مشاهدة النسخة كاملة : الإسلام لا يصطدم بالحضارات الأخرى ولكنه يتفاعل معها أخذاً وعطاءً


ابو وليد البحيرى
25-05-2015, 12:30 AM
الإسلام لا يصطدم بالحضارات الأخرى ولكنه يتفاعل معها أخذاً وعطاءً
أ· د/ محيي الدين عبدالحليم


تؤكد الحقائق القرآنية عدم صحة الأفكار التي حملتها نظرية صمويل هينتنجتون حول صراع الحضارات، وتدمغ هذه الحقائق فساد المبادئ التي قامت عليها هذه النظرية التي ترى في الإسلام عدواً بديلاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وفي الحقيقة أن الحملة على الإسلام وحضارته أسبق من نظرية هينتنجتون، كما أنها أسبق من أحداث التفجيرات الأخيرة التي روعت نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، فالكتب التي نشرت، والأفلام التي صدرت، والمؤلفات التي ظهرت إلى الوجود في الغرب تشير إلى أن الصراع لا يمكن أن ينتهي فوق هذا الكوكب طالما بقي الإسلام قائماً كدين وفكر وعقيدة·
مشكلة الرأي العام الغربي:
وتكمن المشكلة في أن الرأي العام الغربي يصدق هذه الأكاذيب التي تصب في وجدانه هذه السموم القاتلة والمفاهيم الخاطئة، وليس أدل على ذلك من الاعتداءات التي يتعرض لها المسلمون الآن في الشوارع والمحافل العامة في كثير من الدول الغربية بفعل هذه الحملات الظالمة·
ولو صحت هذه الأفكار لما حدث التفاعل المثمر بين الإسلام والغرب في مختلف عصور التاريخ، فالحضارة الإسلامية استفادت من المعطيات الفكرية التي أفرزتها أدمغة العلماء في الحضارات القديمة، وأقام علماء المسلمين نظريات جديدة كانت هي الأساس الذي قامت عليه الحضارة الأوروبية بعد ذلك في مختلف ميادين العلم والمعرفة، ولو صحت الأفكار التي قدمها هينتنجتون لاصطدمت الحضارة الإسلامية مع الحضارة اليونانية في العصور الوسطى، ثم مع الحضارة اليونانية في العصور الوسطى، ثم مع الحضارة الأوروبية في العصور الحديثة، ولما حدثت هذه القفزات الواسعة التي حققتها البشرية في علوم الفلسفة والتاريخ والاجتماع، وفي ميادين الطب والكيمياء والطبيعة والرياضيات·
تهافت آراء هينتنجتون:
ولو كلف هينتنجتون نفسه واستعرض الإبداعات التي قدمتها الحضارة الإسلامية للبشرية لأدرك أن هذا الدين دون سائر الرسالات التي سبقته أوجب على متبعيه الإيمان بجميع الرسل والأنبياء، أي أن الإسلام يعتبر أن الإيمان ببعض الرسل دون بعض هو بمثابة خروج عن دين الله وهديه، من أجل هذا ألزم المسلمين جميعاً أن يقروا بنبوة كل الرسل ديناً وعقيدة مؤكداً أن الحقيقة الإلهية واحدة يمكن أن يلتقي عندها المتدينون جميعاً فوق أحقاد التعصب وفواصل الخلاف، والرسل جميعهم كما وصفهم النبي محمد في حديث له بناة بيت واحد يؤسس سابقهم للاحقهم، ويشيد لا حقهم على أساس سابقهم، وقد أخذ الله عليهم، في ذلك، العهد والميثاق:
(ولقد أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلك أصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين، فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)·
بروكلمان يشيد برسالة الإسلام
وفي هذا يقول كارل بروكلمان Brocklman أنه حين أرسل الله عيسى قبل محمد فقد أرسل رسلاً قبل عيسى، وحين تنبأ عيسى بمحمد، فقد تنبأ موسى بعيسى، ورسالة محمد كنبي خاتم، أرسله إلى العالم أجمع لكي يبلغ الناس بالرسالة الصحيحة التي حملها إبراهيم من قبل، وشوهتها الأحداث والأشخاص، وتأسيساً على ذلك فقد حمل الله أمانة الرسالة إلى هذا النبي الخاتم ليبلغها إلى البشرية جمعاء، وقد استشعر محمد هذه المسؤولية وحمل هذا النداء وبلغه لكل الناس·
وفي هذا الإطار يحافظ الإسلام على حقوق الناس جميعاً فالجميع لهم حق الحياة وحق التملك، وحق الحرية، وحق الانطلاق إلى الافاق الواسعة لكي يحصلوا على الرقي المقدر لهم سواء أكان مادياً أم أدبياً، وفي هذا يؤكد هذا الدين على أن الأصل الإنساني واحد مهما اختلفت الألوان والأجناس والقوميات، ولذلك وضع دستوراً للعلاقة المثلى بين الناس جميعاً حتى لا يجور قوي على ضعيف، أو غني على فقير، أو رجل على امرأة، ويعرف كل ذي حق حقه في مواجهة الآخرين·
وقد أعطى النبي مثلاً أعلى لمعاملة أهل الكتاب، فقد روي أنه كان يحضر ولائمهم ويشيع جنائزهم، ويعود مرضاهم، ويزورهم ويكرمهم، وكان يقترض منهم نقوداً ويرهنهم أمتعة، وكان يفعل ذلك لا عجزاً ولا ضعفاً ولكن تعليماً وإرشاداً لأمته، وليعطي المثل الأعلى للمسلمين للسير على منهاجه، ومعاشرة غيرهم من أهل الملل والنحل الأخرى في صفاء ووئام، فكان المسيحي واليهودي يجاوران المسلم فيتزاوران ويتهاديان لا يفصلهم إلا المسجد والكنيسة والمعبد، وهذا يعني أن الإسلام لا يفرق في مكارم الأخلاق وحقوق الاجتماع بين مسلم وغيره، بل إن الإسلام حث المسلمين على إغاثة الملهوفين من غير المسلمين حتى المشركين منهم (وإن أحد من المشكرين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)·
عدل الإسلام وسماحته:
وقد دل تاريخ المسلمين على أن تشريعهم يسمح لغير المسلم أن يقاضي أرفع الناس من المسلمين وينتصف منه، وقد نشأ المسلمون نشأتهم الأولى والدين أقوى حاكم على شعورهم، ولما انتشر العلم فيهم، ونبغ منهم المؤلفون والباحثون، لم تصب هذه النزعة فيهم أدنى انحراف بل زادوها رونقاً بما قاموا به من حماية علماء الملل الأخرى ومكافأتهم، وهذه من أهم الإيجابيات التي تسمح بلغة مشتركة والتي تشكل ركيزة أساسية للالتقاء بين المسلمين وجميع الأجناس البشرية حتى وإن كانوا ملاحدة أو مشركين·
وقد قرر الإسلام في معاملة غير المسلمين حقوقاً تضمن لهم الحرية في ديانتهم والمجال الفسيح في إجراء أحكامها بينهم، وإقامة شعائرها بإرادة مستقلة، وا***ع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني، وأقر بوجود زمالة عالمية بين أفراد النوع البشري، ولم يمانع من أن تتعايش الأديان السماوية جنباً إلى جنب، لأن العقائد أمر لصيق بالنفوس يصعب على المرء تغييرها دون تفكر وتدبر، والكل في الإنسانية وفي حق الحياة سواء، وفي هذا يؤكد المستشرق الإنجليزي توماس أرنولد أنه على الرغم من أن صفحات التاريخ قد تلوثت بدماء كثير من الاضطهادات القاسية، فقد ظل الملاحدة ينعمون في ظل الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح لم يشهد التاريخ لها مثيلاً في أوروبا حتى في عصور حديثة جداً·
وقد جاء في الأخبار النصرانية شهادة تؤيد مدى التسامح الإسلامي، وهي شهادة >عيشويابة< الذي تولى كرسي البطريركية من سنة 647 ـ 657هـ إذ يقول:
>إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قسيسينا وقديسينا ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا<·
وتدحض هذه الحقائق الظنون والأوهام التي رانت على عقول هؤلاء الذين يزعمون بحتمية الصراع بين الإسلام والغرب، والتي كشفت عن التعصب العنصري الذميم، لأن الإسلام يؤكد على أن الإنسانية كلها جديرة بالتكريم فوق هذا الكوكب بمقتضى الإرادة الإلهية، وهكذا نرى أن سماحة الإسلام ورحمته تمتد لتشمل بني البشر جميعهم، وهو الطريق الذي قرره القرآن الكريم حتى يشعر الجميع إنهم في ظل الإسلام في أمان لا خوف عليهم ولا افتئات على حقوقهم ولا جور على حقوق الآخرين·
ويعد هذا المبدأ الإسلامي مدخلاً هاماً لإيجاد تفاهم مشترك وحوار موضوعي بين المسلمين وغيرهم فيسمح لهم بأن يقدموا رسالتهم إلى الرأي العام العالمي الذي يعيش أسيراً لهذه الترهات والأباطيل التي يروجها المغرضون الذين يقيمون نظرياتهم على مفاهيم باطلة ومزاعم كاذبة·