيبًا أن يُشير الزهراويُّ في كتابه الآنِف الذكر، مؤكدًا دور التجربة والدليل، وأنه وضَع فيه - علاوة على ما جمَع فيه من فنون الأغذية والأدوية والأشربة - "كلَّ ما جرَّبتُه وامتحنتُه طول عمري منذ خمسين سنة".





المصدر: لمحات في تاريخ العلوم الكونية عند المسلمين