مشاهدة النسخة كاملة : من إنجازات المسلمين في علم الجغرافية


ابو وليد البحيرى
24-05-2015, 11:43 AM
من إنجازات المسلمين في علم الجغرافية











د. عبدالله حجازي






لا جرم أنَّ أُولى هذه الإنجازات ذات الأثرِ المحمود في تقدُّم العلوم عمومًا، وعلم الجغرافية بوجهٍ خاص - هي حركةُ الترجمة والنقل التي تعهَّدها الخلفاء والوزراء في الغالب؛ فلقد كانت هذه الحركةُ سببًا رئيسيًّا في حفظ التراث القديم من الضَّياع، وتصحيح ما اقتُضي تصحيحُه من المعلومات والمفاهيمِ الخاطئة، كما كانت بحُكم تلاقُحِ الأفكار الجديدة مع المعارفِ عند الأمم الغابرة، ثم النَّشاط المتزايد والاهتمام الكبير الذي أبداه المسلمون ذَوُو المواهب والإمكانات - كانت حركةُ الترجمة والنَّقل عاملاً فعَّالاً في تقدُّمِ العلوم وتطوُّرِها في كلِّ مجالاتها، ولعلَّ أبرزَ ثمرات هذا التقدُّمِ والتطوُّر الذي كان نتيجةَ هذه الحركةِ هو كثرةُ التآليف، والمؤلَّفاتُ الجغرافية - بما فيها وضعُ الخرائط - تمثِّلُ إنجازًا عظيمًا من إنجازات المسلمين المتعدِّدة في حقل الجغرافية...





أما فيما يخص المؤلَّفات الجغرافية عند المسلمين، فإنه يمكِنُ حصرُها تحت أربعة اتجاهات رئيسيةٍ:


1- اتجاه تغلِبُ فيه الدراسةُ الجغرافية لأقاليمِ العالَمِ الإسلامي والأقطار المجاورة، دون الاهتمام بالبلادِ النائية من بلاد غير المسلمين:


وممَّن ألَّف في هذا الاتجاه ابن خُرْداذبه (ت نحو 280هـ/ نحو 893م) صاحب كتاب "المسالك والممالك"، ذكر فيه الطرقَ التي كان يسلكُها التجار والحُجَّاج في العالَمِ الإسلامي، وفي نواحٍ كثيرة خارج العالَم الإسلامي، في البرِّ والبحر، كما يصِفُ المنازل (المحطات) على جوانبِ هذه الطرق.





وتمتدُّ الطرق التي يصِفُها ابن خرداذبه من أواسط أوروبَّا غربًا إلى الصين شرقًا، هذا ويُعَدُّ ابنُ خُرْداذبه أولَ من بدأ بأدبِ الأسفار والرحلات.





وأبو زيد أحمد بن سهل البَلْخي (ت 322هـ/ 933م) صاحب كتاب "صور الأقاليم"، وابن حوقل (ت بعد 367هـ/ 977م)، وله كتاب "المسالك والممالك" ويسمَّى "صورة الأرض" كذلك، تكلَّم فيه على جميعِ أقسام الأرض، ما كان منها مسكونًا أو غيرَ مسكون.





والمقدسي (ت 390هـ/ 1000م) صاحب كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" لم يذكُرْ فيه إلا مملكةَ الإسلامِ، ولم يتكلَّفْ ممالكَ الكفار؛ لأنه - كما يذكر - لم يدخُلْها، ولم يَرَ فائدةً في ذكرها، واكتفى في ذكر مواضعِ المسلمين منها، وهو يركِّز في كتابِه على الجغرافية الوصفية: سطح الأرض والأقاليم، والأقسام السياسية، وعلى ذكر المسافات وطُرق المواصلات، ولا يتعرَّضُ للجغرافية الطبيعية؛ كالكلامِ على الجبال والأنهار إلا بالنادر، لكنه يبحثُ في الجغرافية الإنسانيَّةِ، في المناخ والزَّرع وطوائفِ الناس واللغةِ والتجارةِ والأخلاق والعادات والأحوال السياسية والضِّراب والأماكن المقدَّسة.





2- اتجاه تغلِبُ فيه الدراسةُ الجغرافية لإقليمٍ أو بلد واحدٍ ليس غير:


وخيرُ من يمثِّلُ هذه المدرسةَ ابنُ الفقيه الهَمداني (انظر ترجمته بعد)، الذي كتب كتابًا في وصف شبه جزيرة العرب.





كما يمثِّلُها البيروني بكتابه الشهير "تحقيق ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة"، الذي يقول عنه الدوميلي: "... وقد أصبح هذا الكتابُ مرجعًا أساسيًّا، سواءٌ بالنظر إلى التعرُّف على العلم العربي أم على علم الهنود، كما هو مرجعٌ أساسيٌّ في التاريخ والجغرافية وكلِّ ما يتصلُ بحياةِ الشَّعب الهندي، والكتابُ لا يتناول غيرَ الهندِ من حيث معتقداتُ سكانها وشرائعُهم... ومعالم البلاد الجغرافية".





وأحمد بن فضلان (ت بعد 310هـ/ 922م) رئيس البعثة التي أوفده بها الخليفةُ العباسيُّ المقتدرُ بالله إلى ملِك الصقالبة؛ إجابةً لطلب بلغار الفولغا، وقد بعثوا برسولٍ منهم إلى عاصمةِ الخلافة يرجون العون على مقاومةِ ضغط الخزر عليهم من الجنوب، وأن يُنفِذَ إليهم من يفقِّهُهم في الدِّينِ، ويعرِّفُهم بشعائر الإسلام، فسارت البعثةُ عبر بلاد التُّركِ والخزر والرُّوس والصقالبة (على أطراف نهر الفولغا)، ولَمَّا عاد ابن فضلان إلى بغداد كتَب يصِفُ تلك البلاد في كتاب يُعرف بــ "رسالة ابن فضلان"، ذكر فيها ما شاهَده منذ أن غادرتِ البعثةُ بغداد في 11 صفر 309هـ (21 حزيران 921م) مارَّةً بهمذَان والرَّي ونَيْسابور ومَرْوَ وبخارى، ثم مع نهر جَيحون إلى خُوارزم إلى بلغار الفولغا، وفي الرسالةِ وصفُ مملكة الصقالبة وعاداتهم وغير ذلك.





كذلك يمثِّلُ المقريزي (ت 845هـ/ 1441م) هذه المدرسةَ في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" الذي يصِفُ فيه مصر، بل القاهرة.





3- اتجاه يُلِمُّ بالمعاجمِ الجغرافية، وقد برز هذا الاتجاهُ منذ القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي:


وخيرُ من يمثِّلُ هذه المدرسةَ أبو عُبيد عبدُالله بن عبدالعزيز البَكري (ت 487هـ/ 1094م) صاحبُ كتاب "معجم ما استعجم"، وهو قاموسٌ جغرافيٌّ للبلاد التي جاء ذكرُها في أشعار العرب، يتألَّفُ من أربعة أجزاء، رتِّب على حروف الهجاء، وغايتُه أن يُثبِت أسماءَ الأماكن صحيحةً بعد أن تَسرَّب إلى عددٍ كبير منها شيءٌ من السَّهوِ أو التحريف أو التبديل، والبكريُّ يُعَد من الثقاتِ في التاريخ والجغرافية، وكتبُه جليلةٌ.





4- اتجاه يتناولُ المِلاحة التي تمركزت في الخليج العربي (الفارسي)، وعاشت زُهاء قرن من الزمن:


ويُعَدُّ أحمد بن ماجد (ت بعد 904هـ/ 1498م) أشهرَ من مارَس المِلاحة من المسلمين؛ حتى لُقِّب بالمعلِّمِ وأسَدِ البحر، وابن أبي الركائب والسَّائح ماجد، استعان به فاسكودي غاما في بحرِ العرب؛ لإرشادِه إلى طريقِ الهند، حتى وصل به إلى مرفأِ كاليكوث على الساحلِ الجنوبي الغربيِّ من شبهِ جزيرة الهند، وقد استعان ابنُ ماجد خلال ذلك بخريطةٍ بحرية دقيقة كانت معه تشملُ جميعَ شواطئِ الهند، كما استعان بكثيرٍ من عُدَد البحر والمِلاحة؛ ذلك لأنه وجد أنَّ الخرائطَ والآلاتِ التي كانت بحوزة فاسكودي غاما، لم تكن على المستوى الذي وصل إليه المسلمون في عِلم المِلاحة النَّظريِّ، ولا في فنِّ المِلاحة العمليِّ.





وممَّن عمِل في الملاحة كذلك سليمانُ بن أحمد المهريُّ (ت نحو 961هـ/ 1554م)، الملقَّب بمعلِّم البحرِ، له تآليفُ في علومِ البحر وأنوائه وأحوال النُّجوم والرياح، ووصف الطُّرق البحرية بين بلاد العرب والهند وجاوة والصين.





أهم هذه التآليفِ كتابان هما: "العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية"، ويتناول الجانبَ العلميَّ النظريَّ من الملاحة، ثم كتاب "المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر"، وفيه الجانب الفنيُّ والعمليُّ من المِلاحة.





أما بخصوص استخدام البوصلة في الملاحة، فإنَّ الثابتَ أنَّ الصِّينيين هم الذين اكتشفوها ولم ينتفعوا منها إلا قليلًا؛ لأنهم كانوا من ضِعاف الملاَّحين، ولم يبتعدوا في أسفارهم البحريةِ عن الشواطئِ، بخلاف العربِ الذين كانوا من أعاظمِ الملاَّحين؛ إذ كانت صلاتُهم ببلاد الصين وثيقةً أيام كان الأوروبيون يَشكُّون بوجودها، والراجح - عند لوبون - أن العربَ كانوا أولَ من استخدم البوصلة في المِلاحة، وأن الأوروبيين - بلا ريب - أخذوا ذلك الاختراعَ المهمَّ عن العرب؛ إذ كان استخدامُ البُوصلة أمرًا شائعًا عند المسلمين، وذلك من أواسط القرنِ الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، أما الأوربيون فلم يستخدموها - كما يذكر لوبون - قبل القرن الثالث عشر الميلادي.





ومما ينبغي الإشارةُ إليه أنَّ الكتبَ الجغرافية ما كانت لتخلوَ من خرائطَ ذاتِ أهمية فيما يتعلَّقُ بتصوير الحقائقِ والمواقع الجغرافية، بل كانت على مستوًى أفضلَ بكثير جدًّا من مستوى الخرائطِ التي كانت تسُودُ آنئذٍ في أوروبَّا.





وقد ذهب ديورانت إلى القول: "إنَّ خرائطَ الإدريسي تُعتبرُ القمةَ التي بلغها فنُّ رسمِ الخرائط في القرونِ الوسطى، تلك الخرائطُ التي لم يكنُ لها نِدٌّ من حيث الضبطُ والدِّقَّة، ومن حيث المجالُ".





ولعل أهمَّ إنجاز في تراث المسلمين الجغرافيِّ هو الفكرةُ المتعلقة بنصف الكرةِ الأرضية، وأن له مركزًا أو قمةَ أرضٍ تقع على بُعْدٍ متساوٍ من الشرق والغرب، والشمال والجنوب، سمَّاها ابنُ رُستة بقمةِ آرين، وأنه لا بدَّ من وجود قبَّةٍ أخرى مقابلَها في نصف الكرة الآخَر، تتوازنُ مع القبَّةِ الأولى، الأمر الذي قرَّبهم من تقديرِ وجود الأمريكيتين.





ولقد كان لنظرية الآرين هذه قَبولٌ واحتفاءٌ من الكردينال بطرس الأليائي في كتابه "صورة العالم" الذي طبع عام 813هـ/ 1410م، وقد اعتمد عليه كولومبس، واطَّلع على تأكيدِ المسلمين بالنسبةِ لنظرية كرويةِ الأرضِ، التي كان يُعتبر القولُ بها في أوروبَّا - حتى عصرِ كولومبس - هَرطقةً يستحقُّ صاحبُها محاكمةَ الكنسيةِ، ليس هذا فحسب، بل إنَّ المطَّلع على كلام ابن فضل العمري (ت 749هـ/ 1349م) في كتابه "مسالك الأبصار" - وقد أُلِّف قبل مولد كولومبس بقرن ونيِّف - سيجِدُ دلالةً على حدس المسلمين بوجود أمريكا؛ فقد جاء فيه: "وقال شيخُنا فريدُ الدهر أبو الثناء محمود بن أبي القاسم الأصفهاني - أمتع الله به -: لا أمنعُ أن يكونَ ما انكشف عنه الماءُ من الأرض من جهتنا، منكشفًا في الجهة الأخرى، وإن لم أمنع أن يكونَ منكشفًا من تلك الجهة، لا أمنعُ أن يكونَ به من الحيوان والنبات والمعادن مثلُ ما عندنا، أو من أنواعٍ وأجناس أخرى".





وعليه، فإنَّ فضلَ اكتشاف العالَمِ الجديد - أي: اكتشاف أمريكا - يعودُ إلى المسلمين، كما أوحتْ كتاباتُهم الآنفة الذكر.





من إنجازات المسلمين الجليلةِ في مجال الجغرافيةِ كذلك: قياسُ وتعيينُ خطوطِ الطُّول والعرض لكثير من المدن، فجاءت هذه القياساتُ قريبةً جدًّا إلى الصواب، إذا ما قُورنت بأطوالِ الأمكنة التي عيَّنها الإغريقُ، وهذه المقابلةُ تدلُّ على أنَّ مقدارَ العَرض الذي حقَّقه المسلمون لا يختلفُ عن المقدارِ المعروف في الوقتالحاضر إلا ببضع دقائق، في حين يبلغُ خطأُ الإغريق درجاتٍ كثيرةً.





وبخصوصِ مقدارِ الطول، فقد كان الخطأُ عند المسلمين بحدودِ درجتين، إلا أنه دون خطأِ الإغريق بمراحلَ.





بقِي أن يشارَ هنا إلى الإنجازِ الرائع الذي قام به الجغرافيُّون المسلمون في قياسِ محيط الدائرة بالاعتماد على معرفة الفَلَك، حتى قال عنه نلِّينو: إنه من أَجَلِّ آثارِ العرب؛ فقد ورد في كتاب "الزيج الكبير" لابن يونس المصري: "أنَّ المأمونَ أمَرَ سندَ بن علي وخالد بن عبدالملك أن يَقيسا مقدارَ درجةٍ من أعظمِ دائرةٍ من دوائرِ سطح كرة الأرض... قال: فكان سبعةً وخمسين ميلًا..."، إلا أن البيروني - العالِمَ المدقِّقَ - لم يطمئنَّ إلى هذا القياسِ، بل راح يبحثُ عن طريقةٍ يصِلُ بها إلى نتائجَ أقربَ إلى الصَّواب من كلِّ الطُّرق التي قام بها غيرُه، وقد اهتدى بعد تفكيرٍ طويل إلى طريقةٍ ذكرَها في كتابه: "القانون المسعودي" ومفادُها: وجودُ جبلٍ مرتفع يُطلُّ على سهلٍ منبسطٍ يمتدُّ حتى الأُفق، فلما واتتِ البيرونيَّ الفرصةَ في الهندِ وهو بصحبةِ السُّلطان مسعود في غزواته لشمال الهند، حيث وجد هناك الجبل، قاس ارتفاعَه من السَّهل الأملسِ المنبسطِ أمامه مثل سطح البحر، ثم صعِد قمَّتَه وقاس زاويةَ انخفاضِ دائرةِ الأُفُق، وبعد عمليَّاتٍ حسابية وجد البيروني أنَّ طُولَ القوسِ الذي يقابل درجةً واحدة هو 55 ميلاً؛ أي: قريبًا من 56 ميلاً، ومنه حسب قُطْرَ ومحيطَ الأرض، وهو لا يختلفُ عن القياسات المعاصرة إلا قليلاً.



http://www.alukah.net/UserFiles/MAPEARTH.jpg