ابو وليد البحيرى
25-05-2015, 11:27 PM
الحياة الفكرية في مصر في عصر الدولة الإخشيدية (1/ 17)
إبراهيم السيد شحاتة عوض
المقدمة
تُعتَبر الدولة الإخْشيدية (323 - 358هـ) هي المحاولة الاستقلاليَّة الثانية الناجحة في تاريخ مصر الإسلاميَّة، وقد سميت هذه الدولة بهذا الاسم نسبةً إلى مُؤسِّسها أبي بكر محمد بن طغج الإخْشيد.
وقد انصبَّت دراستي على أبرز الجوانب الحضاريَّة في مصر في عهد تلك الدولة، فاختصَّت دراستي ببيان "الحياة الفكرية في مصر في عصر الدولة الإخْشيدية (323 - 358هـ)".
وقد اخترت هذا الموضوع نظرًا لأهميَّته؛ حيث وصلت الحركة العلميَّة والأدبيَّة أوج تطوُّرها وتقدُّمها في مصر في عصر تلك الدولة، باعتبارها - بعد الدولة الطولونية - الفترة التي وُضِعَ فيها أساس استقلال مصر عن الخلافة العباسيَّة، وباعتبارها دليلاً من الأدلَّة التي تُدلِّل على استمرار الحياة الفكريَّة في طريق تقدُّمها رغم ما حدَث للدولة العباسيَّة من تفرُّق وتشتُّت وانقِسام، فقد حرص حكَّام الدولة المستقلَّة على نشر العلم، والتشجيع عليه، وتحلية بلاطهم بأهله.
وقد قسَّمت موضوع البحث إلى تمهيد، وأربعة مباحث، وخاتمة وملاحق.
وقد تناوَلت في التمهيد الحديث عن الدولة الإخْشيديَّة: نشأتها، مُؤسِّسها، أهم الأحداث السياسيَّة التي مرَّت بها إلى أنْ سقطت، وخصصت المبحث الأول لـ"عوامل ازدهار الحياة الفكرية في تلك الدولة"، وأشرت إلى انقسام الدولة العباسيَّة، وتشجيع أمراء تلك الدولة للعلم وأهله، وكذلك أشرت إلى مراكز النشاط الفكري وتعدُّده، وبيَّنت كيف أثَّر كلُّ ذلك في ازدهار الحياة الفكريَّة في مصر في عصر تلك الدولة، ثم جعلت المبحث الثاني للحديث عن "العلوم النقلية"، التي تتمثَّل في: الحديث، والتفسير، والقراءات، والفقه، والتصوف، وعلم الكلام، وجعلت المبحث الثالث "للعلوم اللسانية العربيَّة"، التي تتمثَّل في الأدب بفرعَيْه: الشِّعر والنثر، وكذلك اللغة والنحو، ثم خصصت المبحث الرابع والأخير للحديث عن "العلوم العقلية" التي تمثَّلت في الطب والهندسة والفلك والفلسفة، بالإضافة إلى الحديث عن علم التاريخ، وأهم مُؤرِّخي تلك الفترة، وكيف أسهموا في هذا العلم، وقد حرصت في كلِّ هذه المباحث على توضيح مَدَى ازدِهار تلك العلوم جمعيها، وبيان سبب ازدِهارها.
وتضمَّنت ملاحق البحث بعضَ الرسائل النثريَّة الأدبيَّة التي كُتِبت في ذلك العصر، وكانت خيرَ دليل على تقدُّم فنِّ النثر فيه.
وفي الخاتمة عرضت لأهمِّ وأبرز النتائج العلميَّة التي توصَّلت إليها من خلال بحثي هذا.
وقد اعتمدت في بحثي على مجموعةٍ من المصادر، بعضها يستحقُّ أنْ أخصَّه ببعض الإشارة في تلك المقدمة على النحو التالي:
1- لقد اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على كتابي: "ولاة مصر"، و"قضاة مصر"؛ لمحمد بن يوسف بن حفص بن يوسف الكندي (283هـ/350هـ)، وقد أفدت من كتاب "الولاة" في حديثي عن الإخْشيد نفسه، فالكتاب مصدرٌ تاريخي عظيمٌ يضمُّ تاريخَ مصر منذ فتَحَها العرب حتى وليها أبو القاسم "أنوجور" ابن الإخْشيد، وتحدَّث الكندي في كتاب "قضاة مصر" عمَّن ولي القضاءَ في مصر من سنة 23هـ إلى سنة 246، وقد أكمَلَ أحمد بن عبدالرحمن بن برد هذا الكتاب إلى سنة 336هـ، وقد أفدت من تلك التكملة عند حديثي عن الفقه.
2- ومن أهمِّ المصادر التي اعتَمدتُ عليها أيضًا كتاب "المغرب في حُلَى المغرب - الجزء الأول من القسم الخاص بمصر"، والكتاب له فضلٌ كبير في نقل بعض الكتب التاريخيَّة التي اندثرت، ومن بينها كتاب "سيرة الإخْشيد"؛ لابن زولاق، فقد نقله لنا ابن سعيد المؤرخ المغربي في كتابه "المغرب في حُلَى المغرب"؛ لابن زولاق موجود في جزءٍ كبير من السفر الرابع من كتاب المغرب، سماه ابن سعيد "كتاب العيون الدعج في حلى دولة بني طغج"، ونقَل فيه فضلاً عن سيرة الإخْشيد لابن زولاق أخبارًا عن الإخْشيدية من تاريخ "الكامل"؛ لابن الأثير، ومن "تاريخ مصر"؛ للقرطي، وقد أفدت من هذا الكتاب في كلِّ مباحث البحث، فكان مصدرًا رئيسًا بالنسبة لي.
3- أمَّا "كتاب سيبويه المصري" فقد جمع فيه ابن زولاق نوادر زميلٍ له في الدراسة وهو سيبويه المصري، الذي كان له نوادر ومواقف طريفة مع الأمراء والعظماء، فالكتاب يكشف بطريقٍ غير مباشر عن كثيرٍ من النواحي العلميَّة والأدبيَّة في العصر الإخْشيدي، وقد أفدت منه كثيرًا في الحديث عن عوامل ازدهار الحياة الفكريَّة، وكذلك عند حديثي عن الحياة الدينيَّة والأدبيَّة في ذلك العصر.
4- وكذلك أفدت من كتاب "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار"؛ لتقي الدين المقريزي المتوفَّى سنة 845هـ، فقد نقَل فيه أخبارًا كثيرة عن الدولة الإخْشيدية عن كتاب "الولاة"؛ للكندي، وغيره من الكتب المهمَّة.
5- أمَّا كتاب "النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة"؛ لأبي المحاسن ابن تغري بردي، فهو يشمل تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي إلى سنة 857هـ، ورغم أنَّه لا يُعَدُّ أصيلاً إلا في كتابته عن عصر المماليك، وأنَّ ما كتبه عن العصور السابقة نقَلَه عمَّن سبقوه، أقول: إنَّني مع كلِّ هذا أفدت منه كثيرًا.
6- وكذلك رجعت إلى كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"؛ لجلال الدين السيوطي المتوفَّى سنة 911هـ، فأفدت منه كثيرًا في الكلام عن الفُقَهاء والشعراء والعلماء والأدباء في العصر الإخْشيدي.
وإلى جانب المصادر القديمة فقد اعتمدت على بعض المراجع الحديثة التي أسهَمتْ في بعض جوانب هذه الدراسة، ومن أبرز هذه المراجع:
1- كتاب "مصر في عصر الإخْشيديين"؛ تأليف الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، وقد أفدت منه عند حديثي عن الإخْشيد وخُلَفائه، وعن الأحداث السياسيَّة، كذلك أفدت من الفصل الذي جعلته للحديث عن الفُقَهاء والعلماء والأدباء.
2- كتاب "الحركة العلمية والأدبية في الفسطاط منذ الفتح حتى نهاية الدولة الإخْشيدية"؛ للدكتورة صفى علي محمد عند حديثي عن شتَّى العلوم التي ظهَرتْ في هذه الدولة.
وبعدُ:
فإني أرجو الله أنْ يُوفِّقني في تقديم صورة واضحة لما كانت عليه "الحياة الفكرية في مصر في عصر الدولة الإخْشيدية"، فإنْ يكن التوفيق حليفي فهذا ما أبغيه، وهو من عند الله.
التمهيد
ظلَّت مصر منذ الفتح الإسلامي سنة 20هـ حتى سنة 254هـ مجرَّد ولاية تابعة تبعيَّة كاملة للخلافة الإسلاميَّة[1]، ثم شهدت من (254 - 358هـ) محاولتين ناجحتين للاستقلال عن الخلافة العباسيَّة؛ قامت إحداهما في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري على يد الوالي التركي أحمد بن طولون الذي أسس الدولة الطولونيَّة (254 - 292هـ)، وبعد سُقوطها عادَتْ مصر ولايةً تابعةً للخلافة العباسيَّة، وتَعرَّضَتْ لتهديداتٍ من جانب الفاطميين في بلاد المغرب سنة 297هـ، وظلَّت الأمور مضطربةً إلى أنْ جاء الوالي التركي محمد بن طغج[2] بن جف الإخْشيدي، وقام بالمحاولة الثانية للاستقلال عن الخلافة، فأسَّس الدولة الإخْشيديَّة (323 - 358هـ)[3].
تُنسَب الدولة الإخْشيديَّة إلى مُؤسِّسها محمد بن طغج بن جف الإخْشيد، والإخْشيد هو لقبٌ منَحَه الخليفة العباسي الراضي لمحمد بن طغج سنة 326هـ، وكان محمد بن طغج قد كتَب إلى الراضي يسأله أنْ يُلقَّب بالإخْشيد، وقال في كتابه: "وقد كنَّى أمير المؤمنين جماعة، ولقَّبهم، فليبشرني بما سألت"[4]، فاستفسر الراضي عن معنى الإخْشيد، فقيل له: إنَّ تفسيره عبد دعي "ملك الملوك"، فقال الراضي: لا تبخَلْ عليه بهذا، اكتُبوا له بذلك[5]، وفي ذلك يقول الكندي: "وورد الكتاب بالزيادة في اسم الأمير محمد بن طغج بلقب الإخْشيد، ودُعِي له بذلك على المنبر في شهر رمضان سنة سبعٍ وعشرين وثلاثمائة"[6].
وكان جف جدُّ الإخْشيد قد التحَقَ بخدمة الخليفة العباسي المعتصِم، وظلَّ في خِدمة العباسيين إلى أنْ توفى في بغداد في الليلة التي *** فيها المتوكل سنة 247هـ/861م[7].
أمَّا طغج والد الإخْشيد، فقد التحَقَ بخِدمة أحمد بن طولون، وأبدَى كفاءةً عالية جعلَتْه يثقُ فيه، ويولِّيه بعض المناصب المهمَّة في دولته، وعندما تُوفِّي ابن طولون وتولَّى ابنه خمارويه عين طغج واليًا على طبريَّة ودمشق، ويُروى أنَّه كان مع خمارويه في قصره ليلة قتْله، وأنَّه سارَع بالقبض على القتَلَة، وأمر ب***هم[8].
وعندما أرسل الخليفة العباسي المكتفي بالله محمد بن سليمان ليَقضِي على الطولونيين انضمَّ إليه طغج، وشارَكَه في القضاء عليهم، ثم عاد محمد بن سليمان إلى بغداد، وفي صُحبته طغج بن جف الذي انتقل - ومعه ولداه: محمد وعبيدالله - إلى خِدمة البلاط العباسي[9]، ولكنَّه لم ينعم بالعيشة هناك، فقد كاد له الوزير "العباس بن الحسن" عند الخليفة بأنَّه ما زال على إخلاصه للطولونيين[10]، حتى أمر الخليفة بحبسه ومعه ولداه، فظلُّوا في السجن إلى أنْ تُوفِّي طغج سنة 294هـ، وأطلق سراح ولديه[11].
أمَّا محمد بن طغج الإخْشيدي، فقد خرج من بغداد إلى الشام، والتحَقَ بخدمة أحمد بن بسطام والي خَراج الشام، وعندما انتقل إلى مصر، وتقلَّد ولاية خراجها، صحب معه الإخْشيد إلى أنْ تُوفِّي ابن بسطام عام 297هـ، وخلفه ابنه علي بن أحمد بن بسطام على خراج مصر، فظلَّ الإخْشيد في خدمته إلى أن عُزِل عليُّ بن أحمد عام 300هـ[12].
اتَّصل محمد بن طغج بخدمة الوالي التركي "تكين الخزري"، وأظهر اهتِمامًا في تلك الخدمة، واشتَرَك في مقاومة وصدِّ الحملة الفاطميَّة الأولى على مصر سنة 302هـ[13]، وأبلى فيها بلاءً حسنًا؛ فضمَّه تكين إلى صُحبته، وقرَّبه إليه، ولم تقتصر خدمة الإخْشيد على تكين، وإنما دفَعَه طموحُه إلى التقرُّب من الشخصيَّات البارزة القويَّة، والعمل على نيل ثقتها، فخدم مؤنس الخادم أثناء وجوده في مصر لمواجهة الفاطميين[14]، وخدم أسرة الماذرائيين، وخدم كذلك محمد بن جعفر القرطي عامل الخراج في مصر، وعندما تعرَّض القرطي لمحاولة *** من جانب الماذرائيين[15]، حفظه ابن طغج، وحماه، وسهَّل له سبل الخروج من مصر إلى بغداد فلم ينسَ القرطي له هذا الجميل[16].
ثم وقعت وحشة بين تكين وبين محمد بن طغج جعلت ابن طغج يعمل على الهروب من مصر؛ فخرج منها هاربًا، وتولَّى الرملة بالشام، ثم سعى ليتولَّى أمر دمشق بدلاً من الرملة، فتولاها سنة 319هـ[17]، وكان هذا بمساعدة محمد بن جعفر القرطي[18].
وبذَل الإخْشيد قُصارى جهده في الحِفاظ على دمشق، فعندما صدر قَرارٌ بعزله وتعيين بشرى غلام مؤنس الخادم قاتَلَه الإخْشيد وأسَرَه[19]، فقد روى ابن سعيد ذلك قائلاً: "ثم صرف بشرى الخادم غلام مؤنس، فسار فلمَّا قرب من دمشق، راسله الإخْشيد، ثم اصطلحا واجتمعا، ثم اختار بشري القتال والتقيا، فهزم بشري، وجِيء به أسيرًا إلى الإخْشيد، فأقام أيامًا، ثم أصبح ميتًا..."[20].
وكان ابن طغج يطمَعُ في ولاية مصر، ولكنَّه كان يعلم أنَّ أطماعه لن تتحقَّق في حياة تكين، فعندما تُوفِّي تكين سنة 321هـ أخذ الإخْشيد يتَودَّد للخليفة القاهر من أجل أنْ يُولِّيه على مصر، وبالفعل استصدر الخليفة قرارًا بتوليته عليها سنة 321هـ[21]، ولكنَّ توليته هذه لم تَدُمْ طويلاً، فكان الدعاء له على منابرها نحو اثنين وثلاثين يومًا[22]، وبعدها أصدر الخليفة القاهر قَرارًا جديدًا بتعيين أحمد بن كيغلغ عليها بدلاً من الإخْشيد[23].
تعرَّضت مصر في هذه الفترة للعديد من الفتن والاضطرابات الداخليَّة؛ ممَّا جعل الخليفة العباسي الراضي يُرسِل الوزير الفضل بن جعفر لتفقُّد أحوال مصر، ولكنَّ الفضل اشترط عليه أنْ يمنحه تفويضًا يُعطِيه الحقَّ في إصلاح الأمور كما يرى، وقال له: "الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"، فلمَّا علم الإخْشيد بهذا التفويض تقرَّب من الفضل، وزوَّج الإخْشيد ابنته للفضل[24]، فأصدر الفضل قَرارًا بتعيين الإخْشيد واليًا على مصر مستندًا إلى التفويض الذي أعطاه له الخليفة[25]، وجاء كتابٌ من الخليفة بذلك، وفي ذلك يقول الكندي: "ثم وليها محمد بن طغج الثانية من قِبَلِ الراضي بالله على صلاتها وخراجها..."[26].
كانت السُّلطة في مصر لأسرة المذرائيين، وكان والي مصر مجرَّد ألعوبة في أيديهم؛ ولذلك فقد كتب الإخْشيد إلى محمد بن الماذرائي عميد تلك الأسرة في مصر يُعلِمه بقَرار الخليفة، ويطلُب منه السَّماح له بدُخول مصر، فرفض وأقرَّ ابن كيغلغ، فعلم الإخْشيد أنَّ القوَّة هي السبيل الوحيد أمامَه، فأخذ يستعدُّ لذلك[27].
واستَطاع ابن طغج أنْ يعدَّ العُدَّة الكاملة، وانضمَّ إليه رجالٌ من الشام ومن الجزيرة والعراق والثغور، وأرسل أسطولاً قويًّا نحو مصر، نجَح في الاستيلاء على تنيس، وتقدَّم نحو الفسطاط، ثم جاء ابن طغج إلى مصر في جيشٍ بري قوي، ودخَلَها بالقوَّة، واستسلم أحمد بن كيغلغ، واعتذر عن موقفه بحجَّة أنَّ الجنود غلبَتْه على أمره، واختفى محمد بن الماذرائي، وأظهر الحسن ابنه الخضوع لابن طغج، وبذلك خلصت مصر لابن طغج عام 323هـ[28].
تطلَّع ابن رائق إلى وضع يده على دمشق التي كانت تحت يد الإخْشيد؛ زاعمًا أنَّ الخليفة قلَّدَه إياها، وسارَع ابن رائق إلى الخروج إلى الشام، فخرج إليه الإخْشيد على رأس جيشٍ كبير، فالتقى بابن رائق عند العريش، ودارَتْ بينهما عدَّة معارك، انهزم الإخْشيد في البداية، ثم تغلَّب على ابن رائق بعد ذلك، وهزَمَه هزيمة كبيرة جعلَتْه ينسَحِب إلى دمشق، وانتهَتْ هذه المعارك بعَقْدِ الصُّلح بينهما، وكان من مظاهره أنْ زوَّج الإخْشيد ابنته من مزاحم بن محمد وابن رائق[29]، وبعد عامين من هذا الصلح قتَل بنو حمدان ابن رائق، فعاد نفوذ الإخْشيد على الشام كله[30].
يتبع
إبراهيم السيد شحاتة عوض
المقدمة
تُعتَبر الدولة الإخْشيدية (323 - 358هـ) هي المحاولة الاستقلاليَّة الثانية الناجحة في تاريخ مصر الإسلاميَّة، وقد سميت هذه الدولة بهذا الاسم نسبةً إلى مُؤسِّسها أبي بكر محمد بن طغج الإخْشيد.
وقد انصبَّت دراستي على أبرز الجوانب الحضاريَّة في مصر في عهد تلك الدولة، فاختصَّت دراستي ببيان "الحياة الفكرية في مصر في عصر الدولة الإخْشيدية (323 - 358هـ)".
وقد اخترت هذا الموضوع نظرًا لأهميَّته؛ حيث وصلت الحركة العلميَّة والأدبيَّة أوج تطوُّرها وتقدُّمها في مصر في عصر تلك الدولة، باعتبارها - بعد الدولة الطولونية - الفترة التي وُضِعَ فيها أساس استقلال مصر عن الخلافة العباسيَّة، وباعتبارها دليلاً من الأدلَّة التي تُدلِّل على استمرار الحياة الفكريَّة في طريق تقدُّمها رغم ما حدَث للدولة العباسيَّة من تفرُّق وتشتُّت وانقِسام، فقد حرص حكَّام الدولة المستقلَّة على نشر العلم، والتشجيع عليه، وتحلية بلاطهم بأهله.
وقد قسَّمت موضوع البحث إلى تمهيد، وأربعة مباحث، وخاتمة وملاحق.
وقد تناوَلت في التمهيد الحديث عن الدولة الإخْشيديَّة: نشأتها، مُؤسِّسها، أهم الأحداث السياسيَّة التي مرَّت بها إلى أنْ سقطت، وخصصت المبحث الأول لـ"عوامل ازدهار الحياة الفكرية في تلك الدولة"، وأشرت إلى انقسام الدولة العباسيَّة، وتشجيع أمراء تلك الدولة للعلم وأهله، وكذلك أشرت إلى مراكز النشاط الفكري وتعدُّده، وبيَّنت كيف أثَّر كلُّ ذلك في ازدهار الحياة الفكريَّة في مصر في عصر تلك الدولة، ثم جعلت المبحث الثاني للحديث عن "العلوم النقلية"، التي تتمثَّل في: الحديث، والتفسير، والقراءات، والفقه، والتصوف، وعلم الكلام، وجعلت المبحث الثالث "للعلوم اللسانية العربيَّة"، التي تتمثَّل في الأدب بفرعَيْه: الشِّعر والنثر، وكذلك اللغة والنحو، ثم خصصت المبحث الرابع والأخير للحديث عن "العلوم العقلية" التي تمثَّلت في الطب والهندسة والفلك والفلسفة، بالإضافة إلى الحديث عن علم التاريخ، وأهم مُؤرِّخي تلك الفترة، وكيف أسهموا في هذا العلم، وقد حرصت في كلِّ هذه المباحث على توضيح مَدَى ازدِهار تلك العلوم جمعيها، وبيان سبب ازدِهارها.
وتضمَّنت ملاحق البحث بعضَ الرسائل النثريَّة الأدبيَّة التي كُتِبت في ذلك العصر، وكانت خيرَ دليل على تقدُّم فنِّ النثر فيه.
وفي الخاتمة عرضت لأهمِّ وأبرز النتائج العلميَّة التي توصَّلت إليها من خلال بحثي هذا.
وقد اعتمدت في بحثي على مجموعةٍ من المصادر، بعضها يستحقُّ أنْ أخصَّه ببعض الإشارة في تلك المقدمة على النحو التالي:
1- لقد اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على كتابي: "ولاة مصر"، و"قضاة مصر"؛ لمحمد بن يوسف بن حفص بن يوسف الكندي (283هـ/350هـ)، وقد أفدت من كتاب "الولاة" في حديثي عن الإخْشيد نفسه، فالكتاب مصدرٌ تاريخي عظيمٌ يضمُّ تاريخَ مصر منذ فتَحَها العرب حتى وليها أبو القاسم "أنوجور" ابن الإخْشيد، وتحدَّث الكندي في كتاب "قضاة مصر" عمَّن ولي القضاءَ في مصر من سنة 23هـ إلى سنة 246، وقد أكمَلَ أحمد بن عبدالرحمن بن برد هذا الكتاب إلى سنة 336هـ، وقد أفدت من تلك التكملة عند حديثي عن الفقه.
2- ومن أهمِّ المصادر التي اعتَمدتُ عليها أيضًا كتاب "المغرب في حُلَى المغرب - الجزء الأول من القسم الخاص بمصر"، والكتاب له فضلٌ كبير في نقل بعض الكتب التاريخيَّة التي اندثرت، ومن بينها كتاب "سيرة الإخْشيد"؛ لابن زولاق، فقد نقله لنا ابن سعيد المؤرخ المغربي في كتابه "المغرب في حُلَى المغرب"؛ لابن زولاق موجود في جزءٍ كبير من السفر الرابع من كتاب المغرب، سماه ابن سعيد "كتاب العيون الدعج في حلى دولة بني طغج"، ونقَل فيه فضلاً عن سيرة الإخْشيد لابن زولاق أخبارًا عن الإخْشيدية من تاريخ "الكامل"؛ لابن الأثير، ومن "تاريخ مصر"؛ للقرطي، وقد أفدت من هذا الكتاب في كلِّ مباحث البحث، فكان مصدرًا رئيسًا بالنسبة لي.
3- أمَّا "كتاب سيبويه المصري" فقد جمع فيه ابن زولاق نوادر زميلٍ له في الدراسة وهو سيبويه المصري، الذي كان له نوادر ومواقف طريفة مع الأمراء والعظماء، فالكتاب يكشف بطريقٍ غير مباشر عن كثيرٍ من النواحي العلميَّة والأدبيَّة في العصر الإخْشيدي، وقد أفدت منه كثيرًا في الحديث عن عوامل ازدهار الحياة الفكريَّة، وكذلك عند حديثي عن الحياة الدينيَّة والأدبيَّة في ذلك العصر.
4- وكذلك أفدت من كتاب "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار"؛ لتقي الدين المقريزي المتوفَّى سنة 845هـ، فقد نقَل فيه أخبارًا كثيرة عن الدولة الإخْشيدية عن كتاب "الولاة"؛ للكندي، وغيره من الكتب المهمَّة.
5- أمَّا كتاب "النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة"؛ لأبي المحاسن ابن تغري بردي، فهو يشمل تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي إلى سنة 857هـ، ورغم أنَّه لا يُعَدُّ أصيلاً إلا في كتابته عن عصر المماليك، وأنَّ ما كتبه عن العصور السابقة نقَلَه عمَّن سبقوه، أقول: إنَّني مع كلِّ هذا أفدت منه كثيرًا.
6- وكذلك رجعت إلى كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"؛ لجلال الدين السيوطي المتوفَّى سنة 911هـ، فأفدت منه كثيرًا في الكلام عن الفُقَهاء والشعراء والعلماء والأدباء في العصر الإخْشيدي.
وإلى جانب المصادر القديمة فقد اعتمدت على بعض المراجع الحديثة التي أسهَمتْ في بعض جوانب هذه الدراسة، ومن أبرز هذه المراجع:
1- كتاب "مصر في عصر الإخْشيديين"؛ تأليف الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، وقد أفدت منه عند حديثي عن الإخْشيد وخُلَفائه، وعن الأحداث السياسيَّة، كذلك أفدت من الفصل الذي جعلته للحديث عن الفُقَهاء والعلماء والأدباء.
2- كتاب "الحركة العلمية والأدبية في الفسطاط منذ الفتح حتى نهاية الدولة الإخْشيدية"؛ للدكتورة صفى علي محمد عند حديثي عن شتَّى العلوم التي ظهَرتْ في هذه الدولة.
وبعدُ:
فإني أرجو الله أنْ يُوفِّقني في تقديم صورة واضحة لما كانت عليه "الحياة الفكرية في مصر في عصر الدولة الإخْشيدية"، فإنْ يكن التوفيق حليفي فهذا ما أبغيه، وهو من عند الله.
التمهيد
ظلَّت مصر منذ الفتح الإسلامي سنة 20هـ حتى سنة 254هـ مجرَّد ولاية تابعة تبعيَّة كاملة للخلافة الإسلاميَّة[1]، ثم شهدت من (254 - 358هـ) محاولتين ناجحتين للاستقلال عن الخلافة العباسيَّة؛ قامت إحداهما في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري على يد الوالي التركي أحمد بن طولون الذي أسس الدولة الطولونيَّة (254 - 292هـ)، وبعد سُقوطها عادَتْ مصر ولايةً تابعةً للخلافة العباسيَّة، وتَعرَّضَتْ لتهديداتٍ من جانب الفاطميين في بلاد المغرب سنة 297هـ، وظلَّت الأمور مضطربةً إلى أنْ جاء الوالي التركي محمد بن طغج[2] بن جف الإخْشيدي، وقام بالمحاولة الثانية للاستقلال عن الخلافة، فأسَّس الدولة الإخْشيديَّة (323 - 358هـ)[3].
تُنسَب الدولة الإخْشيديَّة إلى مُؤسِّسها محمد بن طغج بن جف الإخْشيد، والإخْشيد هو لقبٌ منَحَه الخليفة العباسي الراضي لمحمد بن طغج سنة 326هـ، وكان محمد بن طغج قد كتَب إلى الراضي يسأله أنْ يُلقَّب بالإخْشيد، وقال في كتابه: "وقد كنَّى أمير المؤمنين جماعة، ولقَّبهم، فليبشرني بما سألت"[4]، فاستفسر الراضي عن معنى الإخْشيد، فقيل له: إنَّ تفسيره عبد دعي "ملك الملوك"، فقال الراضي: لا تبخَلْ عليه بهذا، اكتُبوا له بذلك[5]، وفي ذلك يقول الكندي: "وورد الكتاب بالزيادة في اسم الأمير محمد بن طغج بلقب الإخْشيد، ودُعِي له بذلك على المنبر في شهر رمضان سنة سبعٍ وعشرين وثلاثمائة"[6].
وكان جف جدُّ الإخْشيد قد التحَقَ بخدمة الخليفة العباسي المعتصِم، وظلَّ في خِدمة العباسيين إلى أنْ توفى في بغداد في الليلة التي *** فيها المتوكل سنة 247هـ/861م[7].
أمَّا طغج والد الإخْشيد، فقد التحَقَ بخِدمة أحمد بن طولون، وأبدَى كفاءةً عالية جعلَتْه يثقُ فيه، ويولِّيه بعض المناصب المهمَّة في دولته، وعندما تُوفِّي ابن طولون وتولَّى ابنه خمارويه عين طغج واليًا على طبريَّة ودمشق، ويُروى أنَّه كان مع خمارويه في قصره ليلة قتْله، وأنَّه سارَع بالقبض على القتَلَة، وأمر ب***هم[8].
وعندما أرسل الخليفة العباسي المكتفي بالله محمد بن سليمان ليَقضِي على الطولونيين انضمَّ إليه طغج، وشارَكَه في القضاء عليهم، ثم عاد محمد بن سليمان إلى بغداد، وفي صُحبته طغج بن جف الذي انتقل - ومعه ولداه: محمد وعبيدالله - إلى خِدمة البلاط العباسي[9]، ولكنَّه لم ينعم بالعيشة هناك، فقد كاد له الوزير "العباس بن الحسن" عند الخليفة بأنَّه ما زال على إخلاصه للطولونيين[10]، حتى أمر الخليفة بحبسه ومعه ولداه، فظلُّوا في السجن إلى أنْ تُوفِّي طغج سنة 294هـ، وأطلق سراح ولديه[11].
أمَّا محمد بن طغج الإخْشيدي، فقد خرج من بغداد إلى الشام، والتحَقَ بخدمة أحمد بن بسطام والي خَراج الشام، وعندما انتقل إلى مصر، وتقلَّد ولاية خراجها، صحب معه الإخْشيد إلى أنْ تُوفِّي ابن بسطام عام 297هـ، وخلفه ابنه علي بن أحمد بن بسطام على خراج مصر، فظلَّ الإخْشيد في خدمته إلى أن عُزِل عليُّ بن أحمد عام 300هـ[12].
اتَّصل محمد بن طغج بخدمة الوالي التركي "تكين الخزري"، وأظهر اهتِمامًا في تلك الخدمة، واشتَرَك في مقاومة وصدِّ الحملة الفاطميَّة الأولى على مصر سنة 302هـ[13]، وأبلى فيها بلاءً حسنًا؛ فضمَّه تكين إلى صُحبته، وقرَّبه إليه، ولم تقتصر خدمة الإخْشيد على تكين، وإنما دفَعَه طموحُه إلى التقرُّب من الشخصيَّات البارزة القويَّة، والعمل على نيل ثقتها، فخدم مؤنس الخادم أثناء وجوده في مصر لمواجهة الفاطميين[14]، وخدم أسرة الماذرائيين، وخدم كذلك محمد بن جعفر القرطي عامل الخراج في مصر، وعندما تعرَّض القرطي لمحاولة *** من جانب الماذرائيين[15]، حفظه ابن طغج، وحماه، وسهَّل له سبل الخروج من مصر إلى بغداد فلم ينسَ القرطي له هذا الجميل[16].
ثم وقعت وحشة بين تكين وبين محمد بن طغج جعلت ابن طغج يعمل على الهروب من مصر؛ فخرج منها هاربًا، وتولَّى الرملة بالشام، ثم سعى ليتولَّى أمر دمشق بدلاً من الرملة، فتولاها سنة 319هـ[17]، وكان هذا بمساعدة محمد بن جعفر القرطي[18].
وبذَل الإخْشيد قُصارى جهده في الحِفاظ على دمشق، فعندما صدر قَرارٌ بعزله وتعيين بشرى غلام مؤنس الخادم قاتَلَه الإخْشيد وأسَرَه[19]، فقد روى ابن سعيد ذلك قائلاً: "ثم صرف بشرى الخادم غلام مؤنس، فسار فلمَّا قرب من دمشق، راسله الإخْشيد، ثم اصطلحا واجتمعا، ثم اختار بشري القتال والتقيا، فهزم بشري، وجِيء به أسيرًا إلى الإخْشيد، فأقام أيامًا، ثم أصبح ميتًا..."[20].
وكان ابن طغج يطمَعُ في ولاية مصر، ولكنَّه كان يعلم أنَّ أطماعه لن تتحقَّق في حياة تكين، فعندما تُوفِّي تكين سنة 321هـ أخذ الإخْشيد يتَودَّد للخليفة القاهر من أجل أنْ يُولِّيه على مصر، وبالفعل استصدر الخليفة قرارًا بتوليته عليها سنة 321هـ[21]، ولكنَّ توليته هذه لم تَدُمْ طويلاً، فكان الدعاء له على منابرها نحو اثنين وثلاثين يومًا[22]، وبعدها أصدر الخليفة القاهر قَرارًا جديدًا بتعيين أحمد بن كيغلغ عليها بدلاً من الإخْشيد[23].
تعرَّضت مصر في هذه الفترة للعديد من الفتن والاضطرابات الداخليَّة؛ ممَّا جعل الخليفة العباسي الراضي يُرسِل الوزير الفضل بن جعفر لتفقُّد أحوال مصر، ولكنَّ الفضل اشترط عليه أنْ يمنحه تفويضًا يُعطِيه الحقَّ في إصلاح الأمور كما يرى، وقال له: "الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"، فلمَّا علم الإخْشيد بهذا التفويض تقرَّب من الفضل، وزوَّج الإخْشيد ابنته للفضل[24]، فأصدر الفضل قَرارًا بتعيين الإخْشيد واليًا على مصر مستندًا إلى التفويض الذي أعطاه له الخليفة[25]، وجاء كتابٌ من الخليفة بذلك، وفي ذلك يقول الكندي: "ثم وليها محمد بن طغج الثانية من قِبَلِ الراضي بالله على صلاتها وخراجها..."[26].
كانت السُّلطة في مصر لأسرة المذرائيين، وكان والي مصر مجرَّد ألعوبة في أيديهم؛ ولذلك فقد كتب الإخْشيد إلى محمد بن الماذرائي عميد تلك الأسرة في مصر يُعلِمه بقَرار الخليفة، ويطلُب منه السَّماح له بدُخول مصر، فرفض وأقرَّ ابن كيغلغ، فعلم الإخْشيد أنَّ القوَّة هي السبيل الوحيد أمامَه، فأخذ يستعدُّ لذلك[27].
واستَطاع ابن طغج أنْ يعدَّ العُدَّة الكاملة، وانضمَّ إليه رجالٌ من الشام ومن الجزيرة والعراق والثغور، وأرسل أسطولاً قويًّا نحو مصر، نجَح في الاستيلاء على تنيس، وتقدَّم نحو الفسطاط، ثم جاء ابن طغج إلى مصر في جيشٍ بري قوي، ودخَلَها بالقوَّة، واستسلم أحمد بن كيغلغ، واعتذر عن موقفه بحجَّة أنَّ الجنود غلبَتْه على أمره، واختفى محمد بن الماذرائي، وأظهر الحسن ابنه الخضوع لابن طغج، وبذلك خلصت مصر لابن طغج عام 323هـ[28].
تطلَّع ابن رائق إلى وضع يده على دمشق التي كانت تحت يد الإخْشيد؛ زاعمًا أنَّ الخليفة قلَّدَه إياها، وسارَع ابن رائق إلى الخروج إلى الشام، فخرج إليه الإخْشيد على رأس جيشٍ كبير، فالتقى بابن رائق عند العريش، ودارَتْ بينهما عدَّة معارك، انهزم الإخْشيد في البداية، ثم تغلَّب على ابن رائق بعد ذلك، وهزَمَه هزيمة كبيرة جعلَتْه ينسَحِب إلى دمشق، وانتهَتْ هذه المعارك بعَقْدِ الصُّلح بينهما، وكان من مظاهره أنْ زوَّج الإخْشيد ابنته من مزاحم بن محمد وابن رائق[29]، وبعد عامين من هذا الصلح قتَل بنو حمدان ابن رائق، فعاد نفوذ الإخْشيد على الشام كله[30].
يتبع