ابو وليد البحيرى
25-05-2015, 04:30 AM
حديث عن التعليم (1)
د. محمد بن لطفي الصباغ
إن نهضةً في التعليم تقوم في أمتنا اليوم، ويؤسِفني أن أقرِّر أنها نهضة في عدد الطلاب لا في الكيف، وهي على أي حال نافعة، فالتحرر من الأمية كسب كبير، الأمل في المستقبل كبير، فلنحمد الله ولنُتابِع العمل.
وهناك ازدياد في عدد المدارس والطلاب في كل مستويات التعليم، وهذا ليس غريبًا على هذه الأمة التي تقرأ في كتابها المنزَّل من عند الله قولَه تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]، وكانت هذه الآيات أول ما نزل من القرآن.
نعم لقد كنا أمة أميَّة، وأكرمنا الله بهذا الرسول وبتلك الرسالة، فأدخلنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ميدان العلم من أوسع أبوابه، ولم تمضِ حِقبة طويلة حتى صِرنا أساتذة الدنيا، ونبَغ فينا علماء كبار نشروا العلم والمعرفة، فكان من جرَّاء ذلك أن تحقَّقت لهذه الأمة العزةُ والسيادة، والقوة والسعادة.
وُجِدت الكتاتيب في وقت مبكِّر، وقامت حلقات العلم في المساجد، وأُنشِئت المدارس، وقامت الجامعات المجانيَّة، تفتح أبوابها لكل راغب، وكانت الجامعة تُدعى مدرسة، وما زالت مبانيها قائمة في مصر والشام، فهناك في دمشق زقاق يدعونه (زقاق المدارس)، وقامت مدارس عدة في سفح جبل قاسيون، وسُمِّيت تلك البقعة بالصالحية[1]، أقامها آل قدامة أقاموا عددًا كبيرًا من المدارس، وأهمها المدرسة العمرية، والمدرسة الضيائيَّة، وقد ذكر أستاذنا شاكر مصطفى تفصيلات مهمَّة عن هاتين المدرستين، فذكر أن هناك وقفًا لخبز يُفرَّق فيها كل يوم ألف رغيف، وهو مستمر طوال السنة، ولها وقف للأطعمة اليوميَّة، ولها وقف على قمصان كل سنة لكل نازل، إلى آخر ما ذكر، وفيها مكتبة ضخمة.
وهذه الجامعات لا يَصدُّ طالبَ العلم عنها صادٌّ، بينما نرى اليوم صعوبات كثيرة تواجِه من يريد الالتحاق بالجامعة، فهناك النفقات الكبيرة التي يجب توافُرها لدى الطالب، وهناك شكليات القَبُول، وصعوبة تَجاوز الحدود المصطنعة التي أقامها المستعمر الكافر.
وكانت مواهب الإنسان وقدراته ومَلَكاته واستعداداته هي التي ترشِّحه للاستمرار والنجاح، أما الذين قَصُرت بهم مواهبهم وقدراتهم فيتركون يأخذون ما يأخذون، ولا يعدمون نفعًا مهما قلَّ.
وكان عدد الطلاب المقبِلين على مجالس العلم كبيرًا، ذكَر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد[2] قال: قال يحيى بن أبي طالب: سمعتُ يزيد بن هارون في المجلس ببغداد، وكان يقال: إن في مجلسه سبعين ألفًا، ويزيد هذا وُلِد سنة 118هـ وتوفي سنة 206هـ.
فقدِّر أيها القارئ الكريم هذا العدد الضخم من طلبة العلم الذين يَحضُرون هذا المجلس في بلد كبغداد، وفيها من أساطين العلم العدد الجم الغفير.
ويغلِب على ظني أن العدد المذكور جيء به للدلالة على كثرة الطلاب، وليس المراد به العدد الرقمي والله أعلم، وفي "تاريخ بغداد" و"أدب الإملاء والاستملاء" أخبار كثيرة تدلُّ على كثرة الطلاب في تلك الأيام.
وليس الأمر مقصورًا على بغداد، بل هناك المدن الكثيرة التي كان يشع منها نورُ العلم والمعرفة كالبصرة والكوفة ومكة والمدينة ودمشق والأندلس وبخارى، وغيرها من مدن العلم ومراكزه، وفي هذه البلاد كلها مجالسُ على غِرار مجلس يزيد بن هارون، إن ذلك ليَدُل على كثرة الإقبال على طلب العلم في هذه الأمة.
وهؤلاء الطلاب يُقبِلون على العلم للعلم؛ ومن أجل ذلك نبغ أصحاب المواهب يُبدِعون ويتركون للأجيال المقبلة زادًا وفيرًا قيمًا من المعرفة والفكر.
وأما العامة، فلم يكونوا بمنأى عن العلم، لقد كانوا يتلقَّون في الكتاتيب مبادئ القراءة والكتاب والحساب والأحكام الفقهيَّة في العبادة والمعاملات، وإذا ختم أحدهم القرآن، قام الشيخ بإعداد احتفال مناسب، وذهب بالطلاب كلهم إلى بيت هذا الطالب، يُردِّدون في الطريق الأناشيد الدينية، وقام ولي الطالب بإكرام الطلاب بحسب قدرته المالية، وعمَّت الفرحة الأسرة، ثم يَنصرِف الطالب إلى الحياة العملية، وفي الغالب يكون في عمل أبيه، فيتدرَّب مع أبيه في العمل حتى يُتقِن المهنة، وقد يبقى مع أبيه وقد يَستقِل بالعمل وحده.
ومن الملاحظ الآن أن معظم الطلاب يتَّجِهون إلى التعليم العام، وقليل منهم من يتَّجِه إلى التعليم المهني، إلى المدارس الصناعية والزراعية والتجارية ونحوها، إن التحاق بعض الطلاب بالتعليم المهني يُلبِّي حاجة المجتمع في مجالات الصناعة والزراعة والكهرباء والسباكة ونحوها من جِهة، ويُحقِّق فائدة عظمى للطلاب الذين لا ميل لديهم للدراسة العلميَّة من جِهة أخرى، إننا نخشى بعد حين أن يخرج التعليم العام أجيالاً من الخريجين لا مكان لهم في وظائف الدولة، وتنتشر البطالة وتزداد، إن هذا الواقع يحتاج إلى مزيد من الدراسة والنظر.
إن التعلُّم لتحصيل العلم وللعمل به ولنشره كان هو السائد في تاريخنا في الماضي الأغر في أمتنا، أما الآن، فقد أضحى التعلم لتحصيل الشهادة ثم بلوغ الوظيفة، هذا ما آل إليه التعليم المعاصر في الغالب، يحفظ الطالب المعلومات ويَختزِنها ليوم الامتحان، فإذا انتفتِ الحاجة إليها، سرعان ما تأخذ طريقَها إلى النسيان، وكثيرًا ما يكون الحفظ مجرَّدًا عن الفَهْم، وذلك يكون أدعى إلى سرعة ذَهابها.
إن علماءنا المتقدمين كانوا واثقين بأنفسهم، مُعتزِّين بثقافتهم، ونَتَج عن هذا نبوغ أصحاب المواهب والطاقات.
ونحن نحتاج اليوم أن يكون ذلك الواقع قائمًا في علمائنا المعاصرين، وذلك بأن يكونوا واثقين بأنفسهم وبقدرتهم على أن يأتوا بالنافع للناس في مجالات العلم النظريَّة والعملية، وبأن يتحرَّروا من الانبهار بما وصل إليه الآخرون، ومن العبوديَّة الفكرية التي تسرَّبت إلى بعضهم.
ويجب أن يُوفَّر لهم التكريم من قِبَل الدولة، والاحترام والتعاون من قِبَل زملائهم المثقَّفين.
نسأل الله أن يوفِّقنا لما يرضيه، والحمد لله رب العالمين.
[1] انظر: كتاب أستاذنا د. شاكر مصطفى (آل قدامة والصالحية) من حوليات كلية الآداب في الكويت سنة 1402 (1982).
[2] تاريخ بغداد 14: 346 وانظر تهذيب التهذيب؛ لابن حجر 11: 368.
د. محمد بن لطفي الصباغ
إن نهضةً في التعليم تقوم في أمتنا اليوم، ويؤسِفني أن أقرِّر أنها نهضة في عدد الطلاب لا في الكيف، وهي على أي حال نافعة، فالتحرر من الأمية كسب كبير، الأمل في المستقبل كبير، فلنحمد الله ولنُتابِع العمل.
وهناك ازدياد في عدد المدارس والطلاب في كل مستويات التعليم، وهذا ليس غريبًا على هذه الأمة التي تقرأ في كتابها المنزَّل من عند الله قولَه تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]، وكانت هذه الآيات أول ما نزل من القرآن.
نعم لقد كنا أمة أميَّة، وأكرمنا الله بهذا الرسول وبتلك الرسالة، فأدخلنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ميدان العلم من أوسع أبوابه، ولم تمضِ حِقبة طويلة حتى صِرنا أساتذة الدنيا، ونبَغ فينا علماء كبار نشروا العلم والمعرفة، فكان من جرَّاء ذلك أن تحقَّقت لهذه الأمة العزةُ والسيادة، والقوة والسعادة.
وُجِدت الكتاتيب في وقت مبكِّر، وقامت حلقات العلم في المساجد، وأُنشِئت المدارس، وقامت الجامعات المجانيَّة، تفتح أبوابها لكل راغب، وكانت الجامعة تُدعى مدرسة، وما زالت مبانيها قائمة في مصر والشام، فهناك في دمشق زقاق يدعونه (زقاق المدارس)، وقامت مدارس عدة في سفح جبل قاسيون، وسُمِّيت تلك البقعة بالصالحية[1]، أقامها آل قدامة أقاموا عددًا كبيرًا من المدارس، وأهمها المدرسة العمرية، والمدرسة الضيائيَّة، وقد ذكر أستاذنا شاكر مصطفى تفصيلات مهمَّة عن هاتين المدرستين، فذكر أن هناك وقفًا لخبز يُفرَّق فيها كل يوم ألف رغيف، وهو مستمر طوال السنة، ولها وقف للأطعمة اليوميَّة، ولها وقف على قمصان كل سنة لكل نازل، إلى آخر ما ذكر، وفيها مكتبة ضخمة.
وهذه الجامعات لا يَصدُّ طالبَ العلم عنها صادٌّ، بينما نرى اليوم صعوبات كثيرة تواجِه من يريد الالتحاق بالجامعة، فهناك النفقات الكبيرة التي يجب توافُرها لدى الطالب، وهناك شكليات القَبُول، وصعوبة تَجاوز الحدود المصطنعة التي أقامها المستعمر الكافر.
وكانت مواهب الإنسان وقدراته ومَلَكاته واستعداداته هي التي ترشِّحه للاستمرار والنجاح، أما الذين قَصُرت بهم مواهبهم وقدراتهم فيتركون يأخذون ما يأخذون، ولا يعدمون نفعًا مهما قلَّ.
وكان عدد الطلاب المقبِلين على مجالس العلم كبيرًا، ذكَر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد[2] قال: قال يحيى بن أبي طالب: سمعتُ يزيد بن هارون في المجلس ببغداد، وكان يقال: إن في مجلسه سبعين ألفًا، ويزيد هذا وُلِد سنة 118هـ وتوفي سنة 206هـ.
فقدِّر أيها القارئ الكريم هذا العدد الضخم من طلبة العلم الذين يَحضُرون هذا المجلس في بلد كبغداد، وفيها من أساطين العلم العدد الجم الغفير.
ويغلِب على ظني أن العدد المذكور جيء به للدلالة على كثرة الطلاب، وليس المراد به العدد الرقمي والله أعلم، وفي "تاريخ بغداد" و"أدب الإملاء والاستملاء" أخبار كثيرة تدلُّ على كثرة الطلاب في تلك الأيام.
وليس الأمر مقصورًا على بغداد، بل هناك المدن الكثيرة التي كان يشع منها نورُ العلم والمعرفة كالبصرة والكوفة ومكة والمدينة ودمشق والأندلس وبخارى، وغيرها من مدن العلم ومراكزه، وفي هذه البلاد كلها مجالسُ على غِرار مجلس يزيد بن هارون، إن ذلك ليَدُل على كثرة الإقبال على طلب العلم في هذه الأمة.
وهؤلاء الطلاب يُقبِلون على العلم للعلم؛ ومن أجل ذلك نبغ أصحاب المواهب يُبدِعون ويتركون للأجيال المقبلة زادًا وفيرًا قيمًا من المعرفة والفكر.
وأما العامة، فلم يكونوا بمنأى عن العلم، لقد كانوا يتلقَّون في الكتاتيب مبادئ القراءة والكتاب والحساب والأحكام الفقهيَّة في العبادة والمعاملات، وإذا ختم أحدهم القرآن، قام الشيخ بإعداد احتفال مناسب، وذهب بالطلاب كلهم إلى بيت هذا الطالب، يُردِّدون في الطريق الأناشيد الدينية، وقام ولي الطالب بإكرام الطلاب بحسب قدرته المالية، وعمَّت الفرحة الأسرة، ثم يَنصرِف الطالب إلى الحياة العملية، وفي الغالب يكون في عمل أبيه، فيتدرَّب مع أبيه في العمل حتى يُتقِن المهنة، وقد يبقى مع أبيه وقد يَستقِل بالعمل وحده.
ومن الملاحظ الآن أن معظم الطلاب يتَّجِهون إلى التعليم العام، وقليل منهم من يتَّجِه إلى التعليم المهني، إلى المدارس الصناعية والزراعية والتجارية ونحوها، إن التحاق بعض الطلاب بالتعليم المهني يُلبِّي حاجة المجتمع في مجالات الصناعة والزراعة والكهرباء والسباكة ونحوها من جِهة، ويُحقِّق فائدة عظمى للطلاب الذين لا ميل لديهم للدراسة العلميَّة من جِهة أخرى، إننا نخشى بعد حين أن يخرج التعليم العام أجيالاً من الخريجين لا مكان لهم في وظائف الدولة، وتنتشر البطالة وتزداد، إن هذا الواقع يحتاج إلى مزيد من الدراسة والنظر.
إن التعلُّم لتحصيل العلم وللعمل به ولنشره كان هو السائد في تاريخنا في الماضي الأغر في أمتنا، أما الآن، فقد أضحى التعلم لتحصيل الشهادة ثم بلوغ الوظيفة، هذا ما آل إليه التعليم المعاصر في الغالب، يحفظ الطالب المعلومات ويَختزِنها ليوم الامتحان، فإذا انتفتِ الحاجة إليها، سرعان ما تأخذ طريقَها إلى النسيان، وكثيرًا ما يكون الحفظ مجرَّدًا عن الفَهْم، وذلك يكون أدعى إلى سرعة ذَهابها.
إن علماءنا المتقدمين كانوا واثقين بأنفسهم، مُعتزِّين بثقافتهم، ونَتَج عن هذا نبوغ أصحاب المواهب والطاقات.
ونحن نحتاج اليوم أن يكون ذلك الواقع قائمًا في علمائنا المعاصرين، وذلك بأن يكونوا واثقين بأنفسهم وبقدرتهم على أن يأتوا بالنافع للناس في مجالات العلم النظريَّة والعملية، وبأن يتحرَّروا من الانبهار بما وصل إليه الآخرون، ومن العبوديَّة الفكرية التي تسرَّبت إلى بعضهم.
ويجب أن يُوفَّر لهم التكريم من قِبَل الدولة، والاحترام والتعاون من قِبَل زملائهم المثقَّفين.
نسأل الله أن يوفِّقنا لما يرضيه، والحمد لله رب العالمين.
[1] انظر: كتاب أستاذنا د. شاكر مصطفى (آل قدامة والصالحية) من حوليات كلية الآداب في الكويت سنة 1402 (1982).
[2] تاريخ بغداد 14: 346 وانظر تهذيب التهذيب؛ لابن حجر 11: 368.