ابو وليد البحيرى
24-05-2015, 07:09 PM
دور المسلمين في التقدم العلمي
د. عصام الدين عبدالرؤوف
لم يمضِ أكثر من مائة عام على ظهور الإسلام، حتى شرع المسلمون في العِلم على تدوين العلوم الشرعيَّة ودراسة العلوم الطبيعية، حتى نبغ منهم علماء، أجمع المؤرخون في الشرق والغرب على السواء: أن دراساتِهم ومصنَّفاتهم كان لها أكبر الأثر في نموِّ الثقافة العالمية وازدهارها في عالمنا المعاصر.
فلما اتَّسعتِ الدولة الإسلامية، واستقرَّت أمورها في العصر العباسي الأول، وضمَّت إليها شعوبًا متعددة، أبرز علماءُ هذه الشعوب مواهبَهم، فأقبل الفرس - بعد أن أحسن الخلفاء العباسيُّون معاملتَهم - على بغداد بعد تأسيسها، وأقاموا واستقرُّوا فيها، وكان الفرس قد بلغوا درجةً كبيرة من التقدُّم في مضمارِ الحياة الثقافيَّة، ودفَعهم اعتناقُ الإسلام والاندماج في الحياة العامة إلى تعلُّم اللغة العربيَّة، فنقلوا خُلاصةَ معارفهم من الفارسية إلى العربية، وصنَّفوا مصنفاتٍ قيِّمة في العلوم العربية والدينية والطبيعية.
ومن أسباب تَقدُّم الحياة الثقافيَّة في الدولة الإسلامية أن أهل الذمة حظوا برعاية الخلفاء من بني العباس، وقدَّروا ذوي المواهب منهم، وبذلك أتيحت لهم الفرصة لإبراز مقدرتِهم العلميَّة، وكان لمعرفتِهم باللغات الأجنبية - خصوصًا اليونانيَّة والسريانية - سبب في اعتماد الخلفاء عليهم في حركة الترجمة إلى اللغة العربية.
ولما اتَّسع نِطاق العِلم، ظهرت الحاجة إلى الاستفادة من العلوم التي تَوصَّل إليها المسلمون في العصر العباسي الأول، فقسَّم العلماء العلومَ إلى نقليَّة تتَّصِل بالقرآن الكريم، وتشمل: (علومَ التفسير والقراءات، وعلم الحديث والفقه، وعلم الكلام، وعلوم اللغة: كالنحو والصرف والشعر والبيان، والنوع الثاني من العلوم يُسمَّى العلوم العقليَّة، ويشمل الفلسفة والطب، وعلم النجوم والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والموسيقا والرياضيات).
كان الذي يتحمَّل نقلَ الشريعة القرَّاء - أي قراء كتاب الله والسُّنة المأثورة - لأنهم لم يعرفوا الأحكامَ الشرعيَّة إلا منه ومن الحديث الذي هو في الغالب تفسير وشرح له، وكانوا يَنقُلون معارفَهم شفاهة، ثم احتيج إلى وضْع التفاسير القرآنيَّة وتدوين الحديث؛ مخافة ضياعهما، واحتيج إلى معرفة الأسانيد والتأكُّد من صحتها، ثم احتيج إلى استنباط لأحكام من القرآن والسُّنة، يُضاف إلى ذلك فسادُ اللسان، فظهرت الحاجة إلى وضْع القوانين النَّحْوية، وصارت العلوم الشرعيَّة كلها مادة الاستنباط والاستخراج والقياس.
وقد تمَّ تدوين العلوم في مستهلِّ العصر العباسي الأول في كُتبٍ تَداولها الناس، وكان الورق الذي يُستعمَل في الكتابة البردي، ويُجلَب من مصر، ثم استُعمِل ورقٌ يُسمَّى (الكاغد) كان يُجلَب من الصين، وتَقدَّم فنُّ الوراقة في الدولة الإسلامية تَبَعًا للتقدم العلمي وإقبال العلماء على نشْر مؤلَّفاتهم، ويُقصَد بالوراقة نسْخ الكتب وتصحيحها وتجليدها، وكل ما يتعلَّق بإخراج الكتاب، وكان الورَّاقون يبيعون هذه الكتبَ في دكاكينهم، والمهتمون بالحياة الثقافية يتردَّدون على هذه الدكاكين؛ للقراءة أو لشراء ما يَلزَمهم من الكتب والمصنفات، ودكاكينهم كانت أشبه بالمكتبات العامة في يومنا هذا، ويُروى أن الجاحظ كان يَبيت في دكاكين الورَّاقين للقراءة، ولا يعلم بظهور كتاب إلا وبحث عنه.
ولم يكن في الدولة الإسلامية مدارس يتلقَّى فيها الطلاب تعليمهم، وإنما كانت بها كتاتيب يتثقَّف فيها الصبيان ثقافةً عامَّة: يحفظون القرآن الكريم، ويتعلمون القراءة والكتابة والحساب، ويتقاضى المعلم أجرًا على عمَله، والدراسة في الكتاتيب أشبه بالدراسة في المدارس الابتدائية في يومنا هذا.
أما الدراسة المتخصِّصة فكان مقرُّها المسجد، وضمَّتِ المساجد حلقاتٍ يَدرُس فيها الطلابُ مختلفَ العلوم، ويقوم بالتدريس فيها رجال العِلم من المشايخ؛ فهناك حلْقة للفقه وحلقة للتفسير وحلقة للحديث وحلقة لعلم الكلام، والطالب يتردَّد على الحلقة التي تتناسب مع ميوله للون معين من العلم، وشيخ الحلقة يتقاضى أجرًا نظير مهمَّته، ولم تكن الدولة تتدخَّل في هذه الدراسة، وما يجري فيها من مناقشات، واقتصر إشرافها فقط على عدم تَعارُض الدراسة وما يجري فيها من مناقشات مع تعاليم الدين أو مع سياسة الدولة العامة، وإذا كان شيخ الحلقة ميسورًا، فإنه يؤدي مهمته مجانًا ابتغاء مرضاةِ الله، فالإمام أبو حنيفة كان يعمل بزازًا - أي بائع أقمشة - وفي نفس الوقت يقوم بالتدريس، والطلاب الذين يتردَّدون على هذه الحلقات لا يستمرون فيها إلا إذا تأكَّد الشيخ من جديَّته وإقباله على الدراسة، وذلك من خلال مناقشته له، ولقد أظهرت هذه الحلقات مواهبَ كبيرة، فنبغ من حلقة الأمام أبي حنيفة القاضي أبو يوسف، والشيخ يُجدِّد المنهج الذي يُدرِّسه لطلابه في المسجد.
وبلغ من شغفِ الناس في الدولة الإسلاميَّة بالعلم أنهم كانوا يرحلون إلى المدن الكبرى للاتصال بالعلماء المشهورين؛ للاستزاده من عِلْمهم وفضْلهم، والناس يأخذون معارفهم تارة عِلمًا وتعليمًا، وتارة إلقاء ومحاكاة وتقليدًا بالمباشرة، فعلى قدْر كثرة الشيوخ تكون حصول المَلَكات ورسوخها، وهذا لمن يَسَّر الله له طرق العلم والهداية.
وهكذا رحل علماء الحديث واللغة والأدب لطلب العلم، فرحل علماء الحديث إلى البلاد المختلفة يُقيِّدون الحديثَ، ويقال: إن جابر بن عبدالله بلَغه حديث عن رجل من أصحاب رسول الله، فابتاع بعيرًا فشدَّ عليه رحلَه، ثم سار شهرًا، حتى قَدِم الشام، بل كان منهم من يرحل في حرف، وقال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة، ما رأيتُ أن سفره ضاع.
كذلك رحل الأدباء إلى نواحي المملكة الإسلامية يأخذون من أدبائها؛ فالخليل بن أحمد والأصمعي والكسائي وغيرهم يرحلون إلى البادية، ويسمعون من أهلها اللغة والأدب، ويُسجِّلون ما يستمعون إليه، ورحل طلاب الفلسفة والعلوم الطبيعية كالكيمياء والطب والصيدلة والرياضيات إلى القسطنطينيَّة لابتياع الكتب اليونانية التي تتضمَّن هذه العلوم وترجمتها إلى العربية والإفادة منها، وأرسل الخليفة المأمون بعثةً إلى القسطنطينية لإحضار كتب اليونان وترجمتها، ومن أبرز الرحَّالة حنين بن إسحاق الذي ذهب إلى بلاد الروم، وأجاد تعلُّم اليونانية ثم عاد إلى البصرة، ورحل في نواحي العراق وسافر إلى الشام والإسكندرية يجمع الكتب النادرة.
وكان أبو زيد البلخي شغوفًا بدراسة العلوم الطبيعية، غير أنه كان فقيرًا، فرحل إلى نواحي العراق راجلاً، وأقام هناك عدة سنوات ثم رحل إلى البلاد المجاورة، ولقي العلماء واستفاد منهم فائدة كبيرة، وتتلمذ على العالم والفيلسوف الكبير الكندي، وتتلمذ عليه في علوم الفلسفة والفلك والطب والأخلاق.
وهكذا رحل طلاب العِلم في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية للدراسة والبحث لا يعوقهم فقرٌ، ولا يَفُتّ في عزْمهم صعوبةُ الطريق وأخطاره؛ أي: آمنوا وأيقنوا أن طلب العلم جِهاد، فمن مات في سبيله مات شهيدًا، وأصبح العِلم عند الكثيرين مقصدًا لا وسيلة، يُقصَد لذاته ويرغب فيه للاستمتاع به، سواء هُيِّئ لطالبه رغد العيش أو أدَّى به إلى الفقر.
ومن أسباب ازدهار الحركة العلميَّة في الدولة الإسلامية: انتشار المجالس التي تَضُم العلماء في القصور والدور والمساجد؛ حيث يَتناظرون فيها في فروع العلم المختلفة، وقد حرص الخلفاء على إقامة هذه المجالس، ومما لا شك فيه أن هذه المناظرات أدَّت إلى رواج الحياة الثقافية، وأن المناظرة إذا كانت تتم أمام خليفة أو أحد كبار رجال الدولة، فإن المشتركين فيها يَحرِصون على إتقان مادتهم العلمية، حتى يدعم رأيه بالأسانيد العلميَّة المعقولة والمقبولة، ويحظى بتقدير الحاضرين، وكان للخلافات في الرأي أثر كبير في تقدُّم الحركة العلمية؛ ذلك أنها شجَّعتِ العلماء على مواصلة الدرس والبحث.
شجَّع الخلفاء العباسيون الناسَ على الإقبال على الدراسة والبحث، فالخليفة الرشيد يأمر ولاته على الأقاليم في دولته برفع رواتب من يُقبِل على طلبِ العلم، ويَعمُر مجالس العلماء ومقاصد الأدب، وروى الحديثَ وتفقَّه في الدين، وبلَغ من تشجيع الرشيد الناس على التعلم أن الغلام في عهده كان يحفظ القرآن، وهو ابن ثماني سنين، ويستبحِر في الفقه ويروي الحديث ويُناظِر المعلِّمين وهو ابن أحد عشر عامًا.
وقد حذا المأمون حذو أبيه الرشيد في العلم على رواج الحركة العلميَّة، وأشرف على أضخم يقظةٍ فكريَّة في تاريخ الإسلام ووجَّهها خير توجيه، وكانت هذه اليقظة الفكرية كما يقول (ناثنج): من أهم اليقظات في التاريخ كله، حتى إن بغداد تحوَّلت في عصر المأمون إلى مركز العلم والثقافة في العالم كله في وقت لم يكن في استطاعة زعماء أوربا مجرد كتابة أسمائهم، فحبُّه العميق للعلوم والفنون حوّل بغداد إلى مركز للثقافة والعلم يفوق ما عداه في عالم يومه، فقام برعاية الشعر وعلوم الدين والفلسفة والفلك، وكان يُشجِّع رجال العلم على مواصلة البحث ويستورِد رجال العلم بغض النظر عن أديانهم و***يَّاتهم، هؤلاء جميعًا كانوا موضع رعاية وتكريم المأمون، وكان للمناخ المناسب الذي هيَّأه لهم هذا الخليفة سببًا في إبراز معارفهم وقدراتهم الخلاقة، وعلى ذلك ظهرت ثقافات متنوِّعة في الدولة الإسلامية.
ويرتبط بظهور الحركة العلميَّة ونشاطها في الدولة الإسلامية المحافظة على الكتب، ومن هنا أقيمت المكتبات في الدولة، ومن أهمها بيت الحكمة الذي كان يَضُم كتبًا في علوم مختلفة، وأضاف الخلفاء إلى بيت الحكمة كتبًا بلغات متعدِّدة، مِثل العربية والفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية وبعض اللغات الهندية.
أنفق الخلفاء أموالاً طائلة لتزويد بيت الحكمة بالكتب القيِّمة، ويعمل في بيت الحكمة علماء تنوَّعت ثقافتهم ومعارفهم، وكان العلماء في الدولة الإسلامية يُودِعون نسخًا من مؤلفاتهم في بيت الحكمة، ويلحق ببيت الحكمة علماء تنوَّعت ثقافتهم، وصاحب بيت الحكمة يُشرِف على العاملين فيه، وعليه أن يرتِّبَ الكتبَ ويُفهرِسها ويُصنِّفها ويُشرِف على النساخ والناسخ، ويَنسخ ما يُطلَب منه نظير أجر، وعليه أن يُرتِّب أوراقَ كلِّ نسخة بعد جمعها أو إصلاح ما قد يظهر فيها من أخطاء، والخليفة يُعيِّن المترجمين في بيت الحكمة، ويُعيِّن لهم رئيسًا يتفقَّد أعمالهم، ويُراجعها ويُصحِّحها؛ وبذلك أسهم بيت الحكمة في ترجمة كتب في علوم مختلفة ولغات متعددة، وكان المترجم يُملي الكتابَ الذي ترجمه على عدد من النساخ حتى تتعدَّد نسخُ الكتاب الواحد، وتُجلَّد هذه الكتب وتُودَع نُسخ منها في بيت الحكمة حيث تتاح الفرصة للقراء للاطلاع عليها.
وقد انتشرت المكتبات في بيوت الأغنياء وكبار رجال الدولة والأدباء، فكان لدى إسحاق الموصلي - نديم الرشيد - ألف جزء من لغات العرب، ومحمد بن عمر الواقدي خلف بعد وفاته ستمائة قمطر كتبًا، كل قمطر منها حمل رجلين، وكان له غلامان مملوكان يكتبان له الليل والنهار، ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر من كتب الجاحظ.
لم تَقتصِر جهود الخلفاء العباسيين على تشجيع العلوم الدينية، بل عُنوا بالعلوم الطبيعيَّة أيضًا، فالخليفة اليأس المنصور أول خليفة تُرجِمت له الكتب من اللغات الأجنبية إلى العربية، منها كتاب "كليلة ودمنة"، وكتاب "السِّند هند" في الفلك وكتب أرسطو وإقليدس وبطليموس وسائر الكتب القديمة، التي عُثِر عليها، وأخرجت إلى الناس بعد ترجمتها، فنظروا فيها وأقبلوا على دراستها.
وكان للسريان فيما بين النهرين - شمال العراق - نحو خمسين مدرسة لتعليم العلوم السريانيَّة واليونانية، وتَضُم هذه المدارس مكتبات، وكان بلاد العراق منذ أيام الإسكندرية متأثِّرة بالحضارة اليونانية، وكان في بلاد السريان كثير من الكتب المترجمة لا في الآداب النصرانيَّة وحدها، بل أيضا تَراجم لمؤلفات أرسطو وجالينيوس وأبقراط، إذا كان هؤلاء محور الدائرة العلميَّة في ذلك العصر، والسريان نقلته الثقافة اليونانية إلى الفرس قبل الإسلام، ولما شرع العباسيون في ترجمة كتب اليونان، كان السريان خير مَعين لهم في ذلك؛ إذ ترجموا الكتب اليونانية التي نقلوها من قَبْل للسريانية إلى اللغة العربية، وأضافت هذه الكتب إلى الثقافة العربية أبحاثًا جديدة في الطب والفلك والموسيقا والفلسفة والكيمياء والصيدلة، وأضاف العلماء العرب إلى هذه الكتب خلاصة معارفهم وتجارِبهم.
وهذا الازدهار الثقافي الذي شمل كافَّةَ فروع العلم والمعرفة، أبرز علماء موسوعيين برعوا في علوم متعدِّدة، وصنَّفوا مصنفاتٍ قيِّمة في العلوم الدينية والعربية والطبيعية، وبذلوا في سبيل ذلك جهودًا مضنية، مثل الإخوة محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر كانت لهم هممٌ عالية في تحصيل الكتب القديمة، وكتب الأوائل، وأنفذوا إلى البلاد مَن اشتراها لهم، وأحضروا المترجمين من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة، وترجموا لهم الكتب اليونانية؛ لذلك برع هؤلاء الإخوة، وبلغ من مقدرتهم العلمية أن قاموا بقياس محيط الكرة الأرضية مستنِدين إلى المراجع والكتب التي أفادوا من دراستها.
ولا يَسعُ الإنسان في خِتام هذا المقال إلا أن يُسجِّل إعجابه بالدور البنّاء الذي قام به هؤلاء العلماء المسلمون للنهوض بالعلم والثقافة، والتغلب على الصِّعاب التي واجهتهم، وتركوا للأجيال تراثًا خالدًا رفع من شأن الحضارة الإسلامية، واستفاد منهم الغرب في نهضتهم، وأواصل بحث هذا الموضوع في حلقات قادمة.
د. عصام الدين عبدالرؤوف
لم يمضِ أكثر من مائة عام على ظهور الإسلام، حتى شرع المسلمون في العِلم على تدوين العلوم الشرعيَّة ودراسة العلوم الطبيعية، حتى نبغ منهم علماء، أجمع المؤرخون في الشرق والغرب على السواء: أن دراساتِهم ومصنَّفاتهم كان لها أكبر الأثر في نموِّ الثقافة العالمية وازدهارها في عالمنا المعاصر.
فلما اتَّسعتِ الدولة الإسلامية، واستقرَّت أمورها في العصر العباسي الأول، وضمَّت إليها شعوبًا متعددة، أبرز علماءُ هذه الشعوب مواهبَهم، فأقبل الفرس - بعد أن أحسن الخلفاء العباسيُّون معاملتَهم - على بغداد بعد تأسيسها، وأقاموا واستقرُّوا فيها، وكان الفرس قد بلغوا درجةً كبيرة من التقدُّم في مضمارِ الحياة الثقافيَّة، ودفَعهم اعتناقُ الإسلام والاندماج في الحياة العامة إلى تعلُّم اللغة العربيَّة، فنقلوا خُلاصةَ معارفهم من الفارسية إلى العربية، وصنَّفوا مصنفاتٍ قيِّمة في العلوم العربية والدينية والطبيعية.
ومن أسباب تَقدُّم الحياة الثقافيَّة في الدولة الإسلامية أن أهل الذمة حظوا برعاية الخلفاء من بني العباس، وقدَّروا ذوي المواهب منهم، وبذلك أتيحت لهم الفرصة لإبراز مقدرتِهم العلميَّة، وكان لمعرفتِهم باللغات الأجنبية - خصوصًا اليونانيَّة والسريانية - سبب في اعتماد الخلفاء عليهم في حركة الترجمة إلى اللغة العربية.
ولما اتَّسع نِطاق العِلم، ظهرت الحاجة إلى الاستفادة من العلوم التي تَوصَّل إليها المسلمون في العصر العباسي الأول، فقسَّم العلماء العلومَ إلى نقليَّة تتَّصِل بالقرآن الكريم، وتشمل: (علومَ التفسير والقراءات، وعلم الحديث والفقه، وعلم الكلام، وعلوم اللغة: كالنحو والصرف والشعر والبيان، والنوع الثاني من العلوم يُسمَّى العلوم العقليَّة، ويشمل الفلسفة والطب، وعلم النجوم والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والموسيقا والرياضيات).
كان الذي يتحمَّل نقلَ الشريعة القرَّاء - أي قراء كتاب الله والسُّنة المأثورة - لأنهم لم يعرفوا الأحكامَ الشرعيَّة إلا منه ومن الحديث الذي هو في الغالب تفسير وشرح له، وكانوا يَنقُلون معارفَهم شفاهة، ثم احتيج إلى وضْع التفاسير القرآنيَّة وتدوين الحديث؛ مخافة ضياعهما، واحتيج إلى معرفة الأسانيد والتأكُّد من صحتها، ثم احتيج إلى استنباط لأحكام من القرآن والسُّنة، يُضاف إلى ذلك فسادُ اللسان، فظهرت الحاجة إلى وضْع القوانين النَّحْوية، وصارت العلوم الشرعيَّة كلها مادة الاستنباط والاستخراج والقياس.
وقد تمَّ تدوين العلوم في مستهلِّ العصر العباسي الأول في كُتبٍ تَداولها الناس، وكان الورق الذي يُستعمَل في الكتابة البردي، ويُجلَب من مصر، ثم استُعمِل ورقٌ يُسمَّى (الكاغد) كان يُجلَب من الصين، وتَقدَّم فنُّ الوراقة في الدولة الإسلامية تَبَعًا للتقدم العلمي وإقبال العلماء على نشْر مؤلَّفاتهم، ويُقصَد بالوراقة نسْخ الكتب وتصحيحها وتجليدها، وكل ما يتعلَّق بإخراج الكتاب، وكان الورَّاقون يبيعون هذه الكتبَ في دكاكينهم، والمهتمون بالحياة الثقافية يتردَّدون على هذه الدكاكين؛ للقراءة أو لشراء ما يَلزَمهم من الكتب والمصنفات، ودكاكينهم كانت أشبه بالمكتبات العامة في يومنا هذا، ويُروى أن الجاحظ كان يَبيت في دكاكين الورَّاقين للقراءة، ولا يعلم بظهور كتاب إلا وبحث عنه.
ولم يكن في الدولة الإسلامية مدارس يتلقَّى فيها الطلاب تعليمهم، وإنما كانت بها كتاتيب يتثقَّف فيها الصبيان ثقافةً عامَّة: يحفظون القرآن الكريم، ويتعلمون القراءة والكتابة والحساب، ويتقاضى المعلم أجرًا على عمَله، والدراسة في الكتاتيب أشبه بالدراسة في المدارس الابتدائية في يومنا هذا.
أما الدراسة المتخصِّصة فكان مقرُّها المسجد، وضمَّتِ المساجد حلقاتٍ يَدرُس فيها الطلابُ مختلفَ العلوم، ويقوم بالتدريس فيها رجال العِلم من المشايخ؛ فهناك حلْقة للفقه وحلقة للتفسير وحلقة للحديث وحلقة لعلم الكلام، والطالب يتردَّد على الحلقة التي تتناسب مع ميوله للون معين من العلم، وشيخ الحلقة يتقاضى أجرًا نظير مهمَّته، ولم تكن الدولة تتدخَّل في هذه الدراسة، وما يجري فيها من مناقشات، واقتصر إشرافها فقط على عدم تَعارُض الدراسة وما يجري فيها من مناقشات مع تعاليم الدين أو مع سياسة الدولة العامة، وإذا كان شيخ الحلقة ميسورًا، فإنه يؤدي مهمته مجانًا ابتغاء مرضاةِ الله، فالإمام أبو حنيفة كان يعمل بزازًا - أي بائع أقمشة - وفي نفس الوقت يقوم بالتدريس، والطلاب الذين يتردَّدون على هذه الحلقات لا يستمرون فيها إلا إذا تأكَّد الشيخ من جديَّته وإقباله على الدراسة، وذلك من خلال مناقشته له، ولقد أظهرت هذه الحلقات مواهبَ كبيرة، فنبغ من حلقة الأمام أبي حنيفة القاضي أبو يوسف، والشيخ يُجدِّد المنهج الذي يُدرِّسه لطلابه في المسجد.
وبلغ من شغفِ الناس في الدولة الإسلاميَّة بالعلم أنهم كانوا يرحلون إلى المدن الكبرى للاتصال بالعلماء المشهورين؛ للاستزاده من عِلْمهم وفضْلهم، والناس يأخذون معارفهم تارة عِلمًا وتعليمًا، وتارة إلقاء ومحاكاة وتقليدًا بالمباشرة، فعلى قدْر كثرة الشيوخ تكون حصول المَلَكات ورسوخها، وهذا لمن يَسَّر الله له طرق العلم والهداية.
وهكذا رحل علماء الحديث واللغة والأدب لطلب العلم، فرحل علماء الحديث إلى البلاد المختلفة يُقيِّدون الحديثَ، ويقال: إن جابر بن عبدالله بلَغه حديث عن رجل من أصحاب رسول الله، فابتاع بعيرًا فشدَّ عليه رحلَه، ثم سار شهرًا، حتى قَدِم الشام، بل كان منهم من يرحل في حرف، وقال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة، ما رأيتُ أن سفره ضاع.
كذلك رحل الأدباء إلى نواحي المملكة الإسلامية يأخذون من أدبائها؛ فالخليل بن أحمد والأصمعي والكسائي وغيرهم يرحلون إلى البادية، ويسمعون من أهلها اللغة والأدب، ويُسجِّلون ما يستمعون إليه، ورحل طلاب الفلسفة والعلوم الطبيعية كالكيمياء والطب والصيدلة والرياضيات إلى القسطنطينيَّة لابتياع الكتب اليونانية التي تتضمَّن هذه العلوم وترجمتها إلى العربية والإفادة منها، وأرسل الخليفة المأمون بعثةً إلى القسطنطينية لإحضار كتب اليونان وترجمتها، ومن أبرز الرحَّالة حنين بن إسحاق الذي ذهب إلى بلاد الروم، وأجاد تعلُّم اليونانية ثم عاد إلى البصرة، ورحل في نواحي العراق وسافر إلى الشام والإسكندرية يجمع الكتب النادرة.
وكان أبو زيد البلخي شغوفًا بدراسة العلوم الطبيعية، غير أنه كان فقيرًا، فرحل إلى نواحي العراق راجلاً، وأقام هناك عدة سنوات ثم رحل إلى البلاد المجاورة، ولقي العلماء واستفاد منهم فائدة كبيرة، وتتلمذ على العالم والفيلسوف الكبير الكندي، وتتلمذ عليه في علوم الفلسفة والفلك والطب والأخلاق.
وهكذا رحل طلاب العِلم في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية للدراسة والبحث لا يعوقهم فقرٌ، ولا يَفُتّ في عزْمهم صعوبةُ الطريق وأخطاره؛ أي: آمنوا وأيقنوا أن طلب العلم جِهاد، فمن مات في سبيله مات شهيدًا، وأصبح العِلم عند الكثيرين مقصدًا لا وسيلة، يُقصَد لذاته ويرغب فيه للاستمتاع به، سواء هُيِّئ لطالبه رغد العيش أو أدَّى به إلى الفقر.
ومن أسباب ازدهار الحركة العلميَّة في الدولة الإسلامية: انتشار المجالس التي تَضُم العلماء في القصور والدور والمساجد؛ حيث يَتناظرون فيها في فروع العلم المختلفة، وقد حرص الخلفاء على إقامة هذه المجالس، ومما لا شك فيه أن هذه المناظرات أدَّت إلى رواج الحياة الثقافية، وأن المناظرة إذا كانت تتم أمام خليفة أو أحد كبار رجال الدولة، فإن المشتركين فيها يَحرِصون على إتقان مادتهم العلمية، حتى يدعم رأيه بالأسانيد العلميَّة المعقولة والمقبولة، ويحظى بتقدير الحاضرين، وكان للخلافات في الرأي أثر كبير في تقدُّم الحركة العلمية؛ ذلك أنها شجَّعتِ العلماء على مواصلة الدرس والبحث.
شجَّع الخلفاء العباسيون الناسَ على الإقبال على الدراسة والبحث، فالخليفة الرشيد يأمر ولاته على الأقاليم في دولته برفع رواتب من يُقبِل على طلبِ العلم، ويَعمُر مجالس العلماء ومقاصد الأدب، وروى الحديثَ وتفقَّه في الدين، وبلَغ من تشجيع الرشيد الناس على التعلم أن الغلام في عهده كان يحفظ القرآن، وهو ابن ثماني سنين، ويستبحِر في الفقه ويروي الحديث ويُناظِر المعلِّمين وهو ابن أحد عشر عامًا.
وقد حذا المأمون حذو أبيه الرشيد في العلم على رواج الحركة العلميَّة، وأشرف على أضخم يقظةٍ فكريَّة في تاريخ الإسلام ووجَّهها خير توجيه، وكانت هذه اليقظة الفكرية كما يقول (ناثنج): من أهم اليقظات في التاريخ كله، حتى إن بغداد تحوَّلت في عصر المأمون إلى مركز العلم والثقافة في العالم كله في وقت لم يكن في استطاعة زعماء أوربا مجرد كتابة أسمائهم، فحبُّه العميق للعلوم والفنون حوّل بغداد إلى مركز للثقافة والعلم يفوق ما عداه في عالم يومه، فقام برعاية الشعر وعلوم الدين والفلسفة والفلك، وكان يُشجِّع رجال العلم على مواصلة البحث ويستورِد رجال العلم بغض النظر عن أديانهم و***يَّاتهم، هؤلاء جميعًا كانوا موضع رعاية وتكريم المأمون، وكان للمناخ المناسب الذي هيَّأه لهم هذا الخليفة سببًا في إبراز معارفهم وقدراتهم الخلاقة، وعلى ذلك ظهرت ثقافات متنوِّعة في الدولة الإسلامية.
ويرتبط بظهور الحركة العلميَّة ونشاطها في الدولة الإسلامية المحافظة على الكتب، ومن هنا أقيمت المكتبات في الدولة، ومن أهمها بيت الحكمة الذي كان يَضُم كتبًا في علوم مختلفة، وأضاف الخلفاء إلى بيت الحكمة كتبًا بلغات متعدِّدة، مِثل العربية والفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية وبعض اللغات الهندية.
أنفق الخلفاء أموالاً طائلة لتزويد بيت الحكمة بالكتب القيِّمة، ويعمل في بيت الحكمة علماء تنوَّعت ثقافتهم ومعارفهم، وكان العلماء في الدولة الإسلامية يُودِعون نسخًا من مؤلفاتهم في بيت الحكمة، ويلحق ببيت الحكمة علماء تنوَّعت ثقافتهم، وصاحب بيت الحكمة يُشرِف على العاملين فيه، وعليه أن يرتِّبَ الكتبَ ويُفهرِسها ويُصنِّفها ويُشرِف على النساخ والناسخ، ويَنسخ ما يُطلَب منه نظير أجر، وعليه أن يُرتِّب أوراقَ كلِّ نسخة بعد جمعها أو إصلاح ما قد يظهر فيها من أخطاء، والخليفة يُعيِّن المترجمين في بيت الحكمة، ويُعيِّن لهم رئيسًا يتفقَّد أعمالهم، ويُراجعها ويُصحِّحها؛ وبذلك أسهم بيت الحكمة في ترجمة كتب في علوم مختلفة ولغات متعددة، وكان المترجم يُملي الكتابَ الذي ترجمه على عدد من النساخ حتى تتعدَّد نسخُ الكتاب الواحد، وتُجلَّد هذه الكتب وتُودَع نُسخ منها في بيت الحكمة حيث تتاح الفرصة للقراء للاطلاع عليها.
وقد انتشرت المكتبات في بيوت الأغنياء وكبار رجال الدولة والأدباء، فكان لدى إسحاق الموصلي - نديم الرشيد - ألف جزء من لغات العرب، ومحمد بن عمر الواقدي خلف بعد وفاته ستمائة قمطر كتبًا، كل قمطر منها حمل رجلين، وكان له غلامان مملوكان يكتبان له الليل والنهار، ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر من كتب الجاحظ.
لم تَقتصِر جهود الخلفاء العباسيين على تشجيع العلوم الدينية، بل عُنوا بالعلوم الطبيعيَّة أيضًا، فالخليفة اليأس المنصور أول خليفة تُرجِمت له الكتب من اللغات الأجنبية إلى العربية، منها كتاب "كليلة ودمنة"، وكتاب "السِّند هند" في الفلك وكتب أرسطو وإقليدس وبطليموس وسائر الكتب القديمة، التي عُثِر عليها، وأخرجت إلى الناس بعد ترجمتها، فنظروا فيها وأقبلوا على دراستها.
وكان للسريان فيما بين النهرين - شمال العراق - نحو خمسين مدرسة لتعليم العلوم السريانيَّة واليونانية، وتَضُم هذه المدارس مكتبات، وكان بلاد العراق منذ أيام الإسكندرية متأثِّرة بالحضارة اليونانية، وكان في بلاد السريان كثير من الكتب المترجمة لا في الآداب النصرانيَّة وحدها، بل أيضا تَراجم لمؤلفات أرسطو وجالينيوس وأبقراط، إذا كان هؤلاء محور الدائرة العلميَّة في ذلك العصر، والسريان نقلته الثقافة اليونانية إلى الفرس قبل الإسلام، ولما شرع العباسيون في ترجمة كتب اليونان، كان السريان خير مَعين لهم في ذلك؛ إذ ترجموا الكتب اليونانية التي نقلوها من قَبْل للسريانية إلى اللغة العربية، وأضافت هذه الكتب إلى الثقافة العربية أبحاثًا جديدة في الطب والفلك والموسيقا والفلسفة والكيمياء والصيدلة، وأضاف العلماء العرب إلى هذه الكتب خلاصة معارفهم وتجارِبهم.
وهذا الازدهار الثقافي الذي شمل كافَّةَ فروع العلم والمعرفة، أبرز علماء موسوعيين برعوا في علوم متعدِّدة، وصنَّفوا مصنفاتٍ قيِّمة في العلوم الدينية والعربية والطبيعية، وبذلوا في سبيل ذلك جهودًا مضنية، مثل الإخوة محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر كانت لهم هممٌ عالية في تحصيل الكتب القديمة، وكتب الأوائل، وأنفذوا إلى البلاد مَن اشتراها لهم، وأحضروا المترجمين من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة، وترجموا لهم الكتب اليونانية؛ لذلك برع هؤلاء الإخوة، وبلغ من مقدرتهم العلمية أن قاموا بقياس محيط الكرة الأرضية مستنِدين إلى المراجع والكتب التي أفادوا من دراستها.
ولا يَسعُ الإنسان في خِتام هذا المقال إلا أن يُسجِّل إعجابه بالدور البنّاء الذي قام به هؤلاء العلماء المسلمون للنهوض بالعلم والثقافة، والتغلب على الصِّعاب التي واجهتهم، وتركوا للأجيال تراثًا خالدًا رفع من شأن الحضارة الإسلامية، واستفاد منهم الغرب في نهضتهم، وأواصل بحث هذا الموضوع في حلقات قادمة.