ابو وليد البحيرى
24-05-2015, 12:59 AM
ديوان ابن نباتة في الميزان
مرشد الحيالي
لا أعلم ديوانًا للخُطب شغل اهتِمام الخطباء والوعَّاظ، وعلى مدى قرونٍ عدَّة، وانتشر في بلاد الإسلام؛ كالشَّام والعِراق ومصْر - مثلَ ديوان الخطب لابن نباتة، وعلى الرَّغم ممَّا حواه من مُخالفات وأخطاء عديدة، فلم أر كتابًا تصدَّى لبيان أخطائِه، اللَّهُمَّ إلاَّ كلمات يسيرة لا تفي بالغرَض المطلوب، وممَّا يلْفِت النَّظر اقتِناء أغلب الخُطباء لهذا الدّيوان واهتِمامهم به، حتَّى غدا وكأنَّه صحيح البخاري، على أنَّ الكتاب - ومن باب الإنصاف - قد حوى بعض الفوائد المتعلِّقة ببلاغة ألفاظه، وحُسْن بيانه، وقوَّة مواعظِه، وبراعة استِهْلاله، وهو ممَّا جذَبَ بعْض الخُطباء إلى الاهتِمام به في أيَّام الجُمَع والمناسبات، وهو ما دَعاني إلى تسْطير كلِماتٍ موجزة لبيان قيمة الكِتاب العلميَّة، ومن منظور الكتاب والسنَّة، وبالله التَّوفيق.
من هو المؤلّف؟
هو الشَّيخ أبو يحيى عبدالرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نُباتة الفارقي (335 - 374هـ)، قال عنْه الذهبي - رحمه الله -: "وكان فصيحا مفوَّهًا، بديع المعاني، جزْل العبارة، رُزِق سعادةً تامَّة في خطبه"، وقال غيره: "صاحب الخطب المنبريَّة...وأجْمعوا على أنَّ خُطَبَه لَم يُعْمَل مثلُها في موضوعها...، وكان سيف الدَّولة - الحمداني - كثيرَ الغزَوات، فأكثر سيف الدَّولة من خُطَب الجهاد...، له ديوان خطب"[1].
والكلام عن شخصيَّة ابن نباتة يجرُّنا بلا شكٍّ إلى العصر الَّذي عاش فيه؛ وهو القرن الرَّابع الهجري، والبيئة التي تربَّى فيها ونشأ بها، وما رافق عصرَه من تطوُّرات وأحداث كان لها الأثَر على توجُّهه العِلْمي والثَّقافي، ممَّا يُعْطينا صورة متكامِلة وواضِحة عن الظُّروف الَّتي كتب فيها ديوانَه الَّذي جمع فيه الخُطَب المنبريَّة، وبالله التوفيق.
الخطب في القرْن الرَّابع الهجري:
شهِدت الفترة التي عاشَها ابنُ نباتة صراعاتٍ داخليَّة، وتفكُّكًا في الولايات الإسلاميَّة، وتعرَّضت حدودُ الإسلام لهجمات شرِسة من قِبَل الرّوم، ثمَّ ظهور حركات منحرِفة كالقرامِطة وغيرهم، ورغْم أنَّ العصر عصر النضوج الحضاري في العلوم كافَّة، إلاَّ أنَّ الصراع بين الوُزراء - أغلبهم من العجَم - أثَّر على الحركة العِلْميَّة بشكل عام، وعلى الخطابة بشكْلٍ خاص، فقد أصبحت الحركة العلميَّة من خطابة وشعر وتأليف - في بعض الأحْيان - مطيَّة لرغباتِهم ونزواتهم، ممَّا أثر على جانب الإبداع فيها، ولقد كانت عمليَّة الخطابة في صدْر الإسلام والقرون التي تلَتْه إلى القرن الرَّابع مزدهرةً ومطْلقة عن القيود، تُعالج بمواضيعها وأسلوبِها مُعظم القضايا التي تهمّ المجتمع، فقد مهَّد الإسلامُ السَّبيل لها، ورفع عنْها القيود، إلاَّ أنَّها خفَتَ نُورها، وفقدت مكانتَها بسبب ما أصاب الفتح الإسلامي من الركود من جهة، ومن جهةٍ أُخرى بسبب أمراء الدَّولة العباسيَّة - كما أشرنا سابقًا - الَّذين لم يعْطوا الخطابة الحرّيَّة والمكانة التي كانت تتمتَّع بها، وأصبحتْ حبيسة المساجد.
و"إذا تتبَّعْتَ تاريخ الإسلام بعد القرون المشهود لها بالخير، تَجِدُ الخُطب الدينيَّة في كل دولة قد تَراجَعَتْ إلى الوراء، حتَّى صارتْ إلى ما هي عليْهِ الآن من التأخُّر والانْحِطاط، فإنَّها لَمَّا كانت بيد الملوك كان أكبر همِّهم حث النَّاس على السَّمع والطَّاعة لهم، والاستِنهاض إلى مُحاربة الأعداء بحقٍّ أو بغير حقّ، وقلَّ مَنْ ينظُر منهم في أحْوال النَّاس وأمراضهم النَّفسيَّة، فيعِظهم من ناحيتها"[2].
ومن الأسباب الثَّانويَّة الأخرى:
1- انحسار الخطب في دواوين - خُطَب منبريَّة جاهزة - بعد أن كانت قائمةً على الارتِجال والبديهة، والفن العربي الَّذي كان يتمتَّع به من أسلوب بياني رائق، وبيان لأصول العقيدة وقواعد الدّين.
2- انتِشار العجمة، وطغيانها على اللّسان العربي؛ بدليل أنَّ أغلب القوَّاد والجنود من الأعاجم الَّذين لا يفقهون اللّسان البلاغي، فلم يعودوا يتأثَّرون بالخطب الحماسيَّة والحربيَّة، ممَّا كان له الأثر في انحِراف أسلوب الخطابة عن مسارها الصَّحيح في أغلب الأحيان، يقول ابن القيّم - رحمه الله - متحسِّرًا وهو يصف حال الخطابة وما كانتْ عليه من ازدِهار في عهد الرَّسول المعظم، ثمَّ ما آلتْ إليْه من ضعفٍ في العصْر العبَّاسي والمماليك بعده، واقتِصارها على نمط معيَّن من الخُطَب، فيقول - رحمه الله -: "ثمَّ طال العهد، وخفي نور النبوَّة، وصارت الشَّرائع والأوامر رسومًا تُقام من غير مراعاة حقائقِها ومقاصدها، فأعطَوْها صورها، وزيَّنوها بما زيَّنوها به، فجعلوا الرّسوم والأوْضاع سننًا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلُّوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصَّعوا الخطب بالتَّسجيع والفِقَر وعلم البديع، فنقص بل عَدِم حظّ القلوب منها، وفات المقصود بها"[3].
فقد حدَّد ابن القيّم - وهو الخبير اللَّبيب في مجال الوعْظ والإرشاد - أهمَّ الأسباب التي أدَّت بالخطابة إلى الضعف، ومنها:
أصبح الاهتمام بالشَّكل؛ من ترْصيع، وسجعٍ، وعبارات محفوظة في إطار قوالب ثابتة، لا تحرّك شعورًا، ولا تلهب حماسًا، واقتصار غالبها على التَّذكير بالموت والبِلَى، وإهْمال التَّذْكير بقواعد الدّين وأصوله؛ مثل التَّوحيد والاتّباع، كما أشار ابن القيّم في غير هذا الموضع.
بدلاً من أن تصبح عمليَّة الخطابة تقوم بمعالجة الأحْداث والمستجدَّات، أصبحت رسومًا وأوضاعًا بيد السُّلْطة للمدْح والثناء؛ لأنَّ السلطة لا ترضى بالنَّقد والتَّوجيه.
وعلى الرَّغم ممَّا أصاب الخطابة من ضعفٍ، إلاَّ أنَّها انتعشتْ في بعض الأحوال والبلاد، خاصَّة ما يتعلَّق بخطب الحرْب والحثِّ على الجهاد، وخاصَّة في الأحوال التي يتوحَّد فيها المسلمون، ويشْعرون بأنَّ كيان دولتِهم يَتَعرَّض للخطر، ومِن أمثلة ذلك ما تعرَّض له المسلمون من هجْمة شرِسة، تلك الَّتي شنَّها الرُّوم على مقدسات المسلمين؛ كالمسجد الأقصى، فكان هذا كفيلاً بأن يرجع للخطابة هيْبَتها بعض الشيء، ويعيد لها مكانتها المرموقة، وحافزًا للمُسْلمين على الجهاد والتضحية في سبيل الله، وكان القادة والعظماء هم من يوجِّه الجيش والجمهور، ويُلْهِبون فيهم الحماس والتَّضحية، فصدرت نوادر من الخطب المنبريَّة من بعض القادة، أعطت للمسْلِمين دافعًا قويًّا في الاستماتة في سبيل الله، وكان لها صدًى واسعٌ في العالم الإسلامي، فتنقَّلتها وسائل الإعلام - الرَّسائل والمؤلَّفات والتَّراجم - وذكَّرت أهل الإسلام جميعًا بعزِّهم ومجدهم، ومن أبرز تلك الخطب تلك الخُطبة التي أُلْقيت عند فتح صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وتطْهيره من رجس الأوثان والصلبان، وقد أورد الإمام أبو شامة المقدسي نصَّ الخطبة كاملة في كتابه "كتاب الروضتين في أخبار الدولتين"، وكان القاضي محيي الدين بن الزكي هو الخطيب في ذلك اليوم الأغرّ، فخطب في الناس خطبة عظيمة سنيَّة، فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف بيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والتَّرغيبات، وما فيه من الدَّلائل والإمارات، وما منَّ الله به على الحاضرين من هذه النعمة التي تعْدلُ الكثير من القُربات.
فكان أوَّل ما قالَ حين تكلمَّ: (فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الأنعام: 45]، ثمَّ أورد تحميدات القرآن كلهَّا، ثمَّ قال: "الحمد لله... وُمذِلّ الشِّرك بقهْره، ومصِّرف الأمور بأمرِه، ومُديم النعَم بشُكره، ومستدرِج الكافرين بمكرِه، الَّذي قدَّر الأيَّام دولاً بعدْلِه، وجعل العاقبة للمتَّقين بفضْله، وأفاء على عباده من ظلِّه، وأظهر دينَه على الدِّين كلِّه، القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والظَّاهر على خليقته فلا يُنازَع، والآمر بما يشاء فلا يُراجَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، أحْمده على إظْفاره وإظْهاره، وإعزازه لأوليائِه، ونصْره لأنصارِه، وتطْهيره بيتَه المقدس من أدناس الشِّرك، وأوضاره، حمْدَ مَن استشعر الحمد باطن سرّه، وظاهر جهاره"[4].
فيا لَها من براعة استِهلال، ومنطق وجمال، أفرحتِ القلوبَ اليائسة، وشرحت النفوس البائِسة، فالحمد لله ربِّ العالمين.
بعد هذه الجولة السَّريعة، وبيان موقع الخطابة في القرْن الرَّابع، وما صاحبَ ذلك من أحْداث وظروف، نضعُ ديوان ابنِ نباتة على المحكّ، ونُورد من باب العدْل والإنصاف ما لَه وما عليه من مآخذ وأخطاء؛ ليكون الخطيب والواعظ على بيِّنة من أمره، وبصيرة في دينِه، وبالله التَّوفيق.
فمن الميزات والفوائد الَّتي حواها ديوان ابن نباتة - رحمه الله - ما يلي:
الأسلوب البلاغي والبياني الَّذي تضمَّنتْه الخطب؛ من براعةِ الاستِهلال في مقدّماتها، وحُسن البيان في بدايتِها، وبما يناسب موضوع الخطبة، واللّغة المتينة، والتَّضمين من آيات القرآن وأحاديث الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -.
فمِن براعة الاستِهلال قولُه في خُطبة ربيع الثاني: "الحمد لله الَّذي أنعم عليْنا بالإسلام والإيمان، ربِّ العالمين ربَّانا بنعمتِه ألوان، الرَّحمن الرَّحيم بعباده في القبور بالرَّوح والرَّيحان، مالك يوم الدين يَحكم على عباده بالعدْل والإحْسان، إيَّاك نعبد؛ أي: نخصّك بالعبادة في كلِّ وقت وأوان، وإيَّاك نستعين على الأعداء والنَّفس والشَّيطان، اهدِنا الصِّراط المستقيم بالاستِقامة على الإيمان، صراط الَّذين أنعمْتَ عليْهم من أهل الهداية إلى طريق الجِنان، غير المغضوب عليْهم ولا الضَّالّين أهل الكفر والطُّغيان، آمين إجابة للدّعاء وشكرًا للملِك الدَّيَّان"[5].
ومن التَّضْمين قوله: "أيْن الأُمَم الماضية؟ أين آباؤكم الأقْدمون؟ قد صاروا في التّراب، وهم الآن ذائبون متقطِّعون، أما سمِعْتُم قوله - تعالى -في كتابه المكنون: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 30، 31]، واتَّقوا الله حقَّ تقْواه لعلَّكم تُرْحَمون"[6].
وكذلك قوله: "أيُّها الفتى، كُن عبدَ الله لا تعبُدِ الدّينار، وأيُّها الشَّيخ، لا تحرق شيبَك بالنَّار، وأيُّها القاضي، إيَّاك والقضاء بِما يُغْضِب الجبَّار، فتفضح نفسَك في يوم تشْخص فيه الأبصار"[7].
وقد استعمل هذا الضَّرب من فنون البلاغة كثيرًا، ورصَّع به مواضع من خطبه ومواعظه.
تضمنها الأساليب اللّغويَّة، والأدبيَّة الواضحة السَّهلة، والابتعاد عن الألفاظ المعقَّدة والمبْهمة الَّتي يغيب فهْمُها على الكثيرين، ممَّا ساعد الكثير من الخُطَباء والوعَّاظ على الاستِعانة بها في خُطَبِهم ومواعظهم؛ لكونِه سهل المنال سريع الفهْم والاستِيعاب.
ربط الموضوع بالأحداث والمناسبات، إضافة لمعالجتِه مواضيع تُفيد النَّاس في دينِهم ودنياهم وقريبة إلى أذهانهم.
سلوكه طريق الوعْظ في الخطابة بدلاً من الأسلوب العِلْمي الخاصّ بطبقة معيَّنة من النَّاس، وبأسلوب جذَّاب بعيد عن التَّعْقيد والغموض، وهو يُشبه إلى حدّ ما أسلوب الذَّهبي في كتابه "الكبائر"، ومن ذلك قوله في موعظة بليغة: "أيُّها النَّاس، ظهرتْ أمارات السَّاعة، فلا تَخفى على بصير، وكثُر منكم التَّفريط فنسيتم المآب والمصير، وأسأتُم الأدب بين يدَي الله وهو النَّاقد البصير، وعكفْتُم على المعاصي وتعرَّضتُم لأسباب التَّكفير، واستصْغرتُم ذنوبَكم كأنَّها ذباب يسقط على الأنف ويطير، وشكوتُم الزَّمان وإنَّه ليشتكي منكم ويستجير، الليل والنهار لا يتغيَّران ولكنَّكم أهل التَّغْيير، فكم من قواعدَ غيَّرتُموها من قواعد الدِّين الظَّهير، وكَم من حرمةٍ انتهكْتُموها من حرمات الشَّرع وقلَّ منكم النَّكير! وكم حقرتم من عظيم وعظَّمتم من حقير! وصار كبيرُكم لا يوقِّر الكبير، ولا كبيركم يَرحم الصَّغير، فما أصابَكم من مصيبة بِما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فلا بدَّ لهذا الأمر من أخير، فاتَّقوا الله حقَّ التَّقوى تنجوا من عذاب السَّعير"[8].
أمَّا المآخذ على ديوان ابن نباتة - غير ما أشرنا إليه في بداية البحث؛ من كونِها أصبحتْ عاجزة عن مُعالجة قضايا العصْر، وانحسارها في قوالب ثابتة تهتمُّ بالشَّكل أكثر من المضمون؛ فمنها:
الاستشهاد بالأحاديث الضَّعيفة الواهية، بل والموضوعة، ولا يَخفى على بصيرٍ ما للأحاديث الموْضوعة والضَّعيفة من الآثار السيّئة على الفرْد والأمَّة، ومن الأحاديث الموضوعة والضَّعيفة الَّتي حواها الديوان حديث وفاة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وفيه:
"لمَّا قرب رحيلُه ودنت منه الوفاة، نزل عليه ملَك الموت فقرع بابه وناداه، فقال: مَن بالباب يا فاطمة؟ قالت: زائرٌ يا أبتاه، فقال: هل تعرفينه؟ قالت: لا والله، فقال: هذا هاذم اللذَّات، فافتحي فلا حوْلَ ولا قوَّة إلاَّ بالله، ففتحت الباب فسمعت صوتَه ولا تراه، يقول: السَّلام عليْكُم يا أهْل بيت النبوَّة والرّسالة والجاه، فقال: وعليْك السَّلام، أجِئْتَني زائرًا أم قابضًا بإذْن الله؟ فقال: ما زُرت أحدًا قبلك - يا حبيبي - في دار الحياة، ولكن أُمِرْت أن أكون بك شفيقًا، فإن قلت: اقبِض، قبضت بإذْن الله، وإلاَّ رجعْتُ فانظر ماذا تراه، فقال: بالله لا تقْبضْني حتَّى يأْتي أخي جبريل من عند مولاه، أيْن تركتَه؟ قال: تركتُه في السَّماء يعزّيه في روحِك ملائكةُ الله، فما تمَّ كلامه إلاَّ وجبريل أتاه، قال: يا محمَّد، ربُّك يُقرِئُك السَّلام، ويقول لك: أنت رسولُه ومصْطفاه، فإن شِئْتَ يؤخِّرك كما أخَّر نوحًا نبيَّ الله، فقال: وما بعد هذا؟ قال: أن تلقى الله، فعند ذلك قال: اقبض يا عزرائيل فقد بلغ العمر منتهاه، فعالَج رُوحَه الشريفة حتَّى وصلت إلى رُكبتيْه، فقال: مع الَّذين أنعم الله، ولمَّا وصلت سرَّتَه قال: وأنَّ مردَّنا إلى الله، ولمَّا وصلتْ إلى صدْره قال: إنَّا لله، ولمَّا وصلتْ إلى حلقومِه صرخ صرخة قال: واكرْباه، فقالت فاطمة: واكرباه على كرْبِك اليوم يا أبتاه، فعانَقَها فمالتْ عمامته وقضى نَحبه، هذا ما ورد في وفاة رسول الله".
ولذا قال عبدالسلام الخضيري رادًّا عليه، وبعبارات قاسية: "لهذا أصبحْنا أضْعف أمَّة على وجه الأرْض بجهْلِها وضلالنا، بِما حشيت من الخرافات قلوبنا، وأذلَّ وأحقر وأسقط أمَّة بفساد أخلاقنا"[9].
اشتمال الدّيوان على أخطاء في عقيدة الأسماء والصّفات، وخاصَّة في ديباجة الكلام ومقدّمة الخطب، ممَّا يُخالف معتَقَد أهل السنَّة والجماعة في أنَّ الله يُوصف بما وَصَف به نفسه، أو وصفه به رسولُه الكريم[10].
خلوّ مادَّة الخطب من العناية بمواضيع التَّوحيد والاتِّباع تقريبًا، واقتِصارها على مواضيع ذمّ الدُّنيا وذِكْر القبور وما إلى ذلك، في حين أنَّ هدْي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - هو التَّأكيد على أصول العقيدة والتَّوحيد؛ يقول ابن القيّم - رحمه الله - في تقْرير ذلك: "وكذلك كانتْ خُطَبه - صلى الله عليه وسلم - إنَّما هي تقْرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله، وملائكتِه، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنَّة والنَّار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معْصيته، فيملأ القلوب من خطبتِه إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيَّامه، لا كخطب غيره الَّتي إنَّما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق، وهي النَّوح على الحياة والتَّخويف بالموت، فإنَّ هذا أمر لا يحصل في القلب إيمانًا بالله، ولا توحيدًا له، ولا معرفة خاصَّة به، ولا تذكيرًا بأيَّامه، ولا بعثًا للنّفوس على محبَّته والشَّوق إلى لقائه، فيخرج السَّامعون ولَم يستفيدوا فائدة، غير أنَّهم يموتون وتقسَّم أموالهم، ويُبْلي التّراب أجسامَهم، فيا ليتَ شِعْري أيّ إيمانٍ حصل بهذا؟ وأيّ توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل؟ "[11].
والخلاصة:
فالدّيوان كما قال العلاَّمة ابن باز - رحمه الله - لمَّا سُئِل عنْه، قال: "خُطب ابن نباتة فيها بعض الأخطاء، فينبغي للخَطيب أن يتحرَّى الكتُب الجيّدة التي وضعت في الخطب ليستفيد منها"[12].
والأخطاء التي أشار إليها الشَّيخ ابن باز تتعلَّق باحتِواء الدّيوان على ما لا يصحّ من الأحاديث، ومسائل تُخالف المعتقد الصَّحيح لأهل السنَّة والجماعة، وهي موجودة في خُطَبِه ومواعظه، ومن البدائل النَّافعة عن ديوان ابن نباتة ديوان للخُطَب المنبريَّة لعددٍ من أئمَّة الهُدى وعلماء السَّلف، ومنها:
1- الفواكه الشَّهيَّة في الخطب المنبريَّة؛ تأليف علامة القصيم المحقّق الشَّيخ عبدالرحمن بن ناصر السَّعدي، من أفاضل علماء عنيزة - رحمه الله -[13].
2- الخطب المنبريَّة للشَّيخ عبد المحسن القاسم[14].
3- التوجُّهات الرَّبَّانيَّة من الخطب المنبريَّة؛ لفضيلة الشَّيخ العلاَّمة فالح بن نافع الحربي[15].
4- الخُطَب المنبريَّة في المناسبات العصريَّة؛ المؤلف: صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان[16].
5- ديوان الخطب العصريَّة المنبريَّة في الوعظ وإرشاد البريَّة، عبدالرحمن بن أحمد بن محمد الكمالي[17].
6- الخطب المنبريَّة (به اثنتان وخمسون خطبةً، جُمَعية والعيدين والاستسقاء والكسوف)، أبو بكر جابر الجزائري[18].
7- الخطب المنبريَّة للشَّيخ ابن عُثيمين[19].
8- ديوان الشَّيخ علي محفوظ المسمَّى بـ "فنّ الخطابة وإعداد الخطيب"، تحت عنوان نماذج من خُطَب عصريَّة[20].
ومن أكثر هذه الدَّواوين فائدة، وأعمِّها نفعًا ديوان العلامة السَّعدي - رحمه الله - حيث كانت تدور خُطَبُه على قضايا التَّوحيد وأصول الاعتِقاد، من بيان منزلة التَّوحيد وأثره في غُفْران الذّنوب، وتكفير السيّئات، وقد بلغت الخطَب في توحيد الله اثنتَي عشرة خطبةً رائعة، وبأسلوب بليغ، وقد انتفع بهذا الدّيوان العديد من خطباء المساجد، ووعَّاظ الجوامع، واستطاعوا من خلال قِراءته أن ينسجوا على منواله، ويَستفيدوا من منهجه في الخُطَب والوعْظ، فأثْمرت خطبهم ثمارًا يانعة على المستمِعين؛ يقول الشَّيخ ابن باز في بيان منزلة ديوان السعدي - رحمه الله - وقد سُئِل عن ديوان ابن نباتة: "فإنَّ هناك كتبًا كثيرة فيها خطب نافعة، مثل خطب الشَّيخ عبدالله الخياط، وخطب الشَّيخ عبدالرحمن السعدي، وخطب الشيخ عبدالله بن قعود، وخُطب الشَّيخ محمد بن صالح بن عثيمين، وخطب الشَّيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن، وغيرهم من أهل العلم، مع العناية بالآيات القُرآنية والأحاديث النبويَّة الصَّحيحة في كلّ خطبة، مع مراعاة ما يناسب المقام في كلّ وقت، أمَّا الخطب الَّتي ليست لأهل العِلْم المعروفين بالعلم والفضْل واعتِقاد أهل السنَّة والجماعة، فالواجب الحذَر منها، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وآله وصحْبِه أجْمعين"[21].
كيف يستفيد الخطيب من هذه الدَّواوين؟
لقد بوَّب أصحاب دواوين الخُطَب المنبريَّة خطبهم على مناهج مختلِفة، فبعْضُهم اتَّبع تسلْسُل الموضوعات، وقدَّم ما هو الأهمّ من التَّركيز على أصول التَّوحيد ومنزلته، وقد اتَّبع هذا المنهج العلامة السَّعدي، فقد ذكر اثنتي عشْرَةَ خُطبة في التَّوحيد من أصل 160 خطبة، وهذا الأسلوب درَجَ عليه عامَّة علماء السَّلف - رحمهم الله - في دعوتِهم، وهو نافع للخطيب من نواحٍ عدَّة:
حيث يَجعل الخطيب يخصّص خطبًا ومواعظ في التَّوحيد والاتّباع، والتَّحذير من البدع والمحدثات، ويُحاول أن يستغلَّ الأحْداث المعاصرة والنَّوازل ويربطها بِمعاني الإيمان، والقضاء والقدَر والتوكُّل على الله، فتُعطي الخطب والمواعظ ثِمارَها.
تَجعل الخطيب والواعظ متَّزنًا في خُطَبِه، ينظر إلى الأحداث والواقع من منظار التَّوحيد والعقيدة، وتعلِّمه التدرُّج في إصلاح الأمور، ومعالجة المشاكل، بدلاً من التخبُّط والدَّوران، وتفريغ طاقات الأمَّة فيما لا ينفع.
ومن الدَّواوين من اتَّبع التسلْسل للأشهر الهجريَّة[22]، فبدأ بشهر محرَّم الحرام، وجعل له أربعة خُطب تتعلَّق به، ثمَّ شهر صفَر وربيع الأوَّل وربيع الثَّاني وهكذا، وتناول في كلّ شهر ما يتعلَّق به من مناسبات، والاعتِماد على هذا النَّوع والأسلوب قليل الفائدة إذا التزم به الخطيب، ولَم يخرج عنْه، ومنهم مَن اتَّبع في ديوانه مواضيع مختلفة في مجالات الحياة الإنسانيَّة، وخطبًا منوَّعة لا يجمعها جامع، فبدأ بالحثِّ على اتّباع القرآن والتَّحذير من مُخالفتِه، ثمَّ عظمة الرَّسول ومناقب الصَّحابة الكرام، ثمَّ بيان أرْكان الإسلام والحثّ على تطْبيق الشَّريعة، وغير ذلك من المواضيع[23].
وعلى أساس ما مرَّ لا بدَّ للخطيب والواعظ من ملاحظة ما يلي:
تَخصيص خطب تهتمُّ بجانب التَّوحيد والاتباع، والتَّحذير من البدَع والمحدثات من أجل تبصير النَّاس بدينهم.
التطرُّق للمناسبات والبِدَع الَّتي انتشرتْ بين النَّاس؛ مثل: ليلة الإسراء والمولد، ولكن معالجة ذلك يتمّ بأسلوب حكيم؛ لأنَّ النَّاس ليسوا على مستوى واحد.
استِغْلال ما يحدث في الأمَّة من أحداث مُزَلْزِلة، وربطها بجانب التَّوحيد والاتّباع وتقوى الله، وإفْهام النَّاس أنَّ علاج الأزمات يكمُن في طاعة الله وطاعة رسولِه الكريم.
تخصيص خطب تتناول الآيات الكونية، والتأمُّل في مخلوقات الله من أجل تقْرير التَّوحيد في النفوس.
بعض المناسبات كمناسبة العيد، يَحتاج الخطيب إلى التَّنويع في المواضيع، ولكن يرْبطُها بالأصل العام، وهو: تقْوى الله وطاعته، حتى تُؤتي الخطبةُ ثمارَها.
للخطيب أن يَخطب من تلك الدَّواوين، وأن ينسج على منوالها من أجْل صقْل موهبتِه، وتقْوية أسلوبِه وأدائه دون الاعتِماد عليها وعدم الخروج عليْها.
_____________
[1] انظر ترجمته في: "السير"؛ للذهبي (16 /321)، و"الأعلام" (3 /347)، و"معجم المؤلفين" (2 /135)، ويُراجع: "جامع الشروح والحواشي" (2 /869).
[2] حال الخطب اليوم، من كتاب "فن الخطابة"؛ للشَّيخ على محفوظ، تجده على موقع الألوكة.
[3] "زاد المعاد في هدي خير العباد"؛ للعلاَّمة ابن القيِّم - رحمه الله - ج (1 /423).
[4] وهي أوَّل خُطبة جمعة أُلْقِيت بعد تحرير بيت المقدس من الاحتلال الصَّليبي على يد السُّلطان المظفَّر يوسف بن أيوب، صلاح الدّين الأيّوبي، وقد كانت في 4 شعبان 583هـ ألقاها الشَّيخ محيي الدّين محمَّد بن زكيّ الدّين علي القرشي - رحمه الله -؛ انظر كتاب "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل"؛ لمجير الدين الحنْبلي - رحمه الله -.
[5] ديوان خطب ابن نباتة، الناشر مكتبة الجمهورية بشارع الصنادقية بالأزهر؛ لصاحبها عبدالفتاح، ص34، خطبة ربيع الثاني.
[6] المصدر السابق ص21، من خطبة شهر صفر.
[7] المصدر السابق ص47، خطبة شهر جمادى الأولى.
[8] المصدر السابق ص9، من خطبة له لشهر صفر.
[9] المصدر السابق ص13، وانظر ردَّ العلاَّمة عبدالسلام الخضيري على أكاذيب ابن نباتة في وفاة الرَّسول من كتابه القيّم "السنن والمبتدعات" ص94 - 95، الكتاب من نشر دار الكتب العلميَّة بيروت عام 1400 - 1980.
[10] اشْتمل الدّيوان في بعض المواضع من مقدّمة الخطب على ما يُخالف منهج أهل السنَّة والجماعة في باب الأسماء والصفات، من إثبات ما لم يُثْبِته الله لنفسه أو إطْلاق ألفاظ مجملة تحْوي حقًّا وباطلاً، وخاصة في مقدّمة الخطب، ومن ذلك إثبات أنَّ كلَّ شيء خُلِق من نور محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عند خطبته عن المولد النبويّ.
[11] "زاد المعاد من هدي خير العباد"؛ لابن القيّم (1 /423).
[12] من ضمن الأسئِلة الموجَّهة إلى سماحته بعد تعليقه على ندوة في الجامع الكبير بالرياض، بعنوان: (الجمعة ومكانتها في الإسلام) بتاريخ 16 /5 /1402 هـ - مجموع فتاوى ومقالات متنوّعة، الجزء الثَّاني عشر.
[13] الفواكه الشَّهيَّة في الخُطَب المنبريَّة، والخطب المنبريَّة على المناسبات، تحقيق محمد الأحمد، النَّاشر المكتبة العصرية، للعلامة عبدالرَّحمن بن ناصر السَّعدي، النَّاشر: العلميَّة والإفتاء والدَّعوة والإرشاد، نشْر عام 1412هـ - 1991م، يقع في 287.
[14] الخطَب المنبرية، الطبعة الثانية 1429 في مجلَّدين؛ تضمَّن الأول 40 خطبة والثَّاني 40 خطبة، وهي خُطَب ألقاها على منبر المسجد النبوي.
[15] تجِد الخُطَب المنبريَّة على شبكة الأثري السَّلفيَّة.
[16] مكتبة المعارف سنة النَّشر 1413 - 1993 في 4 مجلَّدات الطَّبعة الأولى.
[17] المسمَّى ديوان بغية الخطباء والواعظين، النَّاشر مؤسسة غراس للنشر والتَّوزيع، الكويت الطبعة الأولى عام 1422 - 2002 من مجلَّدين، ويتكوَّن الديوان من مائة خطبة في مختلف المناسبات والأحوال.
[18] النَّاشر مكتبة العلوم والحكم، ويتكوَّن الكتاب من 247 صفحة، وهو عبارة عن اثنتَين وخَمسين خطبة نموذجيَّة، تَدور فحْواها بين الوعظ والتَّذكير والإرشاد والتَّعليم، وموجَّهة إلى أئمَّة وخطباء المساجد؛ لتكون لهم عونًا على استِكْمال مهمَّتهم في الوعظ والإرشاد.
[19] تَجد الخطب المتنوّعة، وفي المناسبات المختلفة للشَّيخ - رحمه الله - على موقع ابن عُثيْمين، تحت قسم مكتبة الخطب.
[20] فنّ الخطابة للشَّيخ علي محفوظ، وهو عضْو هيئة كبار العلماء بالأزْهر، طبع الكتاب بدار الاعتصام بمصر.
[21] موقع موسوعة الفتاوى لتسهيل عملية إيجاد الفتاوى المطلوبة من بين الآلاف من الفتاوى، وبدون أي تكلُّف، الموقع ما زال تحت التأسيس والترميم.
[22] درج على هذا الأسلوب والمنهج عددٌ من الخطباء والوعَّاظ، والالتزام به والتقْييد به قليل الفائدة والثَّمرة، خاصَّة إذا ألزم الخطيب نفسه به ولم يخرج عنه، فإنَّه سيخاطب النَّاس بما يخالف ما هم فيه من ظروف وأحوال ويصبح منعزلاً عن واقعهم.
[23] مثل ديوان بغية الخطباء والواعظين؛ للشَّيخ عبدالرحمن الكمالي - رحمه الله - وقد طبع بدولة الكويت، وقد قامت الهيئة العامَّة بدولة الإمارات العربيَّة المتحدة بتوزيعِه على الوعَّاظ والخطباء، فجزاهم الله خير الجزاء
مرشد الحيالي
لا أعلم ديوانًا للخُطب شغل اهتِمام الخطباء والوعَّاظ، وعلى مدى قرونٍ عدَّة، وانتشر في بلاد الإسلام؛ كالشَّام والعِراق ومصْر - مثلَ ديوان الخطب لابن نباتة، وعلى الرَّغم ممَّا حواه من مُخالفات وأخطاء عديدة، فلم أر كتابًا تصدَّى لبيان أخطائِه، اللَّهُمَّ إلاَّ كلمات يسيرة لا تفي بالغرَض المطلوب، وممَّا يلْفِت النَّظر اقتِناء أغلب الخُطباء لهذا الدّيوان واهتِمامهم به، حتَّى غدا وكأنَّه صحيح البخاري، على أنَّ الكتاب - ومن باب الإنصاف - قد حوى بعض الفوائد المتعلِّقة ببلاغة ألفاظه، وحُسْن بيانه، وقوَّة مواعظِه، وبراعة استِهْلاله، وهو ممَّا جذَبَ بعْض الخُطباء إلى الاهتِمام به في أيَّام الجُمَع والمناسبات، وهو ما دَعاني إلى تسْطير كلِماتٍ موجزة لبيان قيمة الكِتاب العلميَّة، ومن منظور الكتاب والسنَّة، وبالله التَّوفيق.
من هو المؤلّف؟
هو الشَّيخ أبو يحيى عبدالرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نُباتة الفارقي (335 - 374هـ)، قال عنْه الذهبي - رحمه الله -: "وكان فصيحا مفوَّهًا، بديع المعاني، جزْل العبارة، رُزِق سعادةً تامَّة في خطبه"، وقال غيره: "صاحب الخطب المنبريَّة...وأجْمعوا على أنَّ خُطَبَه لَم يُعْمَل مثلُها في موضوعها...، وكان سيف الدَّولة - الحمداني - كثيرَ الغزَوات، فأكثر سيف الدَّولة من خُطَب الجهاد...، له ديوان خطب"[1].
والكلام عن شخصيَّة ابن نباتة يجرُّنا بلا شكٍّ إلى العصر الَّذي عاش فيه؛ وهو القرن الرَّابع الهجري، والبيئة التي تربَّى فيها ونشأ بها، وما رافق عصرَه من تطوُّرات وأحداث كان لها الأثَر على توجُّهه العِلْمي والثَّقافي، ممَّا يُعْطينا صورة متكامِلة وواضِحة عن الظُّروف الَّتي كتب فيها ديوانَه الَّذي جمع فيه الخُطَب المنبريَّة، وبالله التوفيق.
الخطب في القرْن الرَّابع الهجري:
شهِدت الفترة التي عاشَها ابنُ نباتة صراعاتٍ داخليَّة، وتفكُّكًا في الولايات الإسلاميَّة، وتعرَّضت حدودُ الإسلام لهجمات شرِسة من قِبَل الرّوم، ثمَّ ظهور حركات منحرِفة كالقرامِطة وغيرهم، ورغْم أنَّ العصر عصر النضوج الحضاري في العلوم كافَّة، إلاَّ أنَّ الصراع بين الوُزراء - أغلبهم من العجَم - أثَّر على الحركة العِلْميَّة بشكل عام، وعلى الخطابة بشكْلٍ خاص، فقد أصبحت الحركة العلميَّة من خطابة وشعر وتأليف - في بعض الأحْيان - مطيَّة لرغباتِهم ونزواتهم، ممَّا أثر على جانب الإبداع فيها، ولقد كانت عمليَّة الخطابة في صدْر الإسلام والقرون التي تلَتْه إلى القرن الرَّابع مزدهرةً ومطْلقة عن القيود، تُعالج بمواضيعها وأسلوبِها مُعظم القضايا التي تهمّ المجتمع، فقد مهَّد الإسلامُ السَّبيل لها، ورفع عنْها القيود، إلاَّ أنَّها خفَتَ نُورها، وفقدت مكانتَها بسبب ما أصاب الفتح الإسلامي من الركود من جهة، ومن جهةٍ أُخرى بسبب أمراء الدَّولة العباسيَّة - كما أشرنا سابقًا - الَّذين لم يعْطوا الخطابة الحرّيَّة والمكانة التي كانت تتمتَّع بها، وأصبحتْ حبيسة المساجد.
و"إذا تتبَّعْتَ تاريخ الإسلام بعد القرون المشهود لها بالخير، تَجِدُ الخُطب الدينيَّة في كل دولة قد تَراجَعَتْ إلى الوراء، حتَّى صارتْ إلى ما هي عليْهِ الآن من التأخُّر والانْحِطاط، فإنَّها لَمَّا كانت بيد الملوك كان أكبر همِّهم حث النَّاس على السَّمع والطَّاعة لهم، والاستِنهاض إلى مُحاربة الأعداء بحقٍّ أو بغير حقّ، وقلَّ مَنْ ينظُر منهم في أحْوال النَّاس وأمراضهم النَّفسيَّة، فيعِظهم من ناحيتها"[2].
ومن الأسباب الثَّانويَّة الأخرى:
1- انحسار الخطب في دواوين - خُطَب منبريَّة جاهزة - بعد أن كانت قائمةً على الارتِجال والبديهة، والفن العربي الَّذي كان يتمتَّع به من أسلوب بياني رائق، وبيان لأصول العقيدة وقواعد الدّين.
2- انتِشار العجمة، وطغيانها على اللّسان العربي؛ بدليل أنَّ أغلب القوَّاد والجنود من الأعاجم الَّذين لا يفقهون اللّسان البلاغي، فلم يعودوا يتأثَّرون بالخطب الحماسيَّة والحربيَّة، ممَّا كان له الأثر في انحِراف أسلوب الخطابة عن مسارها الصَّحيح في أغلب الأحيان، يقول ابن القيّم - رحمه الله - متحسِّرًا وهو يصف حال الخطابة وما كانتْ عليه من ازدِهار في عهد الرَّسول المعظم، ثمَّ ما آلتْ إليْه من ضعفٍ في العصْر العبَّاسي والمماليك بعده، واقتِصارها على نمط معيَّن من الخُطَب، فيقول - رحمه الله -: "ثمَّ طال العهد، وخفي نور النبوَّة، وصارت الشَّرائع والأوامر رسومًا تُقام من غير مراعاة حقائقِها ومقاصدها، فأعطَوْها صورها، وزيَّنوها بما زيَّنوها به، فجعلوا الرّسوم والأوْضاع سننًا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلُّوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصَّعوا الخطب بالتَّسجيع والفِقَر وعلم البديع، فنقص بل عَدِم حظّ القلوب منها، وفات المقصود بها"[3].
فقد حدَّد ابن القيّم - وهو الخبير اللَّبيب في مجال الوعْظ والإرشاد - أهمَّ الأسباب التي أدَّت بالخطابة إلى الضعف، ومنها:
أصبح الاهتمام بالشَّكل؛ من ترْصيع، وسجعٍ، وعبارات محفوظة في إطار قوالب ثابتة، لا تحرّك شعورًا، ولا تلهب حماسًا، واقتصار غالبها على التَّذكير بالموت والبِلَى، وإهْمال التَّذْكير بقواعد الدّين وأصوله؛ مثل التَّوحيد والاتّباع، كما أشار ابن القيّم في غير هذا الموضع.
بدلاً من أن تصبح عمليَّة الخطابة تقوم بمعالجة الأحْداث والمستجدَّات، أصبحت رسومًا وأوضاعًا بيد السُّلْطة للمدْح والثناء؛ لأنَّ السلطة لا ترضى بالنَّقد والتَّوجيه.
وعلى الرَّغم ممَّا أصاب الخطابة من ضعفٍ، إلاَّ أنَّها انتعشتْ في بعض الأحوال والبلاد، خاصَّة ما يتعلَّق بخطب الحرْب والحثِّ على الجهاد، وخاصَّة في الأحوال التي يتوحَّد فيها المسلمون، ويشْعرون بأنَّ كيان دولتِهم يَتَعرَّض للخطر، ومِن أمثلة ذلك ما تعرَّض له المسلمون من هجْمة شرِسة، تلك الَّتي شنَّها الرُّوم على مقدسات المسلمين؛ كالمسجد الأقصى، فكان هذا كفيلاً بأن يرجع للخطابة هيْبَتها بعض الشيء، ويعيد لها مكانتها المرموقة، وحافزًا للمُسْلمين على الجهاد والتضحية في سبيل الله، وكان القادة والعظماء هم من يوجِّه الجيش والجمهور، ويُلْهِبون فيهم الحماس والتَّضحية، فصدرت نوادر من الخطب المنبريَّة من بعض القادة، أعطت للمسْلِمين دافعًا قويًّا في الاستماتة في سبيل الله، وكان لها صدًى واسعٌ في العالم الإسلامي، فتنقَّلتها وسائل الإعلام - الرَّسائل والمؤلَّفات والتَّراجم - وذكَّرت أهل الإسلام جميعًا بعزِّهم ومجدهم، ومن أبرز تلك الخطب تلك الخُطبة التي أُلْقيت عند فتح صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وتطْهيره من رجس الأوثان والصلبان، وقد أورد الإمام أبو شامة المقدسي نصَّ الخطبة كاملة في كتابه "كتاب الروضتين في أخبار الدولتين"، وكان القاضي محيي الدين بن الزكي هو الخطيب في ذلك اليوم الأغرّ، فخطب في الناس خطبة عظيمة سنيَّة، فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف بيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والتَّرغيبات، وما فيه من الدَّلائل والإمارات، وما منَّ الله به على الحاضرين من هذه النعمة التي تعْدلُ الكثير من القُربات.
فكان أوَّل ما قالَ حين تكلمَّ: (فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الأنعام: 45]، ثمَّ أورد تحميدات القرآن كلهَّا، ثمَّ قال: "الحمد لله... وُمذِلّ الشِّرك بقهْره، ومصِّرف الأمور بأمرِه، ومُديم النعَم بشُكره، ومستدرِج الكافرين بمكرِه، الَّذي قدَّر الأيَّام دولاً بعدْلِه، وجعل العاقبة للمتَّقين بفضْله، وأفاء على عباده من ظلِّه، وأظهر دينَه على الدِّين كلِّه، القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والظَّاهر على خليقته فلا يُنازَع، والآمر بما يشاء فلا يُراجَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، أحْمده على إظْفاره وإظْهاره، وإعزازه لأوليائِه، ونصْره لأنصارِه، وتطْهيره بيتَه المقدس من أدناس الشِّرك، وأوضاره، حمْدَ مَن استشعر الحمد باطن سرّه، وظاهر جهاره"[4].
فيا لَها من براعة استِهلال، ومنطق وجمال، أفرحتِ القلوبَ اليائسة، وشرحت النفوس البائِسة، فالحمد لله ربِّ العالمين.
بعد هذه الجولة السَّريعة، وبيان موقع الخطابة في القرْن الرَّابع، وما صاحبَ ذلك من أحْداث وظروف، نضعُ ديوان ابنِ نباتة على المحكّ، ونُورد من باب العدْل والإنصاف ما لَه وما عليه من مآخذ وأخطاء؛ ليكون الخطيب والواعظ على بيِّنة من أمره، وبصيرة في دينِه، وبالله التَّوفيق.
فمن الميزات والفوائد الَّتي حواها ديوان ابن نباتة - رحمه الله - ما يلي:
الأسلوب البلاغي والبياني الَّذي تضمَّنتْه الخطب؛ من براعةِ الاستِهلال في مقدّماتها، وحُسن البيان في بدايتِها، وبما يناسب موضوع الخطبة، واللّغة المتينة، والتَّضمين من آيات القرآن وأحاديث الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -.
فمِن براعة الاستِهلال قولُه في خُطبة ربيع الثاني: "الحمد لله الَّذي أنعم عليْنا بالإسلام والإيمان، ربِّ العالمين ربَّانا بنعمتِه ألوان، الرَّحمن الرَّحيم بعباده في القبور بالرَّوح والرَّيحان، مالك يوم الدين يَحكم على عباده بالعدْل والإحْسان، إيَّاك نعبد؛ أي: نخصّك بالعبادة في كلِّ وقت وأوان، وإيَّاك نستعين على الأعداء والنَّفس والشَّيطان، اهدِنا الصِّراط المستقيم بالاستِقامة على الإيمان، صراط الَّذين أنعمْتَ عليْهم من أهل الهداية إلى طريق الجِنان، غير المغضوب عليْهم ولا الضَّالّين أهل الكفر والطُّغيان، آمين إجابة للدّعاء وشكرًا للملِك الدَّيَّان"[5].
ومن التَّضْمين قوله: "أيْن الأُمَم الماضية؟ أين آباؤكم الأقْدمون؟ قد صاروا في التّراب، وهم الآن ذائبون متقطِّعون، أما سمِعْتُم قوله - تعالى -في كتابه المكنون: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 30، 31]، واتَّقوا الله حقَّ تقْواه لعلَّكم تُرْحَمون"[6].
وكذلك قوله: "أيُّها الفتى، كُن عبدَ الله لا تعبُدِ الدّينار، وأيُّها الشَّيخ، لا تحرق شيبَك بالنَّار، وأيُّها القاضي، إيَّاك والقضاء بِما يُغْضِب الجبَّار، فتفضح نفسَك في يوم تشْخص فيه الأبصار"[7].
وقد استعمل هذا الضَّرب من فنون البلاغة كثيرًا، ورصَّع به مواضع من خطبه ومواعظه.
تضمنها الأساليب اللّغويَّة، والأدبيَّة الواضحة السَّهلة، والابتعاد عن الألفاظ المعقَّدة والمبْهمة الَّتي يغيب فهْمُها على الكثيرين، ممَّا ساعد الكثير من الخُطَباء والوعَّاظ على الاستِعانة بها في خُطَبِهم ومواعظهم؛ لكونِه سهل المنال سريع الفهْم والاستِيعاب.
ربط الموضوع بالأحداث والمناسبات، إضافة لمعالجتِه مواضيع تُفيد النَّاس في دينِهم ودنياهم وقريبة إلى أذهانهم.
سلوكه طريق الوعْظ في الخطابة بدلاً من الأسلوب العِلْمي الخاصّ بطبقة معيَّنة من النَّاس، وبأسلوب جذَّاب بعيد عن التَّعْقيد والغموض، وهو يُشبه إلى حدّ ما أسلوب الذَّهبي في كتابه "الكبائر"، ومن ذلك قوله في موعظة بليغة: "أيُّها النَّاس، ظهرتْ أمارات السَّاعة، فلا تَخفى على بصير، وكثُر منكم التَّفريط فنسيتم المآب والمصير، وأسأتُم الأدب بين يدَي الله وهو النَّاقد البصير، وعكفْتُم على المعاصي وتعرَّضتُم لأسباب التَّكفير، واستصْغرتُم ذنوبَكم كأنَّها ذباب يسقط على الأنف ويطير، وشكوتُم الزَّمان وإنَّه ليشتكي منكم ويستجير، الليل والنهار لا يتغيَّران ولكنَّكم أهل التَّغْيير، فكم من قواعدَ غيَّرتُموها من قواعد الدِّين الظَّهير، وكَم من حرمةٍ انتهكْتُموها من حرمات الشَّرع وقلَّ منكم النَّكير! وكم حقرتم من عظيم وعظَّمتم من حقير! وصار كبيرُكم لا يوقِّر الكبير، ولا كبيركم يَرحم الصَّغير، فما أصابَكم من مصيبة بِما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فلا بدَّ لهذا الأمر من أخير، فاتَّقوا الله حقَّ التَّقوى تنجوا من عذاب السَّعير"[8].
أمَّا المآخذ على ديوان ابن نباتة - غير ما أشرنا إليه في بداية البحث؛ من كونِها أصبحتْ عاجزة عن مُعالجة قضايا العصْر، وانحسارها في قوالب ثابتة تهتمُّ بالشَّكل أكثر من المضمون؛ فمنها:
الاستشهاد بالأحاديث الضَّعيفة الواهية، بل والموضوعة، ولا يَخفى على بصيرٍ ما للأحاديث الموْضوعة والضَّعيفة من الآثار السيّئة على الفرْد والأمَّة، ومن الأحاديث الموضوعة والضَّعيفة الَّتي حواها الديوان حديث وفاة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وفيه:
"لمَّا قرب رحيلُه ودنت منه الوفاة، نزل عليه ملَك الموت فقرع بابه وناداه، فقال: مَن بالباب يا فاطمة؟ قالت: زائرٌ يا أبتاه، فقال: هل تعرفينه؟ قالت: لا والله، فقال: هذا هاذم اللذَّات، فافتحي فلا حوْلَ ولا قوَّة إلاَّ بالله، ففتحت الباب فسمعت صوتَه ولا تراه، يقول: السَّلام عليْكُم يا أهْل بيت النبوَّة والرّسالة والجاه، فقال: وعليْك السَّلام، أجِئْتَني زائرًا أم قابضًا بإذْن الله؟ فقال: ما زُرت أحدًا قبلك - يا حبيبي - في دار الحياة، ولكن أُمِرْت أن أكون بك شفيقًا، فإن قلت: اقبِض، قبضت بإذْن الله، وإلاَّ رجعْتُ فانظر ماذا تراه، فقال: بالله لا تقْبضْني حتَّى يأْتي أخي جبريل من عند مولاه، أيْن تركتَه؟ قال: تركتُه في السَّماء يعزّيه في روحِك ملائكةُ الله، فما تمَّ كلامه إلاَّ وجبريل أتاه، قال: يا محمَّد، ربُّك يُقرِئُك السَّلام، ويقول لك: أنت رسولُه ومصْطفاه، فإن شِئْتَ يؤخِّرك كما أخَّر نوحًا نبيَّ الله، فقال: وما بعد هذا؟ قال: أن تلقى الله، فعند ذلك قال: اقبض يا عزرائيل فقد بلغ العمر منتهاه، فعالَج رُوحَه الشريفة حتَّى وصلت إلى رُكبتيْه، فقال: مع الَّذين أنعم الله، ولمَّا وصلت سرَّتَه قال: وأنَّ مردَّنا إلى الله، ولمَّا وصلتْ إلى صدْره قال: إنَّا لله، ولمَّا وصلتْ إلى حلقومِه صرخ صرخة قال: واكرْباه، فقالت فاطمة: واكرباه على كرْبِك اليوم يا أبتاه، فعانَقَها فمالتْ عمامته وقضى نَحبه، هذا ما ورد في وفاة رسول الله".
ولذا قال عبدالسلام الخضيري رادًّا عليه، وبعبارات قاسية: "لهذا أصبحْنا أضْعف أمَّة على وجه الأرْض بجهْلِها وضلالنا، بِما حشيت من الخرافات قلوبنا، وأذلَّ وأحقر وأسقط أمَّة بفساد أخلاقنا"[9].
اشتمال الدّيوان على أخطاء في عقيدة الأسماء والصّفات، وخاصَّة في ديباجة الكلام ومقدّمة الخطب، ممَّا يُخالف معتَقَد أهل السنَّة والجماعة في أنَّ الله يُوصف بما وَصَف به نفسه، أو وصفه به رسولُه الكريم[10].
خلوّ مادَّة الخطب من العناية بمواضيع التَّوحيد والاتِّباع تقريبًا، واقتِصارها على مواضيع ذمّ الدُّنيا وذِكْر القبور وما إلى ذلك، في حين أنَّ هدْي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - هو التَّأكيد على أصول العقيدة والتَّوحيد؛ يقول ابن القيّم - رحمه الله - في تقْرير ذلك: "وكذلك كانتْ خُطَبه - صلى الله عليه وسلم - إنَّما هي تقْرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله، وملائكتِه، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنَّة والنَّار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معْصيته، فيملأ القلوب من خطبتِه إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيَّامه، لا كخطب غيره الَّتي إنَّما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق، وهي النَّوح على الحياة والتَّخويف بالموت، فإنَّ هذا أمر لا يحصل في القلب إيمانًا بالله، ولا توحيدًا له، ولا معرفة خاصَّة به، ولا تذكيرًا بأيَّامه، ولا بعثًا للنّفوس على محبَّته والشَّوق إلى لقائه، فيخرج السَّامعون ولَم يستفيدوا فائدة، غير أنَّهم يموتون وتقسَّم أموالهم، ويُبْلي التّراب أجسامَهم، فيا ليتَ شِعْري أيّ إيمانٍ حصل بهذا؟ وأيّ توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل؟ "[11].
والخلاصة:
فالدّيوان كما قال العلاَّمة ابن باز - رحمه الله - لمَّا سُئِل عنْه، قال: "خُطب ابن نباتة فيها بعض الأخطاء، فينبغي للخَطيب أن يتحرَّى الكتُب الجيّدة التي وضعت في الخطب ليستفيد منها"[12].
والأخطاء التي أشار إليها الشَّيخ ابن باز تتعلَّق باحتِواء الدّيوان على ما لا يصحّ من الأحاديث، ومسائل تُخالف المعتقد الصَّحيح لأهل السنَّة والجماعة، وهي موجودة في خُطَبِه ومواعظه، ومن البدائل النَّافعة عن ديوان ابن نباتة ديوان للخُطَب المنبريَّة لعددٍ من أئمَّة الهُدى وعلماء السَّلف، ومنها:
1- الفواكه الشَّهيَّة في الخطب المنبريَّة؛ تأليف علامة القصيم المحقّق الشَّيخ عبدالرحمن بن ناصر السَّعدي، من أفاضل علماء عنيزة - رحمه الله -[13].
2- الخطب المنبريَّة للشَّيخ عبد المحسن القاسم[14].
3- التوجُّهات الرَّبَّانيَّة من الخطب المنبريَّة؛ لفضيلة الشَّيخ العلاَّمة فالح بن نافع الحربي[15].
4- الخُطَب المنبريَّة في المناسبات العصريَّة؛ المؤلف: صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان[16].
5- ديوان الخطب العصريَّة المنبريَّة في الوعظ وإرشاد البريَّة، عبدالرحمن بن أحمد بن محمد الكمالي[17].
6- الخطب المنبريَّة (به اثنتان وخمسون خطبةً، جُمَعية والعيدين والاستسقاء والكسوف)، أبو بكر جابر الجزائري[18].
7- الخطب المنبريَّة للشَّيخ ابن عُثيمين[19].
8- ديوان الشَّيخ علي محفوظ المسمَّى بـ "فنّ الخطابة وإعداد الخطيب"، تحت عنوان نماذج من خُطَب عصريَّة[20].
ومن أكثر هذه الدَّواوين فائدة، وأعمِّها نفعًا ديوان العلامة السَّعدي - رحمه الله - حيث كانت تدور خُطَبُه على قضايا التَّوحيد وأصول الاعتِقاد، من بيان منزلة التَّوحيد وأثره في غُفْران الذّنوب، وتكفير السيّئات، وقد بلغت الخطَب في توحيد الله اثنتَي عشرة خطبةً رائعة، وبأسلوب بليغ، وقد انتفع بهذا الدّيوان العديد من خطباء المساجد، ووعَّاظ الجوامع، واستطاعوا من خلال قِراءته أن ينسجوا على منواله، ويَستفيدوا من منهجه في الخُطَب والوعْظ، فأثْمرت خطبهم ثمارًا يانعة على المستمِعين؛ يقول الشَّيخ ابن باز في بيان منزلة ديوان السعدي - رحمه الله - وقد سُئِل عن ديوان ابن نباتة: "فإنَّ هناك كتبًا كثيرة فيها خطب نافعة، مثل خطب الشَّيخ عبدالله الخياط، وخطب الشَّيخ عبدالرحمن السعدي، وخطب الشيخ عبدالله بن قعود، وخُطب الشَّيخ محمد بن صالح بن عثيمين، وخطب الشَّيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن، وغيرهم من أهل العلم، مع العناية بالآيات القُرآنية والأحاديث النبويَّة الصَّحيحة في كلّ خطبة، مع مراعاة ما يناسب المقام في كلّ وقت، أمَّا الخطب الَّتي ليست لأهل العِلْم المعروفين بالعلم والفضْل واعتِقاد أهل السنَّة والجماعة، فالواجب الحذَر منها، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وآله وصحْبِه أجْمعين"[21].
كيف يستفيد الخطيب من هذه الدَّواوين؟
لقد بوَّب أصحاب دواوين الخُطَب المنبريَّة خطبهم على مناهج مختلِفة، فبعْضُهم اتَّبع تسلْسُل الموضوعات، وقدَّم ما هو الأهمّ من التَّركيز على أصول التَّوحيد ومنزلته، وقد اتَّبع هذا المنهج العلامة السَّعدي، فقد ذكر اثنتي عشْرَةَ خُطبة في التَّوحيد من أصل 160 خطبة، وهذا الأسلوب درَجَ عليه عامَّة علماء السَّلف - رحمهم الله - في دعوتِهم، وهو نافع للخطيب من نواحٍ عدَّة:
حيث يَجعل الخطيب يخصّص خطبًا ومواعظ في التَّوحيد والاتّباع، والتَّحذير من البدع والمحدثات، ويُحاول أن يستغلَّ الأحْداث المعاصرة والنَّوازل ويربطها بِمعاني الإيمان، والقضاء والقدَر والتوكُّل على الله، فتُعطي الخطب والمواعظ ثِمارَها.
تَجعل الخطيب والواعظ متَّزنًا في خُطَبِه، ينظر إلى الأحداث والواقع من منظار التَّوحيد والعقيدة، وتعلِّمه التدرُّج في إصلاح الأمور، ومعالجة المشاكل، بدلاً من التخبُّط والدَّوران، وتفريغ طاقات الأمَّة فيما لا ينفع.
ومن الدَّواوين من اتَّبع التسلْسل للأشهر الهجريَّة[22]، فبدأ بشهر محرَّم الحرام، وجعل له أربعة خُطب تتعلَّق به، ثمَّ شهر صفَر وربيع الأوَّل وربيع الثَّاني وهكذا، وتناول في كلّ شهر ما يتعلَّق به من مناسبات، والاعتِماد على هذا النَّوع والأسلوب قليل الفائدة إذا التزم به الخطيب، ولَم يخرج عنْه، ومنهم مَن اتَّبع في ديوانه مواضيع مختلفة في مجالات الحياة الإنسانيَّة، وخطبًا منوَّعة لا يجمعها جامع، فبدأ بالحثِّ على اتّباع القرآن والتَّحذير من مُخالفتِه، ثمَّ عظمة الرَّسول ومناقب الصَّحابة الكرام، ثمَّ بيان أرْكان الإسلام والحثّ على تطْبيق الشَّريعة، وغير ذلك من المواضيع[23].
وعلى أساس ما مرَّ لا بدَّ للخطيب والواعظ من ملاحظة ما يلي:
تَخصيص خطب تهتمُّ بجانب التَّوحيد والاتباع، والتَّحذير من البدَع والمحدثات من أجل تبصير النَّاس بدينهم.
التطرُّق للمناسبات والبِدَع الَّتي انتشرتْ بين النَّاس؛ مثل: ليلة الإسراء والمولد، ولكن معالجة ذلك يتمّ بأسلوب حكيم؛ لأنَّ النَّاس ليسوا على مستوى واحد.
استِغْلال ما يحدث في الأمَّة من أحداث مُزَلْزِلة، وربطها بجانب التَّوحيد والاتّباع وتقوى الله، وإفْهام النَّاس أنَّ علاج الأزمات يكمُن في طاعة الله وطاعة رسولِه الكريم.
تخصيص خطب تتناول الآيات الكونية، والتأمُّل في مخلوقات الله من أجل تقْرير التَّوحيد في النفوس.
بعض المناسبات كمناسبة العيد، يَحتاج الخطيب إلى التَّنويع في المواضيع، ولكن يرْبطُها بالأصل العام، وهو: تقْوى الله وطاعته، حتى تُؤتي الخطبةُ ثمارَها.
للخطيب أن يَخطب من تلك الدَّواوين، وأن ينسج على منوالها من أجْل صقْل موهبتِه، وتقْوية أسلوبِه وأدائه دون الاعتِماد عليها وعدم الخروج عليْها.
_____________
[1] انظر ترجمته في: "السير"؛ للذهبي (16 /321)، و"الأعلام" (3 /347)، و"معجم المؤلفين" (2 /135)، ويُراجع: "جامع الشروح والحواشي" (2 /869).
[2] حال الخطب اليوم، من كتاب "فن الخطابة"؛ للشَّيخ على محفوظ، تجده على موقع الألوكة.
[3] "زاد المعاد في هدي خير العباد"؛ للعلاَّمة ابن القيِّم - رحمه الله - ج (1 /423).
[4] وهي أوَّل خُطبة جمعة أُلْقِيت بعد تحرير بيت المقدس من الاحتلال الصَّليبي على يد السُّلطان المظفَّر يوسف بن أيوب، صلاح الدّين الأيّوبي، وقد كانت في 4 شعبان 583هـ ألقاها الشَّيخ محيي الدّين محمَّد بن زكيّ الدّين علي القرشي - رحمه الله -؛ انظر كتاب "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل"؛ لمجير الدين الحنْبلي - رحمه الله -.
[5] ديوان خطب ابن نباتة، الناشر مكتبة الجمهورية بشارع الصنادقية بالأزهر؛ لصاحبها عبدالفتاح، ص34، خطبة ربيع الثاني.
[6] المصدر السابق ص21، من خطبة شهر صفر.
[7] المصدر السابق ص47، خطبة شهر جمادى الأولى.
[8] المصدر السابق ص9، من خطبة له لشهر صفر.
[9] المصدر السابق ص13، وانظر ردَّ العلاَّمة عبدالسلام الخضيري على أكاذيب ابن نباتة في وفاة الرَّسول من كتابه القيّم "السنن والمبتدعات" ص94 - 95، الكتاب من نشر دار الكتب العلميَّة بيروت عام 1400 - 1980.
[10] اشْتمل الدّيوان في بعض المواضع من مقدّمة الخطب على ما يُخالف منهج أهل السنَّة والجماعة في باب الأسماء والصفات، من إثبات ما لم يُثْبِته الله لنفسه أو إطْلاق ألفاظ مجملة تحْوي حقًّا وباطلاً، وخاصة في مقدّمة الخطب، ومن ذلك إثبات أنَّ كلَّ شيء خُلِق من نور محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عند خطبته عن المولد النبويّ.
[11] "زاد المعاد من هدي خير العباد"؛ لابن القيّم (1 /423).
[12] من ضمن الأسئِلة الموجَّهة إلى سماحته بعد تعليقه على ندوة في الجامع الكبير بالرياض، بعنوان: (الجمعة ومكانتها في الإسلام) بتاريخ 16 /5 /1402 هـ - مجموع فتاوى ومقالات متنوّعة، الجزء الثَّاني عشر.
[13] الفواكه الشَّهيَّة في الخُطَب المنبريَّة، والخطب المنبريَّة على المناسبات، تحقيق محمد الأحمد، النَّاشر المكتبة العصرية، للعلامة عبدالرَّحمن بن ناصر السَّعدي، النَّاشر: العلميَّة والإفتاء والدَّعوة والإرشاد، نشْر عام 1412هـ - 1991م، يقع في 287.
[14] الخطَب المنبرية، الطبعة الثانية 1429 في مجلَّدين؛ تضمَّن الأول 40 خطبة والثَّاني 40 خطبة، وهي خُطَب ألقاها على منبر المسجد النبوي.
[15] تجِد الخُطَب المنبريَّة على شبكة الأثري السَّلفيَّة.
[16] مكتبة المعارف سنة النَّشر 1413 - 1993 في 4 مجلَّدات الطَّبعة الأولى.
[17] المسمَّى ديوان بغية الخطباء والواعظين، النَّاشر مؤسسة غراس للنشر والتَّوزيع، الكويت الطبعة الأولى عام 1422 - 2002 من مجلَّدين، ويتكوَّن الديوان من مائة خطبة في مختلف المناسبات والأحوال.
[18] النَّاشر مكتبة العلوم والحكم، ويتكوَّن الكتاب من 247 صفحة، وهو عبارة عن اثنتَين وخَمسين خطبة نموذجيَّة، تَدور فحْواها بين الوعظ والتَّذكير والإرشاد والتَّعليم، وموجَّهة إلى أئمَّة وخطباء المساجد؛ لتكون لهم عونًا على استِكْمال مهمَّتهم في الوعظ والإرشاد.
[19] تَجد الخطب المتنوّعة، وفي المناسبات المختلفة للشَّيخ - رحمه الله - على موقع ابن عُثيْمين، تحت قسم مكتبة الخطب.
[20] فنّ الخطابة للشَّيخ علي محفوظ، وهو عضْو هيئة كبار العلماء بالأزْهر، طبع الكتاب بدار الاعتصام بمصر.
[21] موقع موسوعة الفتاوى لتسهيل عملية إيجاد الفتاوى المطلوبة من بين الآلاف من الفتاوى، وبدون أي تكلُّف، الموقع ما زال تحت التأسيس والترميم.
[22] درج على هذا الأسلوب والمنهج عددٌ من الخطباء والوعَّاظ، والالتزام به والتقْييد به قليل الفائدة والثَّمرة، خاصَّة إذا ألزم الخطيب نفسه به ولم يخرج عنه، فإنَّه سيخاطب النَّاس بما يخالف ما هم فيه من ظروف وأحوال ويصبح منعزلاً عن واقعهم.
[23] مثل ديوان بغية الخطباء والواعظين؛ للشَّيخ عبدالرحمن الكمالي - رحمه الله - وقد طبع بدولة الكويت، وقد قامت الهيئة العامَّة بدولة الإمارات العربيَّة المتحدة بتوزيعِه على الوعَّاظ والخطباء، فجزاهم الله خير الجزاء