ابو وليد البحيرى
24-05-2015, 05:02 AM
أحداث صلح الحديبية
وموقف قريش من المسلمين
هند بنت مصطفى شريفي
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في المنام أنه دخل مكة مع المسلمين[1] محرمًا معتمرًا، فبشَّر بها أصحابه وفرحوا بها فرحًا شديدًا، وقد اشتاقت نفوسهم إلى زيارة البيت العتيق والطواف به، وتطلعوا إلى الرجوع لمكة بعد هجرتهم منها لأكثر من ست سنوات مضت.[2]
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - قاصدًا مكة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة،[3] واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب أو يصدُّوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب[4]، وتخاذلوا عنه وتعلَّلوا بشتَّى الأعذار الكاذبة وهابوا قريشًا (وقالوا: أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة و***وا أصحابه فنقاتلهم، وتعلَّلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم)[5].
وأحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة، ليعلم الناس أنه خرج إلى مكة زائرًا للبيت ومعظمًا له، وساق معه الهَدْي سبعين بدنة، ومضى إلى مكة ومعه ألف وأربعمائة أو أكثر من أصحابه[6]، وهم يشعرون بالعزة والقوة،و إنه لمن عظيم الثقة بالله أن يذهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويواجه قريشًا في عقر دارها بهذا العدد القليل، والحرب لا زالت قائمة بين الفريقين، وقريش لم تنس بعد غزوها للمدينة بعشرة آلاف من الأحزاب[7]، علاوة على عدم تهيؤ المسلمين للقتال وعدم أخذهم للسلاح، فقد خرجوا لا يحملون معهم منه إلا السيوف في القرب[8].
موقف قريش من المسلمين:
شاع بين العرب نبأ خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - للعمرة، وعلمت به قريش وفزعت من ذلك، ورأت أنَّ في ذلك تحديًا سافرًا لها، ومسًَّا لمكانتها بين القبائل، حين يدخل من تحاربه إلى بلدها ويتمتع بحمايتها له في الحرم، فعزمت على صدّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه عن البيت، وعاهدت الله أن لا يدخلها عليهم أبدا، وخرجت عن بكرة أبيها واستنفرت حلفاءها من الأحابيش، وقدمت خيلها بقيادة خالد بن الوليد إلى كراع الغميم[9] لمنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من دخول مكة بقوة السلاح[10].
وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحرم بالعمرة ( بعث عينا له من خزاعة[11]، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان بغدير الأشطاط[12]، أتاه عينه وقال: أن قريشا جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك)[13].
فأبدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعداده للمواجهة أمام تعنت قريش، وأراد أن يشد من عزيمة أصحابه، ويثير الحمية الدينية في نفوسهم، ليتجاوز بهم مرحلة الخوف والضعف، فاستشارهم في مهاجمة ومقاتلة من صدهم عن البيت، كما روى الإمام البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين)). قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد *** أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدّنا عنه قاتلناه. قال: ((امضوا على اسم الله))[14].
بذلك يتبين عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على المضي نحو غايتهم، وهي زيارة البيت العتيق، وأنهم مستعدون للصدام إذا ما ألجأتهم قريش إلى ذلك بإصرارها على منعهم من دخول الحرم[15].
وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يثبت لقريش أنه لم يقدم لحربهم، فعدل عن طريق مواجهتهم، ليعرفوا حقيقة قصده في الموادعة وتأمين الناس، وحقنًا للدماء أن تسال، فسلك طريقًا وعرًا بين الشِّعاب، أفضى بجيش المسلمين إلى الحديبية[16]، ورأى هنالك خالد بن الوليد رضي الله عنه - ولم يسلم بعد - غبار الجيش فانطلق لينذر قريشًا اقتراب المسلمين من مكة. روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: (أن المسلمين لما كانوا ببعض الطريق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة[17]، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة[18] الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حلَْ، فألحَّت[19]، قالوا: خلأت القصواء[20]، خلأت القصواء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، لكن حبسها حابس الفيل[21])) [22].
وهنا ظهر حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تعظيم حرمات الله، وترك القتال في الحرم، وحقن الدماء أن تسفك في الشهر الحرام، فأعلن استعداده للتفاوض مع قريش، والموافقة في سبيل ذلك إلى أبعد الحدود، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها))[23]، ونزل المسلمون بعسكرهم في الحديبية، منتظرين ما تؤول إليه الأمور.
وبينما هم كذلك، جاءهم بُدَيْل بن وَرْقاء الخزاعي[24] رضي الله عنه -وذلك قبل إسلامه-،فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تصميم قريش على صدهم عن البيت ومقاتلتهم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهَكتْهم[25] الحرب، وأضرَّت بهم، فإن شاؤوا مادَدْتهم[26] مدَّة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمُّوا[27]، وإن هم أبَوا فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي[28]، ولينفذنَّ الله أمره)).[29]
وكان هذا بيانًا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن سبب قدومه وتصريحا منه برغبته في السلم، وقد كان في بيانه هذا في قمة الإنصاف والعدل، فقد كان يود لو أن قريشًا خلت بينه وبين الناس، ليبلغ دعوة الإسلام، وأن يبتعدوا عن طريقها ليوصلها إلى القبائل التي صدتهم قريش عن السماع والاستجابة لها، بما لها من مكانة عظيمة في نفوس العرب، حتى يقضي الله ما يشاء، فيستريحوا من مشقة قتاله، ولا يلحقهم من ذلك ضرر.
ثم يصرح باستعداده لقتال من وقف واعترض طريق دعوة الإسلام، وأن رغبته التي يعرضها في سبيل الصلح ليست عن خور أو جبن وضعف، بل هو ماض في تبليغ رسالة ربه حتى يتم الله أمره.
[1] ذكر الشيخ حافظ بن محمد عبدالله الحكمي في رسالته (مرويات غزوة الحديبية) ما يثبت حصول هذه الرؤيا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر ص 22. مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط: بدون.
[2] انظر فقه السيرة: محمد الغزالي ص 248. وفقه السيرة: منير الغضبان ص 506. ودراسة في السيرة ص 223، وصلح الحديبية وأثره في نشر الدعوة الإسلامية: الأستاذ سِلْمِي بن سلمان الحسيني وهو بحث ماجستير مقدم للمعهد العالي للدعوة الإسلامية في المدينة المنورة، عام 1405 هـ-1405، غير مطبوع.
[3] انظر سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/ 533، وزاد المعاد 3/286.
[4] انظر سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن هشام 3/256.
[5] السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون، إنسان العيون: علي بن برهان الدين الحلبي 2/689، بيروت لبنان، ط: بدون، 1400 هـ-1980 م. ففضحهم الله تعالى فيما بعد وأنزل فيهم قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ [سورة الفتح الآيتان 11-12].
[6] كما رجح ذلك الإمام النووي، انظر صحيح مسلم بشرح النووي 13/2، وتابعه الحافظ ابن حجر، انظر فتح الباري 7/440 ح 4147. وقد بسط المسألة الشيخ حافظ الحكمي في مرويات غزوة الحديبية من ص 39- 53.
[7] وقد كانت غزوة الخندق في شوال من سنة خمس للهجرة، كما جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 3/229.
[8] انظر السيرة الحلبية 2/689.
[9] موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عُسْفان بثمانية أميال، وهذا الكراع جبل أسود في طرف الحرة يمتد إليه. بتصرف، معجم البلدان 4/443.
[10] انظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 3/356.
[11] خزاعة قبيلة غلبت على مكة، وحكمت فيها، ثم أخرجت منها فصارت في ظاهرها، وكان بينهم وبين بني بكر عداوة في الجاهلية، وكانوا حلفاء بني هاشم بن عبدمناف إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان بنو بكر حلفاء قريش. بتصرف، فتح الباري 12/106 ح 6880.
[12] موضع قريب من عُسْفان. معجم البلدان 1/198.
[13] كتاب المغازي، باب صلح الحديبية 5/67.
[14] المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
[15]بتصرف، صلح الحديبية: محمد أحمد باشميل ص 146 دار الفكر ط: 3، 1393 هـ-1973 م.
[16] هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، وقيل سميت الحديبية بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع، وهي على 22 كيلا غرب مكة على طريق جدة، وبعض الحديبية في الحل وبعضها في الحرم. انظر معجم البلدان 2/229، والروض الأنف 4/33. ومعجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية: المقدم عاتق بن غيث البلادي ص 94، دار مكة للنشر والتوزيع، ط: 1 1402هـ 1982م.
[17] الطليعة: جمعها طلائع: هم القوم الذين يبعثون ليطلعوا طِلْع العدو كالجواسيس. وهي مقدمة الجيش، النهاية في غريب الحديث 3/133، وفتح الباري 5/335 ح 2731.
[18] القترة: الغبار الأسود، فتح الباري 5/335.
[19]حل حل: زجر للناقة إذا حثثتها على السير. النهاية 1/433. وألحت: أي لزمت مكانها وتمادت على عدم القيام. النهاية في غريب الحديث 4/236، وفتح الباري 5/335.
[20] خلأت: الخلاء للنوق كالإحاح للجمال. النهاية 2/58، والقصواء: اسم ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فتح الباري 5/335.
[21] أي حبسها الله عن دخول مكة، كما حبس الفيل عن دخولها، لأنهم لو دخلوها على تلك الهيئة وصدتهم قريش عن ذلك، لوقع بينهم ما يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، ولكن سبق في علم الله أنه يدخل في الإسلام منهم جمع عظيم. بتصرف، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا 21/96، دار الحديث القاهرة ط: بدون تاريخ.
[22] كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط 3/178.
[23] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[24] بديل بن ورقاء بن عمرو بن عبدالعزى الخزاعي، وكان إسلامه قبل الفتح، وقيل يوم الفتح، ولجأت خزاعة إلى داره، قيل: إنه رضي الله عنه *** بصفين وقيل: مات قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. بتصرف، الاستيعاب 1/165، والإصابة 1/141.
[25] أي أبلغت فيهم حتى أضعفتهم. فتح الباري 5/338 ح 2731.
[26] أي جعلت بيني وبينهم مدة يترك الحرب بيننا وبينهم فيها. المرجع السابق الصفحة نفسها.
[27] أي استراحوا وكثروا. النهاية في غريب الحديث 1/301.
[28] السالفة: هي صفحة العنق وهي كناية عن الموت النهاية في غريب الحديث 2/390، وفتح الباري5/338.
[29] صحيح البخاري، كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط 3/179.
ابو وليد البحيرى
24-05-2015, 05:03 AM
صلح الحديبية والمفاوضات بين المسلمين والمشركين
هند بنت مصطفى شريفي
عاد بُدَيْل بن وَرْقاء الخزاعي[1] ومن معه إلى قريش وأبلغوها مقالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبروهم أنه إنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته، فازدادت قريش صلفاً وعناداً واتهموا بُديل وصحبه بالتحيز للمسلمين، وخاطبوهم بما يكرهون، وأصرُّوا على تعنتهم قائلين: (وإن كان جاء لا يريد قتالا، فوالله لا يدخلوا علينا عنوة أبدا، ولا تحدث بذلك عنا العرب)[2].
وحقيقة الأمر أن قريشا كانت أمام خيارات ثلاث:
الأول: أن تصد المسلمين عن دخول مكة، وتمنعهم من أداء العمرة، وفي هذا حطٌ من شرفها، إذ كيف تصدُّ من جاء معظماً للبيت الحرام، وهذا سيثير حفيظة العرب ضدها.
الثاني: أن تسمح للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بدخول مكة، وفي هذا أيضا حطٌ من كبريائها وكرامتها، إذ كيف يدخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم في حالة حرب معه، وبينهم ما بينهم من الدماء، بل ويتمتع بحمايتهم له في الحرم.
الثالث: أن تعرض على الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرجوع، دون أن يدخل مكة، وتبعث لذلك رجالاً يستطلعون خبره، ويثنون من عزمه[3]، خاصة بعد أن تأكد لديها أن قدومه لم يكن لحربها بل لأداء العمرة، وبعد أن حمل لهم بُديل بن ورقاء عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبلغهم إياه.
وارتأت قريش الأمر الأخير وبدأت في إرسال مبعوثيها واحدا تلو الآخر[4]، فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي[5] رضي الله عنه - ولم يسلم بعد -، وذهب إلى معسكر المسلمين، وحاول تخذيل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت أحدا من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)[6].
وهناك رأى عروة إجلال الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعظيمهم وطاعتهم له في كل ما يأمر به، فرجع إلى قريش ونقل لهم هذه الصورة بتعجب فقال لهم: (أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا... وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها[7]، فلم يشف قوله صدور قريش، وأزعجها أن ترسل رسولها ليخذل عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا به يرجع إليها وقد امتلأت نفسه هيبة وإعجابا به وبأصحابه، ثم يشير عليهم بما يكرهون ويخذلهم هم أنفسهم.
ثم بعثت قريش بعده الحُلَيْس بن علقمة، سيد الأحابيش (فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له، واستقبله الناس يلبون)[8]، وهذا يدل على حكمته - صلى الله عليه وسلم -، فقد أدى هذا التصرف منه إلى عودة الرجل قبل أن يصل إلى المسلمين، وإعلانه تأييد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ونصرته إذا منعته قريش وصدته عن الحرم، فقال -وقد تبين له ظلم قريش وعدوانها-مغضباً: (يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصد عن بيت الله من جاء معظماً له، والذي نفس الحُليس بيده، لتخلنَّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجل واحد[9]).
وكذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراء له إلى قريش ليبلغوهم مقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من القدوم، فبعث أولاً خِرَاش بن أمية الخزاعي[10] رضي الله عنه، وحمله على جملٍ له فلما دخل مكة عقرت به قريش، و أرادوا ***ه فمنعهم الأحابيش من ذلك حتى أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم -[11].
وأراد أن يرسل عمر بن الخطاب[12] رضي الله عنه، ثم عدل عنه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما تبين شدة عمر وعداوته لقريش، وأن بني عدي لا يحمونه فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان[13] رضي الله عنه إلى مكة، وقد علم علو مكانته في قريش،فانطلق حتى أتى أبا سفيان و عظماء قريش فبلغهم رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمحوا له بالطواف بالبيت فأبى حتى يطوف الرسول - صلى الله عليه وسلم.
ثم احتبست قريش عثمان رضي الله عنه عندها، فشاع بين المسلمين أنهم ***وه، وقد ذكر ابن إسحاق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - - حين بلغه أن عثمان *** - قال: ((لا نبرح حتى نناجز القوم)). فدعى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة[14]، وهي البيعة التي أعلمه الله رضاه عن أصحابها، وأثنى عليهم في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18][15].
وتتابع الصحابة يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - على الثبات وعدم الفرار وأثنى عليهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أنتم خير أهل الأرض))[16].
لقد بذل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في وسعه لمنع نشوب الحرب بينه وبين قريش، وعرض خطة السلام للوسطاء الذين بعثتهم قريش، ثم بعثها مع رسله إلى زعمائهم، ولم يقرر شنَّ الحرب على قريش، ومناجزة المشركين، إلا حين شاع خبر م*** عثمان رضي الله عنه.
وشعر القرشيون بالحرج الشديد من موقفهم، وخافوا من زحف النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة، فأرسلوا من يصالح المسلمين، واشترطوا أول بند في الصلح، أن يرجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون، فلا يدخلوا مكة هذا العام، واختاروا لذلك سهيل بن عمرو[17] وقالوا له: (ائت محمدا فصالحه، ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا)[18].
وجاء سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتفاوض معه، ثم اتفقا على الصلح.
[1] بديل بن ورقاء بن عمرو بن عبدالعزى الخزاعي، وكان إسلامه قبل الفتح، وقيل يوم الفتح، ولجأت خزاعة إلى داره، قيل: إنه رضي الله عنه *** بصفين وقيل: مات قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. بتصرف، الاستيعاب 1/165، والإصابة 1/141.
[2] سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/ 361.
[3]بتصرف، دراسة في السيرة: عماد الدين خليل ص 225، وصلح الحديبية: سلمي بن سلمان الحسيني ص 38، وقراءة جديدة للسيرة النبوية: الدكتور محمد رواس قلعه جي ص 297، دار البحوث العلمية للنشر والتوزيع الكويت، ط: 2 1404 هـ- 1984م.
[4] اختلف ترتيب رسل قريش للمسلمين، تبعا لتعدد الروايات، والتزمت بالترتيب الوارد في رواية الإمام البخاري.
[5] هو عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن عمرو الثقفي، عم والد المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، كان أحد أكابر قومه وقيل هو المراد بقوله تعالى:﴿ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ أسهم في تقرير صلح الحديبية، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة الطائف فأسلم واستأذنه أن يرجع إلى قومه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخاف أن ي***وك، فرجع ودعاهم للإسلام فرماه أحدهم بسهم ف***ه فرأى أن دمه كرامة أكرمه الله بها وشهادة سيقت إليه رضي الله عنه. بتصرف، الإصابة 2/477، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 4/194.
[6] صحيح البخاري كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط 3/179.
[7] المرجع السابق 3/180.
[8] المرجع السابق نفس الصفحة.
[9] سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/361.
[10] هو خراش بن أمية بن ربيعة بن الفضل الخزاعي ثم الكلبي، أبو نضلة، شهد المريسيع والحديبية وحلق رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وفي العمرة التي تليها، توفي في آخر خلافة معاوية. بتصرف، الاستيعاب 1/427، والإصابة 1/421.
[11] انظر الحديث الطويل الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما 4/323. وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/363.
[12] هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى القرشي العدوي أبو حفص أمير المؤمنين، قيل ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وكانت إليه السفارة في الجاهلية، كان عند المبعث شديداً على المسلمين، ثم أسلم فكان إسلامه فتحا عليهم، قال عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام)). وكان أحبهما إلى الله عمر، من أوائل المهاجرين إلى المدينة وشهد المشاهد كلها مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوفي وهو عنه راض، وفي عهده فتحت الشام والعراق ومصر، ***ه أبو لؤلؤة المجوسي سنة 23 هـ رضي الله عنه. بتصرف، الاستيعاب 2/458، والإصابة 2/518.
[13] عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي، ذي النورين، ثالث الخلفاء الراشدين، ولد بعد الفيل بست سنين، أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أول من هاجر إلى الحبشة مع زوجه رقية رضي الله عنها، كان كثير الإنفاق في سبيل الله، تولى الخلافة سنة 24 هـ و*** سنة 35 هـ وعمره 82 سنة وانفتح بموته باب الفتنة رضي الله عنه. بتصرف، الإصابة 3/462.
[14] انظر سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/364.
[15] سورة الفتح آية 18.
[16] صحيح الإمام البخاري كتاب المغازي باب غزوة الحديبية 5/63.
[17] هو سهيل بن عمرو بن عبدشمس، العامري القرشي أبو زيد كان خطيب قريش ومن أشرافهم، تأخر إسلامه إلى يوم الفتح ثم حسن إسلامه، قام بمكة خطيبا عند وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فسكّن الناس وعظّم الإسلام، استشهد يوم اليرموك، وقيل في طاعون عمواس رضي الله عنه. بتصرف، سير أعلام النبلاء 1/194، والإصابة 2/93.
[18] مسند الإمام أحمد 4/325، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/365.
ابو وليد البحيرى
24-05-2015, 05:04 AM
شروط صلح الحديبية
وموقف الصحابة منه
هند بنت مصطفى شريفي
شروط الصلح:
كانت شروطه كالآتي:
1- أن يرجع المسلمون ذلك العام بغير عمرة، ويقضون عمرتهم من العام المقبل، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: (فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة[1]، ولكن ذلك من العام المقبل)[2].
وأن يقضي المسلمون بمكة ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بسلاح المسافر، كما روى الإمام مسلم في صحيحه: (وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثًا، ولا يدخلها بسلاح إلا جُلُباَّن السلاح[3] [4].
2- أن من جاء من قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن وليه يرده عليهم، ومن جاء قريشًا من المسلمين لا ترده، روى الإمام البخاري رحمه الله: (قال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا)[5].
وقد اغتم المسلمون لهذا الشرط المجحف وكرهوه، فطمأنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعند الإمام مسلم: أنهم (اشترطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: ((نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا و مخرجًا))[6].
3- أن توضع الحرب بينهم عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض[7].
4- أن يكون بينهم موادعة ومكافَّة، وصدورًا نقيةً من الغل، كما جاء في مسند الإمام أحمد[8] رحمه الله: (وأن بيننا عيبة مكفوفة [9]، وأنه لا إسلال ولا إغلال [10] [11].
5- أن من أراد من قبائل العرب أن يدخل في عقد أحد الفريقين وعهده، دخل فيه، قال ابن إسحاق رحمه الله: (وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم، دخل فيه)[12].
موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من الصلح وشروطه:
إن هذه لشروط تبدو مجحفة في الظاهر، ويتضح فيها ظلم قريش للمسلمين، وصدها عن البيت العتيق من أراد تعظيمه، وقد ظنت قريش أنها انتصرت على المسلمين في هذا الصلح، لكن توالي الأحداث أثبت غير ذلك -كما سيأتي- وظن بعض المسلمين بأنهم الطرف الخاسر في القضية، وكانوا قد خرجوا وهم لا يشكّون في دخول المسجد الحرام للرؤيا التي رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، وهم وغم حتى كادوا يهلكوا[13]، وتذمروا من هذا الصلح، وضاقوا به، خاصة عندما ظهرت حمية المشركين الجاهلية، ولم يقروا أثناء كتابة الصلح، بسم الله الرحمن الرحيم وأنه - أي النبي - رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية الإمام البخاري رحمه الله: (فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)). قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اكتب باسمك اللهم))[14].
ومما رواه الإمام مسلم رحمه الله: أمره - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب[15] رضي الله عنه أن يكتب (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، لكن أكتب محمد بن عبدالله. فأمر عليا أن يمحاها، فقال علي: لا، والله لا أمحاها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرني مكانها))، فأراه مكانها فمحاها، وكتب ابن عبدالله)[16].
ومن هذا الموقف تتجلى حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحنكته وعظيم سياسته للأمور، حين يتنازل لأعدائه وخصومه هذا التنازل، إضافة إلى بصره النافذ وعلمه ببواطن الأمور، حتى كـأنه يعرف ما ستؤول إليه الأمور في المستقبل القريب، من الفتح ودخول قريش في دين الله أفواجًا، ويظهر كذلك حرصه عليه الصلاة والسلام على تعظيم حرمات الله وعلى مصلحة الدعوة، وقد كان أخذ على نفسه ألا يرد على قريش خطة تهدف وتؤدي إلى ذلك، بل نجده يوافق على ما يملونه من شروط، ويلين عند تصلبهم وتعنتهم، تنفيذًا لذلك العهد.
ويشاء الله أن يبتلي المسلمين، ويظهر غضبهم لله، وحميتهم لدينه، ويمتحنهم في وفائهم بعهدهم، فبينما هم يعقدون الصلح يهرب إليهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو[17] وهو مقيد، وكان قد عذب في الله عذابًا شديدًا، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبيه أن يجيزه له فرفض.
أمام هذا التحدي لمشاعر المسلمين، لم يملك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الثبات على الوفاء بالعهد، وتبشير أبي جندل رضي الله عنه بالفرج من الله، فقال له: ((يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه، وإنا لن نغدر بهم))[18].
لقد أثار هذا الموقف حفيظة المسلمين لأخيهم في الله، وامتحنوا فيه أعظم امتحان، ولكن سيطر عليه ضبط النفس والتعقل والوفاء بالعهد[19].
وقد كتم الصحابة رضوان الله عليهم ما اعتلج في صدورهم من الغيظ، وما آلمهم، وتكلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأفصح عما في نفسه، لما هو معروف عنه من الصلابة في الحق، وحب المراجعة فيما لم يستبن له فيه وجه الحق والصواب[20]، فقام يحتج ويراجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول له: (ألست نبي الله حقا؟ قال: ((بلى)). قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: ((بلى)). قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: ((إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري)). قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: ((بلى، فأخبرتك أنَّا نأتيه العام؟)) قال: قلت: لا. قال: ((فإنك آتيه ومطوف به))[21].
وظل عمر رضي الله عنه في حالة من الكرب، لا تهدأ نفسه حتى ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه، وسأله كما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأجابه كما أجابه، روى ذلك الإمام مسلم رحمه الله، قال: (فانطلق عمر، فلم يصبر متغيظًا، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس ***انا في الجنة و***اهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا)[22].
وبقى في نفس عمر رضي الله عنه بعض الحرج، حتى (نزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: نعم. فطابت نفسه ورجع)[23].
وندم عمر رضي الله عنه على ما بدر منه من مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتراضه عليه، فيقول: (ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق، من الذي صنعت، مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرًا)[24].
ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتحلل من إحرامهم، اعتراهم الوجوم والذهول، ولم يبادروا إلى تنفيذ ما أمرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كعادتهم، وقد أملوا أن ي***وا هديهم ويحلقوا رؤوسهم في رحاب الحرم، وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه حالهم، فقال: (لما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات[25]، فكأنهم رضي الله عنهم كانوا يأملون العودة عن الصلح، وإتمام نسكهم[26]، فلما رأوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قام، و*** بدنه، وحلق رأسه - بعد مشورة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها - قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم ي*** بعضا غمًا[27].
وقد كان موقف الصحابة وغضبة عمر رضي الله عنه، حميةً لدين الله، ولمِا رأوا في شروط الصلح من ظلم ظاهر لهم، وإجحاف بحقوقهم، ولكنهم آمنوا بالله، وصدقوا وعده، وأطاعوا نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأُمضي الصلح، وكان في ذلك الخير والفلاح للإسلام والمسلمين.
وأنزل الله على نبيه سورة الفتح، في طريق عودته للمدينة المنورة، والمسلمون في هم وغم، وقد حيل بينهم وبين نسكهم، فانقلبت كآبتهم فرحا وسرورا، وأدركوا أن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام[28].
ويقول أنس بن مالك[29] رضي الله عنه واصفًا حالهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -:( مرجعه من الحديبية، وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحَر الهدي بالحديبية، فقال: ((لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعًا))[30].
وفرج الله بهذه السورة غم المسلمين، وأسعد قلوبهم بما حوت من البشارة بالفتح المبين وبالنصر، والثناء والرضا على المؤمنين، حتى قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها: ((لقد أنزلت علي الليلة سورة، لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس))، ثم قرأ: إنا فتحنا لك فتحا مبينا)[31].
[1] يقال: ضغطه يضغطه ضغطا: إذا عصره وضيق عليه وقهره. النهاية في غريب الحديث 3/90.
[2] كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد 3/181.
[3] هو جراب من الإدم يوضع فيه السيف مغمدًا، ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته ويعلقه في الرحل، قال العلماء: إنما شرطوا هذا لوجهين، أحدهما: أن لا يظهر منه دخول الغالبين القاهرين، والثاني: أنه إن عرض فتنة أو نحوها يكون في الاستعداد بالسلاح صعوبة. بتصرف، صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 136.
[4] كتاب الجهاد والسير باب صلح الحديبية 3/ 1410، ح 90.
[5] كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد 3/ 181.
[6] كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية 3/ 1411 ح 93.
[7]مسند الإمام أحمد 4/325، وانظر سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/ 366،.
[8] هو شيخ الإسلام أبو عبدالله، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، أحد الأئمة الأعلام، ولد سنة 164 هـ وتربى يتيما، طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، كان إماما في الزهد والورع، امتحن في فتنة خلق القرآن وصبر، حدث عنه خلق كثير وفي مقدمتهم الشيخان، قال عنه الإمام الشافعي: خرجت من بغداد، فما خلفت بها رجلا أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل. مات سنة 241هـ وعمره 77 عاما رحمه الله. بتصرف، سير أعلام النبلاء 11/177، والبداية والنهاية 10/325، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم الأصفهاني 9/161، دار الفكر بيروت، ط: بدون.
[9] أي مشرجة على ما فيها مقفلة، وأنها نقية من الغل والغش، فيما اتفقوا عليه من الصلح والهدنة. النهاية في غريب الحديث 4/190، وانظر الفتح الرباني 21/ 103.
[10] الإغلال: الخيانة أو السرقة الخفية، والإسلال: من سل البعير وغيره في جوف الليل: إذا انتزعه من بين الأبل. النهاية في غريب الحديث 3/380، والفتح الرباني 21/ 366.
[11] المسند 4/ 325.
[12] سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - 3/ 366.
[13] انظر المرجع السابق 3/367.
[14] كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد 3/181.
[15] هو علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف القرشي الهاشمي أبو الحسن، من أوائل الناس إسلاماً، ولد قبل البعثة بعشر سنين، وربي في حجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقه، شهد المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، وكان اللواء بيده في أكثرها، لما آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه قال له: أنت أخي، مناقبه كثيرة جدا حتى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي، كان متصديا للعلم والفتوى وقد بويع له بالخلافة سنة 35 هـ ثم *** على يد عبدالرحمن بن ملجم سنة 40 هـ رضي الله عنه. بتصرف، الاستيعاب 3/26، والإصابة 4/34.
[16] كتاب الجهاد والسير باب صلح الحديبية، 3/1410 ح 92.
[17] هو العاص بن سهيل بن عمرو بن عبدشمس العامري القرشي، كان من السابقين للإسلام، وممن عذب عذابا شديدا، استشهد باليمامة، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقيل توفي شهيدا في طاعون عمواس. بتصرف، سير أعلام النبلاء 1/192، والإصابة 4/ 34.
[18] مسند الإمام أحمد 4/325.
[19]بتصرف، صلح الحديبية وأثره في نشر الدعوة الإسلامية ص 68.
[20]بتصرف، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: د. محمد بن محمد أبو شهبة 2/334، دار القلم دمشق ط:2، 1412 هـ 1992 م.
[21] صحيح البخاري، كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد 3/182.
[22] صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب صلح الحديبية 3/1412 ح 94.
[23] المرجع السابق الحديث ذاته.
[24] مسند الإمام أحمد 4/325. وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/366. وللاستفادة انظر مقارنة ابن تيمية رحمه الله بين موقف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، الفتاوى 15/184- 185.
[25] كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد 3/182.
[26]انظر السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية: د. أكرم ضياء العمري 2/ 446. مكتبة العبيكان الرياض ط: 1، 1416هـ 1995م.
[27] انظر الحديث في صحيح الإمام البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد 3/182، ومسند الإمام أحمد 4/326.
[28] بتصرف، السيرة النبوية الصحيحة 2/449.
[29] هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلميذه وآخر أصحابه موتاً، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعمره عشر سنين ومات وعمره عشرون سنة، مناقبه وفضائله كثيرة وقد دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبركة فكان أكثر الأنصار مالاً، وكان له من صلبه 129 من الولد، مات سنة 91 هـ وقيل غير ذلك، وعمره نيف وتسعين سنة رضي الله عنه. بتصرف، الاستيعاب 1/71، وسير أعلام النبلاء 3/395، والإصابة 1/71.
[30] صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب صلح الحديبية 3/1413 ح 1786.
[31] صحيح الإمام البخاري كتاب التفسير باب سورة الفتح 6/44.
ابو وليد البحيرى
24-05-2015, 05:05 AM
أثر الصلح على الدعوة الإسلامية وانتشارها (1)
هند بنت مصطفى شريفي
كان صلح الحديبية فتحًا عظيمًا ونصرًا مؤزرًا للإسلام، وقد كانت شروطه في الصورة الظاهرة ضيمًا وهضمًا للمسلمين، وفي الباطن عزًا وفتحًا ونصرًا.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب[1]، وقد ظهر ما فيه من مكاسب للدعوة الإسلامية، (فإنه بسببه حصل خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان)[2].
وقد فتح الله بهذا الصلح آفاقًا واسعة، وهيأ للدعوة مجالات جديدة، فانطلقت في شتى الميادين لتزيل الغشاوة عن أعين الناس، وقد كان لذلك أفضل الأثر في رفع شأن الدولة الإسلامية، وتعزيز كيانها، فكان الصلح بحق فتحا عظيما على الإسلام والمسلمين، حتى قال البراء بن عازب[3] رضي الله عنه: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية)[4].
ومن آثار الصلح الميمونة على الدعوة الإسلامية وانتشارها:
1- تعزيز كيان الدعوة الإسلامية، واعتراف المشركين بها:
كانت قريش تعتبر المسلمين عصاة شقوا عليها عصا الطاعة، وشرذمة متمردة لا كيان لها، وقد حاولت القضاء عليهم مرات عديدة، فباءت جميع محاولاتها بالفشل.
وقد كان في سعي قريش للصلح، وتفاوضهم مع المسلمين، وبعث مندوبها سهيل بن عمرو لذلك، اعترافا منها بكيان دولة الإسلام[5]، وبأن المسلمين أصبحوا قوة تضاهي قوة قريش، وأن لهم الحق في زيارة البيت الحرام، كغيرهم من العرب، وفي ذلك دعاية للإسلام، وتعزيز لجانبه، ولهذا أثر قوي في نفوس القبائل التي تأثرت بموقف قريش الجحودي، الرافض للإسلام، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة، فتنازلها كان تمهيدا لاتساع نفوذ الإسلام وسطوته.
ولما حل ميعاد عمرة القضاء أذن مؤذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين أن يتجهزوا للعمرة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد (قاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفًا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثًا، أمروه أن يخرج فخرج)[6].
وكذلك كان في قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة بعد استدارة العام، آمنًا مطمئنا، يطوف بالبيت العتيق ويسعى بين الصفا والمروة - كان في ذلك إثباتًا لحقهم في البيت الحرام، وتصديقًا للرؤيا التي أراها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾[7].
2- تفرغ المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية:
هيَّأ صلح الحديبية للمسلمين أن يستريحوا من القتال والحرب، وينصرفوا إلى تبليغ دعوة الإسلام، مما أدى إلى دخول الكثير من القبائل فيه.
قال الإمام الزهري رحمه الله:
(فما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا، إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر).
ويعقب عليه ابن هشام رحمه الله فيقول:
( والدليل على قول الزهري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية، في ألف وأربعمائة.. ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف)[8].
3- كسب الدعوة الإسلامية أنصارا جددا للدعوة:
كان من ضمن شروط المصالحة، إتاحة الفرصة للقبائل العربية في الانضمام إلى عهد المسلمين ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين أو إلى عهد المشركين ولهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وما أن كتبت الوثيقة، حتى كسب المسلمون إلى صفهم قبيلة عظيمة، انضمت إلى عهدهم وهي قبيلة خزاعة، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله: (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم)[9].
ومبادرة خزاعة -مسلمهم ومشركهم- للتحالف مع المسلمين علنا، دون هيبة قريش، كسب عظيم للمسلمين، وذلك لمكانتها وقربها من الحرم، ولقوة العلاقة بينها وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -[10]، وقد كان هذا العقد في صالح المسلمين، إذ توالت الأحداث بعد ذلك، وكان نقض العهد قبل أوانه، بسبب هذه القبيلة، حيث نقضته قبيلة بنو بكر مع حليفتها قريش، فكان ذلك سببا في فتح مكة - كما سيأتي إن شاء الله.
4- تأثر المشركين بواقع الإسلام والمسلمين:
تأثر بعض المشركين بما رأوا من المسلمين - أثناء عقد الصلح - من انضباط وتضحية، وتلاحم في صفوفهم، فهذا عروة بن مسعود الذي بعثته قريش ليخذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، يعود وهو داعية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، لما رأى من صلابة الصف المسلم، الذي أبدى من ضروب الطاعة والنظام ما أذهل عروة[11]، فيرجع إلى قريش وهو يقول: (أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا.... وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها)[12].
وكذلك أتاح الصلح الفرصة للمسلمين وللمشركين، أن يختلط بعضهم ببعض، فتأثر كثير من عقلاء المشركين بعظمة الإسلام وتعرفوا على حقيقته (وذلك أنهم قبل الصلح، لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هي، ولا يحلُّون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاؤا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة، وحلُّوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة.. وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلًا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم)[13]، وكان من الزعماء والقادة الذين تأثروا بالإسلام، واستجابوا له في تلك الفترة، خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين[14].
[1] بتصرف، زاد المعاد 3/310.
[2] تفسير القرآن العظيم 7/ 310.
[3] هو البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي أبو عمارة وقبل أبو عمرو، له ولأبيه صحبة، رُد يوم بدر لصغر سنه وشهد ما بعدها من المشاهد، افتتح الري سنة 24 هـ، وشهد مع علي رضي الله عنه الجمل وصفين، نزل الكوفة ومات رضي الله عنه سنة 72 هـ. بتصرف، الاستيعاب 1/139، وسير أعلام النبلاء 3/194، والإصابة 1/142.
[4] صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الحديبية 5/62.
[5] انظر صلح الحديبية: محمد أحمد باشميل ص 331، ومرويات غزوة الحديبية للشيخ حافظ الحكمي ص 268، وقراءة جديدة للسيرة النبوية د.محمد قلعه جي ص 307، وصلح الحديبية: سلمي الحسيني ص 93، و السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: د. محمد أبو شهبة 2/ 340، والرسول القائد: اللواء الركن محمود شيت خطاب ص 278، دار الفكر، ط: 5، 1409 هـ 1989 م.
[6] صحيح البخاري كتاب المغازي باب عمرة القضاء 5/85، و انظر سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/424.
[7] سورة الفتح آية 27.
[8] سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/ 372.
[9] المسند 4/ 325.
[10] فقد روى الإمام البخاري في صحيحه أن خزاعة (كانوا عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة) كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد 3/179.
[11]بتصرف، المنهج الحركي للسيرة النبوية: منير محمد غضبان 3/19 ،مكتبة المنار الأردن ط: 7 ،1412 هـ-1992 م.
[12] صحيح البخاري كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد 3/180.
[13] باختصار، صحيح مسلم بشرح النووي 12/140.
[14] انظر قصة إسلامهم في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن هشام 3/317، والبداية والنهاية 4/238.
ابو وليد البحيرى
24-05-2015, 05:07 AM
أثر الصلح على الدعوة الإسلامية وانتشارها (2)
هند بنت مصطفى شريفي
5- انشقاق معسكر الشرك وتوهنه:
من الآثار التي صاحبت الصلح، الانشقاق الذي حدث داخل معسكر الشرك، بين قريش وحلفائها، وذلك لما رأوا ظلم قريش وتعديها، وصدها عن بيت الله، حتى أن زعيم الأحابيش يهددها بإلغاء الحلف الذي بينها وبينه، وينسحب برجاله إذا لم تصغ قريش لصوت الحق، وتخلي بين المسلمين وبين البيت ليطوفوا به، فهذا الانشقاق كان عامل ضعف في جانب القرشيين، بقدر ما كان عامل تقوية وتدعيم لمركز المسلمين[1].
كما تسبب الصلح في انفراط عقد الكفار في الجزيرة، فإن قريشا كانت تعتبر رأس الكفر، وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعندما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين، خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها[2].
وقد نزل القرآن بتبكيتهم وتهديدهم بالعذاب، بما فتح الله لرسوله من نصره على مشركي قريش[3]، قال تعالى﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾[4].
وعلم أعداء الدين أن الغلبة للإسلام فأصابهم الوهن، وتشتت جهودهم في محاربة للمسلمين، فلم يعد هناك تحالفات وتحزبات كبيرة ضدهم.
6- الاتجاه بالدعوة إلى ميادين جديدة:
انطلقت الدعوة الإسلامية في فترة الهدنة تطرق أبوابًا وميادين لم يسبق للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن طرقوها من قبل، فقد اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم فترة الصلح والأمان، فأرسل رسله إلى أماكن مختلفة، داخل الجزيرة العربية وخارجها، مثبتًا بذلك أن دعوة الإسلام دعوة عالمية، لا يقف دونها *** أو لون، بل هي للناس كافة، حيث أرسل إلى الملوك والأمراء في كل الأرض يدعوهم إلى الإسلام ويحملهم إثم أتباعهم إن لم يبلغوهم[5].
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى)[6]، وقد اختلف تأثر واستجابة الملوك والأمراء مع هؤلاء الرسل[7]، ورغم إعراض بعضهم، فقد كان وصول خبر الدعوة الإسلامية تمهيدا لنشرها في تلك البقاع، وتوطئة للفتوح الإسلامية.
7- القضاء على أعداء الدولة الإسلامية:
اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم فترة الهدنة مع قريش للمبادرة والمسارعة إلى الخروج إلى خيبر[8]، حيث يتمركز اليهود ألدّ أعداء المسلمين في الجهة الشمالية، والذين طالما كانوا حربًا على المسلمين وخططوا للكيد للدعوة، وحرَّضوا قريشًا ضد المسلمين، وكان الله تعالى قد بشر المسلمين في طريق عودتهم من الحديبية بالفتح وبالغنائم، فقال تعالى: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ﴾[9] قال مجاهد[10] رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ﴾: يعني فتح خيبر [11].
فصادفت هذه البشارة الوقت المناسب لتحقيق الهدف الذي طالما تاقت نفوس المسلمين إليه، وهو القضاء على اليهود في ذلك البلد[12]، وتحقق موعود الله وفتحت خيبر- كما سيأتي - وبالقضاء على يهود خيبر استراح المسلمون من أخبث عدو كان يقف في وجه الدعوة الإسلامية، منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
8- حفظ المسلمين بمكة والتفريج عن المستضعفين منهم:
بعد أن بايع المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وثارت نفوسهم وحميت لقتال المشركين، منع الله وقوع القتال، وكف أيدي الناس بعضهم عن بعض، لحكمةٍ بينها تعالى في قوله: ﴿ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾[13].
قال الحافظ ابن كثير[14] رحمه الله:
وقوله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات: أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه، ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم، لكنَّا سلطناكم عليهم، ف***تموهم وأبدتم خضراءهم، لكن يشاء الله أن يؤخر عقوبتهم ليتخلص من بين أظهرهم المؤمنون، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام[15].
ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسوةٌ مؤمنات، انتهزن فرصة الصلح وفرَرْن من مكة إلى المدينة، فلحق بهنَّ المشركون ليرجعوهن، تنفيذًا للشرط الذي بينهم وبين المسلمين، فأنزل الله قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ... ﴾ [16]، فلم يردهن رسول الله صلى الله عليه وسلم[17].
ويعد هذا مكسبًا عظيمًا للمؤمنات، إذ استثناهن الله تعالى من هذا الشرط، فلا يرجعن إلى الكفار ليفتنوهنَّ في دينهنَّ وقد علم الله تعالى حالهنَّ وضعفهنَّ، بل يعشنَ في كنف الدولة الإسلامية في المدينة.
أما الرجال فقد ردهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: أنه جاءه أبو جندل رضي الله عنه، (فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلما)[18]، وعلى الرغم مما يبدو من شدة وقسوة في هذا الشرط، إلا أنه كان من ورائه فرج ومخرج للمسلمين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حدث أن جاء أبو بصير[19] رضي الله عنه، فارا بدينه من المشركين إلى المدينة، وأرسلت قريش تطلبه، فأرجعه النبي صلى الله عليه وسلم وفاء بالعهد الذي بينه وبين المشركين، فتمكن من الخلاص وكوَّن جماعة مؤمنة مجاهدة، تهاجم قوافل المشركين وتجارتهم.
فشعرت قريش بحراجة الموقف، ولم تعد تنعم بالأمن والاستقرار، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله أن يُؤوي إليه أبا بصير وأصحابه[20]، متنازلة بمحض إرادتها للمسلمين عن شرط الهدنة[21].
9- التوطئة والتمهيد للفتح الأعظم، فتح مكة:
كان صلح الحديبية سببًا في فتح مكة، والقضاء على الوثنية فيها، وتطهير البيت الحرام من الأصنام، وانتقال السيادة فيها من أيدي المشركين إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى ذلك فقال:( إنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا، ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله تعالى سبحانه في الأمور العظام، التي يقضيها قدرًا وشرعًا، أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها)[22].
[1] بتصرف، صلح الحديبية: محمد الباشميل ص 334.
[2] بتصرف، فقه السيرة: محمد الغزالي ص 363.
[3] بتصرف، جامع البيان عن تأويل آي القرآن 26/ 73.
[4] سورة الفتح آية 6.
[5] انظر الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها: د. أحمد أحمد غلوش ص 222، دار الكتاب المصري القاهرة، ط:2، 1407هـ- 1987م.
[6] صحيح الإمام مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل 3/ 1397 ح 1774. قال الإمام النووي: كسرى لقب من ملك من ملوك الفرس، وقيصر من ملك الروم، والنجاشي من ملك الحبشة. بتصرف، صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 113.
[7] ومن الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم: دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، و عبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، وعمرو بن أمية الضُمْري إلى النجاشي ملك الحبشة، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقُوقس ، وعمرو بن العاص إلى جَيْفر وعيَاذ ابني الُجُلندي ملكي عمان، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوَى العبدي ملك البحرين، وشجاع بن وهْب الأسدي إلى الحرث بن أبي شمر الغساني، وغيرهم رضي الله عن الصحابة أجمعين. انظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 4/ 279، و فتح الباري 8/ 128 ح 4424، والسيرة النبوية الصحيحة ص 454.
[8] بلد يبعد عن المدينة 165 كيلا شمالا، على طريق الشام، ، وهي أرض موصوفة بالحمى، وكانت تسمى ريف الحجاز لكثرة مائها وزرعها وأكثر محصولاتها التمر، وكان تشتمل على سبعة حصون، وخيبر بلسان اليهود الحصن، وتسمى خيابر، بتصرف، معجم البلدان 2/409، والروض الأنف 4/59، ومعجم المعالم الجغرافية ص 118.
[9] سورة الفتح جزء من آية 20.
[10] هو مجاهد بن جبر الإمام شيخ القراء والمفسرين، أبو الحجاج المكي، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي وقيل غيره، ولد في خلافة عمر رضي الله عنه سنة 21هـ، وأخذ عن ابن عباس رضي الله عنه القرآن والتفسير والفقه، وعن غيره من الصحابة، قيل: مات رحمه الله بمكة وهو ساجد عام 102هـ وقيل غير ذلك. بتصرف، سير أعلام النبلاء 4/449، وتهذيب التهذيب 10/42.
[11] بتصرف، جامع البيان عن تأويل آي القرآن 26/89، وتفسير القرآن العظيم 7/322.
[12]بتصرف، صلح الحديبية: سلمي الحسيني ص 95.
[13] سورة الفتح جزء من آية 25.
[14] هو اسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوّ القرشي البصروي ثم الدمشقي، أبو الفداء حافظ مؤرخ فقيه، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام، ورحل في طلب العلم، وتوفي رحمه الله بدمشق سنة 774هـ. بتصرف، الأعلام: الزركلي 1/320.
[15] بتصرف، تفسير القرآن العظيم 7/ 325، وانظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن 26/ 102، وزاد المعاد 3/ 314.
[16] سورة الممتحنة جزء من آية 10.
[17] انظر الحديث في صحيح البخاري كتاب الشروط باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة 3/172.
[18] كتاب المغازي باب غزوة الحديبية 5/68.
[19] هو عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد الثقفي حليف بني زهرة، وتمام قصته أن النبي كتب إليه أن يقدم إليه مع صحبه، فجاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يموت، فمات وكتاب لنبي صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل رضي الله عنه مكانه وصلى عليه رضي الله عنه .بتصرف، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 3/372، والاستيعاب 4/20، والإصابة 3/452.
[20] انظر الحديث في صحيح الإمام البخاري كتاب الشروط باب صلح الحديبية 3/ 183.
[21] انظر الرسول القائد ص 292، وقراءة جديدة للسيرة النبوية ص 308.
[22] زاد المعاد 3/ 309.